الآيات من 103 إلى 153

فَلَماَّ أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِياَّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)

 


  اللغة والبيان

أَسْلَمَا: استسلما لأمر الله سبحانه.

وَتَلَّهُ: صرعه والقى به على الأرض.

لِلْجَبِينِ: الجبين عن يمين الجبهة وشمالها، والجبهة مكان السجود أي أن ابراهيم (ع) ألقى ولده على شقه.

بِذِبْحٍ: بكسر الذال المهيأ للذبح.

مَنَنَّا: المن القطع ومنه قوله لهم أجر غير ممنون أي غير مقطوع.

الْمُسْتَبِينَ: الواضح.

بَعْلاً: بعل اسم صنم.

الْغَابِرِينَ: أي الباقين مع الذين كفروا، وأيضاً تأتي كلمة غبر بمعنى ذهب.

مُصْبِحِينَ: داخلين في الصباح.

أَبَقَ: فرَّ.

فَسَاهَمَ: ساهم أقرع من القرعة.

الْمُدْحَضِينَ: المغلوبين.

مُلِيمٌ: فعل ما يستحق عليه اللوم والعتاب.

الْعَرَاءِ: المكان الخالي.

 


  التفسير

{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (103)

أي استسلما لأمر الله ورضيا به واطاعاه اضطجعه على جبينه.

{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (104)

تقديره ناديناه بأن يا ابراهيم أي بهذا الضرب من القول:

{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (105)

أي فعلت ما أمرت به في الرؤيا، وكما جزيناه بالعفو عن ذبح ابنه نجزي من سلك طريقهما في الإحسان بالاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} (106)

أي إن هذا لهو الامتحان الظاهر والاختبار الشديد.

{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (107)

معناه انا جعلنا الذبح بدلاً عنه كالأسير يفدى بشيء واختلف في الذبح فقيل كان كبشاً من الغنم، وقال آخر: بل كان وعلاً.. واياً كان الفداء فنحن غير مسؤولين عن معرفة نوعه، ولا تتصل هذه المعرفة بحياتنا من قريب او بعيد.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآَخِرِينَ} (108)

أي تركنا عليه ذكراً جميلاً وأثنينا عليه في أمة محمد (ص).

{سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (109)

تحية منه تعالى عليه.

{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (110)

معناه مثل ما فعلنا بابراهيم (ع) نجزي كل من أحسن بأفعال الطاعات وتجنب المعاصي ونكافيهم بإحسانهم.

 


  إبراهيم (ع) عبد مؤمن بالله سبحانه

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (111)

يعني ابراهيم (ع) وهذه الآية تتضمن مدح المؤمنين حيث خرج من بينهم مثل ابراهيم (ع) وقد بينا قصة ابراهيم (ع) في القرآن في تفسير سورة مريم (ع).

{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِياَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (112)

هذه البشارة لابراهيم (ع) بولدٍ ثانٍ من جملة الأنبياء الصالحين انما هي جزاء على صبره وإقدامه على ذبح ولده طاعة لله سبحانه وفي قاموس الكتاب المقدس: ان سارة ولدت اسحاق ولها من العمر 90 سنة، ولابراهيم مئة سنة، وان معنى اسحاق في العبرية يضحك. أما هاجر فقد ولدت اسماعيل ولابراهيم من العمر ست وثمانون سنة.

{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (113)

أي وجعلنا فيما اعطينا ابراهيم (ع) وإسحاق الخير الثابت والنماء والزيادة، ومن أولادهما محسن وهو الذي اتبع ملة أبيه بالايمان والطاعة، وظالم وهو من حاد عنها بالكفر والمعاصي البيّنة الظلم.

 

قصة بشارة ابراهيم (ع)

