لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

تفسير سورتي يوسف ونوح (ع)

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الطبعة الأولى، ذو القعدة 1431هـ // 2010م

سورة يوسف (1)

سورة يوسف (2)

سورة يوسف (3)

سورة نوح

 اللغة والبيان (6)

54

 اللغة والبيان (7) 63

 دروس من قصة يوسف (ع)

72

 


  اللغة والبيان (6)


قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95)


 

استيأسوا: ويئسوا بمعنى واحد.

 خلصوا: انفردوا عن الناس.

 نجياً: أي متناجين متشاورين.

 موثقاً: أي عهداً.

 فرّطتم: قصّرتم.

 فلن أبرح: لن أفارق.

 سوّلت لكم أنفسكم: أي زينت.

 وابيضت عيناه: كناية عن كثرة البكاء. وقيل: أصاب عينيه غشاوة بيضاء غطت على البصر.

 كظيم: الكظم تجرع الغيظ وامساكه في القلب.

 حرضاً: الحرض المشرف على الهلاك، وهو لا يجمع ولا يثنى لأنه مصدر.

 بثي: بث الخير أظهره وأذاعه، والمراد بالبث هنا الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه.

 فتحسسوا: التحسس طلب الشيء بالحواس كالسمع والبصر.

 الضرّ: المراد به هنا المجاعة.

 ببضاعة مزجاة: رديئة أو قليلة، ويقال: أزجى الشيء إذا دفعه برفق، ومنه قوله تعالى: «ألم ترَ أنّ الله يزجي سحاباً».

 آثرك: اختارك وفضلك.

 تثريب: التعنيف والعقوبة، يقال: ثرّب فلان على فلان اذا عدد ذنوبه عليه.

 فصلت العير: تجاوزت المكان الذي كانت فيه.

 تفندون: الفند ضعف الرأي والمراد تسفّهون رأيي وتقولون قد خرف من الكبر.

 لفي ضلالك: أي خطئك.

 


التفسير


{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} (79)

أي أعوذ بالله تعالى أن آخذ البريء بجرم السقيم، بل نأخذ من وجدنا متاعنا عنده، ولو عكسنا ذلك لكنا ظالمين. والله يتعالى ويجل عن ذلك علواً كبيراً.

رجوع الأخوة الى أبيهم خائبين:

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (80)

بعد اليأس من تنازل العزيز عن بنيامين، انفرد أولا يعقوب (ع) عن الناس وتناجوا فيما بينهم: ماذا يصنعون ؟ وأي شيء يقولون لأبيهم (قال كبيرهم) وهو روبين أو لاوي ابن خالة يوسف (ع) الذي نهى اخوته عن قتله، قد استحلفكم أبوكم أن تردوا عليه بنيامين، فماذا تقولون له بعد أن جمعتموه بيوسف (ع) من قبل، فهو لا يصدقكم، وإن نطقتم بالصدق.

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} (81)

هذا قول كبيرهم، فهو يوصي اخوته أن لا يقولوا لأبيهم إلا الحق، وذلك بأن يخبروه بأنهم رأوا غلمان العزيز يستخرجون مكيال الملك من وعاء بنيامين وأنّ العزيز أصرّ على أخذه.. هذا ما شاهدناه، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك، ولو علمنا الغيب ما سألناك أن تسمح لنا به، ولا أعطيناك العهد وبأن نرجعه اليك، وقد بذلنا المجهود، واعذرنا الى الله واليك.

{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (82)

أي اسأل أهل مصر، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة، واسأل أيضاً القافلة التي جئنا معها من مصر، فقد رأت ما راينا، وهي الى جوارك في أرض كنعان لتدرك صدقنا فيما أخبرناك به.

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (83)

 


الصبر الجميل

لما رجعوا الى أبيهم وأخبروه بما حدث قال: كلا بل زيّنت لكم أنفسكم الكيد لولدي، كما فعلتم من قبل بأخيه يوسف (ع) وهل من وسيلة في هذا الموقف وأمثاله الا الصبر على مضض الألم ؟ قال هذا حين غاب عنه بنيامين، ومن قبل قال حين غاب يوسف (ع) (والله المستعان على ما تصفون) هذا هو شعار الصالحين، يحزنون وهم في جميع الحالات على الله متوكلون كما قال سيد الأنبياء وخاتم الرسل محمد (ص): «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول الاّ ما يرضي ربنا» (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) وهم يوسف (ع) وبنيامين، والأخ الثالث الذي بقي بجوار أخيه في مصر.. وفي كلمة عسى شعاع الأمل، وبالخصوص، إذا كانت ممن يؤمن بالغيب ايمانه بالواقع الملموس كالأنبياء والصديقين، والله سبحانه يعلم حزني وألمي، ويدبر الأمور على حكمته.

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (84)

اعتزل الناس ليندب فراق ولده بنيامين حزناً على حزن وبكاء على بكاء حتى ابيضت عيناه من الحزن وأصيبتا بالقرحة من آثار البكاء، فهو يتنفس منهما بالدموع، كما يتنفس من رئتيه بالآهات والحسرات ويتجرع الغيظ ويتجلد، ولكن على حساب جسمه وأعصابه.

{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (85)

المعنى أن أولاد يعقوب قالوا له: لا تزال تلهج بذكر يوسف (ع) حتى تمرض أو تموت بلا جدوى لأن يوسف (ع) ذهب ولن يعد.

