تفسير سورة مريم

 جمعية القرآن الكريم للإرشاد والتوجيه - بيروت - لبنان

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

الآيات من 52 إلى 76 35
اللغة والبيان 37
التفسير 38
قصة موسى (ع) في القرآن 38
لمحة عن هارون (ع) 40
إسماعيل (ع) نبي صادق الوعد 41
عظمة مقام إدريس (ع) المعنوية 41
من هو إدريس (ع) 41
كان هؤلاء أنبياء واقعيين 42
بعض صفات الجنة 43
نحن عباد أرواحنا وقلوبنا على الأكف 43
سبب النزول 43
من أوصاف أهل النار 44
سبب النزول 44
الجميع يردون جهنم 45
منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم 46

 


  الآيات من 52 إلى 76

وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) ( س ) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (76)

 


  اللغة والبيان

الطور: جبل بين مصر ومدين.

نجيّاً: مناجياً.

اجتبينا: اصطفينا.

فَخَلفَ: الخلف بفتح اللام النسل الصالح، وبسكونها النسل الطالح، وهو المراد هنا وقد يستعمل كل منهما في معنى الآخر.

غيّاً: الغيّ الخسران، ويستعمل في الضلال.

عدن: العدن الإقامة.

مأتيّاً: آتياً، اسم فاعل بصيغة اسم المفعول.

لغواً: اللغو فضول الكلام.

سميّاً: السمي الشبيه والمثيل.

يذكر: أي يتذكر.

جثياً: جمع جاثٍ، وهو البارك على ركبتيه.

الشيعة: الجماعة المتعاونون على أمر واحد.

عتيّاً: العتي والعتو بمعنى واحد، وهو الكبر والتمرد.

صليّاً: الصلي مصدر صلى النار.

نديّاً: الندي المجلس.

القرن: أهل كل عصر.

أثاثاً: الأثاث أدوات البيت.

رئياً: الرئي المنظر والهيئة.

مدّاً: المد الامهال.

جنداً: الجند الأنصار.

مردّاً: المرد المرجع والعاقبة.

 


  التفسير

  قصة موسى (ع) في القرآن

{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} (٥٢)

الطور جبل بالشام ناداه الله سبحانه من جانبه اليمين وهي يمين موسى (ع) وأنه تعالى شرّف موسى بالنبوة والرسالة، وكلمه بلا واسطة.

{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} (٥٣)

أي أنعمنا عليه بأخيه هارون حيث قال واجعل لي وزيراً من أهلي هارون وجعلناه نبياً اشركناه في أمره وشددنا به ازره.


هو (ع) أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن الكريم، وأشير الى قصّته إجمالاً أو تفصيلاً في أربع وثلاثين سورة، وقد اختصّ من بين الأنبياء بكثرة المعجزات.

تولّد (ع) بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذّكور من بني اسرائيل بأمر فرعون وجعلت أمّه إياه في تابوت وألقته في البحر وأخذ فرعون إيّاه ثم ردّه الى أمّه للإرضاع والتربية ونشأ في بيت فرعون.

ثم بلغ أشدّه وقتل القبطي وهرب من مصر الى مدين خوفاً من فرعون وملائه أن يقتلوه قصاصاً.

ثم مكث في مدين عند شعيب النبي (ع) وتزوج إحدى إبنتيْه. ثم لمّا قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً وقد ضلّوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم وذهب الى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلمّا أتاها ناداه الله من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة وكلّمه واجتباه وآتاه معجزة العصا واليد البيضاء في تسع آيات واختاره للرسالة.

فأتى فرعون ودعاه الى كلمة الحق وأن يرسل معه بني اسرائيل ولا يعذّبهم وأراه آية العصا واليد البيضاء فأبى وعارضه بسحر السحرة حيث تغلب موسى (ع) عليهم بعصاه المسددة وأمنوا بربّه وربّ هارون فهددهم فرعون ولم يؤمن.

فلم يزل موسى (ع) يدعوه وملأه ويريهم الآية بعد الآية كالطّوفان والجراد والقمل والضفادع والدّم وآيات مفصّلات وهم يصرّون على استكبارهم، وكلّما وقع عليهم الرّجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننَّ لك ولنرسلنَّ معك بني اسرائيل فلمّا كشف الله عنهم الرجز الى اجل هم بالغوه إذا هم ينكثون. فأمره الله أن يسري ببني إسرائيل ليلاً فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراآى الفريقان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون قال كلاّ إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر وأتبعهم فرعون وجنوده حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.

ولمّا أنجاهم الله من فرعون وجنوده وأخرجهم الى البرّ ولا ماء فيه ولا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المنّ والسّلوى وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً. قد علم كلّ أناس مشربهم..

ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطّور فأختار قومه سبعين رجلاً ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى (ع)، ولما تمّ الميقات أنزل الله عليه التوراة وأخبره أن السامريّ قد أضلّ قومه بعده فعبدوا العجل.

فرجع موسى الى قومه غضبان اسفاً فأحرق العجل ونسفه في اليمّ وطرد السّامري وقال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وأمّا القوم فأمروا أن يتوبوا ويقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطّور فوقهم.

