لقاء مع الخطاط الكبير للقرآن الكريم: عثمان طه
والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
مَنْ منا لم يقرأ اسم الخطاط الكبير عثمان طه الذي أكرمه المولى بأن
خطَّ المصحف الشريف بيمنيه، وتلازم اسمه مع القرآن الكريم، فصار الملايين
من المسلمين يقرؤون القرآن بخطه، وسُمِّي المصحف الذي كتبه بمصحف الحفاظ
نظراً لافتتاح واختتام الصفحة بآية. ولكن الكثيرين لا يعرفون إلا القليل عن
هذا الرجل الذي نذر حياته لكتابة المصحف الشريف. ولتسليط الضوء على سيرته
الحافلة بالعطاءات نعرض على القراء الأعزاء وقائع اللقاء الذي جرى بينه
وبين الأستاذ مهدي دغاغلة مسؤول فرقة الثقلين للتواشيح من الجمهورية
الإسلامية في إيران، والحاصل على درجة ماجستير بعنوان الموازنة بين الخط
الإملائي والرسم العثماني في كتابة القرآن الكريم حيث التقى الأخير الخطاط
عثمان طه أثناء موسم الحج من عام 1428هـ.ق. في المدينة المنورة.
يقول السيد مهدي دغاغلة التقيت للمرة الأولى بالخطاط عثمان طه عام
1419 هـ.ق. في مطار دمشق الدولي وصافحته بشكل سريع حيث ركب سيارته ومشى.
وبعد 10 سنوات كنت من ضمن بعثة الحج الرسمية لسماحة الإمام الخامنئي(دام
ظله) حيث وُفِّقتُ للقاء بالخطاط عثمان طه في منزله بالمدينة المنورة برفقة
أعضاء فرقة التواشيح، وعندما فتح لنا الباب شخصياً ـ رأيت أن ملامحه لم
تغيرها تلك المدة فلم
يزل كما هو ـ خاطبنا باللغة الفارسية بوجه مبتسم: أهلاً ومرحباً بكم.
لبرهة اعتقدت أنه يعرف فقط هذه الجملة من اللغة الفارسية، لكنه أكمل: كيف
حالكم؟ فقلت له: ممنونين وأنتم كيف حالكم؟ أجاب: الحمد لله، الحياة تمشي.
كل جدران غرفة الإستقبال بل ولعل كل جدران المنزل مُزيَّنة
بالمخطوطات التي كتبها بخطه الأنيق وهي بمجملها آيات قرآنية وأحاديث وحكمٌ
للعظماء.
يمتلك الأستاذ عثمان طه طبعاً مرحاً وفكراً لبيباً ولهجة عذبة، وكان
بين الحين والآخر يغير أماكن الأفعال فقلت له بأنني أتقن اللغة العربية
واللهجة السورية فتستطيع أن تخاطبنا باللغة التي ترتاح فيها أكثر، وبعد ذلك
تكلمت معه باللغة العربية، فقال: الحمد لله الذي سهَّل علينا التواصل
معكم، وأكمل: هل إن جميع الإيرانيين يتقنون اللغة العربية مثلك أم أن هذا
يختص بقراء القرآن وفرق التواشيح، فقلت له: إن العديد من الإيرانيين يتقنون
اللغة العربية، ولكن لو سمحتم قولوا لي كيف تعلمتم اللغة الفارسية؟ فأجاب:
أمتلك عشقاً كبيراً لخط نستعليق الفارسي وعند التمرين على الكتابات
الفارسية أرى من اللازم علي أن أفهم معاني الكلمات وإلا فإنني لا أتمتع بها
أبداً.
إضافة إلى ذلك فإن الأستاذ أمير خاني هو من أصدقائي وقد تعلمت منه
ومن عدد من الأصدقاء الكثير من الأمثال الفارسية. وقد تعلمت اللغة الفارسية
لجمال خطها وهذا ما جذبني إليها، كما أنني ملمٌ قليلاً باللغة التركية
لنفس السبب.
ثم تابع الخطاط عثمان طه قائلاً: أنا أعيش في المدينة المنورة منذ
حوالي 20 سنة وأعمل في مطبعة القرآن الكريم الكبرى وعقد عملي يسمح لي أولاً
بشهر واحد كإجازة سنوية وفي هذا الوقت المحدود أزور فيه وطني سوريا ألتقي
خلاله أقربائي وأصدقائي، وثانياً فإن من شروط عقد العمل أن لا أزور أي بلد
آخر.
