الدرس التاسع: التفسير حسب تأويلات الباطنية


 

تطلق الباطنية ويراد بها الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السلام) بعد رحيل أبيه، وعرفوا بالباطنية لأخذهم باطن القرآن دون ظاهره.

أما إسماعيل بن جعفر (عليه السلام) فهو بريء من هذه الوصمة، وإنّما هي أفكار موروثة من محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الأسدي وزملائه، نظراء: المغيرة بن سعيد، وبشار الشعيري، وعبد الله بن ميمون القداح، إلى غير ذلك من رؤساء الباطنية، وقد تبرّأ الإمام الصادق (عليه السلام) والأئمّة المعصومون (عليهم السلام) من هذه الفرقة في بلاغات وخطابات خاصة إلى أتباعهم، ولعنوا الخطابية، ولم نعثر لهم على كتاب تفسيري يفسر القرآن برمته، وإنّما حاولوا تفسير الموضوعات الواردة في القرآن والأحاديث وأسموها بباطن القرآن.

إنّ الباطنية وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة ما دلّ عليها من الشرع شيء وهو أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر، وإنّ باطنه يؤدي إلى ترك العمل بظاهره، واستدلّوا على ذلك بقوله سبحانه: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾.

وعلى ضوء ذلك فقد أوّلوا المفاهيم الإسلامية بالنحو التالي:

1- الوضوء عبارة عن موالاة الإمام.

2- التيمم هو الأخذ المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة.

3- والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى في الآية  من سورة العنكبوت: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾.

4- والغسل تجديد العهد فمن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى الاحتلام.

5- والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين.

6- والكعبة النبي.

7- والباب علي.

8- والصفا هو النبي.

9- والمروة علي.

10- والميقات الإيناس.

11- والتلبية إجابة الدعوة.

12- والطواف بالبيت سبعاً موالاة الأئمة السبعة.

13- والجنة راحة الأبدان من التكاليف.

14- والنار مشقّتها بمزاولة التكاليف [185].

هذا ما نقلناه عن كتاب « المواقف »، وإن كنت في شك ممّا ذكره فنحن ننقل شيئاً من تأويلاتهم من كتاب « تأويل الدعائم » للقاضي النعمان الذي كان قاضي قضاة الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله منشئ القاهرة وجامعة الأزهر، وهذا الكتاب يضم في طياته تأويل الأحكام الشرعية بدءً بالطهارة والصلاة وانتهاءً بكتاب الجهاد، فقد أوّل كلّ ما جاء في هذه الأبواب من العناوين والأحكام، وطبع الكتاب في مطبعة دار المعارف في مصر، وإليك نزراً من هذه التأويلات.

جاء في كتاب « تأويل الدعائم »: عن الباقر (عليه السلام): « بني الإسلام على سبع دعائم [186]: الولاية: وهي أفضل وبها وبالوليّ يُنتهى إلى معرفتها، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد »، فهذه كما قال (عليه السلام): دعائم الإسلام قواعده، وأُصوله التي افترضها الله على عباده.

ولها في التأويل الباطن أمثال، فالولاية مَثلُها مَثلُ آدم (عليه السلام) لأنّه أوّل من افترض اللهُ عزّ وجلّ ولايته، وأمر الملائكة بالسجود له، والسجود: الطاعة، وهي الولاية، ولم يكلّفهم غير ذلك فسجدوا إلاّ إبليس، كما أخبر تعالى، فكانت المحنةُ بآدم (عليه السلام) الولاية، وكان آدمُ مثلَها، ولابدَّ لجميع الخلق من اعتقاد ولايته، ومن لم يتولّه، لم تنفعْهُ ولاية من تولاّه من بَعده، إذا لم يدُن بولايته ويعترف بحقّه، وبأنّه أصل مَنْ أوجب اللهُ ولايتَه من رسله وأنبيائه وأئمّة دينه، وهو أوّلهم وأبوهم. والطهارة: مَثَلُها مَثَلُ نوح (عليه السلام)، وهو أوّل مبعوث ومرسل من قبل الله لتطهير العباد من المعاصي والذنوب التي اقترفوها، ووقعوا فيها من بعد آدم (عليه السلام)، وهو أوّل ناطق من بعده، وأوّلُ أُولي العزم من الرسل، أصحاب الشرائع، وجعلَ الله آياته التي جاء بها، الماء، الذي جعله للطهارة وسمّاه طهوراً.

