فتح علماء
التفسير باباً باسم « معرفة
شروط المفسِّر وآدابه »
وذكروا كلّ ما يحتاج إليه المفسّر في تفسير كلام الله العزيز فمنهم
من اختصر كالراغب الأصفهاني في «مقدمة
جامع التفاسير»، ومنهم من
أسهب كالزركشي في كتابه «
البرهان
في علوم القرآن » والسيوطي
في « الإتقان »،
ونحن نسلك طريقاً وسطاً في هذا المضمار. وبما أنَّ ما ذكره الراغب
أساس لكل من جاء بعده، نأتي هنا بملخص ما ذكره، ثمّ ندخل في صلب
الموضوع، فنقول:
ذكر
الراغب الأصفهاني في « مقدّمة
جامع التفاسير » الشروط
التالية:
الأوّل:
معرفة الألفاظ، وهو علم اللغة.
الثاني:
مناسبة بعض الألفاظ إلى بعض، وهو الاشتقاق.
الثالث:
معرفة أحكام ما يعرض الألفاظ من الأبنية والتعاريف والإعراب، وهو
النحو.
الرابع:
ما يتعلّق بذات التنزيل، وهو معرفة القراءات.
الخامس:
ما يتعلّق بالأسباب التي نزلت عندها الآيات، وشرح الأقاصيص التي
تنطوي عليها السور من ذكر الأنبياء
(عليهم السلام) والقرون الماضية، وهو علم الآثار والأخبار.
السادس:
ذكر السنن المنقولة عن النبي (صلى
الله عليه وآله)
وعمّن شهد الوحي ممن اتّفقوا عليه وما اختلفوا فيه ممّا هو بيان
لمجمل أو تفسير لمبهم، المنبأ عنه بقوله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
﴾
[17]
وبقوله تعالى: ﴿
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ
﴾
[18]، وذلك علم السنن.
السابع:
معرفة الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والإجماع والاختلاف،
والمجمل والمفصّل، والقياسات الشرعية، والمواضع التي يصحّ فيها
القياس والتي لا يصحّ، وهو علم أُصول الفقه.
الثامن:
أحكام الدين وآدابه، وآداب السياسات الثلاث التي هي سياسة النفس
والأقارب والرعية مع التمسك بالعدالة فيها، وهو علم الفقه والزهد.
التاسع:
معرفة الأدلّة العقلية والبراهين الحقيقية والتقسيم والتحديد،
والفرق بين المعقولات والمظنونات، وغير ذلك، وهو علم الكلام.
العاشر:
علم الموهبة، وذلك علم يورثه الله مَنْ عَمِلَ بما علم، وقال أمير
المؤمنين (عليه السلام):
« قالت الحكمة: من أرادني
فليعمل بأحسن ما علم » ثمّ
تلا: ﴿
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
﴾
[19].
وما روي
عنه حين سئل: هل عندك علم عن النبي
(صلى الله عليه وآله) لم يقع إلى غيرك؟ قال: لا، إلاّ كتاب الله وما في
صحيفتي
[20]، وفهم
يؤتيه الله من يشاء وهذا هو التذكّر الذي رجّانا تعالى إدراكه بفعل
الصالحات، حيث قال: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى
﴾
[21]
إلى قوله: ﴿
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
﴾، وهو الهداية المزيدة
للمهتدي في قوله: ﴿
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدىً
﴾
[22]
وهو الطيب من القول المذكور في قوله: ﴿
وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى
صِرَاطِ الْحَمِيدِ
﴾
[23]. فجملة
العلوم التي هي كالآلة للمفسّر، ولا تتم صناعة إلاّ بها، هي هذه
العشرة: علم اللغة، والاشتقاق، والنحو، والقراءات، والسير،
والحديث، وأُصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة.
فمن تكاملت فيه هذه العشرة واستعملها خرج عن كونه مفسراً للقرآن
برأيه
[24].
هذا نصّ
كلام الراغب الأصفهاني، وقد ذكر أُمّهات الشرائط التي ينبغي على
المفسّر التحلّي بها، وبيت القصيد في كلامه هو ما ذكره في الشرط
العاشر وهو علم الموهبة.
والحقّ
أنّ تفسير القرآن الكريم يحتاج إلى ذوق خاص على حدّ يخالط القرآن
روحه وقلبه ويتجرد في تفسيره عن كلّ نزعة وتحيز، وهو عزيز المنال
والوجود بين المفسرين.
ولكن الذي
يؤخذ على الراغب الأصفهاني هو أنَّ بعض ما عدّه من شروط التفسير
يعدّ من كمال علم التفسير، كالعلم بأُصول الفقه وعلم الكلام، فإنَّ
تفسير الكتاب العزيز لا يتوقف على ذينك العلمين على ما فيهما من
المباحث التي لا تمتُّ إلى الكتاب بصلة. نعم معرفة الناسخ والمنسوخ،
والمطلق والمقيد وكيفية العلاج، أو معرفة العموم والخصوص وكيفية
التخصيص، والإجماع والاختلاف وأُسلوب الجمع بينهما، والمجمل
والمبيّن، التي هي من مباحث علم الأُصول ممّا يتوقف عليه تفسير
الكتاب، كما أنّ الآيات التي تتضمن المعارف الغيبية كالاستدلال على
توحيد ذاته وفعله وعبادته لا تفسر إلاّ من خلال الوقوف على ما فيها
من المباحث العقلية التي حقّقها علماء الكلام والعقائد، وهذا واضح
لمن له أدنى إلمام بالقرآن.
وما ربما
يقال من أنّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين كانوا مفسّرين
للقرآن على الرغم من عدم اطّلاعهم على أغلب هذه المباحث، غير تام؛
فإنَّ المعلم الأوّل ـ بعد النبيّ (ص) ـ للتفسير والمصدر الأوّل
للعلوم الإسلامية هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد روي عنه في علم
الكلام ما جعله مرجعاً في ذينك العلمين حتّى فيما يرجع إلى أُصول
الفقه من معرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص، قال
(عليه السلام):
« إنَّ في
أيدي الناس حقّاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً،
وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كُذب على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى
قام خطيباً وقال: من كذب
عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ».
إلى أن
قال بعد تقسيم الناس إلى أربعة أقسام:
« وآخر
رابع لم يكذب على الله، ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله،
وتعظيماً لرسول الله (صلى الله عليه
وآله) لم
يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم
ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنَّب عنه، وعرف
الخاص والعام، والمحكم والمتشابه، فوضع كلّ شيء موضعه »
[25].
هذا بعض
كلامه (عليه السلام) حول ما يمت إلى
أُصول الفقه، وأمّا كلامه فيما له صلة بالعقائد والمباحث الكلامية
فحدث عنه ولا حرج، فهذه خُطَبه
(عليه السلام) فيها وقد أخذ عنه علماء الكلام ما أخذوا
[26].
