يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (1) .
لقد كانت البشريّة في مطلع حياتها تعيش حياة اجتماعيّة بسيطة، وبازدياد أفراد المجتمع البشريّ ظهر التّضاد بين المصالح ومن ثمّ الاختلاف، ووجدت الحاجة إلى التّوجيه والقانون.
وكان من الضّروريّ أن يعمل رسل ربّ العالمين في الوهلة الأولى على توعية النّاس على الحياة الأخرى باعتبارها آخر مرحلة للمسيرة التّكامليّة وعلى ما سيواجهه الإنسان في تلك الحياة من نعيم أو جحيم. فجاؤوا مبشّرين بما سينعم الله تعالى به على المحسنين من ثواب، ومنذرين بما سيجازي به الله عزّ وجلّ المجرمين من عقاب ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ وبعد هذا الانشداد إلى العالم الآخر تتوفّر الأرضيّة لتطبيق الأحكام الإلهيّة الّتي تضمن سعادة البشر، ثمّ تتوالى هذه الأحكام على الأنبياء لابلاغها إلى النّاس. لقد بعث الله سبحانه الكثير من الأنبياء لهداية النّاس وإرشادهم. وكان آدم (عليه السّلام) أوّل أولئك الأنبياء والنّبيّ محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) آخرهم وخاتمهم، إنّ عدد الأنبياء غير معلوم لنا على وجه التّحديد واليقين ولكن جاء في بعض الرّوايات أنّ عددهم هو مئة وأربعة وعشرون ألفًا (124000).
عن أبي ذرّ رحمه الله قال: قلت: يا رسول الله كم النّبيّون؟ « قال: مئة ألف وأربعة وعشرون ألف نبيّ، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مئة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا، قلت: من كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً؟ قال: نعم ... » (2) لقد كان بعض أولئك الأنبياء أصحاب ديانات وشرائع خاصّة، ولم يكن بعضهم الآخر أصحاب شريعة خاصّة، بل كانوا يروّجون لشريعة من سبقهم من الأنبياء ويدعون إليها.
كما كان بعضهم أصحاب كتب وبعضهم الآخر لم يكونوا أصحاب كتب وربّما كان في زمن واحد أنبياء متعدّدون يقومون بمهامّهم ومسؤوليّاتهم الإلهيّة في البلدان والمدن المختلفة.
لقد ذكر في القرآن الكريم أسماء (26) منهم وهم: آدم، نوح، إدريس، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، اليسع، ذو الكفل، إلياس، أيّوب، يونس، إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، موسى، هارون، داوود، سليمان، زكريّا، يحيى، إسماعيل صادق الوعد، عيسى، محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.
مفهوم النّبوّة
النّبوّة حالة إلهيّة يدرك الإنسان من خلالها المعارف الّتي بها يرتفع الاختلاف والتّناقض في حياة الإنسان، وهذا الإدراك والتّلقّي من الغيب هو المسمّى في لسان القرآن بالوحي، والحالة الّتي يتّخذها الإنسان منه لنفسه بالنّبوّة.
والنّبيّ: العَلَمُ من أعلام الأرض الّتي يُهتدى بها، قال بعضهم: ومنه اشتقاق النّبيّ لأنّه أرفع خلق الله، وذلك لأنّه يُهتدى به والنّبيّ على وزن فعيل مأخوذ من النّبأ، سُمّي به النّبيّ لأنّه عنده نبأ الغيب بوحي من الله.
وقيل هو مأخوذ من النّبوّة بمعنى الرّفعة سُمّي به لرفعة قدره ولأنّه شُرِّف على سائر الخلق. والنّبيّ هو الّذي أنبأ عن الله.
والنّبيّ الطّريق، والأنبياء طُرق الهُدى، قال أبو معاذ النّحويّ: سمعت أعرابيًّا يقول: من يدلّني على النّبيّ؟ أي على الطّريق.
