تحريك لليسارإيقافتحريك لليمين
نافذة من السماء، العدد السادس والعشرون.
مجلة هدى القرآن العدد الثاني والعشرون
مجلة أريج القرآن، العدد السادس والتسعون
نافذة من السماء، العدد الخامس والعشرون
مجلة هدى القرآن العدد الواحد والعشرون
مجلة أريج القرآن، العدد الخامس والتسعون
مجلة هدى القرآن العدد التاسع عشر
مجلة أريج القرآن، العدد الواحد والتسعون
مجلة أريج القرآن، العدد التسعون
 
التصنيفات
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق طباعة الصفحة
النبي موسى (ع)


بنو اسرائيل في مصر
هاجر ابناء يعقوب واحفاده ـ كما يقص علينا القران الكريم في سورة يوسف ـ من بلاد كنعان الى مصر، حيث نزلوا على يوسف مكرمين. كيف لا، ويوسف ايام ذاك ؛ كان امين فرعون على مصر كلها ؟ ... وهكذا شاء الله تعالى ان يسكن ارض مصر قوماً يعبدونه، ولا يشركون به احدا. انهم ذرية يعقوب بن اسحق بن ابراهيم، وكلهم انبياء، ورسل، وهداة! ...
والى جانب هؤلاء كان اتباع ابراهيم ولوط، يؤمنون بالله الهاً واحداً لا شريك له، وبنبوة ابنائه، الذين يدعون الى الهدى، ودين الحق، وسبيل السلام! ... وعندما شعر النبي يوسف، (عليه السلام)، بدنو اجله، جمع حوله اهل بيته، وقومه الاقربين، وقال لهم بصوت متهدج، ونبرة مفعمة بعميق الايمان: " يا ال يعقوب ... انتم بقية الله على ارضه. وصفوته من صالحي المؤمنين"!... لقد ارسل الله تعالى ابوكم يعقوب، ومن قبله اسحق وابراهيم، دعاة لعبادة الله وحده. واتباع سبيل الحق والخير، والهدى والرشاد، ...فكان جدكم ابراهيم، خليل الله، وصفيه، واباً للانبياء جميعاً، من بعده!...
وها انتم اولاء تعيشون في ارض مصر، مكرمين ما زلت بين ظهرانيكم (أي بينكم ومعكم) وانبي موشك على لقاء ربي، والالتحاق بآبائي وآبائكم الصالحين. فاذا كان ذلك، وانه لكائن لا محالة، فسوف تتعرضون من بعدي للظلم و الطغيان، والاذى والعذاب، فما عليكم، والله، الا الاعتصام بالصبر، والتمسك بدينكم الذي انتم عليه الان،... وبعد زمن، ليس بالطويل، سياتي من بعدي نبي يخلص بني اسرائيل من جبروت فراعنة مصر، وطغيانهم، وعتوهم، به ينصر الله الحق، ويقيم الدين، ويذل الطغاة المتجبرين، فاصبروا صبراً جميلاً، وانتظروا فرجاً من الله، ومخرجاً مما ستؤولون اليه، ولاتنهوا، ولاتحزنوا، ولاتياسوا، واعلموا ان الله مع الصابرين!... واغمض النبي يوسف "عليه السلام" عينيه الكريمتين، وشهق شهقة لطيفة، فاضت بها روحه الشريفة، ملتحقاً بجوار ربه الاعلى، حيث ابائه الانبياء والاولياء، والاوصياء، والشهداء، في جنان الخلد، ونعيم لا يفنى!...

جبروت فرعون
وتهضي اربعة قرون: ويتكاثر ابناء يعقوب، فيصيرون آلافاً قد توزعوا على اقاليم مصر يعملون ويكدحون، ويلاقون ـ كما عهد اليهم، من قبل، يوسف ـ من العذاب والتنكيل، صنوفاً والواناً!... ويشتد الاذى عليهم، ويتضاعف، ايام رمسيس،طاغية فراعنة مصر، الذي ادعى، دون وجه حق، انه اله،.. متخذا الشمس شعاراً!.. فكما ان الحياة لاتستقيم بدون الشمس، كذلك، لاتكون مصر، وشعبها، الابه!.. ويامر الطاغية ببناء هرم له،لا يضاهى، فيعمل شعب مصر كله في تشييد الهرم، سنين طوالاً، وليل نهار، وتزهق في هذا العمل المضني آلاف الانفس، في سبيل عزة فرعون وجبروته. وعندما ينتهون، يأمر ببناء معبد له في اسوان، محاذياً مجرى النيل الذي يهب ارض مصر الخصب والحياة. وعندما ينتهبي العمل من بناء المعبد، يامر بنصب التماثيل، فتنصب التماثيل نحتاً في صخور الجبال!.. ويأتي يوم الافتتاح!.. فيخرج فرعون على قومه في زينته، وفي منتهى الابهة والجلال، يحف به عظماء مملكته، ويحيط به سادة الكهنة، والاشراف!.. فتتعالى صرخات الاف المصريين، وهتافاتهم، وقد اصطفوا لتحية مليكهم العظيم وما ان اطل عليهم حتى خروا له سجداً!.. فتمتلئ نفس فرعون غروراً وشمخ بانفه عاليا استكبارا في الارض، وعتوا،.. وينظر ناحية،.. فيرى جماعة من الناس لم يكونوا من الساجدين. فيسأل عن شانهم، فيقال له: " انهم بنو اسرائيل، لا يدينون بما يدين شعب مصر، ويعبدون إلهاً غيرك، يا مولاي!.."
فيمتقع لونه، ويدمدم غاضباً:" متى كان في مصر قوم يعبدون غيري ؟.. " ويتابع الموكب المهيب طريقه، وقد امتلأت نفسه عليهم حقدا!... وما ان وصل فرعون الى قصره، حتى استدعى رئيس الكهنه، مستوضحاً منه امر بني اسرائيل، هؤلاء. فانباه حقيقة امرهم: فهم يؤمنون باله واحدا، هو رب السموات و الارض، الناس جميعاً عباده، انه خالقهم، ورازقهم، ومميتهم، ومحييهم!.. فيصرخ فرعون غضباً: يعيشون في مملكتي، ويعبدون غيري ؟.. الويل لهم مما يصنعون!... ويتابع رئيس الكهنة: عفوا يا مولاي، فهنالك ما هو اخطراً!... وهل هناك اخطر من هذا يا كاهن فرعون ؟ ...نعم يا سيدي!. وما هو ؟.. قل!.. وعزة فرعون سينالهم عذاب اليم!.. انهم، مولاي، ينتظرون نبي ينقذهم، وينقذ اهل مصر، كما يزعمون، من حكامهم، وسيكون مخلصهم مما هم فيه من اضطهاد.. وهل تعتقد ان هذا النبي الذي لم يظهر امره، وقد ولد، فدعوته قريبة، ام ان امره لايزال بعيداً ؟.. لا، يا مولاي!. فولادته، على ما يظهر، وشيكة الوقوع، كما تقول بذلك النجوم. وهل عندكم انتم معشر الكهنة والمنجمين، علم بذلك ؟ أجل يا سيدي، فسيولد عما قريب في ارض مصر غلام، ليس بمصري، وما اظنه الا من بني اسرائيل، وسيكون له شان كبير، وخطر عظيم على حاكم مصر، وعلى ملكه، معاً، هكذا انباتنا مواقع النجوم. الويل لهم!.. يعيشون بيننا، وينتظرون يوما يدمرون فيه ملكنا ؟..وعزة فرعون لن يصلوا الى ذلك ابداً. ويصرخ فرعون، وقد انتفخت اوداجه غيظا وحنقا،: اين رئيس الشرطة ؟.. وبطرفة عين، يمثل رئيس الشرطة امامه، وينحني، حتى ليكاد يصل رأسه الى قدميه، امر مولاي!.. لقد شرفناكم بتسليمكم امن هذه البلاد، وانتم عما يحصل غافلون ؟ الا ترى الا بني اسرائيل، هؤلاء، يدبرون لنا كل شر، ينتظرون الفرصة السانحة ليدمروا ملكنا تدميرا!.. ولكننا يا مولاي، لا ندعهم يرتاحون. فسياستنا العامة بشانهم تقضي بوضعهم تحت السياط، كالماشية، فهم في قهر دائم، وذلة وامتهان!.. آمرك ان تتشدد في مراقبتهم، وتحول بين الرجال منهم والنساء، فتحتفظ بالنسوة بعيدات عن ازواجهم!، امر مولاي، فانا عبده المطيع!. لاتقاطعني، وهناك امراً آخر: عليك بمراقبة الحوامل من نساء بني اسرائيل، ومن سيحمل من هن. امر مولاي، وطاعة. وعليك ان يكون رجالك حاضرين عند ولادة كل مولود صبي منهم، افهمت ؟.. كل مولود صبي، فتقتلون المولود فور ولادته واياكم ان يفوتكم مولود واحد مهما كانت الظروف، فتستحقون اذ ذاك عذابي، نفذ ما امرك به فورا ؟...انني، ورجالي، عبيد مولاي، وسننفذ امرك على الفور يا سيدي ؟..
وينحني رئيس الشرطة انحناءة شديدة، ثم ينصرف ويتبعه رئيس الكهنة منصرفاً، بعد الاستئذان ...ويتنفس فرعون الصعداء، وهو يسأل نفسه: ماهذا الهم الجديد ؟... احقا ما ينتظره بنو اسرائيل، ويفقهم عليه كهان واد النيل ؟...ويجيب صوت من السماء: {ان فرعون على في الارض، وجعل اهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم، يذبح ابناءهم، ويستحيي نساءهم، انه كان من المفسدين * ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض، ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الارض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.

