دروس في مناهج التفسير

 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد

بيروت - لبنان

الطبعة الأولى، ربيع الأول 1433هـ // 2012م

الجزء الأول

الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع
الجزء الخامس الجزء السادس الجزء السابع فهرس الكتاب
 الدرس السابع: التفسير على ضوء السنن الاجتماعية 95
 الوصية للوالدين ليست منسوخة 96
 الصبر وأثره البنّاء 97
 انشقاق السماء عند اختلال نظامها 98
 موقف المنار من المعاجز والكرامات 99
 خلاصة الدرس 105
 الدرس الثامن: التفسير على ضوء العلم الحديث 107
 خلاصة الدرس 110

 

 


الدرس السابع: التفسير على ضوء السنن الاجتماعية


 

إنَّ النظرة الفاحصة في التفاسير التي ألّفت قبل القرن الرابع عشر يعرب عن أنّ الطابعَ العام لها هو تفسير الآيات القرآنية، وتبيين مفرداتها، وتوضيح جملها، وكشف مفاهيمها بمعزل عن المجتمع ومسائله ومشاكله، من دون أن يستنطقوا القرآن من أجل وضع الحلول المناسبة لمعاناتهم مع أنّ الواجب على المسلمين الرجوع إلى القرآن لمعالجة دائهم، كما يقول الإمام علي (عليه السلام): « ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أُخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم » [154].

فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم، فالحقّ أنَّ القدامى لم يولوا العناية بهذا الجانب من التفسير إلاّ شيئاً يسيراً، وأوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه هو السيد جمال الدين الأسد آبادي، فقد وجه أنظار المسلمين إلى الجانب الاجتماعي من التفسير، فقال في خطبته المعروفة: « عليكم بذكر الله الأعظم، وبرهانه الأقوم، فإنّه نوره المشرق، الذي به يخرج من ظلمات الهواجس، ويتخلّص من عتمة الوسواس، وهو مصباح النجاة، من اهتدى به نجا، ومن تخلّف عنه هلك، وهو صراط الله القويم، من سلكه هُدي، ومن أهمله غوى ».

وتبعه تلميذه ومن تربى في أحضانه، الإمام الشيخ محمد عبده، فأبدع منهجاً خاصاً للتفسير له ميزاته التالية:

1- التحرر من قيود التقليد وإعمال العقل في الأقوال والآراء المروية في الآيات، وفهم كتاب الله من دون نظر إلى مذهب إمام دون إمام على وجه يكون القرآن هو المتبع دون مذهب الإمام.

2- الاهتمام ببيان نظم الاجتماع ومشاكل الأُمّة الإسلامية خاصة، ومشاكل الأُمم عامة، وبيان علاجها بما أرشد إليه القرآن من أُصول وتعاليم.

3- التوفيق بين القرآن والنظريات العلمية على وجه لا يكون القرآن مخالفاً للعلم.

فلنأت لكلّ ميزة بمثال.

أمّا الميزة الأُولى فيكفي التأمل فيما ذكره حول آية الوصية للوالدين.


[154]  نهج البلاغة، الخطبة 158.


 

الوصية للوالدين ليست منسوخة

 

يقول سبحانه: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ [155].

قال الشيخ الطوسي: تصح الوصية للوارث مثل الابن والأبوين وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: لا وصية للوارث [156].

وقال صاحب المنار: الآية صريحة في جواز الوصية للوالدين ولا وارث أقرب للإنسان من والديه، وقد خصّهما بالذكر لأولويتهما بالوصية ثمّ عمّم الموضوع وقال: ﴿ وَالْأَقْرَبِينَ ليعم كلّ قريب وارثاً كان أم لا، غير أنَّ جمهور الفقهاء رفضوا الآية وقالوا بأنَّ الآية منسوخة بآية المواريث، ولكنَّ الإمام عبده خالف رأي الجمهور وقال: لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، فإنَّ السياق ينافي النسخ، فإنَّ الله تعالى إذا شرع للناس حكماً وعلم أنَّه مؤقت وأنَّه سينسخه بعد زمن قريب فإنَّه لا يؤكّده ولا يوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين ومن وعيد لمن بدله [157].

وهذا دليل على أنَّ الإمام نظر إلى الآية بعقلية حرة من دون أن يتبع رأي الأئمّة الأربعة وبذلك وجه لوم المتحجرين إلى نفسه كما هو شأن كلّ مصلح.


[155]  سورة البقرة، الآية: 180.

[156]  الخلاف: 2/41، كتاب الوصية، المسألة.