وأمّا من
لا خبرة له بهذين العِلْمَين من الأقدمين فقد اقتصروا بالتفسير
بالمأثور وتركوا البحث فيما لم يرد فيه نص، ولذا عاد تفسيرهم
تفسيراً نقلياً محضاً، وسيوافيك البحث في هذا النوع من التفسير.
إلى هنا
تمّ ما أردنا نقله من كلام الراغب، وبما أنَّ لجلال الدين السيوطي
كلاماً في شروط التفسير نذكره لما فيه من اللطافة وإن كان ذيله لا
يخلو من الشذوذ، قال:
قال
العلماء: من أراد تفسير الكتاب العزيز، طلبه أوّلاً من القرآن، فما
أُجملَ منه في مكان، فقد فُسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان،
فقد بُسط في موضع آخر منه.
وقد ألّف
ابن الجوزي كتاباً فيما أجمل في القرآن في موضع وفسّر في موضع آخر
منه، وأشرت إلى أمثلة منه في نوع المجمل.
فإن أعياه
ذلك طلبه من السنّة، فإنّها شارحة للقرآن وموضحة له، وقد قال
الشافعي: كلّ ما حكم به رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
فهو ممّا فهمه من القرآن، قال تعالى : ﴿
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ
﴾
[27] في آيات أُخر وقال
(صلى الله عليه وآله):
« ألا إنّي أُوتيت القرآن
ومثله معه »، يعني السنّة.
فإن لم
يجده في السنّة رجع إلى أقوال الصحابة، فإنّهم أدرى بذلك، لما
شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله، ولما اختصوا به من الفهم
التام والعلم الصحيح والعمل الصالح
[28].
فما ألطف
كلامه في المقطعين الأوّلين دون المقطع الثالث فقد بخس فيه حقوق
أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنّ
السنَّة النبوية ليست منحصرة بما رواها الصحابة والتابعون، فإنَّ
أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عيبة علم
النبي ووعاة سننه، فقد روُوا عن آبائهم عن علي أمير المؤمنين
(عليه السلام) عن النبي
(صلى الله عليه وآله) روايات في تفسير القرآن
الكريم، كيف وهم أحد الثقلين اللّذين تركهما رسول الله وقال:
« إنّي تارك فيكم الثقلين:
كتاب الله، وعترتي ».
ولعمر
الله إنَّ الإعراض عن أحاديث أئمّة أهل البيت
(عليهم السلام) لخسارة فادحة على الإسلام
والمسلمين.
ثمّ إنّ
الرجوع إلى أقوال الصحابة لا ينجع ما لم ترفع أقوالهم إلى النبي
(صلى الله عليه وآله)، فمجرد أنّهم شاهدوا الوحي
والتنزيل لا يثبت حجّية أقوالهم ما لم يسند إلى النبي
(صلى الله عليه وآله)، والقول بحجّية قول
الصحابي بمجرّد نقله وإن لم يسند قوله إلى النبي
(صلى الله عليه وآله) قول فارغ عن الدليل، فإنّه
سبحانه لم يبعث إلاّ نبيّاً واحداً لا أنبياء حسب عدد الصحابة إلاّ
أن يرجع قولهم إلى قول النبي (صلى
الله عليه وآله).
[17] سورة
النحل، الآية: 44.
[18] سورة
الأنعام، الآية: 90.
[19]
سورة الزمر، الآية: 18.
[20] الثابت
عندنا غير هذا، وكتاب علي (عليه السلام) بإملاء
الرسول (صلى الله عليه وآله) المخزون عند الأئمة الطاهرة
(عليهم السلام) لا يلائمه.
[21] سورة
النحل، الآية: 90.
[22] سورة
محمد، الآية: 17.
[23] سورة
الحج، الآية: 24.
[24] مقدمة
جامع التفاسير: 94 ـ 96، نشر دار الدعوة.
[25] نهج
البلاغة، الخطبة 210.
[26] لاحظ
كتاب بحوث في الملل والنحل: 187 / 3 ـ 192.
[27] سورة
النساء، الآية: 105.
[28] الإتقان في
علوم القرآن: 1197 / 2.
لا محيص
للمفسّر من تبنِّي علوم يتوقف عليها فهم الآية وتبيينها، وهذه
الشروط تأتي تحت عناوين خاصة مع تفاصيلها:
1 - معرفة
قواعد اللغة العربية:
إنّ
القرآن الكريم نزل باللغة العربية، قال سبحانه: ﴿
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ
مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ
﴾
[29]
ومعرفة اللغة العربية فرع معرفة علم النحو والاشتقاق والصرف.
فبعلم
النحو يميز الفاعل عن المفعول، والمفعول عن التمييز، إلى غير ذلك
من القواعد التي يتوقف عليها فهم معرفة اللغة.
وأمّا
الاشتقاق فهو الذي يُبين لنا مادة الكلمة وأصلها حتى نرجع في تبيين
معناها إلى جذورها، وهذا أمر مهم زلّت فيه أقدام كثير من الباحثين،
وهذا هو المستشرق « فُوجل »
مؤلف « نجوم الفرقان في أطراف
القرآن » الذي جعله كالمعجم
لألفاظ القرآن الكريم وطبع لأوّل مرة عام
1842 م، فقد التبس عليه جذور
الكلمات في موارد كثيرة، ذكر فهرسها محمد فؤاد عبد الباقي مؤلف
« المعجم المفهرس لألفاظ
القرآن الكريم » في أوّل
معجمه.
حيث زعم
أنَّ قوله: ﴿
وَقَرْنَ
﴾ في قوله سبحانه مخاطباً لنساء النبيّ: ﴿
وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ ﴾
[30]
مأخوذ من قَرَن مع أنّه مأخوذ من « قرّ »
فأين القَرْن من القرّ والاستقرار؟! كما زعم أنَّ المرضى في قوله
سبحانه: ﴿
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ﴾
[31]
مأخوذ من رضي مع أنّه مأخوذ من مرض فأين الرضا من المرض؟! وقس
على ذلك غيره.
وأمّا علم
الصرف فبه يعرف الماضي عن المضارع وكلاهما عن الأمر والنهي إلى غير
ذلك، وما ذكرنا من الشرط ليس تفسيراً لخصوص القرآن الكريم بل هو
شرط لتفسير كلّ أثر عربي وصل إلينا.
2 - معاني
المفردات:
إنَّ
الجملة تتركّب من مفردات عديدة يحصل من اجتماعها جملة مفيدة
للمخاطب، فالعلم بالمفردات شرط لازم للتفسير، فلولا العلم بمعنى
«الصعيد»
كيف يمكن أن يُفسر قوله سبحانه: ﴿
فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ﴾.
[32]
وفي
المقام أمر مهمّ، وهو أن يهتمّ المفسِّر بأُصول المعاني التي يشتق
منها معان أُخرى، فإنَّ كلام العرب مشحون بالمجاز والكنايات، فربما
يستعمل اللفظ لمناسبة خاصة في معنى قريب من المعنى الأوّل فيبدو
للمبتدئ انّ المعنى الثاني هو المعنى الأصلي للكلمة يفسر بها الآية
مع أنّها معنى فرعيّ اشتق منه لمناسبة من المناسبات.
