قسّم الأُصوليون دلالة الكلام على معناه إلى: دلالة قطعية، ودلالة ظنية، فوصفوا دلالة النصوص على معانيها بالدلالة القطعية التي لا يحتمل خلافها، ودلالة الظواهر دلالة ظنية تقابل الأُولى.
هذا من جانب، ومن جانب آخر أنَّ نصوصَ القرآن بالنسبة إلى الظواهر أقل، وبذلك أصبحت دلالة القرآن على مضامينها دلالة ظنية لا قطعية.
ولأجل وصف دلالة الظواهر على مقاصدها بالظنية، سَهُل التصرف في القرآن الكريم بحجج عقلية أو علمية بحجّة أنَّ دلالة القرآن ظنية لا تقاوم الحجج الفعلية والبراهين العلمية.
ولكن وصف دلالة الآيات بالظنية يوجب كون القرآن حجّة ظنية ومعجزة غير قطعية مع أنّ الإعجاز يقوم على أساس من القطع واليقين.
فالإعجاز البياني قائم على جمال اللفظ وأناقة الظاهر من جانب، وجمال العرض وسموّ المعنى وعلوّ المضمون من جانب آخر، فلو كانت دلالة القرآن على الجانب الآخر ـ أي المعنى ـ دلالة ظنية يُصبح القرآن معجزة ظنية تبعاً لأخسّ المقدّمتين، وهذا من النتائج السلبية لتقسيم دلالة القرآن إلى القطعي والظنّي ولا يلتزم به أحد إذا أمعن، ومع ذلك فنحن نعتقد ـ غير هذا ـ بأنّ دلالة الظواهر كالنصوص على معانيها دلالة قطعية لا ظنية، وذلك بالبيان التالي:
إنّ أساس المحاورة بين الناس هو القطع بالمراد من ظواهر الكلام لا الظن به، وإلاّ لما قام صَرْح الحياة.
كيف لا يكون كذلك فإنَّ ما يتفوّه به الطبيب يتلقّاه المريض مفهوماً واضحاً لا تردّد فيه، وما يتلقّاه السائل من الجواب من خبير يسكن إليه السائل بلا تردّد.
ومع ذلك فكيف يُدّعى أنَّ ظواهر الكتاب والسنّة أو ما دار بين النبي
(ص) والسائل هي ظواهر ظنّية؟!
إنَّ القضاء الحاسم في أنَّ كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظنّي؟ يتوقّف على بيان المهمّة الملقاة على عاتق الظواهر وما هي رسالتها في إطار المحاورة، فلو تبيّن ذلك لسهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظنّي.
فنقول: إنَّ للمتكلّم إرادتين:
1 - إرادة إستعمالية، وهي استعمال اللفظ في معناه، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب، سواء أكان المتكلّم جادّاً أم هازلاً أم مورّياً أم غير ذلك، سواء أكان المعنى حقيقياً أو مجازياً.
2 - إرادة جدية، وهي أنَّ ما استُعْمل فيه اللفظ مراد له جداً، وما هذا إلاّ لأنّه ربما يفارق المراد الاستعمالي، المراد الجدي، كما في الهازل والمورّي والمقنّن الذي يُرتِّب الحكم على العام والمطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص والمقيد، ففي هذه الموارد تغاير الإرادةُ الجدية الإرادةَ الاستعمالية، إمّا تغايراً كليّاً كما في الهازل والمورّي واللاغي، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص، أو المطلق الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.
وعلى ضوء ذلك فيجب علينا أن نحلّل أمرين:
الأوّل: ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟
الثاني: ما هو السبب لتسميتها ظنوناً؟
أمّا الأوّل: فالوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني التي تعلّقت بها الإرادة الاستعماليّة في ذهن المخاطب سواء أكانت المعاني حقائق أم مجازات، فلو قال: رأيت أسداً، فرسالته إحضار أنَّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس، وإذا قال: رأيت أسداً في الحمام، فرسالته إحضار أنَّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه، فكشف الجملة في كلا الموردين عن المراد الاستعمالي كشف قطعي وليس كشفاً ظنيّاً، وقد أدّى اللفظ رسالته بأحسن وجه. وعلى ذلك لا تصحّ تسميته كشفاً ظنياً، اللهمّ إلاّ إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعنى الاستعمالي بوجه متعيّن، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث والكلام في الظواهر لا في المجملات.
