لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

تفسير سورتي يوسف ونوح (ع)

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الطبعة الأولى، ذو القعدة 1431هـ // 2010م

سورة يوسف (1)

سورة يوسف (2)

سورة يوسف (3)

سورة نوح

 اللغة والبيان (3)

27

 اللغة والبيان (4)

36

 اللغة والبيان (5)

45

 


  اللغة والبيان (3)


فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)


 

أعتدت: أعدّت وهيأت.

 متكأ: ما يتكأ عليه من فرش ونحوه.

 وقطعن أيديهنّ: جرحتها.

 فاستعصم: طلب العصمة وامتنع عمّا أرادت منه.

 علّمني: التعليم تفهيم الدلالة المؤدية الى العلم بالمعنى، وقد يكون الاعلام بالمعنى في القلب.

 واتبعت: الاتباع اقتفاء الأثر وهو طلب اللحاق بالأول.

 الدين القيّم: هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.

 بضع: من الأعداد، ويطلق على الثلاثة الى العشرة، ونصب على أنه ظرف زمان لاضافته الى سنين، والعامل فيه لبث.

 سمان: جمع سمين وسمينة.

 عجاف: ضدّ السمان، وهو جمع أعجف للذكر، وعجفاء للأنثى أي هزيل وهزيلة.

 للرؤيا تعبرون: عبرت الرؤيا فسرتها.

 


التفسير


{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (31)

لما سمعت المرأة بتعييرهن إياها وقصدهن إشاعة أمرها، فاستضافتهن وأعدّت لهن وسائد يتكين عليها، واعطت كل واحدة من تلك النسوة سكيناً لتقطع به الفواكه والاترج على ما هو العادة بين الناس، وقالت امرأة الملك ليوسف (ع) وكانت قد اجلسته غير مجلسهن فأمرته بالخروج عليهن في هيأته اما للخدمة واما للسلام او ليرينه ولم يكن يتهيأ له أن لا يخرج لأنه بمنزلة العبد لها (فلما رأينه) اعظمنه وتحيّرن في جماله إذ كان كالقمر ليلة البدر (وقطعن أيديهن) بتلك السكاكين على جهة الخطأ بدل قطع الفواكه فما أحسسن إلا بالدم ولم يجدن ألم القطع لاشتغال قلوبهن بيوسف (ع) وتنزه (ع) عمّا رمته به امرأة العزيز، ورفع الله منزلته عن منزلة البشر وليس صورته صورة البشر ولا خلقته خلقة البشر ولكنه ملك كريم لحسنه ولطافته.

 

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (32)

قالت امرأة العزيز للنسوة: هذا هو الذي لمتنني في أمره وفي حبه وشغفي به وقد اصابكن في رؤيته مرة واحدة ما أصابكن بينما أنا أنظر إليه آناء ليلي ونهاري، ثم اعترفت ببراءة يوسف (ع) وأقرت على نفسها بأنها هي التي راودته عن نفسه وامتنع بالله وسأله العصمة من فعل القبيح، ثم توعدته بإيقاع المكروه به، وإن لم يجبني الى ما أدعوه إليه ليحبسن في السجن وليكون من الأذلاء.

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (33)

فلما رأى يوسف (ع) إصرارها على ذلك وتهديدها له اختار السجن على المعصية، وقال: يا رب إن السجن أحبّ إليّ وأسهل عليّ مما يدعونني إليه من الفاحشة، وفي هذا دلالة على أن النسوة دعونه الى مثل ما دعته إليه امرأة العزيز، وأسألك أن تصرف عني كيدهن فإنك إن لم تصرف عني كيدهن أمل إليهن وأكن بمنزلة الجاهلين.

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (34)

استجاب الله سبحانه مسألته في صرف كيدهن إنّه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.

 


السجن بدون ذنب

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (35)

ثم ظهر للعزيز ومن يتلوه من امرأته وسائر مشاوريه، رأي جديد في يوسف (ع) ومن بعد ما رأوا هذه الآيات الدالة على براءته وعصمته، وهو أن يسجنوه حيناً من الزمان حتى ينسى حديث المراودة الذي يجلب لهم العار والشين، وأقسموا على ذلك.