ولادة موسى "ع" وتربيته
" يوكابد " في احدى زوايا منزلها تعاني المخاض وتستدعي قابلة، وسرعان ما تضع غلاماً، يلتمع جبينه بنور ساحر اخاذ فتسميه " موسى " ...وتخاف عليه عيون فرعون وجواسيسه، وقد بثهم فرعون في كل مكان يترصدون كل صغيرة وكبيرة في بني اسرائيل...وتتامل " يوكابد " وجه الغلام، وكانه قطعة من نور، وتتمتم بحزن غامر: اليس حراماً ان تنتهي الى القتل، يا هذا الوجه الكريم ؟
وبقيت ام موسى الى جانب وليدها لا تفارقه، ملتزمة بيتها لاتغادره، فهي بطفلها مشغولة. وظلت كذلك ثلاثة شهور، ترعاه بحذر، وتحفظه من كل سوء ...ولكن اعين رقباء فرعون، وجواسيسه مفتوحة على كل حدث جديد، مهما صغر شانه...وتشعر ام موسى بالخطر يزحف على وليدها الوسيم الطلعة، فترتاع لذلك وتضطرب. وترفع وجهها الى السماء متضرعة: ربي ورب اسرائيل وابراهيم، واسحاق، ويعقوب، ويوسف، اليك اتوجه بهذا الغلام وعليك اتكل في حفظه فكن له حفيظاً، يا ارحم الرحمين!..
ويلقي في روعها شئ كالالهام:{ان ارضعيه، فاذا خفت عليه فالقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني ...} وتلتفت الى ناحية في منزلها، فاذا بصندوق.. وبيدين مرتعشتين تحمل وليدها، فتضعه فيه، وتخرج به، ترافقها ابنتها، على حذر وخشية من ال فرعون ورجاله متجهة الى شاطئ النيل، وما هو عنها ببعيد، ويصلون، وقد صرف الله عنهم عين كل رقيب يترصد!..
وبرفق وحذر.. تضع الام الصندوق، وفيه موسى على صفحة مياه النيل الهادئ الرقراق، وتطفر من عينها دمعة حرى، ومن صدرها اهة حزن وشجن، وتكاد الابنة ان تصرخ خوف على اخيها الصغير، فتمنعها الام، فتشهق بهلع مكتوم. وتشيع الام وابنتها الصندوق بنظراتهما الولهى، وقد حملته مياه النهر، متنقلاً من موجة رقيقة الى ثانية والى ثالثة، متهادياً بين طياتها، وكانه على راحات ايد حانيات!... ويقترب الصندوق من بعض البساتين المحيطة بقصر فرعون، حيث كانت اسية زوجة فرعون، تتنزه، وبعض جواريها. ويلاحظن النهر يحمل على صفحته الهادئة صندوقاً، وتامر سيدة القصر من ياتيها بالصندوق، وعندما فتحته، فوجئت بما فيه فشهقت دهشة. وتتناول السيدة الغلام بين يديها فخيل اليها انها تحمل فلقة قمر!.. والقي في قلبها حبه وكأنه ابنها حقاً. يجري ذلك بمرأى من ام موسى وابنتها، اللتين كانتا تراقبان ما يحدث من مكان بعيد!... وتحمل اسية الطفل في حضنها، وتشده الى صدرها بحنان غامر..
وعندما بدا لها زوجها بعد آن قصير، توجهت اليه باستعطاف رقيق، قائلة له: اظن بان هذا الغلام الجميل احد ابناء بني اسرائيل، ارجوا ان تكرمني بالابقاء عليه، {عسى ان ينفعنا، او نتخذه ولدا}...وكيف تطلبين مني الابقاء على حياة من امرت بقتله ؟

انه غلام صغير جميل، ولم يتمكن من الحاق اذى بك، خاصة، اذا اقمنا على تربيته عندنا في القصر بعيداً عن العامة والدهماء (اوباش الناس)، فيشب بيننا وكأنه احد ال فرعون طبعاً وتطبعاً ...وينظر فرعون الى وجه الغلام الطفح بالنور، فيبتسم، ويومئ براسه موافقا فليست اسية ممن يرد لهن طلبا ... وتسلم امرأة فرعون الغلام الى المراضع، فيابى الرضاعة، وقد حرم الله عليه ذلك!.. ويعلوا صوته بالبكاء فتحتار اسية، ما العمل ؟... واصبح الجميع حائرين في امر هذا الغلام، الذي لا ينقطع عن الصراخ ...وتحين من اسية نظرة من احدى نوافذ القصر، فتقع عينها على فتاة غريبة متجهة نحو القصر، وهي تتعثر باطراف ثوبها، فماذا تريد ؟...وتنزل السيدة الى حديقة القصر، حيث فرعون، والجواري، والغلام الذي عكر هدوء القصر بصراخه المتواصل، ... وتصل الفتاة فتحيي سيدة القصر ومن حولها، وتنظر، من طرف خفي، الى اخيها، وقد علا صراخه، والى السيدة وقد احتارت في امر هذا الغلام البكاء، وتقول لها، بتودد ورقة: سيدتي، {هل ادلكم على اهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون ؟..} وتسرع اسية في جوابها دون ابطاء: أجل، ايتها الفتاة، هل لديكم من يرضع هذا الغلام ويكفله ؟ وتجيب الفتاة بفرح: اجل سيدتي، أجل!.. هنالك امرأة بوسعها ان تقوم بهذا العمل خير قيام!.. وتنطلق الفتاة الى امها، فتأتي بها الى القصر، وما ان ترى (يوكابد) الغلام بين يدي فرعون الذي كان يهدهده، حتى خفق صدرها،.. وبلهفة تتناول الطفل منه، وتضمه الى صدرها، وتنتحي به جانباً، وتلقمه ثديها فيلتقمه بفرط نهمة، وعندما انتهى من الرضاعة، علت ثغره الطيف ابتسامة، ونشوة فرح وأخذ يناغي امه، وقد طفحت على وجهها السعادة، كالكنار تغريداً... ويعجب فرعون من ذلك، وتعتري الدهشة وجه آسية وجواريها. فالجميع واجم مأخوذ بما يرى ويتساءلون من تكون هذه المرأة التي ارتاح اليها الغلام، وسكن سكوناً مطمئناً ؟... فتجيب: انني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، يرتاح الي كل رضيع!... فيسلمها فرعون الغلام ترضعه وترعاه، وتأتي به الى القصر كل يوم، ان استطاعت، ويجري لها رزقاً وعطاءً. ويرد الله الى (يوكابد) ابنها لتنشرح به صدراً، وتقر به عيناً، وتطيب به نفساً! فتعود به، وبالمال الوفير!...
وهكذا يشب الغلام بين يدي امه، وفي قصر فرعون، حيث الحياة اسطورة، لا كبقية الاساطير. وينشأ في كنف فرعون، ويبلغ مبلغ الرجال، وقد آتاه الله ما لم يؤت مثله احداً من الرجال: صلابة جسم، وسداد فهم، وغزارة علم ...فمن كموسى فتى، من الفتيان اودع الله فيه فتوةً وحكمةً، على ايمان و تقىً، {فتبارك الله احسن الخالقين!..}.

