تَعَلَّمُوا اَلْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلْحَدِيث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له: «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ اَلْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اَلْإِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ اَلْإِسْلاَمِ وَكَلِمَةُ الْإِخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ وَحَجُّ اَلْبَيْتِ وَاعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ وَصِلَةُ اَلرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي اَلْمَالِ وَمَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اَللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ وَارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى اَلسُّنَنِ وَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ اَلْحَدِيثِ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ اَلْقُلُوبِ وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ اَلصُّدُورِ وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ اَلْقَصَصِ وَإِنَّ الْعَالِمَ اَلْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ اَلْحَائِرِ اَلَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَاَلْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَهُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَلْوَمُ» (1) .
الشرح:
قال (عليه السلام): «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ اَلْمُتَوَسِّلُونَ» أي: تقرّب به المتقربون، فكل ما تتقرب به إلى الآخر يسمى توسلا ووسيلة، وقد نبّه تعالى عليه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (2) .
ثم أشار الإمام في هذه الخطبة إلى أفضل الوسائل لمرضاة اللّه وثوابه، وهي:
1 - «إِلَى اَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اَلْإِيمَانُ بِهِ» (الْإِيمَانُ بِهِ) جعله (عليه السلام) أوّل الوسائل لأنّه الأصل، قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (3). وهو أصل الأصول كلها، والإيمان النظري مجرد اعتقاد، أما الإيمان الواقعي فهو الاعتقاد مع العمل، وإلا يكون الإيمان شجرة بلا ثمرة، قال الإمام (عليه السلام): بالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يستدل على الإيمان، وفي الحديث: الإيمان إقرار باللسان، وعقد في القلب، وعمل في الأركان.
2 - «وَبِرَسُولِهِ» والإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إيمان بالإنسانية وقيمها، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (4) . وقال في تحديد رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (5) .
وقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
3 - «وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلاَمِ» وكلمة الذروة بالكسر والضم أي: أعلى، تشير إلى أنه لولا الجهاد ما ارتفع للإسلام راية، ولا كان له عين وأثر، بل الإسلام في جوهره جهاد من أجل الحرية، وثورة على الفوارق والعبودية، وعلى الاستغلال والمراباة.. قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة يدعو إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ثلاث عشرة سنة، فتألبت عليه قوى السلب والنهب، فقضى عليها بالمؤاخاة والجهاد، ولما تفرق المسلمون أيدي سبأ، وتركوا الجهاد عادت قوى السلب تسرح وتمرح، وضعف الإسلام تبعاً لتخاذل أهله وأتباعه، ولم يبق منه إلا الاسم، وشعارات ترفع من المآذن والمنابر، ومؤتمرات تعقد هنا وهناك تسطر الكلام وتنشره في الصحف، ثم يلفظ مع القمامة. ومن أقوال الإمام (عليه السلام): من ترك الجهاد رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذل، وسيم الخسف، ومنع النصف.
ومن الجهاد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ومنه جهاد النفس قال تعالى: ﴿... وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (6) .
4 - «وَكَلِمَةُ الْإِخْلاَصِ فَإِنَّهَا اَلْفِطْرَةُ» وهذه الكلمة هي دعوة الأنبياء جميعاً من غير استثناء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ﴾ (7) . وليس المراد بكلمة الإخلاص النطق بلا إله إلا اللّه، وإنما المراد ما تمليه من التعبد له، والتوكل عليه وحده، لا على المال والجاه، ولا على الأحساب والأنساب، أو الفهم والعلم، فإنَّ هذه وغيرها ليست بآلهة تعبد، ولا بشيء يذكر.
روى (ثواب الأعمال) عن الصادق (عليه السلام): من قال لا إله إلاّ اللّه مخلصاً دخل الجنّة واخلاصه بها أن (تحجزه) (لا إله إلاّ اللّه) عمّا حرّم اللّه.
وروي عن حذيفة: لا تزال (لا إله إلاّ اللّه) ترد غضب الرب عن العباد ما كانوا لا يبالون ما انتقص من دنياهم إذا سلم دينهم، فاذا كانوا لا يبالون ما انتقص من دينهم إذا سلمت دنياهم ثم قالوها ردت عليهم وقيل كذبتم ولستم بها صادقين.