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (36)

ودخل مع يوسف (ع) السجن فيمن دخل اثنان من حاشية الملك: ساقيه، وخازن طعامه لتهمة ألصقت بهما، قال الساقي: رأيت فيما يرى النائم أني أعصر خمراً – أي عنباً لأنه يؤول الى الخمر – وقال الخازن: أما أنا فرأيت على رأسي خبزاً يخطفه سرب من الطير، ويذهب به، خبرنا بتفسير ما رأيناه (إنا نراك من المحسنين) في سيرتك مع أهل السجن.

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (37)

ذكر فيها عدة تفاسير، ويتلخص أقربها الى ظاهر اللفظ بأن يوسف (ع) قال للسائلين: أنا وأنتما محجوبان في هذا المكان لا يعلم أحدنا ماذا يجري في خارجه، ومع هذا فأنا أعلم أي طعام يُرسل إليكما، ما هو نوعه، وما هي الغاية من إرساله قبل أن يرسل.

وتسأل: لقد سألاه عن تعبير ما رأيا فأجابهما بأنه يخبر عن الغيب فيما يأتيهما من طعام، هذا لا يمت الى السؤال بصلة.

أجل ليس هذا تعبيراً للرؤيا، ولكنه تمهيد له، فلقد أراد يوسف (ع) أن يغتنم هذه الفرصة ليثبت لأهل السجن أنه نبي مرسل من عند الله، واستدل على نبوته بالاخبار عن الغيب، وأنه تعالى علّمه ذلك، وأنه لا يستحق هذه الرتبة الخطيرة إلا المؤمنون المخلصون وإني تركت طريقة قوم لا يؤمنون فلذلك خصّني الله بهذه الكرامة.

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (38)

اتبعت شريعة آبائي، ولا ينبغي لنا ونحن معدن النبوة وأهل بيت الرسالة أن ندين بغير التوحيد والبراءة من الشرك، وقد خصّنا بها من دون الناس بإرسالنا إليهم واتباعهم إيانا واهتدائهم بنا (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) فضله تعالى بل يكفرون به.

 


السجن أصبح مركزاً للتربية والتعليم

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (39)

هذا حكاية نداء يوسف (ع) للمستفتين له عن تأويل رؤياهما، أي يا ملازمي السجن أأملاك متباينون من حجر وخشب لا تضرّ ولا تنفع خير لمن عبدها ؟ أم الله الواحد القهار الذي إليه الخير والشر والنفع والضر وهذا ظاهره الاستفهام والمراد به التقرير والزام الحجة، والقاهر هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء.

{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (40)

المعنى أن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله وسميتموها بأسماء يعني الأرباب والألهة هي أسماء فارغة عن المعاني لا حقيقة لها ما أنزل الله من حجة بعبادتها، وقد أمركم أن لا تعبدوا غيره، ذلك الذي بيّنت لكم من توحيده وعبادته هو الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.

 (ولكن أكثر الناس) لا يعلمون صحة ما أقوله لعدولهم عن النظر والاستدلال.

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (41)

بعد أن أدى يوسف (ع) واجب الدعوة الى الله تعالى عبّر لكل من الساقي وخازن الطعام ما رآه في منامه، فقال للساقي: تنجو من السجن، وتعود الى سابق عهدك ساقياً للملك، وقال للخازن أو للخباز: تصلب وتأكل الطير من رأسك، وقد كان يوسف (ع) على ثقة من تعبيره لأنه وحي من الله سبحانه، ولذا قال لهما: إن هذا الأمر قد بتّ فيه، وانتهى حكمه.

{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (42)

وقال يوسف (ع) للساقي الناجي: إذا رجعت الى قصر الملك فقل له: إني سجنت من غير محاكمة أو سؤال، وإذا فحص عن الحقيقة ظهر أني أخذت بغير سبب. وعاد الساقي الى القصر، ونسي في زحمة أعماله في خدمة الملك أن يذكر يوسف (ع)، فلبث في السجن بضع سنين.. وفي رواية أنها سبع، وقيل بل اثني عشرة سنة، والله عالم.