موسى والمجتمع المصري
وكان لموسى ان يتعرف على طبقات المجتمع المصري، وهي يومئذ: طبقة فرعون وحاشيته، تليها طبقة الكهنة والاشراف، فطبقة المقدمين من مدنيين وعسكريين، ثم طبقة عامة الشعب: عمالاً وفلاحين، وفي النهاية طبقة العبيد و الارقاء، وهي ادنى الطبقات درجة. وكان قلبه يعتصره الالم لما تلاقيه هذه الطبقة الكادحة من عمال مصر، وفلاحيها من مذلة وهوان، وكان لا يغمض له جفن وهو يفكر بهذه الطبقة الدنيا من المجتمع المصري، وطبقة العبيد والارقاء، والتي كانت تحيا كما الحيوان، و تعامل كما يعامل، ويقول في نفسه: أو ليس هؤلاء بشراً، فلم كل هذا الاذلال والتعسف والاحتقار، يحيط بهم، فيطحنهم طحناً ؟.. وفرعون هذا المدعي الالوهية كفراناً، وطغياناً، وبهتاناً، اليس انساناً عادياً، يولد ويعيش ويموت، كما الناس، كل الناس، يولدون، ويعيشون ويموتون؟ ... ويتأمل موسى واقع مصر، فهو فاسد برمته، ولن يتم اصلاحه الا باقتلاع كل هذه المفاسد والاوهام التي علقت بأذهان الناس، فتاصلت في نفوسهم، فأحلوها محل التقديس، اما وقد بلغ رشده فلن يكون الا للمظلومين نصيراً!..

موسى والرجلان يقتتلان
وبينما كان موسى متوجهاً الى عاصمة الفراعنة، لبعض شؤونه، {وجد رجلين يقتتلان، هذا من شيعته، وهذا من عدوه، فاستغاذه الذي من شيعته على الذي من عدوه} فتصدى موسى له، وضربه ضربة قضت عليه، وما كان موسى، يشهد الله، يريد قتله، ولكن، هكذا جرت مشيئة الله، فندم على ما جنته يداه، واستغفر الله، فغفر الله له ذلك، وعاهد موسى الله على الا يكون، بعد للظالمين ظهيرا!..
واصبح موسى بالمدينة خائفا، يترقب، خشية افتضاح امره، بانكشاف فعلته، واذا هو في اليوم الثاني امام المشهد نفسه، يتكرر مرة ثانية، كما في الامس: فهذا اليعقوبي، الذي من شيعته، في عراك جديد ممع رجل فرعوني، عدو لهما، ويشاهد اليعقوبي موسى من بعيد، فيناديه مستنصراً اياه،.. وينطلق موسى، بعفوية صادقة لينصر اليعقوبي، فهو نصير المظلومين، وظن هذا الاخير انه يريد قتله، كما قتل خصمه بالامس، فتضرع اليه مسترحما، يا موسى {اتريد ان تقتلني كما قتلت نفس بالامس ؟..}
ويسمع خصمهما هذا القول، فيسرع الى قومه الحائرين في امر قتيل الامس، وقاتله،.. فاخبرهم انها فعلة موسى، فتعجبوا، متى كان يقوم موسى بمثل هذه الفعلة الشنعاء ؟ واجمعوا على النيل من موسى، وقد قتل منهم، ظلما، رجلاً!.
ويتصل بموسى واحداً من جماعته المؤمنين، فيحذره قائلاً: {.. ان الملأ ياتمرون بك لقتلوك، فاخرج اني لك من الناصحين} فيتوارى موسى عن الانظار!.ويطلب فرعون موسى، فلا يعثر له على اثر.
ويتساءل في قرارة نفسه: اتراه يكون نبي بني إسرائيل الموعود ؟ فيعض على اصابعه ندما!..
ويتسلل موسى من ارض مصر، خائفاً يترقب، وقد اتخذ الليل له جملاً (أي: متستراً بظلمة الليل في مسيره) متجهاً نحو بلاد قدامي الاجداد، وقد اسلم وجهه لله، فعلى الله قصد السبيل، وهو الاخذ بيد الحياري المساكين في مدلهملت النوازل والخطوب (أي: عند اشتداد المصائب).
وتقوده قدماه شمالاً، في متاهات صحراء سيناء، فيجتازها، وهو الجلد، الصبور، ... مبتعداً، وما امكن، عن المدن، وعن الناس، فالبراري مأواه!..
وتمضي على ذلك ثمانية ايام، لامعين له، ولا نصير، ولادليل، سوى رحمة الله، ونوره وهداه، وكان يقطع الفيافي حافياً،بعد ان تقطعت نعلاه، فشققت قدماه، يقتاب بعشب الارض وبقلها، حتى كان يبدو صفاق بطنه (عضلة الحجاب الحاجز) لشدة ضعفه، وضموره، وهزاله، وكان طيف فرعون ورجاله يلاحقه، فيجد السير، ويحث الخطى، حتى وصل اخـيراً الى الارض " مدين " في الجه الشمالية الغربية من ارض كنعان، فيتنفس الصعداء!..
لقد اصبح بمامن من فرعون، ومنجاة من كيده، وضلاله، وجبروته.

