أحسن القصص
(142
قصّة قرآنيّة)
جمعيّة القرآن
الكريم للتّوجيه والإرشاد
بيروت -
لبنان
الطّبعة الأولى، ذو الحجّة 1433هـ
// 2012م |
|
كان جمعٌ من المشركين ومنهم أبو جهل بن هشام وعبد الله
بن أبي أميّة المخزوميّ يجلسون خلف الكعبة، ثمّ أرسلوا
إلى النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأتاهم، فقال له
عبد الله بن أميّة: إن سرّك أن نتّبعك فسيّر لنا جبال
مكّة بالقرآن فأذهبها عنّا حتّى تنفسخ فإنّها أرض ضيّقة واجعل
لنا فيها عيونًا وأنهارًا حتّى نغرس ونزرع فلست كما
زعمت أهون على ربّك من داوود (عليه السّلام)، حيث سخّر له
الجبال تسبح معه، أو سخّر لنا الرّيح فنركبها إلى الشّام
فنقضي عليها مسيرتنا وحوائجنا ثمّ نرجع من يومنا فقد
كان سليمان (عليه السّلام) سخّرت له الرّيح، فكما زعمت
لنا فلست أهون على ربّك من سليمان وأحي لنا جدّك قصيًّا أو من شئت من موتانا لنسأله أحقّ ما تقول أم باطل فإنّ
عيسى (عليه السّلام) كان يحيي الموتى ولست بأهون على
الله منه
[204] ، فأنزل الله سبحانه:
﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً
سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ
الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ
آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ
جَمِيعاً وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
﴾
[205] .
عن ابن عبّاس، قال: أخبرني أبيّ ابن كعب، قال: خطبنا
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: إنّ موسى
(عليه السّلام) قام خطيبًا في بني إسرائيل فسُئل أيُّ
النّاس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذا لم يردَّ
العلم إليه فأوحى الله إليه أنَّ لي عبدًا بمجمع
البحرَيْن هو أعلم منك، قال موسى (عليه السّلام) يا ربّ
فكيف لي به، قال تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل. ثمّ
انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتّى إذا أتيا
الصّخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل
فخرج منه فسقط في البحر ﴿
فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً
﴾،
وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطّاق،
فلمّا استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقيّة
يومهما وليلتهما حتّى إذا كان من الغدّ، قال موسى (عليه
السّلام) لفتاه: ﴿ آتِنَا
غَدَاءَنَا
لَقَدْ لَقِينَا
مِن
سَفَرِنَا
هَذَا
نَصَبًا ﴾ قال: ولم يجد موسى
النّصب حتّى جاوز المكان الّذي أمر الله تعالى به، فقال
فتاه: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ
فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾ قال: وكان للحوت سربًا ولموسى (عليه
السّلام) ولفتاه عجبًا، فقال موسى (عليه السّلام): ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى
آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾.
عندما رجع موسى (عليه
السّلام) وصاحبه إلى المكان
الأوّل، أي قرب الصّخرة وقرب مجمع البحرَيْن، فجأة:
﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا
عِلْمًا ﴾. إن استخدام كلمة « وجدا » تفيد أنّهما كانا
يبحثان عن نفس هذا الرّجل العالم، وقد وجداه أخيرًا. أمّا
استخدام عبارة عبدًا من عبادنا فهي تبيّن أنّ أفضل فخر
للإنسان هو أن يكون عبدًا حقيقيًّا للخالق جلّ وعلا، وإنّ
مقام العبوديّة هذا يكون سببًا في شمول الإنسان بالرّحمة
الإلهيّة، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه، كما أنَّ
استخدام عبارة من لدنا تبيّن أنَّ علم ذلك العالم لم
يكن علمًا عاديًّا، بل كان يعرف جزءًا من أسرار هذا
العالم، وأسرار الحوادث الّتي لا يعلمها سوى الله
تعالى. أمّا استخدام (علمًا) بصيغة النّكرة فهو للتعظيم،
ويتبين من ذلك أنَّ ذلك الرّجل العالم قد حصل من علمه
على فوائد عظيمة.
ثمّ قال موسى (عليه
السّلام) للرّجل العالم باستفهام
وبأدب كبير: ﴿ هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْدًا ﴾ ؟ ونستفيد من عبارة « رشدًا »
أنّ العلم ليس هدفًا، بل هو وسيلة للعثور على طريق الخير
والهداية والصّلاح، وأنّ هذا العلم يجب أن يُتَعَلَّم، وأن
يُفْتَخَر به. في معرض الجواب نرى أنّ الرّجل العالم مع كامل
العجب لموسى (عليه السّلام) قال: ﴿
إِنَّكَ لَن
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾. ثمّ بيّن سبب ذلك
مباشرة، وقال: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ
تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾.
لقد كان هذا
الرّجل العالم يحيط بأبواب من العلوم الّتي
تختصّ بأسرار وبواطن الأحداث، في حين أنَّ موسى (عليه
السّلام) لم يكن مأمورًا بمعرفة البواطن، وبالتّالي لم
يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيرًا
أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها،
فقد يكون الظّاهر قبيحًا أو غير هادف في حين أنّ الباطن
مفيد ومقدّس وهادف لأقصى غاية. في مثل هذه الحالة يفقد
الشّخص الّذي ينظر إلى الظّاهر صبره وتماسكه فيقوم
بالاعتراض وحتّى بالتّشاجر، ولكن الأستاذ العالم والخبير
بالأسرار بقي ينظر إلى بواطن الأعمال، ولم يعر أيّ
أهميّة إلى اعتراضات موسى (عليه السّلام) وصيحاته، بل
كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر،
إلاّ أنّ التّلميذ كان مستمرًّا في الإلحاح، ولكنّه ندم حين
توضحت وانكشفت له الأسرار.
قد يكون موسى (عليه
السّلام) اضطرب عندما سمع هذا
الكلام وخشي أن يحرم من فيض هذا العالم الكبير، لذا
فقد تعهّد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال: ﴿
قَالَ
سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ
أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾. مرّة أخرى كشف موسى (عليه
السّلام) عن قمّة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على
خالقه حيث لم يقل للرّجل العالم: إنّي صابر، بل قال:
إن شاء الله ستجدني صابرًا. ولأنّ الصّبر على حوادث غريبة
وسيّئة في الظّاهر والّتي لا يعرف الإنسان أسرارها، ليس
بالأمر الهيِّن، لذا فقد طلب الرّجل العالم من موسى (عليه
السّلام) أن يتعهّد له مرة أخرى، ذهب موسى (عليه
السّلام)
وصاحبه وركبا السّفينة: فانطلقا حتّى إذا ركبا في
السّفينة قام العالم بثقبها: « خرقها » «خرق» كما يقول
الرّاغب في المفردات: الخرق، قطع الشّيء على سبيل
الإفساد بلا تدبّر ولا تفكّر حيث كان ظاهر عمل الرّجل
العالم على هذا المنوال. وبحكم كون موسى (عليه
السّلام) نبيًّا إلهيًّا كبيرًا فقد كان من جانب يرى أنّ واجبه
الحفاظ على أرواح وأموال النّاس، وأن يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر، ومن جانب آخر كان وجدانه الإنسانيّ
يضغط عليه ولا يدعه يسكت أمام أعمال الرّجل العالم
الّتي
يبدو ظاهرها سيّئًا قبيحًا، لذا فقد نسي العهد الّذي قطعه
للخضر (العالم) فاعترض وقال: قال: ﴿
أَخَرَقْتَهَا
لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا
﴾. لا ريب أنّ هدف العالم (الخضر) لم يكن إغراق من في
السّفينة، ولكن النّتيجة النّهائية لخرق السّفينة لم يكن
سوى غرق من في السّفينة، وحقًّا، لقد كان ظاهر عمل
الرّجل
العالم عجيبًا وسيئًا للغاية، فهل هناك عمل أخطر من أن
يثقب شخص سفينة تحمل عددًا من المسافرين! وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ أهل السّفينة انتبهوا إلى الخطر
بسرعة وقاموا بإصلاح الثّقب (الخرق) مؤقتًا، ولكنّ
السّفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير سالمة. وفي هذه
الأثناء نظر الرّجل العالم إلى موسى (عليه السّلام) نظرة
خاصّة وخاطبه، قال: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾. أمّا موسى (عليه
السّلام) الّذي ندم على استعجاله، بسبب أهميّة الحادثة،
فقد تذكّر عهده الّذي قطعه لهذا العالم الأستاذ، لذا
التفت إليه قائلا: ﴿ قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا
نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا
﴾.