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (86)

إني لست اشكو بثي وحزني إليكم معاشر ولدي وأهلي، وإنما أشكو ذلك الى الله سبحانه وأعلم من الله تعالى ما لا تعلمون، فلست أيأس من روحه ولا أقنط من رحمته.

 


اسعوا وحاولوا ولا تيأسوا فإن اليأس علامة الكفر

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (87)

أي استخبروا من شأنهما واطلبوا خبرهما وانظروا ان ملك مصر ما اسمه وعلى أيّ دين هو فإنه ألقي في روعي ان الذي حبس بنيامين هو يوسف (ع) وإنما طلبه منكم وجعل الصاع في رحله احتيالا في حبس أخيه عند نفسه، ولا تقنطوا من رحمة الله سبحانه، إنه لا يقنط من رحمته إلا الذين يؤمنون بأن الله تعالى يقدر أن يكشف كل غمه وينفس عن كل حزنه.

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} (88)

أوصى يعقوب (ع) بنيه أن يعودوا الى مصر، فقبلوا منه، وعادوا إليها مرة ثالثة – ودخلوا على العزيز منكسرين مسترحمين وبدأوا بالشكوى من الجهد والمجاعة.. مسنا وأهلنا الضر.. تصدق علينا.. ان الله يحب المتصدقين.. وإذا جئناك ببضاعة لا تليق فلأن الدهر غير مؤات.. وجاءت النتيجة فوق ما يتصورون.

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} (89)

بعد أن استمع يوسف لاستعطاف اخوته وتضرعهم، وعرف بؤس أهله وحاجتهم رقّ وتغلبت عليه عاطفة الرحم وقرابة الدم، وقال لهم معاتباً أو واعظاً: أتذكرون يوماً استجبتم فيه لدعوة الشيطان، فألقيتم بأخيكم يوسف في غيابة الجب، وأذقتم أخاه بنيامين من بعده صنوف الأذى ؟ ألم تقولوا بالأمس القريب: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ؟ وهل يفعل الجاهل أكثر من فعلكم هذا ؟

{قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (90)

حين قال يوسف (ع) لإخوته ما قال تذكروا ما كانوا يعرفونه من ملامح وجهه، ونبرات صوته، واشارات يده.. ومهما يكن فقد إلتمع في خاطرهم أو خاطر بعضهم أنه يوسف (قالوا أئنك لأنت يوسف) قالوا هذا وانتظروا الجواب، فكانت المفاجأة التي لا تخطر على بال (قال أنا يوسف وهذا أخي) المظلوم كظلمي (قد منّ الله علينا) بالاجتماع وبخير الدنيا والآخرة.

ومن يتق الله سبحانه ويصبر على المصائب (فإن الله لا يضيع أجر) من كان هذا حاله.

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (91)

اعترفوا بأن الله فضله عليهم علماً وعقلاً، وكمالاً وجمالاً، وأخيراً بالجاه والسلطان.. وأقروا بالذنب، وطلبوا العفو والصفح، ويوسف (ع) كريم وابن كريم.

{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (92)

عفى يوسف (ع) عما مضى بلا تعنيف وتأنيب، ودعا الله تعالى أن يغفر لهم ما فرط منهم، ولمن تاب وأناب.

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (93)

قيل أنه (ع) لمّا عرّفهم نفسه سألهم عن أبيه فقال ما فعل أبي بعدى قالوا ذهبت عيناه فقال اذهبوا بقميصي هذا واطرحوه على وجهه يعد بصيراً كما كان من قبل (وأتوني بأهلكم أجمعين) إذا عاد بصيراً وهذا كان معجزاً منه. وقيل أن يوسف (ع) قال إنما يذهب بقميصي من ذهب به أولاً فقال يهوذا أنا ذهبت به وهو ملطخ بالدم فأخبرته أنه أكله الذئب قال فاذهب بهذا أيضاً وأخبره أنه حيّ وأفرحه كما حزنته فحمل القميص وخرج حافياً حاسراً حتى أتاه وكان معه سبعة أرغفة وكانت مسافة بينهما ثمانين فرسخاً فلم يستوف الأرغفة في الطريق.

 


وأخيراً شملتهم رعاية الله سبحانه ولطفه

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} (94)

لمّا خرجت القافلة وانفصلت من مصر متوجهة نحو أرض كنعان قال يعقوب (ع) لأولاد أولاده الذين كانوا عنده: إني أشم رائحة قميص يوسف (ع) وأقطع بها لو لا أن تقولوا أنه شيخ قد هرم.

{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} (95)

المعنى أن الذين حضروا مجلس يعقوب (ع) قالوا له: أنت مخطىء في إصرارك وانتظارك يوسف (ع) الذي ذهب كما ذهب غيره من الأموات.

 


  اللغة والبيان (7)


فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)


 

آوى إليه أبويه: ضمهما إليه.

 العرش: السرير الذي يجلس عليه الملك أو الرئيس.

 تأويل رؤياى: تفسيرها بما تؤول إليه.

 نزغ الشيطان: أفسد.

 فاطر السماوات والأرض: خالقهما على غير مثال سابق.

 غاشية: الغشاء الغطاء، والمراد بالغاشية هنا العقوبة الشاملة.

 الساعة: القيامة.

 بغتة: فجأة.

 سبيلي: السبيل الطريق، والاسلام طريق الى الخير دنيا وآخرة.

 بصيرة: المراد بها هنا الحجة الواضحة.

 استيأس: بمعنى يئس.

