الآيات من 52 إلى 102

يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ (72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)

 


  اللغة والبيان

مَدِينُونَ: محاسبون ومجزيون.

مُطَّلِعُونَ: مشرفون.

سَوَاءِ الْجَحِيمِ: وسطها.

َتُرْدِينِ: تهلكني.

ْمُحْضَرِينَ: من الاحضار، احضره جعله حاضراً، وقالوا لا تستعمل أحضر الاّ في الشر.

نُزُلاً: ما يهيء للنازل.

الزَّقُّومِ: شجرة تخرج في الجحيم كما قال سبحانه، وقيل: ان العرب تعرف لها نظير في الدنيا وانها مُرة وتوجد في تهامة.

طَلْعُهَا: أول ما يخرج من النخلة في أكمامه.

رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ: كناية عن قبح المنظر.

لَشَوْباً: الشوب خلط الشيء بغيره.

حَمِيمٍ: الحار.

يُهْرَعُونَ: يسرعون.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ: أبقينا عليه ذكراً جميلاً.

شِيعَتِهِ: شيعة الرجل الجماعة السائرون على دينه وطريقه، ثم صارت هذه الكلمة بمفردها اسماً لشيعة الامام علي (ع) ومن قام مقامه من ابنائه.

أَئِفْكاً: أي زوراً وباطلاً.

فَرَاغَ: راغ مال وحاد من جهة الى جهة.

يَزِفُّونَ: يسرعون.

 


  التفسير

{يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} (52)

القرين كان ينكر عليّ ويستهجن لفعلي كيف أصدّق بيوم الدين وبالبعث والنشور والحساب والجزاء والاستفهام هنا على وجه الإنكار.

{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} (53)

المعنى أن ذلك القرين كان يقول لي في الدنيا على طريق الاستبعاد والاستنكار أَنبُعث بعد أن صرنا تراباً وعظاماً بالية ونجازى على أعمالنا أي أن هذا لا يكون أبداً وهذا أبلغ في النفي من أن يقول لا نبعث ولا نجازى.

{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} (54)

أي ثم قال هذا المؤمن لاخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون على موضع من الجنة ومشرفون منه لتروا عاقبة ذاك الساخر المكابر.

{فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} (55)

قال لهم المؤمن ما قاله، وأشرف هو على جهنم فرأى قرينه في قلبها.

{قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} (56)

أي فقال له المؤمن بأن أقسم بالله سبحانه على وجه التعجب إنك كدت تهلكني بما قلته لي ودعوتني إليه حتى يكون هلاكي كهلاك المتردي من شاهق.

{وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (57)

ولولا توفيق ربّي وهدايته وعصمته واللطف بي حتى أمنت لكنت معك في النار والعذاب.

{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} (58)

أي أنحن مخلدون فما من شأننا الموت.

{إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (59)

معناه أن هذا المؤمن يقول لهذا القرين على وجه التوبيخ والتقريع أما كنت في الدنيا تقول أنا لا نموت إلا الموتة التي تكون في الدنيا ولا نعذّب فقد ظهر الأمر بخلاف ذلك.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (60)

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية، وتشمله الألطاف الإلهية وماذا يتصور أفضل وأعظم من ذلك.

{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (61)

بعد تمام الحكاية عن قول أهل الجنّة قال سبحانه، لمثل هذا الثواب والفوز والفلاح فليعمل العاملون في دار التكليف، هذا ترغيب في طلب الثواب بالطاعة.

 


  جوانب من العذاب الأليم الذي يعذب به أهل النار

{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} (62)

أي أذلك الذي ذكرناه من قرى أهل الجنّة وما أعدّ لهم خير في باب الإنزال التي يتقون بها ويمكن معها الإقامة أم نزل أهل النار التي فيها شجرة الزقوم، وهي شجرة صغيرة الورق كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد الإنسان تورم.

