القرآن نُورٌ لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له: «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْءُهُ وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَبُنْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ فَهُوَ مَعْدِنُ اَلْإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ وَيَنَابِيعُ اَلْعِلْمِ وَبُحُورُهُ وَرِيَاضُ اَلْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ وَأَثَافِيُّ اَلْإِسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ وَأَوْدِيَةُ اَلْحَقِّ وَغِيطَانُهُ وَبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ اَلْمُسْتَنْزِفُونَ وَعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا اَلْمَاتِحُونَ وَمَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا اَلْوَارِدُونَ وَمَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا اَلْمُسَافِرُونَ وَأَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا اَلسَّائِرُونَ وَآكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا اَلْقَاصِدُونَ جَعَلَهُ اَللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ اَلْعُلَمَاءِ وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ اَلْفُقَهَاءِ وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ اَلصُّلَحَاءِ وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَهُدًى لِمَنِ اِئْتَمَّ بِهِ وَعُذْراً لِمَنِ اِنْتَحَلَهُ وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَجُنَّةً لِمَنِ اِسْتَلْأَمَ وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى (1).
الشرح:
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ» وعدّ به اثنين وأربعين منقبة. «نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ» أمّا أنّه نور فلاهتداء النّاس به من ظلمات الجهل كما يهتدى بالنور المحسوس في ظلمة اللّيل، قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ (2)، وقال سبحانه: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ (3)، وأمّا مصابيحه فاستعارة لطرق الاهتداء وفنون العلوم الّتي تضمّنها القرآن.
(و) الثانية كونه «سِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ» أي: لا يطفأ، والمراد به عدم انقطاع اهتداء النّاس به واستضاءتهم بنوره.
(و) الثالثة كونه «بَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ» استعارة البحر له باعتبار اشتماله على النكات البديعة والأسرار الخفيّة ودقايق العلوم الّتي لا يدركها بعد الهمم ولا ينالها غوص الفطن كما لا يدرك الغائص قعر البحر العميق، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... ﴾ (4)، وقال عزّ وجل: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ (5).
(و) الرابعة كونه «مِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ» أي: طريقاً واضحاً مستقيماً إلى الحقّ لا يضلّ سالكه، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ (6) وقال سبحانه: ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴾ (7).
(و) الخامسة كونه «شُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْءُهُ» أي حقّاً لا يدانيه شكّ وريب أي لا يشوبه ظلمة الباطل فيغطيه ويستره كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ (8)، وقال جلَّ وعلا: ﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ (9).
(و) السادسة كونه «فُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ» أى فارقاً بين الحقّ والباطل وفاصلاً بينهما لا ينتفي براهينه الجليّة وبيّناته الّتي بها يفرق بينهما كما قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ (10)، وقال عزَّ وجل: ﴿ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ (11).
(و) السابعة كونه «بُنْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ» شبّهه ببنيان مرصوص وثيق الأركان فاستعار له لفظه والجامع انتظام الاجزاء واتّصال بعضها ببعض، وفيه إشارة إلى أنّ البنيان الوثيق كما أنّه مأمون من التّهافت والهدم فكذلك الكتاب العزيز محفوظ من طروّ النقص والخلل والاندراس، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (12).
(و) الثامنة كونه «شِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ» يعني أنّه شفاء للأبدان والأرواح. أمّا الأبدان فبالتجربة والعيان مضافاً إلى الأحاديث، فعن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) قال: شكى رجل إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعاً في صدره فقال: استشف بالقرآن فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ (13)، وأمّا الأرواح فلأنّه بما تضمّنه من فنون العلوم شفاء لأمراض الجهل، وشفاء للقلوب من كلّ شك وريب وشبهة، ويصدق ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدىً وَشِفَاءٌ ﴾ (14).
(و) التاسعة كونه «عِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ» أي لا تغلب ولا تقهر، قال تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ (15).
(و) العاشرة كونه «حَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ» والمراد بأعوانه وأنصاره هم المسلمون العارفون بحقّه العاملون بأحكامه وعدم هزمهم وخذلانهم نصّ قوله تعالى: ﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ (16).
