والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه
المنتجبين.
يقول المولى سبحانه وتعالى:
{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}
(1)
نعم
إن هذا الكتاب الإلهي العظيم الخالي من التعقيد والمجسد لعناصر
التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها، وحيوية عباراته وصراحتها
في عرض المطالب ترغيباً وتهديداً، وطبيعة قصصه الواقعية ذات
المحتوى الاجتماعي والاعتقادي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي الى
غير ذلك، بالاضافة الى قوة دلائله وإحكامها ومنطقه المتين،
واحتوائه على كل ما يلزم من عناصر التأثير... لذا فإن القلوب
المهيأة لقبول الحق والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج
العقل تنجذب بصورة متميزة والشاهد على هذا أن التاريخ الاسلامي
يذكر لنا قصصاً عديدة عجيبة محيرة من حالات التأثير العميق الذي
يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيرة.
ولكن ما العمل حينما تكون روح الحياة لبذرة ما ميتة، حتى لو هيأ
لزراعتها أخصب الأرض، وسقيت بماء الكوثر، واعتني بها من قبل أمهر
المزارعين، فإنها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبداً.
ونحن في جمعية القرآن الكريم، نعمل من خلال هذا الكتاب المقدس من
أجل هداية الانسان الى طريق الرشاد، بأحسن الأساليب ليصل الفرد
والمجتمع من خلال العمل بكلام الوحي الى سعادة الدارين، يقول
الامام القائد السيد علي الخامنئي (دام ظله):
«القرآن يهدي الانسان
الى أفضل طريق، وأفضل عمل، وأفضل أسلوب، وأفضل الأخلاق، وأفضل
الأساليب العملية، للفرد وللمجتمع».
نسأل الله عز وجلّ لجميع الساعين للقرب من ربّ الخلائق أجمعين
ليحصلوا على نور الهداية والمعرفة والرحمة وأن يوفقهم لذلك، إنه
سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين
جمعية القرآن الكريم
دائرة الدراسات
بسم الله
الرحمن الرحيم
الر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا
الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى
إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ
وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ
مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(6) لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ
لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ
إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا
صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ
وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا
مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
(11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ
بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ
غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ
وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ
وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا
وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء
يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ
وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا
أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا
عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ
وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ
وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ
فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن
مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي
الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ
رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا
الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا
لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ
سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ
رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن
كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ
فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا
فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ
كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا
إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ
فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ
الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ
كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا
لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ
إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا
مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ
يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن
فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء
سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا
مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ
تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ
أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ
الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ
أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ
الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ
سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي
رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ
أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ
بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ
بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ
(45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً
مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ
شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً
مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ
فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ
اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ
عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن
نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ
قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ
رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ
اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّىءُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ
رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ
إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا
حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) وَجَاء إِخْوَةُ
يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
(58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ
لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ
وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ
سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ
لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ
قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا
أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ
آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن
قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ
رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ
أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ
اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا
آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم
مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ
يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا
عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68)
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ
إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ
السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ
وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ
نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ
وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم
مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ
(73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74)
قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ
قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ
كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي
دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن
نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا
يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ
مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا
مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ
أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم
مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ
فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ
يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ
إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ
وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ
حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
(82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا
أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ
فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ
حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ
مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ
فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن
رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ
وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ
(88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ
إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ
قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا
إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ
عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى
وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
(93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ
رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ
إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء
الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ
أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(98) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ
وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا
أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا
رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ
السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ
الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ
لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ
هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا
مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ
وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ
غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ
أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ
الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ
بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
هي
مكية، وقد نقل الطبرسي عن ابن عباس أن 4 آيات منها مدنية: الآية
الأولى والثانية والثالثة والسابعة، ومجموع آياتها مائة وإحدى عشرة
آية.