روى العياشي بإسناده عن بريدة بن معاوية العجلي قال قلت لأبي عبد الله (ع) كم كان بين بشارة ابراهيم (ع) باسماعيل (ع) وبين بشارته بإسحاق قال كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه »فبشرناه بغلام حليم» يعني اسماعيل وهي أول بشارة بشر الله بها ابراهيم في الولد ولما ولد لابراهيم إسحاق من سارة وبلغ إسحاق ثلاث سنين اقبل اسماعيل (ع) الى إسحاق وهو في حجر ابراهيم فنحاه وجلس في مجلسه فبصرت به سارة فقالت يا ابراهيم ينحي ابن هاجر ابني من حجرك ويجلس هو في مكانه لا والله لا تجاورني هاجر وابنها في بلاد ابداً فنحّهما عني وكان ابراهيم مكرماً لسارة يعزّها ويعرف حقها وذلك لأنها كانت من ولد الأنبياء وبنت خالته فشقّ ذلك على ابراهيم (ع) واغتمّ لفراق اسماعيل (ع) فلما كان في الليل أتى ابراهيم (ع) آت من ربه فأراه الرؤيا في ذبح ابنه اسماعيل (ع) بموسم مكة فأصبح ابراهيم (ع) حزيناً للرؤيا التي رآها فلما حضر موسم ذلك العام حمل ابراهيم هاجر واسماعيل (ع) في ذي الحجة من أرض الشام فانطلق بهما الى مكة ليذبحه في الموسم فبدأ بقواعد البيت الحرام فلما دفع قواعده خرج الى منى حاجاً وقضى نسكه بمنى ورجع الى مكة فطافا بالبيت اسبوعاً ثم انطلقا الى السعي فلما صارا في المسعى قال ابراهيم (ع) لاسماعيل (ع) يا بني إني أرى في المنام اني أذبحك في موسم عامي هذا فماذا ترى قال: يا أبت افعل ما تؤمر. فلما فرغا من سعيهما انطلق به ابراهيم (ع) الى منى وذلك يوم النحر, فلما انتهى به الى الجمرة الوسطى وأضجعه لجنبه الأيسر وأخذ الشفرة ليذبحه نودي ان يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا الى آخره وفدى اسماعيل بكبش عظيم فذبحه وتصدق بلحمه على المساكين.

 


  النعم التي منّ بها الله تعالى على موسى وهارون (ع)

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (114)

أي أنعمنا عليهما نعماً قطعت عنهما كل أذيّة فمنها النبوة ومنها النجاة من آل فرعون ومنها سائر النعم الدينية والدنيوية.

{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (115)

من طبيعة اليهود أن يتقبلوا كل شيء من اجل المال وجمعه حتى الذل والعار.. هذا ما نطق به تاريخهم، فلقد استعبدهم فرعون ولم يحركوا ساكناً حتى جعل الله لهم على يد موسى (ع) من الكرب والبلاء فرجاً ومخرجاً.

{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} (116)

أغرق سبحانه فرعون وجنوده، فتحرر بنو اسرائيل من المذلة والعبودية، فأصبحوا قاهرين بعد أن كانوا مقهورين.

{وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} (117)

أنزل سبحانه على موسى وهارون التوراة وفيها أحكام الله الواجبات.

{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (118)

أي دللناهما على الطريق المؤدي الى الحق الموصل الى الجنة.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآَخِرِينَ} (119)

أي تركنا عليهما ذكراً واثنينا عليهما في أمة محمد (ص).

{سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (120)

معناه سلامة منّا على موسى وهارون(ع)، وقد ذكرنا قصتهما في سورة مريم(ع).

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (121)

مثل ما فعلنا بهما نفعل بالمطيعين نجزيهم ذلك على طاعتهم وفي هذا دلالة على أن ما ذكره الله كان على وجه الثواب لموسى وهارون (ع) ومن تقدم ذكره لأن لفظ الجزاء يفيد ذلك.

{إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (122)

أي من جملة عبادنا المصدقين بجميع ما أوجبه الله تعالى عليهم العاملين بذلك.

 


  رسول الله إلياس ومواجهته للمشركين

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (123)

قال المفسرون: الياس (ع) هو واحد من أنبياء بني اسرائيل، وان نسبه ينتهي الى هارون. وفي أكثر من تفسير: ان الياس (ع) هذا هو النبي إدريس (ع) الذي جاء ذكره في الآية 56 من سورة مريم (ع) والآية 85 من سورة الأنبياء، «وفي قاموس الكتاب المقدس»: ان ايليا اسم عبري، ومعناه الهي يهوه والصيغة اليونانية لهذا الاسم هي الياس، وتستعمل أحياناً في العربية.

{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} (124)

أرشدهم الى التوحيد، وحذرهم من الشرك تماماً كما فعل غيره من الأنبياء.

{أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (125)

من هنا يتضح أن قومه كانوا يعبدون صنماً اسمه (بعل) ويسجدون له، وأنه كان يدعوهم الى ترك هذا العمل القبيح، والتوجه الى الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون العظيم لتوحيده وعبادته.

