أحسن القصص
(142
قصّة قرآنيّة)
جمعيّة القرآن
الكريم للتّوجيه والإرشاد
بيروت -
لبنان
الطّبعة الأولى، ذو الحجّة 1433هـ
// 2012م |
|
عن عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد الله (عليه
السّلام)
إبتداء منه: العجب يا أبا حفص لما لقى عليّ بن أبي
طالب، أنّه كان له عشرة آلاف شاهد لم يقدر على أخذ
حقّه، والرّجل يأخذ حقّه بشاهدَيْن، إنّ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) خرج من المدينة حاجًّا ومعه خمسة آلاف،
ورجع من مكّة وقد شيّعه خمسة آلاف من مكّة، فلمّا انتهى
إلى الجحفة نزل جبرائيل (عليه السّلام) بولاية عليّ
(عليه السّلام)، وقد كانت نزلت ولايته بمنى، وامتنع
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من القيام بها
لمكان النّاس، فقال: ﴿ يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
﴾
[55] . فنادى: الصّلاة جامعة،
فاجتمع النّاس فقال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله
وسلّم):
من أولى بكم من أنفسكم؟ قال: فجهروا فقالوا: الله
ورسوله، ثمّ قال لهم الثّانية، فقالوا: الله ورسوله،
ثمَّ قال لهم الثّالثة، فقالوا: الله ورسوله، فأخذ بيد
عليّ (عليه السّلام) فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه،
اللّهمّ وال من ولاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل
من خذله، فإنّه منّي وأنا منه، وهو منّي بمنزلة هارون من
موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي
[56]
.
كانت أرض مكّة وادٍ جديب قاحلة لا ماء فيها ولا زرع،
لذلك كانت قريش أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع ولا
زرع، فكانوا آمنين بالقرب من الحرم لا يهجم عليهم
الأعداء ولا يعرض لهم أحد بالسّوء إذا خرجوا للتّجارة،
وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة، رحلة في الشّتاء إلى اليمن
لأنّها بلاد حامية ورحلة في الصّيف إلى الشّام لأنّها بلاد
باردة، ولولا هاتَيْن الرّحلتَيْن لم يمكنهم به مقام ولولا
الأرض لم يقدروا على التّصرّف وتسيير رحلاتهم التّجاريّة.
فلمّا قصد أبرهة (أصحاب الفيل) مكّة لهدم الكعبة
أهلكهم الله،
لتألف
قريش هاتَيْن الرّحلتَيْن اللّتَيْن بهما معيشتهم
ومقامهم بمكّة. وبذلك هابتهم القبائل واحترمتهم
لمجاورتهم الحرم فلم يتعرّض أحد لهم ولا لتجارتهم
فعاشوا في مكّة آمنين مطمئنّين من هجوم الأعداء والدّول
المجاورة. من جهة ثانية فإنّ الرّحلة إلى اليمن والشّام
قد أتعبت قريشًا فأحسن الله إليهم ببركة ووجود الرّسول محمّد (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) « النّبيّ القادم » إذ
كانت القوافل في اليمن والشّام وأطرافها تقصد الحرم
المكيّ ويأتي النّاس ببضاعتهم إلى مكّة لتكون في اختيار
قريش، وبذلك عاشت قريش آمنة مطمئنّة في بحبوحة من العيش
الكريم بما سبّبه لهم المولى تعالى من الأرزاق وأعطاهم
الأموال، فلا يتعرّض لهم أحد في سفرهم إذا قالوا نحن
أهل حرم الله، ثمّ آمنهم من الغارة بالحرم الّذي جبلت
قلوب النّاس على تعظيمه لأنّهم كانوا يقولون في الجاهليّة
نحن قُطَّان حرم الله فلا يتعرّض لهم، كلّ ذلك ببركة حرم
الله وبركة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلم يكن
بنو أب أكثر مالاً ولا أعزّ من قريش، لذلك أمرهم المولى
تعالى في سورة قريش أن يعبدوه شكرًا وامتنانًا له لما
هيّأ لهم من أسباب العيش والأمن
[57] .
يقول تعالى: ﴿
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا
الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾
[58]
.
عندما بعث النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
بالرّسالة، سعى بكل ما أوتي من جهد وقوّة في سبيل
إبلاغها للنّاس، واستفاد من جميع الفرص المتاحة أمامه
لكي يحقّق هدف السّماء، ونظرًا إلى الأوضاع الّتي كانت
سائدة في بداية الدّعوة بحيث لم يكن من السّهل جمع
قريش في مجلس واحدٍ من أجل إبلاغهم بالدّعوة
المحمّديّة الجديدة، لأنّ الأوضاع لم تكن مناسبة
إطلاقًا، فكانت دعوة النّاس إلى التّوحيد وعبادة الله
عملاً شاقًّا، حتّى أنّ
قريشًا كانت تعيق عمله وتتصدّى له في كلّ المناسبات،
فلم تدع أحدًا من النّاس ولا من عبيدها يقترب من محمّد
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو أن يتكلم معه
أو يصاحبه، وكانوا يقولون أن محمّدًا رجل ساحر يخدع
النّاس ويسحرهم بكلامه.
ذات يوم صعد
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى تلة
الصّفا فقال: يا صباحاه (وكانت هذه الصّيحة عادة عند
العرب إذا هاجمهم عدوّ على غفلة صاح أحدهم يا صباحاه
فتجتمع قريش وتنهض لمواجهته). فأقبلت إليه قريش فقالوا
له: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم
أو ممسيكم أما كنتم تصدّقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإنّي
نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال: أبو لهب تبًّا لك
لهذا دعوتنا جميعًا فأنزل الله تعالى سورة المسد
[59]
﴿ تَبَّتْ
يَدَا
أَبِي لَهَبٍ
وَتَبَّ ﴾
[60]
.
عن الإمام الصّادق (عليه
السّلام) قال: لمّا نزلت هذه
الآية: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ
ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ
﴾
[61] صعد إبليس جبلاً
بمكّة يقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا
إليه، فقالوا: يا سيدنا لما دعوتنا؟ قال: نزلت هذه
الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشّياطين فقال: أنا لها
بكذا وكذا، فقال: لست لها، فقام آخر فقال: مثل ذلك،
فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، قال:
بماذا؟ قال: أعدهم وأمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا
وقعوا أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها
إلى يوم القيامة
[62] .
عندما يرخي اللّيل ستاره على الوجود، وتظلم الدّنيا، في
وسط اللّيل ينهض المؤمن للعبادة والصّلاة والدّعاء
فتتلألأ شمعة قلبه نورًا وضياءً، وترسل أشعّتها نحو
السّماء، في هذا الوقت تخفت جميع الأصوات وتسكت ولا
يبقى سوى صوت التّوحيد والدّعاء، فيحيي صوت قلب المؤمن
ليطرب أسماع الملائكة بمناجاته وأنّاته المحرقة من ألم
العشق لله. فالتّضرّع والمناجاة في أوقات السّحر وعند
طلوع الفجر تبعث الصّفاء في الرّوح والنّفس وتوقظ القلوب
وتقوّي الإيمان وتمحق غبار الذّنوب في وجود الإنسان.
يقول الإمام الصّادق (عليه
السّلام) في تفسير:
﴿ ... إِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ ﴾
[63] .
قال: صلاة
اللّيل تذهب بذنوب النّهار
[64]
.
جاء في المتون الدّينيّة أنّ صلاة
اللّيل كانت واجبة على
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه، قبل
وجوب الصّلوات الخمس. يقول ابن عباس: كانت صلاة اللّيل واجبة فطال الأمر سنة حتّى رفع الله وجوبها وجعلها
مستحبّة
[65]
.