والصلاة: مَثَلُها مَثَلُ إبراهيم (عليه السلام) وهو الذي بَنى البيتَ الحرام، ونصبَ المقام، فجعل الله البيت قبلة، والمقامَ مصلّى.

والزكاة: مثلها مثل موسى، وهو أوّل من دعا إليها، وأُرسل بها، قال تعالى: ﴿ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى [187].

والصوم: مَثَلُه مثل عيسى (عليه السلام) وهو [188] أوّل ما خاطب به أُمّه، أن تقولَ لِمَنْ رأته من البشر، وهو قوله الذي حكاه تعالى عنه لها: ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً [189]. وكان هو كذلك يصوم دهره، ولم يكن يأتي النساء، كما لا يَجوز للصائم أن يأتيهنّ في حال صومه.

والحج: مَثَلُه مَثَلُ محمّد (صلى الله عليه وآله)، وهو أوّل من أقام مناسك الحج، وسنَّ سنته، وكانت العرب وغيرها من الأُمم، تحجّ البيت في الجاهليّة ولا تقيم شيئاً من مناسكه، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [190].

وكانوا يطوفون به عُراة، فكان أوّلُ شيء نهاهم عنه ذلك فقال، في العُمرة التي اعتمرها، قبل فتح مكة، بعد أن وادعَ أهلَها، وهم مشركون: « لا يطوفنّ بعد هذا بالبيت عريان، ولا عريانة »، وكانوا قد نصبوا حول البيت أصناماً لهم يعبدونها، فلمّا فتح اللهُ مكّة كسّرها، وأزالها، وسنَّ لهم سُنن الحجّ، ومناسكه، وأقام لهم بأمر اللهِ معالمه. وافترض فرائضه. وكان الحجّ خاتمة الأعمال المفروضة، وكان هو (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين، فلم يبق بعدَ الحجّ من دعائم الإسلام غير الجهاد، وهو مثل سابع الأئمّة، الذي يكون سابع أسبوعهم الأخير، الذي هو صاحب القيامة [191].

مع الشهرستاني في كتابه « مفاتيح الأسرار ».

الرأي السائد في مذهب الشهرستاني (467-548 هـ) هو أنَّه أشعري ... يأخذ بظواهر القرآن وفي الوقت نفسه يطلب له تأويلاً تنسجم مع الفكر الإسماعيلي.

يقول في مقدّمته: لقد كانت الصحابة (رضي الله عنهم)  متّفقين على أنّ علم القرآن مخصوص بأهل البيت (عليهم السلام)، إذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب (عليه السلام) هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ وكان يقول: « لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ بما في قراب سيفي هذا ».

فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه، تنزيله، وتأويله مخصوص بهم، ولقد كان حبر الأُمّة عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) مصدر تفسير جميع المفسرين، وقد دعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن قال: « اللهمّ فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل » فتلمّذ لعلي (عليه السلام) حتى فقّهه في الدين وعلَّمه التأويل.

ولقد كنت على حداثة سنّي أسمع تفسير القرآن من مشايخي سماعاً مجرداً حتى وُفقْتُ، فعلّقته على أُستاذي ناصر السنّة أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري (رضي الله عنهما) تلقفاً (كذا).

ثمّ أطلعتني مطالعات كلمات شريفة عن أهل البيت وأوليائهم (رضي الله عنهم) على أسرار دفينة وأُصول متينة في علم القرآن، وناداني من هو في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الطيبة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [192].