يعني لقد أخطأت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا
الاشتباه. لقد انتهت سفرتهم البحريّة وترجّلوا من
السّفينة: ﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا
فَقَتَلَهُ ﴾، وقد تمّ ذلك بدون أيّ مقدّمات! وهنا ثار
موسى (عليه السّلام) مرّة أخرى، حيث لم يستطع السّكوت على
قتل طفل بريء بدون أيّ سبب، وظهرت آثار الغضب على وجهه،
وملأ الحزن وعدم الرّضا عينَيْه ونسي وعده مرّة أخرى، فقام
بالاعتراض، وكان اعتراضه هذه المرّة أشدّ من اعتراضه في
المرّة الأولى، لأنّ الحادثة هذه المرّة كانت موحشة أكثر
من الأولى، فقال (عليه السّلام): قال: ﴿
أَقَتَلْتَ
نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾، أي إنَّك قتلت
إنسانًا بريئًا من دون أن يرتكب جريمة قتل، ﴿
لَقَدْ
جِئْتَ
شَيْئًا
نُّكْرًا ﴾.
ومرّة أخرى كرّر العالم الكبير جملته السّابقة
الّتي اتّسمت
ببرودة خاصّة، حيث قال لموسى (عليه السّلام): قال:
﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْرًا ﴾. والاختلاف الوحيد مع الجملة السّابقة هو
إضافة كلمة « لك » الّتي تفيد التّأكيد الأكثر، يعني: إنّني
قلت هذا الكلام لشخصك! تذكّر موسى (عليه السّلام) تعهّده
فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخلّ بالعهد مرّتَيْن ـ ولو
بسبب النّسيان ـ وبدأ تدريجيًّا يشعر بصدق عبارة الأستاذ
في أنَّ موسى (عليه السّلام) لا يستطيع تحمّل أعماله،
لذا فلا يطيق رفقته كما قال له عندما عرض عليه موسى
(عليه السّلام) الرّفقة، لذا فقد بادر إلى الاعتذار
وقال: إذا اعترضت عليك مرّة أخرى فلا تصاحبني وأنت في
حلّ منّي، قال: ﴿ إِن سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا
فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي
عُذْرًا ﴾. بعد هذا الكلام والعهد الجديد:
﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ
اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن
يُضَيِّفُوهُمَا ﴾. لا ريب، إنّ موسى (عليه
السّلام)
وصاحبه لم يكونا ممّن يلقي بكلّه على النّاس ولكن يتضح
أنّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السّفرة، لذا فقد رغبا
أن يضيفهما أهل تلك المدينة. ثمّ يضيف القرآن: ﴿
فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنْقَضَّ
فَأَقَامَهُ ﴾ وقد كان موسى (عليه
السّلام) يشعر بالتّعب
والجوع، والأهمّ من ذلك أنَّه كان يشعر بأنّ كرامته
وكرامة أستاذه قد أهينت من أهل هذه القرية الّتي أبت أن
تضيفهما، ومن جانب آخر شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم
الجدار بالرّغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما،
وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السّيئة،
وكان موسى (عليه السّلام) يعتقد بأنّ على صاحبه أن يطالب
بالأجر على هذا العمل حتّى يستطيعا أن يعدّا طعامًا
لهما. لذا فقد نسي موسى (عليه السّلام) عهده مرّة أخرى
وبدأ بالاعتراض، إلا أنّ اعتراضه هذه المرّة بدا خفيفًا
فقال: قال: ﴿ لَوْ
شِئْتَ
لاَتَّخَذْتَ
عَلَيْهِ
أَجْرًا ﴾. وفي الواقع فإنَّ موسى (عليه
السّلام)
يعتقد بأنّ قيام الإنسان بالتّضحية في سبيل أناس سيّئين
عمل مجاف لروح العدالة، بعبارة أخرى: إنّ الجميل جيد
وحسن، بشرط أن يكون في محلّه. صحيح أنّ الجزاء الجميل في
مقابل العمل القبيح هو من صفات النّاس الإلهيّين، إلاّ
أنّ ذلك ينبغي أن لا يكون سببًا في دفع المسيئين للقيام
بالمزيد من الأعمال السّيئة. وهنا قال الرّجل العالم
كلامه الأخير لموسى (عليه السّلام)، بأنّك ومن خلال
حوادث مختلفة، لا تستطيع معي صبرًا، لذلك قرّر العالم
قراره الأخير، قال: ﴿ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع
عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾ . ﴿
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ
أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾. وبهذا
التّرتيب كان ثمّة
هدف خير وراء ثقب السّفينة الّذي بدا في حينه عملاً مشينًا
سيّئًا، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب، وكان هذا
الملك يترك السّفينة المعيبة ويصرف النّظر عنها. إذن،
خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو حفظ مصالح مجموعة
من المساكين. بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سرّ
الحادثة الثّانية الّتي قتل فيها الفتى فيقول: ﴿
وَأَمَّا
الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤُمِنَيْنِ فَخَشِينَا
أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا ﴾. تحتمل
مجموعة من المفسّرين أنّ المقصود من الآية ليس ما يتبيّن
من ظاهرها من أنّ الفتى الكافر والعاصي قد يكون سببًا في
انحراف أبوَيْه، وإنّما المقصود أنّه بسبب من طغيانه
وكفره يؤذي أبوَيْه كثيرًا، ولكنّ التّفسير الأوّل أقرب
للصّحة. في كل الأحوال، فإنّ الرّجل العالم قام بقتل هذا
الفتى، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع للأب والأمّ المؤمنَيْن
في حال بقاء الابن على قيد الحياة. كشف الرّجل العالم
عن السّر الثّالث الّذي دعاه إلى بناء الجدار فقال: ﴿
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ
لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ
رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾. أنا كنت مأمورًا
ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوَيْ هذَيْن
اليتيمَيْن، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضًا
للخطر
[206] . وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أيّ شبهة
محتملة، أو شكّ لدى موسى (عليه السّلام)، يبيّن الخضر
(عليه السّلام) له أنّ ما قام به إنّما كان بأمر من
الله وليس من عنده، وهذا هو العلم اللّدني أي العلم
المباشر من قبل الله تعالى ومن غير واسطة.
نعم، لقد أظهر له السرّ الّذي لم يستطع تحمّله، ثمّ تركه
ومضى
[207] .
ويمكن إجمال بعض المسائل والدّروس المهمّة من قصّة موسى
مع الخضر (عليهما السّلام) بحيث تعدّ في حدّ ذاتها أسوة
في الحياة الدّنيا.
1 ـ
إنّ البحث عن القائد العالم وإيجاده للاستفادة من
علمه ومعرفته والاستضاءة بنور معارفه مهمّ إلى درجة أنّ
أنبياء أولي العزم كموسى (عليه السّلام) تحمّل مشقّة
السّفر وترك قومه وعمله من أجل العلم والمعرفة.
2 ـ إنّ الصّورة الظّاهريّة والباطنيّة للأشياء والحوادث
مسألة مهمّة وهي خارج إدراكنا وحساباتنا العلميّة، وهذا
يدعونا إلى عدم التّسرّع بالحكم على بعض الظّواهر
الّتي
نعدّها سيّئة وغير مفيدة، فلعلّ ما نراه سيّئًا يكون جيّدًا والعكس صحيح، وكثير من الحوادث
الّتي نرى في ظاهرها
السّوء لنا، لكن في الحقيقة تخفي خلفها ألطافًا إلهيّة
جمّة، وهذا ما يعبّر عنه القرآن الكريم صراحة: ﴿
كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى
أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
[208] .
يقول تعالى: ﴿
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾
[209] .
لقد خلق الله تعالى الكون والسّماوات والأرض والنّجوم
والكواكب وجعل لكلّ منها نظامًا وقانونًا تعمل طبقه ولا
تحيد عنه، لكن إذا أراد الله تعالى وإكرامًا لرسله
وأوليائه فإنَّ هذه الكائنات قد تخرج عن مسارها وتحيد
عن نظامها لوقت محدد وخاص.
عن أبي عبد الله (عليه
السّلام) عن أبيه عن آبائه
(عليهم السّلام) قال: دخل عليّ (عليه السّلام) على رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه، وقد أغمي
عليه، ورأسه في حجر جبرائيل، وجبرائيل في صورة دحيّة
الكلبيّ، فلمّا دخل عليّ (عليه السّلام) قال له جبرائيل:
دونك رأس ابن عمّك، فأنت أحقّ به منّي، لأنَّ الله يقول
في كتابه: ﴿ وَأُوْلُواْ
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ ﴾ فجلس عليّ (عليه السّلام)
وأخذ رأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوضعه
في حجره، فلم يزل رأس رسول الله في حجره حتّى غابت
الشّمس، وأنّ رسول الله أفاق، فرفع رأسه فنظر إلى عليّ
(عليه السّلام) فقال: يا عليّ، أين جبرائيل؟ فقال: يا
رسول الله، ما رأيت إلا دحيّة الكلبيّ دفع إليّ رأسك،
وقال: يا عليّ، دونك رأس ابن عمّك فأنت أحقّ به منّي، لأنّ الله يقول في كتابه: ﴿
وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾، فجلست وأخذت
رأسك، فلم يزل في حجري حتّى غابت الشّمس، فقال له رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفصلّيت العصر؟ فقال:
لا، قال: فما منعك أن تصلّي؟ فقال: قد أغمي عليك، وكان
رأسك في حجري، فكرهت أن أشقّ عليك ـ يا رسول الله ـ
وكرهت أن أقوم وأصلّي وأوضع رأسك، فقال رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم): اللّهمّ إنَّه كان في طاعتك وطاعة
رسولك حتّى فاتته صلاة العصر، اللّهمّ فردّ عليه الشّمس
حتّى يصلّي العصر في وقتها، قال: فطلعت الشّمس فصارت في وقت
العصر بيضاء نقيّة، ونظر إليها أهل المدينة، وأنّ عليًّا
قام وصلّى، فلمّا انصرف غابت الشّمس وصلّوا المغرب
[210] .