أما كلمة الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، فهي إشارة إلى أن الإنسان بفطرته وطبيعته يستجيب لعقيدة التوحيد ولا يرفضها، بل يستجيب لكل مبدأ من مبادىء الإسلام، وكل قيمة من قيمه، وأي عاقل يرفض العلم ومنافعه، والسلم وفوائده، ويرحب بالاستغلال والجبروت والتفرقة بين الناس؟.
5 - «وَإِقَامُ الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ» أي: الدين والشريعة. لأن عقيدة الإسلام تقوم على الشهادة للّه بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة، والصلاة مظهر للشهادتين معا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .. أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله». وكلام أهل البيت (عليه السلام) يومىء إلى أن من ثمرات الصلاة وحكمتها أن لا ينقطع المسلم عن نبيّه في صباح ومساء.
ومما روى (الكافي) في فضل الصلاة عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربهم ما هو؟ فقال: ما علم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ألا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم (عليه السلام) قال: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾ (8) .
وعنه (عليه السلام): أحب الاعمال إلى اللّه عزّ وجل الصلاة وهي آخر أوصياء الأنبياء. وعنه (عليه السلام): إذا قام المصلّي إلى الصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض وحفّت به الملائكة، وناداه ملك لو يعلم هذا المصلّي ما في الصلاة ما انفتل.
6 - «وَإِيتَاءُ اَلزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ» ما دام في المجتمع غني وفقير فالزكاة ضريبة يفرضها التعاون والضمان الاجتماعي، ولكن البعض تحذلق وقال: إن فريضة الزكاة معناها الاعتراف بالفقر، وإنه حتم لا بد منه، وكان الأجدر بالإسلام أن يقتلعه من الجذور، ويوجد مجتمعاً لا فقر فيه على الإطلاق.
والإجابة أولاً: بأن تغيير الأوضاع ومحو الفقر من الأساس لا يكون بجرة قلم، ودون أن يمر بالعديد من المراحل، وإذن فلا بد أن نخضع للواقع، ونداوي الحاضر بالحاضر حتى تسمح الظروف، وماذا نصنع بالمرضى والجائعين في مجتمع يسوده فساد الأوضاع؟ هل ننتظر حتى تصلح الأمور، أو نشرع قانونا يضمن الحياة إلى أن تتبدل الأحوال بالجد والاجتهاد؟
ثانيا: إن مصرف الزكاة لا ينحصر بالفقراء، بل يتعدّاهم إلى مشروعات الخير، وما فيه للناس صلاح كما هو المفهوم من كلمة «سَبِيلِ اللَّهِ» من سورة التوبة.
روى (الكافي) في فرض الزكاة عن الصادق (عليه السلام): ما فرض اللّه على هذه الأمة شيئا أشدّ عليهم من الزكاة، وفيها تهلك عامتهم.
وروي عمّن منع زكاته عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بينا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد إذ قال: قم يا فلان ويا فلان حتى عد خمسة فقال: أخرجوا من مسجدنا لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكون.
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام): من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً. وعنه (عليه السلام): من منع قيراطاً من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى: ﴿... رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ (9).
7- «وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ اَلْعِقَابِ». قد يرى البعض أن الصوم ليس إلا عملا سلبياً.. أجل، ولكن في هذا السلب حكمة وإيجاب، وهو انتصار الإنسان على نفسه، وتمرينه على كبح الشهوات والأهواء، ولو أطلق الإنسان العنان لأهوائه لكانت الحياة ناراً وجحيماً.
روى (الكافي) في فضل الصوم عن علي بن عبد العزيز قال قال لي أبو عبد اللّه (عليه السلام): ألا أخبرك بأصل الإسلام وفرعه وذروته وسنامه؟ قلت: بلى، قال: أصله الصلاة وفرعه الزكاة وذروته وسنامه الجهاد في سبيل اللّه، ألا أخبرك بأبواب الخير أن الصوم جنّة.
وعنه (عليه السلام): إن للّه تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان عتقاء وطلقاء من النار، إلا من أفطر على مسكر، فاذا كان في آخر ليلة منه أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه.