اتصال موسى بشعيب
ويشاهد موسى من بعيد ازدحام ناس وقطعان اغنام، فيقصد هذا الجمع ؛ واذا به امام رعاة انهمكوا بسقيا قطعانهم، وقد علا ضجيجهم ولغطهم، وكان الاشداء منهم يتقدمون لسقاية اول الناس ثم بعد ذلك، ينصرفون.
وتلفت نظر فتاتان تذودان غنمهما، كي لا يختلط بغيره من اغنام القوم، وقد وقفتا بذلة ومسكنة، تنتظران صدور الرعاء (انصراف الرعيان ومواشيهم بعد السقاية) وتتحرك فيه طبيعة نصره المظلوم، المقهور، فيتقدم منهما مستفسراً: ما شانكما ؟. فقالتا:{.. لانسقي حتى يصدر الرعاء، وابونا شيخ كبير..}.
وتثور نفسه لمساعدتهما، فتقدم من البئر ليسقي لهما، متخطياً اليه الرجال، حتى وصل الى فوهته، فوجد صخرة تحول دون تدفق الماء غزيراً، فاقتلعها بزندين قويين، وكانهما اصول سنديانة عتيقة فانبهر الجميع لقوة هذا الغريب واندفاعه، رغم ما يبدو عليه من مظاهر الاعياء، وعلائم الهزال ؛ فتركوه، والبئر، وشانه، فسقى للفتاتين {.. ثم تولى الى الظل، وقال: رب اني لما انزلت الي من خير فقير}.
فالجوع، الى جانب ما كابد من اعياء، يكادان يهدان عزيمته هدا ؟ وما هي الا ساعة،.. واذا باحدى الفتاتين تتجه مقبلة نحوه استحياء وخفر، وتقول له: {.. ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا..}.
فيقبل الدعوة موسى ؟.. ويتبع الفتاة الى دار ابيها. وفي الطريق يطلب موسى من الفتاة ان يتقدمها وتسير هي خلفه، فهكذا تقضي العفة، وواجب الوفاء!.
وعندما وصل موسى الى البيت نزل على ترحاب واطمئنان، بعد ان استقبله الشيخ بالحفاوة والاكرام. وبعد ان اخذ حظهمن الراحة، وتناول نصيبه من الطعام، قص على مضيفه قصته، فتعجب الشيخ ايما تعجب، وربت على كتف الفتى قائلاً له بصوت يشيع فيه الوقار، وهو يهز رأسه: {لا تخف. نجوت من القوم الظالمين}.
ويسأل موسى الشيخ الجليل عن اسمه، فيقول له الشيخ وهو يعبث بلحيته الكثة: " انني شعيب!.. ارسلني الله تعالى الى اهل هذه القرية المجاورة واسمها " الايكة " ولكنهم قوم يجهلون، وسفهاء لا يعقلون، يطفطفون (أي: ينقصون) الكيل والميزان، ويبخسون الناس اشيائهم! ... "
ويصمد الشيخ قليلاً وقد سرح نظره بالافق المترامي البعيد. ويصمت موسى. فالله الحكمة البالغة، ان امره كان حتماً مقضيا!.
وتحدثنا بعض الرويات بان "الايكه" هذه، هي، قريه "بليدا" في جنوبي لبنان، وان البئر التي سقي منها موسى، هي " بئر بليدا " القريبه منها، جنوبا شرقا ...وتتقدم احدى الفتاتين من ابيها، لتهمس في اذنه، على حين غفله من موسى: {.. يا ابت، استاجره، ان خير من استاجرت القوي الامين!}.
وتقص الفتاه على مسامع ابيها كيف اقتلع موسى الصخره من على فوهه البئر،على هزاله وضعفه فتفجر الماء غزيرا،..وكيف اطرق الى الارض وهى تدعوه الى منزل ابيها، وكيف طلب اليها في الطريق، ان يتقدمها، وتتبعه، كي لاتقع عينه على مالا يجوز لها ان تقع عليه.. ويطرق الاب الى حديث ابنته، فيا لهذا العف، الشهم، الكريم!.
ويدعو موسى، ويجلسه على جانبه، ثم يتوجه اليه بوجهه، وطيف ابتسامه ياتمع على ثغره الوضئ، ويقترح الشيخ على فتاه اقتراحاً مفاجئاً: ما تقول يا موسى في ان ازوجك احدى ابنتي هاتين، على ان تقوم بمناصرتي وعوني ورعاية اغنامي ثمانية اعوام، وان اتممتها عشراً اكن لك من الشاكرين..، وما اريد ان اشق عليك!...وذلك بمثابة مهر العروس، كما تعارف على ذلك الناس ؟
فيشرق وجه موسى. وتؤوب اليه نفسه مطمئنة، اسعد واهنا ما تطمئن اليه نفس انسان!.. لقد وجد في هذا المنزل الكريم ضالته المنشودة، وفي هذا الشيخ الوقور اسمي درجات الوقار والايمان، فانجذب اليه،وشبه الشئ منجذب اليه!..
ولم يطل تفكير موسى، اذ ما لبث ان وافق، فتعاهد الرجلان على ذلك، وكان الله على تعاهدهما شهيداً!..
ويتزوج موسى احدى الفتاتين، ويبقى عند سيده عشر سنين، موفياً بما عاهد، ومتماً اوفى الاجلين، يناصره ويعينه، ويرعى له اغنامه التي تكاثرت بشكل مطرد!... ورد في احدى الروايات، على هذا الصعيد ـ، نادرة تقول:
بينما كان موسى يرعى قطيع سيده، اذ فر تيس ماعز في ارض وعرة، مصعداً في هضاب عالية، واكام، وتلال.. ولحق به موسى، متتبعاً اياه، لاهثاً، حتى ادركه بعد عناء شديد، وجهد جهيد. فاوقفه، وجلس موسى يستريح، وقد كادت تنقطع انفاسه الاهثة، ثم جذبه اليه من قرنيه برفق، وقبله بين عينيه، واخذ يمسح جبهته بحنان، مخاطبا اياه، وقد تحدرت دمعة على خديه الكريمين:
1. والله لم الحق بك هذه المسافة الطويلة خوفا من احد، ولا طمعا بك، ولكن، حرصاً عليك من ان يفترسك الذئب!.
2. وكانت اطلاعة له تعالى على قلب موسى، فاذا كالذهب الخالص صافياً، او اشد صفاء ونقاء.. فيقضى ساعتئذ لموسى بالنبوة احسانا لقلبه السليم، ونفسه الطهور، وتكريماً!...

تحرك الحنين في نفس موسى بالعودة الى الديار التي درج فيها أيام طفولته وصباه. فماذا حدث لها بعد هذه السنين العشر الطوال، وكانها دهر مديد ؟.. ويحدث زوجه بالامر، فلا تمانع، ويرضى بذلك شعيب.. ويتحول الحنين الى عزم، وتصميم، فقرار!.
فيجمع موسى امتعته البسيطة، ويزوده شعيب بقطيع من الاغنام، صغير، ويدعو لهما برحلة سعيدة، فيودعانه وداعاً حسنا، ويتجهان في رحلتهما جنوباً، والله الهدي سواء السبيل!.
ويقطعان ارض كنعان وفلسطين من شمال الى جنوب، ولايجدان في اجتيازها مشقة تذكر، او كبير عناء،.. ففيها الماء، والكلا، والخصب الوفير..
واليها انشداد روحي عميق عميق، ففي زايتها الشمالية الغريبة، عاش اباء له واجداد، صلحاء واتقياء ً.. وتطوى لموسى وزوجه الارض طياً!.
فاذا بهما بعد بضعة ايام في سيناء، الارض التي سيكون لها في تاريخ بني اسرائيل، بعد حين، شان جد خطير!.. ويهبط الظلام، فتمحي الحدود والمسافات، والابعاد، والجهات،.. وتهب ريح باردة.. وياتي زوجه الحامل المخاض..
فيتلفت موسى الى عل، والى امام، وذات اليمين وذات الشمال، تلفت الحيران في امره، المضطرب في مسيره، وقد ضل السبيل، والتوت عليه الطريق، فما يدري ماذا يفعل. فيصفق كفاً بكف، قائلاً: رباه، ما العمل ؟ ويتلفت موسى الى طور سيناء، وقد عميت عليه الجهات، فلا يدري شرقاً من غرب، ولا يميز شمالاً من جنوب ... فلعله يجد في هذا الجبل، المتواضع بعلوه، بعض دليل، واذ به يرى ناراً من الجهة التي تليه.
انها لمفاجأة سعيدة حقاً، ويفرك عينيه، وكانه لا يكاد يصدق ما تشاهدان، احقيقة ما يراه ام طيف منام ؟ ولكن النار ما زالت تظطرم. وما زال لهيبها يسطع في الاجواء بنور ابيض، لطيف..
ويقول موسى لزوجه التي تعاني، وقد اخذ يفرك يديه، بانفعال:
{امكثوا اني انست نارا، لعلي اتيكم منها بخبر، او جذوة من النار لعلكم تضطلون..}
ويحث موسى خطوه الى النار الملتهبة، بسرعة الولهان، وسرعان ما يصل الى {شاطئ الواد الايمن في البقعة المباركة من الشجرة} وينظر الى النار. انها لنار عجيبة حقاً، فيغفر فاه دهشاً!..
ويكرر موسى الى النار النظر، ويعيد،.. انها تلتهم من العوسجة الاغصان والاوراق، اما الجذع فمخضوضر يانع، وكأن بينه وبين النار المشعشعة حائلاً!. ويتأملها برهة، كالمصعوق،.. فهي، بالاضافة الى ذلك لا تتغير ابداً، فلا لهيبها يخبو، ولا اضطرامها يزداد. انها على حال واحد لا يتغير،.. فهي اشبه ما يكون بالنور بال هي نور لا نار!..
وتتعلق بهذا النور الشفاف، عينا موسى، مأخوذ!.. ويقطع دهشته صوت، لا كالاصوات، ينبعث من قلب هذ العوسجة الغريبة، بناديه باسمه: {اني ربك فاخلع نعليك، انك بالواد المقدس طوى} فيتمثل للامر موسى، وقد ارتعدت فرائصه لهول المفاجأة.