إنّ حديث ردّ الشّمس لعليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)
مشهور بين السّنة والشّيعة، ويوجد في المدينة المنوّرة
مسجد يدعى مسجد « ردّ الشّمس » وهو موجود إلى الآن، وهو
المكان الّذي صلّى فيه أمير المؤمنين عليّ (عليه
السّلام)
وقد ورد الحديث في كتب الشّيعة والسّنة، فقد ذكره حافظ
القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودة، في الباب 48. كذلك
في كتاب المناقب لابن مغازليّ الشّافعي. وغير ذلك من
المراجع والكتب المعتبرة
[211] .
في السّنة الثّامنة للهجرة، عزم
الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على التّوجه إلى
مكّة المكرّمة للعمرة،
فتوجّه في شهر ذي القعدة مع أصحابه وأتباعه وحمل معه
الذّبائح، فلمّا وصل الخبر إلى قريش والمشركين، جهّزوا
جيشًا لمنعه من دخول مكّة، وبعد تبادل الرّسائل توصّل
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى عقد صلح مع
المشركين فانتدبوا سهيل بن عمرو ليكتب وثيقة الصّلح مع
النّبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال
الرّسول
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ (عليه السّلام) اكتب
بسم الله الرّحمن الرّحيم، فقال سهيل بن عمرو والمشركون
ما نعرف الرّحمن إلاّ صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة
الكذاب، أكتب باسمك اللّهمّ ، وهكذا كان أهل الجاهليّة
يكتبون، ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله، فقال مشركو
قريش: لئن كنت رسول الله ثمّ قاتلناك وصددناك لقد
ظلمناك، ولكن اكتب هذا ما صالح محمّد بن عبد الله، فقال
أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): دعنا
نقاتلهم، قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون، فأنزل الله
(عزّ وجلّ): ﴿ كَذَلِكَ
أَرْسَلْنَاكَ
فِي
أُمَّةٍ ﴾
[212] .
عندما هاجر رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) إلى
المدينة، ووصل إلى حومة المدينة، إلى منطقة تدعى « قبا »
وذلك في اليوم الثّاني عشر من شهر ربيع الأوّل، السّنة
الحادية عشر للبعثة، فنزل بالقرب من قبيلة بني عمرو بن
عوف، وانتظر قدوم أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) مع
النّساء، وقد طال الأمر خمسة عشر يومًا، وكان رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل قدومه إلى المدينة قد
ابتاع أرضًا من يتيمَيْن بضعف ثمنها، وذلك من أجل إقامة
مسجد عليها، وبذلك تمَّ التّخطيط لإقامة أوّل مسجد على
وجه المعمورة، ثمّ أنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد
قباء وبعثوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه، فحسدهم جماعة من
المنافقين من بني غنم بن عوف، فقالوا: نبني مسجدًا فنصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمّد، وكانوا اثنَيْ عشر رجلاً وقيل خمسة عشر رجلاً منهم ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير
ونبتل بن الحرث فبنوا مسجدًا إلى جنب مسجد قباء، فلمّا
فرغوا منه أتوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنّا قد
بنينا مسجدًا لذي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة
واللّيلة الشّاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا
وتدعو بالبركة، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّي
على جناح سفر ولو قدمنا لأتيناكم إن شاء الله فصلّينا
لكم فيه، فلمّا انصرف رسول الله من تبوك نزلت عليه
الآية في شأن المسجد. ﴿
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً
وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً
لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا
تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ
فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ
أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ
الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن
تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
﴾
[213] .
وبذلك كشف المولى تعالى السّتار عن نيّة هؤلاء الجماعة
والهدف من بناء مسجدهم، وسوء نيّتهم، ونهى الرّسول عن
الإقامة فيه للصّلاة، ثمّ بعد ذلك أمر رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) أن يحرق المسجد ويخرب ويزال كلّ
أثر له. وكانوا قد أرصدوا ذلك المسجد واتّخذوه وأعدّوا
لأبي عامر الرّاهب ـ وهو الّذي حارب الله ورسوله من قبل
ـ وكان من قصّته أنَّه كان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس
المسوح، فلمّا قدم النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
المدينة حسده وحزَّب عليه الأحزاب، ثمّ هرب بعد فتح
مكّة إلى الطّائف، فلمّا أسلم أهل الطّائف لحق بالشّام وخرج
إلى الرّوم وتنصّر.
وسمّى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) أبا عامر
الفاسق وكان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا
مسجدًا فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود وأخرج
محمّدًا من المدينة، فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون أن
يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الرّوم
[214] .
في غزوة تبوك أوحى الله (تبارك وتعالى اسمه) إلى
نبيّه
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): أن يسير إليها بنفسه،
ويستنفر النّاس للخروج معه، وأعلمه أنّه لا يحتاج فيها
إلى حرب، ولا يمنى بقتال عدو، وأنَّ الأمور تنقاد له
بغير سيف، وتعبّده بامتحان أصحابه بالخروج معه
واختبارهم، ليتميّزوا بذلك وتظهر سرائرهم. فاستنفرهم
النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى بلاد الرّوم، وقد
أينعت ثمارهم واشتدّ القيظ عليهم، فأبطأ أكثرهم عن
طاعته، رغبة في العاجل وحرصًا على المعيشة وإصلاحها،
وخوفًا من شدّة القيظ وبُعْد المسافة ولقاء العدو، ثمّ نهض
بعضهم على استثقال للنّهوض، وتخلّف آخرون. ولمّا أراد
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخروج استخلف
أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أهله وولده وأزواجه
ومهاجره، وقال له: « يا عليّ، إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي
أو بك ». وذلك أنّه (عليه السّلام) علم من خبث نيّات
الأعراب، وكثير من أهل مكّة ومن حولها، ممّن غزاهم وسفك
دماءهم، فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه عنها وحصوله
ببلاد الرّوم أو نحوها، فمتى لم يكن فيها من يقوم
مقامه، لم يؤمن من معرّتهم، وإيقاع الفساد في دار
هجرته، والتّخطّي إلى ما يشين أهله ومخلفيه. وعلم (عليه
السّلام) أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ وحراسة دار
الهجرة وحياطة من فيها، إلاّ أمير المؤمنين (عليه
السّلام)، فاستخلفه استخلافًا ظاهرًا، ونصّ عليه بالإمامة
من بعده نصًّا جليًّا، وذلك فيما تظاهرت به الرّواية أنّ أهل
النّفاق لمّا علموا باستخلاف رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) عليًّا (عليه السّلام) على المدينة، حسدوه
لذلك وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنّها
تنحرس به، ولا يكون للعدوّ فيها مطمع، فساءهم ذلك،
وكانوا يؤثرون خروجه معه، لما يرجونه من وقوع الفساد
والاختلاط عند نأي النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن
المدينة، وخلوّها من مرهوب مخوف يحرسها، وغبطوه (عليه
السّلام) على الرّفاهية والدّعة بمقامه في أهله، وتكلّف من
خرج منهم المشاقّ بالسّفر والخطر، فأرجفوا به (عليه
السّلام) وقالوا: لم يستخلفه رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) إكرامًا له وإجلالاً ومودة، وإنّما خلفه
استثقالاً له. فبهتوه بهذا الإرجاف كبهت قريش للنّبيّ عليه وآله
السّلام بالجنّة تارة، وبالشّعر أخرى، وبالسّحر
مرّة، وبالكهانة أخرى، وهم يعلمون ضدّ ذلك ونقيضه، كما
علم المنافقون ضدّ ما أرجفوا به على أمير المؤمنين
(عليه السّلام) وخلافه، وأنّ النّبيّ (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) كان أخصّ النّاس بأمير المؤمنين (عليه
السّلام)،
وكان هو أحبّ النّاس إليه وأسعدهم عنده وأفضلهم لديه،
فلمّا بلغ أمير المؤمنين إرجاف المنافقين به، أراد
تكذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنّبيّ (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) فقال: « يا رسول الله، إنّ المنافقين يزعمون
أنّك إنّما خلّفتني استثقالاً ومقتًا! فقال له رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): ارجع يا أخي إلى مكانك،
فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، فأنت خليفتي في
أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة
هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ». فتضمّن هذا
القول من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جميع
منازل هارون من موسى، إلاّ ما خصّه العرف من الأخوّة
واستثناه هو (عليه السّلام) من النّبوّة. ألا ترى أنّه
عليه وآله السّلام جعل له كافة منازل هارون من موسى،
إلاّ المستثنى منها لفظًا أو عقل
[215] .