ثم إنهم ملّوا المنّ والسّلوى وقالوا لن نصبر على طعام واحد وسألوه أن يدعو ربّه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرّمها الله عليهم وابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة. ومن قصص موسى (ع) ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيّه مع فتاه الى مجمع البحرين للقاء العبد الصالح وصحبته حتى فارقه.

 


  لمحة عن هارون (ع)

كان هارون (ع) ملازماً لأخيه موسى (ع) في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره ويعينه على جميع مقاصده.

ولم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلاّ خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات وقال لأخيه هارون إخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، ولمّا رجع موسى الى قومه غضبان أسفاً وقد عبدوا العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه قال ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال ربّ اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين.

 


  إسماعيل (ع) نبي صادق الوعد

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (٥٤)

أي (واذكر) يا محمد (في الكتاب) الذي هو القرآن (اسماعيل) بن ابراهيم (ع)، ولقد اثنى سبحانه عليه بأنه كان اذا وعد بشيء أنجز وعده، وذكر المفسرون ان اسماعيل (ع) وعد صاحباً له ان ينتظره في مكان، فتأخر الرجل، وانتظر اسماعيل (ع) ثلاثة أيام أو أكثر.. (وكان) مع ذلك (رسولاً نبي) الى جرهم.

{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} (٥٥)

أي (وكان يأمر) قومه وعترته وعشيرته وكان يأمر أهله بصلاة الليل وصدقة النهار (وكان) مع ذلك (عند ربه مرضي) قد رضي أعماله لأنها كلها طاعات لم تكن فيها قبائح.

 


  عظمة مقام إدريس (ع) المعنوية

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيّاً} (٥٦)

أي (واذكر) يا محمد (في الكتاب) الذي هو القرآن (إدريس) وهو جد أب نوح (ع) واسمه في التوراة أخنوخ وقيل أنه سمي إدريس لكثرة درسه الكتب وهو أول من خط بالقلم وكان خياطاً وأول من خاط الثياب وقيل أن الله تعالى علّمه النجوم والحساب وعلم الهيأة وكان ذلك معجزة له (إنه كان) كثير التصديق في أمور الدين.

 


  من هو إدريس (ع)

إدريس جد سيدنا نوح (ع) واسمه في التوراة (أخنوخ وفي العربية (إدريس) لقد تحدث القرآن عن هذا النبي الكبير مرتين، إحداهما هنا، والأخرى في سورة الأنبياء آية 85- 86 وقد ذكرت حياته مفصلة في روايات مختلفة إكتفينا هنا بالاشارة.

{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيّاً} (٥٧)

أي عالياً رفيعاً، وقيل أنه رفع الى السماء كما رفع عيسى (ع) وهو حيٌّ لم يمت وقال آخرون أنه قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة.

 


  كان هؤلاء أنبياء واقعيين

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (٥٨)

هم زكري (ع) ويحيى (ع) ومريم (ع) وعيسى (ع) وإبراهيم (ع) وإسحاق (ع) ويعقوب (ع) وموسى (ع) وهارون (ع) وإسماعيل (ع) وإدريس (ع) والمعنى: أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من ذرّية آدم وممّن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم (ع) وإسرائيل وبعضهم من أهل الهداية والاجتباء، خاضعون للرحمن خاشعون.

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (٥٩)

أي قام مقام أولئك الذين أنعم الله سبحانه عليهم، قوم اضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة والتوجه العبادي الى الله سبحانه، بالتهاون فيه والاعراض عنه، واتبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله تعالى والتوجه إليه (فسوف) يلقون مجازاة الغي.

{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (٦٠)

استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون الى الله سبحانه ملحقون بأولئك الذين أنعم الله عليهم وهم معهم في الجنة لا منهم.

 


  بعض صفات الجنة

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (٦١)

يصف سبحانه الجنّة بأنها جنات إقامة وعدهم تعالى أمراً لم يكونوا يشاهدونه فصدّقوه وهو غائب عنهم فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما وعد به المؤمنين آتيا لا محالة.

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (٦٢)

أي لا يسمعون في تلك الجنات القول الذي لا معنى له يستفاد وهو اللغو إلاّ سلام الملائكة عليهم وسلام بعضهم على بعض، ويؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء والعشاء، وهو كنابة عن تواليه من غير انقطاع.

{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّ} (٦٣)

أي إنما نملك تلك الجنّة من كان تقياً في دار الدنيا بترك المعاصي وفعل الطاعات.

 


  نحن عباد أرواحنا وقلوبنا على الأكف

  سبب النزول

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (٦٤)

قال إبن عباس إن النبي (ص)قال لجبرئيل ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزل (وما نتنزل إلا بأمر ربك) الآية.

أي إذا أمرنا نزلنا عليك، له ما بين أيدينا من أمر الآخرة وما خلفنا أي ما مضى من أمر الدنيا وما بين النفختين، وما نسيك يا محمد وإن أخّر الوحي عنك.

