إنّ هذا المنهج من أسمى المناهج الصحيحة الكافلة لتبيين المقصود من الآية كيف وقد قال سبحانه: ﴿
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾
[242].
فإذا كان القرآن موضحاً لكل شيء، فهو موضح لنفسه أيضاً، كيف والقرآن كلّه
« هدى » و
« بيّنة » و
« فرقان » و
« نور » كما في قوله سبحانه: ﴿
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً
لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾
[243]. وقال
سبحانه: ﴿
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾
[244].
وعن النبي الأكرم
(صلى الله عليه وآله):
« إنّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً ».
وقال علي
(عليه السلام) في كلام له يصف فيه القرآن:
« كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله ولا يخالف بمصاحبه عن الله »
[245].
وهذا نظير تفسير المطر الوارد في قوله سبحانه:
﴿
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاءَ مَطَرُ
الْمُنذَرِينَ ﴾
[246]، بالحجارة الواردة في آية أُخرى في هذا الشأن قال:
﴿
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾
[247].
وفي الروايات المأثورة عن أهل البيت نماذج كثيرة من هذا المنهج يقف عليها المتتبع في الآثار الواردة عنهم عند الاستدلال بالآيات على كثير من الأحكام الشرعية الفرعية وغيرها.
وقد قام أحد الفضلاء باستقصاء جميع هذا النوع من الأحاديث المتضمّنة لهذا النمط من التفسير.
ولنذكر بعض النماذج من هذا المنهج.
1- سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر (عليه
السلام) عن وجوب القصر في الصلاة في السفر مع أنّه سبحانه يقول:
﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾
[248] ولم يقل افعلوا؟ فأجاب الإمام (عليه
السلام) بقوله:
« أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ في الصفا والمروة:
﴿
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ
أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾
[249] ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض»
[250].
2- روى
المفيد
في
إرشاده أنّ عمر أُتي
بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهمَّ
برجمها فقال له أمير
المؤمنين
(عليه السلام):
«إن
خاصمتك
بكتاب الله
خصمتك، إنّ الله
تعالى يقول: ﴿ وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً ﴾
[251].
ويقول:
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن
يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾
[252] فإذا تم،
أتمّت
المرأة
الرضاع
لسنتين، وكان حمله
وفصاله
ثلاثين
شهراً كان
الحمل منها ستة أشهر»، فخلّى عمر سبيل المرأة
[253].
3- يقول سبحانه:
﴿
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾
[254].
فالآية تدل على أنّ القرآن نزل في ليلة مباركة، وأمّا أيّة ليلة تلك، وفي أي شهر فيستفاد من ضم آيتين أُخريين، يقول سبحانه:
﴿ إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾
[255] وقوله سبحانه:
﴿
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾
[256] فمن ضم هذه الآيات الثلاثة يستفاد أنَّ القرآن في ليلة مباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان.
4- يقول سبحانه:
﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
[257].
غير أنَّ حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه يعلوه إبهام يفسره، قوله سبحانه:
﴿
وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ
أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
[258].
فإنساء الذات الذي هو فعله تعالى عبارة عن حيلولته بين المرء وقلبه، ومن نسي ذاته فقد أهلك نفسه.
5- يقول سبحانه:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا
نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ
يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
[259]
ولا شكّ أنَّ الأرض لا تنقص بل ربما تزيد كالسماء في قوله سبحانه:
﴿
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾
[260]، ولكن يرتفع الإبهام بآية أُخرى حيث أطلق وأُريد منها البلد العامر، يقول:
﴿
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ
يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ
خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
[261] فإنَّ المراد من الأرض هو البلد العامر الذي يقطن فيها المحارب فينفى منها ليعيش بين البراري والقفار.
وأمّا النقص فتفسره السنّة، كما ورد عن الإمام الصادق
(عليه السلام) حيث قال:
« فقد العلماء » وفي حديث
آخر: « موت علمائها
»
[262].
6- يقول سبحانه:
﴿
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.[263]
فقد أطلق اليد وأبهم المراد منه حيث إنّها تطلق على خصوص الأصابع، على خصوص الكف وعليه إلى المرافق، وإلى الكتف، فيرفع الإبهام بقوله سبحانه:
﴿
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ
أَحَداً ﴾
[264]
حيث إنّ المستفاد منه على أنّ مواضع السجود لله، وراحة الكف من مواضع السجود، وما كان لله لا يقطع.