وأمّا الثاني: أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً، فإنّه يتلخص في الأُمور التالية:
1 - لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في أيّ معنى.
2 - أو استعمل في المعنى المجازي ولم ينصب قرينة.
3 - أو كان هازلاً في كلامه.
4 - أو مورّياً في خطابه.
5 - أو لاغياً فيما يلقيه.
6 - أو أطلق العام وأراد الخاص.
7 - أو أطلق المطلق وأراد المقيّد.
إلى غير ذلك من المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي على وجه القطع.
ولكن أُلفت نظر القارئ إلى أُمور ثلاثة لها دور في المقام:
1 - إنَّ علاج هذه الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتى يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي لأجلها بالظنيّة، وذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلاّ شيء واحد، وهو إحضار المعاني في ذهن المخاطب، وأمّا الاحتمالات المذكورة وكيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتى يوصف كشفها لأجلها، بأنّ دلالتها ظنيّة.
2 - إنَّ بعض هذه الاحتمالات موجود في النصوص، فاحتمال كون المتكلم لاغياً، أو هازلاً، أو مورّياً أو متّقياً، أو غير ذلك من الاحتمالات موجود فيها، ومع ذلك نرى أنّهم يعدّونها من القطعيات.
3 - إنَّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها، ككون الأصل، هو كون المتكلّم في مقام الإفادة، لا الهزل ولا التمرين، بدافع نفسي، لا بدافع خارجي كالخوف وغيره.
وقد عرفت أنَّ الحياة الاجتماعية مبنيّةٌ على المفاهمة بالظواهر، ففي مجال المفاهمة والتفاهم بين الأُستاذ والتلميذ والبائع والمشتري والسائس والمسوس، يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم على المراد الاستعمالي والجدي دلالة قطعية لا ظنيّة، لأجل عدم الالتفات إلى تلك الاحتمالات وانسحابها عن الأذهان.
نعم إذا كان هناك إبهام أو إجمال، أو جرت العادة على فصل الخاص والقيد عن الكلام، يكون الكلام إمّا غير ظاهر في شيء أو يكون حجّية الظهور معلّقاً على عدم ورود دليل على الخلاف كما في مورد العام والمطلق.
وبذلك خرجنا بأنَّ كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي، بل المراد الجدي، على ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة، كشف قطعي ولا يُعرَّج إلى تلك الشكوك.
إذا كان الأخذ بظواهر الكلام أمراً لازماً في الذكر الحكيم والسنّة القطعية، فكيف تُفسّر الصفات الخبرية التي تدلّ بظواهرها على التجسيم والتشبيه تعالى عن ذلك علواً كبيراً؟
فهل يمكن لنا الأخذ بظاهر قوله سبحانه:
﴿
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
﴾
[85]، فظاهر الآية يدلّ على أنّه سبحانه بنى السماء بأيديه وأنَّ له يداً كالإنسان، كما أنّ ظاهر قوله سبحانه
﴿
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
﴾
[86]
أنَّه سبحانه استقر على عرشه وسريره، فالقول بلزوم الأخذ بالظواهر يستلزم حمل هذه الآيات على ظواهرها المنبئة عن التجسيم والجهة؟
هذا هو السؤال المطروح في المقام، وللإجابة عنه، نقول:
قد عرفت أنَّ الضابطة الكلية، أعني:
لزوم الأخذ بظاهر الكتاب والسنّة القطعية، أمر لا يمكن النقاش فيها، ولا يصحّ استثناء آية من تلك الضابطة بعدَ تشخيص الظاهر عن غيره، فلو تبيّن بالدلائل القطعية ما هو الظاهر يجب اتّباعه، لكن الكلام في تعيين الظاهر، وتمييز الظهور التصديقي عن الظهور التصورّي، والظهور البدوي عن الظهور النهائيّ، ومثل هذا لا يتحقق إلاّ بالتأمّل والإمعان في نفس الآية الكريمة وما اختصّ بها من القرائن اللفظية، فعندئذ يتميّز الظاهر عن غيره فيجب الأخذ به بلا كلام.
