كلام الإمام الخميني (قدس سره)
كتاب الله وقصته في التاريخ
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله (ص): «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».
الحمد لله سبحانك، اللهم صل على محمد وآله مظاهر جمالك وجلالك وخزائن أسرار كتابك الذي تجلى (1) فيه الأحدية (2) بجميع أسمائك (3)، حتى المستأثر منها الذي لا يعلمه غيرك، واللعن على ظالميهم من أصل الشجرة الخبيثة ... وبعد.
أرى مناسباً أن أقدم ـ تذكيراً ـ نفحة قاصرة عن الثقلين (4)
لا من حيث المقامات الغيبية والمراتب المعنوية والعرفانية، فبيان من هو
مثلي أعجز من أن يتجرأ على الحديث عن مقامات عرفانية أحاطت بكل دائرة
الوجود من الملك (5) إلى الملكوت الأعلى (6) ومنه إلى اللاهوت (7)،
وان ما لا يصل إلى فهمي وفهمك هو ثقيل تحمله، فوق الطاقة إن لم أقل
يستحيل، ولا من حيث ما أصاب البشرية لهجرها حقائق المقام العالي للثقل
الأكبر والثقل الكبير الذي هو الأكبر من ما سواه عدا الثقل الأكبر وهو
الأكبر المطلق.
ولا من حيث ما
أصاب الثقلين على يد أعداء الله والطغاة المكرة مما يصعب إحصاؤه على من هو
مثلي لمحدودية الاطلاع والوقت، ولكني رأيت مناسباً أن أذكّر بإشارة عابرة
مقتضبة لما جرى على الثقلين، ولعل في عبارة «لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض» إشارة إلى أنَّ كل ما ألمّ بأي من الثقلين بعد الوجود المقدس لرسول
الله (ص) قد أصاب الثقل الآخر أيضاً وإن هجر أي منهما للآخر، حتى يرد هذان
المهجوران الحوض على رسول الله (ص)، وهل أن هذا الحوض هو مقام اتصال الكثرة
بالوحدة (8) واضمحلال القطرات في البحر، أم هو شيء آخر لا سبيل للعرفان والعقل البشري إلى إدراكه.
وينبغي القول:
إنَّ ما أصاب وديعتيّ الرسول الأكرم (ص)، من ظلم الطواغيت هو ظلم للأمة
الإسلامية، بل للبشرية جمعاء، يعجز القلم عن تبيانه، ويلزم التذكير هنا بأن
حديث الثقلين(9) متواتر(10) بين جميع المسلمين، وقد روته كتب أهل السنة، الصحاح الستة (11) وغيره، عن الرسول الأكرم (ص)، بألفاظ متعددة وموارد متكررة، فوصل حدّ التواتر.
فهذا الحديث حجة
بالغة على البشرية جمعاء ولا سيما المسلمين بمختلف مذاهبهم فهم مسؤولون
جميعاً عن ذلك بعد أن تمّت الحجة عليهم، وإنْ كان هناك من عذر للعامة بسبب
جهلهم وعدم اطلاعهم، فلا عذر لعلماء المذاهب.
ولنر الآن ما جرى
على القرآن ـ هذه الوديعة الإلهية، وتركة رسول الإسلام (ص) ـ لقد شرعت
نوائب مفجعة حرية أن يُبكى منها دماً بعد استشهاد الإمام علي (ع)، فقد
استغل عبّاد الأنا والطواغيت القرآن الكريم، واتخذوه وسيلة للحكومات
المعادية للقرآن، وأبعدوا مفسري القرآن الحقيقيّين والعارفين بالحقائق
الحقة ـ ممن تعلموا
القرآن كله من الرسول الأكرم (ص) - أبعدوهم بذرائع شتى، وبالقرآن،
وبمؤامرات معدة من قبل، في وقت لم يزل فيه نداء «إني تارك فيكم الثقلين»،
مدوّياً في أسماعهم، وفي الحقيقة فقد أخرجوا القرآن ـ الذي كان وما يزال
الدستور الأعظم لحياة البشر وشؤونهم المادية والمعنوية حتى يردوا الحوض ـ
من الميدان، وأبطلوا حكومة العدل الإلهي وهي أحد أهداف هذا الكتاب المقدس،
وأسسوا أسس الانحراف عن دين الله وكتابه والسنّة الإلهية، فبلغ الأمر حداً
يخجل القلم عن تبيانه.