فضلها
وردت في الروايات فضائل مختلفة في تلاوة هذه السورة، نذكر منها ما
قاله النبي (ص): «علموا ارقاءكم سورة يوسف
(ع) فإنه أيما مسلم تلاها
وعلمها أهله وما ملكت يمينه هوّن الله تعالى عليه سكرات الموت
واعطاه القوة أن لا يحسد مسلماً».
وعن
الامام الصادق (ع) قال: «من قرأ سورة يوسف في كل يوم أو في كل ليلة،
بعثه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف
(ع)، ولا يصيبه فزع يوم
القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين»
(2)
جاء
في بعض الروايات التأكيد على تعليم سورة «النور» المشتملة على آيات
الحجاب للنساء، بدلاً من سورة يوسف (ع) لعل السر في ذلك هو ما في
الآيات من ارتباط بإمرأة عزيز مصر وأنها قد تكون سبباً لتحريك بعض
النساء، ولكن سند تلك الروايات بشكل عام لا يعتمد عليه، إضافة الى
الرواية الأولى التي ذكرناها واشارت الى تعليم هذه السورة للعائلة.
ما
ورد في فضائل سور القرآن، ليس معناها القراءة السطحية دون تفكر
وعمل، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر الذي يجرُّ الى العمل.
محتوى السورة
القرآن عكس في ثنايا هذه القصة اسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى
والايمان، حتى لو أن إنساناً قرأها عدّة مرات فإنه يتأثر عند كل
قراءة بأسلوبها الجذّاب، ولذا فقد عبر عنها بـ (أحسن القصص) وجعل
فيها عبرة لـ (أولي الألباب)
1-
جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة
تبين قصة نبي الله يوسف (ع) لذلك سميت بإسمه.
2-
التدقيق في هذه السورة الواقعية، يكشف أن القرآن معجز في جميع
أبعاده، لأن الأبطال الذين يقدّمهم في قصصه أبطال حقيقيون لا
خياليون:
فإبراهيم (ع): البطل الذي حطّم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل
المساومة مع الطغاة.
ونوح (ع): بطل الصبر والاستقامة والشفقة والقلب المحترق في ذلك
العمر الطويل المبارك.
وموسى (ع): البطل المربي لقومه اللجوجين، والذي وقف بوجه فرعون طاغٍ
وعاصٍ.
ويوسف (ع): بطل الورع والتقوى والطهارة.. أمام امرأة محتالة جميلة
عاشقة.
من
خلال هذا تتجلى القدرة البيانية للوحي القرآني في قضية حساسة يذكر
احداثها بدقة متناهية، ولكن تحفّها أشعة قوية من التقوى والطهارة.
قصة
يوسف (ع) قبل الاسلام وبعده:
هذه
القصة مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الاسلام، لأنها مذكورة في 14
فصلاً من (سفر التكوين) في التوراة، والمطالعة الدقيقة فيها تكشف
مدى الاختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.
وبالمقارنة بين نصّ التوراة ونص القرآن نجد أن نص القصة في القرآن
في غاية الصدق والخلوّ من أي أنواع الخرافات.
خصائص هذه السورة:
أ-
إن من خصائص قصة يوسف (ع) أنها ذكرت في مكان واحد من القرآن، على
خلاف قصص الأنبياء التي ذُكرت على شكل فصول مستقلة في سور متعددة
من القرآن.
وهذه الخصوصية إنما كانت لأن تفكيك فصول هذه القصة يفقدها ترابطها
وانسجامها ويجب أن تذكر كاملة في مكان واحد للحصول على النتيجة
المتوخاة منها.
ب-
الخصيصة الأخرى، هي أن قصص الأنبياء والتي وردت في السور الأخرى
تبين عادة مواجهة الأنبياء لقومهم المعاندين والطغاة، ثم تنتهي
الحالة الى ايمان جماعة بالأنبياء ومخالفة جماعة أخرى لهم الى أن
ينالوا عذاب الله تعالى وعقابه.
أما
في قصة يوسف (ع) فلا كلام عن مثل هذا الموضوع، بل أكثر ما فيها بيان
حياة يوسف نفسه وعبوره من المزالق الشديدة التي تنتهي أخيراً الى
حكومة «قوية» وهي في حد ذاتها «أنموذج» خاص.
