كيفية الإستفادة من القرآن |
الاستفادات ذات البعد الواحد من القرآن
بعد مضي مدة من نزول الإسلام، اهتمت مجموعات مختلفة من أهل العلم بمعنويات الإسلام، وركّزوا أنظارهم على تلك الآيات والروايات المرتبطة بالمعنويات وتهذيب النفس وما وراء الطبيعة... في القرآن الكريم آيات كثيرة عن الأمور المعنوية، أي ذلك الوجه الإنساني الذي هو من عالم الغيب.
استمر الوضع لفترة طويلة على هذه الشاكلة حيث كان الاهتمام معدوماً أو ضعيفاً بتلك الأحكام الاجتماعية والسياسية وغيرها الواردة في الإسلام. ثم ظهرت تدريجياً مجموعات اهتمت بالمسائل الاجتماعية والسياسية وقضايا الساعة، وهؤلاء وقعوا من هذا الطرف، أي اقتصرت اهتماماتهم على هذه المسائل الاجتماعية والأحكام السياسية وقضايا الحكم فقط. أولئك كانوا ينظرون إلى ذلك الجانب من الورق لفترات سابقة كالفلاسفة والعرفاء والمتصوفة وأمثالهم، وكان كلامهم يدور حول بيان هذه المعنويات، ويدعون الناس إلى هذه الجهات المعنوية الإسلامية. حتى إن بعضهم حاول إرجاع الآيات أو الروايات الواردة بشأن الأمور الطبيعية والمتحدثة عن قضايا الاجتماع والسياسة، إلى تلك الأمور المعنوية، ويعتبرون أن الجميع مرتبط بذلك الجانب. فهم كانوا ينظرون إلى الجانب الباطني للقرآن والإسلام... ينظرون إلى المعنويات فقط، ويغضّون أبصارهم عن المواضيع الاجتماعية الواردة في القرآن، وعن الآيات والروايات الواردة بشأن الحكم الإسلامي، والسياسة الإسلامية، والقضايا الاجتماعية، وإعمار هذا العالم، وهذه هي الغفلة... الغفلة عن الإسلام، لأنهم كانوا ينظرون إلى الإسلام من زاوية واحدة فقط. أما الجانب الآخر وعالم طبيعته فإنهم لم يهتموا به، ولم يعلموا أن الإسلام يهتم بعالم الطبيعة أيضاً، ويهتم بجميع تلك الأمور التي يحتاجها الإنسان. لذا فإن إحدى الابتلاءات التي ابتلي بها الإسلام هي أن هؤلاء الأشخاص أمثال المتكلمين، والأكثر منهم الفلاسفة، والأكثر منهم العرفاء والصوفية، أرادوا تفسير جميع الآيات الواردة في القرآن الكريم تفسيراً معنوياً... اهتموا بالباطن وغفلوا عن الظاهر. والآن فإن ابتلاء الإسلام أخذ منحنىً آخر وهو أن شبابنا ومثقفونا وعلماؤنا الذين تعلموا العلوم المادية، يحاولون تفسير جميع آيات القرآن والروايات تفسيراً طبيعياً، وغفلوا عن المعنويات، حتى إنهم فسروا تلك الآيات الخاصة بالأمور المعنوية تفسيراً طبيعياً عادياً. وهؤلاء مهتمون بالإسلام أيضاً، لكنهم غافلون أيضاً، لأنهم ينظرون للإسلام من جانب واحد. وهاتان الطائفتان لم تفهما الإسلام بمعناه الحقيقي. فالإسلام لا يدعو إلى المعنويات فقط، ولا يدعو إلى الماديات فقط.
إنه يدعو إلى كليهما. فقد جاء الإسلام والقرآن الكريم من أجل بناء الإنسان وتربيته في جميع أبعاده.
