والصلاة والسلام على نبيّنا محمد
وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
يقول المولى سبحانه وتعالى:
{الذين
آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته اولئك يؤمنون به ومن يكفر به
فأولئك هم الخاسرون}
(1).
هذا التعبير العميق بأنهم (يتلونه
حق تلاوته) يضع لنا خطاً واضحاً تجاه القرآن الكريم والكتب
السماوية، فالناس امام الآيات الالهية على أقسام.
قسم يكرسون اهتمامهم على أداء
الألفاظ بشكل صحيح وعلى قواعد التجويد، ويشغل ذهنهم دوماً الوقف
والوصل والادغام والغنة في التلاوة، ولا يهتمون إطلاقاً بمحتوى
القرآن فما بالك بالعمل به! وقسم يتجاوز إطار الألفاظ ويتعمق في
المعاني ويدقّق في الموضوعات القرآنية، ولكن لا يعمل بما يفهم!
وقسم ثالث، وهم المؤمنون حقاً،
يقرأون القرآن باعتباره كتاب عمل، ومنهجاً كاملاً للحياة، ويعتبرون
قراءة الألفاظ والتفكير في المعاني وإدراك مفاهيم الآيات الكريمة
مقدمة للعمل، ولذلك تصعد في نفوسهم روح جديدة كلما قرأوا القرآن،
وتتصاعد في داخلهم عزيمة وإرادة جديدتان واستعداد جديد للأعمال
الصالحة، وهذه هي التلاوة الحقة.
ورد عن الامام الصادق (ع) في تفسير
هذه الآية: «يرتلون آياته، ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون
وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون
بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه، وتلاوة سوره ودرس
أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده وإنما هو تدبّر آياته
والعمل بأركانه»، قال الله تعالى:
{كتابٌ
أنزلناه إليك مبارك ليدَّبَّروا آياته}
(2).
ونحن في جمعية القرآن الكريم وفي
أجواء ولادة النبي عيسى (ع) نقدم للأخوة والأخوات الأعزاء تفسير (سورة
مريم (ع)) ونحرص على ان تكون القراءة لهذه السورة والحفظ لها
وتدبرها مقدمة للعمل لأنه لا فائدة من العلم إذا لم يعقبه العمل،
كما قال أمير المؤمنين (ع) :«العلم بلا عمل كالرامي بلا وتر».
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والنجاح
في الدنيا والآخرة ونسأله سبحانه قبول هذا القليل لخدمة القرآن
المجيد ونشر معارفه وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
جمعية القرآن الكريم للتوجيه
والارشاد
دائرة الدراسات
(1) - البقرة / 121.
(2) - تفسير الامثل:
ج1/ص260.
هذه السورة المباركة مكيّة وعدد
آياتها ثمان وتسعون آية.
روي عن الرسول الأكرم (ص): «من
قرأها أعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريا وكذب به، ويحيى ومريم
وموسى وعيسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل (ع) عشر حسنات،
وبعدد من دعى لله ولداً، وبعدد من لم يدع ولداً»
(3).
إن هذا الحديث دعوة الى السعي والجد
في خطين مختلفين:
خط مساندة ودعم النبي (ص) والطاهرين
والخيرين.
وخط محاربة المشركين والمنحرفين
والفاسقين، لأنا نعلم أن هذه المكافئات والعطايا الجزيلة لا تعطى
لمن يتلفظ كلمات السورة بلسانه فقط، ولا يعمل بأوامره، بل إن هذه
الألفاظ المقدسة مقدمة للعمل.
وفي حديث آخر عن الامام الصادق (ع):
«من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه
في نفسه وماله وولده»
(4).
إن هذا الغنى وعدم الاحتياج قبس من
وجود محتوى السورة وسريانها في أعماق روح الانسان، وانعكاسها من
خلال أعماله وأقواله وسلوكه.
(3) - مجمع البيان: ج
5/ص 772.
(4) - مجمع البيان:
ج 5 / ص 772.
تحتوى هذه السورة عدّة أقسام مهمة:
القسم الأول: يتحدث عن قصص زكريا
(ع) ومريم (ع) والمسيح (ع) ويحيى (ع) وابراهيم (ع) بطل التوحيد،
وولده إسماعيل (ع) وادريس (ع) وبعض آخر من كبار أنبياء الله (ع).
القسم الثاني: يتحدث عن أمور تربوية
واجتماعية لها خصوصيات مهمة.