وأفضل
كتاب أُلّف في هذا الموضوع أي إرجاع المعاني المتفرعة إلى أُصولها،
كتابان:
أ:
« المقاييس »
لأحمد بن فارس بن زكريا (المتوفّى عام 395 هـ) وقد طبع في ستة
أجزاء.
ب:
« أساس البلاغة »
لمحمود الزمخشري (المتوفّى عام 538
هـ).
فبالمراجعة إلى ذينك المرجعين يعرف المفسِّر المعنى الأصلي الذي
يجب أن يفسر به الكلمة في القرآن الكريم ما لم تقم القرينة على
خلافه، ولنأت بمثال:
قال
سبحانه في قصة آدم: ﴿
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾
[33]
فإنَّ كثيراً من المتعاطين لعلم التفسير يتخذون الكلمتين ذريعة
لعدم عصمة آدم بذريعة أنَّ لفظة «
عصى
»
عبارة عن المعصية المصطلحة، و «
الغواية »
ترادف الضلالة، لكن الرجوع إلى أُصول المعاني يعطي انطباعاً غير
ذلك، فلا لفظة «
عصى
»
ترادف العصيان المصطلح ولا الغواية ترادف الضلالة.
أمّا
العصيان فهو بمعنى خلاف الطاعة.
يقول ابن
منظور: العصيان خلاف الطاعة، والعاصي الفصيل إذا لم يتبع أمه.
[34]
فمن خالف
أمر مولاه أو نصح الناصح، يقال: عصى، وعلى ذلك فليس كلمة « عصى »
إلاّ موضوعة لمطلق المخالفة، سواء أكانت معصية كما إذا خالف أمر
مولاه، أو لم تكن كما إذا خالف نصح الناصح.
ولا يمكن
أن يستدل بإطلاق اللفظ على أنّ المورد من قبيل مخالفة أمر المولى.
وأمّا
الغيّ فهو ـ كما في لسان العرب ـ يستعمل في الخيبة والفساد والضلال
[35]، ومن الواضح أنَّ هذه المعاني أعمّ
من المعصية الاصطلاحية ومن مخالفة نصح الناصح.
3 - تفسير
القرآن بالقرآن:
إنّ
القرآن الكريم يصف نفسه بأنّه تبيان لكلّ شيء ويقول: ﴿
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ
﴾
[36] فهل يصحّ أن يكون مبيّناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه إذا كان
فيه إجمال؟
هذا
من جانب، ومن جانب آخر أنَّ القرآن تناول موضوعات مهمّة في سور
متعددة لغايات مختلفة، فربما يذكر الموضوع على وجه الإجمال في موضع
ويفسره في موضع آخر، فما أجمله في مكان فقد فصّله في موضع آخر، وما
اختصر في مكان فإنّه قد بسط في آخر، وبذلك يمكن رفع إجمال الآية
الأُولى بالآية الثانية، كيف وقد وصفه سبحانه بقوله: ﴿
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً
مَّثَانِيَ ﴾
[37]
فإنَّ المراد من المتشابه هو تشابه معاني الآيات بعضها مع بعض
وتسانخها وتكرر مضامينها بقرينة قوله «مثاني»، وبذلك يظهر أنَّ
رفع إجمال الآية بنظيرتها شيء دعا إليه القرآن الكريم لكن بعد
الإمعان والدقة فيه. ولنضرب لذلك مثالاً يقول سبحانه في وصف تعذيب
قوم لوط: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم
مَّطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾
[38]
ربما يتصوّر القارئ أنَّهم عذبوا بالمطر الغزير الذي يستعقب السيل
الجارف فغرِقوا فيه، ولكن في آية أُخرى أتى سبحانه ما يرفع إبهام
الآية فقال: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾
[39]
فصرّح بأنّهم أُمطروا مطر الحجارة فهلكوا بها، كما أهلك أصحاب
الفيل بها كما قال سبحانه: ﴿ تَرْمِيهِم
بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ﴾
[40]
ولنأت بمثال آخر:
يقول
سبحانه في حقّ اليهود: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ
إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ ﴾
[41]
فظاهر الآية أنَّهم كانوا ينتظرون مجيء الله تبارك وتعالى في ظلل
من الغمام ولكن الآية الأُخرى ترفع الإبهام وأنَّ المراد مجيء أمره
سبحانه يقول: ﴿
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
﴾
[42].
4 - الحفاظ
على سياق الآية:
إنّ من
أهمّ وظائف المفسِّر الحفاظ على سياق الآيات الواردة في موضوع واحد؛
فتقطيع الآية بعضها عن بعض، والنظر إلى الجزء دون الكل لا يعطي
للآية حقّها في التفسير، فالآيات الواردة في موضوع واحد على وجه
التسلسل كباقة من الزهور تكمن نظارتها وجمالها في كونها مجموعة
واحدة، وأمّا النظر التجزيئي إليها فيسلب ذلك الجمال والنظارة
منها، حتى أنّ بعض الملاحدة دخل من ذلك الباب فحرّف الآية من
مكانها وفسّرها بغير واقعها، ولنأت بمثال: إنّه
سبحانه تبارك وتعالى يخاطب بني آدم بخطابات ثلاثة أو أكثر في بدء
الخلقة، أي بعد هبوط آدم إلى الأرض، فخاطب أولاده في تلك الفترة
بالخطابات التالية، وقال:
﴿
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي
سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ
مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾
[43].
﴿
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ
مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ
أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
[44].
﴿
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[45].
فقد احتجّ
من ينكر الخاتمية بالآية الأخيرة على أنَّه سبحانه يرسل الرسول بعد
رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) بشهادة هذه
الآية التي نزلت على النبي (ص)، أعني: ﴿
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ
... ﴾.
والمسكين
فسّر القرآن بالرأي وبرأي مسبق، حيث فَصَلَ هذه الآية عمّا تقدّمها
من الآيات التي تحكي خطاب الله سبحانه في بدء الخليقة وأنّه سبحانه
في تلك الفترة خاطب بني آدم بهذه الآية، فلو كان النبي يتلو هذه
الآية، فإنّما يحكي خطاب الله سبحانه في ذلك الأوان لا في عصر
رسالته وحياته، ويكفي في ذلك مراجعة المجموعة التي هذه الآية جزء
منها في سورة الأعراف من الآية 19 إلى الآية 36، فالجميع بسياق
واحد ونظم فارد يحكي خطاب الله في بدء الخليقة لا خطابه سبحانه في
عهد الرسول، وهذا ما دعانا إلى التركيز بأنَّ حفظ السياق أصل من
أُصول التفسير.
وما ذكرنا
من لزوم الحفاظ على سياق الآيات لا يعني أنَّ القرآن الكريم كتاب
بشري يأخذ بالبحث في الموضوع فإذا فرغ عنه يبتدئ بموضوع آخر
دائماً.
