بسم الله
الرحمن الرحيم
إِنَّا
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن
قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ
إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ
رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ
يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي
آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ
جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا
(16) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ
يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا
سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا
خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا
وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا
وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا
خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا
لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا
تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ
إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا
فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن
دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
سورة نوح (ع) مكيّة وآياتها ثمانٍ وعشرون آية
فضيلة هذه السورة
جاء
في حديث عن النبي (ص) قال: «ومن قرأ سورة نوح كان من المؤمنين
الذين تدركهم دعوة نوح»
(10)
وفي
حديث آخر عن الامام الصادق (ع) قال: «من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر ويقرأ كتابه فلا يدع أن يقرأ سورة (إنا أرسلنا نوحاً) فأيّ
عبد قرأها محتسباً صابراً في فريضة أو نافلة أسكنه الله مساكن
الأبرار وأعطاه ثلاث جنان مع جنته كرامة من الله...»
الهدف من قراءة السورة هو إقتباس العلوم من أفعال وسير الأنبياء
(عليهم السلام) من أجل الاستقامة والصبر في طريق الدعوة الى الله
تعالى وليست القراءة الخالية من التفكر ولا التفكر الخالي من
العمل.
محتوى السورة
هذه
السورة تشير الى قصة نوح (ع) التي ذكرت في العديد من سور القرآن
منها: سورة الشعراء، والمؤمنون، والأعراف والأنبياء، وبشكل أوسع في
سورة هود (ع).
جاء
في هذه السورة مقطع خاص من قصة نوح (ع) وحياته، وهذا القسم يرتبط
بالدعوة المستمرة والمتتابعة من قبله الى التوحيد، وترتبط بكيفيتها
وعناصرها، والتخطيط الدقيق في هذا الأمر الهام، وذلك مقابل قوم
معاندين ومتكبرين على الانقياد الى الحق.
وبلحاظ أن هذه السورة قد نزلت في مكة، وأن النبي (ص) والمسلمين
القلائل في ذلك الزمان كانوا يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف عصر نوح
(ع) وأعوانه، فإنها كانت تعلمهم أمور كثيرة، وكانت هذه واحدة من
أهداف إيراد هذه القصة، ومنها:
1-
أنها تذكرهم كيف يبلغون الرسالة للمشركين عن طريق الاستدلال
المنطقي مع المحبة والمودة، واستخدام آية طريقة تكون مفيدة ومؤثرة
في الدعوة.
2-
أنها تعلمهم الثبات والنشاط في طريق الدعوة الى الله تعالى وعدم
التكاسل مهما طالت الأعوام، ووضع الأعداء والعوائق.
3-
أنها تعلمهم كيف يرغبونهم ويشجعونهم تارة، وتكون لديهم عوامل
الانذار والرهبة تارة أخرى والاستفادة من كلا الطريقين في الدعوة
الى الله جلّ وعلا.
4-
الآيات الأخيرة من هذه السورة هي تحذير للمشركين المعاندين إذا لم
يستسلموا للحق، وتخلفوا عن أمر الله سبحانه فإن عواقب أمورهم تكون
وخيمة.
وبتعبير آخر فإن هذه السورة ترسم أبعاد الصراع الدائم بين أصحاب
الحق وأصحاب الباطل، وترسم سبيل أصحاب الحق الذي يجب عليهم سلوكه.
واستغشوا: طلب التغشي.
وأصروا: الاقامة على الأمر
بالعزيمة عليه.
مدراراً: الكثير الدرور
بالغيث والمطر.
ويمددكم: الامداد الحاق
الثاني بالأول على النظام حالاً بعد حال يقال: أمدّه بكذا
ومدّ النهر نهرآخر.
بأموالٍ: الأموال جمع
المال وهو عند العرب النعم.
وقاراً: أصل الوقار
الثبوت، وما به يكون الشيء عظيماً من الحلم الذي يمتنع معه
الخرق.
ترجون: من الرجاء بمعنى
الخوف.
فجاحاً: الفجاج الطرق
المتسعة المتفرقة واحدها فج، وقيل الفج المسلك بين جبلين.
سواعاً: المراد منه هنا
صنم.
كبّاراً: الكبير جداً.