________________________________________
كيفية الاستفادة من القرآن
فإذا علمت الآن مقاصد هذه الصحيفة الإلهية ومطالبها، فلابد لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهم يكشف لك ـ بالتوجه إليه ـ طريق الاستفادة من الكتاب الشريف، وتفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم، وهو أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهي نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والافادة، وترى نفسك موظفة على التعلم والاستفادة، وليس مقصودنا من التعليم والتعلم والإفادة والاستفادة أن تتعلم منه الجهات الأدبية والنحو والصرف، أو تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانية والبديعية، أو تنظر في قصصه وحكاياته بالنظر التاريخي، والاطلاع على الأمم السالفة، فإنه ليس شيء من هذه داخلاً في مقاصد القرآن، وهو بعيد عن المنظور الأصلي للكتاب الإلهي بمراحل، والذي أوجب أن تكون استفادتنا من هذا الكتاب العظيم بأقل من القليل هو هذا. فإما ألا ننظر إليه نظر التعليم والتعلّم كما هو الغالب علينا، ونقرأ القرآن للثواب والأجر فقط، ولهذا لا نعتني بغير جهة تجويده، ونريد أن نقرأ القرآن أربعين سنة، ولا تحصل أي استفادة منه بوجه إلا الأجر وثواب القراءة. وإما أن نشتغل إن كان نظرنا التعليم والتعلّم بالنكات البديعية والبيانية ووجوه إعجازه، وأعلى من هذا بقليل فإلى الجهات التاريخية وسبب نزول الآيات وأوقات النزول، وكون الآيات والسور مكية أو مدنية، واختلاف القراءات واختلاف المفسرين من العامة والخاصة، وسائر الأمور العرضية الخارجة عن المقصد، والتي هي نفسها موجبة للاحتجاجات عن القرآن والغفلة عن الذكر الإلهي، بل إن مفسّرينا العظام أيضاً صرفوا عمدة همّهم في إحدى هذه الجهات أو أكثر، ولم يفتحوا باب التعليمات على الناس. وبعقيدة الكاتب لم يُكتب إلى الآن التفسير لكتاب الله، لأن معنى التفسير على نحو كلي هو أن يكون شارحاً لمقاصد الكتاب المفسّر، ويكون النظر المهم إلى بيان منظور صاحب الكتاب. فهذا الكتاب الشريف الذي هو بشهادة الله تعالى كتاب الهداية والتعليم، ونور طريق سلوك الإنسانية، يلزم للمفسّر أن يعلم المتعلم في كل قصة من قصصه، بل في كل آية من آياته جهة الاهتداء إلى عالم الغيب، وحيثية الهداية إلى طريق السعادة، وسلوك طريق المعرفة والإنسان.
فالمفسر إذا فهّمنا المقصد من النزول فهو مفسّر لا سبب النزول كما هو في التفاسير، ففي نفس قصة آدم وحواء وقضاياهما مع ابليس من ابتداء خلقهما إلى ورودهما في الأرض، وقد ذكرها الحق تعالى مكررة في كتابه، كم من المعارف والمواعظ مذكورة فيها ومرموز إليها. وكم هي تعرفنا بعيوب النفس والأخلاق الابليسية وكمالاتها والمعارف الإنسانية ونحن غافلون عنها..
وبالجملة، كتاب الله هو كتاب المعرفة والأخلاق والدعوة إلى السعادة والكمال، فكتاب التفسير أيضاً لابد وأن يكون كتاباً عرفانياً وأخلاقياً ومبيّناً للجهات العرفانية والأخلاقية وسائر جهات الدعوة إلى السعادة التي في القرآن. فالمفسر الذي يغفل عن هذه الجهة، أو يصرف النظر عنها أو لا يهتم بها، فقد غفل عن مقصود القرآن والمنظور الأصلي لانزال الكتب، وإرسال الرسل. وهذا خطأ حرم الملّة الإسلامية قروناً من الاستفادة من القرآن الشريف، وسدّ طريق الهداية على الناس، فلابد لنا أن نأخذ المقصود من تنزيل هذا الكتاب من نفس هذا الكتاب مع قطع النظر عن الجهات العقلية والبرهانية التي تفهمنا المقصد، فمصنف الكتاب أعرف بمقصده. فالآن إذا نظرنا إلى ما قال هذا المصنف فيما يرجع إلى شؤون القرآن، نرى أنه يقول {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} فعرّف هذا الكتاب بأنه الهداية، نرى أنه في سورة قصيرة كرّر مرّات عديدة {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} نرى أنه يقول {وأنزلنا الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون} ونرى أنه يقول {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكّر أولو الألباب} إلى غير ذلك من الآيات الشريفة التي يطول ذكرها.