 


رؤيا ملك مصر وما جرى له

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (43)

رأى الملك رؤيا عجيبة غريبة هالته وحيرته، رأى سبع بقرات هزيلات تأكل سبع بقرات سمان! ما هذا؟ بقر يأكل بقراً؟ وفوق ذلك الضعيف الهزيل يأكل القوي السمين؟ وأيضاً سنابل يابسات تلتوي على سنابل خضر في حقل واحد! وهذا مدهش ومحير. فدعا الملك رجال حاشيته وكهنة دولته، وقص عليهم ما رأى، وسألهم عن التأويل فلم يعرفوا واعتذروا بأن رؤياه لا تفسير لها.

 


  اللغة والبيان (4)


قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)


 

أضغاث: جمع ضغث، وهو الحزمة من كل شيء، وقيل: من النبات فقط يختلط فيها الرطب باليابس.

 وادّكر: واذكر بمعنى واحد، قال الطبرسي في مجمع البيان: الأجود الدال وأصله اذتكار.

 بعد أمة: أي بعد حين.

 دأباً: الدأب العادة والمراد به هنا الدوام على الزرع.

 تحصنون: أي تحرزون، يقال: أحصنه إحصاناً إذا جعله في حرز.

 يغاث الناس: أي يفرج الله عنهم، ويطلق الغيث على المطر، وعلى ما ينبت بسببه.

 يعصرون: اي يستخرجون العصير مما يُعصر كالعنب والزيتون، وهو كناية عن الخصب.

 ما بال النسوة: أي ما شأنهن، ومثله ما خطبكن مع الإشعار بأنه شأن عظيم وجدير بأن يخاطب الانسان فيه صاحبه.

 حصحص: أي تبين وظهر.

 استخلصه: أجعله خالصاً لنفسي.

 مكين: من التمكين أي أنت عندنا ذو مكانة ومنزلة.

 يتبوأ منها: يتخذ منها منزلاً.

 منكرون: أي لم يعرفوه.

 بجهازهم: يختلف معنى الجهاز باختلاف مورده من جهاز العروس الى جهاز الميت، والمراد هنا الطعام الذي جاؤوا من اجله.

 خير المنزلين: أي للضيوف.

 وقال لفتيانه: أي لخدمه.

 رحالهم: جمع رحل، وهو ما يوضع على ظهر الدابة كالسرج، والمراد به هنا أوعيتهم التي توضع فوق السرج ونحوه.

 انقلبوا: رجعوا.

 


التفسير


{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} (44)

 أي هذه اباطيل وتخاليط كاذبة لا يصح تأويلها (وما نحن بتأويل) هذا النوع من المنامات بعالمين.

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} (45)

كان جهل الملأ بتأويل رؤيا الملك بسبب نجاة يوسف (ع) لأن الساقي تذكر حديث يوسف (ع) فجثا بين يديه وقال: يا أيها الملك إني قصصت أنا وصاحب الطعام على رجل في السجن منامين فخبر بتأويلهما وصدق في جميع ما وصف فإن أذنت مضيت إليه وأتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا.

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} (46)

أمر الملك ساقيه أن ينطلق الى الرجل الصالح الذي حدثه عنه، وأن يقص عليه رؤياه، ثم يأتيه بما يسمع منه، فانطلق الساقي الى يوسف (ع)، بطبيعة الحال اعتذر له عن نسيانه، بعد أن لقّبه بما هو أهل له من الصدق، ثم نقل له رؤيا الملك بالحرف ليأتي التفسير على وفق النص، وقال أخبرني عن التأويل لأنقله عنك الى الملك وحاشيته، فيعلمون بفضلك ومكانتك، فيخرجونك من السجن.

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} (47)

قال يوسف (ع) للسائل مفسراً رؤيا الملك: تزرعون سبع سنين متوالية، وتكون هذه السنين خصبة طيبة، وهي المشار إليها بالبقرات السمان والسنابل الخضر، كل سنبلة وبقرة ترمز الى سنة، ثم نصح لهم يوسف (ع)، وقال: كل ما تحصدونه من الزرع ادخروا سنابله، ولا تدوسوه لأن القمح في سنابله يصان من السوس والرطوبة: أما الذي تريدون أكله فدوسوه، مع مراعاة الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة.