هذا الحديث المعروف بحديث المنزلة نقل في كتب السّنة
والشّيعة على السّواء، وهو حديث معتبر ولا يقبل الإنكار
أو الشّك، فقد ورد في كتب كثيرة مثل غاية المرام
للبحرانيّ، والغدير، وإحقاق الحقّ، وإثبات الهداة وغير
ذلك من المراجع والكتب.
كان رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ـ بعد البعثة
ـ يصلّي باتّجاه القدس، وقد استمرّ حوالي (13) سنة، وكان
اليهود يعيّرون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ويقولون له: أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا، فاغتم من
ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غمًّا شديدًا،
وخرج في جوف اللّيل ينظر في آفاق السّماء ينتظر أمر الله
تبارك وتعالى في ذلك، فلمّا أصبح وحضرت صلاة الظّهر كان
في مسجد بني سالم قد صلّى بهم (من) الظّهر ركعتين، نزل
جبرائيل (عليه السّلام) فأخذ بعضدَيْه فحوّله إلى الكعبة
فصلّى ركعتَيْن إلى الكعبة وأنزل عليه قوله سبحانه: ﴿
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن
رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ ﴾.
وفي رواية أنّ جبرائيل (عليه
السّلام) أخذ بيد النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فحوّل وجهه إلى الكعبة وحوّل
من خلفه وجوههم، حتّى قام الرّجال مقام النّساء والنّساء
مقام الرّجال. فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها
إلى الكعبة. وبلغ الخبر مسجدًا بالمدينة وقد صلّى أهله
من العصر ركعتَيْن فحوّلوا نحو الكعبة، وكان أوّل صلاتهم
إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فسمّي ذلك المسجد
مسجد القبلتَيْن
[216] .
وفي الفقيه أنّ النّبيّ (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) صلّى
إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكّة وتسعة عشر شهرًا
بالمدينة، ثمّ عيّرته اليهود فقالوا: إنّك تابع
لقبلتنا، فاغتمّ لذلك غمًّا شديدًا، فلمّا كان في بعض اللّيل
خرج يقلّب وجهه في آفاق السّماء، فلمّا أصبح صلّى الغداة،
فلمّا صلّى من الظّهر ركعتَيْن جاء جبرائيل (عليه
السّلام)
فقال له ﴿ قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ
فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ ﴾، ثمَّ أخذ بيد النّبيّ (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) فحوّل وجهه إلى الكعبة، وحوّل
من خلفه وجوههم حتّى قام الرّجال مقام النّساء والنّساء
مقام الرّجال، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها
إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدًا بالمدينة وقد صلّى أهله من
العصر ركعتَيْن فحوّلوا نحو القبلة، فكان أوّل صلاتهم إلى
بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمّي ذلك المسجد مسجد
القبلتَيْن، ولمّا أن صرف الله نبيّه إلى الكعبة عن بيت
المقدس، قال المسلمون: للنّبيّ أرأيت صلاتنا الّتي كنّا
نصلّي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها وما حال من مضى من
أمواتنا، وهم كانوا يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾، فسمّى الصّلاة
إيمانًا، فمن اتّقى الله حافظًا لجوارحه موفيًّا كلّ جارحة
من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملاً لإيمانه
من أهل الجنّة، ومن خان في شيء منها أو تعدّى ما أمر
الله فيها لقي الله ناقص الإيمان
[217] .
كان ثعلبة بن حاطب الأنصاريّ رجلاً فقيرًا، وكان يحضر
مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصّلاة في
المسجد خمس مرّات، فجاء إلى الرّسول الأكرم (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) مرّة فقال للنّبيّ (صلّى الله عليه
وآله وسلّم): ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال: يا
ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه أَمَا لك
في رسول الله أسوة حسنة، والّذي نفسي بيده لو أردتّ أن
تسير الجبال معي ذهبًا وفضّة لسارت، ثمّ أتاه بعد ذلك،
فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، والّذي
بعثك بالحقّ لئن رزقني الله مالاً لأعطينَّ كلّ ذي حقّ
حقّه، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اللّهمّ ارزق
ثعلبة مالاً، قال: فاتّخذ غنمًا فنمت كما ينمو الدّود
فضاقت عليه المدينة فتنحّى عنها فنزل واديًا من
أوديتها، ثمّ كثرت نموًّا حتّى تباعد عن المدينة
فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) إليه المصدّق ليأخذ الصّدقة فأبى وبخل وقال: ما هذه إلاّ
أخت الجزية، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم): يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة
[218] ، وأنزل الله
تعالى: ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ
عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
﴾
[219] .
وقعت معركة بدر الكبرى في السّابع عشر من شهر رمضان،
وذلك بعد سنة من قدوم الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) إلى المدينة، ثمّ تهيّأت قريش ومن حالفهم
لحرب الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وجمعت كلّ
طاقاتها لحربه في معركة أحد، فاستأجر أبو سفيان ألفَيْن
من الأحباش ليقاتل بهم محمّدًا (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) بالاضافة إلى قريش والمشركين ومن استجاب لهم من
العرب، يقول كعب بن مالك في ذلك:
فجئنا إلى موجٍ من البحر وسطهم أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن بقيّة ثلاث مئين إن كثرنا فأربعُ
وقد توافق اثنا عشر رجلاً من أغنياء قريش أن يطعموا
الجيش الّذي استأجره أبو سفيان وهم: أبو جهل بن هشام
وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ونبيه ومنبّه ابنا
الحجّاج وأبو البختريّ بن هشام والنّضر بن الحارث وحكيم
بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر
بن نوفل والعبّاس بن عبد المطلب وكلّهم من قريش وكان كلّ
يوم يُطعِم واحد منهم عشر جزر وكانت النّوبة يوم
الهزيمة للعبّاس
[220] فنزلت الآية الشّريفة: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ
حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾
[221] .
من أهمّ الوسائل
الّتي تؤثّر في تكامل الإنسان الرّوحي
التّواضع في مقابل عظمة الخالق، على أنّ التّواضع
والعبادة والمناجاة علامات وتجليّات لمقام شكر العباد
على النّعم الإلهيّة الّتي لا تعدّ ولا تحصى، وهذا هو
أسلوب أئمّة الدّين، فهم أسوة حسنة لاتباعهم في هذا
المقام.
عن أبي جعفر (عليه
السّلام) قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا
رسول الله، لم تتعب نفسك، وقد غفر لك الله ما تقدّم من
ذنبك وما تأخّر؟ فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟
قال: وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقوم
على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه: ﴿
طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى
﴾.
وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسين بن عليّ
(عليهم السّلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السّلام):
ولقد قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشر
سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه،
يقوم اللّيل أجمع حتّى عوتب في ذلك، فقال الله (عزّ وجلّ):
﴿ طه (1) مَا أَنزَلْنَا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾
[222] بل لتسعد به والحديث طويل أخذنا منه موضع
الحاجة
[223] .
صحيح أن العبادة والتّضرّع والتّواضع والتّقرب إلى الخالق
عزّ وجلّ من أفضل الأعمال وأهمّ المسائل المطلوبة في سعي
الإنسان، لكن الدّين الإسلاميّ دين السّماحة والبساطة وهو
دين سهل، وبتعبير المفسّرين (أمّة الإسلام أمّة وسط)،
فليس في برنامج حياة المسلمين وسلوكهم إفراط ولا
تفريط، من هنا فإنّ العبادات في الإسلام لا يمكن أن
تكون مشقّة للإنسان ولا عذابًا روحيًّا، بحيث تجعل
الإنسان يملّ منها ويفرّ من إقامتها، فهذا ليس جائزًا في
دين الإسلام الحنيف، لأنّ الدّين يطابق الفطرة ولا
يخالفها، من هنا فإنَّ الإنسان الّذي يتحمّل مشقّة
العبادة ويصبر في ذلك يعدّ من الشّاكرين عند المولى
تعالى، وينال مقامًا أعلى وشرفًا أسمى عنده سبحانه.