الر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا
الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى
إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ
وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ
مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(6) لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ
لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ
إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا
صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ
وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا
مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
(11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ
بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ
غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14)
رؤياك: الرؤيا تصور المعنى في
المنام وتوهم الابصار.
فيكيدوا: الكيد طلب الحيلة.
يجتبيك: يختارك.
تأويل: الشيء الاخبار بمآله
وعاقبته.
آيات: المراد بها هنا العبر.
عصبة: الجماعة التي يتعصب بعضها
لبعض.
غيابة الجُبّ: غوره وما غاب منه عن عين
الناظر، وكل ما غيب شيئاً وستره فهو غيابة.
السّيّارة: جمع سيّار، وهو المسافر.
يرتع: أي يتنعم.
التفسير
أحسن القصص
{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (1)
تبدأ السورة بالحروف المقطعة «ألف. لام. راء» وهي دلالة على عظمة
القرآن، وأن تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكوّن من أبسط
الأجزاء، وهي حروف الهجاء «ألف.باء...الخ «وقد تحدثنا عن الحروف
المقطعة في بداية سورة مريم (عليها السلام) فلا حاجة للتكرار. تلك
إشارة الى آيات هذه السورة، والكتاب المبين هو القرآن المظهر لحلال
الله وحرامه وللمعاني المرادة فيه.
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} (2)
المعنى ظاهر، وهو أن الله سبحانه أنزل القرآن بلغة العرب ليدركوا
سرّه وعظمته، ويعقلوا معانيه، ويعملوا بها، روى ابن عباس عن النبي
(ص) قال: «أحبُّ العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل
الجنة عربي»، وحبذا لو أستفيد بجزءٍ من الأوقاف العامة والحقوق
الشرعية لانتشار اللغة العربية وبناء كليات لهذه الغاية في البلاد
الاسلامية وكل بلد فيه مسلمون من غير العرب ففي ذلك خدمة جليلة
وعظيمة للمسلمين ولمعرفة القرآن الكريم.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ} (3)
المراد بالقصص أنباء الرسل التي جاءت في القرآن الكريم، وهي أحسن
الأنباء لما فيها من العبر والحكم (وإن كنت من قبله لمن الغافلين)
عن هذه الأنباء لأنها حدثت منذ قرون، وهي مجهولة على وجه العموم،
وهذا دليل قاطع على أنها وحي من الله عز وجلّ.
بداية قصة يوسف (ع)
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
سَاجِدِينَ} (4)
ابتدأ سبحانه بقصة يوسف (ع) وهو ابن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم
الخليل (ع) ويسمى يعقوب إسرائيل أيضاً، وكان معناه عبد الله الخالص،
أما اليوم فإن اسرائيل الدولة الصهيونية فهي عبد التسلط والاستعمار
وقاعدته.
في
ذات يوم رأى يوسف (ع) رؤيا قصّها على أبيه يعقوب (ع)، وهي أنه رأى في
منامه أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سُجداً له، فعلم أبوه أن هذه
الرؤيا صادقة، واستبشر خيراً بمستقبل ولده، وقد ذكر المفسرون أن
عمر يوسف (ع) كان أنذاك سبع سنين، وكان جميل الهيئة، يضرب المثل
بحسنه وجماله، كما يظهر من مجرى القصة وحوادثها، أما الشمس والقمر
فأبواه والكواكب فهم اخوته هذا في التأويل.
{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ
فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ
عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5)
خاف
عليه أبوه من إخوته إن هم سمعوا منه ما سمع، وفهموا ما فهم، لأنه
يعرف غيرتهم مما خصه به من الحب والاعزاز، فنصحه أن لا يحدثهم
برؤياه خشية أن يثر حقدهم، وأن يغريهم الشيطان بالكيد له، ونصب
الحبائل لهلاكه.