 وظنوا: هنا بمعنى تيقنوا.

 باسنا: عقابنا.

 عبرة: كل حادثة تعبّر لك عما تهتدي به وتتعظ.

 الألباب: جمع لب، وهو عقل الانسان، وسمي العقل لباً لأنه أفضل ما في الانسان.

 


التفسير


{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (96)

ما أخطأ يعقوب (ع) في حدسه، فلقد جاء البشير يحمل قميص يوسف (ع)، وما أن مس وجه يعقوب (ع) حتى عادت إليه نعمة البصر، وسعادة الحياة، قال (ع): (ألم أقل لكم إني أعلم) أن الله يصدق رؤيا يوسف (ع) ويكشف الشدائد عن أنبيائه بالصبر وكنتم لا تعلمون ذلك.

{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (97)

ندم أخوة يوسف (ع) على فعلتهم، وتابوا من خطيئتهم، وسألوا اباهم أن يدعو الى الله تعالى أن يقبل منهم التوبة، ويغفر لهم الذنب، وشرطوا على أنفسهم ان لا يعودوا الى معصية.

{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (98)

إنما لم يستغفر لهم في الحال لأنه أخرهم الى سحر ليلة الجمعة، وروي ذلك عن أبي عبد الله (ع) وقيل أخرهم الى وقت السحر لأنه أقرب الى إجابة الدعاء.

 


عاقبة أمر يوسف (ع) وأبيه وإخوته

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (99)

فلما خرج يعقوب (ع) وأهله من أرضهم وأتوا مصر دخلوا على يوسف (ع) فضمهما إليه وأنزلهما عنده يعني بأبويه أباه وخالته فسمى الخالة أماً لأن أمه راحيل توفيت بعد ولادة بنيامين – وقال لهم قبل دخولهم مصر: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوازهم.

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (100)

أجلس أبويه على سرير ملكه إعظاماً لهما، وانحطوا على وجوههم وكانت تحية الناس بعضهم لبعض يومئذ السجود والانحناء.. وقيل: ان ضمير له عائد الى الله سبحانه، وأن السجود كان شكراً له تعالى على هذه النعمة الكبرى..

 (وقال) يوسف (ع) (يا أبت) هذا تفسير رؤياي وتصديق رؤياي التي رأيتها، قد جعلها ربي صدقاً في اليقظة، وقد أحسن ربي إليّ حيث أخرجني من السجن وأنعم عليّ به، وجاء بكم من البادية من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي (إن ربي لطيف لما يشاء) في تدبير عباده يدبّر أمرهم على ما يشاء، ويسهّل لهم العسير وبلطفه حصلت هذه النعم علينا، فهو سبحانه عليم بجميع الأشياء، وتجري أفعاله وأحكامه على وفق الحكمة.

{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (101)

بعد أن حدث يوسف (ع) بنعم الله عليه توجه إليه تعالى شاكراً ما بسط له من الملك، وما خصه به من النبوة، متوكلاً عليه في جميع شؤونه، ومتوسلاً إليه أن يميته على طاعته ومرضاته، وأن يلحقه بصالح من مضى من آبائه، ويجعله من صالح من بقي من أبنائهم.

 


هذه القصة آية من الآيات التي تدل على صدق ما جاء به (ص)

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون} (102)

بعد تمام القصة عاد الى خطاب النبي (ص) فقال: الذي قصصت عليك من قصة يوسف (ع) يا محمد، هو من جملة إخبار الغيب (نوحيه إليك) على ألسنة الملائكة لتخبر به قومك ويكون دلالة على إثبات نبوتك ومعجزة دالة على صدقك، وما كنت عند أولاد يعقوب (ع) إذ عزموا على إلقائه في البئر واجتمعت آراؤهم عليه، وهم يحتالون في أمر يوسف (ع) حتى ألقوه في الجب.

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (103)

أي وليس أكثر الناس بمصدّقين ولو حرصت على إيمانهم وتصديقهم واجتهدت في دعائهم وإرشادهم إليه لأن حرص الداعي لا يغني شيئاً إذا كان المدعو لا يجيب.

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (104)

أي ولا تسألهم على تبليغ الرسالة وبيان الشريعة أجراً فيصدهم ذلك عن القبول ويمنعهم من الايمان ويثقل عليهم ما يلزمهم من الغرامة فأعذارهم منقطعة، وما القرآن الكريم إلا موعظة وعبرة وتذكير للخلق أجمعين، فلست بنذير لهؤلاء خاصة.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (105)

أي كم من حجة ودلالة تدل على وحدانية الله تعالى من الشمس والقمر والنجوم في السماء ومن الجبال والشجر وألوان النبات وأحوال المتقدمين وآثار الأمم السالفة في الأرض (يمرّون عليها) ويبصرونها ويشاهدونها وهم عن التفكر فيها والاعتبار بها معرضون لا ينتبهون.

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (106)

أي أنهم يقرون بوجود الخالق، ولكن أكثرهم يجعل له شريكاً، فاليهود أو طائفة منهم يقولون: لله ولد هو عزير، والنصارى يقولون: بل المسيح، والعرب يشركون الأصنام في العبادة، ويخاطبون الله بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.. ولا فرق بين من جحد وأشرك.

{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (107)

أي أفأمن هؤلاء الكفار أن يأتيهم عذاب من الله سبحانه يُعمّهم ويحيط بهم، أو تأتيهم القيامة فجأة وعلى غفلة منهم، وهم في أسواقهم لا يشعرون بقيامها.