كان عدد جيش المشركين في واقعة بدر 970 شخصًا وعدد
المسلمين 313 . في هذه المعركة نصر الله (عزّ وجلّ) رسوله
والمسلمين بالمدد الغيبيّ فأمدّه بالملائكة، وانتصر
المسلمون في تلك المعركة، فقتل من الكفّار 70 نفرًا وأسر المسلمون منهم 70 نفرًا أيضًا، فنهى رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم بدر أن يقتل أحد من بني
هاشم من الأسرى، فأرسل عليًّا (عليه السّلام)، فقال: انظر
من هيهنا من بني هاشم، قال: فمرّ علي (عليه السّلام) على
عقيل بن أبي طالب كرّم الله وجهه فحاد عنه فقال له: يا
بن أمّ عليّ أَمَا والله لقد رأيت مكاني، قال: فرجع إلى
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: هذا أبو
الفضل في يد فلان، وهذا عقيل في يد فلان، وهذا نوفل بن
حارث في يد فلان، فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) حتّى انتهى إلى عقيل، فقال له: يا أبا يزيد، قتل
أبو جهل. قال: إذن لا تنازعون في تهامة فقال: إن كنتم
أثخنتم القوم وإلاّ فاركبوا أكتافهم، قال: فجيء بالعبّاس
فقيل له: أفد نفسك، وأفد ابن أخيك، فقال: يا محمّد،
تتركني أسأل قريشًا في كفّي؟ فقال: أعط ما خلفت عند أمّ
الفضل، وقل لها: إن أصابني في وجهي هذا شيء فأنفقيه
على ولدك ونفسك، فقال له: يا بن أخي من أخبرك بهذا؟
فقال: أتاني جبرائيل (عليه السّلام) من عند الله عزّ
ذكره، فقال: ما علم بهذا أحد إلاّ أنا وهي، أشهد أنّك
رسول الله، قال: فرجع الأسارى كلّهم مُشْرِكِينَ إلاّ
العبّاس وعقيل ونوفل كرّم الله وجوههم
[224] ، وفيهم نزلت
هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ
الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ
خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
﴾
[225] .
عن أبي جعفر عن أبيه (عليهما
السّلام) قال: أتى النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمال، فقال للعبّاس: يا
عبّاس
ابسط رداءك وخذ من هذا المال طرفًا. فبسط ردائه، فأخذ
منه طائفة، ثمَّ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم): هذا من الّذي قال الله تبارك وتعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ
خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
[226] .
عندما بعث النّبيّ الأكرم (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)
بالرّسالة السّماويّة سعى المشركون وجهدوا في الوقوف بوجه
المدّ الإسلاميّ، فكانوا يطلبون من النّبيّ (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) مسائل مستحيلة الحصول، وذلك من أجل
تعجيزه واتّخاذ الذّريعة لعدم الإيمان به، وكان اليهود
يطرحون أسئلة صعبة ومستحيلة مع أنّهم وجدوا صفاته (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) مكتوبة في كتبهم، فعرفوه بالاسم
والكنية والصّفة، لكنّهم لم يؤمنوا به عنادًا وتكبّرًا.
وممّا جاء في السّير والتّفاسير أنّ اليهود سألوا الرّسول
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: أنسب لنا ربّك، فلبث
ثلاثًا لا يجيبهم حتّى نزلت الآية المباركة: ﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ
الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ
يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌٌ ﴾
[227] .
وهذه السّورة على صغرها غير أنّ لها من الفضيلة بحيث
أفرز لها المفسّرون صفحات وصفحات، ففي تفسير نور
الثّقلَيْن ورد أكثر من تسعين حديثًا في فضيلة سورة
التّوحيد وتفسيرها.
وعن أبي عبد الله (عليه
السّلام) قال في شأن هذه
السّورة: « هذه نسبة الرّبّ تبارك وتعالى »، وعن أمير
المؤمنين (عليه السّلام) يقول: « نسبة الله (عزّ وجلّ) قل
هو الله ». وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن
الله جلّ جلاله قال له: اقرأ قل هو الله أحد كما نزلت
فإنّها نسبتي ونعتي.
وروي في الحديث أنَّ لكلّ شيء نسبة ونسبة الله سورة
الإخلاص.
سئل عليّ بن الحسين صلوات الله عليه عن
التّوحيد؟ فقال:
إنّ الله (عزّ وجلّ) علم أنّه يكون في آخر الزّمان أقوام
متعمّقون، فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد، والآيات
من سورة الحديد إلى قوله ﴿ وَهُوَ
عَلِيمٌ
بِذَاتِ
الصُّدُورِ ﴾ فمن رام وراء ذلك فقد هلك
[228] .
يقول تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، نزلت هذه
الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاريّ، وذلك أنّ
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حاصر يهود قريظة
إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) الصّلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني
النّضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء
من أرض الشّام، فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) إلاّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ،
فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحًا لهم، لأنّ
عياله وماله وولده كانت عندهم، فبعثه رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا
لبابة؟ أتنزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة
بيده إلى حلقه: أنّه الذّبح فلا تفعلوا، فأتاه جبرائيل
(عليه السّلام) - أتى الرّسول (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) -
فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من
مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله، فنزلت
الآية فيه، فلمّا نزلت شدّ نفسه على سارية من سواري
المسجد وقال: والله لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتّى أموت أو يتوب الله عليّ، فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها
طعامًا ولا شرابًا حتّى خرّ مغشيًّا عليه، ثمّ تاب الله
عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال: لا
والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) هو الّذي يحلّني فجاءه فحلَّه بيده، ثم قال
أبو لبابة: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي الّتي
أصبت فيها الذّنب، وأن انخلع من مالي، فقال النّبيّ (صلّى
الله عليه وآله وسلّم): يجزئك الثّلث أن تصدّق به، وهو
المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السّلام)
[229] .
كانت بعض القبائل في الجاهليّة والمشركين إذا كانوا في
الكعبة خلعوا ثيابهم وطافوا عراة، وكانت الأوس والخزرج
وخزاعة وثقيف وبني عامر بن صعصعة وبطون كنانة بن بكر
كانوا لا يأكلون اللّحم، ولا يأتون البيوت إلاّ من
أدبارها، ولا يضطّربون وبرًا ولا شعرًا إنّما يضطّربون
الادم، ويلبسون صبيانهم الرّهاط، وكانوا يطوفون عراة
إلاّ قريشًا، فإذا قدموا طرحوا ثيابهم الّتي قدموا فيها،
وقالوا: هذه ثيابنا الّتي تطهّرنا إلى ربّنا فيها من
الذّنوب والخطايا ثم قالوا لقريش: من يعيرنا مئزرًا؟ فإن
لم يجدوا طافوا عراة فإذا فرغوا من طوافهم أخذوا
ثيابهم الّتي كانوا وضعوا، وكان النّاس يطوفون بالبيت
عراة يقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها...
[230] .
فنزلت هذه الآية: ﴿ يَا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً
يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى
ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ ﴾
[231] .
وكانت قبيلة بني عامر، إضافة إلى فعلها القبيح هذا،
إذا وصلوا إلى مسجد خلعوا ثيابهم ودخلوا المسجد عراة،
وإذا طاف أحدهم وهو مؤتزر ضربوه حتّى يخلع ثيابه. فأنزل
المولى تعالى قوله: ﴿ يَا
بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾
[232] .
من علامات نبوّة
الرّسول الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه لم يتعلّم القراءة والكتابة على يد
أحد، وهذا الأمر يؤيّده جميع المؤرّخين، والقرآن الكريم
يذكر هذا الموضوع بصراحة حيث يقول: ﴿
وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن
قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ
إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾
[233] .
وقد ورد في
الرّوايات أنّ الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعرف القراءة والكتابة ومع ذلك لم يكتب
الوحي بيده، بل كان يتّخذ كتبة ليكتبوا ما ينزل به
الوحي من الآيات المباركات
[234] .
عن أبي عبد الله (عليه
السّلام) قال إنَّ عبد الله بن
سعد بن أبي سرح كان أخا عثمان من الرّضاعة أسلم وقدم
المدينة وكان له خط حسن، وكان إذا نزل الوحي على رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعي فكتب ما يمليه
عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكان إذا
قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ﴿
سَمِيعٌ
بَصِيرٌ ﴾ يكتب ﴿
سَمِيعٌ
عَلِيمٌ ﴾ وإذا قال
﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
﴾ يكتب ﴿ بَصِيرٌ
﴾ ويفرّق بين التّاء والياء وكان رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: هو واحد فارتدّ كافرًا
ورجع إلى مكّة، وقال لقريش: والله ما يدري محمّد ما
يقول، أنا أقول مثل ما يقول، فلا ينكر على ذلك، فأنا
أنزل مثل ما ينزل، فأنزل الله على نبيّه (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) في ذلك: ﴿ وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ
قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ
وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ
الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ
الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ ، فلمّا فتح رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) مكّة أمر بقتله، فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله في
المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه، فسكت رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ أعاد فسكت، ثمّ أعاد
فقال: هو لك، فلمّا مرّ قال رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال
رجل، كان عيني إليك يا رسول الله أن تشير إليّ فأقتله،
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ
الأنبياء لا يقتلون بالإشارة فكان من الطّلقاء
[235] .
كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمّون أصحاب الصّفّة،
وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمرهم أن
يكونوا في
صفّة يأوون إليها: وكان رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) يتعاهدهم بنفسه، وربّما حمل إليهم ما
يأكلون. وكانوا يختلفون إلى رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) فيقرّبهم ويقعد معهم ويؤنسهم، وكان إذا جاء
الأغنياء والمترفون من أصحابه أنكروا عليه ذلك ويقولون
له: اطردهم عنك، فجاء يومًا رجل من الأنصار إلى رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعنده رجل من أصحاب
الصّفّة قد لزق برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
يحدثه، فقعد الأنصاريّ بالبعد منهما، فقال له رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): تقدّم فلم يفعل، فقال له
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلّك خفت أن يلزق
فقره بك، فقال الأنصاريّ: اطرد هؤلاء عنك
[236] ، فأنزل
الله: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ
الظَّالِمِينَ ﴾
[237] .
في بداية الدّعوة الإسلاميّة
إئتمرت قريش أن يفتنوا
المؤمنين عن دينهم، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من
المسلمين يؤذونهم ويعذّبونهم، فافتتن من افتتن وعصم
الله منهم من شاء ومنع الله رسوله بعمّه أبي طالب، فلمّا
رأى رسول الله ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر
بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال:
إنَّ بها ملكًا صالحًا لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد
فاخرجوا إليه حتّى يجعل الله (عزّ وجلّ) للمسلمين فرجًا،
وأراد به النّجاشي واسمه أصحمة وهو بالحبشة عطيّة،
وإنّما النّجاشي اسم الملك كقولهم تُبَّع وكسرى وقيصر،
فخرج إليها سرًّا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة وهم عثمان
بن عفان وامرأته رقيّة بنت رسول الله والزّبير بن العوّام
وعبد الله بن مسعود وعبد الرّحمن بن عوف وأبو حذيفة بن
عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب به عمير
وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أميّة
وعثمان بن مظعون وعامر ابن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي
خيثمة وحاطب بن عمرو وسهل ابن البيضاء، فخرجوا إلى
البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في
رجب في السّنة الخامسة من مبعث رسول الله، وهذه هي
الهجرة الأولى، ثمّ خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع
المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من
المسلمين إثنين وثمانين رجلاً سوى النّساء والصّبيان،
فلمّا علمت قريش بذلك وجَّهوا عمرو بن العاص وصاحبه
عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النّجاشي وإلى بطارقته
ليردّوهم إليهم، وكان عمارة بن الوليد شابًّا حسن الوجه
وأخرج عمرو بن العاص أهله معه، فلمّا ركبوا السّفينة
شربوا الخمر، فقال عمارة لعمرو بن العاص: قل لأهلك
تقبّلني فأبى، فلمّا انتشى عمرو دفعه عمارة في الماء
ونشب عمرو في صدر السّفينة وأخرج من الماء وألقى الله
بينهما العداوة في مسيرهما قبل أن يقدما إلى النّجاشي،
ثمّ وردا على النّجاشي، فقال عمرو بن العاص: أيّها
الملك إنّ قومًا خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا
وصاروا إليك فردّهم إلينا، فبعث النّجاشي إلى جعفر
فجاءه، فقال: يا أيّها الملك سلهم أنحن عبيد لهم،
فقال: لا بل أحرار، قال: فسلهم ألَهُم علينا ديون
يطالبوننا بها، قال: لا مالنا عليكم ديون، قال: فلكم
في أعناقنا دماء تطالبونا بها، قال عمرو: لا، قال: فما
تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم، ثمّ قال:
أيّها الملك بعث الله فينا نبيًّا أمرنا بخلع الأنداد
وترك الاستقسام بالأزلام وأمرنا بالصّلاة والزّكاة
والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهانا عن الفحشاء
والمنكر والبغي، فقال النّجاشي: بهذا بعث الله عيسى،
ثمّ قال النّجاشي لجعفر: هل تحفظ مما أنزل الله على
نبيّك شيئاً؟ قال: نعم، فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله
﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾، قال: هذا والله هو
الحقّ، فقال عمرو إنّه مخالف لنا فردّه إلينا، فرفع
النّجاشي يده وضرب بها وجه عمرو، وقال: اسكت والله لئن
ذكرته بعدُ بسوء لأفعلنّ بك، وقال: أرجعوا إلى هذا
هديته، وقال لجعفر وأصحابه: أمكثوا فإنّكم سيوم؟
والسّيوم الآمنون، وأمر لهم بما يصلحهم من الرّزق، فانصرف
عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن
هاجر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلا أمره
وهادن قريشًا وفتح خيبر فوافى جعفر إلى رسول الله
بجميع من كانوا معه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم): لا أدري أنا بفتح
خيبر أسرُّ أم بقدوم جعفر، ووافى جعفر وأصحابه رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سبعين رجلاً منهم
اثنان وستّون من الحبشة وثمانية من أهل الشّام فيهم
بحيراء الرّاهب، فقرأ عليهم رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) سورة يس إلى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن
وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى
(عليه السّلام)،
فأنزل الله فيهم هذه الآيات
﴿
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ
وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ
إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ
مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا
نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ
وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ (84)
﴾
[238] ، وقال مقاتلي والكلبيّ:
كانوا أربعين رجلاً إثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية
من أهل الشّام، وقال عطا: كانوا ثمانين رجلاً أربعون من
أهل نجران من بني الحرث بن كعب واثنان وثلاثون من
الحبشة وثمانية روميّون من أهل الشّام
[239] .
جلس رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) يومًا فذكّر
النّاس ووصف القيامة فرَّق النّاس وبكوا، واجتمع عشرة
من الصّحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحيّ وهم عليّ
(عليه السّلام) وأبو بكر وعبد الله بن مسعود وأبو ذر
الغفاريّ وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر
والمقداد بن الأسود الكنديّ وسلمان الفارسيّ ومعقل بن
مقرن واتّفقوا على أن يصوموا النّهار ويقوموا اللّيل ولا
يناموا على الفُرش ولا يأكلوا اللّحم ولا الودك ولا
يقربوا النّساء والطّيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدّنيا
ويسيحوا في الأرض، وهمَّ بعضهم أن يُجبَّ مذاكيره،
فبلغ ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأتى
دار عثمان فلم يصادفه، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي
أميّة واسمها حولاء وكانت عطارة: أحقٌّ ما بلغني عن
زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذّب رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول
الله إنّ كان أخبرك عثمان فقد صدَّقك، فانصرف رسول
الله، فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) هو وأصحابه، فقال لهم رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألم أنبّئكم أنّكم اتّفقتم
على كذا وكذا، قالوا: بلى يا رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) وما أردنا إلاّ الخير، فقال رسول الله:
إنّي
لم أؤمر بذلك، ثمَّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقًّا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا، فإنّي أقوم وأنام وأصوم
وأفطر وآكل اللّحم والدّسم وآتي النّساء، ومن رغب عن سنّتي
فليس منّي، ثمّ جمع النّاس وخطبهم، وقال: ما بال أقوام
حرّموا النّساء والطّعام والطّيب والنّوم وشهوات الدّنيا،
أَمَا إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانًا، فإنّه
ليس في ديني ترك اللّحم ولا النّساء ولا اتّخاذ الصّوامع
وإنَّ سياحة أمّتي الصّوم ورهبانيّتهم الجهاد، اعبدوا
الله ولا تشركوا به شيئًا، وحجّوا واعتمروا وأقيموا
الصّلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم
لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتّشديد، شدّدوا على
أنفسهم فشدّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الدّيارات
والصّوامع، فأنزل الله الآية
[240] : ﴿
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾
[241] .
بعد المواجهة
الشّديدة الّتي حصلت بين خليل الله إبراهيم
(عليه السّلام) وبين النّمرود وعابدي الأصنام، خرج
إبراهيم (عليه السّلام) من بلاد الشّام وتوجّه إلى مصر
وتزوّج هناك من جارية كان يملكها ملك مصر وقد هداها
لسارة زوجة إبراهيم (عليه السّلام). ثمّ أهدت سارة
جاريتها هاجر لزوجها نبيّ الله إبراهيم (عليه السّلام)
فتزوّج منها فأنجبت له إسماعيل (عليه السّلام).