 

سبب النزول

فقد روي أن قريشاً سمعت هذه الآية قالت ما نعرف هذه الشجرة فقال ابن الزبعري الزقوم بكلام البربر التمر والزبد وفي رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر وزبد فقال لأصحابه تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجرة والنار تحرق الشجرة فأنزل الله سبحانه قوله:

{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} (63)

إختباراً لهم افتتنوا بها وكذبوا بكونها فصارت فتنة لهم، فإنهم حين سمعوا أنها في النار قالوا: النار تحرق الشجر، فكيف ينبته ! جهلاً بقدرة الله سبحانه، أو عذاباً لهم في الآخرة.

{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} (64)

اي أن الزقوم شجرة تنبت في قعر جهنم وأغصانها ترفع الى دركاتها، ولا يبعد أن يخلق الله سبحانه بكمال قدرته شجرة في النار من جنس النار أو من جوهر لا تأكله النار ولا تحرقه كما أنها لا تحرق السلاسل والأغلال فيها وكما لا تحرق حيّاتها وعقاربها وكذلك الضريع وما أشبه ذلك.

{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (65)

تشبيه ثمرة الزقوم برؤوس الشياطين، بعناية أن العامية تصور الشيطان في أقبح صورة.

{فَإِنَّهُمْ لآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} (66)

يعني أن أهل النار ليأكلون من ثمرة تلك الشجرة ويملأون بطونهم منها لشدة ما يلحقهم من ألم الجوع، وقد روي: أن الله تعالى يجوّعهم حتى ينسوا عذاب النار من شدة الجوع فيصرخون الى مالك فيحملهم الى تلك الشجرة وفيهم ابو جهل فيأكلون منها فتغلي بطونهم كغلي الحميم فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحار الذي بلغ نهايته في الحرارة فإذا قربوها من وجوههم شوت وجوههم فذلك قوله يشوي الوجوه فإذا وصل الى بطونهم صهر ما في بطونهم كما قال سبحانه: يصهر ما في بطونهم والجلود، فذلك شرابهم وطعامهم.

{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} (67)

بعد أن يتناول الجهنميون من شجرة الزقوم، هذا الطعام السيء المر، يصيبهم العطش، ولكن حين يشعرون بالعطش ماذا يشربون؟ يشربون خليطاً ومزاجاً من ماء حار يمزج ذلك الطعام بهذا الشراب، وقيل إنهم يكرهون على ذلك عقوبة لهم.

{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ} (68)

المراد بمرجعهم سكنهم الأخير ومقرهم الدائم، والمعنى طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم، وسكنهم الجحيم.

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} (69)

أي أن هؤلاء الكفار صادفوا آباءهم ذاهبين عن الحق والدين.

{فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (70)

هذه إشارة الى أنهم كانوا يقلدون آباءهم قلباً وديناً، وأنهم كانوا يحثون الخطى على آثارهم، ومن دون أي ارادة، وإشارة أخرى الى تعصبهم وتمسكهم بالخرافات التي كان اجدادهم الضالون يعتقدون بها.

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} (71)

فمشركو مكة ليسوا هم الوحيدين الذين ابتلوا بالضلال نتيجة سيرهم على نهج أجدادهم الأولين، وإنما ابتليت قبلهم الكثير من الأمم السابقة بنفس المصير، وهذا التذكير تسلية للنبي (ص) وصحبه القلة، الذين كانوا في مكة مُحاصرين من قبل العدو من كل الجوانب.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} (72)

الله سبحانه بعث اليهم الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين، واتخذ عليهم الحجة وبيّن لهم محابّه ومكارهه من الأعمال، فاتبعوا معاصيه، واجتنبوا مراضيه، فحقت عليهم كلمة العذاب.

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} (73)

المعنى فانظر يا محمد (ص) كيف أهلكتهم وماذا حلّ بهم من العذاب وكذلك تكون عاقبة المكذبين.

{إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ} (74)

استثنى سبحانه من المنذرين الذين قبلوا من الأنبياء وأخلصوا عبادتهم لله تعالى فإن الله خلّصهم من ذلك العذاب ووعدهم بجزيل الثواب.