والتجسيم والتشبيه إنّما هو في الظهور البدوي، دون الظهور النهائي بعد الإمعان في الآية.
وما ربما يتصوّر من أنّ أهل العدل والتنزيه يحملون الآيات الواردة فيها الصفات الخبرية على خلاف ظواهرها، فهو كلام غير صحيح، فإنّهم لا يأخذون بالظهور التصوّري أو الظهور البدوي للآيات، وأمّا الظهور التصديقي أو الاستقراري فيأخذونه بتمامه، ولا يحملونها على غير ظاهرها.
ولتمييز الظهور الجزئي عن الظهور الجملي، والتصوّري عن التصديقي نأتي بمثالين:
1- إذا قلت: رأيت أسداً في الحمام، فلفظة
« أسد » وحدها ظاهرة في الحيوان المفترس ولكنّها بظهورها الجملي ظاهرة في الرجل الشجاع، فلو قيل: إنّ الجملة حملت على خلاف ظاهرها، فإنّما يصحّ بالنسبة إلى ظهور جزء من الكلام، أعني:
الأسد دون المجموع، فاللازم للأخذ هو الظهور الجملي لا الجزئي.
2- إذا قلت: زيد كثير الرماد، فالظهور البدوي أنَّ بيت زيد غير نظيف ولكنّه ظهور بدوي، فإذا لوحظ أنَّ الكلام ورد في مقام المدح يكون قرينة على أنّ المراد لازم المعنى وهو الجود؛ فلو قيل بأنّ الكلام حمل على خلاف ظاهره، فإنّما هو بحسب ظهوره البدوي لا الاستقراري، فالذي يجب الأخذ به هو الظهور الجملي لا الحرفي، والظهور المستقر لا البدوي.
وعلى ذلك فحمل الجملة الأُولى على الحيوان المفترس والثانية على الجود أخذ بالظاهر وليس فيه شائبة تأويل، ومن يرمي هذه التفاسير بالتأويل فهو لا يفرق بين الظهورين:
البدوي والاستقراري.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الآيات الحاكية عن الصفات الخبرية إذا لوحظت مع القرائن المحتفة بالكلام، يتبيّن الظهور التصوّري عن التصديقي والابتدائي عن الاستقراري، ويتبين أنَّ هذه الآيات غنية عن التأويل بمعنى:
حمل الظاهر التصديقي على خلاف ظاهره،
وأنّ دلالتها على معانيها قطعيّة لكن بالشرط الذي ذكرناه.
ولأجل توضيح ذلك نفسر الآيات التي ورد فيها لفظ اليد حتى يتضح أنَّ تلك الآيات ليست بحاجة إلى التأويل بهذا المعنى، أي حمل الظاهر على خلافه، ويكون مقياساً لسائر الآيات التي ربما يكون ظاهرها البدويّ، موهماً خلاف التنزيه.
1- يقول سبحانه
﴿
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ
﴾
[87].
فنقول: إنّ اليد في الآية استعمل في العضو المخصوص ولكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم، فقوله سبحانه:
﴿ مَا
مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
﴾
كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له، بحجة أنّه لا صلة له بي، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي، ونفخت فيه من روحي، فهو مخلوقي الذي قمت بخلقه، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.
فأُطلقت الخلقةُ باليد وكُنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه، وعنايته بإيجاده، وتعليمه إيّاه أسماءه، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد، يقول:
هذا ما بنيته بيدي، أو ما صنعته بيدي، أو ربيّته بيدي، ويراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل، وربما استعان فيه بعينه وسمعه وغيرهما من الأعضاء، لكنّه لا يذكرها ويكتفي باليد.
وكأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركتَ السجود لموجود اهتممت بخلقه وصنعه.
2- ﴿
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا
عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
﴾،
[88] فالمجسّمة المتعبّدة بظواهر النصوص البدوية تستدلّ بالآية على أنّ لله سبحانه أيدٍ يقوم بها بالأعمال الكبيرة، ولكن المساكين اغترّوا بالظهور التصوريّ ولم يتدبّروا في الظهور التصديقي، أخذوا بالظهور الجزئي دون الجملي، فلو كانوا مُمْعِنِين في مضمون الآية وما احتفّ بها من القرائن، لميّزوا الظهور التصديقي الذي هو الملاك عن غيره، فإنَّ الأيدي في الآية كناية عن تفرّده تعالى بخلق الأنعام وأنَّه لم يشاركه أحد فيها، فهي مصنوعة لله تعالى والناس ينتفعون بها، فبدل أن يشكروا، يكفرون بنعمته، وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود
هو المعنى
الكنائي،
والمدار في
الموافقة
والمخالفة هو الظهور
التصديقي لا
التصوري.