[157]  تفسير المنار: 2/136-137.


 

وأمّا الميزة الثانية: فالحقّ أنَّ تفسير الإمام مشحونة بهذه المباحث ولا يمكن لنا عرض معشار ما جاء في ذلك الكتاب من هذا النوع من المسائل، ولنقتصر بالمورد التالي:

الصبر وأثره البنّاء

 

يقول الإمام في تفسير قوله سبحانه: ﴿ وَتَواصَواْ بِالصَّبْرِ والصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضى بما يكره في سبيل الحقّ، وهو خلق يتعلّق به بل يتوقّف عليه كمال كلّ خُلق، وما أُوتي الناس من شيء مثل ما أُتوا من فقد الصبر أو ضعفه، كلّ أُمّة ضعف الصبر في نفوس أفرادها، ضعف فيها كلّ شيء، وذهبت منها كلّ قوة، ولنضرب لذلك مثلاً: نقص العلم عند أُمّة من الأُمم كالمسلمين اليوم، إذا دقّقت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر، فإنَّ من عرف باباً من أبواب العلم، لا يجد في نفسه صبراً على التوسع فيه، والتعب في تحقيق مسائله، وينام على فراش من التقليد هين لين، لا يكلفه مشقة، ولا يجشمه تعباً، ويسلّي نفسه عن كسله بتعظيم من سبقه، ولو كان عنده احترام حقيقي لسلفه، لاتّخذهم أُسوة له في عمله، فحذا حذوهم، وسلك مسلكهم، وكلّف نفسه بعض ما حمّلوا أنفسهم عليه واعتقد كما كانوا يعتقدون أنَّهم ليسوا بمعصومين [158].

وكم للأُستاذ بيانات شافية حول المحرمات كالقمار والزنا، وحول الجهاد وتحريم الربا إلى غير ذلك من الأُسس الاجتماعية في الإسلام.


[158]  تفسير جزء عمّ، تفسير سورة العصر.


 

وأمّا الميزة الثالثة فنقتصر بالمورد التالي:

 

انشقاق السماء عند اختلال نظامها

 

يذكر في تفسير قوله سبحانه: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾ انشقاق السماء مثل انفطارها الذي مر تفسيره في سورة ﴿ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ﴾ وهو فساد تركيبها واختلال نظامها عندما يريد الله خراب هذا العالم الذي نحن فيه، وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجر إليها سير العالم، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام، يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره [159].

وهذه الأمثلة نقلناها من تفسيره المعروف لجزء عمّ، ذلك التفسير الذي ألفه بقلمه بمشورة من بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية ليكون مرجعاً لأساتذة مدارس الجمعية في تفهيم التلاميذ معاني ما يحفظونه من سور هذا الجزء، وعاملاً للإصلاح في أعمالهم وأخلاقهم، وقد أتمّ الاستاذ تفسير هذا الجزء سنة 1321 هـ وهو ببلاد المغرب.

وأمّا الدروس التي ألقاها الإمام فقد ابتدأ بأوّل القرآن في غرة محرم سنة 1317هـ، وانتهى عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلِهَِا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً [160].

في منتصف محرم سنة هـ، إذ توفّي (رحمه الله) لثمان خلون من جمادى الأُولى من السنة نفسها. وقد أملى الأُستاذ هذه الدروس على تلاميذه.

ومع الأسف إنَّ ما أملاه الإمام لم ينشر على وفق ما أملاه بلا تصرف بزيادة أو نقيصة، فإنَّ تلميذه السيد محمد رشيد رضا لمّا كتب تفسيره المسمّى بتفسير « المنار » أدخل فيه ما كتبه عن أُستاذه من آراء وأقوال ومزجها بآرائه وأفكاره، ولذلك لا يمكن أن ينسب كلّ ما فيه إلى الإمام إلاّ إذا صرح الكاتب به.

 وعلى كلّ حال فقد ابتدأ التلميذ بأوّل القرآن وانتهى عند قوله تعالى من سورة يوسف ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [161].

ثمّ وافته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن.


[159]  تفسير جزء عمّ، ص 49.

[160]  سورة النساء، الآية: 126.

[161]  سورة يوسف، الآية: 101.


 

موقف المنار من المعاجز والكرامات

 

قد تعرّفت على المزايا الإيجابية لتفسير المنار، وما فيه من اهتمام بالغ بتفسير القرآن وفق المعايير الاجتماعية السائدة على الحياة.