 


أصدق دروس للعبر

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108)

أمر الله محمداً (ص) أن يقول للمشركين: هذه سبيلي وسنتي، وحقيقتها ظاهراً وواقعاً هي الدعوة الى الله سبحانه عن علم وبالحجة والمنطق.. وليس من شك أن كل الأنبياء واتباعهم المخلصين يدعون الى الايمان بالله واليوم الآخر، وإقامة الحق والعدل، يدعون الى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجابهة الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة على المنطق السليم الذي تعتمد عليه رسالة النبيين، ودعوة المصلحين، هذا بيان وتفسير لدعوة محمد (ص) وأنها منزهة عن الشرك بشتى معانيه.

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (109)

بيّن سبحانه أنه إنما أرسل الرسل من أهل الأمصار لأنهم أرجح عقلاً وعلماً من أهل البوادي لبعد أهل البوادي عن العلم وأهله، أفلم يسير هؤلاء المشركون المنكرون لنبوتك يا محمد في الأرض (فينظروا كيف كان عاقبة) الأمم المكذبين لرسلهم كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال فيعتبروا بهم ويحذروا مثل ما اصابهم، ولكي يتعرفوا أن الطريق الى سعادة الانسان في الآخرة هو العمل الصالح في هذه الحياة أفلا يفهمون ما قيل لهم فيعلمون.

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (110)

دعا الرسل الأمم الى الله تعالى فلم يستجيبوا، فأنذروهم بعذاب أليم في الدنيا قبل الآخرة فسخروا واستهانوا.. وانتظر الرسل نزول العذاب على المستهزئين، وطال أمد الانتظار الى حد يستدعي اليأس والظن بأن العذاب لن يأتي، والوعيد به لن يتحقق. ولما بلغ أمد الانتظار هذا المبلغ جاء النصر للأنبياء، وصدق الوعيد والتهديد، ووقع العذاب على المجرمين ونجا الذين اتقوا الا يمسهم السوء، ولا هم يحزنون.

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (111)

أي في قصص يوسف (ع) وأخوته فكرة وبصيرة من الجهل وموعظة وهو ما أصابه (ع) من ملك مصر والجمع بينه وبين أبويه واخوته بعد إلقائه في الجب وبيعه وحبسه – لذوي العقول، وما كان ما أدّاه محمد (ص) وأنزل عليه حديثاً يختلق كذبا، ولكن كان تصديق الكتاب الذي بين يديه لأنه جاء كما بشر به في الكتب، وبيان كل شيء يحتاج إليه من الحلال والحرام وشرائع الاسلام، ودلالة ونعمة ينتفع بها المؤمنون علماً وعملاً.

 


  دروس من قصة يوسف (ع)


أثر القصة في حياة الناس

مع ملاحظة أن القسم المهم جداً من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للأمم السابقة وقصص الماضين، فقد يبرز هذا السؤال، لم يحمل هذا الكتاب التربوي، وصانع شخصية الانسان، كل هذا «التأريخ «والقصص ؟!

 


يتضح الجواب من خلال عدة نقاط

أ- إن التاريخ مختبر المسائل المختلفة للبشر، وما رسم الانسان في ذهنه مع الدلائل العقلية يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ..

وقصص الماضين مجموعة من أكثر التجارب قيمة، وتعرف أن خلاصة الحياة ومحصولها ليس شيئاً سوى التجربة.

مطالعة تاريخ الماضين تجعل عمر الانسان طويلاً بقدر أعمارهم حقاً لأنهاتضع مجموعة تجاربهم خلال أعمارهم تحت تصرفه واختياره.

فالتاريخ مرآة تعكس عليها جميع ما للمجتمعات الانسانية من محاسن ومساوىء أو نواقص وزيادات وانتصاراتها وهزائمها والعوامل لكلّ منها.

ب – القصة سواء كُتبت نثراً أو شعراً، أو عرضت على شاشة المسرح أو بواسطة الفيلم السينمائي، فإنها تترك أثراً في المتلقي بحيث لا تكون للاستدلالات العقلية مثل هذا التأثير فيه.

ج- القصة والتاريخ مفهومان عند كل أحد على خلاف الاستدلالات العقلية، فإن الناس في فهمهما ليسو سواسية.

ومجموعة هذه الجهات تبيّن أن القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية.

 


الرؤيا والحلم

إن مسألة الرؤيا في المنام من المسائل التي تجلب أفكار الأفراد العاديين والعلماء الى نفسهما دائماً..

فما هذه الأحلام التي يراها الانسان في منامه من صور سيئة أو رائعة، وميادين موحشة أو مؤنسة، وما يثير السرور أو الغم في نفسه؟!

أهي مرتبطة بالماضي الذي وجد مكاناً في أعماق روح الانسان وأظهر بعض التبديلات والتغييرات ؟ أم هي مرتبطة بالمستقبل الذي تلتقط صورة عدسة الروح برموز خاصّة من الحوادث المستقبلية ؟! أو هي أنواع مختلفة، منها ما يتعلق بالماضي، ومنها ما يتعلق بالمستقبل، ومنها ناتج عن الميول النفسية والرغبات وما الى ذلك..؟!

إن القرآن يصرّح في آيات متعددة أن بعض هذه الأحلام انعكاسات في المستقبل القريب أو البعيد.