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ
يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (6)
أي
يصطفيك على غيرك، ويفيض عليك بأنواع الكرامات، وقيل: المراد بتأويل
الأحاديث تعبير الرؤيا، لأن يوسف (ع) قد بلغ الغاية في تفسيرها
ومعرفة مآلها ولكن ظاهر اللفظ أعم من ذلك.
والأنسب بنبوة يوسف (ع) أن يكون تأويل الأحاديث كناية عن معرفة
الحقائق، وأن الله سبحانه سيعلمه ما لم يكن يعلم.
وأما نعم الله سبحانه عليه فهي لا تعد ولا تحصى، وأكملها اطلاقاً
النبوة والرسالة، وقد أنعم الله تعالى بها على ابراهيم (ع) جد
يعقوب، وعلى اسحاق (ع) جد يوسف، وعلى يعقوب (ع) نفسه، وسينعم بها على
يوسف (ع) بعد هذه الرؤيا، وعلى أكثر من واحد من أحفاد يعقوب، إن ربك
عليم بمن يجتبيه ويصطفيه للنبوة والرسالة، حكيم في هذا الاصطفاء
وفي جميع قضاياه.
مواجهة إخوة يوسف (ع)
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (7)
أي
في قصة يوسف (ع) مع إخوته عبر ومواعظ تستحق أن يسأل عنها الناس،
وأيضاً في حديث النبي (ص) عنها دلائل قاطعة على صدقه في رسالته.
وإخوة يوسف (ع) هم: روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهودا وريالون
ويشجر وأمهم ليا، وهي ابنة خالة يعقوب (ع) ثم توفيت ليا فتزوج
يعقوب (ع) أختها راحيل فولدت له يوسف (ع) وبنيامين،وولد له من سريتين
له اسم احداهما زلفة والأخرى بلهه اربعة بنين دان ونفتالي وحاد
وآشر وكانوا اثني عشر ولداً.
{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا
وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (8)
لما
رأى أبناء يعقوب (ع) ميل أبيهم الى يوسف (ع) وأخيه بنيامين وهما من
أم ثانية اسمها راحيل غلى الحقد والحسد في قلوبهم، وقال بعضهم
لبعض: ما الذي حمل هذا الشيخ على أن يؤثر هذين الصبيين علينا، ونحن
أكبر سناً، وأشد قوة وأكثر نفعاً وخدمة.إن هذا هو الحيف والضلال..
أثر
الحسد المدمّر
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} (9)
لقد
تآمروا على قتله، لا شيء باعترافهم إلا ليحتكروا عطف أبيهم من
دونه.. وهذا هو منطق الاحتكار والأنانية.. اقتل وشرد.. حتى الأقارب
والأرحام حرصاً على الأرباح والمكاسب الآنية، فهم أرادوا صلاح
شأنهم مع أبيهم، وأن يتفرغ لهم وحدهم.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي
غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ
كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} (10)
القائل هو روبين ابن خالة يوسف (ع) نهى عن قتله، وأشار عليهم أن
يرموه في قعر البئر يتناوله بعض المسافرين فيذهبوا به الى ناحية
أخرى، فليكن هذا فعلكم دون القتل، وقد كان في نيته أن يخرجه من
الجب بعد ذهاب اخوته.
المؤامرة المشؤومة
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ
وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} (11)
أي
مالك لا تثق بنا ولا تعتمد علينا في أمر يوسف (ع) ونحن مخلصون في
إرادة الخير به، هكذا الغادر الماكر في كل زمان ومكان، ذئب في جلد
حمل.
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} (12)
سألوا أباهم أن يرسله معهم الى مرتعهم الذي كانوا يخرجون إليه
ماشيتهم ليرتع ويلعب هناك ويفرح، ووعدوه بأنهم سيحرسونه من كل
مكروه.
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} (13)
اعتذر إليهم بأنه لا يطيق فراق يوسف (ع)، فضاعف هذا العذر من حقدهم
على يوسف (ع)، أيضاً اعتذروا بأنه يخاف عليه من الذئب - وكانت أرضهم
مذأبة - فينال منه وأنتم مشغولون بأشغالكم.