التحدي العظيم، وتفوّق موسى
ونزل فرعون بعظيم أبّهته وجلاله، يحيط به سادة المملكة وأشرافها، ويتبعه السحرة أفواجاً، وهم يحملون عصيّاً لهم، وحبالاً!.. وتتجه بهم العربات الموشاة بالذهب إلى الساحة الكبرى في المدينة التي أعدّت لاستقبال فرعون مصر، فرفرفت حولها رايات كثيرةٌ، وزينة ذات ألوان... واحتشد حولها خلقٌ من المصريّين، عظيمٌ. توافدوا من كل أقاليم مصر، وأطرافها.. إنّها لمناسبة يضن (أي: يبخل) بمثلها الزمان. فهي حدث العصر الضخم، وحديث الدنيا كلها!..
ويصل فرعون ورهطه..
وكان موسى وهرون لهم بالانتظار!. إنّ لهذا اليوم ما بعده!..
وانتهى إلى مسامع موسى وأخيه تهامس السحرة فيما بينهم، كالنجوى:
- مالهذين الساحرين العالمين، يريدان إخراجنا من أرضنا بسحرهما، والذهاب بطريقتنا التي تعارفنا عليها أسلوب حياة، ونظام عيش. والتي هي بالنسبة لنا، الفُضلى والمثلى؟!..
فيحذّرهم موسى: {.. ويلكم، لاتفتروا على الله كذباً، فيُسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى!}.
ويلتفت كبيرهم إليه، قائلاً: مالهذا جئناك ياموسى، أنلقي نحن، أم تكون أول من ألقى؟
فأجابهم: {بل ألقُوا!..}.
وتقدم كبير السحرة فألقى عصاً كانت بيمناه، فإذا هي {يخيّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى،..} وأتبع ذلك بحبل كان على كاهله، فألقاه، فإذا هو حيةٌ أعظم من الأولى، وأدهى!.
ثم أشار كبير السحرة إليهم، أن ألقوا!.. فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بالساحة تموج بالحياة، من كل شكل، وبالثعابين، تتحوى، وتتلوّى!...
فتهلّل وجه فرعون، وقد ترنّح عطفاه، فاهتز طرباً، وصفق بيديه مستبشراً!.. وصاحت الجماهير المحتشدة، وهتفت لفرعون، ومادت الارض بالجموع النسوى (أي السكرانة).
شاهد ذلك كلّه موسى،.. فأوجس خيفة مما رأى!.
وأوحى الله الى نبيِّه في غمرة المفاجأة:
{.. لاتخف انك أنت الاعلى!. وألق مافي يمينك...}
فانتفض، كمن أفاق من سهوته، وألقى عصاه،.. فاذا هي حيّة، لاكالحيّات، وقد أخذ جسمُها ينتفخ ويتعاظم، حتى صارت ثعباناً مهولاً، تقدح عيناه بعظيم الشرر، ولفحيحه صوت هادر، وقد تدلّى لسانه من بين شدقيه الهائلين، متحرّكاً يمنةً ويَسرة، وكأنه يتوعّد بالخطب الجلل. وانبرى إلى الحيّات الساعيات أمامه، وهي مئات، فبدت أمامه، لضخامة هيكله، وكأنها الديدان الحقيرة... وأخذ بالتقامها الواحدة تلوَ الأخرى!..
وكان الثعبان يتلفَّتُ، هائجاً، إلى المتحلّقين حوله، فتمتلئ قلوبهم رعباً.
ويدمدمُ فرعون، وقد أخذ الخوف منه مأخذاً عظيماً، يالهذه الداهية النكراء!..
ويلتفت كبير السحرة، وكان أعمى، إلى ساحرٍ آخر بجانبه قائلاً:
- ويحك!.. ماالخطب في ماترى؟..
فوصف له مايحدث، وقد بان الخزي على وجوه السحرة، فهم لما يشاهدون منكرون، وقد ظهر موسى وأخوه عليهم ظهوراً بيّناً!..
- ثكلتك أمُك لما أسمع!.. تأمّل جيداً هذا الثعبان، فهل يكبر جسمه ويعظم حجمه عند التقامه الحيات، أم أنه يبقى على حاله، لايتغير أبداً؟.
- بل يبقى على حاله، أبداً!.

إيمان السحرة وآخرين
فأطرق كبير السحرة برأسه قليلاً، ثم رفع رأسه، متوجّهاً الى السحرة، صارخاً بهم:
- ويحكم ياسحرة مصر!.. إن ماترون، ليس بسحر كسحركم، ولكنّه الحق أتاكم من ربكم،.. فتوبوا إلى بارئكم، وأقلعوا عمّا انتم عليه من الضلالة والغواية، وعبادة فرعون، وآمنوا بالحق الذي أتاكم به موسى.
{فألقى السحرة سُجّداً، قالوا: آمنّا بربّ هارون وموسى!}.
وكان الثعبانُ قد أتى على الحيّات جميعاً!.
ومد موسى يده إليه، فتناوله، فإذا هو، كما كان، عصا!.
ونظر القوم بعضهم الى بعض محملقين، وكأنهم كانوا تحت وطأة كابو رهيب!.. فثارت، عند ذلك ثائرة فرعون، وتغيّرت سحنته (اي: هيئته) فبدت دكناء،.. وعلا صوته، كالعاصفة المجلجلة، متهدّداً السحرة، ومتوعّداً أياهم، فهم، بزعمه، قد تواطأوا عليه، وعلى حكمه، مع موسى،..
وأمر بالقاء القبض عليهم، وخاطبهم، فأسمعوه من القول مالايرضى!.. ثم امر بهم، فصلبوا، بعد أن عذّبوا عذاباً نكراً!..
وانصرف موسى.. وتبعه خلق كثير ممن آمن به واهتدى.. ولم يهنوا، ولم يضعفوا، بل صبروا على ماأصابهم من فرعون من عظيم الكيد والأذى!..
وبدأ موسى يسُنّ لجماعته سنن الدين القويم،.. وكان أول ماقام به التوجه لعبادة الله وحده، والإيمان به خالق كل شئ، بيده الملكُ، وهو على كل شئٍ قدير...
وأمر جماعته بالصلاة!.. فبالصلاة يعرف مؤمن من غوي!.. على أن يتوجه المؤمن منهم لجهة منزل أخيه المؤمن، يتخذه قبلة له، يصلي اليها. وكان قصر فرعون قبل ذلك كعبة المصلين، وقبلتهم، إليه يتجهون في صلواتهم، فحرم ذلك عليهم موسى!.. وازداد أذى فرعون، وعظم كيده، وعمت بلواه المؤمنين، فلا طاقة، بعد، ولااحتمال. وأقبل إلى موسى رهط من بني اسرائيل يتذمرون، - فإلى متى هذه المحنة السوداء؟.. - وأسمعوه من القول مالايحب، عندما {قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عيسى ربكم أن يُهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الارض..}.
ويأمركم أن يستعينوا بالصبر، وبالصلاة، وبالتوجه الى الله تعالى دائماً!..
ويبقى المؤمنون من بني إسرائيل وبعض المصريين المستضعفين، يحتملون من العذاب والأذى مالايطاق! ويبقى فرعون سادراً في غيّه، وعلى ضلاله القديم، عتوّاً وطغياناً..
ويصل به الأمر أن يأمر هامان -وكان له وزيراً- ببناء صرح، له، عظيم، يناطح أعالي الأجواء، لعلّه يطلع إلى إله موسى، ونادى في جمع كبير من انصاره المصريين: {ياقوم:.. أليس لي ملك مصر، وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم انا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين!.}.
واتبع فرعون من أساليب التعذيب وفنونه، والتنكيل وضروبه، مالم يخطر ببال!.. وصبر جماعة موسى على ذلك كله صبراً عجيباً، ابتغاء رضوان الله ومثوبته، واحتساباً!. فما ازدادوا إلاّ إيماناً وتسليماً!..