فطلبت الصادقين طلبَ العاشقين، فوجدت عبداً من عباد الله الصالحين كما طلب موسى (عليه السلام) مع فتاه ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً [193] فتعلّمت منه مناهج الخلق والأمر، ومدارج التضاد والترتيب، ووجهي العموم والخصوص، وحكمي المفروغ والمستأنف، فشبعت من هذا المِعَا الواحد، دون الأمعاء التي هي مآكل الضُّلاّل ومداخل الجُهّال، وارتويت من شرب التسليم بكأس، كان مزاجه من تسنيم فاهتديت إلى لسان القرآن: نظمه، وترتيبه، وبلاغته وجزالته، وفصاحته، وبراعته.

ثمّ إنّه بعد ما يشير إلى أنّ القرآن بحر لا يدرك غوره، ولا يدرك ساحله، والسباحة في هذا البحر كان مقروناً بالخطر، يقول: فوجدت الحبر العالم فاتّبعته على أن يعلِّمني ممّا عُلّم رُشداً، وآنست ناراً، فوجدت على النار هدى فنقلت القراءة والنحو واللغة، والتفسير، والمعاني من أصحابها على ما أوردوه في الكتب نقلاً صحيحاً، من غير تصرّف فيها بزيادة أو نقصان، سوى تفسير مجمل، أو تقصير مطوّل، وعقّبتُ كل آية بما سمعت فيها من الأسرار، وتوسمتها من إشارات الأبرار، ولقد مرّ على الخوض فيها فصول في علم القرآن هي مفاتيح العرفان، وقد بلغت اثنا عشر فصلاً، قد خلت عنها سائر التفاسير وسمّيت التفسير بـ‍ « مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار » وأستعيذ بالله السميع العليم من القول فيها برأي واستبداد دون رواية وإسناد، والخوض في أسرارها ومعانيها جزافاً وإسرافاً دون العرض على ميزان الحقّ والباطل، وإقامة الوزن بالقسط وتقرير الحقّ وتزييف الرأي المقابل له [194].

ثمّ إنّه ذكر في الفصل الثامن معنى التفسير والتأويل وبما أنَّ لأكثر كلامه مسحة من الحق نأتي به.

يقول: ثمّ التأويل المذكور في القرآن على أقسام:

منها: تأويل الرؤيا بمعنى التعبير ﴿ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [195].

ومنها: تأويل الأحاديث ﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [196].

ومنها: تأويل الأفعال ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً [197].

ومنها: الرد إلى العاقبة والمال: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [198].

ومنها: الرد إلى الله والرسول ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [199].

ومنها: تأويل المتشابهات ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [200].

وفي القرآن أحكام المفروغ، وأحكام المستأنف، وأحكام متقابلات على التضاد، وأحكام متفاصلات على الترتب، فرؤية المستأنف هو الظاهر والتنزيل والتفسير، ورؤية حكم المفروغ هو الباطن والتأويل والمعنى والحقيقة ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ [201] - [202].

فهذا المقطع من كلامه يبيّن موقفه من تأويل القرآن، فالأسرار التي يودعها في تفسيره إن كان مستنداً إلى نص معتبر فهو مقبول، وإلاّ فيرجع إلى التفسير بالرأي. ومن أراد أن يقف على منهج تفسيره وتأويله، فلينظر إلى تفسير قوله سبحانه ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لِآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ  [203] فلاحظ ص 117-121 من التفسير المذكور [204].

 

 

خلاصة الدرس


 الصورة الخامسة من المناهج التفسيرية بالعقل: التفسير حسب تأويلات الباطنية.

 تطلق الباطنية ويراد بها أتباع المذهب الاسماعيلي الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السلام) بعد رحيل أبيه، وعرفوا بذلك لأخذهم باطن القرآن دون ظاهره. واستدلّوا على ذلك بقوله سبحانه: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [205]، وعلى ضوء ذلك فقد أوّلوا المفاهيم الإسلامية بالنحو التالي:

 1- الوضوء عبارة عن موالاة الإمام (عليه السلام).

 2- التيمم هو الأخذ المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

 3- الكعبة النبي (صلّى الله عليه وآله).