الفرق بين النّبيّ والرّسول
الفرق بين النّبيّ والرّسول هو:
الرّسول هو الّذي يبعث فيؤمر بالتّبليغ ويحمل الرّسالة والنّبيّ هو الّذي يبعث سواء أمر بالتّبليغ أو لم يؤمر.
أنبياء أولي العزم
يقول الله سبحانه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ (3) .
قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام): لبعض أصحابه: منهم خمسة أولو العزم من الرّسل، وقلنا: من هم؟ قال: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ومحمّد صلوات الله عليهم أجمعين، قلنا له: ما معنى أولو العزم؟ قال: بعثوا إلى شرق الأرض وغربها، جِنِّها وإنسها (4) .
أهداف الأنبياء (عليهم السّلام)
هناك عدّة أهداف للأنبياء جاءت الإشارة إليها في الآيات القرآنيّة، والأحاديث الشّريفة نذكر منها:
1 - الدّعوة إلى معرفة الخالق والإيمان به وحده وهذه هي الأساس في دعوة الأنبياء والرّسل جميعًا يقول الله عزّ وجلّ:
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (5) .
2 ـ إلفات النّظر إلى مسألة المعاد وحياة ما بعد الموت والإيمان بها، وبالجنّة ونِعَمِها وجهنّم وعذابها يقول الله سبحانه: ﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ (6) .
وقوله سبحانه: ﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾ (7) .
3 - الدّعوة إلى الإيمان بالنّبوّة وبارتباط الأنبياء والرّسل بالله تعالى، عبر الوحي، وتصديق الأنبياء السّابقين من دون تفريق يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (8) .
هذه الأمور الثّلاثة كانت تشكّل الأساس في دعوة الأنبياء. ولقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند دعوته عشيرته وقومه:
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكّل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثمّ قال: إنّ الرّائد لا يكذب أهله، والله الّذي لا إله إلا هو إنّي رسول الله إليكم خاصّة وإلى النّاس عامّة والله لتموتنّ كما تنامون ولتبعثنّ كما تستيقظون ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنّها الجنّة أبدًا والنّار أبدًا » (9) .
4 - الدّعوة إلى تزكية النّفس:
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ (10) .
فقد دعى الأنبياء إلى مكارم الأخلاق وفضائلها وحذّروا من ذمائم الأخلاق ورذائلها وبيّنوا الآثار الدّنيويّة والأخرويّة الطّيّبة لمكارم الأخلاق، والتّبعات السّيّئة للأخلاق الذّميمة لكي يجتنبها النّاس. وفي هذا السّياق يقول سبحانه: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ (11) .
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق ».
5 - دعوة النّاس إلى عبادة الله الواحد والتّسليم لأوامره سبحانه:
يقول عزّ وجلّ: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ﴾ (12) .
وقال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.
6 - قيام النّاس بالقسط:
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ (13) .
هذا ولقد اعتنى الأنبياء بإصلاح أمور النّاس الاجتماعيّة والاقتصاديّة عنايةً كاملةً فدعوا النّاس إلى اكتساب العلم والمعرفة والاستفادة من المصادر الطّبيعيّة والعمل والسّعي وكانوا يرغبون في رعاية العدل والحقّ ويحذّرون من الظّلم والعدوان حفاظًا على سلامة المجتمع وأمنه.
المعجزة عند الأنبياء (عليهم السّلام)
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ (14) .
وقال سبحانه: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ (15) .
وقال عزّ وجلّ أيضًا: ﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ (16) .
وقال تعالى: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ (17) .
اِعلم إنّ الأنبياء يدّعون بأنّهم على ارتباط بالله سبحانه وبعالم الغيب، وأنّهم قد كلّفوا من جانب الله تعالى بأن يتلقّوا رسالاته، ثمّ يبلّغوها إلى النّاس، وعليهم أن يجتهدوا في إرشادهم وهدايتهم.