7- يقول سبحانه:
﴿
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
[265] ، فالآية تدلّ على كرامة الإنسان، بحيث أُهل لحمل الأمانة.
وأمّا ما هو المراد من تلك الأمانة فيفسرها قوله سبحانه:
﴿
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
[266]، فخلافة الإنسان عن الله سبحانه هي الأمانة التي وصفها الله سبحانه على عاتق الإنسان، فبما أنَّه خليفة لله سبحانه يجب أن يكون بصفاته وأفعاله مظهراً لصفات الله وأسمائه وأفعاله.
إلى غير ذلك من الآيات التي يفسر بعضها بعضاً من دون رأي مسبق.
أقول: هذا النمط من التفسير كما يتحقّق بالتفسير الموضوعي، أي تفسير القرآن حسب الموضوعات، يتحقّق بالتفسير التجزيئي، أي حسب السور، سورة بعد سورة، وهذا هو تفسير
« الميزان » كتب على نمط تفسير القرآن بالقرآن، لكن على حسب السور، دون الموضوعات، فبيّن إبهام الآية بآية أُختها.
ولكن الصورة الكاملة لهذا النمط من التفسير يستدعي الإحاطة بالقرآن الكريم، وجمع الآيات الواردة في موضوع واحد، حتى تتجلّى الحقيقة من ضمِّ بعضها إلى بعض، واستنطاق بعضها ببعض، فيجب على القائم بهذا النمط، تفسير القرآن على حسب الموضوعات، وهو نمط جليل يحتاج إلى عناء كثير، وقد قام العلامة المجلسي برفع بعض مشاكل هذا النمط فجمع الآيات الواردة في كل موضوع حسب الأبواب.
ولو انتشر هذا القسم من البحار في جزء مستقل ربّما يكون مفتاحاً للتفسير الموضوعي فهو
(قدس سره) قد استخرج الآيات حسب الموضوعات، وشرحها بوجه إجمالي.
ولكن النمط الأوسط منه هو قراءة القرآن من أوّله إلى آخره، والدقة في مقاصد الآيات، ثم تصنيف الآيات حسب ما ورد فيها من الأبحاث والموضوعات، ففي هذا النوع من التفسير تستخرج الموضوعات من الآيات ثم تصنّف الآيات حسب الموضوعات المستخرجة، وهذا بخلاف ما قام به العلامة المجلسي، فهو صنّف الآيات حسب الموضوعات على ضوء ما جادت بها فكرته، أو جاءت في كتب الأحاديث والأخبار.
وهذا النمط من التفسير لا يعني قول القائل:
« حسبنا كتاب الله » المجمع على بطلانه عند عامة المسلمين، لاهتمامهم بالسنّة مثل اهتمامهم بالقرآن، وإنّما يعني أنّ مشاكل القرآن ومبهماته ترتفع من ذلك الجانب.
وأمّا أنّه كاف لرفع جميع المبهمات حتى مجملات الآية ومطلقاتها فلا، إذ لا شك أنّ المجملات كالصلاة والزكاة تبيّن بالسنّة والعمومات تخصّص بها، والمطلقات تقيّد بالأخبار، إلى غير ذلك من موارد الحاجة إلى السنّة.
هذا بعض الكلام في هذا المنهج، وقد وقع مورد العناية في هذا العصر.
وإنّ تفسير ابن كثير يستمد من هذا النمط أي تفسير الآيات بالآيات بين الحين والآخر، كما أنّ الشيخ محمد عبده في تفسيره الذي حرر بقلم تلميذه اتّبع هذا المنهج في بعض الأحايين.
والأكمل من التفسيرين في اتّباع هذا المنهج هو تفسير السيد العلامة الطباطبائي (قدس
سره) فقد بنى تفسيره
«الميزان» على تفسير الآية بالآية.
غير أنّ هذه التفاسير الثلاثة كما عرفت كتبت على نحو التفسير التجزيئي، أي تفسير القرآن سورة بعد سورة لا على تفسيره حسب الموضوعات.
وعلى كل تقدير فتفسير القرآن بالقرآن يتحقّق على النمط الموضوعي كما يتحقّق على النمط التجزيئي غير أنّ الأكمل هو اقتفاء النمط الأوّل.
خلاصة الدرس
الصورة الأولى من المناهج التفسيرية النقلية:
تفسير القرآن بالقرآن.