يقال كبير ثم كُبار ثم كبّار ومثله عجيب وعُجاب وعُجّاب،
وحسن وحُسان وحُسّان.
ديّاراً: فيقال من
الدوران، يقال ما بالدار ديّار، أي ما بها أحد يدور في
الأرض.
التفسير
رسالة نوح (ع) الأولى
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى
قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)
أي
بعثنا نوح (ع) لينذر قومه بعذاب الدنيا قبل الآخرة، الاعتماد على
الانذار والترهيب غالباً ما يؤثر تأثيراً بالغاً، مع أن الأنبياء
كانوا منذرين تارة ومبشرين تارة أخرى، نوح (ع) هو من أولي العزم،
كان صاحب أول شريعة إلهية، وله دعوة عالمية.
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ} (2)
أضاف (ع) قومه الى نفسه، فكأنه قال: أنتم عشيرتي يسؤوني ما يسوؤكم،
إني لكم مخوّف، ومبين وجوه الأدلة في الوعيد وبيان الدين والتوحيد.
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ
وَأَطِيعُونِ} (3)
أي
اعبدوا الله سبحانه وحده ولا تشركوا به شيئاً واتقوا معاصيه فيما
أمركم به لأن طاعتي مقرونة بطاعة الله تعالى فهي واجبة عليكم لمكان
نعمه السابقة التي لا توازيها نعمة منعم.
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا
جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4)
أي
فإنكم إن فعلتم ذلك واستجبتم لدعوتي يغفر لكم ذنوبكم السالفة، على
القاعدة المعروفة، (الاسلام يجب ما قبله) ويمهلكم سبحانه حتى
تستوفوا العمر الطبيعي وإلاّ عجل واستأصلكم بالطوفان ونحوه، يا
ليتكم تعلمون لتسرعوا الى الايمان.
لم
تبق وسيلة إلاّ واستخدمها لهدايتهم ولكن !!!
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلاً وَنَهَاراً} (5)
القائل هو نوح (ع) والذي دعا إليه هو عبادة الله تعالى وتقواه،
وطاعة رسوله، والدعاء ليلاً ونهاراً، كناية عن دوامه من غير فتور
ولا توانٍ.
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ
فِرَاراً} (6)
أي
لم يزدادوا بدعائي إياهم إلا فراراً من قبوله ونفاراً منه وادباراً
عنه، وإنما سمّي كفرهم عند دعائه (ع) زيادة في الكفر لأنهم كانوا
على كفر وضلال فلما دعاهم نوح (ع) الى الاقلاع عن ذلك والاقرار به
ولم يقبلوه فكفروا بذلك كأن ذلك زيادة في الكفر لأن الزيادة هي
إضافة الشيء الى مقدار قد كان حاصلاً ولو حصلا جميعاً في وقت واحد
لم يكن لأحدهما زيادة على الآخر.
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا
اسْتِكْبَاراً} (7)
لكي
لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويلفون الثياب
حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لتساعدهم أصابعهم على استقرارها
في الآذان لئلا تصل أمواج الصوت الى غشاء المخ، وينتقل الخطاب من
هناك الى المخ ! وربما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة
الملكوتية لنوح (ع) هذا النبي العظيم، وفي الحقيقة كانوا يصرّون
على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن النظر! وتكبّروا وانفوا
عن قبول الحق.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً}
(8)
أي
دعوتهم بأعلى صوتي الى الايمان في حلقات عامة وبصوت جهوري.
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} (9)
أي
دعوتهم في العلانية وفي السّر، وسلكت معهم في الدعوة كل مذهب
وتلطفت لهم في ذلك غاية التلطف فلم يجيبوا.
ثمرة الايمان في الدنيا
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (10)
أي
اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم، فمتى ما رجعتم عن كفركم
ومعاصيكم، وندمتم على خطيئتكم، ولجأتم الى الله تعالى ومغفرته
فستجدونه غفّاراً، وإضافة الى ذلك:
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَاراً} (11)
أي
أن الله تعالى يفيض عليكم بأمطار الرحمة المعنوية، وكذلك بكثرة
الأمطار المادية المباركة.