بطش فرعون بخصومه
ويطفح الكيل بالنسبة لفرعون، أخيراً.. بعد أن لم تجد كل أساليبه نفعاً!. فيعزم على أمر خطير، يحسم الأمور، ويضع لها حداً نهائياً!.. فيقرر قتل موسى!...
ويشيع الخبر بين الخاصة من رجالات البلاط، فيتكتّمون. ويسمع بذلك أحدُهم، فيقبل عليهم وهم مجتمعون صارخاً فيهم بلاذع التأنيب.
{.. أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟..}.
ويحذرهم مغبّة ماهم عليه مقدمون، ويخوّفهم عذاب الله، وأخذه الشديد. مذكراً إياهم بأيام الله الماضيات، وبأقوام قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرّس، وطسم، من قبل، وجديس، عتوا عن آيات ربهم، واستكبروا، فأخذهم الله بذنوبهم، ودمّرهم تدميراً، فتلك ديارهم خالية منهم، فهي قفر بلاقع!. (ج، بلقع: لاحياة فيه).
ويدعوهم إلى نبذ ما هم عليه من عبادة فرعون، الذي أضلّهم، فما اهتدى، ولاهدى، والايمان بالله وحده الذي {له مافي السموات ومافي الارض ومابينهما وما تحت الثّرى!..}.
فترتفع أصوات المجتمعين ثائرة بوجهه، ويامر به فرعون، فيقتله شر قتلة!.
إنّه مؤمن آل فرعون، على رأس قافلة الشهداء أيّامذاك!..
وتعلم آسية بالأمر، فتثور، معلنة براءتها من ظلم زوجها، وطغيانه وعتوه، وإسرافه على نفسه وعلى الناس الذين حوله أجمعين، وتتوب إلى الله خالقها، كي يغفر لها خطاياها، كما تاب قبلها سحرة فرعون فغفر الله لهم خطاياهم، وما أكرههم عليه فرعون من السحر. وجعلهم من عباده المكرمين. ويمسك بها فرعون، ويأمر بها الى أشد العذاب.. ويتلوى جسدها الغض تحت سياط التعذيب المبرّح. فتتمتم: {.. رب ابن لي عندك بيتاً في الجنّة، ونجّني من فرعون وعمله..}.
وتُغمض عينيها، وقد أغمي عليها، ثم تفتحهما، وتنظر إلى السماء، فتبتسم سعيدة بما ترى: لقد استجاب الله لها دعاءها، فأراها قبل انطفاء أنفاسها، قصراً يتلألأ في العُلى.
ويجن فرعون، مما يرى، جنوناً.. ويقول لأصحابه:
- أترون؟.. إنّها مجنونة، فهي تبتسم تحت العذاب الشديد!.
ثم لاتلبث أن تلتحق بركب أمراء أهل الجنة، الشهداء السُعداء، الأبرار الأخيار!..
ويزداد فرعون تصميماً!.. فبقطع الرأس، يتلاشى الجسد.
وموسى رأس هذه الحركة، وهو المخطط والمدبّر والمنفّذ معاً!.
فبقتله، ينتهي كل ماقام به وكأنه عاصفة في فنجان. وتعود بعد ذلك الأمور الى سابق عهدها القديم. ولكن،.. هيهات، هيهات، {.. إنّ أجل الله لآت} و{إنّه لايُفلح الظالمون!}.

آيات وإنذارات
ولايترك نبي الله موسى مناسبة تمرُّ دون أن يدعوَ فرعون وملأه إلى الإيمان بالله، بالحسنى، والقول الطيِّب، ويرغب موسى فرعون، كالمكافئ له إن آمن، فهو يضمن له، على الله، دوام ملكه لاينقُصُ منه شئ، وصحته، لايصيبها شئ، وأن ينسأ بأجله (أي يطيل عمره) إلى الضعفين، ولامن مجيب!.. بل لجاجة في الطغيان، وفي العمى.. {فإنّها لاتعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فيحذرهم موسى سوء المصير، ووخيم العواقب، فلايرعوون، بل يزدادون عتواً ونفوراً.
وتكرّ سبحة العذاب:
وكان أول إنذار من الله لهم، نقص في الاموال، والانفس، والثمرات.. فلم يعُد نهر النيل، كما كان يفيض خيراً عميماً، وبركة وعطاء جمّاً، بل شحّ ماؤه، ونضب عطاؤه. فعمّ القحط والجدب البلاد. ثم لاتلبث السماء أن تفيض عليهم بالمطر الغزير يهطل مدراراً دون انقطاعٍ، فيأتي الطوفان، ويعمُّ ضررهُ البلاد والعباد..
ويرتفع إذ ذاك صوت آل فرعون، والمصريين، ويُقبلون على موسى مستصرخين، مستنجدين، مولولين، يجأرون مستغيثين:
- {.. ياموسى.. ادعُ لنا ربُّك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا الرجز (أي: العذاب). لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل}.
- أحقاً ذلك، وعهداً؟..
- إي وربِّ بني إسرائيل!
فيرفع موسى يديه الكريمتين إلى السماء داعياً، فيستجيبُ له الله الدعاء.
وتمضي أيام، وتكُرُّ أعوامٌ،.. فيتدفَّقُ نهرُ النيل، كما كان، يحملُ الخِصبَ لأرض مصر، ويهب لها الحياة فمصر هبة النيل!. وتخضوضرُ الأرض، وتزهو بيانع النبت والثمر، وتضحك الجنائن عن متألّق الزهر، وكأنَّ شيئاً لم يكن!.
ويُطالب موسى القوم بالوفاء بوعودهم، فيستهزئون به، وهم ناكثون!.
{فلما كشفنا عنهم الرجز الى أجل، هم بالغوه، إذا هم ينكُثون}. ويزدادون كفراً.
ويغضب موسى. ويغضب لغضبهِ اللهُ!..
فأرسل الجراد عليهم، يأتي على الأخضر واليابس. فإذا بأرضهم يباب موات!. ثم سلط عليهم القمل، فلم يهنأوا في رُقاد، وقد أقضَّ مضاجعهم، وهو ينهش بجلودهم نهشاً. ثم نغَّص الله عليهم حياتهم بالضفادع، فكانت تمتلئ بها بيوتهم، وأماكن تواجدهم، وأواني طعامهم وشرابهم، حتى أنها كانت تتغلغل بين ملابسهم..
وكانوا في كل مرة، كما في الأولى، يستصرخون موسى فيصرخهم (أي: يلبّي نداءهم وينجدهم) فيعدونه ويعاهدونه، وكانوا، عندما يرفع الله عنهم الرجز بدعوة موسى، ويبعد عنهم العذاب، يعودون لغيّهم، وضلالهم وقد نكثوا عهودهم وأخلفوا وعودهم!. ويُختم هذا البلاء بالدم الرعاف من أنوفهم، فاصفرت ألوانهم وبهتت هيئاتهم..
ثم، بالدم يلاحقهم عند كل مشرب هم واردوه!..
يكون الماء في الكأس، أو غيره، أمام أحدهم صافياً زلالاً، كالفضّة السائلة، وما أن يرفعه ويقدمه إلى فيه ليشرب، حتى يتحول الماء دماً عبيطاً!.. فيعافه، ويبقى على ظمئه عطشاناً..
حتى أن المرأة من بني اسرائيل، كانت تتناول الماء بفيها، وتزقّه فم المرأة الفرعونية، كالطير يزق فرخه، فيتحول في الفم الآخر دماً،...
ومرة أخيرة يستصرخون، مظهرين الندم، قاطعين الوعود، مشهدين إله موسى وبني إسرائيل على صدق دعواهم، هذه المرة، فيصرخهم موسى، ويرفع الله عنهم هذا الرجز المرير، وهو الذي يُمهل ولايهملُ!.. ولكنّ نزعة الشرِّ كانت قد تمكنت في نفوسهم، وتأصّلت، وتجذرت حتى عميق الأعماق. فلم يحاولوا الإقلاع عمّا أدمنوا عليه من السجايا القباح!. بل عادوا لما كانوا عليه من نكثٍ ونُكرانٍ، وجحودٍ، وتكذيب بآيات الله واستهزاءٍ برسله وبالمؤمنين...
{وقالوا: مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين!}
ويعود موسى فينذرهم إنذاراً نهائياً، لاعودة منه، فذهبت صرختُهُ أدراج الرياح. فييأس منهم موسى، ويقطع من إصلاحهم كل أمل ورجاء.
ولشدة مالاقى منهم من عنت ومن قهر، يدعو الله أن يطمس على اعينهم ويشد على قلوبهم، {فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم}.
فيستجيب الله لنبيّه دعوته!...
- {أفبعذابنا يستعجلون؟}.