جمع من المفسرين استشفوا من اسم هذا الصنم، أن الياس كان مبعوثاً الى مدينة بعلبك إحدى مدن بلاد الشام.

وكما بيّنا فإن (بعل) هو اسم ذلك الصنم و (بك) تعني مدينة، ومن تركيب هاتين الكلمتين نحصل على كلمة (بعلبك) وقيل: إن الصنم (بعل) كان مصنوعاً من الذهب وطوله حوالي (20) ذراعاً وله اربعة أوجه، وخدمته كانوا (400) شخصاً.

ولكن البعض قالوا: إن (بعل) لم تطلق على صنم معين، وإنما تطلق بصورة عامة على الأصنام، فيما قال البعض الآخر: إنها تعني (الرب المعبود). وقال (الراغب) في مفرداته: إن كلمة بعل تعني (الزوج) اما العرب فتطلقها على الأصنام التي تعبدها والتي بواسطتها يقربون الى الله سبحانه على حد زعمهم.

{اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} (126)

أي خالقكم ورازقكم فهو الذي تحق له العبادة وخالق من مضى من آبائكم وأجدادكم.

{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (127)

أعرضوا عن دعوته، فيحضرهم الله يوم القيامة للحساب والعذاب.

{إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} (128)

استثنى من جملتهم الذين أخلصوا عبادتهم لله سبحانه من قوم الياس (ع)، فإنهم بمنجاة من العذاب ولهم أجر كريم.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآَخِرِينَ} (129)

أي تركنا عليه ذكراً جميلاً وأثنينا عليه في أمة محمد (ص).

{سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (130)

قال جماعة من المفسرين: ان أبا الياس (ع) اسمه يس، فعليه يكون المراد بأل ياسين الياس بالذات لأن الابن من آل الأب، ومهما يكن فإن المقصود هنا بأل ياسين هو الياس بقرينة السياق، فلقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة نوحاً وقال: سلام على نوح، ثم ذكر ابراهيم واتبعه بقوله: سلام على ابراهيم، ثم موسى وهارون، وقال: سلام على موسى وهارون، ثم ذكر الياس وأنه من المرسلين، وقال: سلام على إل ياسين، فتعين انه هو المقصود من آل يس.

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (131)

مثل ما فعلنا بإلياس نجزي كل من أحسن بأفعال الطاعات وتجنب المعاصي ونكافيهم بإحسانهم.

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (132)

أي المصدقين العاملين بما أوجبنا عليهم.

 

من هو إلياس؟

لا يوجد أي شك في أن إلياس (ع) هو أحد أنبياء الله الكبار، وآيات بحثنا تصرح بهذا الأمر، قال تعالى: (إن إلياس لمن المرسلين).

إسم نبي الله (إلياس) جاء في آيتين من آيات القرآن المجيد، الأولى في هذه السورة، أي سورة الصافات، والثانية في سورة الأنعام الآية (85) إذ ذكر اسمه مع مجموعة أخرى من الأنبياء (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين).

وأبدى المفسرون وجهات نظر متعددة بشأن إلياس (ع)، إذ أن البعض تساءل هل أن اسم الياس (ع) هو اسم ثان لنبي واحد، أم أنه يتعلق بنبي ليس له اسم ثان، وما هي صفات وخصائص هذا النبي؟

للإجابة على هذه التساؤلات نستعرض وجهات النظر المتعددة تلك:

أ - يعتقد البعض أن الياس (ع) هو إدريس (لأن كلمة إدريس، تلفظ إدراس، وبعد أن طرأت عليها تغيرات بسيطة أصبحت إلياس).

ب - إلياس (ع) هو أحد أنبياء بني اسرائيل، وهو ابن (ياسين) أحد أحفاد أخي نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

جـ - مجموعة من المفسرين اعتبرت أن إلياس هو الخضر. في حين أعربت مجموعة أخرى عن اعتقادها في أن إلياس هو صديق الخضر، وكلاهما ما زال حياً، وأن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار والجزر.

ومجموعة ثالثة أكدت على أن إلياس موكل بالصحاري والخضر موكل بالجبال، ويقولون بخلود الاثنين.

أما الرأي الأخير فهو أن إلياس ابن (اليسع).

د- إلياس هو نفسه (إيليا) نبي بني إسرائيل الذي عاصر الملك (آجاب) والذي أرسله الباري عزّ وجلّ لإنذار وهداية (آجاب) الطاغية المتجبر.

والبعض قال: إنه يحيى معمدان المسيح.