عن ابن عبّاس، عن الإمام
الصّادق (عليه السّلام) قال: لمّا
أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكّة، وأتت على
ذلك مدّة ونزلها الجرهميّون وتزوّج إسماعيل (عليه السّلام)
امرأة منهم وماتت هاجر واستأذن إبراهيم (عليه السّلام)
سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل،
فقدم إبراهيم (عليه السّلام) وقد ماتت هاجر فذهب إلى
بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ليس هنا
ذَهَب يتصيّد، وكان إسماعيل (عليه السّلام) يخرج من
الحرم فيصيد ثمّ يرجع، فقال لها إبراهيم (عليه
السّلام): هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي شيء وما عندي
أحد، فقال لها إبراهيم (عليه السّلام): إذا جاء زوجك
فاقرئيه السّلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه، وذهب
إبراهيم (عليه السّلام) فجاء إسماعيل (عليه السّلام)
فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت:
جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفّة بشأنه، قال: فما
قال لك؟ قالت: قال لي أقرئي زوجك السّلام وقولي له
فليغيّر عتبة بابه، فطلّقها وتزوّج أخرى، فلبث إبراهيم
(عليه السّلام) ما شاء الله أن يلبث ثمّ استأذن سارة أن
يزور إسماعيل (عليه السّلام) فأذنت له واشترطت عليه أن
لا ينزل، فجاء إبراهيم (عليه السّلام) حتّى انتهى إلى
باب إسماعيل (عليه السّلام)، فقال لامرأته: أين صاحبك؟
قالت: ذهب يتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله، فانزل
يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت
باللّبن واللّحم فدعا لهما بالبركة، فلو جاءت يومئذ بخبز
أو بُرّ أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله بُرًّا وشعيرًا وتمرًا، فقالت له:
إنزل
حتّى أغسل رأسك فلم
ينزل، فجاءت بالمقام ووضعته على شقّه الأيمن فوضع قدمه
عليه، فبقي أثره فغسلت شقّ رأسه الأيْمَن، ثمّ حولت
المقام إلى شقّه الأيسر، فغسلت شقّ رأسه الأيسر، فبقي
أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه
السّلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلمّا جاء إسماعيل
(عليه السّلام) وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك
أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس وجهًا وأطيبهم ريحًا،
فقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وغسلت رأسه، وهذا موضع
قدميه على المقام، فقال إسماعيل لها: ذاك إبراهيم
(عليه السّلام)
[242] .
والمقام الّذي وضع إبراهيم (عليه
السّلام) قدمَيْه عليه هو
المقام الّذي يصلّي عنده حجّاج بيت الله الحرام في مكّة حيث يقول تعالى: ﴿ وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً
وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾
[243] .
في السّنة العاشرة للهجرة حجّ
الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حجّة الوداع، وكان عدد الحجيج على ما
يذكر المؤرخون في ذلك العام حوالي مئة وعشرين ألفًا رافقوا
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك الحجّ
المهيب.
بعدما أتمّ
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مناسك
الحجّ وقفل راجعًا، فلمّا وصل إلى منطقة تدعى خوجان جاءه
الوحي قائلاً ﴿ يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
[244] .
فلمّا وصل إلى مكان يقال له غدير خم (من الجحفة)
الّتي
تتشّعب فيها طرق المدينة ومصر والعراق، وذلك يوم الخميس
الثّامن عشر من ذي الحجّة سنة عشرة للهجرة، فأمر رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يردّ من تقدّم منهم،
ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، ثمّ صلّى بالنّاس،
وكان يومًا شديد الحرّ، فلمّا انصرف من صلاته قام
خطيبًا وسط القوم وذلك على أقتاب الإبل، وأسمع الجميع
في خطبة خطبها، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب (عليه
السّلام) فرفعها حتّى رئي بياض إبطَيْهما، وعرفه القوم
أجمعون، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « أيها النّاس من أولى بالمؤمنين من
أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إنّ الله مولاي
وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت
مولاه فعليّ مولاه، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، فمن كنت
مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه،
وأحبّ من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل
من خذله، وأدر الحقّ معه كيف دار. ألا فليبلّغ الشّاهد
الغائب »
[245] .
بعد انتهاء الخطبة وقبل انصراف المسلمين وتفرّقهم نزل
الوحي الأمين يقول: ﴿ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾
[246] .
يقول سعيد الخدريّ، بعد نزول هذه الآية صاح رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): « الله أكبر على إكمال
الدّين وإتمام النّعمة ورضى الرّبّ برسالاتي وولاية عليّ بن
أبي طالب من بعدي »
[247] .
من المعروف أنّ اليهود كانوا يقيمون في خيبر قبل فتحها
من قبل المسلمين، وكان لهم بساتين النّخيل والحصون
والقلاع المحكمة البناء، فكانت حياتهم رغيدة هانئة،
وكان المترفون منهم والأشراف وعلماء الدّين يحرّفون
أحكام الدّين والتّعاليم السّماوية من أجل الحفاظ على
مصالحهم ومواقعهم.
يُنقَل عن الإمام الباقر (عليه
السّلام) وجماعة من
المفسّرين: إنّ امرأة
من خيبر، ذات شرف بينهم، زنت مع رجل من أشرافهم، وهما
محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة،
وكتبوا إليهم، أن يسألوا
النّبيّ عن ذلك، طمعًا في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق
قوم منهم: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وشعبة بن
عمرو، ومالك بن الصّيف، وكنانة بن أبي الحقيق، وغيرهم،
فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزّاني والزّانية إذا
أحصنا، ما حدّهما؟ فقال: وهل ترضون بقضائي في ذلك؟
قالوا: نعم. فنزل جبرائيل (عليه السّلام) بالرّجم،
فأخبرهم بذلك، فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرائيل (عليه
السّلام): اجعل بينك وبينهم ابن صوريّا، ووصفه له.
فقال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): هل تعرفون
شابًّا أمرد، أبيض،
أعور، يسكن فدكا يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم. قال: فأيّ رجل هو فيكم؟
قالوا: أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله
على موسى. قال: فأرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم عبد الله
بن
صوريا، فقال له النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
إنّي أنشدك الله الّذي لا إله إلاّ هو، الّذي أنزل
التّوراة على موسى (عليه السّلام)، وفلق لكم البحر،
وأنجاكم، وأغرق آل فرعون، وظلّل عليكم الغمام، وأنزل
عليكم المنّ والسّلوى، هل تجدون في كتابكم الرّجم على من
أحصن؟ قال ابن صوريّا: نعم، والّذي ذكّرتني به، لولا خشية
أن يحرقني ربّ التّوراة إن كذبت أو غيّرت، ما اعترفت لك،
ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: إذا شهد
أربعة رهط عدول ... وجب عليه الرّجم. قال ابن
صوريا: هكذا أنزل الله
في التّوراة على عيسى
(عليه السّلام). فقال له النّبيّ
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): فماذا كان أوّل ما
ترخّصتم به أمر الله؟ قال: كنا إذا زنى الشّريف
تركناه، وإذا زنى الضّعيف أقمنا عليه الحدّ، فكثر
الزّنا في أشرافنا، حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا، فلم
نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر، فأراد الملك رجمه، فقال له
قومه: لا حتّى ترجم فلانًا ـ يعنون ابن عمّه ـ فقلنا:
تعالوا نجتمع فلنصنع شيئًا دون الرّجم، يكون على
الشّريف والوضيع، فوضعنا الجلد والتّحميل، وهو أن يجلد
أربعين جلدة، ثمّ يسوّد وجوههما، ثمّ يحملان على
حمارَيْن، ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار، ويطاف
بهما. فجعلوا هذا مكان الرّجم. فقالت اليهود لابن صوريا:
ما أسرع ما أخبرته
به، وما كنت لمّا أتينا عليك بأهل، ولكنّك كنت غائبًا،
فكرهنا أن نغتابك! فقال: إنّه أنشدني بالتّوراة، ولولا
ذلك لما أخبرته به. فأمر بهما النّبيّ فرجما عند باب
مسجده. وقال: أنا أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه فأنزل
الله فيه: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ
تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ
﴾. فقام ابن صوريا، فوضع يدَيْه على ركبتي رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ قال: هذا مقام العائذ بالله
وبك، أن تذكر لنا الكثير الّذي أمرت أن تعفو عنه،
فأعرض النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك.
ثمّ سأله ابن صوريا
عن نومه؟ فقال: تنام عيناي، ولا ينام قلبي.
فقال:
صدقت، صدق أمرك أمر نبيّ ... فأسلم ابن صوريا عند
ذلك، ثمّ سأله عدّة أسئلة فأجابه رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم)، فقال له ابن صوريا: يا محمّد من يأتيك
من الملائكة قال: جبرائيل (عليه السّلام). قال: صفه لي.
فوصفه النّبيّ (صلّى الله عليه
وآله وسلّم)، فقال: أشهد
أنّه في التّوراة كما قلت، وأنّك رسول الله حقًّا، فلمّا
أسلم ابن
صوريا، وقعت فيه اليهود
وشتموه، فلمّا أرادوا أن ينهضوا، تعلّقت بنو قريضة
ببني النّضير، فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو
النّضير: أبونا واحد، وديننا واحد، ونبيّنا واحد، إذا
قتلوا منّا قتيلاً، لم يُقَد وأعطونا ديّته سبعين وسقًا من تمر، وإذا قتلنا منهم
قتيلاً، قتلوا القاتل، وأخذوا منّا الضّعف مائة وأربعين
وسقًا من تمر، وإن كان القتيل امرأة، قتلوا بها الرّجل
منّا، وبالرّجل منهم رجلَيْن منّا، وبالعبد الحر منّا،
وجراحاتنا على النّصف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم
فأنزل الله في الرّجم والقصاص الآيات
[248] .