هذا
المنهج من أسمى
المناهج
الصحيحة
الكافلة
لتبيين
المقصود من الآية كيف وقد قال
سبحانه:
﴿
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ
﴾
[267]
فإذا كان
القرآن
موضحاً لكل شيء فهو موضح لنفسه
أيضاً، كيف
والقرآن كله
«هدى» و
«بينة» و
«فرقان» و
«نور» ورد في
القرآن
الكريم وعن النبي
(صلّى الله عليه وآله):
« إنّ
القرآن
يصدّق بعضه
بعضاً ».
وقال أمير المؤمنين
(عليه السلام) في كلام يصف فيه القرآن:
« كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله ولا يخالف بمصاحبه عن الله ».
وهذا نظير تفسير المطر الوارد في قوله سبحانه:
﴿
وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ
﴾
[268]
بالحجارة الواردة في آية أخرى في هذا الشأن قال:
﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾
[269] وفي الروايات المأثورة عن أهل البيت
(عليهم السلام) نماذج كثيرة في هذا المنهج.
هذا النمط من التفسير كما يتحقق بالتفسير الموضوعي، أي تفسير القرآن حسب الموضوعات، يتحقق بالتفسير التجزيئي، أي حسب السور، سورة بعد سورة، وهذا هو تفسير
« الميزان » كتب على نمط تفسير القرآن بالقرآن، ولكن على حسب السور، دون الموضوعات، فبيّن إبهام الآية بآية أختها.
وعلى كل تقدير فتفسير القرآن بالقرآن يتحقق على النمط الموضوعي كما يتحقق على النمط التجزيئي غير أن الأكمل هو اقتفاء النمط الأول.
|
[242]
سورة النحل، الآية: 89.
[243]
سورة البقرة، الآية: 185.
[244]
سورة النساء، الآية: 174.
[245]
نهج البلاغة: الخطبة 129.
[246]
سورة الشعراء، الآية: 173.
[247]
سورة الحجر، الآية: 74.
[248]
سورة الاحزاب، الآية: 5.
[249]
سورة البقرة، الآية: 158.
[250]
الوسائل، الباب 22
من أبواب صلاة المسافر، الحديث
2.
[251]
سورة الأحقاف، الآية: 15.
[252]
سورة البقرة، الآية: 233.
[253]
نور الثقلين: 5/14؛ الدر المنثور للسيوطي: 7/441،
طبع دار الفكر بيروت.
[254]
سورة الدخان، الآيات: 1-3.
[255]
سورة القدر، الآية: 1.
[256]
سورة البقرة، الآية: 185.
[257]
سورة الأنفال، الآية:
24.
[258]
سورة الحشر، الآية: 19.
[259]
سورة الرعد، الآية: 41.
[260]
سورة الذاريات، الآية: 47.
[261]
سورة المائدة، الآية: 33.
[262]
البرهان: 2/302، رقم الحديث:
5638 / 5639.
[263]
سورة المائدة، الآية: 38.
[264]
سورة الجن، الآية: 18.
[265]
سورة الأحزاب، الآية: 72.
[266]
سورة البقرة، الآية: 30.
[267]
سورة النحل، الآية: 89.
[268]
سورة الشعراء، الآية: 173.
[269]
سورة الحجر، الآية: 74.
هذا المنهج الذي ابتكره حسب ما تدّعيه الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ أُستاذها الأمين الخولي المصري، عبارة عن استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته وعرض الظاهرة الأسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كلّه التماساً لسرّه البياني.
وحاصل هذا المنهج يدور على ضوابط، وهي:
ألف: التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن، ويبدأ بجمع كل ما في الكتاب المحكم من سور وآيات في الموضوع المدروس.
ب: ترتّب الآيات فيه حسب
نزولها، لمعرفة ظروف الزمان
والمكان كما يستأنس
بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت
المفسّر أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.
ج: في فهم دلالات الألفاظ يُقدّر أنّ العربية هي لغة القرآن، فتلتمس الدلالة اللغوية الأصلية التي تعطينا حسّ العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسّية والمجازية.
ثم يخلص لِلَمحِ الدلالة القرآنية بجمع كل ما في القرآن من صيغ اللفظ وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة وسياقها العام في القرآن كله.
د: وفي فهم أسرار التعبير يحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً، ويعرض عليه أقوال المفسّرين فيقبل منها ما يقبله النص.