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}
(12)
أي
يكثر اموالكم وأولادكم الذكور، ويجعل لكم بساتين في الدنيا
وأنهاراً تسقون بها جناتكم.
{مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقَاراً} (13)
أي
معاشر الكفار، ما لكم لا تعظمون الله تعالى حق عظمته فتوحدوه
وتطيعوه.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}
(14)
أي
خلقكم طوراً نطفة ثم طوراً علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم كسا العظام
لحماً ثم أنشأه خلقاً آخر نبت له الشعر وكملت صورته.
والله أنبتكم من الأرض نباتاً
{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (15)
أي
تأملوا الكون ونظامه واتقانه الذي يدل على وجود المكون والمنظم
وقدرته وعظمته، وأن كل ما نراه من الكواكب المتحركة والثابتة
بالعين المجردة أو غيرها هي من السماء الأولى، ثم يليها السماوات
الست الأخرى متطابقة بعضها فوق الأخرى، ويمكن في المستقبل أن يتم
الكشف على ما في السماوات من عجائب الواحدة بعد الأخرى.
{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (16)
الآية مسوقة لبيان وقوع التدبير الالهي على الانسان بما يفيض عليه
من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته، وعلى هذا فكون القمر نوراً
هو كونه منوراً لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منوراً بنفسه حتى
يعد سراجاً، وكون الشمس سراجاً هو كونها مضيئة لعالمنا ولولاها
لانغمرنا في ظلمة ظلماء.
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ
نَبَاتاً} (17)
أي
انبتكم إنبات النبات وذلك أن الانسان تنتهي خلقته الى عناصر أرضية
تركبت تركباً خاصاً به يغتذي وينمو ويولد، كلنا من آدم وآدم من
تراب.
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا
وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} (18)
كنتم في البدء تراباً، ثم تعودون الى التراب ثانية ومن كانت له
القدرة على ان يخلقكم من التراب هو قادر على أن يحييكم بعد الموت.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَْرْضَ
بِسَاطًا} (19)
أي
مبسوطة ليمكنكم المشي عليها والاستقرار فيها.
{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}
(20)
ثم
بين أنه سبحانه إنما جعلها مبسوطة، لتسلكوا فيها طرقاً واسعة
ومختلفة، وإنما عدّد سبحانه هذه الضروب من النعم امتناناً على خلقه
وتنبيهاً لهم على استحقاقه للعبادة الخالصة من كل شرك، ودلالة لهم
على أنه عالم بمصالحهم ومدبّر لهم على ما تقتضيه الحكمة، فيحب أن
لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود.
إن الله معك
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ
خَسَارًا} (21)
عاد
سبحانه الى ذكر نوح (ع)، وشكواه من قومه الى ربه، بعصيان ما أمرهم
به وما نهاهم عنه، واتبعوا أغنياء قومهم اغتراراً بما أتاهم الله
تعالى من المال والولد فقالوا لو كان هذا رسولاً لله سبحانه لكان
له ثروة وغنى، فأورثهم ذلك خسرانا من رحمته عز وجلّ.
{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّاراً}
(22)
أي
كبيراً وعظيماً لأنهم صدوا المستضعفين عن الاستجابة لدعوة نوح (ع)
وبالغوا في إيذائه وإيذاء من آمن برسالته.
على الفاسدين
والمفسدين أن يرحلوا
{وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ
وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً} (23)
أي
لا تتركوا عبادة أصنامكم ثم خصّوا أصناماً لهم معروفة بعد دخولها
في الجملة الأولى تعظيماً لها وتأكيداً على عدم ترك عبادتها. وودّ
وسواع ويغوث ويعوق ونسر، خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن.
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلَالاً} (24)
أي
أضل كبراؤهم كثيراً من الناس (ولا تزد الظالمين) إلا خذلاناً
وعذاباً شديدأً.
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْصَارًا}
(25)
أي
من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقوا بالطوفان (فادخلوا ناراً) لا يقدّر
عذابها بقدر، ولم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله سبحانه.
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى
الأَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (26)
دعا
نوح (ع) بهذا الدعاء بأن لا تدع منهم أحداً إلا أهلكته، وذلك عندما
يئس من هدايتهم بعد المشقة والعناد في دعوته إياهم الى الاتجاه
الصحيح، فلم يؤمن إلا قليلاً منهم.