{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (٦٥)

أي خالقهما ومدبّرهما (وما بينهم) من الخلائق والأشياء (فاعبده) وحده لا شريك له واصبر على تحمل مشقة عبادته، هل تعلم أحداً يسمى إلهاً خالقاً رازقاً محيياً قادراً على الثواب والعقاب سواه حتى تعبده فإذا لم تعلم ذلك فالزم عبادته.

 


  من أوصاف أهل النار

  سبب النزول

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} (٦٦)

لمّا تقدم ذكر الوعد والوعيد والبعث والنشور حكى سبحانه عقيبه قول منكري البعث وردّ عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان بطريقة الانكار والاستهزاء، أي أإذا ما متُّ أعادني الله حيّاً، فقال سبحانه مجيباً لهذا الكافر.

{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (٦٧)

أي أولا يتذكر هذا الجاحد حال ابتداء خلقه فيستدل بالابتداء على الاعادة، فهو قبل ذلك لم يك شيئاً كائناً مذكوراً.

على رأي جماعة من المفسرين نزلت في حق أُبي بن خلف، أو الوليد بن المغيرة، حيث كانوا قد أخذوا قطعة من عظم منخور، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تتطاير كل ذرة منه الى جهة، وكانوا يقولون: انظروا الى محمد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبداً. فنزلت هذه الآية وأجابتهم جواباً قاطعاً ومفيداً.

{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (٦٨)

أي لنجمعنهم ونبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين، ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب وهم باركون على ركبهم من الذلة، أو وهم جماعات وزمرة زمرة.

{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} (٦٩)

أي لنستخرجن من كل جماعة الأعتى فالأعتى منهم، وهم قادتهم ورؤوسهم في الشر والعتي.

{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} (٧٠)

بيّن سبحانه لنحن أعلم بالذين هم أولى بشدة العذاب وأحق بعظيم العقاب وأجدر بلزوم النار.

 


  الجميع يردون جهنم

{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (٧١)

أي ما من أحد إلاّ ويرى النار عياناً يوم القيامة صالحاً كان أم طالحاً (كان على ربك) واجباً أوجبه على نفسه وقضى بأنه يكون.

{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (٧٢)

ما من أحد منكم إلا وهو سيرد النار ويراها، فالطالح يراها ويدخلها جاثياً على ركبتيه، والصالح يراها ويتجاوزها حامداً شاكراً نعمة النجاة والخلاص.

 


  منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (٧٣)

معناه وإذا يتلى على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن ظاهرات الحجج والأدلة يمكن أن تفهم معانيها، قال الذين جحدوا وحدانية الله تعالى وكذبوا أنبياءه للذين صدقوا بذلك مستفهمين لهم وغرضهم الإنكار أي الفريقين أي أنحن أم أنتم خير منزلاً ومسكناً أي موضع إقامة (وأحسن) مجلساً، وإنما تفاخروا بالمال وزينة الدنيا ولم يتفكروا في العاقبة ولبّسوا على الضعفة بأن من كان ذا مال في الدنيا فكذلك يكون في الآخرة.

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْياً} (٧٤)

المعنى ان الله سبحانه قد أهلك قبلهم أمماً وجماعات كانوا أكثر أموالاً وأحسن منظراً منهم فأهلك أموالهم وأفسد عليهم صورهم ولم تغن عنهم أموالهم ولا جمالهم كذلك لا يغني عن هؤلاء، وقيل أن المعني بالآية النضر بن الحارث وذووه وكانوا يرجلون شعورهم ويلبسون خز ثيابهم ويفتخرون بشارتهم وهيآتهم على أصحاب النبي (ص).

{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْداً} (٧٥)

أمر الله سبحانه نبيه (ص) الكريم ان يقول للذين يرون الخير في حشو المعدة: ان هذا الذي تفتخرون به من السعة في العيش هو ابتلاء يمتحن الله به عباده، ويمهلهم أمداً غير قصير، فإن شكروا أنعم الله عليهم بالثواب وحسن المآب، وإن ازدادوا كفراً وطغياناً سلط عليهم من يسومهم سوء العذاب في الحياة الدني، أو يعذبهم الله العذاب الأكبر في اليوم الآخر.. وعندها يعلمون أي الفريقين أسوأ حالاً: المؤمنين الفقراء، أو الكافرين الأغنياء؟ ولو أن انساناً ملك كل ما طلعت عليه الشمس لم يكن هذا الملك شيئاً مذكوراً بالقياس الى ادنى عذاب من حريق جهنم.. قال أمير المؤمنين (ع): «ما خير بخير بعده النار، وما شر بشر بعده الجنة، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية».

{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} (٧٦)

هذه الآية تبين حال الفريق الآخر، وهم المؤمنون وأن الله سبحانه يمد المهتدين بالمعونة على طاعاته والتوفيق لابتغاء مرضاته وهو ما يفتحه لهم من الدلالات وما يفعله بهم من الألطاف المقربة من الحسنات، فيزيدهم هدىً على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة والتي تبقى ببقاء ثوابها، وتنفع صاحبها في الدنيا والآخرة وهي خير أجراً وخير عاقبة ومنفعة.