هذا خلاصة هذا المنهج الذي ابتكره الأُستاذ الخولي المصري واقتفت أثره تلميذته بنت الشاطئ، فخرج من هذا المنهج كتاب باسم
« التفسير البياني للقرآن الكريم » في جزئين تناول تفسير السور التالية في الجزء الأوّل:
« الضحى، والشرح، الزلزلة، النازعات، العاديات، البلد، التكاثر » كما تناول في الجزء الثاني تفسير السور التالية:
« العلق، القلم، العصر، الليل، الفجر،
الهمزة، الماعون ».
ولا شك أنّه نمط بديع بين التفاسير، إذ لا يماثل شيئاً مما أُلّف في القرون الماضية من زمن الطبري إلى العصر الأخير الذي عُرِفَ فيه تفسير الإمام عبده وتفسير المراغي، فهذا النمط لا يشابه التفاسير السابقة، غير أنّه لون من التفسير الموضوعي أوّلاً، وتفسير القرآن بالقرآن ثانياً، والنقطة البارزة في هذا النمط هو استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده في الكتاب.
وبعبارة
أُخرى: يهتم المفسّر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضمّ بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الأصيل، وهو لا يترك هذا العمل حتى في أوضح الألفاظ.
مثلاً تتبع في تفسير قوله سبحانه:
﴿ ألَم نَشرَح لَكَ صَدرَك ﴾ كل آية ورد فيها مادة
« الشرح » بصورها، أو كل آية ورد فيها مادة
« الصدر » بصيغه المختلفة، وهكذا في كل كلمة حتى وإن كان معناها واضحاً عندنا لكنّه لا يعتني بهذا الوضوح، بل يرجع إلى نفس القرآن ثم يطبّق عليه سائر الضوابط من تدبّر سياق الآية وسياق السورة، وسياق الآية العام في القرآن كله.
والذي يؤخذ على هذا النوع من التفسير فمع أنّه أمر بديع قابل للاعتماد، غير أنّه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة، لأنّها عمومات فيها مخصّصها، أو مطلقات فيها مقيّدها، أو مجملات فيها مبيّنها.
نعم هذا النمط من التفسير يُغني عن كثير من الأبحاث اللغوية التي طرحها المفسّرون، لأنّ المفسّر في هذا النمط يريد أن يستخرج معنى اللفظ من التدبّر في النص القرآني، نعم معاجم العربية وكتب التفسير تعينه في بداية الأمر.
وربما يوجد في روايات أهل البيت
(عليهم السلام) في مواضع، هذا النوع من النمط، وهو الدقة في خصوصيات الآية وجملها ومفرداتها.
1 - روى الصدوق بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر
(عليه السلام):
ألا تخبرني من أين علمت وقلت:
إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: «يا زرارة
قاله رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ، لأنّ الله عزّ وجلّ قال: ﴿
فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أنّ يغسل، ثم قال:
﴿
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾ فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلامين فقال:
﴿
وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ أنّ المسح ببعض
الرأس
لمكان
« الباء » ثم وصل الرجلين بالرأس، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثم فسر ذلك رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) للناس فضيّعوه»
[270].
2 - روى الكليني بسند صحيح عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه
السلام) أنّه سئل عن التيمّم، فتلا هذه الآية:
﴿
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ وقال:
﴿
فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾
قال: فامسح على كفّيك من حيث موضع القطع
[271].
فقد
استظهر
الإمام في
التيمّم كفاية المسح على
الكفين بحجّة أنّه أطلق
الأيدي في آية
السرقة
والتيمّم ولم تقيّد
بالمرافق وقال:
﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً
فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ﴾
[272]
فعلم أنّ القطع
والتيمّم ليس من
المرفقين.
وأمّا التعبير عن الزند بموضع القطع ـ مع أنَّه ليس موضع القطع عند السرقة كما مرّ ـ فإنما هو لأجل إفهام مبدأ المسح بالتعبير الراسخ ذلك اليوم، أي موضع القطع عند القوم.
سأل أبو بصير أحد الصادقين
(عليهما السلام)
هل كانت صلاة النبي إلى بيت المقدس بأمر الله سبحانه أو لا؟ قال:
« نعم، ألا ترى أنّ الله تعالى يقول:
﴿
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾
[273].
خلاصة الدرس
الصورة الثانية من المناهج التفسيرية النقلية: التفسير
البياني للقرآن.