إنّه ادّعاء كبير لا يقبله النّاس من دون شاهد قويّ، ودليل معتبر، ولهذا يجب أن يمتلك الأنبياء دليلاً وشاهدًا لإثبات صحّة دعواهم. إنّ أكبر دليل للأنبياء هو المعجزة، وهي العمل الخارق للعادة الّذي يعجز عن إتيانه النّاس العاديّون.
إنّ وجود المعجزة عند رسل الله سبحانه أمر ضروريّ في نظر القرآن الكريم وقد أشير إليها بصراحة في عشرات الآيات. اكتفينا هنا بما ذكرنا، ثمّ إنّ القرآن الكريم هو معجزة النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخالدة والّتي كانت تتناسب مع عصره كما هو حال من سبقه من الأنبياء.
الوحي للأنبياء (عليهم السّلام)
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ (18) .
الوحي هو الطّريق الّذي تحصل بواسطته علوم الأنبياء فهم يتلقّون رسالتهم عن طريق الوحي ويبلّغوها إلى البشر.
عصمة الأنبياء (عليهم السّلام)
يقول الله سبحانه: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾ (19) .
تظهر الآية أنّه تعالى شأنه يختصّ رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيّدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم والإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزّوال والتّغيّر بتغيّر الشّياطين وكلّ مغيّر غيرهم، ليتحقّق إبلاغهم رسالات ربّهم.
وقال سبحانه: ﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ (20) .
فنفى عن المهتدين بهدايته كلّ مضلّ يؤثّر فيهم بضلال فلا يوجد فيهم ضلال، وكلّ معصية ضلال.
ونعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ أو المعصية.
والعصمة على ثلاثة أقسام:
1 - العصمة عن الخطأ في تلقّي الوحي.
2 - العصمة عن الخطأ في التّبليغ والرّسالة.
3 - العصمة عن المعصية وهي ما فيه هتك حرمة العبوديّة ومخالفة مولويّة ويرجع بالآخرة إلى قول أو فعل ينافي العبوديّة منافاة ما، وممّا يدلّ على عصمتهم (عليهم السّلام) قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ (21) .
فلو تحقّق من الرّسول خطأ في فهم الوحي أو في التّبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد إلا الحقّ.
العلم بالغيب
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (22) .
ويقول سبحانه: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾ (23) .
وقوله سبحانه: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ (24) .
يستفاد من هذه الآيات أنّ العلم بالغيب وإن كان أوّلاً وبالذّات مختصًّا بالله تعالى، وأنّ باب الاطّلاع على ذلك العالم موصد في وجه البشر ولكنّه تعالى يُطلع أنبياءه على عالم الغيب عن طريق الوحي ويوقفهم إذا شاء ومتى شاء على الحقائق والأمور الغيبيّة.
عالم الغيب يقابل عالم الشّهادة، فإنّ جميع الموجودات الّتي تكون أسمى وأعلى من المادّة والمادّيّات تعدّ من عالم الغيب مثل « الله » سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته والملائكة وعالم البرزخ والموجودات البرزخيّة، والقيامة وأحوالها وأوضاعها والجنّة والنّار ونِعَم الجنّة والعذاب الأخرويّ.
خاتم النّبيّين
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ (25) .
عن الإمام الصّادق (عليه السّلام): جاء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة (26) .
عالميّة رسالة النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
يقول الله سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (27) .