وبالجملة، ليس مقصودنا من هذا البيان الانتقاد للتفاسير، فإن كل واحد من المفسرين تحمّل المشاق الكثيرة والأتعاب التي لا نهاية لها حتى صنّف كتاباً شريفاً، فللّه درّهم، وعلى الله أجرهم، بل مقصودنا هو أنه لابد وأن يفتح للناس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشريف الذي هو الكتاب الوحيد في السلوك إلى الله، والكتاب الأوحدي في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهية، وأعظم وسيلة رابطة بين الخالق والمخلوق، والعروة الوثقى، والحبل المتين للتمسك بعزّ الربوبية. فعلى العلماء والمفسرين أن يكتبوا التفاسير فارسية وعربية، وليكن مقصودهم بيان التعاليم والمقررات العرفانية والأخلاقية، وبيان كيفية ربط المخلوق بالخالق، وبيان الهجرة من دار الغرور إلى دار السرور والخلود على نحو ما أودعت في هذا الكتاب الشريف، فصاحب هذا الكتاب ليس هو السكاكي والشيخ ليكون مقصده جهات البلاغة والفصاحة، وليس هو سيبويه والخليل حتى يكون منظوره جهات النحو والصرف، وليس المسعودي وابن خلكان حتى يبحث حول تاريخ العالم. هذا الكتاب ليس كعصى موسى ويده البيضاء، أو نفس عيسى الذي يحيي الموتى فيكون للاعجاز فقط، وللدلالة على صدق النبي الأكرم؛ بل هذه الصحيفة الإلهية كتاب إحياء القلوب بالحياة الأبدية للعلم والمعارف الإلهية، هذا كتاب الله ويدعو إلى الشؤون الإلهية له جلّ وعلا.
فالمفسر لابد وأن يعلّم الناس الشؤون الإلهية، وعلى الناس الرجوع إليه لتعلّم الشؤون الإلهية حتى تتحصل الاستفادة منه {وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} فأي خسران أعظم من أن نقرأ الكتاب الإلهي ثلاثين أو أربعين سنة، ونراجع التفاسير، ونبقى محرومين من مقاصده {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين}.
________________________________________
موانع الاستفادة من القرآن
فإذا علمت الآن عظمة كتاب الله من جميع الجهات المقتضية للعظمة، وانفتح طريق استفادة المطالب منه، فاللازم على المتعلم والمستفيد من كتاب الله أن يجري أدباً آخر من الآداب المهمة حتى تحصل الاستفادة، وهو رفع موانع الاستفادة، ونحن نعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن. وهذه الحجب كثيرة، نشير إلى بعضها:
من الحجب العظيمة حجاب رؤية النفس، فيرى المتعلم نفسه بواسطة هذا الحجاب مستغنية أو غير محتاجة للاستفادة، وهذا من المكائد المهمة للشيطان، حيث أنه يزيّن للإنسان دائماً الكمالات الموهومة، ويرضي الإنسان ويقنعه بما هو فيه، ويسقط من عينه كل شيء وراء ما عنده، مثلاً يقنع أهل التجويد بذاك العلم الجزئي، ويزيّنه في أعينهم إلى حد كبير، ويسقط سائر العلوم عن أعينهم، ويطبّق في نظرهم حملة القرآن عليهم، ويحرمهم من فهم الكتاب النوراني الإلهي والاستفادة منه. ويرضي أصحاب الأدب بتلك الصورة بلا لبّ، ويمثل جميع شؤون القرآن فيما هو عندهم. ويشغل أهل التفاسير المتعارفة بوجوه القراءات والآراء المختلفة لأرباب اللغة، ووقت النزول، وشأن النزول وكون الآيات مكية أو مدنية، وتعدادها، وتعداد الحروف وأمثال تلك الأمور. ويقنع أهل العلوم أيضاً بعلم فنون الدلالات فقط، ووجوه الاحتجاجات وأمثالها، حتى أنه يحبس الفيلسوف والحكيم والعارف الاصطلاحي في الحجاب الغليظ للاصطلاحات والمفاهيم وأمثال ذلك.