هذا المنهج الذي ابتكره حسب ما تدّعيه الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطيء أستاذها الأمين الخولي المصري وهو عبارة عن استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته وعرض الظاهرة الأسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كله التماساً لسرّه البياني.
ضوابطه هي:
1 - التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن.
2 - ترتّب الآيات فيه حسب نزولها.
3 - نتلمس الدلالة اللغوية للألفاظ من خلال اللغة العربية التي هي لغة القرآن.
4 - يحتكم إلى سياق النص في فهم أسرار التعبير في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً، ويعرض عليه أقوال المفسّرين فيقبل منها ما يقبله النص.
في هذا المنهج يهتم المفسّر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضم بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الأصيل، مثلاً التتبع في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ
نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ ﴾ كل آية ورد فيها مادة
« الشرح » بصورها، أو كل آية ورد فيها مادة
« الصدر » بصيغه المختلفة.
والذي يؤخذ على هذا النوع من التفسير فمع أنه أمر بديع قابل للاعتماد، غير أنه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة، لأنها عمومات فيها مخصّصها، أو مطلقات فيها مقيّدها، أو مجملات فيها مبيّنها.
|
[270]
الوسائل: 1، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
الآية 6 من سورة
المائدة.
[271]
الوسائل: 2،
الباب 13 من أبواب
التيمم، الحديث 2.
والآية 38 و
6 من سورة المائدة.
[272]
سورة المائدة، الآية: 6.
[273]
الوسائل: 3، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث2.والآية
143من سورة البقرة.
ففي هذا المنهج يهتّم المفسّر اهتماماً شديداً بالقراءة حتى يقف على الصحيح منها، لأنّه ينبعث عن تحريف القراءة، تحريف اللفظ القرآني المنزل، ومن ثمّ تحريف المعنى.
فالحرص على سلامة المنطق حرص على سلامة معنى النص القرآني، وصيانته من الشبهة أو التحريف.
والاهتمام بالقراءة يستدعي ـ منطقياً ـ الاهتمام بالصنعة النحوية، في النص القرآني إذ أنّ هذا الاهتمام بضبط أواخر الكلمات، إنّما يقصد أساساً إلى المعنى، فعلى المعنى يدور ضبط الكلمة وإعرابها، فالفاعل يرفع والمفعول به ينصب وما لحقه من الجر بسبب من أسبابه يجر.
فالتفات النحويين إلى إعراب القرآن كان التفاتاً طبيعياً، لأنّ الغاية من وضع النحو هو خدمة معنى القرآن وتحليته.
ففي ضوء ضبط القراءة ثم ضبط الإعراب القرآني، يتضح مفاد الآية في هذا الإطار الخاص، مضافاً إلى تحقيق مفردات الآية لغوياً، وتوضيح معانيها الأصيلة.
وعلى هذا النمط تجد التفاسير الآتية:
1 -« معاني
القرآن »: تأليف ابن زكريا يحيى بن زياد الفرّاء (المتوفّى
207 هـ)
ففسّر مشكل إعراب القرآن ومعانيه على هذا المنهج، وقد طبع الكتاب في جزئين، حقّقهما محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي.
ويبدو من ديباجة الكتاب أنّ الفرّاء شرع في تأليفه سنة (204
هـ).
والكتاب قيّم في نوعه، وإن كان غير وافٍ بعامة مقاصد القرآن الكريم.
2 -
« مجاز القرآن » لأبي عبيدة معمر بن المثنى (المتوفّى
213 هـ)
وقيل غير ذلك.
يقول
في مقدّمة الكتاب: قالوا:
إنّما أُنزل القرآن بلسان عربي ومصداق ذلك في آية من القرآن، وفي آية أُخرى:
﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ
﴾
[274] فَلم يحتج السّلف ولا الّذين أدركوا وحيه إلى النبي أن يسألوا عن معانيه، لأنّهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه، وعمّا فيه ممّا في كلام العرب من وجوه الإعراب، ومن الغريب والمعاني.
وهذا يعرب عن أنّه كان معتقداً بأنّ الإحاطة باللغة العربية، كافية في إخراج معاني القرآن وهو كما ترى.
نعم القرآن نمط من التعبير العربي لكن ليس كل تعبير عربي غنياً عن البيان، خصوصاً في مجال التشريع والتقنين الذي نرى تفصيله في السنّة.