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا
إِذًا لَخَاسِرُونَ} (14)
أي
نحن جماعة متعاضدون متناصرون نرى الذئب قد قصده ولا نمنعه منه،
فنكون كالذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم على رغم منهم، فإذا عجزنا لا
نصلح لشيء، ونقع بالخسارة.
فَلَمَّا
ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ
الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ
هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء
يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ
وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا
أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا
عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ
وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ
وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ
فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن
مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي
الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ
رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا
الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا
لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ
سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ
رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن
كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ
فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا
فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30)
نستبق: الاستباق من السبق، ومنه
المسابقة، ويكون برمي السهام على الخيل والابل، وعلى
الاقدام.
متاعنا: المراد به هنا ما يحمله
المسافر من زاد ولباس.
سوّلت: زيّنت.
واردهم: الوارد هو الذي يتقدم
القوم ليستقي لهم.
يا بشرى: كلمة تقال عند البشارة، مثل
يا عجباً تقال عند التعجب.
وأسرّوه: أي أنهم وجدوه في الجب:
وقالوا: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم.
بضاعة: أي سلعة ومكسب.
وشروه: أي باعوه.
بخس: نقص من الحق، يقال: بخسه
الكيل إذا أعطاه دون حقه.
أكرمي مثواه: الثواء الاقامة، والمثوى
موضع الاقامة، والمراد بأكرمى مثواه أحسني معاملته.
مكّنا ليوسف في الأرض: جعلنا له مكانه فيها.
بلغ أشده: أي استكمل قوته جسماً
وعقلاً.
وراودته: المراودة المطالبة برفق
ولين مع ضرب من المخادعة.
هيت: أقبل أو أسرع.
وهمّ: لها معانٍ، منها العزم،
ومنها خطور الشيء بالبال دون العزم عليه، ومنها الرغبة
كقول القائل: هذا أهم الأشياء إليّ.
واستبقا الباب: تسابقا إليه.
قُدّت: شقّ الشيء طولاً أي قطعت
قميصه طولاً من خلف.
وألفيا: أي وجدا.
شغفها: أي بلغ شغاف قلبها، وهو
غلاف القلب على هيئة الكيس.
التفسير
الكذب المفضوح
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي
غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (15)
فلما نفذوا ما أجمعوا عليه، وهم يحسبون أنهم قد أصابوا ما يريدون..
ولكن يوسف (ع) فوّض أمره الى الله سبحانه فوقاه سيئات مكرهم، فألقى
الله تعالى في روعه أنك ناج من محنتك هذه، وأنك سوف تخبرهم
بصنيعهم، هذا دون أن يعرفوا من أنت.
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} (16)
يعني وانقلب إخوة يوسف (ع) الى ابيهم ليلاً، ليلبسوا على أبيهم
وليكونوا أجرأ على الاعتذار، وإنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم
صادقون، يروى أن امرأة خاصمت رجلاً عند القاضي وبكت، فقال بعض من
حضر للقاضي: ما أظن هذه البائسة الا مظلومة. فقال له القاضي: إن
إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.
{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (17)
أي
يا أبانا إنا معشر الأخوة ذهبنا الى البيداء نتسابق، وتركنا
يوسف (ع) عند رحلنا ومتاعنا فأكله الذئب، ومن خيبتنا ومسكنتنا أنك
لست بمصدق لنا فيما نقوله، ونخبر به ولو كنا صادقين فيه.
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (18)
معناه أن إخوة يوسف (ع) جاؤوا أباهم ومعهم قميص يوسف (ع) ملطخاً بدم
فقالوا له هذا دم يوسف حين أكله الذئب، وقيل أنهم ذبحوا سخلة
وجعلوا دمها على قميصه وقيل ظبياً ولم يمزقوا ثوبه ولم يخطر ببالهم
أن الذئب إذا أكل إنساناً فإنه يمزق ثوبه، ليس الأمر على ما
تخبرون،بل وسوست لكم أنفسكم فيه امراً علمتموه.
