كلام الإمام
الخميني (قدس سره)
بيان
مقاصد الكتاب الشريف
الإلهي ومطالبه ومشتملاته
الاستفادات ذات البعد الواحد من القرآن
(1)
بعد مضي مدة من نزول الإسلام, اهتمت مجموعات مختلفة من أهل
العلم بمعنويات الإسلام , وركّزوا أنظارهم على تلك الآيات
والروايات المرتبطة بالمعنويات وتهذيب النفس وما وراء
الطبيعة... في القرآن الكريم آيات كثيرة عن الأمور
المعنوية , أي ذلك الوجه الإنساني الذي هو من عالم الغيب
(2) .
استمر الوضع لفترة طويلة على هذه الشاكلة حيث كان الاهتمام
معدوماً أو ضعيفاً بتلك الأحكام الاجتماعية والسياسية
وقضايا الساعة, وهؤلاء وقعوا من هذا الطرف أي اقتصرت
اهتماماتهم على هذه المسائل الاجتماعية والأحكام السياسية
وقضايا الحكم فقط. أولئك كانوا ينظرون إلى ذلك الجانب من
الورق لفترات سابقة كالفلاسفة والعرفاء والمتصوفة
وأمثالهم, وكان كلامهم يدور حول بيان هذه المعنويات,
ويدعون الناس إلى هذه الجهات المعنوية الإسلامية, حتى إن
بعضهم حاول إرجاع الآيات أو الروايات الواردة بشأن الأمور
الطبيعية والمتحدثة عن قضايا الاجتماع والسياسة إلى تلك
الأمور المعنوية, ويعتبرون أن الجميع مرتبط بذلك الجانب,
فهم كانوا ينظرون إلى الجانب الباطني للقرآن والإسلام...
ينظرون إلى المعنويات فقط, ويغضّون أبصارهم عن المواضيع
والروايات الواردة بشأن الحكم الإسلامي, والسياسة
الإسلامية, والقضايا الاجتماعية, وإعمار هذا العالم, وهذه
هي الغفلة... الغفلة عن الإسلام, لأنهم كانوا ينظرون إلى
الإسلام من زاوية واحدة فقط, أما الجانب الآخر وعالم
طبيعته فإنهم لم يهتموا به, ولم يعلموا أن الإسلام يهتم
بعالم الطبيعة أيضاً, ويهتم بجميع تلك الأمور التي يحتاجها
الإنسان, لذا فإن إحدى الابتلاءات التي ابتلى بها الإسلام
هي أن هؤلاء الأشخاص أمثال المتكلمين, والأكثر منهم
الفلاسفة, والأكثر منهم العرفاء والصوفية, أرادوا تفسير
جميع الآيات الواردة في القرآن الكريم تفسيراً معنوياً...
اهتموا بالباطن وغفلوا عن الظاهر, والآن فإن ابتلاء
الإسلام أخذ منحنى آخر وهو أن شبابنا ومثقفونا وعلماؤنا
الذين تعلموا العلوم المادية, يحاولون تفسير جميع آيات
القرآن والروايات الخاصة بالأمور المعنوية تفسيراً طبيعياً
عادياً, وهؤلاء مهتمون بالإسلام أيضاً, لكنهم غافلون
أيضاً, لأنهم ينظرون للإسلام من جانب واحد, وهاتان
الطائفتان لم تفهمان الإسلام بمعناه الحقيقي, فالإسلام لا
يدعوا إلى المعنويات فقط, ولا يدعوا إلى الماديات فقط.
انه يدعوا إلى كليهما, فقد جاء الإسلام والقرآن الكريم من
أجل بناء الإنسان وتربيته في جميع أبعاده.
في بيان مقاصد الكتاب الشريف الإلهي ومطالبه ومشتملاته
بطريق الاجمال والإشارة (3)
.
اعلم أن هذا الكتاب الشريف ـ كما صرح هو به ـ كتاب الهداية
, وهادي سلوك الإنسانية ومربّي النفوس وشافي الأمراض
القلبية, ومنير طريق الإسلام إلى الله.