فعلى المستفيد أن يخرق جميع هذه الحجب، وينظر إلى القرآن من ورائها، ولا يتوقف في شيء من هذه الحجب، فيتأخر عن قافلة السالكين إلى الله، ويحرم من الدعوات الحلوة الإلهية، ويستفاد عدم الوقوف وعدم القناعة بحد معين من نفس القرآن.
والإشارة إلى هذا المعنى كثيرة في القصص القرآنية، فموسى الكليم ـ مع ما له من المقام العظيم في النبوّة ـ ما اقتنع بذلك المقام، وما توقف في مقام علمه الشامخ، وبمجرد أن لاقى شخصاً كاملاً كالخضر قال له ـ بكل تواضع وخضوع ـ {هل أتّبعك على أن تعلمني مما علّمت رشدا} وصار ملازماً لخدمته حتى أخذ منه العلوم التي لابد من أخذها.
وإبراهيم عليه السلام لم يقتنع بمقام الإيمان الشامخ، والعمل الخاص للأنبياء فقال {ربّ أرني كيف تحيي الموتى} فأراد أن يرتقي من الإيمان القلبي إلى مقام الاطمئنان الشهودي، وأعظم من ذلك أن الله تبارك وتعالى يأمر نبيّه الخاتم ـ أعرف خلق الله على الاطلاق ـ بالكريمة الشريفة {وقل ربّ زدني علماً} فهذه الأوامر في الكتاب الإلهي، ونقل هذه القصص لأن نتنبّه ونستيقظ من نوم الغفلة.
ومن الحجب: حجاب الآراء الفاسدة، والمسالك والمذاهب الباطلة. وهذا يكون من سوء استعداد الشخص أحياناً، والأغلب أنه يوجد من التبعية والتقليد. وهذا من الحجب التي حجبتنا بالأخص عن معارف القرآن، مثلاً اذا رسخ في قلوبنا اعتقاد فاسد بمجرّد الاستماع من الأب أو الأم أو من بعض جهلة أهل المنبر تكون هذه العقيدة حاجبة بيننا وبين الآيات الشريفة الإلهية. فإن وردت آلاف من الآيات والروايات تخالف تلك العقيدة، فإما أن نصرفها عن ظاهرها، أو أن لا ننظر فيها نظر الفهم. والأمثال لذلك فيما يرجع إلى العقائد والمعارف كثيرة ولكني أكفّ نفسي عن عدّها لأني أعلم بأن هذا الحجاب لا يخترق بكلام مثلي، ولكن أشير إلى واحد منها حيث أنه سهل المأخذ في الجملة.