في رواية عن الإمام الباقر (عليه
السّلام) أنّه قال: « إنّ
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقوم اللّيل فيصلّي صلاة
اللّيل ويرغّب النّاس على ذلك، ويبشّرهم
بثوابها، فاشتدّ ذلك عليهم، وكان الرّجل لا يدري متى
ينتصف اللّيل ومتى يكون الثّلثان وكان الرّجل يقوم حتّى
يصبح مخافة أن تفوته الصّلاة».
كانت صلاة
اللّيل مشقّة كبيرة على
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه، حتّى أنهم كانوا يقومون
اللّيل فتتورّم أرجلهم من كثرة القيام، لذلك أنزل الله تعالى
سورة المزمّل ليخفف عنهم
[66] :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ
أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ
مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
فَاقْرَؤُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ
أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ
فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَؤُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ
الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواْ اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم
مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
[67] .
كانت العرب في الجاهليّة تعبد أصنامًا كثيرة، وعندما
فتح الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة في السّنة
الثّامنة للهجرة كان فوق سطح الكعبة وحولها 360 صنمًا
أنزلت بأمر من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
وحطمت وأحرقت جميعها.
ذكر القرآن الكريم بعض أسماء الأصنام الّتي كانت قريش
والمشركون يعبدونها فورد في سورة نوح (عليه السّلام)
أسماء لخمسة أصنام كبيرة ومهمّة عندهم، وكانت كلّ قبيلة
تعبد صنمًا خاصًّا بها، من هذه الأصنام « ود »، وكان على
شكل رجل، و« سواع » على صورة امرأة، و« يغوث » يشبه الأسد،
و« يعوق » على شكل حصان، و« نسر » على صورة الباز.
هذه الأصنام الخمسة كانت لها امتيازات خاصّة وكانت
العرب تجلّها وتحترمها، فكان كبار القوم من المشركين
الضَّالِّين وأصحاب الدّنيا يعتمدون على عبادتها.
يقول تعالى في سورة نوح على لسان كبار القوم:
﴿ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا
وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾
[68] .
عن أبي عبد الله (عليه
السّلام) قال: كانت قريش تلطّخ
الأصنام الّتي كانت حول الكعبة بالمسك والعنبر، وكان
يغوث قبالة الباب، وكان يعوق عن يمين الكعبة، وكان نسر
عن يسارها، وكانوا إذا دخلوا خرُّوا سجّدًا ليغوث ولا
ينحنون، ثمّ يستديرون بحيالهم إلى يعوق، ثمّ يستديرون
بحيالهم إلى نسر، ثمّ يلبّون فيقولون: « لبّيك اللّهمّ لبّيك
لبّيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك »، قال:
فبعث الله ذبابّا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك
المسك والعنبر شيئًا إلاّ أكله وأنزل الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا
وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾
[69] .
مرض بضعتا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
وحبيباه الحسن والحسين (عليهما السّلام) فعادهما جدّهما
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووجوه العرب، وقالوا: يا
أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرًا، فنذر صوم ثلاثة
أيّام إن شفاهما الله سبحانه ونذرت فاطمة (عليها
السّلام)
كذلك، وكذلك فضّة فبرءا وليس عندهم شيء فاستقرض عليّ
(عليه السّلام) ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ، وروي
أنَّه أخذها ليغزل له صوفًا، وجاء به إلى فاطمة (عليها
السّلام) فطحنت صاعًا منها فاختبزته وصلّى عليٌّ المغرب
وقرّبته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم فأعطوه ولم
يذوقوا إلاّ الماء، فلمّا كان اليوم الثّاني أخذت صاعًا
فطحنته وخبزته وقدّمته إلى عليّ (عليه السّلام)، فإذا
يتيم في الباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلاّ الماء،
فلمّا كان اليوم الثّالث عمدت إلى الباقي فطحنته
واختبزته وقدّمته إلى عليّ (عليه السّلام) فإذا أسير
بالباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلاّ الماء، فلمّا كان
اليوم الرّابع وقد قضوا نذورهم أتى عليّ (عليه
السّلام) ومعه الحسن والحسين (عليهم السّلام) إلى النّبيّ (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) وبهما ضعف، فبكى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) وقال: يا أبا الحسن لقد شقّ عليّ
ما رأيت من حالكم، ثمّ ذهبوا جميعًا إلى بيت فاطمة
(عليها السّلام)، وكانت قائمة في محرابها تصلّي وتتعبّد،
قد لصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع، وغارت عيناها وخفت
شعاع نورهما، فلمّا رآها النّبيّ (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) قال: واغوثاه يا أهل بيت محمّد تموتون جوعًا،
فهبط جبرائيل (عليه السّلام) فقال: يا محمّد خذها هنَّاك
الله في أهل بيتك، قال: وما آخذ يا جبرائيل؟ فأقرأه:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ
لَمْ يَكُن شَيْئًا
مَّذْكُورًا ﴾ إلى آخر السّورة
[70]
.
بينما كان رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) يخطب
يوم الجمعة، إذ أقدم دحيّة بن خليفة بن فروة وهو من
تجّار الشّام، وكان إذا قدم إلى المدينة حمل معه كلّ ما
يحتاج النّاس من دقيق وبرّ وزيت وغيره، فينزل عند أحجار
الزّيت وهو مكان في سوق المدينة، ثمّ يضرب بالطّبل ليؤذن
النّاس بقدومه فيخرج النّاس إليه لشراء حاجاتهم منه،
فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يُسلِم، ورسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائم على المنبر يخطب
بالنّاس، فلما علموا بقدومه، خرجوا من المسجد فلم يبق
في المسجد مع رسول الله إلاّ ثمانية أنفار من بينهم عليٌّ
وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) فقال رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): لولا هؤلاء النّاس لأمطرت
السّماء عليهم حجارة، فأنزل المولى تعالى هذه الآية:
﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ
تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ
مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ ﴾
[71]
.
لمّا كانت معركة أحد أمر رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) خمسين من الرّماة على رأسهم عبد الله بن
جُبَيْر، أن يمكثوا في الشّعب ليحموا ظهور المسلمين
فلا يبرحون مكانهم مهما كانت النّتيجة، ثمّ حمل
النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه على
المشركين فهزموهم وقَتَل عليّ بن أبي طالب (عليه
السّلام) أصحاب اللّواء وأنزل الله نصرته على
المسلمين، قال الزّبير: فرأيت هندًا وصواحبها
هاربات مصعدات في الجبال نادية خدّامهنّ ما دون
أخذهنّ شيء، فلمّا نظرت
الرّماة إلى القوم قد انكشفوا
ورأوا أصحاب النّبيّ ينتهبون الغنيمة، أقبلوا يريدون
النّهب واختلفوا، فقال بعضهم: لا تتركوا أمر الرّسول،
وقال بعضهم: ما بقي من الأمر شيء، ثمّ انطلق
عامّتهم ولحقوا بالعسكر، فلمّا رأى خالد بن الوليد
قلّة الرّماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم
خالية، صاح في خيله من المشركين وحمل على أصحاب
النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلفهم فهزموهم
وقتلوهم ورمى عبد الله بن
قميئة الحارثيّ رسول
الله بحجر وكسر أنفه ورباعيّته وشجَّه في وجهه
فأثقله وتفرّق عنه أصحابه وأقبل يريد قتله فذبّ مصعب
بن عمير وهو صاحب راية رسول الله يوم بدر ويوم أحد وكان
اسم رايته العقاب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) حتّى قتل مصعب بن عمير قتله ابن قميئة،
فرجع وهو يرى أنَّه قتل رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم)، وقال: إنّي قتلت محمدًا وصاح صائح
ألا أنَّ محمّدًا قد قتل، ويقال أنّ ذلك الصّائح كان
إبليس لعنه الله، ولمّا فشا في النّاس أنّ رسول الله
قد قتل، قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد
الله بن أبيّ فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان وبعضهم
جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النّفاق: إن
كان محمّد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن
نضر عمّ أنس بن مالك: يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ
محمّد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله
فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات
عليه، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول
هؤلاء، يعني المسلمين وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء
يعني المنافقين، ثمّ شدّ بسيفه فقاتل حتّى قتل، ثمّ
أنَّ رسول الله انطلق إلى الصّخرة وهو يدعو النّاس،
فأوّل من عرف رسول الله كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه
تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي يا معشر
المسلمين أبشروا فهذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) فأشار إليّ أن اسكت فانحازت إليه طائفة من
أصحابه فلامهم النّبيّ على الفرار، فقالوا: يا رسول
الله فديناك بآبائنا وأمّهاتنا، أتانا الخبر بأنَّك
قتلت، فَرُعبتْ قلوبنا فولّينا مدبرين، فأنزل الله
تعالى
[72] :
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن
مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
﴾
[73]
.