(و) الحادية عشر ما أشار إليه بقوله «فَهُوَ مَعْدِنُ اَلْإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ» أمّا أنّه معدن الإيمان، فلأنّ المعدن عبارة عن منبت الجوهر من ذهب وفضّة ونحوهما، ولمّا كان الإيمان بالله ورسوله جوهراً نفيساً لا جوهر أنفس منه ولا أغلى عند ذوي العقول، وكان يستفاد من القرآن ويستخرج منه جعله معدنا له. وأمّا أنّه بحبوحته ووسطه فلأنّ الإيمان بجميع أجزائه وشرايطه ومراسمه يدور عليه، فهو بمنزلة القطب والمركز لدائرة الإيمان كما هو ظاهر.
(و) الثانية عشر أنّه «يَنَابِيعُ اَلْعِلْمِ وَبُحُورُهُ» أمّا أنّه ينابيع العلم فلأنّ العلوم بجميع أقسامه منه تفيض كالعيون الجارية منها الماء، وأمّا أنّه بحوره فلاحتوائه بفنون العلم كاحتواء البحر بمعظم الماء، قال تعالى: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ (17)، وقوله سبحانه: ﴿ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ (18).
(و) الثالثة عشر أنّه «رِيَاضُ اَلْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ» أمّا كونه رياض العدل فلأنّ الرّياض عبارة عن مجامع النّبات والزّهر والرّياحين الّتي تبتهج النفوس بخضرتها ونضرتها، وتستلذّ الطباع بحسنها وبهجتها كما قال تعالى: ﴿ فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ (19)، فشبّه التّكاليف الشرعيّة المجعولة عن وجه العدل والحكمة بالزّهر والنبات الحسن لايجابها لذّة الأبد وجعل الكتاب العزيز رياضاً لها لاجتماعها فيه واستنباطها منه. وأمّا كونه غدران العدل فلأنّ الغدير عبارة عن مجمع الماء فشبّه الأحكام العدليّة بالماء لما فيها من حياة الأرواح كما أنّ بالماء حياة الأبدان وجعله غديراً لجامعيّته لها.
(و) الرابعة عشر أنّه «أَثَافِيُّ اَلْإِسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ» إنّ الأثافي عبارة عن الأحجار الّتي عليها القدر، فجعله أثافي للاسلام لاستقراره وثباته عليه مثل استقرار القدر على الأثافي. وبهذا الاعتبار أيضا جعل الصلاة والزّكاة والولاية أثافية في حديث البحار من الكافي عن الصّادق (عليه السلام) قال: أثافي الاسلام ثلاثة: الصلاة، والزكاة، والولاية لا تصحّ واحدة منهنّ إلاّ بصاحبتها. استعارة من أثافي القدر الأحجار التي يوضع عليها.
(و) الخامسة عشر أنّه «أَوْدِيَةُ اَلْحَقِّ وَغِيطَانُهُ» جمع غوط وهي الأرض ذات النبات الطيّب، أي أن هذا القرآن منابت طيبة يزكو بها الحقّ وينمو، يعني أنّ طالب الحقّ إنّما يجده في هذه الأودية والأراضي المطمئنة ؛ واللّفظان مستعاران باعتبار كونه معدنا للحقّ ومظنّة له، كما أنّ الأودية والغيطان مظانّ الكلاء والماء.
(و) السادسة عشر أنّه «بَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ اَلْمُسْتَنْزِفُونَ» أي لا ينزحه كلّه ولا يفنيه ولا يستهلكه المستقون والمغترفون، وهو إشارة إلى عدم انتهاء العلوم المستفادة منه، فإنّ فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.
(و) السابعة عشر أنّه «عُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا اَلْمَاتِحُونَ» أي لا يغيّرها المستسقون.
(و) الثامنة عشر أنّه «مَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا اَلْوَارِدُونَ» أى مشارب لا ينقص ماءها الواردون على كثرة ورودهم عليها. قال الإمام الرضا (عليه السلام): القرآن لا يخلق على الأزمنة، ولا يغث على الألسنة، لأنّه لم يجعل لزمان، بل جعل الدليل البرهان، وحجّة على الإنسان، وقال فيه الله تعالى: ﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ (20).
(و) التاسعة عشر أنّه «مَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا اَلْمُسَافِرُونَ» يعني أنّه منازل السّالكين إلى الله لا يضلّ مسافروه منهاج تلك المنازل لكونه واضحاً جليّاً وجادّة مستقيمة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ (21).
(و) العشرون أنّه «أَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا اَلسَّائِرُونَ» لاستنارتها وإضاءتها.
(و) الحادية والعشرون أنّه «آكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا اَلْقَاصِدُونَ» استعار لفظ الأعلام والآكام للأدلّة والإمارات فيه على طريق إلى معرفته وأحكامه باعتبار كونها هادية إليها كما تهدى الأعلام والجبال على الطّرق.