وقد قرأنا عن رؤيا يوسف (ع) في الآيات المتقدمة، والسجناء مع يوسف (ع) أو قصة الرؤيا التي كانت لعزيز مصر، وجميعها تكشف الحجب عن المستقبل.

وفي غير سورة يوسف إشارات الى الرؤيا التي كان لها تعبير أيضاً، كما ورد في سورة الفتح عن رؤيا النبي محمد (ص) وما ورد في سورة الصافات عن رؤيا ابراهيم الخليل (ع).

وواضح أن أحلام الشيطان ليست شيئاً حتى يكون لها تعبير، ولكن ما يكون من الله تعالى في الرؤيا فهي تحمل بشارة حتماً.. ويجب أن تكون رؤيا تكشف الستار عن المستقبل المشرق.

 


التفسير المادي للرؤيا

يقول الماديون: يمكن أن تكون للرؤيا عدة علل:

أ- قد تكون الرؤيا نتيجة مباشرة للأعمال اليومية، أي أن ما يحدث للانسان في يومه قد يراه في منامه.

ب- وقد تكون الرؤيا عبارة عن سلسلة من الأماني التي تتحقق فيراها الانسان في النوم كما يرى الظمآن في منامه الماء.

ج- وقد يكون الباعث للرؤيا الخوف من شيء ما، وقد كشفت التجارب أن الذين يخافون من السارق يرونه في النوم.

فعلى هذا تكون الأحلام مرتبطة بالماضي دائماً ولا تخبر عن المستقبل أبداً، نعم يمكن أن تكون وسيلة جيدة لقراءة «ضمير اللاوعي».

ومن هنا فهم يستعينون لمعالجة الأمراض النفسية المرتبطة بضمير «اللاوعي» باستدراج أحلام المريض نفسه.

 


التفسير الروحي للرؤيا

وأما فلاسفة الروح فلهم تفسير آخر للرؤيا، فهم يقولون: إن الرؤيا والاحلام على أقسام:

أ- الأطياف والرؤيا المرتبطة بماضي الحياة والرغبات والأمنيات التي تشكل قسماً مهماً من الأحلام.

ب- الأطياف غير المفهومة والمضطربة وأضغاث الأحلام التي تنشأ من التوهم والخيال.

ج- الأطياف المرتبطة بالمستقبل والتي تخبر عنه.

ومما لا شك فيه أن الأحلام المتعلقة بالقسم الأول والثاني (أ- ب) ليس لها تعبير خاص، ولا يمكن أن تكون تعبيراً عن مستقبل الحياة... وإن كان علماء النفس يستفيدون منها للدخول الى ضمير اللاّوعي في البشر.

 


أما الأطياف و «الرؤى» المتعلقة بالمستقبل فهي على نحوين

أ- قسم منها أحلام واضحة وصريحة لا تحتاج الى تعبير.. وأحياناً تتحقق في المستقبل القريب أو البعيد دون أي تفاوت.

ب- وقسم آخر تتحدث عن المستقبل، ولكنها في الوقت ذاته غير واضحة، وقد تغيّرت نتيجة العوامل الذهنية والروحيّة الخاصة فهي تحتاج الى تعبير.

ولكل من هذه الأحلام نماذج ومصاديق كثيرة ولا يمكن إنكار جميعها وهي تتكرر في حياتنا أو حياة من تعرفهم بشكل لا يمكن عدّه من باب المصادفات والاتفاقات.

ومن خلال التحقيق مع الأصدقاء القريبين يمكن الحصول على شواهد كثيرة من هذه الأحلام، وهذه الأحلام لا يمكن تعبيرها عن طريق التفسير المادي أبداً، وإنما الطريق الوحيد هو تعبير فلاسفة الروح والاعتقاد باستقلال الروح.

 


حفظ الأسرار

من الدروس التي نستلهمها من هذه الآيات ان نحفظ الأسرار، وينبغي ان يطبق هذا الدرس أحياناً حتى أمام الأخوة، فدائماً تقع في حياة الانسان أسرار لو أذيعت وفشت لتهدّد مستقبله أو مستقبل مجتمعه بالخطر، والمواظبة على حفظ هذه الأسرار دليل على سعة الروح وتملك الارادة، فكثير من ضعاف الشخصية أوقعوا أنفسهم أو مجتمعهم في الخطر بسبب إفشاء الأسرار.. وقد ورد عن الامام علي بن موسى الرض (ع) إذ قال: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى تكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربه، وسنة من نبيه، وسنة من وليّه فأما السنة من ربّه فكتمان السر، وأما السنّة من نبيه فمداراة الناس، وأما السنة من وليّه فالصبر على البأساء والضراء» (3).

 


خطر الحسد

نتعلم من هذه القصة أن الحسد يمكن أن يدفع الانسان حتى الى قتل أخيه، أو أن يورث له آلاماً وهموماً شديدة وإنّ نار الحسد الداخلية إذا لم يمكن إخمادها فإنها ستحرق صاحبها بالاضافة الى إحراق الآخرين بها، لذلك نجد الأحاديث تنهى عن هذه الصفة الرذيلة منها: عن النبي (ص) أنه قال: «إنّ الله نهى موسى عن الحسد وقال له: إن الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمتُ بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني» (4) 

وعن الامام الصادق (ع) قال: آفة الدين الحسد والعجب والمفاخرة «وفي حديث آخر يقول: «إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط» (5)

 


لا قصاص ولا اتهام قبل الجناية

نبي الله يعقوب (ع) بالرغم من علمه بما سيقدم عليه إخوة يوسف (ع)، وتحذيره ولده الاّ يقصص رؤياه على إخوته، وأن يكتم الأمر، إلا أنه لم يكن مستعداً لأن يتهمهم بقصد الاساءة الى يوسف (ع) ، بل كان عذره إليهم أنه يحزنه فراقه، ويخاف أن يأكله الذئب في الصحراء.