بعد معركة أحد، وقد انصرف أبو سفيان وأصحابه منها،
ندموا على انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا لعدم
استئصالهم، فبلغ الخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)، فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه
قوة. فأمر أصحابه بالخروج في طلب أبي سفيان، فانتدب
عصابة منهم مع ما بهم من القراح والجراح الّذي أصابهم
يوم أحد، ... فخرج (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سبعين
رجلاً حتّى بلغ حمراء الأسد وهي تبعد عن المدينة ثمانية
أميال.
كان العديد من أصحابه قد أصيبوا بجراحات بليغة في
المعركة وكانت جراحاتهم تنزف دمًا، وكان في جسد أمير
المؤمنين عليّ (عليه السّلام) أكثر من ثمانين جرحًا
وكانت فوق بعضها بحيث إذا أدخل الفتيلة في الجرح خرجت
من الجرح الآخر، ومع ذلك لبسوا لامات الحرب وتعقّبوا
أبا سفيان وأصحابه.
وكان رجلٌ من بني الأشهل من أصحاب النّبيّ (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) شهد أحدًا، قال: شهدت أحدًا أنا وأخ
لي، فرجعنا جريحين، فلمّا أذّن مؤذّن رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) بالخروج في طلب العدوّ، قلنا لا
تفوتنا غزوة مع رسول الله، فوالله ما لنا دابّة نركبها
وما منّا إلاّ جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) وكنت أيسر جرحًا من أخي، فكنت
إذا غُلب حملته عقْبة
ومشى عقْبة حتّى انتهينا مع رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) إلى حمراء الأسد، فمرّ برسول الله معبد
الخزاعيّ بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله بتهامة صفقتهم معه لا يخفون
عنه شيئًا ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يا محمّد (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) والله لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك
وأصحابك ولوددنا أنَّ الله كان أعفاك فيهم، ثمّ خرج من
عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتّى لقي أبا
سفيان ومن معه بالرّوحاء واجمعوا الرّجعة إلى رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقالوا: قد أصبنا حَدَّ
أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثمّ رجعنا قبل أن نستأصلهم،
فلمّا رأى أبو سفيان معبدًا قال: ما وراك يا معبد؟ قال:
محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد خرج في أصحابه
يطلبكم في جمع لم أر مثله قَطّ، يتحرّقون عليكم تحرُّقًا
وقد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على
صنيعهم وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط، قال:
ويلك، ما تقول؟ قال: فأنا والله ما أراك ترتحل حتّى ترى
نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرّة عليهم
لنستأصلهم، قال: فأنا والله أنهاك عن ذلك فوالله لقد
حملني ما رأيت على أن قلت أبياتًا من شعر، قال: فثنى
ذلك أبا سفيان ومن معه عن الرّجوع للقضاء على الرّسول وأصحابه، ومرّ به ركب من عبد قيس، فقال: أين تريدون؟
فقال: نريد المدينة، قال: فهل أنتم مبلّغون عنّي محمّدًا
رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبًا
بعكاظ غدًا إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا
جئتموه فأخبروه أنَّا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى
أصحابه لنستأصل بقيّتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكّة ومرّ
الرّكب برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو
بحمراء الأسد فأخبره بقول أبي سفيان، فقال رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه: حسبنا الله ونعم
الوكيل، ثمّ انصرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) إلى المدينة بعد ثلاثة أيام من الوقوف في حمراء
الأسد، فعاد مظفّرًا مستبشر الوجه عزيزًا مع أصحابه
[74]
.
يبيّن القرآن الكريم هذه الصّورة في قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ
اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾
[75]
.
عن ابن عباس أنَّه قيل له أنَّ قومًا من هذه الأمّة
يزعمون أنَّ العبد قد يذنب فيُحْرَم به الرّزق، فقال ابن
عباس: فوالّذي لا إله غيره لهذا أنور في كتاب الله من
الشّمس الضّاحية ذكره الله سبحانه في سورة: ﴿
ن
وَالْقَلَمِ
﴾ ، أنَّه كان شيخ كانت له جنة وكان لا يدخل بيته ثمرة
منها ولا إلى منزله حتّى يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، فلمّا
قُبِض الشّيخ وورثه بنوه وكان له خمسة من البنين فحملت
جنّتهم في تلك السّنة الّتي هلك فيها أبوهم حملاً لم
يكن حملته قبل ذلك، فراح الفتية إلى جنّتهم بعد صلاة
العصر، فأشرفوا
على ثمره ورزق
فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم، فلمّا نظروا إلى
الفضل طغوا وبغوا، وقال بعضهم لبعض: إنَّ أبانا كان
شيخًا كبيرًا قد ذهب عقله وخرف فهلمّوا نتعاهد ونتعاقد
فيما بيننا أن لا نعطي أحدًا من فقراء المسلمين في
عامنا هذا شيئًا حتّى نستغني وتكثر أموالنا، ثمّ
نستأنف الصّنعة فيما يستقبل من السّنين المقبلة، فرضي
بذلك منهم أربعة وسخط الخامس ولم يرض، فقال لهم
أوسطهم: اتقوا الله وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا
وتغنموا، فبطشوا به فضربوه ضربًا مبرحًا، فلمًا أيقن
الأخ أنَّهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارهًا
لأمرهم غير طائع، فراحوا إلى منازلهم، ثمّ حلفوا بالله
أن يصرموه إذا أصبحوا ولم يقولوا إن شاء الله،
فابتلاهم الله تعالى بذلك... وحال بينهم وبين ذلك
الرّزق الّذي كانوا أشرفوا عليه.
وبينما هم نائمون بعث الله سبحانه نارًا أحاطت
ببستانهم فأحرقته حتّى صار مسوّدًا كاللّيل المظلم، فلم
يعد فيه شيء من الثّمر، وكأنّ ثمره قد قطع.