منذ مدة طويلة واسمكم كان ملازماً للقرآن الكريم، فكم كان عمركم عندما بدأتم بكتابة القرآن؟
نعم، أنا أعرف أن العديد من الناس يعتقدون أن عثمان طه قد توفي منذ
سنوات طويلة، وفي هذا المجال تحضرني حادثة حينما رآني أحد الأشخاص في
المطار وسألني بشوق عن أحوالي، ومن ثم نادى أحد أصدقائه وقال له: أعرفك على
الأستاذ عثمان طه خطاط القرآن الكريم، فقال له صديقه: لا إنك تمزح معي،
عثمان طه توفي منذ 200 سنة.
نعم، لقد كتبت أول مصحف وكان لي من العمر 30 سنة ولم يكن لدي دافع
سوى محبة القرآن وخدمته ولم أكن أتوقع أن يلاقي ذلك هذا الإقبال، وأن ينال
هذه المرتبة. وبعد فترة استدعاني المرحوم الرئيس حافظ الأسد وكرمني وشكرني،
وأنا بدوري كتبت أحد المصاحف وأهديته إياه.
وأروي لك حادثة ثانية حدثت قبل أن تطلب مني المملكة العربية السعودية
المجيء إلى هنا، كنت قد كتبت أحد المصاحف، فألح علي أحد الأصدقاء بشكل
كبير على أن يأخذ النسخة الأساسية من القرآن، فأخذها وبدون إذن مني قام
ببيعها للمملكة العربية السعودية وتم طبعها ولم يذكر فيها إسم الخطاط ،
ولما رأيت تلك النسخة حزنت كثيراً، ولكن تمت معالجة الأمر فيما بعد وصدر
قرار يقضي بعدم توزيع المصاحف التي لم تكن قد وزعت بعد والتي لا تحمل إسم
الخطاط.
هل اتخذتم نموذجاً خاصاً عند بدء كتابتكم للمصحف الشريف؟
نعم، لقد كتبت المصحف الشريف بالخط العثماني وفقا لأحد المصاحف
المصرية القديمة التي كتبت في زمن الملك فاروق. أما كتابة آخر الآية في آخر
الصفحة فقد اقتبست ذلك من أحد المصاحف التركية.
ما هي المدة التي تستغرقها كتابة النسخة الواحدة من القرآن الكريم؟
يستغرق ذلك مدة سنتين ونصف، وأنا أعتمد في التخطيط منتهى الدقة وكذلك أعمل بحيوية وشوق، ولا أستعجل أبداً في الكتابة.
وما هي الأبعاد التي تكتبون بها المصحف، وهل هي بمقدار المصحف المطبوع؟
لا طبعاً، أنا أكتب المصحف وفقاً للأبعاد التالية 70سنتم * 100 سنتم،
والدليل على ذلك واضح، فعندما يكون لديك كتابة صغيرة وتكبِّرها فإنك ترى
فيها الكثير من العيوب، وأما عندما تكون كبيرة وتصغرها فإن دقة العمل تزداد
بشكل كبير جداً. وهنا لا أريد أن أمدح نفسي، ولكن لم يحصل بعد أن أكمل
كتابة الصفحة أن استخرج أحد ما أي خطأٍ فيها ولو كان صغيراً جداً.
هل تستفيدون من قلم وورق خاص في الكتابة؟
نعم، أنا أستفيد من أفضل أنواع الورق الروسي ومن قلم معدني خاص.
في المسجد النبوي الشريف يوجد بعض النسخ من القرآن الكريم تختلف
قليلاً عن خطكم المعروف والمتداول، هل أن هذا القرآن كُتِب جديداً؟
نعم، هذه النسخة من القرآن أكملتها مؤخراً ووجدت طريقها إلى الطباعة،
وبنظري فإن هذه النسخة تتميز بدقة وحرفية عاليتين، وقد اختلفت عن السابقة
من حيث قواعد الخط بشكل بسيط. وطبعاً بعد توزيع هذه النسخة لاقت اعتراضات
طفيفة من حفاظ القرآن الكريم مبنية على أن هذا الخط قد اختلف عن الخط
السابق وهذا ما أوقعهم في الأخطاء. وأنا قلت لهم أن النسخة السابقة هي لكم
والنسخة الجديدة هي للحفاظ الجدد.