وكلما ارتفع هذا
البنيان المنحرف إزداد الانحراف، فقد عطلوا القرآن الكريم إلى حدٍّ بدا
وكأنه لا دور له في الهداية، وهو الكتاب الذي تنزل من مقام الأحدية السامي،
بالكشف (12) المحمدي التام، هدى للعالمين،
ومحوراً لجميع المسلمين كافة، بل وعموم الأسرة البشرية، والسمو بها إلى ما
يجب أن تسمو إليه وإنقاذها وهي وليدة علم الأسماء (13) من شرور الشياطين والطغاة.
وهو الكتاب الذي
تنزّل لبسط العدل والقسط في العالم، وتسليم الحكم إلى أولياء الله
المعصومين عليهم صلوات الأولين والآخرين ليفوّضوه بدورهم لمن يضمن به صلاح
الإنسانية.
وبلغ الانحراف إلى
درجة أن الحكومات الجائرة والخبثاء من فقهاء البلاط ـ وهم أسوء من الطغاة ـ
اتخذوا القرآن وسيلة للظلم وترويج الفساد وتسويغ أعمال الظلمة والمعاندين
لإرادة الحق تعالى، وواأسفاه أن القرآن ـ وهو كتاب الهداية ـ لم يعد له من
دور سوى في المقابر والمآتم، بسبب الأعداء والمتآمرين والجهلة من الأصدقاء،
كان الحال كذلك وما زال، فأصبح الكتاب ـ الذي ينبغي أن يكون وسيلة لتوحيد
المسلمين والعالمين، ودستوراً لحياتهم ـ أصبح وسيلة للتفرقة وإثارة الخلاف،
أو عُطّل دوره كلياً. وقد رأينا كيف يعتبر مرتكباً لكبرى الكبائر من ينادي
بالحكومة الإسلامية ويتحدث بالسياسة، في حين أن سيرة الرسول الأعظم (ص)،
والقرآن والسنة ملأى بالنصوص المعنية بدور الإسلام الكبير في الشؤون
السياسية، وأصبح وصف عالم الدين بالسياسي مرادفاً لوصفه بعدم الدين وما زال
هذا الوصف موجوداً. وأخيراً آل الحال إلى أن تعمد القوى الشيطانية الكبرى ـ
ابتغاء محو القرآن وحفظ مطامعها الشيطانية ـ إلى طبع القرآن بخط جميل،
وتوزيعه على نطاق واسع وتنفذ ذلك بأيدي الحكومات المنحرفة التي تتظاهر
بالإسلام زيف، وهي بعيدة عن تعاليمه، وبهذا المكر الشيطاني تعطّل القرآن.
وقد رأينا كيف أن محمد رضا بهلوي (14) طبع القرآن فاستغل به البعض، وكيف امتدحه قلة من رجال الدين جاهلة بالأهداف الإسلامية.
نحن نفخر، ويفخر
شعبنا المتمسك بالإسلام والقرآن بأننا أتباع مذهب يهدف إلى إنقاذ حقائق
القرآن ـ المتمثلة إلى الدعوة بين المسلمين، بل البشرية ـ من المقابر
باعتبارها أنجع علاج منقذ للإنسان من القيود المكبلة لرجليه ويديه وقلبه
وعقله، والسائقة له إلى الفناء والعدم والرق والعبودية للطواغيت.
منهجية الثورة الإسلامية ـ ص79.
(1) - التجلي: إنَّ العرفاء والفلاسفة الإسلاميين يسمون انكشاف حقائق أنوار الغيب على القلوب الصافية النقية بالتجلي.
(2) - الحضرة الأحدية: يعبر العرفاء عن المتعين الأول في المراتب الإلهية بالحضرة الأحدية ثم تكون مرتبة الألوهية والواحدية.
(3)
- الأسماء: عالم الأسماء هو عالم الحقائق التي تلازم واجب الوجود،
فالمقصود من الأسماء ليس هو لفظ العالم والقادر بل المسمى بالعالم والقادر،
وأما الألفاظ هذه هي أسماء الأسماء.
(4)
- الثقلين: هي مثنى«الثقل»،والثقل في شرح الأحاديث وتفاسير القرآن له معان
مختلفة، منها: الميراث الثقيل والشيء الكبير، والشيء الثقيل، والشيء
الثمين، والأمانة النفيسة والغالية وغير ذلك من معانٍ والمقصود منها في
حديث الثقلين هو: القرآن وعترة رسول الله (ص).