بيد أنَّ التفسير المذكور لا يخلو من سلبيات في موارد وأخصّ بالذكر المعاجز والكرامات، فقد حاول في كثير من الآيات المشتملة على هذا النوع من خوارق العادات، أن يخرجها عن طابعها الغيبي ويصبغ عليها الطابعَ المادي والذي دفع المصنّف إلى هذا النوع من التفكير هو انبهاره بالحضارة الغربية المادية حينما نفي أوائل القرن الرابع عشر الهجري وألقى رحل الإقامة في منفاه (باريس)، شاهد عن كثب تقدّم العلوم الطبيعية وازدهارها في مختلف المجالات وصار العلم يقيناً لكلّ ظاهرة علة مادية دون أن ينسبها إلى عوامل غيبية من الجن والملك.

وقد دفع ذلك، الأُستاذ إلى محاولة الجمع بين الدين والعلم من خلال تفسير الخوارق بالأسباب الطبيعية على نحو يخرجها عن كونها أمراً خارقاً للعادة، وقد تأثر بهذا المنهج كثير من تلامذته وهذه المحاولة ـ في الحقيقة ـ إخضاع الوحي للعلوم الطبيعة وتفسير له من هذا المنظار.

وها نحن نذكر في المقام نماذج من هذه التأويلات ونقتصر من أجزاء المنار على الجزء الأوّل، كما نقتصر منه على بعض ما ذكره في تفسير سورة البقرة ونُحيل الباقي إلى القارئ الكريم.

1- ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [162].

كتب ما يلي:

إنَّ السلف من المفسّرين ـ إلاّ من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله: ﴿ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيّين.

وإنّما نسب هذا المعنى إلى السلف، لأنّه يصطدم بالمنهج الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن، حيث لا تصدقه أنصار الحضارة المادية الّذين ينكرون إمكان صيرورة إنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة، ولأجل ذلك مال الأُستاذ إلى رأي مجاهد الذي قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثّلوا بالقردة كما مثّلوا بالحمار في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [163].

ثم أخذ في نقد قول الجمهور ـ إلى أن قال: فما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة [164].

ولا يخفى أنّه إذا صحّ هذا التأويل، فيصح لكل من ينكر المعاجز والكرامات وخوارق العادات هذا النمط من التأويل، وعندئذ تبطل المعارف ويكون الكتاب العزيز لعبة بيد المحرّفين.

2- نقل صاحب المنار عن بعض المفسّرين مذهباً خاصاً في معنى الملائكة وهو أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات، وخلقة حيوان، وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أنّ هذا النمو في النبات لم يكن إلاّ بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلّي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنّما قوامه بروح إلهي، سُمِّي في لسان الشرع ملكاً ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمّي هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلاّ ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.

وقال الإمام عبده بعد نقل نظير هذه التأويلات: ولو أنّ نفساً مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس على ما أبصرت من الحق.

ولا يخفى أنّ هذا التأويل لو صحّ في بعض الأحاديث لما صحّ في الملائكة الواردة في قصة آدم وغيرها، وما هذا التأويل إلاّ للخضوع للمنهج الخاص الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن.

3- يقول سبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [165].

المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت، والخطاب لليهود المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله) باعتبار أحوال أسلافهم، ولا يفهم أيّ عربي صميم من لفظة ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾، غير هذا إلاّ أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل، أي أنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون، بارك الله في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها [166].

ولم يكن هذا التفسير من الأُستاذ إلاّ لأجل أنَّ الاعتراف بالإحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسي والتجربة، فلأجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى، وما أظن أنَّ الأُستاذَ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية في القرآن الكريم.

4- أمر سبحانه بني إسرائيل بذبح البقرة، وقال ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ إلى أن قال: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [167].

ومجمل القصة هو أنَّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه، وأخفى قتله له، فرغب اليهود في معرفة قاتله، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعض البقرة فإنّه يحيى، ويخبر عن قاتله. وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية، وهو صريح قوله سبحانه: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾.

وأمّا الأُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة، فهو بعد أن نقل رأي الجمهور، قال: قالوا: إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة، وقال: قتلني أخي، أو ابن أخي فلان، قال: والآية ليست نصاً في مجمله فكيف بتفصيله؟

ثمّ فسر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله، فالواجب أن تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي، ويقولون: إنَّ أيديَنا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل، ويُتِمُّون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء.

ثمّ قال: وهذا الإحياء على حد قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [168] ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس [169].

وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾، فهل كان في غسل الأيدي على البقرة المكسورة العنق، ضرب المقتول ببعض البقرة ؟! هذا أوّلاً.