 4- والباب علي (عليه السلام)، إلى غير ذلك.

 


[185]  المواقف: 8/390.

[186]  المروى عن طرقنا: بني الإسلام على خمس.

[187]  سورة النازعات، الآيات: 15-18.

[188]  الظاهر أنّ ضمير الفاعل يرجع إلى روح الأمين.

[189]  سورة مريم، الآية: 26.

[190]  سورة الأنفال، الآية: 35.

[191]  تأويل الدعائم: 1/51-52.

[192]  سورة التوبة، الآية: 119.

[193]  سورة الكهف، الآية: 65.

[194]  مفاتيح الأسرار: 1/2.

[195]  سورة يوسف، الآية: 100.

[196]  سورة يوسف، الآية: 6.

[197]  سورة الكهف، الآية: 82.

[198]  سورة الأعراف، الآية: 53.

[199]  سورة النساء، الآية: 59.

[200]  سورة آل عمران، الآية: 7.

[201]  سورة آل عمران، الآية: 7.

[202]  مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار: 1/ 19.

[203]  سورة البقرة، الآية: 34.

[204]  ونرفع آية الاعتذار إلى القرّاء الأعزاء لإطناب الكلام فيه، وما ذلك إلاّ نتيجة الغموض الذي كان يكتنف بعض جوانب سيرة المؤلف، حتى وقفنا على تفسيره فاطّلعنا على جانب من حياته ومذهبه الّذي كان مكتوماً حقبة طويلة من الزمن، وإن كان في بعض الكلمات التي نقلناها في كتاب الملل والنحل إشارة إليه.

[205]  سورة الحديد، الآية: 13.


 

 


الدرس العاشر: التفسير حسب تأويلات الصوفية


 

التفسير الصّوفي تأثر إلى حد كبير بأفكار الباطنية، واستخدم القرآن في تعقيب هدف خاص وهو دعم الأُسس العرفانية والفلسفية، وفي الحقيقة أنَّهم لم يخدموا القرآن الكريم بشيء وإنّما خدموا آراءهم وأفكارهم من خلال تطبيق الآيات على آرائهم.

فالتفسير الصوفي شعبة من شعب التفسير الباطني في قالب معين كما أشرنا إليه.

وهو ينقسم إلى: تفسير نظري، وفيضي.

أمّا الأوّل، فهو التفسير المبني على أُصول فلسفية ورثوها من أصحابها، فحاولوا تحميل نظرياتهم على القرآن الكريم.

وأمّا التفسير الفيضي، فهو تأويل الآيات على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات رمزية تظهر لأرباب السلوك من غير دعم بحجة أو برهان.

وبعبارة أُخرى: التفسير الفيضي يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل بها إلى درجة تنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف الإلهية.

وعلى كلّ تقدير فتفاسيرهم من غير فرق بين النظري والفيضي مبنية على حمل القرآن على ما يعتقدون به من الأُصول والقواعد من دون حجة وبرهان.

وها نحن نذكر شيئاً من تفاسيرهم:

 

تفسير التستري

 

ولعلّ أوّل تفسير ظهر هو تفسير أبي محمد سهل بن عبد الله التستري (200 - 283 هـ) وقد طبع بمطبعة السعادة بمصر عام 1908 م، جمعه أبو بكر محمد بن أحمد البلدي، فهو يفسر البسملة بالشكل التالي:

أ. الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: مجد الله، والله: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنّى، غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر [206].

ب. من ذلك ما ذكره في تفسير الآية ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [207] لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة، وإنّما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره أي لا تهتم بشيء هو غيري، قال: فآدم (عليه السلام) لم يعصم من الهمة والفعل في الجنة، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك، قال: وكذلك كلّ من ادّعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه، إلاّ أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها [208].

ج. ومنها ما ذكره في تفسير الآية 96 من سورة آل عمران: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾ ... « أوّل بيت وضع للناس بيت الله عزّ وجلّ بمكة، هذا هو الظاهر، وباطنها الرسول يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد من الناس » [209].