قد وردت الآيات الكثيرة الراجعة إلى لقاء الله ومعرفة الله، ووردت روايات كثيرة في هذا الموضوع، مع كثير من الاشارات والكنايات والصراحات في الأدعية والمناجاة للأئمة عليهم السلام. فبمجرد ما نشأت عقيدة في هذا الميدان من العوام، وانتشرت بأن طريق معرفة الله مسدود بالكلية، وقاسوا باب معرفة الله ومشاهدة الجمال على باب التفكر في الذات على الوجه الممنوع، بل الممتنع. فإما أن يؤولوها ويوجّهوها، وإما ألا يدخلوا في هذا الميدان أصلاً، ولا يعرّفوا أنفسهم بالمعارف التي هي قرّة العين للأنبياء والأولياء، فمما يوجب الأسف الشديد لأهل الله أن باباً من المعرفة ـ الذي يمكن أن يقال أنه غاية بعثة الأنبياء ومنتهى مطلوب الأولياء ـ قد سدّوه على الناس بحيث يعدّ التفوّه به كفر محض وصرف الزندقة. إن هؤلاء يرون معارف الأنبياء والأولياء في ما يختص بذات الله تعالى وأسماءه وصفاته مساوية لمعارف العوام والنساء فيه؛ بل يظهر من هؤلاء أحياناً ما هو أعظم من ذلك، فيقول أحدهم: إن لفلان عقائد عامية حسنة، فياليت لنا مثلما له من العقيدة العامية.. وهذا الكلام منه صحيح لأن هذا المسكين الذين يتفوّه بهذا الكلام قد أخرج من يده العقائد العامية، ويرى معارف الخواص وأهل الله باطلة، فهذا التمني منه كتمنّي الكفار الذي نقل عنهم في الكريمة الإلهية {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا}. ونحن أردنا أن نذكر الآيات والأخبار في لقاء الله بالتفصيل، حتى تتضح فضاحة هذه العقيدة الفاسدة الناشئة عن الجهل والغرور الشيطاني، لاستلزم ذلك كتاباً على حدة، فضلاً عمّا إذا أردنا ذكر المعارف التي وقعت وراء ستر النسيان بواسطة هذا الحجاب الغليظ الشيطاني، حتى يعلم أن أحد مراتب المهجورية من القرآن، ومهجورية القرآن، ولعل الأسف عليها أشدّ هو هذه كما يقول تعالى في الكريمة الشريفة {وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً}.
إن مهجورية القرآن لها مراتب كثيرة ومنازل لا تحصى، ولعلنا متصفون بالعمدة منها. أترى أننا إذا جلّدنا هذه الصحيفة بجلد نظيف وقيم، وعند قراءتها أو الاستخارة بها قبّلناها ووضعناها على أعيننا أنكون ما اتخذناه مهجوراً؟ أترى اذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده، وجهاته اللغوية والبيانية والبديعية أنكون قد أخرجنا هذا الكتاب الشريف عن المهجورية؟ هل إننا إذا تعلمنا وجوه إعجاز القرآن وفنون محسّناته أنكون بذلك قد تخلّصنا عن شكوى رسول الله؟ هيهات.. فإنه ليس شيء من هذه الأمور مورداً لنظر القرآن ومنزله العظيم الشأن، إن القرآن كتاب إلهي وفيه الشؤون الإلهية. القرآن هو الحبل المتصل بين الخالق والمخلوق ولابد أن يوجد الربط المعنوي والارتباط الغيبي بتعليماته بين عباد الله ومربيهم، ولابد أن يحصل من القرآن العلوم الإلهية والمعارف اللدنّية. إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ـ حسب ما رواه الكافي ـ "انما العلم ثلاثة: آية محكمة وفريضة عادلة وسنّة قائمة" فالقرآن الشريف حامل لهذه العلوم، فإن تعلمنا من القرآن هذه العلوم نكون حينها ما اتخذناه مهجوراً، واذا قبلنا دعوات القرآن، وأخذنا التعليمات من قصص الأنبياء عليهم السلام المشحونة بالمواعظ والمعارف والحكم، وإذا اتعظنا نحن من مواعظ الله تعالى ومواعظ الأنبياء والحكماء والمذكورة في القرآن نكون عندها ما اتخذناه مهجوراً، وإلا فإن الغور في الصورة الظاهرية للقرآن أيضاً إخلاد إلى الأرض ومن وساوس الشيطان، ولابد من الاستعاذة بالله منها.