وأمّا ثانياً: كيف استند الأُستاذ ـ في تفسير الآية الحاضرة ـ بما ورد في التوراة، مع أنّ المشهور منه أنَّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة، ويصفها بالإسرائيليات والمسيحيات، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرفة ؟!

وليس هذا التفسير ـ في حقيقته ـ إلاّ لأجل ما اتخذه الأُستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات، وخوارق العادة، وغير ذلك ممّا يرجع إلى عالم الغيب.

5- قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [170].

ذهب الجمهور إلى أنَّهم قوم من بني إسرائيل فرُّوا من الطاعون أو من الجهاد فأرسل عليهم الموت، فلمّا رأوا أنَّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً منه، فأماتهم الله جميعاً وأمات دوابَّهم ثمّ أحياهم لمصالح وغايات أشير إليها في الآية.

لكنَّ الأُستاذَ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل، وأنَّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف، فقال لهم الله موتوا موت الخزي والجهل، والخزي موت والعلم وإباء الضيم حياة، فهؤلاء ماتوا بالخزي ثمّ أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في أمرهم.

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة « المثل » كما هو دأبه سبحانه في الأمثال القرآنية، مثل قوله: ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [171].

وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ [172].

وقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [173].

فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية، تفسير بلا شاهد، وتأويل بلا دليل.

 

خلاصة الدرس


 الصورة الثالثة من المناهج التفسيرية العقلية: التفسير على ضوء السنن الاجتماعية:

 التفاسير التي ألفت قبل القرن الرابع عشر تعرب عن أن الطابع العام لها هو تفسير الآيات القرآنية، وتبيين مفرداتها، وتوضيح جملها، وكشف مفاهيمها بمعزل عن المجتمع ومسائله ومشاكله، من دون أن يستنطقوا القرآن من أجل وضع الحلول المناسبة لمعاناتهم مع أنَّ الواجب على المسلمين الرجوع إلى القرآن لمعالجة دائهم كما يقول الامام علي (عليه السلام): « ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه: ألا إنَّ فيه علم ما يأتي: والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم » فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم، فأول من فتح هذا الباب على مصراعيه هو السيد جمال الدين الأسد آبادي (قدس سره) وتبعه تلميذه الإمام الشيخ محمد عبده (رحمه الله) فاتبع منهجاً خاصاً للتفسير له ميزاته التالية:

 - التحرر من قيود التقليد وأعمال العقل في الأقوال والآراء المروية في الآيات، وفهم كتاب الله على وجه يكون هو المتبع دون مذهب الإمام.

 - الاهتمام ببيان نظم الاجتماع ومشاكل الأمة الإسلامية.

 - التوفيق بين القرآن والنظريات العلمية.

 وقد ذكرت الأمثلة على الإهمال لهذا التوجه في التفسير كمسألة الوصية للوالدين، والصبر وأثره البناء وغير ذلك فراجع.

 


[162]  سورة البقرة، الآيات: 65-66.

[163]  سورة الجمعة، الآية: 5.

[164]  تفسير المنار: 1/343-354.

[165]  سورة البقرة، الآيات: 55-56.

[166]  تفسير المنار: 1/322.

[167]  سورة البقرة، الآية: 67-73.

[168]  سورة البقرة، الآية: 179.

[169]  تفسير المنار: 1/345-350.

[170]  سورة البقرة، الآية: 243.

[171]  سورة البقرة، الآية: 243.

[172]  سورة البقرة، الآية: 17.

[173]  سورة يونس، الآية: 24.


 

 


الدرس الثامن: التفسير على ضوء العلم الحديث


 

ومن المولعين بهذا النمط من التفسير الشيخ طنطاوي جوهري (1287-1358هـ) في كتابه المعروف « الجواهر في تفسير القرآن » وهو يهتم بهذا النمط، قائلاً بأنّ في القرآن من آيات العلوم ما يربو على 750 آية في حين أنَّ علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على 150 آية.

ثمّ إنّه يهيب بالمسلمين أن يتأمّلوا في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون ويحثّهم على العمل بما فيها ويندد بمن يغفل عن هذه الآيات على كثرتها، وينعى على من أغفلها من السابقين الأوّلين ووقف عند آيات الأحكام وغيرها ممّا يتعلق بأُمور العقيدة.

ثمّ إنّ الشيخ الذهبي قد ذكر نماذج من هذا النوع من التفسير استخرجها من دراسة هذا التفسير وقال: إنّا لنجد المؤلف (رحمه الله) يفسر آيات القرآن تفسيراً علمياً يقوم على نظريات حديثة وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل ثمّ قال: وإليك بعض ما جاء في هذا التفسير.