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}
(27)
أي
إن تتركهم ولم تهلكهم يضلّو عبادك عن الدين بالاغواء والدعاء الى
خلافه، ولا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافراً، وإنما قال ذلك نوح
(ع): لأن الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمناً وأعقم
أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة وأخبر
الله تعالى نوح (ع) بأنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً فحينئذٍ دعا
عليهم فأجاب الله سبحانه دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبيّ
وقت العذاب.
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا}
(28)
دعا
نوح (ع) لنفسه ولوالديه ولمن آمن به وللمؤمنين والمؤمنات على مر
العصور (ولا تزد الظالمين) إلا هلاكاً ودماراً.
قال
أهل التحقيق: دعا نوح (ع) دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين
فاستجاب الله تعالى دعوته على الكافرين فاهلك من كان منهم على وجه
الأرض، ونرجو أن يستجب أيضاً دعوته للمؤمنين فيغفر لهم ويدخلهم
جنّات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبداً.
لقد
ذكر نوح (ع) في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ومجموع السور التي
ذكر فيه (ع) 29 سورة، وأما اسمه (ع) فقد ورد 43 مرة.
وقد
أوضح القرآن المجيد أموراً مختلفة من حياته (ع) بشكل مفصل، وتتعلق
أكثرها بالجوانب التعليمية والتربوية والمواعظ، وذكر المؤرخون ان
اسمه كان (عبد الغفار) أو (عبد الملك) أو (عبد الأعلى) ولُقب بـ
نوح (ع) لأنه كان كثير النياحة على نفسه أو على قومه، وكان اسم
أبيه (لمك) أو (لامك)، وفي مدة عمره (ع) اختلاف فقال البعض أنه عاش
(1490 سنة)، وجاء في بعض الروايات أن عمره (2500سنة)، وأما عن
أعمار قومه الطويلة فقد قالوا (300 عام)، والمشهور هو أن عمره كان
طويلاً، وصرح القرآن بمدة مكثه في قومه وهي (950 عاماً)، وهي مدة
التبليغ في قومه، كان لنوح (ع) ثلاثة أولاد هم (حام) و (سام) و
(يافث) ويعتقد المؤرخون بان انتساب جميع البشر يرجع الى هؤلاء
الثلاثة، فمن ينتسب الى حام يقطن في القارة الأفريقية، والمنتسبون
لسام يقطنون الشرق الأوسط والأقصى، وأما المنتسبون الى يافث فهم
يقطنون الصين، وقيل أن المدة التي عاشها بعد الطوفان (50 عاماً)
وقيل (60 عاماً).
وورد بحث مفصل عن حياة نوح (ع) في التوراة المتواجد حالياً، إلا أن
هناك اختلافاً كبيراً بينه وبين القرآن المجيد، وهذا الاختلاف يدل
على تحريف التوراة، وقد ذكرت هذه البحوث في الفصول (6، 7، 8، 9،
10) من سفر التكوين للتوراة.
وكان لنوح (ع) إبن آخر يدعى (كنعان) وكان مخالفاً لأبيه، إذ رفض
الالتحاق به في السفينة ففقد بقعوده هذا شرف الانتساب الى بيت
النبوة، وكانت عاقبته الغرق في الطوفان كبقية الكفار، وأما عن عدد
المؤمنين الذين آمنوا به وركبوا السفينة معه فقد قيل (70 نفراً)،
وقيل (7 أنفار)، كان نوح (ع) أسطورة للصبر والمقاومة، وقيل هو أول
من استعان بالعقل والاستدلال المنطقي في هداية البشر، بالاضافة الى
منطق الوحي (كما هو واضح من آيات هذه السورة) وبهذا الدليل يستحق
التعظيم على العباد في العالم.
يحدثنا الامام الباقر (ع) عن نوح (ع) فيقول: كان نوح (ع) يدعو حين
يمسي ويصبح بهذا الدعاء: «أمسيت أشهد
أنه ما أمس بي من نعمة في دين أو دنيا فإنها من الله لا شريك له،
له الحمد بها عليّ والشكر كثيراً، فأنزل الله: (إنه كان عبداً
شكوراً) فهذا كان شكره»
(11)
وفي
قوله تعالى: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً..} قيل في
معنى البيت هنا هو بيته الخاص، وقيل المسجد وقيل سفينة نوح، وقيل
أيضاً هو دينه وشريعته.