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (48)

المعنى أن السنين الخصبة تعقبها سبع سنين مجدبة، يتجهم فيها وجه الأرض، ولا تنبت شيئاً، فتأكلون كل ما ادخرتموه فيما مضى، ولا يبقى إلا القليل للبذر.

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (49)

أي يأتي بعد السبع الشداد عام خصب يغث الله فيه الناس من الشدة بالماء، فينبت الزرع، وينمو الشجر، ويعصر الناس من ثمره خمراً وزيتاً وأنواع الدهون والأشربة..

 


تبرئة يوسف (ع) من كلّ اتهام

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} (50)

ولكن يوسف (ع) البريء الصديق رفض طلب الملك، وأبى أن يخرج من السجن في ظلال الشك من حوله حتى عند الملك، وأصر على إعلان براءته قبل كل شيء، ولذا قال لرسول الملك: ارجع إليه، وقل له: فليحقق مع النسوة، ويسألهن عن شأني وشأنهن.

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (51)

لما رجع الرسول الى الملك وأخبره بما قاله يوسف (ع)، أرسل الى النسوة ودعاهن وقال لهنّ: ما شأنكن وما أمركن إذ راودتن يوسف (ع) عن نفسه ودعوتنّه الى انفسكن، قلن: معاذ الله ما علمنا عليه من سوء وخيانة وما فعل شيئاً مما نسب إليه واعترفن ببراءته، بأنه حبس مظلوماً، فعند ذاك تكلمت امرأة العزيز واعترفت بذنبها وصدّقت يوسف (ع) فيما كان يدعيه من البراءة قالت: الآن ظهر وتبين ووضح الحق وهو أنه: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصّادقين.

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (52)

المعنى إني طلبت التحقيق مع النسوة ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته حال غيابه (وأن الله لا يهدي كيد الخائنين) بل يفضحهم ويهتك سترهم، وينصر المؤمنين عليهم، تماماً كما فضح النسوة، ونصر يوسف (ع).

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (53)

معناه أن النفس، أية نفس لا تسلم من العيوب إلا نفساً عصمها الله تعالى من الخطايا والذنوب كنفوس الأنبياء والأئمة الاطهار (صلوات الله عليهم أجمعين).. والمهم أن لا يصر المذنب على ذنبه ويعرض أبداً عن ربّه. قال الامام علي (ع): أشد الذنوب ما استهان به صاحبه أي أصرّ عليه، ولم يستغفر الله منه.

 


يوسف (ع) يصبح أمينا على خزائن مصر

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (54)

معناه ان الملك لما تبيّن له أمانة يوسف (ع) وبراءته من السوء وعلمه أمر بإحضاره فقال ائتوني به أجعله خالصاً لنفسي أرجع إليه في تدبير مملكتي وأعمل على إشارته في مهمات أموري، فلما جاء الرسول يوسف (ع) ودعاه خرج من السجن ودخل على الملك وكلّمه وعرف فضله وأمانته وعقله، قال: إنك عندنا ذو مكانة متمكن في المنزلة والقدر نافذ القول والأمر.

{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (55)

قال يوسف (ع) اجعلني على خزائن أرضك حافظاً ووالياً واجعل تدبيرها إليّ فإني حافظ لما استودعتني لحفظه عن أن تجري فيه خيانة (عليم) بمن يستحق منها شيئاً ومن لا يستحق فأضعها مواضعها.

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (56)

صبر يوسف (ع) على إلقائه في البئر، وعلى بيعه في سوق العبيد، وخدمته في بيت العزيز، وعلى التهمة بالخيانة، والسجن والأسر، صبر على أكثر من ذلك، صبر واحتسب وتوكل على الله.. فماذا كانت النتيجة ؟ لقد خرج من السجن خروج الأبطال من معارك النصر.. خرج ليحكم في الأرض مطلق اليد مسموع الكلمة، نافذ السلطان.. وهكذا يوفى الصابرون أجرهم في الدنيا.