القسم الثالث: عبارة عن المسائل
المرتبطة بالقيامة، وكيفية البعث، ومصير المجرمين، وثواب المتقين،
وأمثال ذلك.
القسم الرابع: وفيه مواعظ ونصائح
يكمل الأقسام السابقة.
القسم الخامس: عبارة عن الاشارات
المرتبطة بالقرآن، ونفي الولد عن الله سبحانه، ومسألة الشفاعة، وهي
تشكل بمجموعها برنامجاً تربوياً مؤثراً من أجل دفع النفوس
الانسانية الى الايمان والطهارة والتقوى.
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (3)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ
شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا
فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن
قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ
وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ
اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ
الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا
وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ
يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا
شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا
فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا
سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن
كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ
آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا
(21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا
لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25).
وهن: الوهن الضعف ونقصان القوة.
اشتعل الرأس شيباً: استعارة من
اشتعال النار للشيب.
شقياً: المراد بالشقي هنا الخائب أي
ما خيبتني من قبل في دعائي إياك.
الموالي: أقارب الرجل من جهة الأب.
من ورائي: من بعدي.
وليّاً: أي وارثاً.
رضيّاً: مرضياً عندك.
عتيّاً: أي بلغ من الكبر الى حال
يبست معها مفاصله وعظامه.
سويّاً: صحيحاً سليماً من كل آفة.
المحراب: المصلّى.
الكتاب: المراد به هنا التوراة.
حناناً: الحنان العطف والرحمة.
الزكاة: الطهارة.
تقياً: التقوى طاعة الله.
الجبار: المتعالي الذي لا يخضع لشيء.
والعصي: العاصي.
والسلام: الأمان.
انتبذت: اعتزلت.
مكاناً شرقياً: الى جهة الشرق.
روحنا: جبريل.
سوياً: كامل البنية.
أعوذ: اعتصم.
مقضياً: محتوماً.
قصيّاً: بعيداً.
فأجاءها: الأصل جاء فدخلت همزة
التعدي على الفعل فصار أجاءها مثل أقامه وأقعده.
المخاض: الطلق.
نسياً: النسيء الشيء الحقير الذي لا
يؤبه له.
سريّاً: لها معانٍ في اللغة، منها
الجدول والقائد.
جنياً: الجني من الثمر ما نضج وصلح
للاجتناء والقطف.
{كهيعَص}
(1)
تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ
بحروف مقطعة، مثل الم، الر، وحم، وما شاكل ذلك. هذه الحروف من
أسرار القرآن، وقد ذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، وأضاف لها
العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.
أهم هذه التفاسير وأقربها الى
الواقع والفهم، أن هذه الحروف إشارة الى أن هذا الكتاب السماوي
بعظمته وأهميته التي حيّرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدّت الجن
والانس في عصر الرسالة وكل العصور بأن يأتوا بمثله، أو بعشر سور
مثله، أو بسورة واحدة، مع أنه يتكون من نفس الحروف المتيسرة في
متناول الجميع، فأشار بذكر هذه الحروف (كهيعص) ونحوها الى أن هذا
الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف التي هي في متناول ايديكم
فعجزكم "اذن" دليل قاطع على ان هناك سراً ولا تفسير لهذا السر إلاّ
أن هذا القرآن من وحي السماء، لا من صنع الأرض وأنه لم يصدر عن فكر
بشر.
والشاهد على هذا المنحى من تفسير
الحروف المقطعة، حديث الامام علي بن الحسين السجاد (ع) حيث يقول: «كذّب
قُرَيْشُ واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحرٌ مبينٌ، تقوّله، فقال
الله:
{الم (١)
ذَلِكَ الْكِتَابُ.....}
أي يا محمد، هذا الكتاب الذي
أنزلته إليك هو الحروف المقطّعة التي منها الف ولام وميم، وهو
بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين...»
(5).
شاهد آخر عن الامام علي بن موسى
الرضا (ع) في قوله: «ثمَّ قال إن الله تبارك وتعلى أنزل هذا القرآن
بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب»، ثم قال:
{قل لئن اجتمعت الانس والجنُّ على
أن يأتوا بمثل هذا القرآن....}
(6).
(5) - تفسير البرهان:
ج1/ 54.
(6) - توحيد الصدوق: ص
162/ ط سنة 1375 هـ.ق.