رواية قصّة الرّسول وعمّه أبو طالب
لمّا أكمل النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأربعين من عمره الشّريف، نزل عليه جبرئيل ليبشّره بالبعثة النّبويّة لإرشاد وهداية النّاس، وبدون أدنى تردّد قام النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأمر التّبليغ على أحسن وجه، بكلّ صبر ومقاومة واستقامة ضدّ الجاهليّة والوثنيّة العمياء، ويومًا بعد يوم كان الدّين الإسلاميّ يجد له محلاًّ في قلوب النّاس عبر كلمات التّوحيد ودعوات الإخاء، والصّداقة، والمحبّة، والعدل، والمساواة، الّتي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصوغها ببلاغته الرّائعة، وكلماته الدّافئة، وسلوكه الطّاهر، فكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستغلّ مناسبات قدوم النّاس إلى مكّة في الأشهر الحرم فيقابلهم ويدعوهم إلى الإسلام، وكان هؤلاء النّاس ينقلون كلمات النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعقائد الدّين الجديد إلى أهاليهم وأقوامهم عندما يعودون، وهكذا اتّسع الإسلام بسرعة فائقة، ممّا أثار حفيظة فراعنة قريش، والمنتفعين من عبادة الأصنام فقاموا بصدّ ومنع النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومقاومته وإبعاد النّاس عنه وتحذيرهم منه، وكانوا يشْكُون أمره إلى أبي طالب (عليه السّلام) عمّه ويطلبون منه أن يمنع محمّدًا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الدّعوة إلى الإسلام.
فيقولون له: يا أبا طالب: إنّ ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي كعبتنا وفي ديارنا ويسمعنا ما نَكْرَه، فإن رأيت أن تكُفَّه عنّا وأنت كبيرنا وسيّدنا. ورأى أبو طالب (عليه السّلام) أنّ من المناسب أن يمتصّ غضبهم ويجاريَهم ويُهَدّئ فورتهم، وهو المحامي العاقل، والمدافع المتّزن الكامل، فقال لهم سوف أتكلّم مع ابن أخي، وهو يعلم رفض ابن أخيه لمطالب القوم، ولكن أراد بحكمته أن يهدّئ الأوضاع، فذهب أبو طالب (عليه السّلام) وقال للنّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا ابن أخي إنّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا وكذا، فأجابه النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بجواب خلّده التّاريخ برمّته وهو يحكي صمود وصبر واستقامة النّبيّ: يا عمّ والله لو وضعوا الشّمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته، ثمّ استعبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فبكى، ثمّ قام فلمّا ولّى ناداه أبو طالب (عليه السّلام) فقال: أقبل يا ابن أخي وقل ما أحببت فوالله لا أسلّمك لشيء أبدًا (28) .
نسأل الله عزّ وجلّ أن يعرّف بيننا وبين رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم القيامة وأن يحشرنا إلى جواره (29) ، والسّلام عليكم ورحمة الله.
(1) - سورة البقرة، الآية: 213.
(2) - بحار الأنوار: ج11، ص32.
(3) - سورة الأحقاف، الآية: 35.
(4) - البحار: ج11، ص33، ح25.
(5) - سورة الأعراف، الآية: 59.
(6) - سورة آل عمران، الآية: 194.
(7) - سورة الرعد، الآية: 35.
(8) - سورة آل عمران، الآيتان: 84 - 85.
(9) - الكامل في التاريخ، ج2، ص61.
(10) - سورة الجمعة، الآية: 2.
(11) - سورة آل عمران، الآية: 164.
(12) - سورة النحل، الآية: 36.
(13) - سورة الحديد، الآية: 25.
(14) - سورة الأعراف، الآيات: 106- 108.
(15) - سورة الشعراء، الآيات: 63 - 67.
(16) - سورة الأنبياء، الآيات: 68-69.
(17) - سورة الاسراء، الآية: 88.
(18) - سورة الشورى، الآية: 51.
(19) - سورة الجن، الآيات: 26-28.
(20) - سورة الكهف، الآية: 17.
(21) - سورة النساء، الآية: 64.
(22) - سورة الأعراف، الآية: 188.
(23) - سورة الجن، الآيتان: 26-27.
(24) - سورة آل عمران، الآية: 44.
(25) - سورة الأحزاب، الآية: 40.
(26) - الكافي: ج2، ص17، ح2 .
(27) - سورة سبأ، الآية: 28.
(28) - مناقب ابن شهر آشوب: ج1، ص 58، الغدير: ج7، ص359.
(29) - مفاهيم قرآنيّة (إعداد جمعية القرآن الكريم).
|