8 - «وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاِعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ» أي: يغسلان الذنب فيزيلانه. تكلم كثيرون عن منافع الحج وحكمته، ووضع بعضهم فيها رسالة خاصة، وأكثر ما قيل كلام مكرور ومعاد لفظا ومحتوى، وعلى أية حال نعطف على أقوالهم هذا الخاطر الذي لاح لنا الآن: أن للحج فوائد منها أنه يقول لأعداء الإسلام لا تحسبوا أن شمسه قد غربت، وأضواءه قد خبت، فها هم المسلمون يعلنون عن وجود الإسلام بالهرولة في المسعى، وتبديل الملابس بالأكفان أو ما يشبهها، وبالطواف بالأقدام، والتجاذب حول الحجر الأسود، والنشيد والهتاف بالأفواه «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك، لَبَّيْكَ لا شَرِيْكَ لَكَ لَبَّيْك، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْك، لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْك».
ولكن هل نغيظ العدو بهذه المظاهرة، وهو يحتل من أرضنا ما أحب وأراد،ويشعل النيران في المسجد الأقصى، ويحرّف كتاب اللّه عن معناه وعلى هواه، ويقتل الفلسطينيين بيد الرجعية والخيانة، ويذل كل عربي ومسلم في شرق الأرض وغربها؟. وأيضا هل نغيظ العدو بالمؤتمرات «الإسلامية والأدبية والشعرية» وبالاجتماعات الكبرى على مستوى الملوك والرؤساء، أو وزراء الخارجية، وبالخطب والقصائد؟.. حجوا أيها المسلمون، وصلّوا وصوموا فإن اللّه لا يتقبل منكم ولن يتقبل ما دمتم أذلاء صاغرين أمام عدوه وعدوكم.
روى (الكافي) في فضل الحجّ وعمرته، عن إسحاق بن عمّار قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إني قد وطّنت نفسي على لزوم الحجّ كلّ عام بنفسي أو برجل من أهل بيتي بمالي فقال: وقد عزمت على ذلك؟ قلت نعم قال: إن فعلت فايقن بكثرة المال.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يحالف الفقر والحمى مدمن الحج والعمرة. وعن الصادق (عليه السلام): تابعوا بين الحج والعمرة فانهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد.
وعنه (عليه السلام): الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله فذلك أدنى ما يرجع به الحاج.
9 - «وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَمَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ» يقول تعالى: ﴿... وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ (10). «فانها» أي: الصلة. «مثراة» أي: مكثرة. «في المال ومنساة» أي: مؤخرة. «للأجل» وموجبة لطول العمر.
قد يكون مراد الإمام (عليه السلام) الزيادة في المال والعمر من حيث الكم أي أن صلة الرحم تزيد في أيام العمر وعد النقود حقيقة وواقعاً، وليس هذا بمستحيل في حكم العقل، وقد تكون الزيادة من حيث الكيف أي أن صلة الرحم تجعل الدرهم الواحد أكثر نفعا وبركة من مئة درهم، واليوم الواحد من العمر يعمل فيه المرء عملاً صالحاً خيراً من ألف يوم يذهب سدى.
روى (الكافي) في صلة أرحام عن أبي جعفر (عليه السلام): صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسىء في الأجل.
وعن الرضا (عليه السلام): يكون الرجل يصل رحمه، فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها اللّه ثلاثين ويفعل اللّه ما يشاء.
وعن الصادق (عليه السلام): صلة الرحم وحسن الجوار يعمّران الديار ويزيدان في الأعمار. وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من سرّه النسأ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه وأن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم وتطول أعمارهم فكيف إذا كانوا أبراراً بررة.
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): من سرّه أن يمد اللّه في عمره وأن يبسط له في رزقه، فليصل رحمه فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق يقول يا رب: صل من وصلني واقطع من قطعني، فالرجل ليرى بسبيل خير حتى إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوى به إلى أسفل قعر في النار.
وعن الصادق (عليه السلام): صلة الرحم تهوّن الحساب يوم القيامة وهي منسأة في العمر وتقي مصارع السوء.
وعنه (عليه السلام): إني أحب أن يعلم اللّه أني قد أذللت رقبتي في رحمي وأني لأبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني.