د. ومنها ما ذكره في تفسير الآية  من سورة النساء ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... : وأمّا باطنها، فالجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب: هو الطبيعة، والصاحب بالجنب: هو العقل المقتدى بالشريعة، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله [210].


[206]  تفسير التستري: 12.

[207]  سورة البقرة، الآية: 35.

[208]  تفسير التستري: 16-17.

[209]  تفسير التستري: 45.

[210]  تفسير التستري: 66.


 

حقائق التفسير للسلمي

 

إنّ ثاني تفاسير الصوفية التي ظهرت إلى الوجود، هو تفسير أبي عبد الرحمن السلمي (330 - 412 هـ) المسمّى بـ‍ « حقائق التفسير » وكان شيخ الصوفية ورائدهم بخراسان، وله اليد الطولى في التصوّف.

أ. قال في تفسير الآية ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [211].

قال محمد بن الفضل: اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم، أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم ما فعلوه إلاّ قليل منهم في العدد، كثير في المعاني، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة [212].

ب. وفي سورة الرعد عند قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ [213] يقول: قال بعضهم: هو الذي بسط الأرض، وجعل فيها أوتاداً من أوليائه وسادة من عبيده فإليهم الملجأ وبهم النجاة، فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا، ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر [214].

ج. وفي سورة الحجّ عند قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [215].

يقول: قال بعضهم: أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة وفتح إلى قلوب عباده عيوناً من ماء الرحمة، فأنبتت فاخضرّت بزينة المعرفة، وأثمرت الإيمان، وأينعت التوحيد، أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيّدها، واشتاقت إلى ربها فطارت بهمتها، وأناخت بين يديه، وعكفت فأقبلت عليه، وانقطعت عن الأكوان أجمع. ذاك آواها الحق إليه، وفتح لها خزائن أنواره، وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس، ورياض الشوق والقدس [216].

د. وفي سورة الرحمن عند قوله تعالى: ﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ [217] يقول: قال جعفر: جعل الحقّ تعالى في قلوب أوليائه رياض أنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة أُصولها ثابتة في أسرارهم، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد، فهم يجنون ثمار الأنس في كلّ أوان، وهو قوله تعالى: ﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ﴾ أي ذات الألوان، كلّ يجتني منه لوناً على قدر سعته، وما كوشف له من بوادي المعرفة وآثار الولاية [218].

وهاهنا كتب أُخرى أُلّفت على هذا الغرار نظير:

- لطائف الإشارات: لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري (376 - 465 هـ).

- تفسير الخواجة: لعبد الله الأنصاري (المتوفّى480 هـ).

- كشف الأسرار وعدّة الأبرار: لأبي الفضل رشيد الدين الميبدي، وهو بسط وتوضيح لمباني تفسير الخواجة عبد الله الأنصاري.

- تفسير ابن عربي: هو لأبي بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بابن عربي (560 - 638 هـ).

يقول في تفسير الآية 19-20 من سورة الرحمن: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ﴾ بأنّ مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأُجاج، وبحر الروح المجرد هو العذب الفرات، يلتقيان في الموجود الإنساني، وإنّ بين الهيولى الجسمانية والروح المجردة برزخ هو، النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها، ولا في كثرة الأجساد الهيولائية وكثافتها، ولكن مع ذلك لا يبغيان، أي لا يتجاوز أحدهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته، فلا الروح المجردة تجرد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه، ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً [219].

- عرائس البيان في حقائق القرآن: لأبي محمد روزبهان بن أبي نصر البقلي الشيرازي (المتوفّى 666 هـ).

- التأويلات النجمية: لأبي بكر عبد الله الرازي المعروف ب‍ـ « داية » (المتوفىّ 654 هـ) إلى غير ذلك من التفاسير [220].