وبالجملة: فإن الله تبارك وتعالى ـ لسعة رحمته على عباده ـ
انزل هذا الكتاب الشريف من مقام قربه وقدسه, وتنزل به على
حسب تناسب العوالم حتى وصل إلى هذا العالم الظلمائي, وسجن
الطبيعة, وصار على كسوة الألفاظ وصورة الحروف لاستخلاص
المسجونين في سجن الدنيا المظلم, وخلاص المغلولين بأغلال
الآمال والأماني, وإيصالهم من حضيض النقص والضعف
والحيوانية إلى أوج الكمال والقوة الإنسانية, ومن مجاورة
الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين, بل الوصول إلى مقام القرب
وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أعظم مقاصد أهل الله
ومطالبهم, فمن هذه الجهة هذا الكتاب هو كتاب الدعوة إلى
الحق والسعادة, وبيان كيفية الوصول إلى هذا المقام,
ومحتوياته إجمالاً هي ما له دخل في هذا السير والسلوك
الإلهي, أو يعين السالك والمسافر إلى الله, وعلى نحو كلّي
أحد مقاصده المهمّة الدعوة إلى معرفة الله, وبيان المعارف
الإلهية من الشؤون الذاتية والأسمائية والصفاتية
والأفعالية, والأكثر في هذا المقصود هو توحيد الذات
(4) والأسماء
(5) والأفعال
(6) , التي ذكر بعضها
بالصراحة وبعضها بالإشارة المستقصية.
وليعلم أن المعارف من معرفة الذات قد ذكرت في هذا الكتاب
الجامع (7) الإلهي على نحو
تدركه كل طبقة على قدر استعدادها, كما أن علماء الظاهر
والمحدثين والفقهاء رضوان الله عليهم يبيّنون ويفسّرون
آيات التوحيد الشريفة, وخصوصاً توحيد الأفعال على نحو
يخالف ويباين ما يفسّرها أهل المعرفة وعلماء الباطن.
والكاتب يرى كلا التفسيرين صحيحاً في محله, لأن القرآن هو
شفاء الأمراض الباطنية, ويعالج كل مريض على نحو خاص, كما
أن الآية الكريمة ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾
(8) والكريمة ﴿
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ﴾ (9)
والكريمة ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
(10) والكريمة ﴿
وَهُوَ مَعَكُمْ ﴾ (11)
والكريمة ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾
(12) إلى غير ذلك في توحيد الذات والآيات الكريمة
في آخر سورة الحشر وغيرها في توحيد الصفات, والكريمة ﴿
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
(13) والكريمة ﴿ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
(14) والكريمة ﴿
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ ﴾ (15) في
توحيد الأفعال التي تدل بعضها بوجه دقيق وبعضها بوجه أدّق
عرفاني, هي شفاء للأمراض عند كل طبقة من طبقات علماء
الظاهر والباطن على نحو معين, ففي نفس الوقت الذي تكون
الآيات الشريفة مثل آيات أول الحديد والسورة المباركة
التوحيد قد نزلت للمتعمقين في آخر الزمان حسب الحديث
الشريف في الكافي (16) فإن
لأهل الظاهر منها نصيب كافٍ, وهذا من معجزات هذا الكتاب
الشريف ومن جامعيته.
(1) -
منهجية الثورة
الإسلامية ص79.
(2) -
الغيب: ما يقابل
عالم الشهود وهو مقام الجمع لدى العرفاء.
(3) -
الآداب المعنوية
للصلاة ـ ص223.
(4) -
التوحيد الذاتي:
هو أن ذاته واحد.
(5) -
«علم الأسماء»
نوع من العلم والمعرفة يهتم بشؤون القدرة العلمية للموجود
الإنساني, والمقصود هو الإنسان هو وليد علم الأسماء, وعلم
الأسماء هو علم عرضه الله سبحانه وتعالى على الإنسان ليصبح
أهلاً للخلافة على الأرض, ولو لم يعلّم الله هذا العلم
لآدم لما أصبح أهلاً للخلافة على الأرض.
(6) -
التوحيد الفعلي:
هو أن ترى بأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى.
(7) -
الكتاب الجامع:
أن المقصود من الكتاب الجامع نفس الإنسان من جهة أنها
جامعة لجميع مراتب الكمالات التي دونها وأنها العالم
الصغير المشابه للعالم الكبير.
(8) -
سورة
الحديد:الآية 3.
(9) -
سورة النور,
الآية 35.
(10) -
سورة الزخرف
الآية 84, 40.
(11) -
سورة الحديد،
الآية: 4.
(12) -
سورة البقرة,
الآية: 115.
(13) -
سورة الانفال ,
الآية: 17.
(14) -
سورة الفاتحة ,
الآية: 1.
(15) -
سورة التغابن،
الآية: 1.
(16) -
الكافي في الحديث
والمشهور بـ «الكافي » هو أحد الكتب الأربعة عند المسلمين
الشيعة, مؤلفه محمد بن يعقوب إسحاق الكليني الرازي (328 ـ
329هـ.ق) والمعروف بـ »ثقة الإسلام, وهو من المحدثين
الشيعة, وشيخ مشايخ أهل الحديث. قضى عدة سنوات في تأليف
كتابه, وقسّمه إلى ثلاث أقسام هي: الأصول , الفروع,
والروضة, ويشمل 34 كتاباً و326 باباً و 16000 حديث.
|