ولكن الذي يتناسب وظاهر آيات القرآن الكريم هو أن هذا الاسم اسم أحد أنبياء الله غير تلك الأسماء التي وردت في القرآن المجيد، وأنه كان قد بعث لهداية قوم يعبدون الأصنام، فكذبه أكثر القوم، عدا مجموعة من المؤمنين المخلصين الذين صدقوه.

وكما أشرنا سابقاً فإن البعض يعتقد بأنه بعث الى أرض في بلاد الشام، إستناداً الى اسم الصنم (بعل) الذي كان يعبده القوم الموجودون في تلك المنطقة، وهي بعلبك التي هي اليوم إحدى مدن لبنان وتقع قرب الحدود السورية.

 


  ارض قوم لوط (ع) المدمرة أمامكم

{وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (133)

أي رسولاً من جملة من أرسله الله الى خلقه داعياً لهم الى طاعته ومنبّهاً لهم على وحدانيته.

{إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} (134)

إذ يتعلق بمحذوف وكأنه قيل أذكر يا محمد (ص) إذ نجيناه أي خلّصناه ومن آمن به من قومه من عذاب الاستئصال.

{إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} (135)

عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب.

{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ} (136)

أي أهلكناهم بعد نجاة من آمن من قوم لوط.

{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} (137)

هذا خطاب لمشركي العرب أي تمرّون في ذهابكم ومجيئكم الى الشام على منازلهم وقراهم بالنهار وبالليل.

{وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (138)

أي ألا تعتبرون بهم ومن كَثُر مروره بموضع العبر فلم يعتبر كان ألوم ممن قلّ ذلك عنه والمعنى أفلا تتفكرون فيما نزل بهم لتجتنبوا ما كانوا يفعلونه من الكفر والضلال والوجه في ذكر قصص الأنبياء وتكريرها التشويق الى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال وصرف الخلق عما كان عليه الكفار من مساوىء الخصال ومقابح الأفعال.

 

قصة لوط (ع)

كان لوط (ع) قد آمن بدعوة ابراهيم الخليل (ع) الذي بعث في أرض بابل ثم رافقه في هجرته الى الأرض المباركة فلسطين، ولما استقر في بلاد الأردن واقام في إحدى مدنها التي تسمى (سدوم) ويعبر القرآن عن هذه القرية وما حولها من القرى الصغيرة بالمؤتفكات، بعثه الله تعالى الى هداية اهلها فدعاهم الى الايمان بالله وطاعته وحذرهم من مغبة أعمالهم خصوصاً ممارسة الفاحشة النكراء التي ابتدعتها نفوسهم المريضة، ومع ذلك كله لم يؤثر فيهم حيث كان اهلها يقطعون الطريق ويمارسون مع المارة عمليات السلب والشذوذ الجنسي ويتعاطون في مجالسهم كل رذيلة ومنكر وفساد، فعارضه قومه وهددوه بإخراجه من قريتهم، فعند ذلك قضت مشيئة الله سبحانه بتطهير الأرض من الفاسقين الذين أمعنوا في ارتكاب الفواحش ولم يبق بصيص من الأمل في انتشالهم من هذا الوحل، فأرسل الله تعالى الى لوط (ع) ملائكة على صورة البشر وأنبأوه بالأمر الالهي القاضي بإهلاك قومه الفاسقين وقطع دابرهم فأهلكهم بأسباب مختلفة هي: (الصيحة، قلب الأرض أسفلها أعلاها، الإمطار بالحجارة..).

 


  يونس (ع) في بوتقة الامتحان

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (139)

أي من جملة من أرسله الله الى خلقه داعياً لهم الى طاعته ومنبّهاً لهم على وحدانيته.

{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (140)

أي فرّ من قومه الى السفينة المملوءة من الناس والأحمال خوفاً من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم فيهم.

{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (141)

أي قارعهم يونس (ع) بأن القى القوم السهام على سبيل القرعة فكان من المقروعين وسبب ذلك لما توسط البحر أشرفت السفينة على الغرق، وكان لا بد من القاء واحد من ركابها في البحر لتنجو من الغرق، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس (ع)، فألقى نفسه في البحر.