جاء
في بعض الروايات أن يعقوب (ع) أخذ قميص يوسف (ع) وهو يقلّبه ويقول:
فأين مكان أنياب الذئب وأظفاره ؟! وفي رواية أخرى: ألقى القميص على
وجهه وطفق يبكي، ويقول: أي ذئب مشفق هذا الذي أكل ولدي ولم ينل
قميصه منه سوء ؟! ثم غشي عليه وسقط على الأرض كالخشبة اليابسة،
فصاح بعض الاخوة: ويلنا من عدل الله يوم القيامة، فقدنا أخانا
وقتلنا أبانا وبقي الأب مغشياً عليه حتى السحر، فلما هبّ النسيم
ومرّ بوجهه أفاق من غشيته.
وبالرغم من احتراق قلبه وتلهّب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على
عدم الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل صبر مستعيناً بالله
تعالى على تحمّل مرارة الصبر عليه ومكث يوسف (ع) في الجب ثلاثة
أيام.
نحو
أرض مصر
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى
دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (19)
جاءت جماعة من قبل مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون
على غير الطريق حتى نزلوا قريباً من الجب وكان بعيداً عن العمران
وهو للرعاة والمارة وكان ماؤه مالحاً فعذب، فبعثوا من يطلب لهم
الماء يقال بعثوا رجلاً يقال له مالك بن زعر، فأرسل دلوه في البئر
ليستقي فتعلق يوسف (ع) بالحبل فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون
من الغلمان: قال النبي (ص): أعطي يوسف شطر الحسن، والنصف الآخر
لسائر الناس.
قال
مالك: (يا بشرى هذا غلام) وقيل أن بشرى رجل من أصحابه ناداه،
فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة، والحال أن الله سبحانه عليم
بما يعملون يؤاخذهم عليه، وكان يسير يوسف (ع) بهذا المسير، ليستقر
في مستقر العزّة والملك والنبوة.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا
فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} (20)
أي
السيارة الذين أخرجوه من الجب، باعوه بثمن ناقص قليل، والذين
اشتروه كانوا من الزاهدين في شرائه لأنهم وجدوا علامة الأحرار
وأخلاق أهل البر والنبل فلم يرغبوا فيه مخافة أن يلحقهم تبعة في
استعباده.
يوسف (ع) في قصر عزيز مصر
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي
مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (21)
عرض
يوسف (ع) للبيع في أسواق مصر، فاشتراه العزيز، وهو لقب لأكبر وزراء
الملك وأمنائه، وقد توسم العزيز في يوسف (ع) الذكاء والنجابة، فأوصى
به خيراً، وقال لامرأته: أحسني معاملته، وأكرمي إقامته عندنا، وعلل
ذلك بأنه يرجو إذا بلغ يوسف (ع) أشده أن يقوم بتدبير شؤونهم، أو
يتبنوه، لأن العزيز كان عقيماً، لا ولد له، وكما أنعمنا على
يوسف (ع) بالسلامة والخروج من الجب مكنّاه في الأرض التي كان يستولي
عليها الملك وهي أرض مصر، وكذلك علّم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا،
الذي كان يوسف (ع) قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من
خلاله، والله سبحانه أجلس يوسف (ع) على عرش الاقتدار بواسطة إخوته،
الذين تصوروا أنهم سيقضون عليه في تركهم إيّاه في غيابة الجب،
والله لا يغلبه شيء، حتى بلّغه ما قدّر له.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (22)
المعنى أن يوسف (ع) بعد أن استكمل الرشد منحه الله سبحانه العلم،
ووفقه الى العمل به، وقيل المراد بالعلم هنا، النبوة وليس هذا
ببعيد لأن يوسف (ع)من الأنبياء، ولقد أحسن بصبره وطاعته لله تعالى،
فأحسن الله عز وجل إليه، لأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
عشق
امرأة العزيز
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ} (23)
أي
طلبت زليخا من يوسف (ع) أن يواقعها، وأحكمت غلق الأبواب، وكانت
سبعة أبواب، وقالت له اقبل وبادر الى ما هو مهيأ لك، فأظهر (ع)