 


  مقتطفات من قصة نوح (ع)

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} (75)

أي دعانا نوح بعد ما يئس من إيمان قومه لننصره عليهم وذلك قوله إنّي مغلوب فانتصر (فلنعم المجيبون) نحن لنوح (ع) في دعائه أجبناه الى ما سأل وخلّصناه من أذى قومه بإهلاكهم.

{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (76)

استنصر نوح (ع) سبحانه على طغاة قومه، فأغرقهم الله ولم يبق منهم دياراً استجابة لدعاء نبيه نوح (ع) ونجاه ومن معه من أذى الكفرة الفجرة ومن كل كرب وسوء.

{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (77)

لمّا خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساؤهم، فالعرب والعجم من أولاد سام بن نوح والترك والصقالبة والخزر ويأجوج ومأجوج من أولاد يافث بن نوح والسودان من أولاد حام بن نوح.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآَخِرِينَ} (78)

أي تركنا عليه ذكراً جميلاً وأثنينا عليه في أمة محمد (ص).

{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (79)

أي تركنا عليه أن يصلى عليه الى يوم القيامة فكأنه قال وتركنا عليه التسليم في الآخرين ثم فسّر التسليم بقوله سلام على نوح في العالمين.

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (80)

معناه مثل ما فعلنا بنوح نجزي كل من أحسن بأفعال الطاعات وتجنب المعاصي ونكافيهم بإحسانهم.

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (81)

لأنه أحسن في أعماله وجاهد في الله تعالى حق جهاده، وهذه هي سمات المؤمن ودلائله.

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ} (82)

أي من لم يؤمن به، أخبركم أني أغرقته في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم جزاء بما كانوا يعملون.

 


  قصة نوح (ع) في القرآن

كان الناس بعد آدم (ع) يعيشون أمّةً واحدة على بساطة وسذاجة، وهم على الفطرة الانسانية حتى فشا فيهم روح الاستكبار وآل الى استعلاء البعض على البعض تدريجياً واتّخاذ بعضهم بعضاً أرباباً وهذه هي النّواة الأصلية التي لو نشأت واخضرت وأينعت لم تثمر إلا دين الوثنية والاختلاف الشّديد بين الطبقات الاجتماعية باستخدام القويّ للضعيف، واسترقاق العزيز واستدرار للذليل، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين النّاس، فشاع في زمن نوح (ع) الفساد في الأرض، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنّة العدل الاجتماعي واقبلوا على عبادة الأصنام، وقد سمّى الله سبحانه منها ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً.

وتباعدت الطّبقات فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيّعون حقوق الضعفاء والجبابرة يستضعفون من دونهم ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم فبعث الله تعالى نوح (ع) وأرسله إليهم بالكتاب والشّريعة يدعوهم الى توحيد الله سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم.

 

دينه وشريعته (ع)

كان (ع) يدعوهم الى توحيد الله سبحانه ورفض الشركاء والاسلام لله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة، والمساواة والعدالة وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد، وهو (ع) اول من حكي عنه في القرآن التسمية باسم الله في الأمور الهامة (سورة هود الآية 41).

 

اجتهاده (ع) في دعوته

وكان (ع) يدعو قومه الى الايمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم الى الحقّ ليلاً ونهاراً وإعلاناً وإسراراً فلا يجيبونه إلا بالعناد والاستكبار وكلما زاد في دعائهم زادوا في عتوّهم وكفرهم، ولم يؤمن به غير أهله وعدّة قليلة من غيرهم حتى ايس من إيمانهم وشكا ذلك الى ربّه وطلب منه النّصر.

 

لبثه (ع) في قومه

لبث (ع) في قومه ألفا إلا خمسين عاماً يدعوهم الى الله سبحانه فلم يجيبوه إلا بالهزء والسخرية ورميه بالجنون وأنه يقصد به أن يتفضل عليهم حتى استنصره ربّه، فأوحى إليه ربه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن وعزاه فيهم، فدعا عليهم بالتّبار والهلاك، وان يُطهّر الله الأرض منهم عن آخرهم، فأوحى الله تعالى أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا (سورة هود).