وعنه (عليه السلام) وقع بينه وبين عبد اللّه بن الحسن كلام فافترقا فغدا (عليه السلام) على باب عبد اللّه فخرج عبد اللّه إليه (عليه السلام) فقال (عليه السلام) له: إني تلوت آية من كتاب اللّه البارحة فأقلقتني قال وما هي؟ قال: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ (11) . قال صدقت وكاني لم أقرأ هذه الآية فاعتنقا وبكيا.
10 - «وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ» لأن حسناتها تتغلب على سيئات العديد من الخطايا والذنوب، قال تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (12).
وروى (الكافي) في صدقة السر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): صدقة السر تطفىء غضب الرب.
«وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» كمن ينهار عليه نفق فيموت خنقاً، أو تلتهب فيه النيران فيهلك حرقاً، أو يغرق فتأكله الأسماك، ونحو ذلك.. ولا يصح التأويل هنا والاجتهاد لأن اللفظ لا يحمل إلا معناه.
روى (الكافي) في فضل الصدقة عن الباقر (عليه السلام): البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن سبعين ميتة سوء.
وعن الصادق (عليه السلام): داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالدعاء، واستنزلوا الرزق بالصدقة فانها تفك من بين لحى سبعمئة شيطان كلّهم يأمره ألا يفعل.
وعن محمد بن عمر بن يزيد، أخبرت الرضا (عليه السلام) أني أصبت بابنين وبقي لي بني صغير، فقال: تصدّق عنه ثم قال: حين حضر قيامي مر الصبي فليتصدق بيده بالقبضة والكسرة والشيء وإن قل.
11 - «وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ». وهذا مثل صدقة العلانية تدفع ميتة السوء، ولكنه من باب عطف العام على الخاص لأن المعروف أعم من صدقة العلانية.
روى (الكافي) في صنائع المعروف عن الصادقين عليهما السلام: إنها تدفع مصارع السوء.
وروى في فضل المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أوّل من يدخل الجنة المعروف وأهله وأوّل من يرد على الحوض. وعن الصادق (عليه السلام): أقيلوا لأهل المعروف عثراتهم فإن كف اللّه تعالى عليهم هكذا وأومأ بيده كأنّه يظل بها شيئاً.
وروى الكافي في (باب كون أهل معروف الدنيا أهل معروف الآخرة) عن الصادق (عليه السلام) قال: إن للجنّة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلاّ أهل المعروف، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وزاد في خبر آخر يقال لهم: إن ذنوبكم قد غفرت لكم فهبوا حسناتكم لمن شئتم.
12 - «أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ» أي: اندفعوا فيه، وتوسلوا إليه تعالى بالإقبال عليه، والتضرع له، ولا وزن للذكر إلا إذا ترجم عن القلب وما فيه من يقين وإخلاص، قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (13). وقال: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (14).
روى الكافي في (باب ما يجب من الذكر) عن الصادق (عليه السلام): ما من مجلس يجتمع فيه أبرار وفجّار فيقومون على غير ذكر اللّه تعالى إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة.
وعنه (عليه السلام) قال: قال الله عزَّ وجل: يا ابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك.
وعنه (عليه السلام) قال تعالى: من ذكرني في ملأ من الناس ذكرته في ملأ من الملائكة.
وروى في (باب ذكره تعالى كثيراً) عنه (عليه السلام) قال: ما من شيء إلاّ وله حد ينتهي إليه إلاّ الذكر فليس له حد إلى أن قال ثم تلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (15) قال ابن القداح: لقد كنت أمشي معه (عليه السلام) وإنّه ليذكر اللّه وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر اللّه ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر اللّه وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول: لا إله إلاّ اللّه وكان يجمعنا ويأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر ومن يقرأ يأمره بالقراءة وقال: البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر اللّه تعالى فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر اللّه تعالى فيه تقلّ بركته وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها، في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم؟ قالوا بلى قال: ذكر اللّه تعالى.
وعنه (عليه السلام) جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال أكثرهم ذاكرا للّه. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): من أكثر ذكر اللّه أحبّه اللّه ومن ذكر اللّه كثيراً كتبت له برائتان: براءة من النار وبراءة من النفاق.