وإن الأخلاق والمعايير الانسانية والأسس القضائية العادلة توجب ذلك أيضاً، فحيث لم تكن علامة ظاهرة على مخالفة شخص ما فلا ينبغي اتّهامه، فالأصل البراءة والصحة والطّهارة، إلاّ أن يثبت خلافه.

 


تلقين العدو الحجة

المسألة الأخرى أننا نقرأ راوية عن النبي (ص) أنه قال: «لا تلقنوا الكذاب فيكذب فإن بني يعقوب (ع) لم يعلموا أن الذئب يأكل الانسان حتى لقّنهم أبوهم» (6)

إشارة إلى أنه قد يحدث أحياناً أن لا يلتفت الطرف الآخر الى الحيلة والى طريق الاعتذار وانتخاب طريق الانحراف، فعليكم أن تحذروا من ذكر الاحتمالات المختلفة التي تبين له طريق الانحراف.

ومثل هذا يشبه تماماً ما لو قال الانسان لطفله: لا ترم الكرة باتجاه المصباح، ولم يكن الطفل يعلم أن الكرة يمكن أن ترمى نحو المصباح، فيلتفت الى مثل هذ العمل..

 


حبل الكذب قصير

قصة يوسف (ع) تثبت مرة أخرى هذا الأصل المعروف الذي يقول: إن الكذاب لا يستطيع أن يكتم سرّه دائماً، لأن الواقعيات العينية حين تظهر الى الوجود الخارجي تظهر معها روابط مع موضوعات أخرى تدور حولها، وإذا اراد الكاذب أن يهيىء جوّاً لمسألة غير صحيحة فإنه لا يستطيع أن يحفظ هذه الروابط مهما كان دقيقاً. فإن أقل غفلة منه تسبب وقوعه في التناقض، فتتسبب هذه الغفلة في فضيحة صاحبها، وتكشف الأمر الواقعي.. وهذا درس كبير لأولئك الذين يريدون لأنفسهم المحافظة على ماء وجوههم ومنزلتهم في المجتمع، ويحبون أن لا يلجأوا الى الكذب فيتهدد موقعهم الاجتماعي بالخطر وينزل عليهم غضب الله تعالى.

 


ما هوالصبر الجميل

الصبر أمام الحوادث الصعبة والتيارات الشديدة يدل على قوّة شخصية الانسان، وعلى سعة روحه بسعة ما تتركه هذه الحوادث فلا يتأثر ولا يهتز لها.

قد يتصبر الانسان أحياناً، ولكنه سرعان ما يبدل وجه الصبر بكلماته النابية التي تدل على عدم الشكر وعلى عدم تحمل الحادثة وعلى نفاد صبره.

ولكن المؤمنين الذين يتمتعون بإرادة قويّة واستيعاب للحوادث، هم أولئك الذين لا يتأثرون بها ولا يجري على لسانهم ما يدل على عدم الشكر وكفران النعمة أو الجزع أو الهلع، صبر هؤلاء هو الصبر الجميل..

قد يبرز الآن هذا السؤال، وهو أننا نقرأ في الآيات الأخرى أن يعقوب (ع) بكى على يوسف (ع) حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، أفلا ينافي ما صدر من يعقوب (ع) صبره الجميل ؟! والجواب على هذا السؤال في جملة واحدة، وهي: أن قلوب عباد الله سبحانه مركز للعواطف، فلا عجب أن ينهمر دمع عينهم مدراراً المهم أن يسيطروا على أنفسهم، ولا يفقدوا توازنهم، ولا يقولوا شيئاً يسخط الله تعالى.

ومثل هذا السؤال وجه الى النبي محمد (ص) حين بكى على موت ولده ابراهيم حيث قالوا له: يا رسول الله، أتنهانا عن البكاء وتبكي ؟!

فأجابهم النبي (ص) «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ» وفي رواية أخرى أنه قال: «ليس هذا بكاء إنه رحمة» (7)

إذن العيب هو أن يقول الانسان ما يسخط الرب.

 


جهاد النفس

نحن نعرف أن أعظم الجهاد في الاسلام هو جهاد النفس الذي عبر عنه النبي الأكرم (ص) بـ «الجهاد الأكبر» أي هو جهاد أعظم من جهاد العدو الذي عبر عنه بالجهاد الأصغر.. وإذا لم يتوفر في الانسان الجهاد الأكبر فلن ينتصر في جهاده على أعدائه.

وفي القرآن المجيد ترتسم صور شتى في ميادين الجهاد، وتتجلى فيها علاقة الأنبياء وأولياء الله الصالحين، وقصة يوسف (ع)، وما كان من عشق امرأة العزيز الملتهب، واحدة من هذه الصور، وبالرغم من أن القرآن لم يوضح جميع ما في القصة من خفايا وزوايا، إلا أنه أجملها بصورة موجزة في جملة قصيرة هي (وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه) وبيّن شدة هذا الطوفان.

ولقد انتصر يوسف (ع) في هذا الصراع بوجه مشرق أبيض لثلاثة اسباب:

أ- إنه التجأ الى الله سبحانه واستعاذ به، وقال (معاذ الله).