ولا يقصد أبو عبيدة من المجاز ما يقابل الحقيقة، بل يريد ما يتوقف فهم الآية على تقدير محذوف، وما شابه ذلك، وهو على غرار
« مجازات القرآن » للشريف الرضي ـ رضوان الله عليه ـ ولكن الشريف خصّص كتابه بالمجاز بشكله المصطلح.
مثلاً يقول أبو عبيدة:
ومن
المحتمل من مجاز ما اختصر وفيه مضمر، قال:
﴿ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ
أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ ﴾
[275] فهذا مختصر فيه ضمير مجازه:
«
وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ » ثم اختصر إلى فعلهم وأضمر فيه وتواصوا أن امشوا أو تنادوا أن امشوا أو نحو ذلك.
وفي آية أُخرى:
﴿
مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ﴾
[276] فهذا من قول الكفّار، ثم اختصر إلى قول الله، وأُضمر فيه قل يا محمّد،
﴿
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ﴾
[277]
فهذا من كلام الله.
ومن مجاز ما حُذف وفيه مضمر، قال:
﴿
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ
الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾،
[278] فهذا محذوف فيه ضمير مجازه:
واسأل أهل القرية، ومَن في العير.
وقد طبع الكتاب وانتشر.
« معاني
القرآن » لأبي إسحاق الزَّجَّاج
(المتوفّى
311 هـ)
يحدّد ابن النديم تاريخ تأليف هذا الكتاب في نص قرأه على ظهر كتاب المعاني:
ابتدأ أبو إسحاق إملاء كتابه الموسوم بمعاني القرآن في صفر سنة 285
هـ وأتمّه في شهر ربيع الأوّل سنة 301
هـ.
والكتاب بعد مخطوط ومنه نسخ متفرقة في المكتبات.
« تلخيص
البيان في مجازات القرآن »:
تأليف الشريف الرضي أبي الحسن، محمد بن الحسين (359
- 406 هـ).
يقول
في أوّله: إنّ بعض الإخوان جاراني وذكر ما يشتمل عليه القرآن من عجائب الاستعارات وغرائب المجازات، التي هي أحسن من الحقائق مَعْرضاً، وأنفع للعلة معنى ولفظاً، وإنّ اللفظة التي وقعت مستعارة لو أوقعت في موقعها، لفظة الحقيقة لكان موضعها نابياً بها، ونصابها قلقاً بمركّبها، إذا كان الحكيم سبحانه لم يورد ألفاظ المجازات لضيق العبارة عليه، ولكن لأنّها أجلى في أسماع السامعين، وأشبه بلغة المخاطبين، وسألني أن أجرد جميع ما في القرآن في ذلك على ترتيب السور ليكون اجتماعه أجل موقعاً وأعم نفعاً، وليكون في ذلك أيضاً فائدة أُخرى.
(إلى أن قال) وقد أوردت في كتابي الكبير
« حقائق التأويل
في متشابه التأويل » طرفاً كبيراً من هذا الجنس، أطلتُ الكلام والتنبيه على غوامض العجائب التي فيه من غير استقصاء أوانه
[279].
وبهذا البيان امتاز نمط هذا التأليف عمّا ألّفه أبو عبيدة وأسماه بمجاز القرآن.
فالشريف يروم من المجاز القسم المصطلح، ولكنّ أبا عبيدة يروم الكلام الخارج على غير النمط العادي من حذف وتقدير وتأخير، وإضمار وغير ذلك.
خلاصة الدرس
الصورة الثالثة من المناهج التفسيرية النقلية:
تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية.
هذا المنهج يهتم المفسّر اهتماماً شديداً بالقراءة حتى يقف على الصحيح منها، لأنه ينبعث عن تحريف القراءة، تحريف اللفظ القرآني المنزل، ومن ثم تحريف المعنى.
فالحرص على سلامة المنطق حرص على سلامة معنى النص القرآني، وصيانته من الشبهة
أو التحريف، والتفات النحويين إلى إعراب القرآن كان التفاتاً طبيعياً، لأنَّ الغاية من وضع النحو هو خدمة معنى القرآن وتحليته.
ففي ضوء ضبط القراءة ثم ضبط الإعراب القرآني، يتضح مفاد الآية في هذا الإطار الخاص، مضافاً إلى تحقيق مفردات الآية لغوياً وتوضيح معانيها الأصيلة.