وعنه (عليه السلام): يموت المؤمن بكلّ ميتة إلاّ الصاعقة لا تأخذه وهو يذكر اللّه تعالى.
وعنه (عليه السلام) يقول تعالى: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي من سألني. وعنه (عليه السلام) قال: من ذكرني سرّاً ذكرته علانية. وقال في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ...﴾ (16) فلا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غيره تعالى.
وعنه (عليه السلام): الذاكر للّه تعالى في الغافلين كالمقاتل في الهاربين.
«وَارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ الْمُتَّقِينَ» من الثواب ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾ (17) ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ (18) ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً﴾ (19) . كل من آمن باللّه فهو مؤمن أيضا بأن وعده تعالى حق وصدق وإلا كان من الجاحدين، وغرض الإمام (عليه السلام) أن يكون المؤمن أعمق إحساسا وأكثر عملا.
«فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ اَلْوَعْدِ» ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (20) وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ (21) .
«وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ» إن سيرة النبي وهديه حجة للّه على خلقه، أما كتب الأخلاق والقوانين، وأسفار العلوم والفلسفة، وإجماع العلماء وسيرة العقلاء فما هي بشيء إلا ما وافق منها كتاب اللّه وسنّة نبيّه الكريم، وهذا مراد الإمام من قوله «أفضل وأهدى» أي خذوا بما قال النبي وفعل، لا بما قال الناس وفعلوا.
«وَاِسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى اَلسُّنَنِ» ﴿... لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (22) . ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (23) ﴿... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ﴾ (24) .
«وَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ» «تعلموا وتفقهوا، واستشفوا وأحسنوا» كلمات تصر وتؤكد على العلم والعمل بالقرآن، وعلى المعاني لا على الألفاظ، وعلى التدبر لا على التغني، وعلى فهم الحلال والحرام، وتمييز الحق من الباطل، والخوف من تهديد اللّه ووعيده.. إن اللّه سبحانه ما أنزل القرآن لنكون أوعية له، أو لنطبعه ونجلده، بل لنصغي إلى دعوته، ونسير على نهجه.
روى الكافي فِي (فضل حامل القرآن) عن الصادق (عليه السلام): الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تعلّموا القرآن إلى أن قال فيؤتى يوم القيامة بتاج فيوضع على رأسه ويعطى الأمان بيمينه، والخلد في الجنان بيساره، ويكسى حلتين ثم يقال له اقرأ وارق، فكلّما قرأ آية صعد درجة، ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين، ثم يقال لهما هذا بما علمتماه القرآن.
«وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ» وذم تعالى أقواماً لا يتدبرون فيه فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (25).
وروى (الكافي) فِي فضل القرآن عن الصادق (عليه السلام)، قال: إن هذا القرآن فيه منار الهدى، ومصابيح الدجى، فليجل جال بصره، ويفتح للضياء نظره، فإن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور.
«وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ» من الأمراض الأخلاق الرذيلة، ومنها الظاهرية والباطنية ومنها الحسيّة والعقليّة. وفي (الكافي) عنه (عليه السلام) شكا رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعاً في صدره، فقال استشف بالقرآن فانّه تعالى يقول: ﴿... وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (26) .
«وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ» يعني أنه لما كان أحسن القصص وأنفعها للبشر كما يرشد إليه قوله تعالى:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ، لا جرم ينبغي أن يحسن تلاوته وأن يتلى حقّ التلاوة بحسن التّدبّر والنظر لتدرك منافع قصصه وتنال بها فيها من الفوائد العظيمة. أما أنفعيته قصصا فروى الكافي في (قراءة القرآن) عن الصادق (عليه السلام): القرآن عهد اللّه إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية.
وعن السّجاد (عليه السلام): آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها). وأما إحسان تلاوته فروي في ترتيله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فانّه سيجيء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغنا والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب من يعجبه شأنهم. أيضا مقلوبة.
وعن الصادق (عليه السلام): إن القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بالحزن. وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لكلّ شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن.
روى في الكافي باسناده عن عبد اللَّه بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السلام) عن قول اللَّه عزّ وجلّ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بيّنه تبيانا ولا تهذّه هذّ الشعر ولا تنثره نثر الرّمل ولكن أفرغوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ أحدكم آخر السّورة.