ب- التفاته الى «الزاد والملح» الذي أكله عند عزيز مصر، وما تناوله في بيته فاثر فيه فلم ينس فضله طيلة حياته..

ج – بناء شخصيته وعبوديته المقرونة بالأخلاص التي عبر عنها القرآن (إنه من عبادنا المخلصين) يستفاد منها أنها منحته القوة والقدرة ليخرج من ميادين الوسوسة التي تهجم عليه من الداخل والخارج بانتصار. وهذا درس كبير لجميع الناس الأحرار الذين يريدون أن ينتصروا على عدّوهم الخطر في ميادين جهاد النفس تقرأ في بعض الأحاديث أن النبي (ص) بعث سرّية فلما رجعوا قال: «مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر «فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر قال: «جهاد النفس» (8)

وعن أمير المؤمنين (ع) في دعاء له قال: «إن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان، فقد وكلني خذلانك الى حيث النصب والحرمان» (9)

 


حماية الله سبحانه في لحظات الشدة والأزمة

الدرس الكبير الآخر الذي نتعلمه من قصة يوسف (ع) هو حماية الله تعالى ورعايته الواسعة في أشد الحالات، والتي تتدارك الانسان – وكما قال سبحانه: {يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} – من طرفٍ لا يُصدّق أبداً أن يوماً من الأمل سيطلّ من جديد، ويكون قدّ القميص سنداً للطهارة والبراءة، ذلك القميص يضع الحوادث، فيوماً يفضح إخوة يوسف (ع) ويوماً يفضح امرأة العزيز، ويوماً آخر يكون واهباً البصر والنور ليعقوب (ع) وريحه المعروفة يسافر مع نسيم الصباح من مصر الى أرض كنعان ويبشر بقدوم الغائب.

وعلى كل حال فإن لله سبحانه ألطافاً خفية غير مطلع على عمقها أحد، وحين يهب نسيم هذه الألطاف تتغير المسارح بشكل لا يمكن حتى لأذكى الأفراد أن يتنبأ عنها !

بل قد يتفق أحياناً أن خيوط العنكبوت تبدل مسيرة الحياة لأمة أو قوم بشكل دائم، كما حدث في قصة غار ثور وهجرة النبي (ص).

 


مكر امرأة العزيز

في الآيات المتقدمة إشارة الى مكر بعض النسوة (طبعاً النساء اللائي لا ارتباط لهن بشيء إلا هواهنّ كإمرأة العزيز) وهذا المكر والتخيل الموصوف بالعظمة (إن مكرهنّ عظيم) يوجد منه في التاريخ والقصص التي فيها ظلال تأريخية أمثلة كثيرة في هذه المجالات.. ومطالعة مجموعها تكشف أن مثل هؤلاء النسوة يسوقهن هواهن نحو هدفهن يرسمن خططاً لا نظير لها من نوعها.

راينا في القصة المتقدمة كيف ان امرأة العزيز بعد الهزيمة في عشقها وافتضاح أمرها، برأت نفسها بمهارة واتهمت يوسف (ع) ولم تقل إن يوسف (ع) قصد السوء بي، بل افترضت ذلك أمراً مسلّماً به، وإنما سألت فقط عن جزاء مثل من يعمل هذا العمل !! جزاء لا يتوقف على السجن فحسب بل على صور غير معلومة أو محدودة كالعذاب أو الاعدام.. ونرى أيضاً في قصة هذه المرأة بالنسبة لملامة نسوة مصر لها إذ عشقت غلامها تستعمل مثل هذا المكر أو الخداع، وهذا تأكيد آخر على مكر هؤلاء النسوة.

 


 السجن إما أن يكون مركزاً للارشاد أو الفساد

المشهور أن يوسف (ع) قضى في السجن سبع سنين، إلا أن بعضهم قال: إن يوسف (ع) بقي في السجن اثنتي عشرة سنة، خمس قبل رؤيا صاحبي سجنه،وسبع بعدها، وكانت سنوات ملأى بالتعب والنصب إلا أنها من جهة الارشاد كانت سنوات مفعمة بالبركة والخير.

للسجن تأريخ مؤلم ومثير للغم جداً في هذا العالم، فأسوأ المجرمين وأحسن الناس كلاهما دخل السجن، ولهذا السبب كان مركزاً دائماً لأفضل الدروس البنّاءة أو لأسوأ الاختبارات.

وفي الحقيقة إن السجون التي يجتمع فيها المفسدون كالحلقة الواحدة تعدّ معهداً عالياً للفساد ! وفي هذه السجون تتم مبادلة الخطط التخريبية والتجارب. وكل منحرف يعلّم درسه في الواقع للآخرين، ولهذا السبب حين يطلقون من السجن يواصلون طريقهم باسلوب أكثر مهارة من السابق وبتشكيل جديد.. إلا أن يلتفت الرقباء على السجن لهذا الموضوع، ويبدلوا هؤلاء الأفراد الذين فيهم الاستعداد الى عناصر صالحة ومفيدة وبنّاءة.

وأما السجون التي تتشكل من الصالحين والأبرياء والنزيهين والمجاهدين في طريق الحق والحرية، فهي معاهد ومراكز لتعليم الدروس العقائدية والطرق العملية للجهاد والمبارزة والبناء.