(5) - الملك: إنَّ الملك هو الشيء المادي العنصري المحسوس، ويقال عالم الملك لعالم الشهادة الذي هو العالم الطبيعي المشهود الجسماني.
(6)
- استدلّ الفلاسفة والمتكلمين على ضرورة وجود عالم يفصل بين عالم الطبيعة
أي «عالم الملك» وعالم الألوهية أي «اللاهوت» وان عالم الملكوت هذا هو عالم
مجرد من المادة والزمان والمكان بشكل مطلق ، واعتبر الحكماء العرفاء أن
للملكوت مرتبتين هما: المرتبة الأولى عالم ولادة العقل الإنساني بينما
اصطلحوا على تسمية المرتبة السفلى بـ «الملكوت الأسفل» واعتبروها عالم
المثال أي الخيال.
(7) - اللاهوت: إنه مقام الواحدية ومقام الجامع باعتبار جامعيته للأسماء والصفات.
(8)
- الكثرة: في الفلسفة هي سلسلة مراتب الموجودات وتنوّع ظواهر الوجود
المادية وغير المادية، والوحدة: هي الذات الإلهية التي هي منشأ ومبدأ صدور
الوجود كلّه وجميع الكائنات لذا فإنَّ مقام «اتصال الكثرة بالوحدة» هو مقام
ومرتبة أخروية، وهو فوق الكثرة وذيل الوحدة وواسطة صدور الكثرة عن الوحدة،
وحيث كان عند بدء الخلق، وعودة واتصال الكثرة بالوحدة يكون عند نهاية
العالم.
(9) - حديث الثقلين من الأحاديث المعروفة، رواه أشخاص كثيرون عن النبي (ص)مباشرة.
(10)
- التواتر: إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وهو اصطلاح أهل الحديث.
وكثرة مصادر ورواة هذا الحديث من طريق السنة أمر ملفت، ويستنبط من هذا
الحديث ومن نظائره أمور مهمة منها:
أ ـ كما أن القرآن
باق بين الناس إلى يوم القيامة، فعترة النبي «ص» أيضاً ستبقى إلى يوم
القيامة، أي أن الأرض لا تخلو في أيّ زمان من موجود إمام وقائد حقيقي.
ب ـ إن الرسول «ص»
بإرشاده للمسلمين إلى اتباع هذين الثقلين والأمانتين العظيمتين أمّن لهم
جميع احتياجاتهم العلمية والدينية، وهداهم إلى أن أهل بيته هم المرجع
لاكتساب العلم والمعرفة.
ج ـ لا يحق لأي مسلم أن يخرج من ظلّ إرشادهم وهدايتهم.
د ـ جميع العلوم اللازمة والحاجات الدينية للناس موجودة عند أهل بيته (ع).
هـ ـ إذا أطاع الناس غير أهل بيته (ع) ولم يتمسكوا بهم، فإنهم سيضلوا.
(11) - هذه الكتب هي:
أ ـ صحيح البخاري. ب ـ صحيح مسلم.
ج ـ سنن ابن ماجة. د ـ سنن ابن داوود.
هـ ـ جامع الترمذي. وـ سنن النسائي.
(12) - الكشف: هو زوال الحجاب والوقوف على ما وراء الحجاب من حقائق الاشياء.
(13) - «علم
الأسماء» نوع من العلم والمعرفة يهتم بشؤون القدرة العلمية للموجود
الإنساني، والمقصود هو الإنسان وهو وليد علم الأسماء، وعلم الأسماء هو علم
عرضه الله سبحانه وتعالى على الإنسان ليصبح أهلاً للخلافة على الأرض، ولو
لم يعلّم الله هذا العلم لآدم لما أصبح أهلاً للخلافة على الأرض.
(14) - محمد
رضا بهلوي هو آخر ملك في السلسلة البهلوية، ولد في شهر تشرين الأول عام
1919م، أبوه رضا خان، قام بمؤامرة استلم على أثرها السلطة، وجعل ابنه محمد
رضا ولي عهد له، بعد إتمام دراسته الأولى، غادر محمد رضا إلى سويسرا لإكمال
دراسته، وبعد عودته التحق بالكلية العسكرية، وفي عام 1941م قام الحلفاء
بعزل رضا خان ونفيه وتعيين محمد رضا ملكاً محله.
|