أنتم كتبتم القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، فهل كتبتموه بروايات غيرها؟
نعم، كتبته برواية قالون عن نافع ورواية ورش عن نافع لدول شمال
أفريقيا، وأيضاً برواية الدوري لأهل السودان، وتستطيعون الحصول على هذه
المصاحف من معرض البيع في مكتبة المدينة، ويوجد عندي فقط المصحف برواية حفص
عن عاصم وسأقدم لكلٍ منكم هدية منه.
هل تعتقدون أن رسم الخط العثماني هو أمر توقيفي؟
أنا مخالف أن يُطبَع القرآن رسمياً وفقاً لرسم الخط الإملائي
(المعاصر) وذلك بسبب أن الخط الإملائي يتغير مع مرور الزمان أو فلنقل أنه
يتطور وعليه لا يمكن أن نكتب القرآن بخط متغير. أما رسم الخط العثماني،
والذي كتبه أصحاب النبي (ص) في صدر الإسلام، وحتى الأخطاء الإملائية في هذا
الخط يجب أن تكون ذات قيمة بالنسبة لنا والفن في ذلك أن نحافظ عليها لا أن
نعمل على تغييرها. وأنا أوافق على كتابة القرآن الكريم وفقاً لرسم الخط
الإملائي للمدارس وبقصد التعليم، مع أنني أحب ومنذ البداية أن يتم تعليم
رسم الخط العثماني منذ البداية. طبعاً أنتم سألتم عن كلمة (التوقيف) مع
وجود هذه التفاصيل فإن رأيي هو أقرب إلى التوقيف في رسم الخط العثماني.
في كتابتكم هناك وجود للحركات القصيرة (الفتحة، الكسرة، الضمة) قبل
حروف المد فهل هناك ضرورة لذلك؟ مثلاً في كلمة (كِتَاب) إذا لم نضع الفتحة
قبل الألف، ما الذي كان سيحدث؟ ألا يُعتبر ذلك إضافياً؟
أنا أعلم أن هذا السؤال مطروح في إيران، وأيضاً لدي علم أنه تم طبع
مصحف خال من الحركات التي أشرتم إليها، ولدي نسخة منه. وأنا أعتبر أن
كلامكم منطقي وصحيح، ولكن باستطاعتكم وبنظرة واحدة إلى صفحة من المصحف
المطبوع بدون تلك الحركات أن تلتفتوا إلى فقدان الجمال والأبهة.
هل لديكم رقابة على التذهيب والزخرفة لهوامش الصفحات وتلوين أرضية الصفحات ودوائر الآيات و...؟
من حسن التوفيق أن كل هذا الفن الجميل أقوم به بمشورة ابني أحمد، فهو
حصل على إجازة في الفنون الجميلة والتصميم وهو متقن لعمله بشكل كبير.
هل لديكم علاقات مع باقي الخطاطين المشهورين؟
نعم، فأغلب الخطاطين هم أصدقائي. ففي سنة 1973م أجريت امتحاناً عند
كبير الخطاطين في تركيا الأستاذ حامد الآمدي وأعطاني شهادة بخط يده. وكذلك
فإنني على معرفة بالخطاط الإيراني الأستاذ أمير خاني وأنا على علاقة به.
وكذلك فإن الخطاط العراقي المشهور هاشم البغدادي هو صديقي. ولقد حدث أن كتب
هاشم نسخة من القرآن وذهب بها إلى ألمانيا كي يطبعها هناك، وقد ورد في
خاطره أن يطبع إسم الجلالة (الله) باللون الأحمر، ولأن الألمان لم يكن لهم
اطلاع على الحركات القصيرة في اللغة العربية فقد نسخوا لفظ الجلالة كنموذج
وهي كانت مفتوحة وبذلك فإن كل ألفاظ الجلالة في القرآن الذي كتبه هاشم
أصبحت مفتوحة. ورجع هاشم مسروراً ومعه عدد من الصناديق التي تحوي ذلك
المصحف، ولحسن الحظ فعندما رجع زارني وقدم لي هدية من المصحف الذي كتبه،
وقال لي: أنت أول شخص أقدم له هذه الهدية. عندها التفت لذلك الخطأ وقلت له
إذا وزعت هذا المصحف بهذا الشكل فإن أحداً لن يعتبر أن الخطأ من المطبعة
وستحدث مشكلة كبيرة لك شخصياً.
هل لديكم معرفة بغير خط النسخ وخط الثلث؟
أنا أعرف جميع الخطوط كما وإنني أكتبها جميعاً، ولكنني أعتقد أن كل
خطاط يكتب خطاً معيناً بشكلٍ أفضل من سائر الخطوط، وأكثر اختصاصي في خط
النسخ، والخطاط أمير خاني ماهرٌ في خط النستعليق.