 

صنعه (ع) الفلك

أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه وتسديده فأخذ في صنعها وكان القوم يمرّون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، ويقول (ع): إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم (سورة هود) وقد نصب الله تعالى لنزول العذاب علماً وهو أن يفور الماء في التنور.

 

نزول العذاب ومجيء الطوفان

حتى إذا تمّت صنعة الفلك وجاء أمر الله سبحانه وفار التنور اوصى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كلٍّ من الحيوان زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلاّ من سبق عليه القول الإلهي بالغرق وهو امرأته الخائنة وابنه الذي تخلّف من ركوب السفينة، وأن يحمل الذين آمنوا، فلما حملهم وركبوا جميعاً فتح الله تعالى أبواب السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، وعلا الماء وارتفعت السفينة عليه وهي تسير في موج كالجبال، فأخذ الناس الطوفان وهم ظالمون وقد أمره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجّاه من القوم الظالمين وأن يسأله البركة في نزوله فيقول: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، ويقول: رب أنزلني مُنزلاً مباركاً وانت خير المنزلين.

 

قضاء الأمر ونزوله ومن معه الى الأرض

فلما عمّ الطوفان وأغرق الناس أمر الله تعالى الأرض أن تبلع ماءها والسّماء أن تقلع وغيض الماء واستوت السفينة على جبل الجوديّ وقيل بعداً للقوم الظالمين، وأوحي الى نوح (ع) أن اهبط الى الأرض بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممّن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام، ومنهم أمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ثم يمسّهم عذاب أليم فخرج هو ومن معه ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والاسلام، وتوارثت الأرض ذرّيته (ع) وجعل الله ذريته هم الباقين.

 


  اسلوب ابراهيم (ع) الفطن في تحطيم الأصنام

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} (83)

أي وإن من شيعة نوح (ع) يعني أنه على منهاجه وسنته في التوحيد والعدل واتباع الحق.

{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (84)

أي حين صدق الله سبحانه وآمن به بقلب سليم خالص من الشرك بريء من المعاصي والغل والغش، على ذلك عاش وعليه مات.

{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} (85)

حين رآهم يعبدون الأصنام من دون الله تعالى على وجه الاستهجان لفعالهم والتقريع لهم قال لهم: أي شيء تعبدون.

{أَئِفْكاً آَلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ} (86)

الإفك هو أشنع الكذب وافظعه واصله قلب الشيء عن جهته التي هي له فلذلك كان الكذب افكاً وإنما قال آلهة على اعتقاد المشركين وتوهّمهم الفاسد في تأليه الأصنام لمّا اعتقدوا أنها تستحق العبادة دون عبادة الرحمن.

{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (87)

معناه ما تظنون بربكم انه على أي صفة ومن أي جنس من أجناس الأشياء حين شبّهتم به هذه الأصنام، وفيه إشارة الى أنه لا يشبه شيئاً.

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} (88)

يوهم قومه انه يبحث عن خالق الكون لأنهم كانوا يعبدون آلهة كثيرة.

{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} (89)

للمفسرين في معنى سقيم اقوال، ارجحها أن المراد به هنا الشاكّ، وعليه يكون المعنى ان ابراهيم (ع) قال لقومه: أنا الآن في حيرة أبحث وأدقق لأهتدي الى معرفة الخالق، وقد نظرت في الأصنام فايقنت أنها ليست بآلهة، ثم نظرت في النجوم فلم اهتدِ الى شيء بل بقيت على شكي وحيرتي. والسياق يعين إرادة هذا المعنى أو يرجحه – على الأقل – لأنه ربط بين قوله: اني سقيم وبين نظرته في النجوم.. وليس في قوله: إني اشك أي كذب.. كلا، لأنه من باب المماشاة مع الخصم ليأخذه بالحجة، ويقطع عليه كل معذرة.