في بعض الروايات ان امرأة العزيز أتت يوسف (ع) في السنين العجاف تطلب منه قوتاً، وقد مات زوجها ورماها الدهر بالخطوب، ونال منها ما نال، وأن يوسف (ع) لما رآها قال لها: ما الذي أوصلك الى ما أرى ؟ فقالت له: سبحان من جعل الملوك بمعصيته عبيداً، وجعل العبيد بطاعته ملوكاً.

{وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (57)

أي ثواب الآخرة الجنة التي «لا ينقطع نعيمها، ولا يظعن مقيمها، ولا يهرم خالدها، ولا ييأس سالكها» كما قال الامام علي (ع) – فهذا الجزاء الأوفى للمتقين.

 


اقتراح جديد من يوسف (ع) لإخوته

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (58)

امتد القحط الى البلاد المجاورة لمصر، ومنها فلسطين أرض كنعان، حيث يقيم نبي الله يعقوب (ع)، وكان قد شاع ان عزيز مصر قد أعد للجوع عدته، وأنه يوزع الحنطة بالقسط بين الناس، لا فرق عنده بين شعب وشعب، وكان قد نزل ببيت يعقوب (ع) من العوز ما نزل بغيره، فأمر بنيه أن يتجهزوا، ويذهبوا الى مصر يشترون الطعام، فذهبوا وهم عشرة، ولما وصلوا الى مصر دخلوا على يوسف (ع) وهو في مجلس الولاية، فعرفهم وما عرفوه.

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} (59)

وبعد ان أعد لهم كل ما جاءوا من أجله، وما يحتاجون إليه في سفرهم، قال لهم يوسف (ع) ائتوني بأخيكم الأصغر، فإذا جئتموني به أوفي الكيل له ايضاً، وأكرمه كما أكرمتكم.

{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} (60)

حاول يوسف (ع) بشتى الطرق، تارة بالتهديد، وأخرى بالتحبب، أن يلتقي بأخيه بنيامين ويبقيه عنده.

{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} (61)

أي سنجتهد ونتلطف لإقناع أبيه رغم صعوبة المطلب ومناله.

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (62)

أمر يوسف (ع) خدمه أن يدسوا بضاعة إخوته التي اشتروا بها الطعام، يدسوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون، لعلهم يرجعون إلينا ويأتوا بأخيهم، فإنهم إذا فتحوا رحالهم ووجدوا فيها بضاعتهم، بعثهم ذلك الى الرجوع طمعاً في جوده وكرمه..

 


إقناع يعقوب (ع) بسفر بنيامين معهم الى مصر

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (63)

قيل إنهم لما دخلوا على يعقوب (ع) وسلّموا عليه سلاماً ضعيفاً قال لهم: يا بني ما لكم تسلمون سلاماً ضعيفاً وما لي لا أسمع فيكم صوت شمعون فقالوا: يا أبانا إنا جئناك من عند أعظم الناس ملكاً ولم ير الناس مثله حكماً وعلماً وخشوعاً وسكينة ووقاراً ولئن كان لك شبيه فإنه يشبهك ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء إنه اتهمنا وزعم انه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بنيامين برسالة منك إليه ليخبره عن حزنك وما الذي أحزنك وعن سرعة الشيب إليك وذهاب بصرك، وقد منع منا فيما يستقبل الكيل إن لم نأته بأخينا فأرسله معنا ونحن نحفظه من أن يصيبه مكروه أو سوء.

 


  اللغة والبيان (5)


قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)


 

متاعهم: المراد بالمتاع هنا وعاء الطعام.

 ونمير: أي نجلب الميرة بكسر الميم، وهي الطعام.

 كيل بعير: أي حمله.

 موثقاً: أي عهداً.

 أن يحاط بكم: أي أن تغلبوا على أمركم.

 آوى إليه أخاه: ضمه إليه.

 فلا تبتئس: أي لا تحزن مأخوذ من البؤس.

 السِّقاية: الإناء التي يسقى منها والمراد بها هنا الصواع بدليل قوله: نقصد صواع الملك.

 العير: الإبل.

 صواع: والصاع بمعنى واحد، وهو المكيال.

 زعيم: كفيل.