فلمّا أصبحوا نادى بعضهم بعضًا، وغدوا على بستانهم
يريدون جني ثماره، فساروا مسرعين، وهم يتحدثون بصوت
خافت كي لا يسمعهم فقير أو محتاج، وقد تعاهدوا أن لا
يأخذ أحد منها شيئًا، خصوصًا الفقراء والمساكين، فلمّا
وصلوا إلى جنتهم ورأوها على هذه الحال، قالوا: لقد
ضللنا الطّريق وهذه ليست بجنّتنا، ثمّ إنَّهم استدركوا
الأمر وعلموا أنَّها جنّتهم لكنّها قد احترقت والتهمت
النّار ثمارها، عند ذلك أدركوا أنَّهم عوقبوا لمنعهم
حقوق النّاس وحرمانهم الفقراء والمساكين من حقوقهم،
وأيقنوا أنَّهم هم المحرومون واقعًا، ولقد كانوا
غافلين عن هذا الأمر، فقال أوسطهم: ﴿
أَلَمْ
أَقُل
لَّكُمْ
لَوْلاَ
تُسَبِّحُونَ ﴾ فقالوا:
﴿ سُبْحَانَ
رَبِّنَا
إِنَّا
كُنَّا
ظَالِمِينَ ﴾، فقد ظلمنا
أنفسنا إذ عزمنا على حرمان المساكين من حصتهم عند
القطاف فحرمنا الله قطفها والانتفاع منها، ثمّ بدأ
يلوم بعضهم بعضًا على ما فرط منهم وعلى غلوّهم في الظّلم
وتجاوز الحدّ، وقد اعترفوا بذنبهم وطغيانهم، وتابوا إلى
الله سبحانه وقالوا: لعلّ الله يخلف علينا ويولّينا
خيرًا من الجنّة الّتي هلكت، وكانت هذه عبرة لجميع
النّاس، يقول تعالى: ﴿ إِنَّا
بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ
إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ
مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ
صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
(23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم
مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ
(25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ
(26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ
أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا
تُسَبِّحُونَ (28) قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا
كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُواْ يَا وَيْلَنَا
إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن
يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا
رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
﴾
[76] .
كان رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) إذا صلّى
الغداة يدخل على أزواجه إمرأة إمرأة، فيسلّم عليهنّ
ويسألهنّ عن أحوالهنّ. وكان عند زوجته زينب بنت جحش عسل،
فكان الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا مكث عندها
سقته من ذلك العسل. تقول (إحدى زوجاته) فتواطأت أنا
وحفصة أيّتنا يدخل عليها النّبيّ (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) فلتقل: إنّي أجد منك ريح المغافير (وهو صمغ
العرفط كريه الرّائحة)، وكان رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) يكره ويشق عليه أن يوجد منه ريح غير طيّبة
لأنّه يأتيه الملك، فدخل على (إحداهنَّ) فأخذت بأنفها،
فقال لها: ما شأنك، فقالت: أجد ريح المغافير أكلتها يا
رسول الله، قال بل شربت العسل عند زينب، ثمّ قال:
والله لا أطعمه أبدًا، فحرّمه على نفسه فنزلت الآية
الكريمة: ﴿ يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ ﴾
[77] .
نحن البشر، وبخلاف العرف، ومن باب الفهم الخاطيء للشّرع
المقدّس، فإنّا نولي المسائل الماديّة أهمّيّة تفكيرنا بعد
موتنا، فنفكّر في الأمور الدّنيوية والماديّة لأبنائنا،
أمّا الأنبياء والأوصياء الّذين اصطفاهم الله (عزّ وجلّ)،
فيهتمّون بالمسائل المعنويّة والرّوحيّة والأمور الّتي توجب
سعادة المرء في الدّنيا والآخرة والكمال فيما يتعلّق
بأبنائهم والنّاس عمومًا.
والقرآن الكريم يتحدّث عن هذه الصّورة في قوله تعالى:
﴿ وَوَصَّى بِهَا
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ
نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾
[78]
.
إنَّ الإنسان ليس مسؤولاً عن الجانب الماديّ لأبنائه،
بل هو على الدّوام وحتّى عند لحظات الموت مسؤول عن
سعادتهم ونجاتهم الأبديّتَيْن، وأهمّ مسألة ـ ما دامت
الفرصة في يده وما دام عليه الاختيار ـ هي التّوجه إلى
الأسباب المعنويّة وتهيئة زاده للسّفر الطّويل، سفر
الأبديّة.
عن أبي عبد الله (عليه السّلام) عن آبائه (عليهم
السّلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم): من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصًا في
مروّته، قلت: يا رسول الله وكيف يوصي عند الموت؟ قال:
إذا حضرته الوفاة واجتمع النّاس إليه قال: اللّهمّ
فاطر السّماوات والأرض عالم الغيب والشّهادة الرّحمن
الرّحيم، إنّي أعهد إليك في دار الدّنيا أنّي أشهد أن
لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، وأشهد أنَّ محمّدًا
عبدك ورسولك، وأنَّ الجنّة حقّ وأنّ النّار حقّ وأنَّ
البعث حقّ والحساب حقّ والقدر والميزان حقّ، وأنَّ
الدّين كما وصفت وأنَّ الإسلام كما شرعت، وأنَّ القول
كما حدّثت وأنَّ القرآن كما أنزلت، وأنَّك أنت الله
الملك الحقّ المبين، جزى الله محمّدًا خير الجزاء وحيّ
الله محمّدًا وآل محمّد بالإسلام، اللّهمّ يا عدّتي
عند كربتي ويا صاحبي عند شدّتي ويا وليّي
في نعمتي: يا إلهي وإله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة
عين، فإنَّك إن تكلني إلى نفسي كنت أقرب من الشّر
وأبعد من الخير واسرى
في الفتن وحدي، فآنس في القبر وحشتي، واجعل لي
عهدًا يوم ألقاك منشورًا، ثمّ يوصي بحاجته.
وتصديق هذه الوصيّة
في سورة مريم (عليها السّلام) في
قوله (عزّ وجلّ): ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ
مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْدًا
﴾، فهذا
عهد الميّت. والوصيّة حقّ على كلّ مسلم أن يحفظ هذه الوصيّة
ويتعلّمها، وقال عليّ (عليه السّلام): علّمنيها رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال: علّمنيها جبرائيل
(عليه السّلام)
[79] .
منذ بعثة الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
بالرّسالة السّماويّة وحتّى العام الثّالث منها كان يقوم
بالدّعوة سرًّا، فآمن معه قلّة قليلة من الأصحاب
المخلصين، لكن عندما نزلت الآية الشّريفة: ﴿
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾
[80]
،
ثمّ ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الأَقْرَبِينَ ﴾
[81]
، كان
لا بدّ من إعلان الرّسالة وإظهار الدّعوة الإلهيّة.
فلمّا نزلت هذه الآية جمع رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) بني عبد المطلّب وهم يومئذ أربعون رجلاً،
الرّجل
منهم يأكل المسنة ويشرب
العسّ فأمر عليًّا (عليه السّلام) برجل شاة فأدمها
(فأحضرها)، ثمّ قال: ادنو بسم الله، فدنا القوم عشرة
عشرة فأكلوا حتّى صدروا (شبعوا)، ثمّ دعا بقعب من لبن،
فجرع منه جرعة، ثم قال
لهم: هلمّوا اشربوا
بسم الله، فشربوا حتّى رووا، فبدرهم أبو لهب، فقال:
هذا ما سحركم به الرّجل، فسكت (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) يومئذ ولم يتكلّم، ثمّ انصرفوا، ثمّ دعاهم من
الغد على مثل ذلك من الطّعام والشّراب، ثمّ أنذرهم
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا بني
عبد المطّلب والله ما أعلم شابًّا من العرب جاء قومه
بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بأمر الدّنيا
والآخرة، يا بني عبد المطّلب إنّي أنا النّذير إليكم
من الله (عزّ وجلّ) فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ثمّ قال:
من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي
في أهلي ويقضي دَيْني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثًا، كلّ
ذلك يسكت القوم، ويقول عليّ (عليه السّلام): أنا يا
رسول الله، فقال في المرّة الثّالثة: هذا أخي وخليفتي
فيكم فاسمعوا له وأطيعوه، فقام القوم يتضاحكون منه
ويقولون لأبي طالب: قد أمر أن تسمع له وتطيع
[82] ! .