{ذِكْرُ
رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (٢)
أي هذا خبر يقصه عليك يا محمد (ص)
في هذه الآيات كيف رحم سبحانه عبده ونبيه زكريا، ويعني بالرحمة
إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد، وزكريا (ع) اسم نبي من أنبياء
بني اسرائيل كان من أولاد هارون بن عمران اخي موسى بن عمران.
{إِذْ نَادَى
رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّ} (٣)
أي حين دعا ربه دعاءً خفياً سراً
غير جهر يخفيه في نفسه لا يريد به رياء وفي هذا دلالة على أن
المستحب في الدعاء، الاخفاء وإن ذلك اقرب الى الاجابة وفي الحديث:
خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي. وقيل إنما أخفاه لئلا يهزأ
به الناس فيقولوا انظروا الى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر.
{قَالَ رَبِّ
إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا
وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}
(٤)
أي يا رب ضعف العظم وتناقصت قوّتي،
وانتشر وتلألأ الشيب في رأسي لكثرته، ولم أكن بدعائي إياك فيما مضى
مخيباً محروماً فلا تخيبني فيما أسألك ولا تحرمني إجابتك فيما
أدعوك.
{وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً}
(٥)
أي أخاف إن جاء أجلي أن يرثني بنو
عمومتي، وهم من بني اسرائيل، وقيل انهم كانوا من شرار الناس.. وليس
هذا ببعيد عنهم، فإذا خلفه ورثوه وأساءوا الى الناس، وأفسدوا عليهم
دينهم ودنياهم (وكانت امرأتي) عقيماً لا تلد، ورغم كبر سنها
وشيخوخة زكريا (ع) فإنه كان عظيم الثقة بخالقه فدعاه، أن يجبر كسره،
ويقضي حاجته بأن يرزقه ولداً ولياً يكون أولى بميراثي.
{يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}
(٦)
والمراد بالوراثة: وراثة ما تركه
الميت من الأموال وامتعة الحياة (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ
يَعْقُوبَ) وذلك لأن زوجته كانت خالة مريم ام عيسى، ويتصل نسبها
بيعقوب، لأنها كانت من أسرة سليمان بن داود، وهو من أولاد يهودا بن
يعقوب، واجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضياً عندك ممتثلاً
لأمرك.
{يَا
زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ
نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (٧)
استجاب الله دعاء زكريا، وبشره بأنه
سيولد له ذكر، وأن الله سبحانه سماه يحيى، وهو في صلب أبيه، وما
سُمي أحد من قبله بهذا الاسم، وقيل: أن يحيى هو يوحنا المعروف
بالمعمداني عند المسيحيين.
{قَالَ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ
بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (٨)
ليس هذا استبعاداً، بل تعظيماً
وشكراً لأنعم الله وقدرته التي تخطت السنن والعادات، فهو شيخ كبير،
وزوجته عجوز عقيم، ومع هذا قد منَّ الله بالعطاء، وأنعم بالولد.
{قَالَ
كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ
مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (٩)
أي قال سبحانه الأمر على ما أخبرتك
من هبة الولد على الكبر، أردُّ عليك قوتك، وهو أمر سهل بالنسبة لله
عزّ وجلّ، فقد أنشأتك وأوجدتك ولم تك شيئاً موجوداً فإزالة عقر
زوجتك وإزالة ما يمنع الولد أيسر في الاعتبار من ابتداء الانشاء،
وروى الحكم بن عيينة عن أبي جعفر (ع) قال: إنما ولد يحيى بعد
البشارة له من الله بخمس سنين.
{قَالَ رَبِّ
اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (١٠)
طلب زكريا (ع) من ربه علامة على
وجود الحمل (قال) سبحانه علامتك على ذلك عدم القدرة على تكليم
الناس وأنت سويٌّ صحيح سليم، فكان (ع) يذكر الله بفنون الذكر ولا
يقدر على تكليم الناس إلاّ رمزاً وإشارة.
{فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ
سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}
(١١)
أي خرج زكريا (ع) من محراب عبادته
الى الناس وأشار إليهم وأومى بيده وقيل كتب لهم في الأرض أن صلّوا
بكرة وعشياً، وقيل أنه كان يشرف عليهم زكريا من فوق غرفة كان يصلي
فيها لا يصعد إليها إلاّ بسلّم وكانوا يصلون معه الفجر والعشاء
فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه فلما اعتقل لسانه خرج على عادته
وأذن لهم بغير كلام فعرفوا عند ذلك أنه قد جاء وقت حمل امرأته
بيحيى فمكث ثلاثة أيام لا يقدر على الكلام معهم ويقدر على التسبيح
والدعاء.
وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوة
والوحي، ووصفه في اول سورة مريم بالعبودية، وذكره في سورة الانعام
في عداد الأنبياء وعدّه من الصالحين ثم من المجتبين "وهم المخلصون"
والمهديين.
لم يرد من أخباره في القرآن إلا
دعاءه لطلب الولد واستجابته وإعطاؤه يحيى (ع)، وذلك بعد ما رأى من
أمر مريم في عبادتها وكرامتها عند الله ما رأى.
فذكر سبحانه أن زكريا (ع) تكفل مريم
لفقدها أباها عمران ثم لما نشأت اعتزلت عن الناس واشتغلت بالعبادة
في محراب لها في المسجد، وكان يدخل عليها زكريا يتفقدها «كلما دخل
عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت
هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب».
هنالك دعا زكريا ربه وسأله أن يهب
له من امرأته ذرية طيبة وكان شيخاً فانياً وامرأته عاقراً فاستجيب
له ونادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بغلام
اسمه يحيى فسأل ربه آية لتطمئن نفسه أن النداء من جانبه سبحانه
فقيل له: إن آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا
رمزاً وكان كذلك وخرج على قومه من المحراب وأشار إليهم أن سبحوا
بكرة وعشياً وأصلح الله له زوجه فولدت له يحيى (ع).
ولم يذكر في القرآن مآل أمره (ع)
وكيفية ارتحاله لكن وردت أخبار متكاثرة من طرق العامة والخاصة، أن
قومه قتلوه وذلك أن أعداءه قصدوه بالقتل فهرب منهم والتجأ الى شجرة
فانفرجت له فدخل في جوفها ثم التأمت فدلهم الشيطان عليه وامرهم أن
ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا وقطعوه نصفين فقتل (ع) عند ذلك.
وقد ورد في بعض الأخبار أن السبب في
قتله أنهم اتهموه في أمر مريم... وقالوا: هو وحده كان المتردد
إليها الداخل عليها، وقيل غير ذلك.
{يَا يَحْيَى
خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}
(١٢)
ها هنا اختصار عجيب تقديره فوهبنا
له يحيى وأعطيناه الفهم والعقل وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب يعني
التوراة بما قواك الله عليه وايدك به، وآتيناه النبوة في حال صباه
وهو ابن ثلاث سنين.
{وَحَنَانًا
مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً}
(١٣)
أي وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا
على العباد ورقة قلب عليهم ليدعوهم الى طاعةالله تعالى، وآتيناه
عملاً صالحاً زكياً وكان مخلصاً مطيعاً متقياً لما نهى الله عنه
قالوا من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها.
{وَبَرًّا
بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} (١٤)
أي باراً بوالديه محسناً إليهما
مطيعاً لهما لطيفاً بهما طالباً مرضاتهما، ولم يكن متكبراً متطاولاً
على الخلق ولا عاصياً لربه.
{وَسَلَامٌ
عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}
(١٥)
أي سلام عليه يوم ولد فلا يمسه
مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، وسلام عليه يوم يموت، فسيعيش في
البرزخ عيشة نعيمة، وسلام عليه يوم يبعث حيّاً فيحيى فيها بحقيقة
الحياة ولا نصب ولا تعب.
وهذا كناية عن أن يحيى مرضي عند
الله دنيا وآخرة، ومن الواضح ان رضاه تعالى نتيجة طبيعية للنعوت
التي نعت الله بها يحيى (ع).
ذكره سبحانه في بضعة مواضع من كلامه
وأثنى عليه ثناءً جميلاً فوصفه بأنه كان مصدقاً بكلمة من الله وهو
تصديقه بنبوة المسيح (ع) وأنه كان سيداً يسود قومه، وأنه كان حصوراً
لا يأتي النساء، وكان نبيّاً ومن الصالحين، ومن المجتبين وهم
المخلصون، ومن المهديين، وأن الله هو سماه بيحيى ولم يجعل له من
قبل سمياً، وأمره بأخذ الكتاب بقوة وآتاه الحكم صبياً، «وسلام عليه
يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً»
(7).