وإنّما
المراد أنَّ الحفاظ على سياق الآيات إذا كان رافعاً للإبهام
وكاشفاً عن المراد لا محيص للمفسِّر من الرجوع إليه، ومع ذلك فإنَّ
القرآن الكريم ليس كتاباً بشرياً ربما يطرح في ثنايا موضوع واحد
موضوعاً آخر له صلة بالموضوع الأصلي ثمّ يرجع إلى الموضوع الأوّل،
وإليك شاهدين:
إنّ
القرآن يبحث في سورة البقرة عن أحكام النساء، مثل المحيض والعدّة
والإيلاء وأقسام الطلاق من الآية
222 إلى 240، ومع ذلك
فقد طرح موضوع الصلاة في ثنايا هذه الآيات، يعني من آية
237 إلى
238، ثمّ أخذ بالبحث في
الموضوع السابق، وإليك صورة إجمالية ممّا ذكرنا، يقول سبحانه:
﴿
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ
بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾
[46].
ويستمر في
البحث في الموضوع بشقوقه المختلفة ويقول: ﴿
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾.
وقبل أن
يُنهي الكلام في الموضوع شرع بالأمر بالصلاة والحفاظ عليها
وبالخصوص الصلاة الوسطى ويقول:
﴿
حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ
لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾
[47].
﴿
فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ
فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ
تَعْلَمُونَ ﴾
[48].
ترى أنّه
انتقل من الموضوع الأوّل إلى موضوع آخر، وهو الحفاظ على الصلوات
وتعليم كيفية صلاة الخوف، ثمّ بعد ذلك نرى أنّه رجع إلى الموضوع
الأوّل وقال:
﴿
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً
وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ ﴾.
وأمّا ما
هو الحافز إلى بيان حكم الصلاة، قبل إنهاء أحكام المرأة فهو موكول
إلى علم التفسير.
نموذج آخر:
أخذ الوحي
في تبيين مكانة نساء النبي (صلى
الله عليه وآله)
والمهمات الثقيلة الملقاة على عاتقهن، وابتدأ به في سورة الأحزاب
من الآية 28 وختمها بالآية
35، ومع ذلك طرح في ثنايا
هذا الموضوع موضوعاً آخر باسم طهارة أهل البيت من الرجس.
يقول
سبحانه:
﴿
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾
ويقول:
﴿
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ
الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾
[49].
وقبل أن
يُنهي البحث حول أزواج النبي حتى قبل أن يكمل تلك الآية، أخذ
بالبحث حول أهل البيت (ع) على نحو يكون صريحاً أنَّ المراد منهم غير
أزواج النبي وقال: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾.
ثمّ رجع
إلى الموضوع الأوّل وقال:
﴿
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ ﴾.
وأمّا
الدليل على أنّه لا صلة لآية التطهير بنساء النبي هو لفظ الآية، أي
تذكير ضمائرها ﴿ عَنكُمُ ﴾، ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ
﴾
وغير ذلك من القرائن المتصلة والمنفصلة.
على أنّ
لحن الآيات في نساء النبي هو لحن التنديد والتخويف بخلاف هذه الآية
فإنَّ لحنها لحن التمجيد والثناء.
فأين
قوله سبحانه: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن
يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾
من قوله سبحانه:
﴿
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ ﴾؟!
وأمّا
الصلة بين الموضوعين فإليك بيانه:
إنّه
سبحانه خاطب نساء النبي بالخطابات التالية، وقال:
1 - ﴿
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ
بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ
﴾
2 - ﴿
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ
اتَّقَيْتُنَّ ﴾
3 - ﴿
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾
فعند ذلك
صحّ أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس
وطهّرهم تطهيراً، وذلك لوجهين:
1 - تعريفهنّ
على جماعة بلغوا في الورع والتقوى الذروةَ العليا، وفي الطهارة عن
الرذائل والمساوئ القمةَ، وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة
وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهن أن يقتدينّ بهم ويستضيئنّ
بضوئهم.
2 -
التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس
ومطهّرة من الدنس، ولهنّ معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب، واللازم
عليهنّ الحفاظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي
والمساوئ، والتحلّي بما يرضيه سبحانه، ولأجل ذلك يقول سبحانه: ﴿
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ
﴾،
وما هذا إلاّ لقرابتهنّ منه (صلى
الله عليه وآله)
وصلتهنّ بأهل بيته. وهي لا تنفك عن المسؤولية الخاصة، فالانتساب
للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولبيته
الرفيع، سبب المسؤولية ومنشؤها، وفي ضوء هذين الوجهين صحّ أن يطرح
طهارة أهل البيت (ع) في أثناء المحاورة مع نساء النبي (ص) والكلام حول
شؤونهن.
ولقد قام
محقّقو الإمامية ببيان مناسبة العدول في الآية، نأتي ببعض
تحقيقاتهم، قال السيد القاضي التستري: لا يبعد أن يكون اختلاف آية
التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي
(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته
(عليهم السلام) على معنى أنّ تأديب
الأزواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد، من توابع إذهاب الرجس والدنس
عن أهل البيت (عليهم السلام)
[50].
5 -
الرجوع إلى الأحاديث الصحيحة وإجماع المسلمين:
إنّ
كثيراً من الآيات المتعرّضة لأحكام الأفعال والموضوعات مجملة ورد
تفسيرها في السنّة القطعية وإجماع المسلمين وأحاديث أئمّة أهل
البيت (ع) كالصلاة والزكاة والحجّ وغير ذلك ممّا لا محيص للمفسِّر من
الرجوع إليها في رفع الإجمال وتبيين المبهم، وهو أمر واضح.
وهناك سبب
ثان للرجوع إليه، وهو أنَّه ورد في القرآن مطلقات ولكن أُريد منها
المقيد، كما ورد عموم أُريد منه الخصوص، وذلك وفقاً لتشريع
القوانين في المجالس التشريعية، فإنّهم يذكرون المطلقات والعموم في
فصل كما يذكرون قيودها ومخصصاتها في فصل آخر باسم الملحق، وقد حذا
القرآن في تشريعه هذا الحذو فجاءت المطلقات والعموم في القرآن
الكريم والمقيد والمخصص في نفس السنّة، ولنأت بمثال:
يقول
سبحانه: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾
[51]
وجاء في السنّة مخصصها وأنّه لا ربا بين الزوج والزوجة والولد
والوالد، فقد رخص الإسلام الربا هنا.
قال
الإمام الصادق (عليه السلام): قال أمير
المؤمنين (عليه السلام):
« ليس بين الرجل وولده رباء،
وليس بين السيد وعبده ربا »
[52].
وروى
زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):
« ليس بين الرجل وولده، وبينه
وبين عبده، ولا بين أهله ربا، إنّما الربا فيما بينك وبين ما لا
تملك »
[53].