خروج موسى وجماعته من مصر وغرق فرعون وقومه
ويهبط الوحي على موسى، يأمره وقومه، أن يتأهبّوا لمغادرة ارض مصر، فليس لهم بعد اليوم فيها مقام. فخرج معه نفر من المؤمنين، وتخلّف آخرون!...
وسخّر الله على مدينة فرعون ريحاً عاتية، ألزمتهم منازلهم ثلاثة أيام لم يستطيعوا الخروج منها. وفي اليوم الرابع تفقّد جند فرعون بني إسرائيل، فوجدوهم قد غادروا المدينة، لم يتخلف منهم إلاّ القليل. وعلم فرعون بالأمر فاستشاط غضباً وحنقاً، مقسماً على الانتقام منهم، فستنالهم يداه، مهما بعدوا عنه، هرباً!.
- فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون. وإنّهم لنا لغائظون. وإنّا لجميعٌ حاذرون}..
واتّبع بني إسرائيل، فأنّي لهم أن يُعجزوه طلباً!... وأمر الله موسى أن يتبع اتّجاه الرياح، ففعل!.. وعجب بنو إسرائيل من هذه الطريق الغريبة يسلكها بهم موسى، وهي بمنأى عن دُروب القوافل والمسافرين.
وماهي إلاّ ساعات، حتى كانوا أمام البحر وجهاً لوجهٍ. فعلا صراخهُم، واحتجاجهُم، وتذمُّرُهُم، وقد دخل الشكُّ قلوبهم، فلم يغادرها، ولن!.. فاستمهلهم موسى، داعياً إياهم -كما في كل مرة- إلى الصبر والأناة. فإلى الله الرجعى!..
وتراءَت لهم جيوش فرعون من بعيد، يملأون الأفق عدّة وعدداً.. فأيقنوا بالهلاك، وساد صفوفهم هرج ومرج، وذعُر وصخب. وأحاطوا بموسى، يلومون:..
- أإلى الهلاك تقودُنا ياموسى، هانحنُ أولاء بين البحر وفرعون، فأين سدادُ رأيك،؟.. بل أين ماوعدّك ربُّك يا موسى؟..
ويعود يدعوهم إلى مزيد من الصبر والتوكُّل على الله، فهو منجيهم، ولن يروا، بعد اليوم، من فرعون وجنده أحداً!..
ويرتفع صوت ظريف منهم، بخبثٍ: الحقَّ تقول ياموسى. فبعد هلاكنا على أيديهم لن نرى منهم أحداً أبداً
ويجيبه موسى: بل الله مهلِكهُم جميعاً!..
{فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلاّ إنّ معي ربي سيهدين}.
وعندما غربت الشمس، أرسل الله مايشبه السحابة المضيئة، وكأنها تلتهب. فانتصبت في الجو كعمود من نار ونور آضاء كل شئٍ. فبدّد غياهب الظلام، وموسى وقومُه واقفون أمام البحر حيارى. بوجومٍ وذهول!..
{فأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}.
وكانت المعجزة.. وقد انشق البحر عن اثني عشر طريقاً!..
وعلت مياه البحر المتجمّدة فكانت كالجبال الثوابت، وتقدّم موسى قومه يسلُكُ بهم هذه السبل العجيبة، عابرين إلى الضّفّة الثانية، وقد جعل الله في هذه المياه المتجمدة العالية مايشبه الكوى (جمع. كوّة). فكانوا يشاهدون بعضهم بعضاً، وهم يعبرون، وكانوا يتحادثون مستأنسين!..
وتبعهم فرعون بجنوده مقتفياً آثارهم في البحر المنشقّ لهم، وقد علت أهازيج جنده وصيحاتهم. ظناً منهم بأنّ البحر انشق لفرعون بقدرته!. وكان بنو إسرائيل قد اتمّوا عبورهم إلى الضفة الثانية. وإذا بصوت كالرعد القاصف، فالتفتوا خلفهم، فإذا بالبحر قد أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين! ولما أيقن فرعون بالغرق، قال {.. آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي لآمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}. ويجيبه صوت: آلان؟.. بعدما فات الأوان، فلا إيمان لمن فاته- في ماسلف من عمره- الإيمان!.. واتجه موسى ببني إسرائيل، وجهه الديار المقدسة، مشرقين، مخلِّفاً وراءه جيش أعدائه في اليم غرقى. وقد قاء البحر جثة فرعون إلى الشاطئ. فهذه نهاية كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب!.
ويشاهد الخلقُ جثة فرعون ملقاةً على الشاطئ، سليمةً، وقد بدأ يدب فيها الفساد ويسرع إليها النتن، فيقول قائلهم:
- أين ألوهيتك يافرعون مصر؟ وأين عزتك القعساء؟ وأين سلطانك والكبرياء؟ إنها حكمة الله التي أبت إلاّ أن يظهر الحق جلياً كفلق الصبح.
{فاليوم نُنجِّيك ببدنك لتكون لمن خلّفك آية}.
ويحملون الجُثة عائدين بها إلى عاصمة الفراعنة. ويحنطونها، كي تبقى أبد الدهر شاهدة على وحدانية الله الواحد القهار، وأخذه مدعي الربوبية أخذة رابية!. بالمناسبة. فقد اختلف بعض المؤرخين حول شخصية فرعون مصر، فرآه بعضهم أنه فرعون آخر غير رمسيس، الذي نحن بصدده،... ويأبى الله إلاّ إظهار ساطع برهانه فهاهي ذي جثة الفرعون الآخر هذا، لازالت محفوظة بالتحنيط، ومسجاة إلى جانب جثة رمسيس، آية من الله لأولي النهى، وعبرةً لمن أبصر فوعى.
مما دعا بعض كبار علماء الآثار الغربيين إلى الإسلام انطلاقاً من الآية السالفة.. فأياً كان منهما، صاحب موسى، الذي ادّعى الألوهية... فها هي جثته معروضة لكل ذي عينين، أو ألقى السمع وهو منيب!..

ميقات موسى وردّة بني إسرائيل
ومر بنو إسرائيل على قوم يعكفون على أصنامهم (يحيطون بها) يعبدونها من دون الله. فانقدح الشك في قلوبهم، وحنّوا إلى قديم وثنيّتهم، وقالوا لنبيّهم موسى:
- {.. ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ. قال: إنّكم قومٌ تجهلون. إن هؤلاء متبّرٌ (أي: مدمّر) ماهم فيه وباطل ماكانوا يعملون}.
والحّوا عليه، فصاح بهم: {أغير الله أبغيكم ربّاً وهو فضّلكم على العالمين؟..}.
وسأل موسى ربّه كتاباً يكون نوراً لبني اسرائيل، وهدى. لهم، لقلقهم، وما فطروا عليه، من العناد والعصيان لايكادون يستقرّون على الرأي الحق، ولمّا يدخل الايمان قلوبهم، بعدُ!.. فيأمره ربُّه بالطهور والصيام، ويواعده أربعين ليلة، يكلّمه بعدها، ويناجيه.
ولكن موسى كان على عجلة من أمره فقبل أن يتم أربعين ليلة كما واعده ربُّه اختار من قومه سبعين رجلاً صالحاً، وسبقهم إلى طور سيناء، بعد أن استخلف أخاه هارون على قومه، موصياً إيّاه بالصلاح فيما بينهم والإصلاح، مشدداً عليه: {اخلفني في قومي، ولاتتبع سبيل المفسدين}.
ويسأل الله نبيّه عن سبب استعجاله دون قومه:
- {وما أعجلك عن قومك ياموسى؟.}
فيجيب: -{هم أولاء على أثري. وعجلت إليك ربِّ، لترضى}.
ويأبى الله إلاّ أن يُتم ميقاته (أي: ميعاده) فعاد موسى، فأتمَّ عشر ليالٍ أخريات، حتى تصرّمت (أي مضت وانقطعت) أربعون ليلةً تماماً، كما قدّر الله لذلك وقضى!. وعاد موسى إلى ميقات ربِّه مسرِعاً، وقدماه تنهبان الأرض نهباً، لفرط حنينه للقاء مولاه، وولهه، وشدة شوقه وشغفه.
ويستبدُّ بموسى الشوق الشغوف، ومبرّح التوقِ، والوجدِ، والانجذاب،.. فيسأل ربّه شيئاً عظيماً، أليس هو أقرب خلقِه إليه، يحادثه، ويكلِّمه، ويناجيه، بصفاءِ محبةٍ، ومحضِ وَدادٍ؟..