وعلى هذا النمط تجد تفسير
«مجاز القرآن» لأبي عبيدة معمر بن المثنى، فمثلاً من مجاز ما حذف وفيه مضمر، قال:
﴿
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ
الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾
[280] فهذا محذوف فيه ضمير مجازه:
واسأل أهل القرية، ومن في العير.
|
[274]
سورة إبراهيم، الآية: 4.
[276]
سورة البقرة، الآية: 26.
[277]
سورة البقرة، الآية: 26.
[278]
سورة يوسف، الآية: 82.
[279]
تلخيص البيان في مجازات القرآن: 2، طبع عالم الكتب.
[280]
سورة يوسف، الآية: 82.
ومن التفسير بالمنقول هو تفسير القرآن بما أثر عن النبي والأئمة المعصومين(عليهم السلام) أو الصحابة والتابعين، وقد ظهر هذا النوع من المنهج بعد رحلة النبي
(صلى الله عليه وآله)، ومن المعروفين في سلوك هذا المنهج بعد عهد الرسالة عبد الله بن عباس، وهو القائل:
ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب
(عليه السلام)
[281] وحسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن.
نعم روي عن النبي
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه دعا له بالفقه والحكمة وتأويل
القرآن
[282].
وقد ذاع هذا المنهج من القرن الأوّل إلى عصرنا هذا، فظهر بين المفسّرين من يكتفون في التفسير بالأثر المروي ولا يتجاوزون عنه، حتى أنّ بعض المفسّرين لا يذكر الآية التي لا يجد حولها أثراً من النبي والأئمة
(عليهم السلام)، كما هو ديدن تفسير البرهان للسيد البحراني، فإليك أشهر التفاسير الحديثة بين الفريقين.
فأشهر المصنّفات على هذا النمط عند أهل السنّة عبارة عن:
1- تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري
(224-310 هـ)
وهذا الكتاب أوسع ما أُلّف في هذا المجال، ومن مزايا هذا التفسير ذكر الروايات مسندة أو موقوفة على الصحابة والتابعين، وقد سهّل بذلك طريق التحقيق والتثبيت منها، نعم فيها من الإسرائيليّات والمسيحيّات ما لا يحصى كثرة.
2- ويليه في التبسط تفسير الثعلبي (المتوفّى
427 هـ)
باسم
« الكشف والبيان » وهو تفسير مخطوط، ونسخه قليلة، عسى أن يقيّض الله رجال التحقيق لإخراجه إلى عالم النور، ومؤلّفه من المعترفين بفضائل أهل البيت
(عليهم السلام)، فقد روى نزول كثير من الآيات في حقّ العترة الطاهرة، وينقل عنه كثيراً السيد البحراني في كتبه مثل غاية المرام وتفسير البرهان.
3- تفسير الدر المنثور للسيوطي (المتوفّى911
هـ) ففيه ما ذكره الطبري في تفسيره وغيره ويبدو من كتابه
« الإتقان » أنّه جعله مقدّمة لذلك التفسير، وقد ذكر في خاتمة
« الإتقان » نبذة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أوّل الفاتحة إلى سورة الناس.
هذه مشاهير التفاسير الحديثية عند أهل السنّة، اكتفينا بذلك روماً للاختصار.
- وأمّا التفسير بالمأثور عند الشيعة، فأشهرها ما يلي:
1- تفسير محمد بن مسعود العياشي المعاصر للكليني الذي توفّي عام 329
هـ، وقد طبع في جزئين، غير أنّ ناسخ الكتاب في القرون السابقة، جنى على الكتاب جناية علمية لا تغتفر حيث أسقط الأسانيد، وأتى بالمتون، وبذلك سدّ على المحقّقين باب التحقيق.
2- تفسير علي بن إبراهيم القمي (الذي كان حياً عام 307
هـ)، وتفسيره هذا مطبوع قديماً وحديثاً، غير أنّ التفسير ليس لعلي بن إبراهيم القمي وحده، وإنّما هو تفسير ممزوج من تفسيرين، فهو ملفّق مما أملاه علي بن إبراهيم على تلميذه أبي الفضل العباس، وما رواه تلميذه بسنده الخاص، عن أبي الجارود عن الإمام الباقر (عليه
السلام).
وقد أُلّف في أواخر القرن الحادي عشر تفسيران بالمنهج المذكور، أعني بهما:
« البرهان في تفسير القرآن » للسيد هاشم البحراني (المتوفّى
1107 هـ).