«وَإِنَّ اَلْعَالِمَ اَلْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ» روى (الكافي) في استعمال العلم عن الفضل، قال: قلت للصادق (عليه السلام) بم يعرف الناجي؟ قال: من كان فعله لقوله موافقا فاثبت له الشهادة ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فإنما ذلك مستودع.
وعن هاشم بن البريد، قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين (عليه السلام) فسأله عن مسائل فأجاب ثم عاد ليسأل عن مثلها فقال (عليه السلام): مكتوب في الإنجيل، لا تطلبوا علم ما لا تعلمون، ولمّا تعملوا بما علمتم فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلاّ كفراً ولم يزدد من اللّه إلاّ بعدا.
وعن الصادق (عليه السلام): إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا.
«كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ اَلَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ» يقال: أفاق المجنون واستفاق إذا رجع إليه عقله من جهله، فيكون كالمجنون الإطباقي لا الأدواري.
وفي (الكافي) عن الصادق (عليه السلام): العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعدا.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح.
«بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ» لانقطاع معذرته بمعرفته وعدم تمكّنه من أن يعتذر ويقول: إنّا كنّا عن هذا غافلين، روي عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام) أنه قال: يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.
«وَاَلْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ» إنّ النفوس الجاهلة غير عالمة بمقدار ما يفوتها من الكمال بالتفصيل فإذا فارقت أبدانها فهي وإن كانت محجوبة عن ثمار الجنّة وما أعدّها اللَّه فيها لأوليائه العلماء، إلاّ أنها لما لم تجد لذّتها ولم تطعم حلاوة المعارف الإلهية لم تكن لها كثير حسرة عليها ولا أسف على التقصير في تحصيلها، بخلاف العارف بها العالم بنسبتها إلى اللّذات الدّنيويّة، فانّه بعد المفارقة إذا علم وانكشف له أنّ الصارف له والمانع عن الوصول إلى حضرة جلال اللَّه هو تقصيره في العمل بما علم مع علمه بمقدار مافاته من الكمالات والدّرجات، كان أسفه وحسرته على ذلك أشدّ الحسرات، وجرى ذلك مجرى من علم قيمة جوهرة ثمينة تساوي جملة من المال ثمّ اشتغل عن تحصيلها ببعض لعبه فإنّه يعظم حسرته عليها وندمه على التفريط فيها بخلاف الجاهل بقيمتها.
«وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ» أي: أحق باللوم من الجاهل. وشدّة اللاّئمة مساوق لشدة العقوبة، وهو باعتبار أنّ عدم قيامه بوظائف علمه واتّباعه هواه كاشف عن منتهى جرأته على مولاه، فبذلك يستحقّ من اللوم والعتاب والخزي والعذاب ما لا يستحقّه غيره ممّن ليس له هذه الجرأة، فهو عند اللَّه أشد لوماً وعتاباً، وأعظم نكالاً وعقاباً.
وفي (الكافي) عن الصادق (عليه السلام): يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. وقال عيسى (عليه السلام): ويل للعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار.
وعنه (عليه السلام): إذا بلغت النفس ههنا وأشار بيده إلى حلقه لم يكن للعالم توبة ثم قرأ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ...﴾ (27) .
مراتب التّوبة:
ذكر علماء الأخلاق، درجات ومراتب مختلفة للتّوبة والتّائبين.
ويمكن تقسيم التّائبين من جهة، إلى أربعة أقسام:
القسم الأوّل: اُولئك التّائِبون الذين لا يقلعون عن الذنوب، ولا يتأسفون على ما فعلوا، حيث وقفوا عند مرحلة النّفس الأمّارة، وعاقبتهم غير معلومة أصلاً، فَمِن المُمكن أن يعيش حالةَ التّوبة في آخر أيّام حياته، وتكون عاقبته الحُسنى، ولكنّ الطامّة الكبرى، عندما يتفق موتهم مع معاودتهم للذنب، وهناك ستكون عاقبتهم السّوأى، وفيها الخُسران الأبدي.