وفي الختام نكتفي بما ذكره الذهبي حول هذه التفاسير، وقال:

نحن لا ننكر على ابن عربي أنَّ ثَم أفهاماً يلقيها الله في قلوب أصفيائه وأحبائه، ويخصهم بها دون غيرهم، على تفاوت بينهم في ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت في درجات السلوك ومراتب الوصول، كما لا ننكر عليه أن تكون هذه الأفهام تفسيراً للقرآن وبياناً لمراد الله من كلامه، ولكن بشرط: أن تكون هذه الأفهام يمكن أن تدخل تحت مدلول اللفظ العربي القرآني، وأن يكون لها شاهد شرعي يؤيدها، أمّا أن تكون هذه الأفهام خارجة عن مدلول اللفظ القرآني وليس لها من الشرع ما يؤيدها فذلك ما لا يمكن أن نقبله على أنّه تفسير للآية وبيان لمراد الله تعالى، لأنّ القرآن عربي قبل كلّ شيء كما قلنا، والله سبحانه وتعالى يقول في شأنه: ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [221] وحاشا لله أن يلغز في آياته أو يعمى على عباده طريق النظر في كتابه، وهو يقول: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [222] - [223].


[211]  سورة النساء، الآية: 66.

[212]  تفسير السلمي: 49.

[213]  سورة الرعد، الآية: 3.

[214]  تفسير السلمي: 138.

[215]  سورة الحج، الآية: 63.

[216]  تفسير السلمي: 212.

[217]  سورة الرحمن، الآية: 11.

[218]  تفسير السلمي: 344.

[219]  تفسير ابن عربي: 2/280.

[220]  وقد رصدنا في تحرير هذا الموضوع عن كتاب التفسير والمفسرون، للمحقّق الأُستاذ محمد هادي معرفة.

[221]  سورة فصلت، الآية: 3.

[222]  سورة القمر، الآية: 17.

[223]  التفسير والمفسرون: 2/274.


 

التفسير الإشاري بين القبول والرفض

 

هناك منهج اصطلحوا عليه بالتفسير الإشاري وهو نفس التفسير الصوفي، وعرّفوه بأنّ نصوص القرآن محمولة على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة [224].

وبعبارة أُخرى: ما يظهر من الآيات بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة.

وبعبارة ثالثة: القائل بالتفسير الإشاري لا ينكر كون الظاهر مراداً، ولكن يقول بأنّ في هذه الظواهر، إشارات إلى معانٍ خفية تفهمه عدّة من أرباب السلوك وأُولو العقل والنهى، وبذاك يمتاز عن تفسير الباطنية فإنّهم يرفضون كون الظواهر مرادة ويأخذون بالبواطن، هذا هو حاصل التفسير الإشاري.

واستدلّ القائلون بالتفسير الإشاري بوجهين:

الأوّل: إنَّ القرآن يدعو إلى التدبّر والتفكّر فيه، ومعنى ذلك هو أَنّ القرآن يحتوي على معانٍ وحقائق لا تدرك بالنظر الأُولى، بل لابدّ من التأمّل والتعمّق حتى يقف الإنسان على إشاراته ورموزه، يقول سبحانه: ﴿ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [225].

وقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [226].

وقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [227].

فهذه الآيات تصف الكافرين بأنّهم لا يكادون يفقهون حديثاً لا يريد بذلك أنّهم لا يفهمون نفس الكلام، لأنّ القوم كانوا عرباً والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره بلا شك، وإنّما أراد بذلك أنّهم لا يفهمون مراده من الخطاب، فحضّهم على أن يتدبّروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده، وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم [228].

يلاحظ عليه: أوّلاً: إنَّ الاستدلال بهذه الآيات من الضعف بمكان، فإنّها تدعو إلى التدبّر في نفس المفاهيم المستفاد من ظاهر الآيات وكون القرآن عربياً، وكون القوم عُرباً لا يكفي في فهم القرآن الكريم من دون التدبّر والإمعان، فهل يكفي كون القوم عرباً في فهم مغزى قوله سبحانه: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [229]؟

أو في فهم قوله سبحانه: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [230]؟

أو في فهم قوله سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [231]؟

فالدعوة إلى التدبّر لا يدلّ على أنّ للقرآن وراء ما تفيده ظواهره بطناً.