في خبر زياد عن الصّادق (عليه
السّلام): إنَّ رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نزل بأرض قرعاء، فقال
لأصحابه: إئتونا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض
قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأت كلّ إنسان بما قدر
عليه. فجاؤوا به حتّى رموا به بين يديه بعضه على بعض،
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): هكذا تجتمع
الذّنوب، ثمّ قال: « إيّاكم والمحقّرات من الذّنوب فإنَّ
لكلّ شيء طالبًا، ألا وإنَّ طالبها يكتب ما قدّموا
وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين ».
وعن أبي بصير أنّه سمع الباقر (عليه
السّلام) يقول:
« اتّقوا المحقّرات من الذّنوب، فإنّ لها طالبًا ألا وإنّ
طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام
مبين ». وعن أبي بصير أنّه سمع الباقر (عليه السّلام)
يقول: اتقوا المحقّرات من الذّنوب، فإنّ لها طالبًا، يقول
أحدكم: أذنب واستغفر الله إنّ الله (عزّ وجلّ) يقول:
﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ
وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي
إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾
[83]
.
عن زيد الشّحّام في الموثق عن الإمام الصّادق (عليه
السّلام) قال: اتّقوا المحقّرات من الذّنوب فإنّها لا تغفر،
قلت: وما المحقّرات؟ قال: الرّجل يذنب الذّنب فيقول: طوبى
لي لو لم يكن لي غير ذلك. وهو ممّا يؤدّي إلى الإصرار
مطلقًا وكذا نسيان حلمه عنه في تأخير العقوبة وستره
عليه بالصّون عن الفضيحة حسبانًا منه أنّ ذلك عناية من
الله به وكرامة له فإنّه سبب الأمن من مكره (عزّ وجلّ)
باستدراجه من حيث لا يعلم وإملائه له ليزداد إثمًا
[84]
.
في هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن تراكم الذّنوب
الصّغيرة والحقيرة بعين صاحبها، ستحدث يوم القيامة
نارًا عظيمة تحرق مرتكبها.
قطرة فوق قطرة بحرٌ
وحبّة فوق حبّة غلال
كان في الأنصار امرأة من الخزرج اسمها خولة وزوجها أوس
بن الصّامت، وذلك أنَّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها
ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب
عليها وكان امرءًا فيه سرعة ولمم، فقال لها: أنت عليّ
كظهر أمّي، ثمّ ندم على ما قال، وكان الظّهار من طلاق
أهل الجاهليّة، فقال لها: ما أظنّكِ إلا وقد حرمتِ عليّ،
فقالت: لا تقل ذلك وائت رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) فاسأله، فقال: إنّي أجد أنّي أستحيي منه أن أسأله
عن هذا، قالت: فدعني أسأله، فقال: سليه، فأتت النّبيّ
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعائشة تغسل شقّ رأسه،
فقالت: يا رسول الله إنّ زوجي أوس بن الصّامت تزوّجني
وأنا شابة غانية ذات مال وأهل حتّى إذا كَلَّ مالي وأفنى
شبابي وتفرّق أهلي وكبرت سنّي ظاهر منّي وقد ندم، فهل من
شيء يجمعني وإيّاه فتنعشني به؟ فقال (صلّى الله عليه
وآله وسلّم): ما أراك إلاّ حرمت عليه، فقالت: يا رسول
الله والّذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا وأنّه أبو
ولدي وأحبّ النّاس إليّ، فقال (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)
ما أراك إلاّ حرمت عليه ولم أؤمر في شأنك بشيء، فجعلت
تراجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإذا قال
لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حرمت عليه
هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وحاجتي وشدّة حالي
اللّهمّ فأنزل على لسان نبيّك، وكان هذا أوّل ظهار في
الإسلام فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت أنظر في
أمري جعلني الله فداك يا نبيّ الله، فقالت عائشة: أقصري
حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا نزل
عليه الوحي أخذه مثل السّبات، فلمّا قضي الوحي، قال:
ادعي زوجك، فتلا عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) الآية الّتي نزلت: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ ... قالت عائشة: تبارك الّذي
وسع سمعه الأصوات كلّها إنّ المرأة لتحاور رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنا في ناحية البيت أسمع
بعض كلامها ويخفى عليّ بعضه إذ أنزل الله ﴿
قَدْ
سَمِعَ ﴾ فلمّا تلا عليه هذه الآيات، قال له: هل تستطيع
أن تعتق رقبة؟ قال: إذًا يذهب مالي كلّه والرّقبة غالية
وأنّي قليل المال، فقال: هل تستطيع أن تصوم شهرَيْن
متتابعَيْن؟ فقال: والله يا رسول الله أنّي إذا لم آكل
ثلاث مرات كلَّ بصري وخشيت أن تغشى عيني، قال: فهل
تستطيع أن تطعم ستّين مسكيناً؟ قال: لا والله إلا أن
تعينني على ذلك يا رسول الله، فقال: أنّي معينك بخمسة
عشر صاعًا وأنا داع لك بالبركة، فأعانه رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) بخمسة عشر صاعًا، فدعا له البركة
فاجتمع لهما أمرهم
[85] .
بعدما تزوّج
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خديجة
الكبرى (عليها السّلام)، اشترت السّيّدة خديجة عبدًا يدعى
زيد، ثمّ وهبته فيما بعد للرّسول (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)، ثمّ بعد ذلك وهبه الرّسول الأكرم حرّيته، ثم
دعاه بابنه (ربيبه)، بعد البعثة الشّريفة أسلم زيد وكان
له عند الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منزلة رفيعة
ومكانة خاصّة، استشهد في معركة مؤتة وكان على رأس جيش
المسلمين آنذاك.
عندما أراد
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يزوّج
زيدًا، وقع اختياره على زينب بنت جحش الأسديّة وكانت
بنت أميمة بنت عبد المطلّب عمّة رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم)، فخطبها رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) على مولاه زيد بن حارثة، ورأت أنَّه يخطبها
على نفسه، فلمّا علمت أنَّه يخطبها على زيد أبت وأنكرت
وقالت: أنا ابنة عمّتك، فلم أكن لأفعل، وكذلك قال أخوها
عبد الله بن جحش فنزل: ﴿
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً
﴾
[86] يعني عبد الله بن جحش وأخته
زينب، فلمّا نزلت الآية، قالت: رضيت يا رسول الله وجعلت
أمرها بيد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكذلك
أخوها، فأنكحها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
زيدًا فدخل بها وساق إليها رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) عشرة دنانير وستّين درهمًا مهرًا وخمارًا
وملحفة ودرعًا وإزارًا وخمسين مدًّا من طعام وثلاثين
صاعًا من تمر
[87] .
جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: يا محمّد، أنت الّذي تزعم أنَّك رسول
الله، وأنَّك الّذي يوحى إليك كما أوحي إلى موسى بن
عمران (عليه السّلام)؟ فسكت النّبيّ (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) ساعة، ثمّ قال: نعم، أنا سيّد ولد آدم ولا فخر،
وأنا خاتم النّبيّين، وإمام المتقّين، ورسول ربّ العالمين.