وورد عن الامام الصادق (ع) أنه قال: «من دخل في الولاية دخل في بيت
الأنبياء»
(12)
الأسلوب في التبليغ ومنهجه
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ
فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ
إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا
(9)}
التي جاء فيها حول دعوة نوح (ع) وهو تقديم برنامج عام لجميع
المبلغين في طريق الله تعالى، والتي هي في نفس الوقت تسلي وتهديء
أحاسيس النبي (ص) وأصحابه المؤمنين القلائل الذين كانوا قد التفوا
حوله في مكة.
إنه (ع) لم يكن يتوقع أن يستجيب الناس لدعوته، كان يجمعهم في وسط
المدينة التي يتمركزون فيها ثم يلقي فيهم خطابه الإلهي بهدوء
واطمئنان، والناس يصغون إليه، ويشخصون إليه بأعينهم، بل يستفاد من
سياق الآيات (وكما جاء أيضاً في بعض الروايات) أنه كان أحياناً
يذهب الى بيوتهم، أو أنه يدعوهم في الأزقة والأسواق على انفراد
ويبلغهم المفاهيم ويتحدث إليهم بتودد وتحبب وتصبر، وأحياناً كان
يخاطبهم بأوامر الله تعالى علناً وبصوت عالٍ، وذلك باغتنامه فرص
انعقاد المحافل ومجالس العزاء، ولكنه كان يقابل بالاهانة
والاستهزاء وأحياناً بالضرب المبرح، ولكنه مع ذلك كان لا ينتهي عن
ذلك ويواصل مسيره.
كان (ع) صبره عجيباً، والأعجب ما فيه رأفته، وهمته واستقامته
الفريدة كانت رأس ماله في السير في طريق الدعوة الى دين الحق.
والأعجب من ذلك هو أن طوال عمره الشريف الذي دام (950) عاماً لم
يؤمن به إلا ثمانون شخصاً، ولو قسمنا هذه المدة على عدد الأنفار
يتضح لنا أن مدة هدايته لكل فرد دامت اثنتي عشرة سنة تقريباً !!
لو
كان المبلغون يتعاملون بمثل هذه الاستقامة والهمة لأصبح الاسلام
أكثر انتشاراً وإلتصاقاً بالمجتمعات والأفراد على مستوى العالم..
لماذا الفرار من الحقيقة
نتعجب أحياناً ونتساءل هل يمكن أن يكون هناك أناس يعيشون تحت هذه
السماء ليس لديهم الاستعداد لسماع كلمة الحق بل يفرون منه ؟
التساءل عن السماع فقط وليس عن قبول الكلمة.
ولكن يتحدث لنا التاريخ عن كثرة أمثال هؤلاء. ليس فقط قوم نوح (ع)
هم الذين وضعوا أصابعهم في آذانهم وغشوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم
عند دعوته لهم، بل هناك فئة في عصر النبي (ص) وبصريح القرآن الكريم
كانوا يحدثون غوغاء بالصفير والصراخ العالي والطلب من القاعدة
لديهم بعدم سماع النبي (ص) ليحولوا بين صوت النبي (ص) المفرح وهو
يتلو آيات الله تعالى وبين الناس: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا
لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)
(13)
وجاء في تاريخ كربلاء الدامية كذلك أنه عندما كان سيد الشهداء
الامام الحسين (ع) يدعو الاعداء المنحرفين الى الرشاد والعمل على
إيقاظهم أحدثوا صراخاً عالياً حتى كاد يخفى صوته
(14)، وهذه الخطة والطريقة
مستمرة الى يومنا هذا ولكن بأشكال وصور أخرى، فلقد وفّر أصحاب
الباطل جواً من المسليات غير الصالحة كالموسيقى الراقصة والمواد
المخدرة وغير ذلك يبغون بذلك الفصل بين الناس – وخصوصاً منهم
الشباب – وبين سماع أصوات الهداية والايمان والرشاد الى سبل الخير
والسعادة في الدارين.