قال
الشريف
المرتضى
[89]:
قوله تعالى:
﴿
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
﴾
جار مجرى قوله:
« لما خلقت أنا » وذلك مشهور في لغة العرب.
يقول أحدهم: هذا ما كسبتْ يداك، وما جرت عليك يداك.
وإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل
استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام
فيقولون:
فلان لا تمشي قدمه، ولا ينطق لسانه، ولا تكتب يده، وكذلك في
الإثبات، ولا يكون للفعل رجوع إلى
الجوارح في
الحقيقة بل
الفائدة فيه النفي عن الفاعل.
قال سبحانه:
﴿
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا
بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
﴾
[90]
فاليد وإن كانت ظاهرة في العضو الخاص لكنّها في الآية كناية عن القوة
والإحكام بقرينة قوله:
«
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ » وكأنّه سبحانه يقول:
والسماء
بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء، أو
بنيناها بقدرة عظيمة
ونوسعها في الخلقة.
خلاصة الدرس
1 - إنَّ دلالة ظواهر الكتاب والسنّة القطعية على مضامينها دلالة قطعية.
2 - لا يجوز تأويل الآيات بمعنى حملها على خلاف ظاهرها إلاّ في مورد جرت السنّة فيه على إمكان إرادة خلاف الظاهر كما هو الحال في مجال التقنين والتشريع.
3 - إنَّ اللازم في الصفات الخبرية، أعني:
اليد والرجل والعين والاستواء، هو تحصيل الظهور التصديقي لا التصوّري، والظهور الجملي لا الجزئي، فعندئذ يتعبّد به ولا يعدل عنه. ولا يحتاج إلى حمل الظاهر على خلافه.
4 - إنَّ اليد في الآيات الثلاث، إمّا كناية عن قيام الفاعل بالفعل مباشرة لا باستعانة من غيره كما في الآيتين الأُوليين، أو كناية عن القدرة الخارقة.
5 - حمل الآية على خلاف ظهورها البدوي أمر لا مانع منه، لأنَّ الظهور البدوي ليس بحجّة ومخالفته لا تعد خلافاً للحجة.
وأمّا حمل الآية على خلاف ظاهرها التصديقي الذي استقر ظهور الكلام فيه أمر غير جائز مطلقاً إلاّ فيما جرت السيرة فيه، أعني:
مجال التشريع، مثل: حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص.
وما ربما يتراءى من المشايخ من
« أنّ الظواهر خفيفة المؤنة يمكن التصرف فيها » صحيح في الظهور البدوي أو الظهور الجزئي لا في الظهور الجملي والتصديقي الاستقراري.
سؤال: إذ كانت الظواهر قطعية الدلالة فما هو الوجه في اختلاف المفسرين؟
والجواب: إنَّ اختلافهم يرجع إلى الصغرى، وهي عدم وجود ظاهر في البين لأجل الاختلاف في الأُمور التالية:
1 - اختلاف القراءات.
2 - اختلاف وجود الاعراب وإن اتفقت القراءات.
3 - اختلاف اللغويين في معنى الكلمة.
4 - اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.
5 - احتمال العموم والخصوص.
6 - احتمال الإطلاق أو التقييد.
7 - احتمال الحقيقة أو المجاز.
8 - احتمال الإضمار أو الاستقلال.
9 - احتمال الكلمة زائدة.
10 - احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير.
11 - احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً.
12 - اختلاف الرواية في التفسير عن النبي
(صلى الله عليه وآله) وعن السلف (رض)
[91].