قالوا: إلى من، إلى العرب، أم إلى العجم، أم إلينا؟
فأنزل الله (عزّ وجلّ) هذه الآية (قل) يا محمّد
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾. قال اليهوديّ الّذي كان أعلمهم:
يا محمّد، إنّي أسألك عن عشر كلمات أعطى الله (عزّ وجلّ)
موسى بن عمران في البقعة المباركة حيث ناجاه، لا
يعلمها إلاّ نبيّ مرسل أو ملك مقرّب. قال النّبيّ
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): سلني. قال: أخبرني ـ يا محمّد ـ عن
الكلمات الّتي اختارهنّ الله لإبراهيم (عليه السّلام) حيث
بنى البيت. قال: النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
نعم، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله
أكبر. قال اليهوديّ: فبأيّ شيء بنى هذه الكعبة مربّعة؟
قال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): بالكلمات
الأربع. قال: لأيّ شيء سُمِّيَت الكعبة؟ قال النّبيّ
(صلّى الله عليه وآله وسلّم): لأنّها وسط الدّنيا. قال اليهوديّ:
أخبرني عن تفسير: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ
الله، والله أكبر. قال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله
وسلّم): علم الله (عزّ وجلّ) أنّ بني آدم يكذبون على الله،
فقال: « سبحان الله »، تبريًّا ممّا يقولون، وأمّا قوله:
« الحمد لله »، فإنّه علم أنّ العباد لا يؤدّون شكر نعمته،
فحمد نفسه قبل أن يحمدوه، وهو أوّل الكلام، لولا ذلك
لما أنعم الله على أحد بنعمته، وقوله: « لا إله إلاّ
الله »، يعني وحدانيّته، لا يقبل الله الأعمال إلاّ بها،
وهي كلمة التّقوى، يثقل الله بها الموازين يوم القيامة،
وأما قوله: « والله أكبر »، فهي كلمة أعلى الكلمات
وأحبّها إلى الله (عزّ وجلّ)، يعني أنَّه ليس شيء أكبر
منّي، لا تفتتح الصّلاة إلاّ بها لكرامتها على الله وهو
الإسم الأكرم. قال اليهوديّ: صدقت يا محمّد، فما جزاء
قائلها؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إذا قال
العبد: « سبحان الله »، سبّح معه ما دون العرش فيعطى
قائلها عشر أمثالها، وإذا قال: « الحمد لله »، أنعم الله
عليه بنعيم الدّنيا موصولاً بنعيم الآخرة، وهي الكلمة
الّتي يقولها أهل الجنّة إذا دخلوها، وينقطع الكلام الّذي
يقولونه في الدّنيا ما خلا « الحمد لله »، وذلك قوله (عزّ
وجلّ):﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا
سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[88]
.
وأمّا قوله: « لا إله إلاّ الله »، فالجنّة جزاؤه، وذلك
قوله (عزّ وجلّ): ﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ
الإِحْسَانُ ﴾ يقول: هل جزاء من قال: « لا إله إلا
الله إلا الجنة»؟. فقال اليهوديّ: صدقت يا محمّد
[89]
.
ثمّ أنّ هذا اليهوديّ سأل
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشر كلمات، فلما أجابه
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن جميعها قال اليهوديّ: « أنا أشهد أن لا
إله إلاّ الله وأنّك عبده ورسوله ... وأسلم وحسن
إسلامه
[90]
».
عن أبي جعفر (عليه
السّلام) قال: سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) ونقل عنه حديثًا طويلاً يقول فيه
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حاكيًا حال أهل الجنّة: اذا
أراد المؤمن شيئًا، إنّما دعواه إذا أراد أن يقول:
« سبحانك اللّهمّ » فإذا قالها تبادرت إليه الخدّام بما
اشتهى من غير أن يكون طلبه منهم أو أمر به، وذلك قول
الله (عزّ وجلّ): ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ
﴾ يعني
الخدّام، قال: ﴿ وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ يعني بذلك عندما يقضون
من لذّاتهم من الجماع والطّعام والشّراب يحمدون الله (عزّ
وجلّ) عند فراغهم
[91] .
عندما كان رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) يسير
مع أصحابه ليلاً، وذلك في غزوة بني المصطلق وهم حيٌّ
من خزاعة والنّاس يسيرون، فنادى رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) فحثّوا المطيّ حتّى كانوا حول رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقرأ عليهم: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ
شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ
حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم
بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
﴾
[92]
، فلم ير أكثر باكيًا من تلك اللّيلة، فلمّا أصبحوا لم
يحطّوا السّرج عن الدّواب ولم يضربوا الخيام والنّاس
ما بين باك أو جالس حزين متفكّر، فقال رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم): أتدرون أيّ يوم ذاك؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم، قال: ذاك يوم يقول الله تعالى لآدم
(عليه السّلام):
إبْعَثْ بَعْث النّار من ولدك، فيقول آدم (عليه السّلام): من كم وكم؟ فيقول الله
(عزّ وجلّ): من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار
وواحد إلى الجنّة، فكبر ذلك على المسلمين وبكوا
وقالوا: فمن ينجو يا رسول الله؟ فقال: أبشروا فإنّ
معكم خليقتَيْن يأجوج ومأجوج ما كانتا في شيء إلاّ كثّرتاه
ما أنتم في النّاس إلاّ كشعرة بيضاء في الثّور الأسود أو
كرقم في ذراع البكر أو كشامة في جنب البعير، ثمّ قال:
إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة فكبّروا، ثم قال:
إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة فكبّروا، ثمَّ
قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثَيْ أهل الجنّة، وإنّ أهل
الجنّة مائة وعشرون صفًّا ثمانون منها أمّتي، ثمّ قال:
ويدخل من أمّتي سبعون ألفًا الجنّة بغير حساب... ومع كل
واحد سبعون ألفًا، فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول
الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللّهمّ اجعله منهم
فقام رجل من الأنصار فقال: أدع الله أن يجعلني منهم،
فقال: (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سبقك بها عكاشة، قال
ابن عباس: كان الأنصاريّ منافقًا فلذلك لم يدع له
[93]
.