ومن الحجب المانعة من الاستفادة من هذه الصحيفة النورانية أيضاً: الاعتقاد بأنه ليس لأحد حق الاستفادة من القرآن الشريف إلاّ بما كتبه المفسرون أو فهموه. وقد اشتبه على الناس التفكر والتدبّر في الآيات الشريفة بالتفسير بالرأي الممنوع، وبواسطة هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً في جميع فنون الاستفادة، واتخذوه مهجوراً بالكلية، في حال أن الاستفادة الأخلاقية والإيمانية والعرفانية لا ربط لها بالتفسير أصلاً لتكون تفسيراً بالرأي، فمثلاً إذا استفاد أحد من كيفية محادثة موسى مع الخضر وكيفية معاشرتهما، وشدّ موسى رحاله إليه ـ مع ما له من عظمة مقام النبوة ـ لأخذ العلم الذي ليس موجوداً عنده، وكيفية عرض حاجته إلى الخضر كما ذكرت في الكريمة الشريفة {هل أتّبعك على أن تعلّمن ممّا علّمت رشداً} وكيفية جواب الخضر، والاعتذارات التي وقعت من موسى. فإذا استفاد أحد من ذلك عظمة مقام العلم، وآداب سلوك المتعلم مع المعلّم، ولعلها تبلغ من الآيات المذكورة إلى عشرين أدباً؛ فأي ربط لهذه الاستفادات بالتفسير، فضلاً من أن تكون تفسيراً بالرأي. وكثير من استفادات القرآن هي من هذا القبيل، ففي المعارف مثلاً اذا استفاد أحد من قوله تعالى {الحمد لله رب العالمين} الذي حصر جميع المحامد بالله، وخص جميع الثناء بالحق تعالىـ التوحيد الافعالي، وقال بأنه يستفاد من الآية الشريفة أن كل كمال وجمال، وكل عزة وجلال موجود في العالم وتنسبه العين الحولاء والقلب المحجوب إلى الموجودات، هو من الحق تعالى، وليس لموجود من قبل نفسه شيء، ولذا الحمد والثناء خاص بالحق، ولا يشاركه فيه أحد. فأي ربط لهذا بالتفسير حتى يسمى بالتفسير بالرأي، أو لا يسمى؟ إلى غير ذلك من الأمور التي تستفاد من لوازم الكلام، ولا ربط لها بوجه بالتفسير. مضافاً إلى أن التفسير بالرأي أيضاً كلام إذ لعله غير مربوط بآيات المعارف والعلوم العقلية التي توافق الموازين البرهانية، وبالآيات الأخلاقية التي فيها للعقل دخل، لأن هذه التفاسير مطابقة للبرهان المتين العقلي أو الاعتبارت العقلية الواضحة، بحيث كان ظاهر الكلام على خلافها، فاللازم أن يصرف الكلام من ظاهره. مثلاً في كريمة {وجاء ربك} و {الرحمن على العرش استوى} التي يكون الفهم العرفي فيها مخالفاً للبرهان فإن ردّ هذا الظاهر، والتفسير بما يطابق البرهان ليس تفسيراً بالرأي، ولا يكون ممنوعاً بوجه، فمن المحتمل؛ بل من المظنون أن التفسير بالرأي راجع إلى آيات الأحكام التي تقصر عنها أيدي الآراء والعقول، ولابد وأن تؤخذ بصرف التعبد والانقياد من خزّان الوحي ومهابط ملائكة الله، كما أن أكثر الروايات في هذا الباب وردت في مقابل علماء العامة الذين كانوا يريدون أن يفهموا دين الله بعقولهم ومقايساتهم، وما في بعض الروايات الشريفة من أنه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن وكذلك الرواية الشريفة "إنّ دين الله لا يصاب بالعقول" تشهد بأن المقصود من "دين الله" الأحكام التعبدية للدين، وإلا فباب إثبات الصانع والتوحيد والتقديس واثبات المعاد والنبوة، بل مطلق المعارف حق طلق للعقول ومن مختصاتها، وإن ورد في كلام بعض المحدثين من ذوي المقام العالي أن الاعتماد في إثبات التوحيد على الدليل النقلي، فمن غرائب الأمور، بل من المصيبات التي لابد أن يستعاذ بالله منها. ولا يحتاج هذا الكلام إلى التهجين والتوهين، والى الله المشتكى.
ومن الحجب أيضاً المانعة من فهم القرآن الشريف، ومن الاستفادة من معارف هذا الكتاب السماوي ومواعظه: حجاب المعاصي والكدورات الحاصلة من الطغيان والعصيان بالنسبة إلى ساحة رب العالمين المقدسة، الذي يحجب القلب عن إدراك الحقائق.