ما ذكره من وجوه
الاختلاف صحيح لكن ثمة وجه آخر
للاختلاف هو تطبيق الآية على
العقيدة التي
يعتنقها
المفسر،
فالجبري يحاول صرف الآيات الدالة على
الاختيار عن
ظاهرها، كما أنَّ
التفويضي يسعى إلى صرف ما يدلّ بظاهره على أنّ للسماء دوراً في أفعال البشر، إلى صرفها إلى خلاف ظاهرها.
وقلّما يتّفق أن يتجرّد المفسر من
معتقداته
والأُصول التي
يتبناها.
وهذا هو العامل المهم في اختلاف
المفسرين.
ثمّ إنَّ هناك وجهاً آخر للاختلاف وهو الاختلاف في الأُصول التي يجب أن يصدر عنها المفسّر.
فالشيعي الإمامي يصدر عمّا روي عن النبي وأهل بيته (عليهم السلام) بطرق خاصة ويفسر بها الآيات لا سيّما فيما يرجع إلى الأحكام، ولكن المفسّر العامي يصدر عن غير هذا المصدر فيأخذ بقول كلّ صحابي وإن أدرك النبي يوماً أو يومين أو شهراً ولم تثبت عدالته، كما أنَّ هناك من يأخذ بالإسرائيليات التي جرّت الويلات على المفسرين.
|
[85]
سورة الذاريات، الآية: 47.
[89]
أمالي المرتضى: 1 / 565.
[90]
سورة الذاريات، الآية: 47.
[91]
ابن الجوزي: التسهيل: 1 / 9.
تضافرت الروايات على النهي عن التفسير بالرأي عن النبي والآل
(عليهم السلام).
روى الصدوق بإسناده عن الإمام أمير المؤمنين
(عليه السلام) قال:
«
قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله) قال جلّ جلاله:
ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي
»
[92].
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه
السلام):
« إيّاك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء »
[93].
وروى أبو جعفر الطبري، بإسناده عن ابن عباس، عن النبي
(صلى الله عليه وآله):
« من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار »
[94].
أخرج الترمذي عن النبي
(صلى الله عليه وآله) قال:
« اتّقوا الحديث إلاّ ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار
»
[95].
إلى غير ذلك من الروايات الواردة حول النهي عن التفسير بالرأي، غير انّ الذي يجب التركيز عليه هو تحديد التفسير بالرأي، فقد اختلفت كلمتهم في تفسير هذا الموضوع إلى أقوال:
أ
- تفسير ما لا يدرك علمه إلاّ ببيان الرسول:
يظهر من الطبري أنَّه يخصُّ التفسير بالرأي بتفسير آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنص بيان الرسول، ومن أظهر مصاديقه، الآيات الواردة حول الفرائض كالصلاة والزكاة والحجّ حيث إنّ الأجزاء والشرائط والموانع رهن بيان الرسول، يقول الطبري في ذلك الصدد:
« وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحّة ما قلنا من أنّ ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنصّ بيان رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أو بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القول فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه وإن أصاب الحقّ فيه فمخطئ فيما كان من فعله بقوله فيه برأيه، لأنَّ إصابته ليست إصابة موقن أنّه محقّ وإنّما هو إصابة خارص وظانّ والقائل في دين الله بالظنّ قائل على الله ما لم يعلم، وقد حرم الله جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال:
﴿
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ ﴾
فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يُدرك علمه إلاّ ببيان رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
الذي جعل الله إليه بيانه قائل بما لا يعلم وإن وافق قوله ذلك
في تأويله ما أراد الله به من معناه، لأنّ القائل فيه بغير علم
قائل على الله ما لا علم له به »
[96].
الظاهر أنَّ ما ذكره من مصاديق التفسير بالرأي وليس التفسير بالرأي منحصراً به.
ويظهر من السيد الخوئي
(قدس سره) احتمال ذلك المعنى، قال:
« ويحتمل أنَّ معنى التفسير بالرأي، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمّة
(عليهم السلام)
مع أنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك، ولزوم الانتهاء إليهم، فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة كان هذا من التفسير بالرأي
»
[97].
ب
- إخضاع القرآن للعقيدة:
إنَّ المراد من التفسير بالرأي هو أن يكون الرأي والعقيدة المسبقة هو الملاك للتفسير، فالمفسّر ـ مكان أن يتجرد عن الآراء المسبقة ويوطِّن نفسه على ما توحيه الآية حسب الأُصول والقواعد ـ يُخضِعُ القرآنَ لعقيدته، ويعرضه عليها.