الرابطة بين التقوى والعمران
نستفيد من آيات عديدة في القرآن، ومنها الآيات من (10) الى (13)من
سورة نوح (ع)، من أن الايمان والعدالة سبب لعمران المجتمعات،
والكفر والظلم والخطايا سبب للدمار، فمثلاً نقرأ قوله تعالى: (ولو
أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)
(15) وقوله سبحانه (ولو
أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من
فوقهم ومن تحت أرجلهم) (16).
وآيات أخرى من هذا القبيل.
هذه
الرابطة هي ليست رابطة معنوية فحسب، بل هناك رابطة مادية واضحة في
هذا المجال أيضاً بالاضافة الى أن الرابطة المعنوية هي واضحة
الآثار بصورة جيدة.
الكفر وعدم الايمان هو عين عدم الاحساس بالمسؤولية، وهو الخروج من
القانون، وتجاهل القيم الأخلاقية، وهذه الأمور هي التي تسبب فقدان
وحدة المجتمعات، وتزلزل أعمدة الاعتماد والطمأنينة، وهدر الطاقات
البشرية والاقتصادية، واضطراب العدالة الاجتماعية. ومن البديهي أن
المجتمع الذي تسيطر عليه هذه الأمور سوف يتراجع بسرعة، ويتخذ طريقه
الى السقوط والفناء.
وإذا كنا نرى أن هناك مجتمعات يواجهون تقدماً نسبياً في الأمور
المادية وذلك مع كفرهم وانعدام التقوى فيهم، فإن علينا أن نعرف
ايضاً أنه لا بد من أن يكون مرهوناً بالمحافظة النسبية لبعض الأصول
الأخلاقية، وهذا هو حصيلة ميراث الأنبياء والسابقين، نتيجة أتعاب
القادة الالهيين والعلماء على طول القرون، وبالاضافة الى الآيات
السالفة هناك روايات كثيرة أيضاً اعتمدت هذا المعنى وهو أنّ
الاستغفار وترك المعاصي يبعث على إصلاح المعيشة وازدياد الرزق. فعن
الامام أمير المؤمنين (ع): «أكثر الاستغفار تجلب الرزق»
(17).
وفي
حديث آخر عن الرسول (ص) قال: «من أنعم الله عليه نعمة فليحمد الله
تعالى ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن حزنه أمر فليقل: لا حول
ولا قوة إلا بالله».
وفي
نهج البلاغة يقول: «وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدر الرزق
ورحمة الخلق»، فقال سبحانه: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل
السماء عليك مدراراً.
(18)
والحقيقة هي أن الحرمان في هذا العالم سببه العقوبات على الذنوب،
وفي الوقت الذي يتوب فيه الانسان ويتخذ طريق الطهارة والتقوى يصرف
الله تعالى عنه هذه العقوبات.
نسأله سبحانه أن يوفقنا للاستفادة من سيرة حياة النبيّ نوح (ع)
وأسلوبه التعليمي والتبليغي ويعلمنا منه الصبر على ذلك ! إنه سميع
مجيب.
والحمد لله رب العالمين
القرآن الكريم.
تفسير مجمع البيان، للشيخ ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (قدس
سره).
تفسير الميزان، للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قدس سره).
مختصر الميزان في تفسير القرآن، سليم الحسيني.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
التفسير الكاشف، للشيخ محمد جواد مغنية (قدس سره).
التفسير المبين، للشيخ محمد جواد مغنية (قدس سره).
تفسير القرآن الكريم، للسيد عبد الله شبر (قدس سره).
بحار الأنوار، للعلامة المجلسي (قدس سره).
أصول الكافي، للشيخ الكليني (قدس سره).
نور
الثقلين، للعلامة الحويزي (قدس سره).
وسائل الشيعة، للحر العاملي (قدس سره).
(10) مجمع البيان ج 9/ ص 540
(11) بحار الأنوار: ج 11/ص 291 / ح 3
(12) تفسير نور الثقلين: ج5/ص 429
(13) فصلت: 26
(14) بحار الأنوار: ج 45 / ص8
(15) الأعراف: 96
(16) المائدة: 66
(17) تفسير نور الثقلين: ج 5/ص 424
(18) نهج البلاغة: الخطبة 143
|