نحن سمعنا أنك تكتب باليد اليسرى، فها هذا صحيح؟
لا، فأنا أكتب باليد اليمنى، وأعتقد أن من يكتب باليد اليسرى لا يعرف
سر القلم ولا يرى ما يكتبه بشكل جيد، وبناء عليه فإنها لن تكون بدقة اليد
اليمنى. وأحد أبنائي كان في صغره يكتب بيده اليسرى فأجبرته على الكتابة
بيده اليمنى والآن هو يقوم بكل أعماله باليد اليسرى ما عدا الكتابة فإنه
يكتب باليد اليمنى.
هل لديك بعض الذكريات يمكن أن تذكرها لنا؟
منذ عدة سنوات عرض لي أحد الأصدقاء السوريين بعض اللوحات المخطوطة
بخط يدي في المعرض الدولي للقرآن الكريم في طهران، فنقل لي مقدار محبة
الشعب الإيراني لي، والعديد منهم كانوا يعتقدون أنه هو عثمان طه وكانوا
يقبلونه ويتصورن معه.
ذكرى ثانية: إن اسم عثمان طه متداول بشكل واسع في السودان وهذا يعود
للمصحف الذي كنت قد كتبته برواية الدوري، وبعد مدة أتى عدد من المسؤولين
للقائي في المدينة المنورة فقالوا متعجبين: لماذا لون بشرتك أبيض.
يتابع السيد مهدي دغاغلة بالقول: بعد هذا الكلام تلا أحد أعضاء فرقة
التواشيح السيد مقدمي تلاوة جميلة وكان التأثر بادياً على وجه الأستاذ
عثمان طه ووجه ابنه أحمد، ومن ثم أدت الفرقة مقطوعة من التواشيح الجميلة في
مدح أهل البيت(ع)، وبعد عدة لحظات قال الأستاذ عثمان طه: أطلب منكم أن
تنشدوا مقطوعة ثانية لأن زوجتي تأثرت كثيراً بما أديتموه، ونحن أيضاً
لبَّيْنا طلبه وأنشدنا مقطوعة أجمل من الأنشودة الأولى.
ومن ثم قال لي الأستاذ عثمان طه: هذه المرة الأولى التي يسألني فيها شخص إيراني أسئلة مختصة بالخط، فهل لكم علاقة بالخط؟
قلت له: نعم فإن رسالتي في الماجستير تختص بالمقارنة بين رسم الخط العثماني ورسم الخط الإملائي.
وهل كتبت هذه الرسالة باللغة العربية أو الفارسية؟
لأنني حصلت على إجازة في اللغة العربية وآدابها فإنني كتبتها بالعربية.
وهل طبعتها على كتاب؟
إلى الآن لم أطبعها، ولكن في المستقبل سأقوم بطبعها إن شاء الله.
سأكتب لك عنوان هذه الرسالة بخط يدي.
أشكركم يا أستاذ، وهذا افتخار لي.
وبعد ذلك كتب لي الأستاذ طه عنوان الكتاب بخط يده.
قلت للأستاذ: إن أحد مصادر رسالتي في الماجستير كان كتاب الدكتور محمد التونجي.
الأستاذ طه: إن الدكتور محمد التونجي هو أحد أصدقائي المقربين، وهو
أحد العوامل المؤثرة في تعلمي للغة الفارسية، لأنه أنهى تعليمه في جامعة
طهران، وهو كذلك رئيس كلية اللغة الفارسية في دمشق.
قلت للأستاذ: إن عنوان كتابي السابق والذي يختص بتعلُّم سلم المقامات
الموسيقية العربية في تلاوة القرآن وأداء التواشيح كان قد كتبه لي الأستاذ
زهير المنيني (من أهل دمشق) فهل تعرفونه.
نعم أعرفه، كان لديه خط جميل، رحمة الله عليه فقد توفي منذ 7 سنوات.
في ختام اللقاء جلب الأستاذ عثمان طه دفتره الذي كان يكتب عليه في المرحلة الإبتدائية وقال: هذا يعود للصف الرابع الإبتدائي.
ودعنا الأستاذ عثمان طه وشكرناه على استقباله لنا على أمل اللقاء
مجدداً وهذا ما حدث بالفعل حيث أنه دعانا بعد عدة أيام وتناولنا طعام
الغداء في منزله.
|