(و) الثانية والعشرون أنّه «جَعَلَهُ اَللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ اَلْعُلَمَاءِ» شبّه شدّة اشتياق نفوس العلماء وحرصهم على المعارف الحقّة الإلهيّة بعطش العطاش، وحيث إنّ الكتاب العزيز كان رافعاً لغللهم جعله مرويّاً لهم كما يروي الماء الغليل، قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (22).
(و) الثالثة والعشرون أنّه جعله سبحانه «رَبِيعاً لِقُلُوبِ اَلْفُقَهَاءِ» المراد بالربيع فصله الموجد للازهار والأنوار والمدرك للأقوات والغّلات، وعبر عن القرآن بالربيع لابتهاج قلوبهم به واستلذاذهم منه كما يبتهج النّاس بالرّبيع.
(و) الرابعة والعشرون أنّه جعله «مَحَاجَّ لِطُرُقِ اَلصُّلَحَاءِ» أي جواد لطريق واضحة مستقيمة لا عوج فيها ولا خفاء، لأنّه يهدي للّتي هي أقوم، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ (23).
(و) الخامسة والعشرون أنّه جعله «دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ» يعني أنّه شفاء للأبدان والأرواح، قال تعالى: ﴿ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ ﴾ (24).
(و) السادسة والعشرون أنّه جعله «نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ» أي حقّاً لا يشوبه باطل، قال عزَّ وجل: ﴿ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ (25).
(و) السابعة والعشرون أنّه جعله «حَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ» لا يخشى من انفصامه من تمسّك به واتّبع أحكامه نجا ومن تركه هلك، قال سبحانه: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ (26).
(و) الثامنة والعشرون أنّه جعله «مَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ» أي ملجأ وحصناً حصيناً يمنع الملتجي إليه من أن يناله المكروه وسوء العذاب.
(و) التاسعة والعشرون أنّه جعله «عِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ» يعني من اتّخذه وليّاً وألقى إليه أزمّة أموره وعمل بأوامره ونواهيه فهو عزّة له في الدّارين.
(و) الثلاثون أنّه جعله عزّ وجلّ «سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ» دخوله الخوض في تدبّر مقاصده واقتباسها يكون مأمناً من عذاب الله ومن الوقوع في الشّبهات الّتي هي مهاوي الهلاك، روي عن الصادق (عليه السلام) قال: يعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله به الشيطان(27).
(و) الحادية والثلاثون أنّه جعله «هُدًى لِمَنِ اِئْتَمَّ بِهِ» أي: اقتدى، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ (28).
(و) الثانية والثلاثون أنه جعله «عُذْراً لِمَنِ اِنْتَحَلَهُ» انتسب إليه، المراد كونه عذراً منجياً من العذاب يوم القيامة لمن دان به وجعله نحلته.
(و) الثالثة والثلاثون أنّه جعله «بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ» أي حجّة واضحة وبياناً جلياً لمن احتجّ به.
(و) الرابعة والثلاثون أنه جعله «شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ» أي دليلاً محكماً للمستدلّ.
(و) الخامسة والثلاثون أنّه جعله «فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ» أي ظفراً وفوزاً للمخاصم يعني أنّ من خاصم واحتجّ به فاز بمقصده وغلب خصمه.
(و) السادسة والثلاثون أنه جعله «حَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ» يعني أنّ من حمل القرآن وحفظه وعمل به واتّبع أحكامه حمله القرآن إلى دار القدس وغرفات الجنان.
(و) السابعة والثلاثون أنّه جعله «مَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ» أي مركباً سريع السّير يبلغ بمن أعمله إلى منزله ومقصده، وهو حظاير القدس ومجالس الأنس، والمراد باعماله هو حفظه والمواظبة عليه وعدم الغفلة عنه.
(و) الثامنة والثلاثون أنّه جعله «آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ» أي دلالة للمتفكّر المعتبر وعلامة يستدلّ بها المتفرّس، وأصل التوسّم هو النظر في السمة أي العلامة الدّالة قال تعالى بعد ذكر أخذ الصيحة لقوم لوط مشرقين وجعل عالي مدينتهم سافلها وإمطار حجارة من سجيل عليهم: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ (29) أي دلالات للمتفكّرين المعتبرين.