مع أنَّ القرآن حجّةُ الله على خلقه وعهده إلى عباده فيجب أن يُحتكم إليه ويصدر عن حكمه لا بالعكس.
إنّ موقف المفسّر من كلام الله موقف المتعلّم من المعلم، وموقف مجتني الثمرة من الشجرة، فيجب أن يتربص إلى أن ينطلق المعلّم في أخذ ما يلقيه، ويجتني الثمرة في أوانها وفي إيناعها، غير أنَّ هذه الأدوار تنعكس حين التفسير بالرأي.
ومن هذه المقولة دعم أرباب الملل والنحل آراءهم وحججهم بالقرآن مع أنّ لهم آراء متضاربة، والقرآن لا يعترف إلاّ بواحد منها، وما ذلك لأنّهم يصدرون عن التفسير بالرأي ولا يحتكمون إلى القرآن بل ـ مكان عرض عقيدتهم على القرآن ـ يعرضون القرآن على العقيدة ويطبقونه عليها.
ج
- تفسير القرآن بغير الأُصول الصحيحة:
تفسير القرآن بغير الأُصول والقواعد التي يتوقف التفسير عليها، من مقولة التفسير بالرأي، فإنَّ لتفسير كلّ كلام ـ إلهياً كان أم بشرياً ـ أُصولاً لا يعرف المراد من غيره إلاّ في ظلها، وقد عرفت تلك المقدّمات عند البحث في ما يهمّ المفسّر.
وقد أُريد الوجهان من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي، وقد اختارهما لفيف من المحقّقين، نذكر ما يلي:
قال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (المتوفّى
671 هـ) ـ بعد نقل روايات ناهية عن التفسير بالرأي ـ إنّ النهي يحمل على أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما يلوح له من القرآن ذلك المعنى.
وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أنَّ ليس المراد من الآية ذلك، ولكن مقصوده أن يُلبس على خصمه، وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجِّح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسّر برأيه، أي رأيه حملَه على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.
الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير، فمن لم يُحكِّم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لا بدّ له منه في ظاهر التفسير ليتقِ به مواضع الغلط، ثمّ بعد
ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلاّ
بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام
الظاهر
[98].
وقد اختار ابن عاشور (المتوفّى عام
1284 هـ) هذا المعنى، فذكر للتفسير بالرأي هذين الوجهين، أيضاً وقال:
الأوّل: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويُرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه، ويمنعه عن فهم القرآن حقّ فهمه ما قيّد عقله من التعصّب، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه.
الثاني: إنَّ
المراد بالرأي هو القول عن مجرّد خاطر دون استناد إلى نظر في
أدلّة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بدّ منه من
معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد
أخطأ في تصوره بلا علم
[99].
فعلى ذلك التفسير بالرأي يتلخص في أمرين:
الأوّل: أن يتوخَّى من تفسير القرآن دعم عقيدته ورأيه المُسْبَق حتى يحتج بالآية على الخصم أو يبرر به عمله، ففي ذلك الموقف ينظر المفسّر إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر دعم موقفه وعقيدته ومذهبه.
الثاني: الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن من دون أن يقتفيَ الأُسلوبَ الصحيح في تفسير القرآن حسب ما قدمناه عند البحث في مؤهلات المفسّر.
ويظهر أن السيد الطباطبائي قد خص التفسير بالرأي بالقسم الثاني ببيان آخر وهو أنّ كلام الله سبحانه لرفع مستواه لا يُفسّر كما يفسّر به كلام الإنسان حيث قال:
إنّ الاضافة في قوله
« برأيه » يفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال، بأن يستقل المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فإنَّ قطعة من الكلام من أيِّ متكلم إذا ورد علينا، لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي، ونحكم بذلك أنَّه أراد كذا، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما كلّ ذلك ليكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة، ونعهده من مصاديق الكلمات، حقيقة ومجازاً.
والبيان القرآني غير جار هذا المجرى، بل هو كلام موصول بعضه ببعض، في حين أنَّه مفصول ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي (عليه
السلام).
فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى:
﴿
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً
﴾
[100].
فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف.
وبعبارة
أُخرى: إنّما نهى
(عليه السلام) عن تفهّم كلامه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهّم ربما صادف الواقع، والدليل على ذلك قوله
(صلى الله عليه وآله) في الرواية الأُخرى:
« من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ » فإنَّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكون الخطأ في الطريق.
والمحصل: إنَّ المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسّر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنة، وكونه هو السنّة ينافي القرآن ونفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الاخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلاّ نفس القرآن
[101].
ومع أنَّه فَصَّل الكلام في القسم الثاني من التفسير بالرأي لم تفته الإشارة إلى القسم الاوّل في بعض كلماته قال:
يعرض المفسّر الآية على ما توصل إليه العلم أو الفلسفة من نظريات أو فرضيات مقطوع أو مظنون بهما ظناً راجحاً ...
[92]
أمالي الصدوق: المجلس الثاني: 6.
[93]
التوحيد: الباب 36،
ص 264.
[94]
تفسير الطبري: 1 / 27.
[95]
سنن الترمذي:
2 / 157، كتاب التفسير.
[96]
تفسير الطبري: 1 / 27.
[98]
تفسير القرطبي: 1 / 33 ـ 34.
ولاحظ تفسير الصافي: 1 / 39.
[99]
التحرير والتنوير: 1 / 30 ـ 31.
[100]
سورة النساء، الآية: 82.
[101]
الميزان:
3 / 76 ـ 77.
ثمّ إنّ تأويلات الباطنية أو المتصوفة كلّها من قبيل القسم الأوّل، وسيوافيك البحث عنها في موضعها، ولتسليط الضوء نذكر مثالاً:
أثبتت الأُصول الفلسفية أنَّ الأصلَ هو الوجود وأنَّ الماهية أمر انتزاعي من حدّ الوجود والمنسوب إلى الجاعل هو الوجود، غير أن تنزل الوجود لا ينفك عن عروض الحدود، فالصادر من الله سبحانه هو الوجود غير المحدّد المنبسط على الماهيات.
هذا ما أثبتته الأُصول الفلسفية، ثمّ إنّ العرفاء يدعمون تلك النظرية بالآية التالية:
يقول سبحانه: ﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ
وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ
عَلَيْهِ دَلِيلاً ﴾
[102].
ويفسرون مدّ الظل ببسط الوجود على الماهيات، حتّى أنَّ بعض المشايخ من العرفاء كان يدّعي أنَّ دلالة الآية على هذا المعنى أمر بديهي، فقد نظر العارف إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر ما يدعم عقيدته،
مع أنّ الآية أجنبية عمّا رامه، فإنَّ الآية وما بعدها بصدد بيان آياته سبحانه الكونية من جعل الليل لباساً والنوم سباتاً والنهار نشوراً، وإرسال الرياح بشرى بين يدي رحمته، إلى غير ذلك من الآيات، فأي صلة لها بالوجود المنبسط على الماهيات؟!
ومن
القسم الثاني، أعني:
تفسير القرآن من غير استناد إلى أصل صحيح، بل اعتماداً على
ظاهر الآية من دون الوغول فيها بالأساليب المعهودة، يقول
سبحانه:
﴿
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن
كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ
إِلَّا تَخْوِيفاً ﴾.
[103]
إنّ من يقتنع في تفسير القرآن بالقواعد العربية مع غض النظر عن سائر الأُصول ربما يجعل مبصرة وصفاً للناقة فيصف الناقة بالإبصار مع أنّها وصف لموصوف محذوف أي:
«وجعلنا الناقة آية مبصرة» فالآية من قبيل الاختصار بحذف الموصوف.
[102]
سورة الفرقان، الآية: 45.
[103]
سورة الإسراء، الآية: 59.
ثمّ إنّ المحظور هو التفسير بالرأي على ما عرفت، وأمّا السعي وبذل الجهد في فهم مقاصد الآيات ومراميها عن الطرق المألوفة بين العلماء خلفاً عن سلف فليس بمحظور بل هو ممدوح، بل لا محيص عنه في فهم القرآن الكريم.