{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (142)

أي ابتلعه وهو مستحق للَّوم: لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه من بين قومه من غير امر ربه، وعندنا أن ذلك إنما وقع منه تركاً للمندوب وقد يلام الانسان على ترك المندوب، اختلف في مدة لبثه في بطن الحوت فقيل كانت ثلاثة أيام وقيل سبعة أيام، وقيل عشرين يوماً وقيل أربعين يوماً، كما قيل ان الله سبحانه اوحى الى الحوت أني لم أجعل عبدي رزقاً لك ولكني جعلت بطنك مسجداً له فلا تكسرنّ له عظماً ولا تخدشنّ له جلداً.

{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (143)

أي أنه كان مكرراً ومردداً: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (144)

أي لصار بطن الحوت قبراً له الى يوم القيامة.

{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} (145)

أي فطرحناه بالمكان الخالي الذي لا نبت فيه ولا شجر وهو مريض حين القاه الحوت.

{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} (146)

قالوا: خرج من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وهو القرع ليستظل بها.

{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (147)

أرسله سبحانه الى هذا العدد، فأعرضوا في البداية ولما تركهم مغاضباً خافوا من نقمة الله وعذابه.

{فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (148)

فآمنوا بالله وطلبوا منه العفو والرحمة، فعفا عنهم وأنجاهم من الهلاك الى أن وافاهم الأجل، وعاد إليهم يونس ففرحوا بقدومه وفرح بإيمانهم.

 

قصة يونس (ع)

وصف الله سبحانه يونس بأنه من المرسلين والصالحين وبصاحب الحوت، وبذي النون أي الحوت، وأيضاً وصفه بالمغاضب لقومه، لأنه دعاهم الى الايمان فلم يستجيبوا له، فدعا الله عليهم، ورحل عنهم يائساً من إيمانهم.. أما قوم يونس فقد زاد عددهم على مئة ألف.

قال المفسرون: ان قوم يونس كانوا يقيمون بنينوى من أرض الموصل، وأنهم كانوا يعبدون الأصنام، فنهاهم يونس عن الكفر، وأمرهم بالتوحيد، فأصروا على الشرك شأنهم في ذلك شأن من تقدمهم من أقوام الأنبياء.وبعد أن رحل يونس عن قومه اتتهم نذر العذاب، وطلائع الهلاك من السماء فتابوا الى الله، ودعوه مخلصين أن يكشف عنهم العذاب، ففعل، وأبقاهم الى انقضاء آجالهم.

وقال المفسرون أيضاً: أن قوم يونس لبسوا المسوح، وخرجوا الى الصحراء، ومعهم النساء والأطفال والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها انساناً وحيواناً، فحنّ بعضها الى بعض، وعلت اصواتها، واختلطت أصوات الآدميين باصوات الحيوانات، فرفع الله عنهم العذاب، ورجعوا الى ديارهم آمنين.

أما يونس (ع) فقد ضرب في الأرض، حتى انتهى الى ساحل البحر، فوجد جماعة في سفينة، فسألهم أن يصحبوه، ففعلوا، ولما توسطوا البحر بعث الله عليهم حوتاً عظيماً حبس عليهم سفينتهم، فأيقنوا أنه يطلب واحداً منهم، فاتفقوا على الاقتراع، فوقع السهم على يونس (ع) فألقوه أو ألقى هو نفسه في البحر، فابتلعه الحوت، وألهم الله تعالى الحوت أن يطوي يونس في بطنه، دون أن يمسه بأذى، وفزع يونس (ع) الى ربّه يناديه، ويستجير به، وهو في جوف الحوت.

ثم نبذه الحوت على ساحل البحر بعد أن لبث في جوفه ما شاء الله أن يلبث.

قال المفسرون: أن يونس خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط، وأن الله أنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها: قالوا وعاد يونس (ع) بعد هذا الى قومه، ففرحوا بقدومه، وفرح هو بإيمانهم.

 


  التهم القبيحة والفاضحة

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} (149)

عاد الكلام الى الرد على مشركي العرب فقال سبحانه: سلهم واطلب الحكم منهم في هذه القصة. كيف اضفتم البنات الى الله تعالى واخترتم لأنفسكم البنين وكانوا يقولون إن الملائكة بنات الله على وجه الاصطفاء لا على وجه الولادة.

{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} (150)

أي كيف جعلوهم إناثاً ولم يشهدوا خلقهم.

{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} (151)

أي أنهم من أجل انصرافهم عن التوحيد الى الشرك قالوا:

{وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (152)

أي أن لله ولداً.. وليس من شك أنهم كاذبون في هذا القول.

{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (153)

المعنى كيف يختار الله سبحانه الإناث على الذكور مع كونه مالكاً حكيماً.