والمراد أنَّ من كان متوسماً يكون القرآن آية وعلامة له بأنّه ليس من عند غير الله ولمّا قال النجاشي ملك الحبشة لجعفر الطيار: هل تحفظ ممّا أنزل الله تعالى على نبيّك شيئا ؟ قال: نعم فقرأ عليه سورة مريم: ﴿ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾ (30) فلمّا بلغ إلى قوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً .. ﴾ (31) فلمّا سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديداً وقال: هذا والله هو الحق، وفيه انزل: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ (32).
(و) التاسعة والثلاثون أنه جعله «جُنَّةً لِمَنِ اِسْتَلْأَمَ» أي وقاية وسلاحاً لطالب الدّرع والسلاح، والمراد كونه وقاية لقارئه من مكاره الدّنيا والآخرة، أما الآخرة فواضحة، لأنه يوجب النجاة من النار والخلاص من غضب الجبار جلّ جلاله. وأما الدّنيا فيدلّ على كونه وقاية من مكارهها صريح قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾ (33).
(و) الأربعون أنّه جعله «عِلْماً لِمَنْ وَعَى» أي: علماً كاملاً بالمبدء والمعاد لمن حفظه وعقله وجعله في وعاء قلبه.
(و) الحادية والأربعون أنّه جعله «حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى» قال أمين الإسلام الطبرسي (قده) في تفسير قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ (34) يعنى القرآن، وإنّما سمّاه الله حديثا لأنّه كلام الله والكلام سمّي حديثاً كما يسمّى كلام النبيّ حديثاً، لأنه حديث التنزيل بعد ما تقدّمه من الكتب المنزلة على الأنبياء، وهو أحسن الحديث لفرط فصاحته ولاعجازه ولاشتماله على جميع ما يحتاج المكلّف إليه من التنبيه على أدلّة التوحيد والعدل وبيان أحكام الشرايع وغير ذلك من المواعظ وقصص الأنبياء والترغيب والترهيب، كتاباً متشابها يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضاً ليس فيه اختلاف وتناقض، وقيل: إنه يشبه كتب الله المتقدّمة وإن كان أعم وأجمع وأنفع.
(و) الثانية والأربعون أنه جعله «حُكْماً لِمَنْ قَضَى» يعني من يقضي بين الناس، فالقرآن حكم له لا حكم له غيره لأنه الحكم الحقّ وغيره باطل كما قال تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، وفى آية أخرى: ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، وفى ثالثة: ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ (34).
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من العارفين بفضله، والعاملين بأحكامه، والواعين لعلمه، والرّاوين لحديثه، والقاضين بحكمه بحق محمّد وآله سلام الله عليه وعليهم (35).
إعداد: الشيخ فادي الفيتروني
(1) - الخطبة: 193.
(2) - سورة الإسراء، الآية: 9.
(3) - سورة التوبة، الآية: 32.
(4) - سورة آل عمران، الآية: 7.
(5) - سورة الكهف، الآية: 109.
(6) - سورة الشعراء، الآية: 192 - 194.
(7) - سورة الشعراء، الآية: 210.
(8) - سورة البقرة، الآية: 2.
(9) - سورة فصّلت، الآية: 42.
(10) - سورة الطارق، الآية: 13 - 14.
(11) - سورة البقرة، الآية: 185.
(12) - سورة الحجر، الآية: 9.
(13) - سورة يونس، الآية: 57.
(14) - سورة فصلت، الآية: 44.
(15) - سورة الحج، الآية: 40.
(16) - سورة النساء، الآية: 141.
(17) - سورة الأنعام، الآية: 38.
(18) - سورة الأنعام، الآية: 59.
(19) - سورة النمل، الآية: 60.
(20) - سورة فصلت، الآية: 42.
(21) - سورة الإسراء، الآية: 9.
(22) - سورة النحل، الآية: 89.
(23) - سورة الإسراء، الآية: 9.
(24) - سورة الأنعام، الآية: 157.
(25) - سورة إبراهيم، الآية: 1.
(26) - سورة النجم، الآيتان: 4 - 5.
(27) - ثواب الاعمال: ص93.
(28) - سورة البقرة، الآية: 2.
(29) - سورة الحجر، الآية: 75.
(30) - سورة مريم، الآية: 1 - 2.
(31) - سورة مريم، الآية: 25 - 26.
(32) - سورة المائدة، الآية: 83.
(33) - سورة الإسراء، الآية: 45.
(34) - سورة الزمر، الآية: 23.
(35) - أهم المصادر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة.
|