وهذه السجون تعطي فرصة طيبة للمكافحين في طريق الحق ليؤدوا دورهم، ولتتلاءم جهودهم بعد التحرر من هذه السجون.

فحين انتصر يوسف (ع) على امرأة محتالة ماكرة متبعة لهواها ودخل السجن، سعى أن يبدل محيط السجن الى محيط من الارشاد ومركز للتعليم والتربية، حتى أنه وضع أساس حريته وحرية الآخرين في ما كان يخطط هناك. وهذا الماضي يعطينا درساً مهماً، وهو ان الارشاد والتربية ليسا محدودين في مركز معين كالمسجد والمدرسة، بل ينبغي أن يستفاد من كل فرصة سانحة للوصول الى هذا الهدف، حتى ولو كانت في السجن وتحت أثقال القيود، وهذا درس لكل الناس في الماضي والحاضر والمستقبل.

 


النفس الأمّارة

يقسم علماء النفس والأخلاق النفس، «وهي الاحساسات والغرائز والعواطف الانسانية» الى ثلاثة مراحل، وقد أشار إليها القرآن الكريم.

الأولى: «النفس الامارة» وهي النفس التي تأمر الانسان بالذنب وتجرّه الى كل جانب، ولذا سمّوها «أمّارة» وفي هذه المرحلة لا يكون العقل والايمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها، بل في كثير من المواقع يستسلمان للنفس الامارة، وإذا تصارعت النفس الامارة مع العقل في هذه المرحلة فإنها ستهزمه وتطرحه أرضاً، وجميع شقاء الانسان أساسه النفس الامارة بالسوء.

الثانية: «النّفس اللّوامة» وهي التي تجعل الانسان مرتقباً بعد التعلّم والتربية والمجاهدة، وفي هذه المرحلة ربما يخطىء الانسان نتيجة طغيان الغرائز، ولكن سرعان ما يندم وتلومه هذه النفس، ويصمم على تجاوز هذا الخطأ والتعويض عنه، ويغسل قلبه وروحه بماء التوبة.

وبعبارة أخرى: في المواجهة بين النفس والعقل، قد ينتصر العقل أحياناً وقد تنتصر النفس،إلا أن النتيجة والكفة الراجحة هي للعقل والايمان.

ومن أجل الوصول الى هذه المرحلة لا بد من الجهاد الأكبر، والتمرين الكافي، والتربية في مدرسة الأستاذ، والاستلهام من كلام الله وسنن الأنبياء والأئمة L. وهذه المرحلة هي التي أقسم الله بها في سورة القيامة قسماً يدلّ على عظمتها (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنّفس اللوامة).

الثالثة: «النفس المطمئنة» وهي المرحلة التي توصل الانسان بعد التصفية والتهذيب الكامل الى أن يسيطر على غرائزه ويهدّئها فلا تجد القدرة المتواصلة للمواجهة مع العقل والايمان، لأن العقل والايمان بلغا درجة من القوة بحيث لا تقف أمامهما الغرائز الانسانية.

هذه مرحلة الاطمئنان والسكينة.. التي لا يظهر عليها الانهزام أمام أشد الطوفانات.

وهذا هو مقام الأنبياء والأولياء وأتباعهم الصادقين، أولئك الذين تدارسوا الايمان والتقوى في مدرسة رجال الله تعالى، وهذبوا أنفسهم سنين طوالاً، وأوصلوا الجهاد الأكبر الى آخر مرحلة.

وإليهم والى أمثالهم يشير القرآن الكريم في سورة الفجر {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.

 


الشكر على الانتصار

من الدروس التي نتعلمها من قصة يوسف (ع)، هو أنه حين الانتصار على العدو وكسر شوكته لا بد أن لا ننسى العفو والرحمة، وأن لا نعامله بقساوة، فإن إخوة يوسف (ع) قد عاملوه أشد المعاملة وسددوا إليه الضربات القوية التي أشرفت به على نهايته وأوصلته الى أبواب الموت، ولو لم تشمله عناية الله سبحانه وتعالى، لعجز عن الخلاص مما أوقعوه فيه، هذا إضافة الى المصائب والآلام التي تحملها أبوه، لكنهم بعد ذلك جميعاً وقفوا أمام يوسف (ع) وهو الكبير المطاع والذي بيده القوة والقدرة، لكنه عاملهم بلطف وإحسان، ومن حسن الصدف أننا نرى رسول الله (ص) يمتحن بمثل هذه المواقف الحرجة، فمثلاً حين فتح رسول الله (ص) مكة وأذل المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم، جاء رسول الله (ص) (كما رواه ابن عباس) الى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد التجوا إليها وهم ينتظرون حكم رسول الله (ص) فيهم وقال كلمته المشهورة: الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم توجه الى قريش وخاطبهم: «ماذا تظنون يا معشر قريش ؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت ! قال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف (ع) لا تثريب عليكم اليوم».

أي أن اليوم ليس يوم ملامة وانتقام وإظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

يقول الامام علي (ع): «إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه».

وهناك دروس أخرى يمكن استفادتها من خلال الرجوع الى بطون التفاسير.

 

  (3) بحار الأنوار (ط) جديدة ج 78 ص 334

  (4) أصول الكافي: ج 2 ص 296

  (5) نفس المصدر

  (6) نور الثقلين: ج 2 ص 415

  (7) بحار الأنوار ج 22 ص 157 و 158

  (8) وسائل الشيعة: ج 11 / ص 124

  (9) وسائل الشيعة: ج 11/ ص 122