{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} (90)

إخبار عن قومه انهم لما سمعوا قوله اني سقيم تركوه وأعرضوا عنه وخرجوا الى عيدهم.

{فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} (91)

معناه فمال الى اصنامهم التي كانوا يدعونها آلهة خاطبها وإن كانت جماداً على وجه التهجين لعابديها وتنبيههم على أن من لا يتكلم ولا يقدر على الجواب كيف تصحّ عبادتها وكانوا صنعوا للأصنام طعاما تقرباً اليها وتبركاً بها فلما لم تجيبوه قال:

{مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} (92)

زيادة في تهجين عابديها كأنهم حاضرون لها أي ما لكم لا تجيبون وفي هذا تنبيه على أنها جماد لا تأكل ولا تنطق فهي أخس الأشياء وأقلها.

{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} (93)

مال على الأصنام يحطمها بيمينه حتى جعلها قطعاً قطعاً الاّ كبيراً لهم لعلهم اليه يرجعون.

{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} (94)

أي اسرع القوم بعد الفراغ من عيدهم الى ابراهيم (ع) وقالوا له: أأنت فعلت هذا يا ابراهيم.

 


  فشل مخططات المشركين

{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (95)

فهو استفهام معناه الانكار والتوبيخ أي كيف يصحّ أن يعبد الانسان ما يعمله بيده فإنهم كانوا ينحتون الأصنام بأيديهم.

{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (96)

أي وخلق ما عملتم من الأصنام فكيف تدعون عبادته وتعبدون معمولكم.

{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} (97)

لمّا عجزوا عن مقابلة الحجة بالحجة فلجأوا الى القوة كما هو شأن الطغاة، بنوا حائطاً من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملاءوه ناراً وطرحوه فيها.

{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} (98)

أي ارادوا به حيلة وتدبيراً في إهلاكه واحراقه بالنار فأهلكناهم ونجيّنا إبراهيم وسلمناه ورددنا كيدهم عنه.

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (99)

اي قال ابراهيم (ع): إني مهاجرٌ الى ربي أي أهجر ديار الكفار واذهب الى حيث أمرني الله تعالى بالذهاب إليه وهي الأرض المقدسة (سيهديني) ربي فيما بعد الى طريق المكان الذي أمرني بالمصير إليه أو الى الجنّة بطاعتي إياه.

{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (100)

بلغ ابراهيم (ع) من الكبر عتياً، ولم يرزق ولداً، فسأل ربه أن يهبه ذرية مؤمنة وخلفاً صالحاً.

 


  ابراهيم (ع) عند المذبح

{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (101)

أخبر سبحانه أنه استجاب لإبراهيم (ع) دعاءه وبشره انه سيرزقه غلاماً حليماً، وهو اسماعيل (ع)، ما في ذلك ريب، بشهادة القرآن الكريم.

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (102)

لمّا كبر اسماعيل (ع) وترعرع، واستطاع أن يساعد اباه في عمله وقد رأى ابراهيم (ع) في منامه أنه يذبح أو يقدم على ذبح ولده، ففهم من هذه الرؤيا ان الله تعالى قد أمره بذبحه.. وفهم الأنبياء يقين، ومن أجل هذا عزم من غير تردد على أن يحقق رؤياه بالفعل، وأخبر ولده بعزمه وطلب منه أن يبدي رأيه في ذلك بعد النظر والتأمل، اجابه على الفور لا رأي لي ولا امر مع أمر الله وأمرك.. يا ابت اذبحني فلا قيمة للحياة في جنب مرضاة الله تعالى ومرضاتك.. افصل يا ابت رأسي عن جسدي وأنت عندي البر الرحيم ما دمت تبغي وجه الله سبحانه وتستجيب لدعواه.. ثم أخذ اسماعيل (ع) يخفف عن أبيه ويهون عليه أمر الذبح ويقول: أتلقى الذبح رابط الجأش قوي اليقين.