بلغ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)، أنَّ بني
المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحرث بن أبي ضرار أبو
جويرية زوج النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان ذلك
في السّنة الخامسة للهجرة، فلمّا سمع بهم رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)، خرج إليهم حتّى لقيهم على ماء من
مياههم، يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى السّاحل،
فتزاحف النّاس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل
منهم من قتل ونفل رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)
أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فبينا النّاس على ذلك الماء
إذ وردت واردة النّاس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني
غفار، يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم
جهجاه وسنان الجهنيّ من بني عوف بن خزرج على الماء
فاقتتلا فصرخ الجهنيّ يا معشر الأنصار وصرخ الغفاريّ يا
معشر المهاجرين فأعان الغفاريّ رجل من المهاجرين، يقال
له جعال وكان فقيرًا، فقال عبد الله بن أبيّ لجعال:
إنّك لهتّاك، فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك واشتدّ لسان
جعال على عبد الله، فقال عبد الله: والّذي يحلف به
لآزرنّك ويهمّك غير هذا وغضب ابن أبيّ وعنده رهط من قومه
فيهم زيد بن أرقم حديث السّن، فقال ابن أبيّ: قد نافرونا
وكاثرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم إلاّ كما
قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، يعني بالأعزّ نفسه
وبالأذلّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ
أقبل على من حضره من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم
أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو
أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطّعام لم يركبوا رقابكم
ولأوشكوا أن يتحوّلوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم
ومواليهم، فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذّليل القليل
المبغض في قومك، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في
عزّ من الرّحمن ومودّة من المسلمين، والله لا أحبّك بعد
كلامك هذا، فقال عبد الله: اسكت فإنّما كنت ألعب فمشى
زيد بن أرقم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرّحيل وأرسل إلى عبد الله
فأتاه، فقال: ما هذا الّذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله:
والّذي أنزل عليك الكتاب، ما قلت شيئًا من ذلك قطّ وإن
زيدًا لكاذب، وقال: من حضر من الأنصار يا رسول الله
شيخنا وكبيرنا لا تصدّق عليه كلام غلام من غلمان
الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه، فعذره
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفشت الملامة من
الأنصار لزيد ولمّا استقلّ رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) فسار لقيه أسيد بن الحضير فحيّاه بتحيّة
النّبوّة، ثمّ قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة
ما كنت تروح فيها، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم): أو ما بلغك ما قال صاحبكم زعم أنّه إن رجع
إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذلّ، فقال أسيد: فأنت
والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذّليل
وأنت العزيز، ثمّ قال: يا رسول الله ارفق به فوالله
لقد جاء الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه
وإنّه ليرى أنّك قد اسلبته ملكًا وبلغ عبد الله بن عبد
الله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)، فقال: يا رسول الله، إنّه قد
بلغني أنّك تريد قتل أبي فإن كنت لا بدَّ فاعلاً فمرني
فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان
بها رجل أبرّ بوالديه منّي وأنّي أخشى أن تأمر به غيري
فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن
أبيّ أن يمشي في النّاس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل
النّار، فقال: بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا،
قالوا: وسار رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
بالنّاس يومهم ذلك حتّى أمسى وليلتهم حتّى أصبح وصدر
يومهم ذلك حتّى آذتهم الشّمس، ثمّ نزل بالنّاس فلم يكن
إلاّ أن وجدوا مسّ الأرض، وقعوا نيامًا إنّما فعل ذلك
ليشغل النّاس عن الحديث الّذي خرج من عبد الله بن أبيّ،
ثمّ راح بالنّاس حتّى نزل على ماء بالحجاز فويق
البقيع
[94] يقال له: بقعاء، فهاجت ريح شديدة آذتهم
وتخوّفوها وضلّت ناقة رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) وذلك ليلاً، فقال: مات اليوم منافق عظيم النّفاق
بالمدينة، قيل من هو؟ قال: رفاعة، فقال: رجل من
المنافقين، كيف يزعم أنّه يعلم الغيب ولا يعلم مكان
ناقته، ألا يخبره الّذي يأتيه بالوحي، فأتاه جبرائيل
(عليه السّلام) فأخبره بقول المنافق وبمكان النّاقة
وأخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك
أصحابه، وقال: ما أزعم أنّي أعلم الغيب وما أعلمه،
ولكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي
في الشّعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها وآمن ذلك
المنافق، فلمّا قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في
التّابوت وهو أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود وقد
مات ذلك اليوم، قال: زيد بن أرقم، فلمّا وافى رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة، جلست في البيت لما
بي من الهمّ والحياء، فنزلت سورة المنافقين في تصديق
زيد وتكذيب عبد الله بن أبيّ، ثمّ أخذ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) بأذن زيد فرفعه عن الرّحل، ثمّ
قال: يا غلام صدق فوك ووعت أذناك ووعى قلبك وقد أنزل
الله فيما قلت قرآنًا وكان عبد الله بن أبيّ بقرب
المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها جاءه إبنه عبد الله بن
عبد الله بن أبيّ حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة،
فقال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها إلاّ بإذن رسول
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولتعلمنّ اليوم مَن
الأعزّ مِن الأذلّ، فشكا عبد الله إبنه إلى رسول الله
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأرسل إليه أن خَلّ عنه
يدخل، فقال: أمّا إذا أمر رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) فنعم فدخل فلم يلبث إلاّ أيامًا قلائل حتّى
اشتكى ومات، فلمّا نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله
قيل له، نزل فيك آيٌ شداد فاذهب إلى رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) يستغفر لك، فلوّى رأسه، ثمّ قال:
أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة
مالي فقد أعطيت، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمّد فنزل:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ
وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ
اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا
الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا
يَعْلَمُونَ ﴾
[95] .
أصدر الرّسول الأكرم (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) الأمر
بالتّحرك باتّجاه العدوّ، وذلك في غزوة تبوك، فتحرّك
الجميع، ما عدا ثلاثة أشخاص تخلّفوا عن رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ولم يلتحقوا بالجيش الإسلامي،
غير أنَّ تخلّفهم لم يكن من باب النّفاق، بل كان بحجّة
العجز والضعف، ومن باب التّكاسل، ثمّ كان من أمرهم أن
ندموا على تخلّفهم.
هؤلاء الأشخاص هم: كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال
بن أميّة وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن
توان، ثمّ ندموا، فلمّا قدم النّبيّ (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) المدينة، جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم
النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتقدّم إلى المسلمين بأن لا
يكلّمهم أحد منهم، فهجرهم النّاس حتّى الصّبيان وجاءت
نساؤهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقلن
له يا رسول الله نعتزلهم، فقال: لا ولكن لا يقربوكنّ
فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال وكان
أهاليهم يجيئون لهم بالطّعام ولا يكلّمونهم، فقال بعضهم
لبعض: قد هجرنا النّاس ولا يكلّمنا أحد منهم، فهلاّ
نتهاجر نحن أيضًا فتفرّقوا ولم يتجمّع منهم اثنان وبقوا
على ذلك خمسين يومًا يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون
إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه
الآية
[96]
: ﴿ وَعَلَى
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا
ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا
مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
[97] .
يقول أبو ذرّ الغفاريّ أنَّ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله وسلّم) قال له: « يا أبا ذرّ، من لم يأت يوم القيامة
بثلاث فقد خسر، قلت: وما الثّلاث، فداك أبي وأمّي؟ قال:
ورع يحجزه عمّا حرم الله (عزّ وجلّ) عليه، وحلم يردّ به
جهل السّفيه، وخلق يداري به النّاس. يا أبا ذرّ، إن سرّك
أن تكون أقوى النّاس فتوكّل على الله، وإن سرّك أن تكون
أكرم النّاس فاتقّ الله، وإن سرّك أن تكون أغنى النّاس
فكن بما في يد الله (عزّ وجلّ) أوثق منك بما في يديك. يا
أبا ذرّ، لو أن النّاس كلّهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم »:
﴿ ... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾
[98] ... يا أبا ذرّ، طوبى لمن تواضع
لله تعالى في غير منقصة، وأذلّ نفسه في غير مسكنة،
وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذّل
والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن صلحت
سريرته، وحسنت علانيته، وعزل عن النّاس شرّه، طوبى لمن
عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من
قوله
[99]
.
وروي عن أبي ذرّ عن
النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
أنّه قال: إنّي لأعلم آية لو أخذ النّاس بها لكفتهم:
﴿ ... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾، فما زال يقرؤها ويعيدها. وروي أنَّ
رجلاً أسره المشركون فأتى أبوه وهو عون بن مالك الأشجعي
إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذكر له ذلك
وشكا إليه الفاقة، فقال له: اتقّ الله واصبر وأكثر من
قول « لا حول ولا قوّة إلاّ بالله » ففعل الرّجل، فبينا هو
في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل قد غفل
عنها العدوّ فاستاقه
[100] .
ينقل عن الإمام الصّادق (عليه
السّلام) في شأن الآية
الشّريفة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
[101] .
إنَّ آدم (عليه
السّلام) صفي الله، عندما هبط من الجنّة
هبط في جبل الصّفا، وعندما هبطت حوّاء (عليه السّلام)
هبطت في جبل المروة، والصّفا والمروة استقا من اسم آدم
وحوّاء (عليهما السّلام).