و
« نور الثقلين » للشيخ عبد علي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر.
والاستفادة من التفسير بالمأثور يتوقّف على تحقيق أسناد الروايات، لكثرة تطرق الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات المروية من مسلمة أهل الكتاب إليها أو مستسلمتهم.
وهناك كلمة قيّمة لابن خلدون يقول:
إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولاعلم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُميّة، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونّات، وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم، وهؤلاء مثل: كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتُلقّيت بالقبول، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلها ـ كما قلنا ـ من التوراة أو مما كانوا يفترون.
ولأجل ذلك ترى أنّ ما أتى به الطبري في تفسيره حول قصة آدم وحواء تطابق ما جاء في التوراة.
والعجب أنّ كتب التفسير مملوءة من أقاويل هؤلاء (أي مسلمة أهل الكتاب)
ومن أخذ عنهم، من المسلمين أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك.
فهؤلاء مضافاً إلى ما ورد فيهم من الجرح والطعن في كتب الرجال المعتبرة عند أهل السنّة، كانوا يأخذون ما أثر عنهم من التفاسير من اليهود والنصارى
[283].
وأمّا ما يتراءى من نقل أقوالهم في تفاسير الشيعة كـ
« التبيان » لشيخ الطائفة الطوسي، و
« مجمع البيان » للشيخ الطبرسي، فعذرهم في نقل أقوالهم هو رواجها في تلك العصور والأزمنة بحيث كان الجهل بها نقصاً في التفسير وسبباً لعدم الاعتناء به.
وعلى كل تقدير فالتفسير بالمأثور يتوقف على توفر شرائط الحجية فيه، إلاّ إذا كان الخبر ناظراً إلى بيان كيفية الاستفادة من الآية، ومرشداً إلى القرائن الموجودة فيها، فعندئذ تلاحظ كيفية الاستفادة، فعلى فرض صحة الاستنتاج يؤخذ بالنتيجة وإن كان الخبر غير واجد للشرائط.
كما عرفت نماذج منه.
وأمّا إذا كان التفسير مبنياً على التعبّد فلا يؤخذ به إلاّ عند توفر الشرائط.
هذه هي المناهج التفسيرية على وجه الاختصار قد عرفت المقبول والمردود، غير أنّ المنهج الكامل عبارة عن المنهج الذي يعتمد على المناهج الصحيحة، فيعتمد في تفسير القرآن على العقل القطعي الذي هو كالقرينة، كما يفسر القرآن بعضه ببعض ويرفع إبهام الآية بأُختها، ويستفيد من الأثر الصحيح الذي يكون حجّة بينه وبين ربّه، إلى غير ذلك من المناهج التي مرّ بيانها.
خلاصة الدرس
الصورة الرابعة من المناهج التفسيرية النقلية:
تفسير القرآن بالمأثور عن النبي والأئمة
(عليهم السلام).
ظهر هذا النوع من المناهج بعد رحلة النبي
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن المعروفين في سلوك هذا المنهج بعد عهد الرسالة عبد الله بن عباس، وهو القائل:
ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب
(عليه السلام)، وقد روي عن النبي
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه دعا له بالفقه والحكمة وتأويل القرآن لابن عباس وهو ابن عم الرسول
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث قال له:
« اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل »
[284].
وقد ذاع هذا المنهج من القرن الأول إلى عصرنا هذا، فظهر بين المفسرين من يكشفون في التفسير بالأثر المروي ولا يتجاوزون عنه.
والاستفادة من التفسير بالمأثور يتوقف على تحقيق أسناد الروايات، لكثرة تطرق الاسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات المروية من مسلمة أهل الكتاب إليها أو مستسلمتهم.
والكامل من المناهج عبارة
عن المنهج الذي يعتمد على الصحيحة منه، فيعتمد في تفسير القرآن على العقل القطعي الذي هو كالقرينة، كما يفسر القرآن بعضه ببعض ويرفع إبهام الآية بأختها، ويستفيد من الأثر الصحيح الذي يكون حجّة بينه وبين ربّه، إلى غير ذلك من المناهج التي مرّ بيانها.
|
[281]
مناهل العرفان: 1/468.
[282]
أُسد الغابة: 3/193.
[283]
لاحظ آلاء الرحمن: 1/46.
[284]
علوم القرآن عند المفسرين: ج2 / ص 486.