الإباء وسأل الله سبحانه أن يعيذه ويعصمه من فعل ما دعته إليه، إنه
أي العزيز زوجك مالكي أحسن تربيتي واكرامي وبسط يدي ورفع منزلتي
فلا أخونه، وقيل المعنى: أن الله سبحانه ربي رفع من محلي وأحسن إليّ
وجعلني نبياً فلا أعصيه أبداً ولو فعلت ما دعيت إليه لكنت ظالماً،
وخرجت من تحت ولايته.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (24)
ذكر
وجوه لتفسير الآية، ولكن أنقل أحدها إستناداً الى ما نقل عن الامام
علي بن موسى الرض (ع) حيث سأله المأمون «الخليفة العباسي» قائلاً:
ألا تقولون أن الأنبياء معصومون ؟ فقال الامام: «بلى». فقال: فما
تفسير هذه الآية {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا
أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فقال (ع): «لقد همت به، ولولا أن رأى
برهان ربّه لهمّ بها كما همّت، لكنه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ
بذنب ولا يأتيه «فقال المأمون: لله درّك يا ابا الحسن».
والله سبحانه مع المتقين الذين يلتجؤن إليه مخلصين، فيحرسهم
ويصونهم ممن أراد بهم سوءاً، أو حاول أن يوقعهم في الضلالة
والغواية، تماماً كما فعل بيوسف (ع)، التجأ الى ربه، وخاطبه مخلصاً
(.. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العيم).
مكر
امرأة العزيز المفضوح
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ
أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} (25)
أسرع يوسف (ع) الى الباب هرباً منها، فعدت وراءه لترده إليها، فجذبت
قميصه وشقته طولاً من خلفه، وقد انفتحت الأبواب، فلما فر خرجا وجدا
زوجها عند الباب، فقالت: لزوجها ليس جزاء من أراد بأهلك خيانة إلا
أن يسجن أو أن يضرب بالسياط ضرباً وجيعاً.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ
أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (26)
لما
اتهمته المرأة بالخيانة لم يجد يوسف (ع) بداً من تنزيه نفسه بالصدق
ولو كفّت عن الكذب عليه لكفّ (ع) عن الصدق عليها. فقال: هي التي
طالبتني بالسوء الذي نسبتني إليه (وشهد شاهد من أهلها) قيل كان
صبياً وهو ابن أخت زليخا وهو ابن ثلاثة أشهر وقيل كان رجلاً وهو
ابن عم زليخا وكان جالساً مع زوجها عند الباب، فقال: إن كان قميصه
شق من قدّامه (فصدقت وهو من الكاذبين) لدلالته على أنه قصدها
فدفعته.
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ
الصَّادِقِينَ} (27)
أي
(وإن كان قميصه) شقّ من الخلف (فكذبت) المرأة ويوسف (ع) (من
الصادقين) لأنه الهارب وهي الطالبة وهذا أمر ظاهر واستدلال صحيح.
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ
كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (28)
فلمّا رأى العزيز قميص يوسف (ع) مشقوقاً من خلف، قال: إن الأمر من
كيدكن معاشر النساء إن كيدكنّ عظيم.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ
كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (29)
أي
قال العزيز ليوسف (ع): أكتم أمرها ولا تخبر أحداً بما حدث حتى لا
يفشو في البلد. وقال لها: استغفري الله من ذنبك وتوبي إليه فإن
الذنب كان منك لا من يوسف (ع). فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع
عبادتهم الأصنام.
مؤامرة امرأة العزيز الأخرى
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ
تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا
لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (30)
ولكن الخبر شاع وذاع في مصر، وبالخصوص على ألسنة النسوة ان امرأة
العزيز افتتنت بغلامها، ودعته لنفسها، ولكنه عزف عنها وزهد فيها،
وقد اجترحت بهذا خطيئة لا تغتفر.
(1) القمر:
17
(2) مجمع
البيان في بداية تفسير السورة
|