 


التفسير


{قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (64)

أي لا آمنكم على بنيامين في الذهاب به إلاّ كأمني على يوسف (ع) ضمنتم لي حفظه ثم ضيعتموه وغيبتموه عني، فحفظ الله سبحانه خير من حفظكم، يرحم ضعفي وكبر سني ويردَه عليّ، وورد في الخبر أن الله سبحانه قال: فبعزتي لأردّنّهما إليك من بعدما توكلت عليّ.

{قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (64)

لمّا اكتشفوا أن بضاعتهم ردّت إليهم، أسرعوا الى أبيهم وقالوا له: ماذا نطلب من عزيز مصر ؟ وبأي شيء نعتذر له إذا لم نأتِهِ بأخينا، وقد أكرمنا بما ترى من رد الثمن ؟ والأهل والأقارب بحاجة ماسّة الى الطعام، فإذا صحبنا أخانا ازددنا حملاً من الطعام، وهو أمر ميسّر مع وجوده. أما بدونه فلا؛ لأن العزيز لا يبيع للرجل إلا حملاً واحداً في هذه الأزمة المجدبة..

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (66)

أَذن لهم بأخيهم بنيامين على أن يعطوه عهداً أكيداً أن يرجعوه إليه سليماً معافى إلا أن ينزل بهم ما لم يكن في الحسبان، فأعطوه العهد الذي أراد، وأكدوا الأيْمان بأنهم يفدونه بالأرواح، وعندها قال: الله وحده هو الشاهد على عهدكم هذا، فإن وفيتم جازاكم أحسن الجزاء، وإن غدرتم كافأكم بأشد العقوبات.

 


وصية يعقوب (ع) لأبنائه

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (67)

لمّا تجهّزوا للمسير، قال يعقوب (ع) لأبنائه: لا تدخلوا مصر (من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) لأنه (ع) خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة وكمال وهم إخوة أولاد رجل واحد، وقال (ع) أيضاً: وما ادفع من قضاء الله من شيء إن كان قد قضى عليكم الاصابة بالعين أو غير ذلك (إن الحكم إلا لله عليه توكلت) فهو القادر على أن يحفظكم من العين أو من الحسد ويردكم عليّ سالمين (وعليه فليتوكل المتوكلون) أي ليفوّضوا أمورهم إليه وليتقوا به.

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (68)

المعنى أن أولاد يعقوب (ع) دخلوا المدينة من أبواب متفرقة امتثالاً لأمر والدهم، ولكن دخولهم لم يجد نفعاً، ولم يرد بلاءً، ولكن كان ما قاله لبنيه حاجة في قلبه، فقضى يعقوب (ع) تلك الحاجة وأزال به إضطراب قلبه، وأنه (ع) ذو يقين ومعرفة بالله تعالى وعلّمه تعالى من لدنه علماً أدّبه به من الصبر الجميل على البلاء، والتوكل عليه سبحانه في السراء والضراء، وعدم اليأس من رحمته (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) مرتبة يعقوب (ع).

 


يوسف (ع) يخطط للاحتفاظ بأخيه

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (69)

ذكر أهل التفاسير بأن إخوة يوسف (ع) لما وصلوا الى مصر دعاهم الى طعامه، وأجلسهم مثنى مثنى لغاية أرادها، وهي أن يبقى أخوه بنيامين وحيداً ليجلسه معه على مائدته، وبعد الطعام أنزل يوسف (ع) كل اثنين من اخوته في حجرة، وبات أخوه بنيامين معه في حجرته، وعندما اختلى به قال له: أتحب أن أكون أخاك ؟ فأحابه: ومن يجد أخاً مثلك ؟ ولكن لم يلدك يعقوب (ع)، ولا رحيل وهي أم يوسف (ع) وبنيامين، فعانقه وقال: أجل، لقد ولدني يعقوب (ع) وراحيل، فأنا أخوك، ولا تحزن بما كان من إخوتك معي ومعك.. ففرح بنيامين للمفاجأة السارة وحمد الله سبحانه.