وثانياً: أنَّه يمكن أن يكون الأمر بالتدبّر هو تطبيق العمل على ما يفهمونه من القرآن، فربّ ناصح يدلي بكلام فيه نصيحة الأهل والولد، ولكنّهم إذا لم يطبقوا عملهم على قول ناصحهم، يعود الناصح إليهم، ويقول: لماذا لا تتدبّرون في كلامي؟ لماذا لا تعقلون؟ مشعراً بذلك أنّكم ما وصلتم إلى ما أدعوكم إليه وإلاّ لتركتم أعمالكم القبيحة وصرتم عاملين بما أدعو إليه.

الثاني: ما دلّ من الروايات على أنّ للقرآن ظهراً وبطناً، ظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق [232].

يلاحظ عليه: أنّ ما روي عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بأنّ للقرآن بطناً وظهراً فالحديث فيه ذو شجون.

- المقصود من البطن هو أنّ ما ورد في القرآن حول الأقوام والأُمم من القصص، وما أصابهم من النعم والنقم، لا ينحصر على أُولئك الأقوام، بل هؤلاء مظاهر لكلامه سبحانه وهو يعم غيرهم ممّن يأتون في الأجيال فقوله سبحانه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [233] وإن كان وارداً في قوم خاص، لكنّها قاعدة كلية مضروبة على الأُمم جمعاء.

- المراد من بطن القرآن هو الاهتداء إلى المصاديق الخفية التي يحتاج الوصول إليها إلى التدبّر، أو تنصيص من الإمام، ولأجل ذلك نرى أنّ علياً (عليه السلام) يقول في تفسير قوله سبحانه: ﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [234]: « إنّه ما قوتل أهلها منذ نزلت حتى اليوم ».

وفي رواية أُخرى قال علي (عليه السلام): « عذرني الله من طلحة والزبير بايعاني طائعين، غير مكرهين، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته » ثم تلا هذه الآية [235].

- وهناك احتمال ثالث للبطن، وهو حمل الآية على مراتب مفهومها وسعة معناها واختلاف الناس في الاستفادة منها حسب استعداداتهم وقابلياتهم، لاحظ قوله سبحانه: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ [236].

إنّ للآية مراتب ودرجات من التفسير كل يستفيد منها حسب قابليته والكل يستمد من الظاهر، ونظيرها آية النور [237]. فقد خاض المفسرون في تفسير الآية وتطبيقها على موارد مختلفة وكل استفاد من نورها حسب مؤهّلاته وكفاءاته.

وحاصل القول في التفسير الإشاري: إنّ ما يفهمه المفسّر من المعاني الدقيقة إن كان لها صلة بالظاهر فهو مقبول، سواء سمّي تفسيراً على حسب الظاهر أم تفسيراً إشارياً، وعلى كل تقدير فالمفسّر على حجّة من ربّه في حمل الآية على ما أدرك، وأمّا إذا كان مقطوع الصلة عن الظاهر، المتبادر إلى الأذهان، فلا يصح له حمل القرآن عليه إلاّ إذا حصل له القطع بأنّه المراد، وعندئذ يكون القطع حجّة له لا لغيره وإن كان مخالفاً للواقع، ولإيضاح الحال نأتي بأمثلة:

 يخاطب سبحانه أُمّ المسيح بقوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً [238].

فلو قال أحد: إنّه سبحانه هيّأ مقدّمات الولادة ومؤخّراتها لأُمّ المسيح، حتى الرطب في غير فصله من الشجرة اليابسة، ومع ذلك أمرها أن تهُزَّ بجذع النخلة مع أنّ في وسع المولى سبحانه أن يرزقها الرطب بلا حاجة إلى الهز، ـ أمرها بالهزّ ـ هذا لتفهيمها أنّها مسؤولة في حياتها عن معاشها، وأنّه سبحانه لو هيّأ كل المقدّمات فلا تغني عن سعيها وحركتها ولو بالهز بجذع النخلة.