ولعلّ
قوله سبحانه: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾
[54]
يوحي إلى هذا المعنى.
غير أنَّ
المهم صحّة الأحاديث الواردة في تفسير القرآن الكريم، أمّا ما يرجع
إلى السنن وتبيين الحلال والحرام بالتخصيص والتقييد فقد وردت فيه
روايات صحاح وحسان، إنّما الكلام فيما يرجع إلى المعارف والعقائد
والقصص والتاريخ فالحديث الصحيح في ذلك المورد في كتب (العامة)
قليل جداً، يقول الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاث كتب ليس
لها أُصول: المغازي، والملاحم، والتفسير. قال المحقّقون من أصحابه:
مراده أنَّ الغالب أنَّها ليس لها أسانيد صحاح متصلة
[55].
ومن عجيب
الأمر أنَّه لم يرد عن طرق الصحابة والتابعين ما يرجع إلى تفسير ما
ورد من الآيات حول العقائد والمعارف، وكأنّهم اكتفوا بقراءتها
والمرور عليها كما عليه جملة من السلفيين.
إنّه من
المعلوم أنَّ الإحاطة بمعاني الألفاظ والجمل لا يكفي في تفسير قوله
سبحانه: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
[56]، حيث إنّه يثبت الرمي للرسول
(ص) وفي
الوقت نفسه ينفي عنه وهما متضادان.
كما أنَّه
لا يكفي الإحاطة بالأدب العربي ومعاني المفردات فهم قوله سبحانه: ﴿
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ
وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
[57]، حيث اتّحد الشاهد والمشهود ومع ذلك
كيف يشهد على وحدانيته؟!
ففي هذه
الآيات لا محيص للمفسِّر من أن يرجع إلى أحد الثقلين، أي بما أُثر
عن أئمة أهل البيت (ع)، أو إلى العقل الصريح، وإلاّ تبقى الآية على
إجمالها، ويكون تفسيرها المرور عليها، وبالتالي تصبح الآية ـ نعوذ
بالله ـ لقلقة في اللسان.
[29] سورة
الشعراء، الآيات: 193 ـ 195.
[30] سورة
الأحزاب، الآية: 33.
[31] سورة
التوبة، الآية: 91.
[32] سورة
المائدة، الآية: 6.
[33] سورة طه،
الآية: 121.
[34] لسان
العرب: 67 / 14.
[35] المصدر
السابق: 140 / 14.
[36] سورة
النحل، الآية: 89.
[37] سورة الزمر،
الآية: 23.
[38] سورة
الشعراء، الآية: 173.
[39] سورة
الحجر، الآية: 74.
[40] سورة
الفيل، الآية: 4.
[41] سورة
البقرة، الآية: 210.
[42] سورة النحل،
الآية: 33.
[43] سورة
الأعراف، الآية : 26.
[44] سورة
الأعراف، الآية: 27.
[45] سورة
الأعراف، الآية : 35.
[46] سورة
البقرة، الآية: 232.
[47] سورة
البقرة، الآية: 238.
[48] سورة البقرة،
الآية: 239.
[49] سورة
الأحزاب، الآية: 28.
[51] سورة
البقرة، الآية: 275.
[52] الوسائل:
12، الباب 7 من أبواب الربا، الحديث 1 و 3. وقد ذكر
الإمام نكتة التشريع في كلامه.
[53] الوسائل:
12، الباب 7 من أبواب الربا، الحديث 1 و 3. وقد ذكر
الإمام نكتة التشريع في كلامه.
[54] سورة
الحشر، الآية: 7.
[55] البرهان في
علوم القرآن: 2/ 159.
[56] سورة
الأنفال، الآية: 17.
[57] سورة آل
عمران، الآية: 18.
إنَّ
الرسول (صلى الله عليه وآله)
حسب القرآن الكريم هو المفسِّر الأوّل، وأنَّه لا تقتصر وظيفته في
القراءة والتلاوة، بل يتعيّن عليه بعد القراءة تبيان ما أجمل
وتفسير ما أُبهم يقول سبحانه: ﴿
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
[58].
ترى أنّه
سبحانه يجعل غاية النزول بيان الرسول حقائق القرآن للناس مضافاً
إلى أنّه سبحانه يشير في بعض الآيات إلى أنّ عليه وراء البيان
القراءة والجمع، يقول: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾
[59].
فالآية
ترشد إلى الوظائف الثلاث: القراءة، والجمع، والبيان التي على
عاتق النبي بأمر من الله سبحانه.
أمّا
التلاوة يقول سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ ﴾
[60].
وأمّا
الجمع فالحقّ أنَّه قد جمع القرآن في حياته ولم يترك القرآن
متشتتاً هنا وهناك.
وأمّا
البيان فقد كان يبيّن آيات الذكر الحكيم بالتدريج؛ قال أبو عبد
الرحمن السلمي: حدّثنا الذين كانوا يقرأون القرآن كعثمان بن عفان،
وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنّهما كانوا إذا تعلّموا من النبي
عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل،
قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً، ولهذا كانوا يبقون
مدّة في حفظ السورة
[61].
لكنَّ
جميع ما ورد عن النبي (ص) من التفسير ـ غير ما ورد من أسباب النزول ـ
لا يتجاوز المِئَتَيْن وعشرين حديثاً تقريباً، وقد أتعب جلال الدين
السيوطي نفسه فجمعها من مطاوي الكتب في آخر كتابه
« الإتقان »
فرتّبها على ترتيب السور من الفاتحة إلى الناس
[62].
ومن المعلوم أنَّ هذا
المقدار لا يفي بتفسير القرآن الكريم ولا يمكن لنا التقوّل بأنّه
(صلى الله عليه وآله) تقاعس عن مهمته، وليس الحل إلاّ أن نقول
بأنّه (صلى الله عليه وآله) أودع علم الكتاب في أحد الثقلين الذين
طهرهم الله من الرجس تطهيراً، فقاموا بتفسير القرآن بالمأثور عن
النبي (ص) المودَع في مجاميع كثيرة يقف عليها المتتبع في أحاديث الشيعة
[63].
وبما
ذكرنا علم أنّ الاقتصار في التفسير بالمأثور على ما روي في كتب
القوم لا يرفع الحاجة، وليس للمفسِّر الواعي محيص من الرجوع إلى ما
روي عن علي وأولاده المعصومين
(عليهم السلام) في مجال التفسير وهي كثيرة. ولعلّه
إليهم يشير قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
﴾
[64] فالمصطفون من عباده هم الوارثون علم
الكتاب.
ولنذكر
نموذجاً من تفسير النبي (صلى الله
عليه وآله)
لمّا نزل قوله سبحانه: ﴿
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾
[65]
قال عدي بن حاتم: إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود، فكنت أنظر
فيهما، فلا يتبيّن لي، فضحك رسول الله حتى رؤيت نواجذه، ثمّ قال:
« ذلك بياض النهار، وسواد
الليل »
[66].