وليعلم كما أن لكل عمل من الأعمال الصالحة أو السيئة صورة في عالم الملكوت تتناسب معه، فله صورة أيضاً في ملكوت النفس، فتحصل بواسطتها في ملكوت نفس: صافية، وتليق للتجليات الغيبية وظهور الحقائق والمعارف فيها، وأما أن يصير ملكوت النفس به مظلماً وخبيثاً، وفي هذه الصورة يكون القلب كالمرآة المريّنة والمدنّسة لا تنعكس فيها المعارف الإلهية ولا الحقائق الغيبية، وحيث أن القلب في هذه الحالة يقع بالتدريج تحت سلطة الشيطان، ويكون المتصرف في مملكة الروح ابليس، فيقع السمع والمواعظ الإلهية، ولا ترى العين الآيات الباهرة الإلهية، وتعمى عن الحق وآثاره وآياته، ولا يتفقه القلب في الدين، ويحرم من التفكر في الآيات والبيّنات، وتذكر الحق والأسماء والصفات، كما قال الله تعالى {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل} فيكون نظرهم إلى العالم كنظر الأنعام والحيوانات الخالية عن الاعتبار والتدبّر، وقلوبهم كقلوب الحيوانات لا نصيب لها من التفكر والتذكر، بل تكون حالة الغفلة والاستكبار تزداد فيهم يوماً فيوماً من النظر في الآيات، واستماع المواعظ والمعارف، فهم أرذل وأضل من الحيوان.
ومن الحجب الغليظة التي هي ساتر غليظ بيننا وبين معارف القرآن وموعظه: حجاب حبّ الدنيا، فيصرف القلب بواسطته تمام همته في الدنيا، وتكون وجهة القلب تماماً إلى الدنيا، ويغفل القلب بواسطة هذه المحبة عن ذكر الله، ويعرض عن الذكر والمذكور. وكلما ازدادت العلاقة بالدنيا وأوضاعها، ازداد حجاب القلب وساتره ضخامة. وربما تغلب هذه العلاقة على القلب، ويتسلط سلطان حب الجاه والشرف على القلب، بحيث يطفئ نور فطرة الله بالكلية، وتغلق أبواب السعادة على الإنسان، ولعل المراد من أقفال القلوب المذكورة في الآية الشريفة {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها} هذه الأقفال وأغلال العلائق الدنيوية، ومن أراد أن يستفيد من معارف القرآن، ويأخذ نصيبه من المواعظ الإلهية لابدّ وأن يطهر القلب من هذه الأرجاس، ويزيل لوث المعاصي القلبية، وهي الاشتغال بالغير عن القلب لأن غير المطهّر ليس مَحرماً لهذه الأسرار، قال تعال {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلا المطهرون} فكما أن غير المطهر الظاهري ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب، ومسّه في العالم الظاهر تشريعاً وتكليفاً، كذلك ممنوع من معارفه ومواعظه وباطنه وسرّه من كان قلبه متلوثاً بأرجاس التعلّقات الدنيوية، وقال تعالى {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} إلى آخر الآية.
فغير المتقي ـ بحسب تقوى العامة ـ وغير المؤمن ـ بحسب إيمان العامة ـ محروم من الأنوار الصورية لمواعظه وعقائده الحقة، وغير المتقي وغير المؤمن ـ بحسب سائر مراتب التقوية ـ وهي تقوى الخاص، وتقوى أخص الخواص محروم من سائر مراتبها. والتفصيل حول ذلك، وذكر سائر الآيات الدالة على المقصود موجب للإطالة، ولكن نختتم هذا الفصل بذكر آية شريفة إلهية تكفي لأهل اليقظة بشرط التدبّر بها، قال تبارك وتعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}.
إن خصوصيات هذه الآية الشريفة كثيرة، والحديث حول أطراف نكاتها يستلزم رسالة على حدة ليس الآن مجالها.
|
|
|