عن الإمام
الصّادق (عليه السّلام) قال: هبط جبرائيل
(عليه السّلام) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كئيب
حزين، فقال: يا رسول الله، ما لي أراك كئيبًا حزينًا؟
فقال: إنّي رأيت اللّيلة رؤيا قال: وما الّذي رأيت؟ قال:
رأيت بني أميّة يصعدون المنابر، وينزلون منها! قال:
والّذي بعثك بالحقّ نبيًّا، ما علمت بشيء من هذا. وصعد
جبرائيل (عليه السّلام) إلى السّماء، ثمَّ أهبطه الله جلّ
ذكره بآي من القرآن، يعزّيه بها، قوله: ﴿
أَفَرَأَيْتَ إِن
مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا
كَانُواْ يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا
كَانُواْ يُمَتَّعُونَ ﴾. وأنزل الله جلّ ذكره:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ
شَهْرٍ ﴾ للقوم فجعل الله (عزّ وجلّ) ليلة القدر لرسوله: ﴿ خَيْرٌ
مِّنْ أَلْفِ
شَهْرٍ ﴾
[249] .
وعن ابن
عبّاس قال: ذكر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجل من بني إسرائيل أنّه حمل السّلاح على عاتقه
في سبيل الله تعالى ألف شهر فعجب من ذلك رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عجبًا شديدًا، وتمنّى أن
يكون ذلك في أمّته، فقال: يا ربّ جعلت أمّتي أقصر النّاس أعمارًا وأقلّها أعمالاً، فأعطاه الله ليلة القدر،
وقال: ليلة القدر خير من ألف شهر الّذي حمل الإسرائيليّ
السّلاح في سبيل الله لك ولأمّتك من بعدك إلى يوم
القيامة في كلّ رمضان، ثمَّ أخبر سبحانه بما يكون في
تلك اللّيلة
[250] .
بينا عبد الله بن
عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: قال
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ أقبل رجل
متعمّم بعمامة فجعل ابن عبّاس لا يقول: قال رسول الله،
إلاّ قال الرّجل، قال رسول الله. قال ابن عبّاس: سألتك
بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه، وقال: يا أيّها
النّاس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه
بنفسي. أنا جندب بن جنادة البدريّ أبو ذر الغفاريّ سمعت
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهاتَيْن وإلاّ
قصمتا. ورأيته بهاتَيْن وإلاّ فعميتا، يقول: عليّ قائد
البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله، أَمَا
إنّي صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
يومًا من الأيّام صلاة الظّهر، فسأل سائل في المسجد فلم
يعطه أحد شيئًا، فرفع السّائل يده إلى السّماء، وقال:
اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد
شيئًا وكان عليّ راكعًا فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان
يتختّم فيها فأقبل السّائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره وذلك
بعَيْن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلمّا فرغ
النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من صلاته رفع رأسه
إلى السّماء وقال اللّهمّ إنّ أخي موسى (عليه السّلام) سألك
فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ
لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُواْ
قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي
(29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾، فأنزلت قرآنًا ناطقًا
﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا
سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَ ﴾،
اللّهمّ وأنا
محمّد نبيّك وصفيُّك اللّهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري
واجعل لي وزيرًا من أهلي عليًّا أشدد به ظهري. قال أبو
ذر: فوالله ما استتمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) الكلمة حتّى نزل جبرائيل (عليه السّلام) من عند
الله، فقال يا محمّد إقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال إقرأ: ﴿
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
﴾
[251] .
عليّ بن إبراهيم في تفسيره قال: قال
الصّادق (عليه السّلام): لمّا أدخل رأس الحسين بن عليّ (عليهما
السّلام)
على يزيد لعنه الله، وأدخل عليه عليّ بن الحسين (عليه
السّلام) وبنات أمير المؤمنين (عليه السّلام) وكان عليّ
بن الحسين (عليه السّلام) مقيّدًا مغلولاً، فقال يزيد: يا
عليّ بن الحسين! الحمد لله الذي قتل أباك، فقال عليّ بن
الحسين (عليه السّلام): لعن الله من قتل أبي. قال: فغضب
يزيد وأمر بضرب عنقه، فقال عليّ ابن الحسين (عليه
السّلام): فإذا قتلتني فبنات رسول الله من يردّهنّ إلى
منازلهنّ وليس لهم محرم غيري؟ فقال: أنت تردّهنّ إلى
منازلهنّ، ثمّ دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة من عنقه
بيده. ثمّ قال: يا عليّ بن الحسين أتدري ما الّذي أريد
بذلك؟ قال: بلى، تريد أن لا يكون لأحد عليّ منّة غيرك.
فقال يزيد: هذا والله ما أردتّ (أفعله) ثمَّ قال
(يزيد): يا عليّ بن الحسين ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾. فقال عليّ بن
الحسين (عليه السّلام): كلاّ، ما هذه فينا نزلت، إنّما
نزلت فينا: ﴿ مَا أَصَابَ
مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلَا
تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ ﴾
[252] فنحن الّذين لا
نأسى على ما فاتنا، ولا نفرح بما آتانا منه
[253] .
[204] تفسير مجمع البيان: ج5
ـ 6، ص 450.
[205] سورة الرّعد، الآية: 31.
[206] راجع: تفسير مجمع البيان: ج5
ـ 6، ص742 ـ 744، كذلك،
تفسير الأمثل: ج9، ص 317 ـ 324.
[207] راجع: مجمع البيان، وروح الجنان وتفاسير أخرى.
[208] سورة البقرة، الآية: 216.
[209] سورة يس، الآية: 38.
[210] تفسير العيّاشيّ: ج2، ص 70
ـ 71.
[211] راجع: ينابيع المودّة، ص 137، كذلك المناقب لابن
المغازليّ ص 96و97، طباعة إيران.
[212] تفسير البيان، ج5
ـ 6، ص 450.
[213] سورة التّوبة، الآيات: 107
ـ 110.
[214] تفسير مجمع البيان: ج5
ـ 6، ص 110.
[215] الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج1، ص 154
ـ 157.
[216] موسوعة التّاريخ الإسلاميّ، محمّد هادي اليوسفيّ، ج2، ص
160.
[217] تفسير الميزان، ج1، ص 333، 334.
[218] تفسير مجمع البيان، ج5
ـ 6، ص 81 ـ 82.
[219] سورة التّوبة، الآية: 75.
[220] تفسير مجمع البيان، ج3
ـ 4، ص 831 ـ 832.
[221] سورة الأنفال، الآية: 36.
[222] سورة طه، الآيتان: 1
ـ 2.
[223] تفسير نور
الثّقلَيْن، ج3، ص 367.
[224] تفسير نور
الثّقلَيْن، ج2، ص 168.
[225] سورة الأنفال، الآية: 70.
[226] تفسير نور
الثّقلَيْن، ج2، ص 168
ـ 169.
[227] سورة الإخلاص، الآيات: 1
ـ 4.
[228] راجع تفسير نور
الثّقلَيْن، ج5، ص 706
ـ 707.
[229] تفسير مجمع البيان، ج3
ـ 4، ص 823 ـ 824.
[230] تفسير الميزان، ج8، ص 87.
[231] سورة الأعراف، الآية: 26.
[232] سورة الأعراف، الآية: 31.
[233] سورة العنكبوت، الآية: 48.
[234] البرهان، ج4، 332.
[235] تفسير نور
الثّقلَيْن، ج1، ص 746.
[236] تفسير نور الثّقلَيْن، ج1، ص 721.
[237] سورة الأنعام، الآية: 52.
[238] سورة المائدة، الآيات: 82
ـ 84.
[239] تفسير مجمع البيان، ج3
ـ 4، ص 360 ـ 361.
[240] تفسير مجمع البيان: ج3
ـ 4، ص 364.
[241] سورة المائدة، الآية: 87.
[242] تفسير مجمع البيان، ج1
ـ 2، ص 383 ـ 384، راجع: مروج
الذّهب للمسعوديّ.
[243] سورة البقرة، الآية: 125.
[244] سورة المائدة، الآية: 67.
[245] راجع: المناقب، ينابيع المودّة، الغدير، وكتب
التّفاسير.
[246] سورة المائدة، الآية: 3.
[247] مجمع البيان، ج3، ص 159، كذلك المناقب للخوارزميّ، ص
135.
[248] تفسير مجمع البيان، ج3، ص 333
ـ 335.
[249] الكافي، الشّيخ الكلينيّ، ج8، ص 222، 223.
[250] مجمع البيان، ج9
ـ 10، ص 789.
[251] سورة المائدة، الآية: 55. مجمع البيان، ج3
ـ 4، ص
324 ـ 325، كذلك راجع تفسير الميزان، ج6، ص 19.
[252] سورة الحديد، الآيتان: 22
ـ 23.
[253] مدينة المعاجز، السّيّد هاشم البحرانيّ، ج4، ص 356
ـ
357، وكذلك تفسير عليّ بن إبراهيم، ج2، ص 277.