6 - معرفة
أسباب النزول:
إنَّ
لمعرفة أسباب النزول دوراً هاماً في رفع الإبهام عن الآيات التي
وردت في شأن خاص، لأنَّ القرآن الكريم نزل نجوماً عبر ثلاثة وعشرين
عاماً إجابة لسؤال، أو تنديداً لحادثة، أو تمجيداً لعمل جماعة، إلى
غير ذلك من الأسباب التي دعت إلى نزول الآيات، فالوقوف على تلك
الأسباب لها دور في فهم الآية بحدها ورفع الإبهام عنها، فلنأت
بأمثلة ثلاثة يكون لسبب النزول فيها دور فعال بالنسبة إلى رفع
إبهام الآية.
1 - إنّه
سبحانه يندِّدُ بأشخاص ثلاثة تخلّفوا عن الجهاد في سبيل الله حتّى
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وظنَّ هؤلاء بأنّه لا محيص من اللجوء
إلى الله سبحانه، فتابوا فقبلت توبتهم، لأنّه سبحانه تواب رحيم،
يقول:
﴿
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا
إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
[67].
فلا شكّ
أنَّ في الآية عدّة إبهامات:
أ: مَن
هؤلاء الثلاثة الذين تخلّفوا؟
ب: ما هي
الدواعي التي حدت بهم إلى التخلّف؟
ج: كيف
ضاقت عليهم الأرض؟
د: كيف
ضاقت عليهم أنفسهم؟
هـ: بأي
دليل أدركوا بأنّه لا ملجأ من الله إلاّ إليه؟
و: ما هو
المراد من قوله: ﴿ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ ﴾؟
إنّ الاجابة على هذه
الأسئلة تكمن في الوقوف على أسباب النزول، فمن رجع إليها يسهل له
الإجابة
[68].
2 - يقول
سبحانه: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن
شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً
فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾
[69].
فظهور
الآية يوحي إلى عدم وجوب السعي بين الصفا والمروة وإنّما هو جائز
بشهادة قوله: « لا جناح »،
وأمّا إذا رجع إلى سبب النزول يعرف أنّ قوله
« لا حرج »
لا يزاحم كونه واجباً.
قال
الإمام الصادق (عليه السلام): « كان
المسلمون يَرَوْن أنَّ الصفا والمروة ممّا ابتدع أهل الجاهلية
فأنزل الله هذه الآية وإنّما قال: ﴿ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ وهو واجب أو
طاعة على الخلاف فيه، لأنّه كان على الصفا صنم يقال له: إساف وعلى
المروة صنم يقال له نائلة وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما،
فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين، فأنزل الله هذه الآية
»
[70].
وبالوقوف
على ذلك يعلم أنّ قوله: «
لا
جُناح » لا ينافي كون السعي
فريضة، لأنّ نفي الجناح نسبي متوجه إلى ما زعمه بعض المسلمين
مانعاً من السعي، فقال سبحانه لا يضر هذا وعليكم السعي بين الصفا
والمروة وإحياء شعائر الله.
3 - قال
سبحانه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
[71].
فالإنسان
في بدو الأمر يتعجّب من قوله سبحانه: ﴿
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا ﴾ ولكن بعد ما
يقف على سبب النزول يزول تعجبه.
كان
المحرِم عند بعض الطوائف لا يدخل بيته من بابه بل كان ينقب في ظهر
بيته نقباً يدخل ويخرج منه فنزلت الآية بالنهي عن التديّن بذلك.
وفي
الختام نضيف: إنَّه لا يمكن الاعتماد على كلّ ما ورد في الكتب باسم
أسباب النزول، بل لا بدّ من التحقيق حول سنده والكتاب الذي ورد فيه،
فإنَّ أكثر المفسّرين في القرون الأُولى أخذوا علم التفسير من
مستسلمة أهل الكتاب، خصوصاً فيما يرجع إلى قصص الأنبياء وسيرة
أقوامهم، فلا يمكن الاعتماد على كلام هؤلاء.
يقول
المحقّق الشيخ محمد جواد البلاغي:
وأمّا
الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء
وضحاك كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة، فهو ممّا لا يعذر
فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين الله ولا تقوم به الحجّة،
لأنّ تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة، ولا يكون حجّة
من المسانيد إلاّ ما ابتنى على قواعد العلم الديني الرصينة، ولو لم
يكن من الصوارف عنهم إلاّ ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنّة لكفى
[72].
ثمّ ذكر
(قدس سره) ما ذكره علماء الرجال في
كتبهم في حقّ عكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك وقتادة ومقاتل الذين هم
المراجع في نقل كثير من الإسرائيليات والمسيحيات في تفسير الآيات.
7 - الإحاطة بتاريخ صدر الإسلام:
بعث النبي
(صلى الله عليه وآله) من بين أُمّة أُمّية لها
ثقافتها الخاصة وتقاليدها وعاداتها، فالقرآن الكريم يشير في كثير
من الآيات إلى تلك العادات الجاهلية المتوارثة.
إنّ الاطّلاع على
تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده يوضح مفاد كثير من الآيات ويكشف
النقاب عنها، فلنذكر نماذج لذلك:
أ: إنَّه
سبحانه يذكر في سورة الأنعام تقاليد العرب وعاداتهم ويقول:
﴿
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ
نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا
لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى
اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ
وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُواْ هَذِهِ
أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ
بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا
يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ
سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾
[73].
إنَّ هذه
الآيات يسودها كثير من الغموض والإبهام، ولكن إذا رجعنا إلى ما
رواه المؤرّخون في ذلك المضمار من تقاليدهم حينها يزاح الغموض الذي
يكتنفها.
ولا يقتصر
المفسِّر على هذا المقدار من التاريخ، فإنَّ الآيات النازلةَ في
الغزوات والحروب، وفي بعث السرايا لها دور في رفع الإبهام وانكشاف
الحقيقة على ما هي عليه.
وفي وسع
المفسِّر أن يرجع إلى الكتب المعدّة لبيان تاريخ الإسلام، وأخص
بالذكر « السيرة النبوية »
لابن هشام (المتوفّى عام 218
هـ) وتاريخ اليعقوبي (المتوفّى 290
هـ) وتاريخ الطبري (المتوفّى 310
هـ) وتفسيره، و « مروج الذهب »
للمسعودي (المتوفّى 345 هـ)
و « الإمتاع »
للمقريزي (المتوفّى 845 هـ)
إلى غير ذلك من الكتب المعدّة.
قال الشيخ
عبده: أنا لا أعقل كيف يعقل لأحد أن يفسر قوله تعالى: ﴿
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾
[74]
الآية، وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتّحدوا؟ وكيف تفرّقوا؟ وما
معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أو ضارة؟
وماذا كان من آثار بعثة الأنبياء فيهم؟
[75].