فإنّ ما يهتدي إليه المفسّر بعد التفكّر والتأمّل في مفردات الآية وجملها وسياقها ونظائرها من الآيات إذا كان له صلة لها فهو تفسير مقبول ولا صلة له بالتفسير بالرأي، وإذا كانت الآية ممّا تتضمن حكماً فقهياً يرجع في فهم الموضوع وشرائطه وجزئياته وموانعه إلى الروايات والأخبار المأثورة، ثمّ يتمسك في موارد الشك في اعتبار شيء، أو خروج فرد عن تحت الدليل بإطلاقها أو عمومها فلا يعد ذلك تفسيراً بالرأي بل اجتهاداً معقولاً، مقبولاً في فهم الآية.
ولعلّ كون القرآن كتاب القرون والأجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الاجتهادي، ولأجل ذلك لم يزل كتابُ الله طريّاً في غضون الأجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الاندراس، بل هو طريّ ما دامت السماوات والأرض، ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الإنسان بالتعمّق في دلالاته اللفظية:
المطابقية والتضمنية والالتزامية، وإن كان السلف في الأعصار الماضية غافلين عن هذه المعاني، ولعلّه إلى ذلك يشير الصادق
(عليه السلام) في جواب من سأله أنّه ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة بقوله:
« لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، وهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة
»
[104].
وبالجملة فإيصاد هذا الباب في وجه المفسرين، يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز، وبالتالي يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى ومقصور المراد لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.
ولأجل إعطاء نموذج من الاجتهاد الصحيح في فهم القرآن نذكر اجتهاد الإمام أبي الحسن الهادي
(عليه السلام) في تفسير الآية.
روى ابن شهر آشوب في مناقبه، قال:
قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم:
الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم:
يضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي
(عليه السلام) يسأله، فلما قرأ الكتاب، كتب:
« يضرب حتى يموت ».
فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلة، فكتب:
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَلَمَّا
رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ
يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ
اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ ﴾
[105] فأمر به
المتوكل فضرب حتى مات
[106].
فالآية تدلّ بوضوح على أنّ الإيمان لدفع البأس، غير نافع في دفعه وعليه جرت سنة الله سبحانه، فليكن المقام من صغريات تلك الكبرى.
خلاصة الدرس
تظافرت الروايات عن النهي عن التفسير بالرأي عن النبي
(صلى الله عليه وآله) وأهل
بيته
(عليهم السلام).
عن
النبي
(صلى الله عليه وآله):
« من قال في القرآن برأيه
فليتبوأ مقعده من النار ».
اختلف
في تحديد التفسير بالرأي على أقوال:
منها:
أنَّ التفسير بالرأي هو تفسير آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا
بنص بيان الرسول
(صلى الله عليه وآله)
كآيات الفرائض حيث إنَّ الأجزاء والشرائط والموانع في الصلاة
والحج والزكاة وغيرهم رهن بيان الرسول
(صلى الله عليه وآله)، كما
عبّر الطبري، وهذا ما يظهر من السيد الخوئي
(قدس سره) احتمال ذلك المعنى.
منها:
أن يتوخى من تفسير القرآن دعم عقيدته ورأيَه المُسبق حتى يحتج
بالآية على الخصم أو يبرر به عمله.
منها:
الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن من دون أن يقتفي الأسلوب
الصحيح في تفسير القرآن وهذا ما يؤيده السيد الطباطبائي
(قدس سره).
فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون
المكشوف، والدليل على ذلك قوله
(صلى الله عليه وآله):
« من تكلم في القرآن برأيه
فأصاب فقد أخطأ » فإنَّ
الحكم بالخطأ مع فرض الإجابة ليس إلا لكون الخطأ في الطريق.
والمحصل: أنَّ المنهى عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن
واعتماد المفسّر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب
الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إما هو
الكتاب أو السنة.
وأما
السعي وبذل الجهد في فهم مقاصد الآيات ومراميها عن الطرق
المألوفة بين العلماء خلفاً عن سلف فليس بمحظور بل هو ممدوح،
بل لا محيص عنه في فهم القرآن الكريم.
|
[104]
بحار الأنوار: 92/15،
باب فضل القرآن، الحديث 8
[105]
سورة غافر، الآية: 84 85.
[106]
مناقب آل أبي طالب: 4 / 403 ـ 505.