ويروي أهل الكتاب أنَّ « أساف ونائلة » (صنمان كانا في
أطراف الكعبة) إنّما كانا فيما يقال: رجلاً وامرأة،
فالرّجل اسمه أساف بن بقاء، والمرأة اسمها نائلة بنت
ذئب وقيل كانا من قبيلة جرهم، فزنيا داخل الكعبة
فمسخهما الله حجرَيْن، فنصبهما النّاس عند الكعبة وقيل
على الصّفا والمروة ليعتبر النّاس بهما ويتعظوا، ثمّ
حوّلهما قصي بن كلاب فيما بعد، فجعل أحدهما ملاصقًا
للكعبة والآخر بزمزم، ونحر عندهما وأمر النّاس
بعبادتهما، ولمّا فتح الرّسول (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)
مكّة كسرهما، غير أنّ المسلمين بعد فتح مكّة تركوا السّعي
بين الصّفا والمروة، لأنَّه كان من عمل الجاهليّة. ثمّ
بعد ذلك نزلت الآية الشّريفة: ﴿
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ
اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
﴾
[102] بحيث جعلت السّعي من
شعائر الله وبذلك خلدت ذكرى أمّ وابنها (هاجر واسماعيل)
وجعلت هذه الحادثة التّاريخيّة (قصّة هاجر واسماعيل وخروج
ماء زمزم) باقية وحيّة ما بقي الدّهر، بحيث أراد المولى
(عزّ وجلّ) أن لا تمحى هذه الخاطرة من الأذهان
[103]
.
كان عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين، لكن ابنه عبيد
الله كان مسلمًا ويحبّ الرّسول (صلّى الله عليه وآله
وسلّم) إسلامه.
في أحد الأيّام كان عبيد الله عند
الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فشرب النّبيّ (صلّى
الله عليه وآله وسلّم)، فقال: ابق فضلة من شرابك أسقها أبي لعلّ الله
يطهّر قلبه، فأعطاه فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ فقال:
بقيّة شراب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جئتك
بها لتشربها لعلّ الله يطهّر قلبك، فقال: هلاّ جئتني
ببول أمّك، فرجع إلى النّبيّ (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)،
فقال: ائذن لي في قتله فقال بل ترفق به
[104]
.
نعم إنّ المولى تعالى يحذّر عباده المؤمنين ويقول لهم،
لا يمكن لقلب واحد أن يسع محبّة الله ومحبّة أعدائه في
آن واحد، من هنا نزلت الآية الشّريفة: ﴿
لَا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ
كَانُواْ آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ
فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ
مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ﴾
[105] .
إنّ محبّة الآباء والأمّهات والأبناء وسائر الأقرباء
والأرحام، علامة لتلك العاطفة الجيّاشة الّتي تجري في
وجود الإنسان، والإسلام أيضًا يوصي بإظهار تلك المحبّة
ويؤكّد على صلة الأرحام، وينهي عن قطع الأرحام. لكن
عندما تتعارض هذه المحبّة مع محبّة الله، فإنّها تفقد كلّ
قيمة، لذلك، رأينا في كثير من المعارك والغزوات، أنّ
بعض الأقرباء أو الأبناء كانوا يقفون في الصّف المقابل
والمخالف لأقربائهم وكانوا ينازلونهم في المعارك
ويقاتلون أقرباءهم من الكفّار والمشركين، حتّى أنَّهم
يقتلونهم في بعض الأحيان.
[55] سورة المائدة، الآية: 67.
[56] تفسير العيّاشي، محمّد بن مسعود العيّاشي، ج1، ص 332،
كذلك البرهان، ج1،ص 489، كذلك البحار،ج9،ص207.
[57] راجع: مجمع البيان، ج10، ص 829
ـ 831. وكذلك روح
الجنان.
[58] سورة قريش، الآيتان: 3
ـ 4.
[59] مجمع البيان، ج10، ص 851.
[60] سورة المسد، الآية: 1.
[61] سورة آل عمران، الآية: 135.
[62]
تفسير نور الثّقلَيْن، ج5، ص 726.
[63] سورة هود، الآية: 114.
[64] تفسير نور
الثّقلَيْن، ج2، ص 402.
[65] راجع: كنز العرفان، ج1، ص151.
[66] تفسير القمّي، ج2، ص392.
[67] سورة المزّمّل، الآية: 20.
[68]
سورة نوح، الآية: 23.
[69] سورة الحجّ، الآية:73، راجع كتاب: جامع أحاديث
الشّيعة، السّيّد البروجردي، ج11، ص74.
[70]
راجع، مجمع البيان، ج10، ص 611و612، كذلك: بناء
المقالة الفاطميّة، السّيّد ابن طاووس، ص 238.
[71] سورة الجمعة، الآية: 11
ـ راجع مجمع البيان، ج10، ص
433.
[72] مجمع البيان، ج2، ص 848، 849.
[73] سورة آل عمران، الآية: 144.
[74] راجع تفسير مجمع البيان، ج2، 886، 887، 888 كذلك
سيرة ابن هشام ج3، ص 109.
[75] سورة آل عمران، الآية: 173
ـ 174.
[76] سورة القلم، الآيات: 17
ـ 33 ـ راجع تفسير القمّي،
ج2، ص 381 ـ 382 كذلك، مجمع البيان، ج10، ص 506.
[77] سورة التّحريم، الآية: 1
ـ راجع كتاب مجمع البيان،
ج10، ص 471. كذلك: روح الجنان: ذيل الآية.
[78] سورة البقرة، الآيتان: 132
ـ 133.
[79] تفسير نور الثّقلَيْن، ج3، ص 361.
[80] سورة الحجر، الآية: 94.
[81] سورة الشّعراء، الآية: 214.
[82] سيرة ابن هشام، ج1، ص 280، وتفسير نور
الثّقلَيْن، ج4،
ص66، 67.
[83] كشف اللّثام، الفاضل الهندي، مؤسّسة النّشر
الإسلاميّ،
قم، ج10، ص 284.
[84] الكافي ج2، ص 287،ج1. كذلك التّحفة السّنيّة، السّيّد عبد
الله الجزائريّ (مخطوط)، ص 23.
[85] تفسير مجمع البيان، ج9
ـ 10، ص 371.
[86]
سورة الأحزاب، الآية: 36.
[87] تفسير مجمع البيان، ج7
ـ 8، ص 563.
[88] سورة يونس، الآية: 10.
[89] الأمالي، الشّيخ الصّدوق، ص 254
ـ 256.
[90] نفس المصدر، ص 262.
[91] تفسير نور
الثّقلَيْن، ج2، ص 295.
[92] سورة الحجّ، الآيتان: 1
ـ 2.
[93] تفسير مجمع البيان، ج6
ـ 7، ص 112.
[94] تفسير مجمع البيان، ج9
ـ 10 ـ ص 442 ـ 444.
[95] سورة المنافقون، الآيات: 5
ـ 8.
[96] مجمع البيان، ج5
ـ 6 ـ ص 120.
[97] سورة التّوبة، الآية: 118.
[98] سورة الطّلاق، الآيتان: 2
ـ 3.
[99] منهاج الصّالحين، الشّيخ وحيد الخراسانيّ، ج1، ص 227.
[100]
زبدة البيان، المحقّق الأردبيليّ، ص 586.
[101] سورة آل عمران، الآية: 33.
[102] سورة البقرة، الآية: 158.
[103] راجع: شرح مسلم النّوويّ، دار الكتاب العربيّ، بيروت،
1987م، ج9،ص22 ـ 23 كذلك: روح الجنان: ج1،ص391 وجوامع
الجامع: ص 30، ذيل الآية 185 من البقرة.
[104] مجمع البيان: ج9
ـ 10، ص 383.
[105] سورة المجادلة، الآية: 22.