والحقّ
أنَّ تفسير الآيات الواردة في الأُمم الغابرة ابتداءً من آدم
وانتهاءً إلى نبيّنا خاتم الأنبياء والرسل رهن الوقوف على تاريخهم
وسيرتهم وأعرافهم.
8 - تمييز
الآيات المكّية عن المدنية:
عرف المكي
بما نزل قبل الهجرة، والمدني بما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم
بالمدينة، عام الفتح أم عام حجّة الوداع أم بِسفَرٍ من الأسفار
[76].
ثمّ إنّ
الوقوف على الآيات المدنية وتمييزها عن المكية يحصل من خلال
أُسلوبين:
الأوّل:
الأخذ بأقوال المفسِّرين ومؤلّفي علوم القرآن، فقد ميّزوا السور
المكية عن السور المدنية، كما ميّزوا الآيات المدنية التي جعلت في
ثنايا السور المكية وبالعكس.
الثاني:
دراسة مضمون الآية وأنَّها هل كانت تناسب البيئة المكية أو المدنية؟ حيث إنَّ الطابعَ السائد على أكثر الآيات المكية هو مكافحة الشرك
والوثنية، ونقد العادات والتقاليد الجاهلية، والدعوة إلى الإيمان
بالمعاد، والتنديد بالكافرين والمشركين؛ في حين أنَّ الطابعَ
السائد على أكثر الآيات المدنية هو تشريع الأحكام في مختلف
المجالات، والجدال مع أهل الكتاب في إخفاء الحقائق، والتنديد
بالمنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، إلى غير ذلك من
العلائم والملامح التي يمكن أن يتميّز بها المكي عن المدني.
وقد ذكر
السيوطي بسند خاص عن ابن عباس أسماء السور المدنيّة بعدما أنهى ذكر
السور المكّية، وإليك أسماء السور المدنية، وبالوقوف عليها تعلم
السور المكّية:
سورة
البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة،
ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ القتال، ثمّ الرعد،
ثمّ الإنسان، ثمّ الطلاق، ثمّ لم يكن، ثمّ الحشر، ثمّ إذا جاء نصر
الله، ثمّ النور، ثمّ الحج، ثمّ المنافقون، ثمّ المجادلة، ثمّ
الحجرات، ثمّ التحريم، ثمّ الجمعة، ثمّ التغابن، ثمّ الصف، ثمّ
الفتح، ثمّ المائدة، ثمّ براءة
[77].
وأمّا
الحاجة لتمييز المكي عن المدني فلأنّه يرفع الإبهام العالق ببعض
الآيات، مثلاً: إنَّ سورة الشورى التي ورد فيها قوله سبحانه: ﴿
قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى ﴾
[78]
سورة مكية مع أنّ هذه الآية حسب المأثور المتواتر نزلت في أهل بيت
النبي (صلى الله عليه وآله) أعني: علياً وفاطمة
والحسن والحسين (عليهم السلام) فربما
يستبعد نزولها في حقّ أهل البيت بحجة أنَّ السورة مكية ولم يكن
يومذاك في مكة الحسن والحسين، ولكنّه لو وقف على أنّ مكية السورة
لا تلازم مكية عامة آياتها، لما استبعد نزولها في حقّهم، فكم من
سورة مكية وقعت في ثناياها آيات مدنية وبالعكس، وهذه السورة من
القسم الأوّل وإن كانت مكية لكن بعض آياتها مدنية ومنها هذه الآية،
وقد صرح به علماء التفسير في كتبهم
[79]، حتى أنّك تجد في المصاحف المصرية
المطبوعة تحت إشراف مشيخة الأزهر، التصريح بأنّ سورة الشورى مكية
إلاّ الآيات 23 ،24
،25 ،27
فمدنية.
9 -
الوقوف على الآراء المطروحة حول الآية:
إنّ
الآراء الموروثة من الصحابة والتابعين ثمّ علماء التفسير إلى يومنا
هذا ثروة علمية ورثناها من الأقدمين، وهم قد بذلوا في تفسير الذكر
الحكيم جهوداً كبيرة، فألّفوا مختصرات ومفصّلات وموسوعات حول
القرآن الكريم، فالإحاطة بآرائهم والإمعان فيها وترجيح بعضها على
بعض بالدليل والبرهان من أُصول التفسير شريطة أن يبحث فيها بحثاً
موضوعياً بعيداً عن كلّ رأي مسبق.
10 -
الاجتناب عن التفسير بالرأي:
المراد من
التفسير بالرأي هو أنَّ المفسِّر يتخذ رأياً خاصاً في موضوع بسبب
من الأسباب ثمّ يعود فيرجع إلى القرآن حتى يجد له دليلاً من الذكر
الحكيم يعضده، فهو في هذا المقام ليس بصدد فهم الآية وإنّما هو
بصدد إخضاع الآية لرأيه وفكره، وبذلك يبتعد عن التفسير الصحيح
للقرآن.
وقد حذّر
النبي (صلى الله عليه وآله) كافة المسلمين من
التفسير بالرأي أو التفسير بغير علم، فقال:
« من قال في القرآن بغير علم
فليتبوّأ مقعده من النار »
[80].
وقال:
« من تكلّم في القرآن برأيه
فأصاب فقد أخطأ »
[81].
وليس
النهي عن التفسير بالرأي منحصراً بالأحاديث النبوية، بل القرآن
الكريم يندّد بالتقوّل على الله بما لا يعلم ويقول: ﴿
وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[82].
ويقول: ﴿
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ﴾
[83].
فمن
يفسِّر القرآن برأيه، فقد قضى بما ليس له به علم وتقوّل على الله
بما لا يعلم.
وقد راج
التفسير بالرأي بطابَع علمي في العصور المتأخرة بعد الثورة
الصناعية التي اجتاحت الغرب، فإنَّ الفروض العلمية التي طرحت من
قبل علماء الطبيعة والفلك هي فروض غير مستقرة لا يمكن الركون إليها
في تفسير الذكر الحكيم، ولذلك سرعان ما تتبدّل النظريات العلمية إلى
أُخرى؛ فمن حاول أن يخضع القرآن الكريم للاكتشافات العلمية
الحديثة، فقد فسّر القرآن برأيه، وإن صدق في نيته وأراد إبراز جانب
من جوانب الإعجاز القرآني، ولنذكر نموذجاً:
نشر جارلز
داروين كتابه « تحوّل الأنواع »
عام 1908 م فأثبت فيه وفق
تحقيقاته أنَّ الإنسان هو النوع الأخير من سلسلة تطور الأنواع،
وأنَّ سلسلته تنتهي إلى حيوان شبيه بالقردة، فذكر آباءه وأجداده
بصورة شجرة خاصة مترنماً قول الشاعر:
أُولئك
آبائي فجئني بمثلهم ...
كان لنشر
هذه النظرية ردّ فعل سيّئ في الأوساط الدينية دون فرق بين الأوساط
المسيحية والمسلمة واليهودية الذين اتّفقوا على أنّ الإنسان كائن
إبداعي وأنَّ سلسلته تنتهي إلى آدم أبي البشر الذي خُلق بهذه
الصورة من دون أن يكون له صلة بسائر الحيوانات.