القسم الثاني: التّائبون بحق الّذين يستمرون في طريق الحقّ والطّاعة، ويتحرّكون في خطّ الاستقامة، ولكن الشّهوات تغلبهم أحياناً، فيكسرون طوق التّوبة، ويرتكبون بعض الذّنوب، من موقع الشّعور بالضّعف أمامها، ولكنّهم لا يقعون في هذا الخطأ، من موقع الّتمرد والجُحود والعِناد، على وعي الموقف، بل من موقع الغفلة والاندفاع العفوي في حالات الضّعف، الّتي تفرزها حالات الصّراع مع النّفس الأمّارة، ولهذا يحدثون أنفسهم بالتّوبة من قريب، هؤلاء الأشخاص وصلوا إلى مرحلة النّفس اللّوامة، والأمل بنجاتهم أقوى.
القسم الثّالث: التوّابون الذين يجتنبون كَبائِر الإثم، ويتمسّكون باُصول الطّاعات، ولكنهم قد يقعون في حبائل المعصية، لا عن قصد وعمد، ولذلك يتوبون مباشرةً عن الذّنب، فيلومون أنفسهم ويعزمون على التّوبة والعودة إلى خطّ الاستقامة باستمرار، ويعيشون حالة الابتعاد عن الذّنب دائماً.
النّفس اللّوامة لهذه المجموعة، مهيمنةٌ عليهم، ويعيشون على مقربة من النّفس المُطمئنّة، والأمل بنجاتهم أكبر.
القسم الرابع: التّوابون بعزم وقوة إرادة، في طريق الطّاعة لله تعالى، فلا تهزّهم العَواصف التي تفرضها حالات الصّراع مع الخَطيئة، ولا يخرجون من أجواء التّقوى، صحيح أنّهم ليسوا بمعصومين، ولَرُبّما فكّروا بالمعصية، ولكنّهم محصّنين مُبعدين عنها، فَقِوى الإيمان والعقل عندهم، سَلبت هوى النّفس فاعليّته في واقعهم الباطني، وكبّلته بالسّلاسل الغلاظ، في خطّ التّزكية والجهاد الأكبر، فلا سبيل للشّيطان والأهواء عليهم.
فاُولئك هم أصحاب: «النّفوس المطمئنّة»، الذين نعتتهم الآيات (27 إلى 30) من سورة الفَجر، و خُوطِبوا بأبلغ خِطاب، فقال عزَّ من قائل:: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ (28) .
وتوبةُ الأولياء من تلوين الخطرات. والخَواص من الاشتغال بغير الله. وتوبة العوام من الذّنوب. وكلّ واحد منهم، يشتمل على نوع من المعرفة والعلم، في أصل توبته، ومُنتهى أمره (28) (29) .
(1) - الخطبة (106) من خطب نهج البلاغة.
(2) - سورة المائدة، الآية: 35.
(3) - سورة البقرة، الآية: 285.
(4) - سورة الأنبياء، الآية: 107.
(5) - سورة الأعراف، الآية: 157.
(6) - سورة المائدة، الآية: 35.
(7) - سورة الأنبياء، الآية: 25.
(8) - سورة مريم، الآية: 31.
(9) - سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.
(10) - سورة النساء، الآية: 1.
(11) - سورة الرعد، الآية: 21.
(12) - سورة البقرة، الآية: 271.
(13) - سورة فاطر، الآية: 10.
(14) - سورة ق، الآية:18.
(15) - سورة الاحزاب، الآيتان: 41 - 42.
(16) - سورة الاعراف، الآية: 205.
(17) - سورة مريم، الآية: 63.
(18) - سورة مريم، الآية: 85.
(19) - سورة مريم، الآيتان: 71 - 72.
(20) - سورة النساء، الآية: 122.
(21) - سورة التوبة، الآية: 111.
(22) - سورة الاحزاب، الآية: 21.
(23) - سورة النجم، الآيتان: 3 - 4.
(24) - سورة الحشر، الآية: 7.
(25) - سورة محمد، الآية: 24.
(26) - سورة يونس، الآية: 57.
(27) - سورة النساء، الآية: 17.
(28) - أهم المصادر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، في ظلال نهج البلاغة، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة.
(29) - بقلم: الشيخ فادي الفيتروني.
|