هذا ربما ما يعلق بذهن بعض المفسّرين، ولا بأس به، لأنّ له صلة بالظاهر.

روي أنّه بعدما نزل قوله سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً [239] فرحَ الصحابة وبكى بعضهم فقال: الآية تنعي إلينا برحلة النبي (صلّى الله عليه وآله) [240] وكأنّه فهم الملازمة بين إكمال الدين ورحلة النبي (صلّى الله عليه وآله).

نعم هناك تفاسير باسم التفسير الإشاري لا يصح إسناده إلى الله سبحانه، كتفسير « الم » بأنّ الألف إشارة إلى الله واللام إلى جبرئيل والميم إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فإنّه أشبه بالتفسير بالرأي إلاّ إذا كان هناك نصّ من المعصوم.

ولو صحّ هذا التفسير، فيمكن تفسيره بوجوه كثيرة بأنّ يقال الألف إشارة إلى ألف الوحدانية، واللام إلى لام اللطف، والميم إشارة إلى الملك، فمعنى الكلمة: من وحّدني تلطفت له فجزيته بالملك الأعلى.

وأسوأ من ذلك تفسير قوله سبحانه: ﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [241] بأن يقال: « والجار ذي القربى » هو القلب، « والجار الجنب » هو الطبيعة، « والصاحب بالجنب » هو العقل المقتدي بالشريعة، « وابن السبيل » هو الجوارح المطيعة لله.

فمثل هذا النوع من التفسير يلتحق بتفاسير الباطنية التي مضى البحث فيها.

 

خلاصة الدرس


 الصورة السادسة من المناهج التفسيرية بالعقل: التفسير حسب تأويلات الصوفية.

 هذا التفسير تأثر إلى حد كبير بأفكار الباطنية، واستخدم القرآن في تعقيب هدف خاص وهو دعم الأسس العرفانية والفلسفية، وفي الحقيقة أنهم لم يخدموا القرآن الكريم بشيء وإنما خدموا آرائهم وأفكارهم من خلال تطبيق الآيات على آرائهم.

 فالتفسير الصوفي شعبة من شعب التفسير الباطني في قالب معين وهو ينقسم إلى تفسير نظري وفيضي.

 أمّا الأول: فهو التفسير المبني على أصول فلسفية ورثوها من أصحابها، فحاولوا تحميل نظرياتهم على القرآن الكريم.

 وأما التفسير الفيضي: فهو تأويل الآيات على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات رمزية تظهر لأرباب السلوك من غير دعم بحجة أو برهان.

 وبتعبير آخر: التفسير الفيضي يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل بها إلى درجة تنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف الإلهية، وعلى كل تقدير فتفاسيرهم من غير فرق بين النظري والفيضي مبنية على حمل القرآن على ما يعتقدون به من الأصول والقواعد من دون حجة وبرهان.

 نموذج ذلك ما ورد في تفسير التستري حيث يفسر البسملة بالشكل التالي:

 الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: مجد الله، والله: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنّى، غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر.

 


[224]  سعد الدين التفتازاني: شرح العقائد النسفية: 142.

[225]  سورة النساء، الآية: 78.

[226]  سورة النساء، الآية: 82.

[227]  سورة محمد، الآية: 24.

[228]  التفسير والمفسّرون، نقلاً عن الموافقات: 3/382 ـ 383.

[229]  سورة الحديد، الآية: 3.

[230]  سورة الأنبياء، الآية: 22.

[231]  سورة المؤمنون، الآية: 91.

[232]  الكافي: 2/ 598 الحديث 2.

[233]  سورة النحل، الآيات: 112- 113.

[234]  سورة التوبة، الآية: 12.

[235]  البرهان في تفسير القرآن: 1/105.

[236]  سورة الرعد، الآية: 17.

[237]  سورة النور، الآية: 35.

[238]  سورة مريم، الآية: 25.

[239]  سورة المائدة، الآية: 3.

[240]  الآلوسي: روح المعاني: 6/60.

[241]  سورة الرعد، الآية: 17.