ثمّ إنّ
بعض السُّذَّج من الناس اتّخذوا تلك الفرضية ذريعة لتعارض العلم
والدين وفصله عن الآخر، فزعموا أنَّ منهج الدين غير منهج العلم،
فربما يجتمعان وربما يفترقان.
وهناك من
لم يؤمن بفصل العلم عن الدين فحاول إخضاع القرآن الكريم للفرضية،
فأخذ يفسِّر ما يرجع إلى خلقة الإنسان في سور مختلفة على وجه ينطبق
على تلك الفرضية.
هذا وكان
السجال حاداً بين المتعبّدين بالنص والمتأوّلين له إلى أن أثبت
الزمان زيف الفرضية والفروض التي جاءت بعده حول خلقة الإنسان.
وليست
خلقة الإنسان موضوعاً فريداً في هذا الباب، بل لم يزل أصحاب البدع
والنحل في دأب مستمر لإخضاع القرآن لآرائهم وعقائدهم، فهذه
النِّحَل الكثيرة السائدة بين المسلمين اتّخذوا القرآن ذريعة
لعقائدهم، فما من منتحل إلاّ ويستدلّ بالقرآن على صحة عقيدته مع
أنّ الحقّ واحد وهؤلاء متكثّرون.
وكلّ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرّ لهم بذاكـا
ولقد كان
لتفسير القرآن بالرأي دور في ظهور النِّحَل والبدع بين المسلمين،
وكأنّ القرآن نزل لدعم آرائهم ومعتقداتهم!! أعاذنا الله وإيّاكم
من التفسير بالرأي.
هذه شرائط
عشرة ينبغي للمفسِّر أن يتحلّى بها، وهناك آداب أُخرى ذكرها
العلماء في كتبهم لم نتعرض إليها خشية الإطالة.
وثمة كلمة
قيمة للعلاّمة الشيخ محمد جواد مغنية جاء فيها:
ولا بدّ
لهذا العلم من معدّات ومؤهّلات، منها العلوم العربية بشتى أقسامها،
وعلم الفقه وأُصوله، ومنها الحديث وعلم الكلام، ليكون المفسِّر على
بيّنة ممّا يجوز على الله وأنبيائه، وما يستحيل عليه وعليهم، ومنها
كما يرى البعض علم التجويد والقراءات.
وهنا
شيء آخر يحتاج إليه المفسِّر، وهو أهم وأعظم من كلّ ما ذكره المفسِّرون
في مقدمة تفاسيرهم، لأنّه الأساس والركيزة الأُولى لتفهُّم كلامه جلّ
وعلا. ولم أر من أشار إليه، وقد اكتشفته بعد أن مضيت قليلاً في
التفسير، وهو أنَّ معاني القرآن لا يدركها، ولن يدركها على
حقيقتها، ويعرف عظمتها إلاّ من يحسها من أعماقه، وينسجم معها بقلبه
وعقله، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه، وهنا يكمن السر في قول
الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام):
« ذاك القرآن الصامت، وأنا
القرآن الناطق »
[84].
خلاصة الدرس
شروط
التفسير التي ينبغي للمفسّر أن يتحلّى بها:
1 -
معرفة
قواعد اللغة العربية:
فالقرآن نزل باللغة العربية ﴿
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾.
2 - العلم
بمعاني المفردات: فلولا العلم بمعنى
«الصعيد» كيف يمكن أن
يُفسر قوله سبحانه: ﴿
فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً
﴾.
3 - أن يبدأ
بتفسير القرآن بالقرآن: لأن القرآن يفسّر بعضه بعضاً.
4 - الحفاظ
على سياق الآيات: فتقطيع الآية بعضها عن بعض، والنظر إلى الجزء دون
الكل لا يعطي للآية حقها في التفسير.
5 -
الرجوع
إلى الأحاديث الصحيحة وإجماع المسلمين:
الكثير من الآيات مجملة ورد تفسيرها في السنة القطعية وإجماع
المسلمين وأحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، فبالرجوع إليها يرتفع
الإجمال ويُبيّن المبهم.
6 - معرفة
أسباب النزول: إنَّ لمعرفة أسباب النزول دوراً هاماً في رفع
الإبهام عن الآيات التي وردت في شأن خاص.
7 - الإحاطة
بتاريخ صدور الإسلام: الاطِّلاع على تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده
يوضح مفاد كثير من الآيات ويكشف النقاب عنها.
8 - تمييز
الآيات المكية عن المدنية: فلأنَّه يرفع الإبهام العالق ببعض
الآيات.
9 - الوقوف
على الآراء المطروحة حول الآية: فالإحاطة بآراء الصحابة والتابعين
ثم علماء التفسير وترجيح بعضها على بعض بالدليل والبرهان من أصول
التفسير.
10 - الاجتناب
عن التفسير بالرأي: وهو أن المفسّر يتخذ رأياً خاصاً في موضوع بسبب
من الأسباب ثم يعود إلى القرآن حتى يجد له دليلاً يعضده وهناك آداب
أخرى ذكرها العلماء لم نتعرض لها.
|
[58] سورة
النحل، الآية: 44.
[59] سورة
القيامة، الآيات: 16 ـ 19.
[60] سورة
الجمعة، الآية: 2.
[61]
الإتقان: 175 ـ 176، ط مصر.
[62] الإتقان:
175 ـ 176، ط مصر.
[63] كتفسير
البرهان للسيد البحراني؛ نور الثقلين للحويزي، وقبلهما
تفسير علي بن إبراهيم وغيرها.
[64] سورة فاطر،
الآية: 32.
[65] سورة
البقرة، الآية: 187.
[66] مجمع
البيان: 1/281، ط صيدا.
[67] سورة
التوبة، الآية: 118.
[68] مجمع
البيان: 3 / 78. ومرّ الإيعاز إليه في ص 13.
[69] سورة
البقرة، الآية: 158.
[70] مجمع
البيان: 1 / 240.
[71] مجمع
البيان: 1 / 284.
[73] سورة
الأنعام، الآيات: 136 ـ 138.
[74] سورة
البقرة، الآية: 213.
[75] تفسير
المنار: البقرة: تفسير الآية 213.
[78] سورة
الشورى، الآية: 23.
[79] لاحظ كتاب
نظم الدرر وتناسق الآيات والسور: تأليف إبراهيم بن عمر
البقاعي الشافعي من علماء القرن التاسع، وقد ذكر في كتابه
أنّ الآية مدنية.
[80] أخرجه
البيهقي من حديث ابن عباس كما في البرهان في علوم القرآن:
2 / 161.
[81] أخرجه أبو
داود والترمذي والنسائي على ما في البرهان.
[82] سورة
البقرة، الآية: 169.
[83] سورة
الإسراء، الآية: 36.