1- يقول سبحانه: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [174] وقوله سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [175] والشيخ طنطاوي يفسر الآيتين ونظائرهما بما أثبته العلم.

يقول: أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدي في آياتنا الحاضرة، هو نفس الذي صرح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما في البواطن بل هو القائل للإنسان: ﴿ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [176].

والقائل: ﴿ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [177] أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أنّ من الدلائل ما ليس بالبينات المشهورة عند المسلمين؟ وأنَّ هناك ما هو أفضل منها؟ وهي التي يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أنَّ الأيدي فيها أسرار، وفي الأرجل أسرار، وفي النفوس أسرار، فالأيدي لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم أو ليس في الحق أن أقول: إنّ هذا من معجزات القرآن وغرائبه؟ وإلاّ فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها [178].

2- يقول سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [179].

فقد فسر القدماء فتق السماء بنزول المطر وفتق الأرض بخروج النبات غير أنَّ الشيخ طنطاوي يفسره بما يوحي إليه العلم الحديث، يقول: ها أنت قد اطّلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين، من أنّ السماوات والأرض أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم، كانت ملتحمة فصلها الله تعالى، وقلنا: إنَّ هذه معجزة، لأنّ هذا العلم لم يعرفه الناس إلاّ في هذه العصور، ـ إلى أن قال: ـ كأنّه يقول: سيرى الذين كفروا أنَّ السماوات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما، فهو وأنْ ذكرها بلفظ الماضي فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللهِ ﴾ وهذه معجزة تامة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا [180].

3- يذكر في تفسير قوله سبحانه: ﴿ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [181] قوله: والمارج المختلط بعضه ببعض، فيكون اللهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أنَّ الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللهب مختلطات، ولقد ظهر في الكشف الحديث انّ الضوء مركب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه. فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى انّ اللهب مضطرب دائماً، وإنّما خلق الجن من ذلك المارج المضطرب، إشارة إلى أنَّ نفوس الجان لا تزال في حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها إذ أفادتهم أنَّ الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة، أمّا الروح الناقصة فإنّها تكون قلقة مضطربة [182].

هذه النماذج ونظائرها استخرجها الأُستاذ الذهبي من تفسير الشيخ طنطاوي، وأعقبها بقوله:

والكتاب ـ كما ترى ـ موسوعة علمية، ضربت في كلّ فن من فنون العلم بسهم وافر، ممّا جعل هذا التفسير يوصف بما يوصف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه (فيه كلّ شيء إلاّ التفسير) بل هو أحقّ من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلّ الكتاب على شيء، فهو أنَّ المؤلف كان كثيراً ما يسبح في ملكوت السماوات والأرض بفكره، ويطوف في نواح شتى من العلم بعقله وقلبه، ليجلي للناس آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، ثمّ ليظهر لهم بعد هذا كلّه أنَّ القرآن قد جاء متضمناً لكلّ ما جاء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكلّ ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقاً لقول الله تعالى في كتابه: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه [183].

ويلاحظ على ذيل ما ذكره الذهبي أنَّ المراد من « الكتاب » في الآية هو الكتاب التكويني لله سبحانه، لا التدويني، يظهر ذلك لمن أمعن في الآية وسياقها.

 

خلاصة الدرس


 الصورة الرابعة من المناهج التفسيرية العقلية: التفسير على ضوء العلم الحديث.

 يعتبر الشيخ طنطاوي جوهري من المولعين بهذا النمط من التفسير، يقول عنه الشيخ الذهبي أنه يفسر آيات القرآن تفسيراً علمياً يقوم على نظريات حديثة وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل ومثّل ببعض الآيات وتفسيرها كقوله سبحانه: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [184]، فقد فسرها بما أثبته العلم. واعتبر أن شهادة الأيدي والأرجل أفضل من البينات المشهورة بين المسلمين، وهي التي يحكم بها الله فاحكموا بها.

 


 

[174]  سورة النور، الآية: 34.

[175]  سورة يس، الآية: 65.

[176]  سورة الاسراء، الآية: 14.

[177]  سورة القيامة، الآية: 14.

[178]  الجواهر: 3/9.

[179]  سورة الأنبياء، الآية: 30.

[180]  الجواهر: 10/ 199.

[181]  سورة الرحمن، الآية: 15.

[182]  الجواهر: 17/24.

[183]  التفسير والمفسرون: 2/517.

[184] سورة النور، الآية: 24.