لنستمع إليه تعالى يقصُ علينا هذه الطُّرفة:
{ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلّمه ربه، قال: رب أرني أنظر اليك. قال: لن تراني. ولكن انظر الى الجبل فان استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبل جعلهُ دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال سبحانك، تبت إليك، وأنا أول المؤمنين}..
ويتوب الله على موسى، وقد تجرأ على طلب ماليس له بحقٍّ، وما لاقُدرة له عليه، ولا احتمال!.. ويُناوله الألواح فيها أحكام كل شئٍ مفصّلاً، وموعظةٌ، وهدىً، ورحمةً لبني إسرائيل. ثم يخبرهُ بأنّ قومه ضلُّوا، وقد فتنهُم "السَّامري"، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً!}. وإذا بهم متحلِّقون حول عجلٍ من ذهبٍ، يهزجون حوله، طربين، متعبِّدين. فعلم أنهم بالفتنة سقطوا وأقبل عليهم موبخاً ومؤنّباً، وثار غضبه، وفار.. وألقى الألواح المقدَّسة التي كان يحملها إليهم، أرضاً، فتحطَّمت، فاشتعل غضباً، وتميَّز غيظاً،. {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً؟..}.
ووقعت عينُه على أخيهِ هرونَ، فأسرعَ إليه معنِّفاً، ممسكاً بشعره الكثِّ، ولحيتِه الطويلة، يجرّه بها إليه جراً عنيفاً، فصرخ هرون من فرط جزع وفزع:
{.. قال ابنَ أُمَّ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تُشمت بي الاعداء ولاتجعلني مع القوم الظالمين}.
فرجع موسى إلى نفسه، {قال: ربّ اغفر لي، ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحمُ الراحمين}.
وأيقن من جليّة الأمر، فقد عصى القومُ هارون الذي حذّرهم من مغبّة الوقوع في الفتنة، وعصيان خالقهم، وماكان بقاؤه فيهم على ماهم عليه من التمرد، والنفاق، والزيغ (أي: الميل إلى الباطل) إلا حفاظاً على وحدتهم، ولمِّ شعثهم.
والتفت موسى إلى "السامريِّ": فما الأمرُ؟..
ويجيب السامري: لقد شاهدتُ مالم يتسنَّ للقوم أن يشاهدوه، فقبضتُ حفنةُ تراب من أثر الملاك جبريل، وجمعتُ ما يحملُ بنو إسرائيل من حليِّ الذهب، وقذفتُ ذلك كلّه في حفرة، أجّجتها ناراً، وصنعت من ذلك {عجلاً جسداً له خوار}، اتّخذه بعضُ بني إسرائيل إلهاً!..
ورمقهم موسى بعين غضبى، فأطرقوا ندماً وخجلاً!..
ويهبُّ موسى لمعالجة الأمر سريعاً. ويأمرُ بالعجل، فتُرسلُ عليه النار، فتحرُقُهُ، وتفتِّتُهُ تفتيتاً، وتهب ريح تذروه في البحر، هباءً منثوراً..
وأمر بالسامري منبوذاً، لايدنو من الناس، ولايقربُه الناس، ولايمسُّه أحدٌ أبداً.
وأمر قومه بالتوبة، وقتل أنفسهم، ولعلَّ المقصودُ بذلك كسرَ حدَّتها، وكبتَ شهواتِها، وكبح رغائبها، وتطهيرها وتزيكتها، ففعلوا ماأُمرُوا به، وتاب الله عليهم جميعاً!..
وعاد موسى إلى ميقات ربّه، من جديد، بعد أن اختار من قومه - كما فعل آنفاً- سبعين رجلاً ولما وصلوا الى الجبل، زلزلت الارض بهم زلزالاً شديداً. فصاح عندئذ موسى متضرعاً وجلاً:
- {.. رب، لو شئت أهلكتهم من قبل، وإيّاي. أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟..}.
فتشملهم رحمة الله،.. وتستقر الارض تحت أقدامهم، وتهدأ، فيهدأون!..
وعاد موسى يدعو قومه الى اجتماع ليبين لهم ما أنزل الله من أحكام إقامة صلاة وتأدية زكاة، وكانت الدعوة أمام سفح الجبل، فلم يسمعوا له قولاً. فتزلزل الجبل فوقهم، وتناثرت حجارته عليهم، فسمعوا عندئذ قول موسى!..

التيه
ويقود موسى قومه إلى أرض الميعاد في فلسطين، لعلهم يلقون فيها عصا ترحالهم، بعد عنائهم الطويل ويصيبهم في الطريق الظمأ، فيصرخون: ياموسى.. الماء، الماء!..
{وأوحينا الى موسى إذ استسقاه قومه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم!}. فارتووا!..
وكان هجيرٌ قائظ، فأرسل الله فوقهم الغمام، يظللهم من لفح الشمس، ويكسر حدة الرمضاء. ثم أدركهم الجوع، فصاحوا: ياموسى.. الطعام، الطعام، فأرسل الله لهم المنّ والسلوى، {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، دون طغيان، ولا جحود ولاكفران!..
وتابع طريقه موسى، ووجهة سيره "أريحا" لمواجهة من فيها من عتاة الكنعانيّين والحثّيّين. فاستسلم بنو إسرائيل إلى خور العزيمة، ودبّ فيهم الوهن، وقالوا:
- {.. إنّ فيها قوماً جبّارين. وإنّا لن ندخلَ حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون!}.
فهاله ماهم عليه من التقاعس، والجبن. وأخذ يحبب إليهم القتال في سبيل الله ويرغّبهم بالجهاد، فكان كمن ينفخ في رماد، أو، كمن يصرخ في وادٍ!..
ثم صارحوه بجليّ أمرهم، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ، ولؤم طباعٍ:
- {.. ياموسى، إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، أنّا ها هنا قاعدون}.
فأيقن عندئذٍ موسى بأن قومه قد غرقوا في بحر الضلالة والخذلان، والعصيان، والغيّ الموفي بأهله على النار، فرفع بصره الى السماء، وقلبه يكاد يتفطّر قائلاً: {ربّ، إنّي لاأملك إلا نفسي وأخي}. نافضاً يديه منهم أجمعين!..
وكان جزاء تقاعسهم، وخور عزيمتهم، أن ظلّوا يتيهون في (أرض التيه)، حيارى، لايهتدون إلى معالم طريق، مدة أربعين سنة، هلك خلالها كل هذا الجيل المتهاوي، المتهالك على نفسه، الذي ما أن يؤمن حتى يعود إلى الكفر من جديد،.. لينهض على أنقاضه جيل منيع عزيز،.. لايسأم الجهاد، وركوب متون (أي: ظهور) الحرب والقتال!..

وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد
ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!..
ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً.
وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً:

الأولى: قصته مع الخضر
وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!..
ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟
فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين).
فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!..
وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!..

الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل
وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!.

الثالثة: قصته مع قارون
وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ما تنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى!
وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!..
وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!..
وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون!
* * *

وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!.
ويتوسد حفنه من رمل!..
فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!..
ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!..

16-12-2008 | 00-50 د | 7769 قراءة


الصفحة الرئيسة
جمعية القرآن الكريم
المكتبة الصوتية والمرئية
معرض الصور
مكتبة الكتب
سؤال وجواب
صفحة البحــــث
القائمة البريـدية
سجـــــــل الزوار
خدمــــــــة RSS
تواصل معنا
 
فلاشات إخبارية
جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - لبنان

2750853 زيارة منذ 18- تموز- 2008

آخر تحديث: 2023-12-07 الساعة: 12:56 بتوقيت بيروت