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (70)

أراد يوسف (ع) أن يفصل بنيامين عن إخوته، ويبقيه عنده، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بمبرر، وكان من شريعة آل يعقوب (ع) استرقاق السارق، فدس غلمان يوسف (ع) بأمر منه المكيال في رحل أخيه بنيامين، ثم نادى المنادي في أولاد يعقوب (ع): يا أصحاب العير انكم سارقون، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم، فدهش أولاد يعقوب (ع) لهذه المفاجأة العنيفة.

{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} (71)

قالوا هذا وهم على يقين من براءتهم.. وهذه هي المرة الأولى التي يسمعون فيها مثل هذه التهمة.

{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (72)

قال يوسف (ع) وغلمانه: (نفقد صاع الملك وسقايته، وقال المنادي من جاء بالصاع فله حمل بعير من الطعام وأنا كفيل وضامن له ذلك.

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} (73)

ناقشوا أو أقاموا الدليل على براءتهم، وقالوا فيما قالوا: كيف تتهموننا بالسرقة، وقد علمتم من نسبنا وسيرتنا في السفرة الأولى والثانية أنّا لم نأتِ الى هذا البلد للخيانة والفساد، وإنما لنشتري الطعام لأهلنا.

{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} (74)

الخطاب لأولاد يعقوب (ع) من يوسف (ع) وغلمانه، والقصد من هذا السؤال أن يعترفوا صراحة بهذا الحكم.

{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (75)

هذا اعتراف صريح من أولاد يعقوب (ع) بأن السارق يؤخذ عبداً أو أسيراً، وعليه يسوغ ليوسف (ع) أن يأخذ أخاه ويضمه إليه، ولا يحق لهم أن يمانعوا أو يعترضوا.

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (76)

المعنى لولا هذا التدبير لتعذر على يوسف (ع)أن يضم أخاه إليه، ذلك بأن من شرع ملك مصر وقضائه أن لا يعاقب السارق بالأسر أو الاسترقاق، بل بعقوبة أخرى كالسجن أو الضرب ويوسف (ع)لا يريد المكروه لأخيه، فاتخذ يوسف (ع) هذا التدبير الذي أوحاه الله سبحانه إليه ليلزم اخوته بما ألزموا به أنفسهم، فبالعلم والنبوة والتقوى يرفع الله من يشاء وأن كل عالم فإن فوقه عالماً أعلم منه حتى ينتهي الى البارىء عزّ وجلّ العالم بجميع معلوماته لذاته فيقف عليه ولا يتعداه.

 


السقوط بسبب عدم الثقة بأخيهم

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} (77)

أخبر سبحانه عن أخوة يوسف (ع) أنهم قالوا ليوسف (ع): (إن يسرق) بنيامين (فقد سرق أخ له) من أمه (من قبل) فليست سرقته بأمر بعيد فإنه اقتدى بأخيه يوسف (ع)، وهناك أقوال فيما سرق منها: أن عمة يوسف (ع) كانت تحضنه بعد وفاة أمه وتحبه حباً شديداً فلما ترعرع أراد يعقوب أن يسترده منها وكانت أكبر ولد اسحاق (ع) وكانت عندها منطقة إسحاق (ع) وكانوا يتوارثونها بالكبر فاحتالت وجاءت بالمنطقة وشدتها على وسط يوسف (ع) وادّعت أنه سرقها وكان من سنتهم استرقاق السارق - كما ذكر سابقاً – فحبسته بذلك السبب عندها.

فأخفى يوسف (ع) تلك الكلمة التي قالوها ولم يظهرها (قال أنتم شرّ مكاناً) في السرقة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم، والله أعلم أسرق أخ له أم لا.

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (78)

بعد أن أصبحوا تجاه الأمر الواقع، وأن العدل عندهم يقضي باسترقاق أخيهم بنيامين التجأوا الى التماس الرحمة والعفو والصفح، أو أخذ الفداء والبدل، وأن يختار العزيز واحداً منهم، وهم عشرة بين يديه، طلبوا هذا وألحوا في الطلب، وتشفعوا إليه ببره وصلاحه، وبشيخوخة أبيهم، وعظيم منزلته وقدرته، وبضعفه وشغفه بولده بنيامين، فعلوا هذا وأكثر منه لا حباً بأخيهم، بل تخلصاً من أبيهم ومسؤولية العهد الذي أخذه عليهم.