ومدح بيت زكريا بقوله: «إنهم كانوا
يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين»
(8) وهم يحيى وأبوه وأمه.
ولد (ع) لأبويه على خرق العادة فقد
كان أبوه شيخاً فانياً وأمه عاقراً فرزقهما الله يحيى وهما آئسان
من الولد، وأخذ بالرشد والعبادة والزهد في صغره وآتاه الله الحكم
صبياً، وقد تجرد للتنسك والزهد والانقطاع فلم يتزوج قط ولا ألهاه
شيء من ملاذ الدنيا.
كان معاصراً لعيسى بن مريم (ع)
وصدّق نبوّته، وكان سيداً في قومه تحنّ إليه القلوب وتميل إليه
النفوس ويجتمع إليه الناس فيعظهم ويدعوهم الى التوبة ويأمرهم
بالتقوى حتى استشهد (ع).
ولم يرد في القرآن مقتله (ع)، والذي
ورد في الأخبار أنه كان السبب في قتله أن امرأة بغياً افتتن بها
ملك بني اسرائيل وكان يأتيها فنهاه يحيى ووبخه على ذلك، وكان مكرماً
عند الملك يطيع أمره ويسمع قوله، فاضمرت المرأة عداوته وطلبت من
الملك رأس يحيى وألحت عليه فأمر به فذبح وأُهدي إليها رأسه.
وفي بعض الأخبار أن التي طلبت منه
رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك وكان يريد ان يتزوج بها فنهاه يحيى
عن ذلك فزينتها أمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك وأرسلتها إليه
ولقنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت
فذبح (ع) ووضع رأسه في طست من ذهب وأُهدي إليها.
وفي الروايات نوادر كثيرة من زهده
وتنسكه وبكائه من خشية الله ومواعظه وحكمه.
{وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا
شَرْقِيّاً} (١٦)
أي واذكر يا محمد في القرآن حديث
مريم وولادتها عيسى وصلاحها ليقتدي الناس بها ولتكون معجزة لك، إذ
انفردت من أهلها الى مكان من جهة المشرق وقعدت ناحية منهم.
{فَاتَّخَذَتْ
مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا
فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (١٧)
أي فضربت من دون أهلها لئلاّ يروها
ستراً وحاجزاً بينها وبينهم (فأرسلنا إليه) جبرئيل، وسمّاه الله
روحاً لأنه روحاني وأضافه الى نفسه تشريفاً له، فأتاها جبرئيل
فانتصب بين يديها في صورة آدمي صحيح لم ينقص منه شيء.
{قَالَتْ
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}
(١٨)
معناه إني أعتصم بالرحمن من شرّك
فاخرج من عندي إن كنت تقياً، فليردعك تقواك عن ان تتعرض بي وتقصدني
بسوء.
{قَالَ
إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيّاً}
(١٩)
أي لا تخافي، أنا ملاك لا إنسان
وقديس لا إبليس، جئت لأقول لك إن الله سبحانه قد وهبك ولداً طاهراً
مطهراً.
{قَالَتْ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ
بَغِيًّا} (٢٠)
كيف يكون لي ولد ولم يخالطني قبل
هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح ولا من طريق الحرام
بالزّنا وكل شيء دونه حتى الموت {قَالَ
كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً
لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيّاً}
(٢١)
المعنى قال جبرئيل حين سمع تعجبهامن
هذه البشارة الأمر كذلك كما وصفت لك، فإحداث الولد من غير زوج
للمرأة سهل يسير لا يشق علي، ولنجعله علامة ظاهرة وآية باهرة للناس
على نبوته ودلالة على براءة أُمّه، ولنجعله نعمة منا على الخلق
يهتدون بسببه، وكان خلق عيسى (ع) من غير ذكر أمراً كائناً مفروغاً
عنه محتوماً قضى الله سبحانه بأن يكون وحكم به.
{فَحَمَلَتْهُ
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيّاً}
(٢٢)
أي حملت بالولد فانفردت واعتزلت به
مكاناً بعيداً من قومها حياء من أهلها وخوفاً من أن يتهموها بسوء
واختلفوا في مدة حملها فقيل ساعة واحدة.
{فَأَجَاءَهَا
الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (٢٣)
أي ألجأها الطلق وجع الولادة (الى
جذع النخلة) لتستند اليها وتستفيد من ثمرها وظلها (قالت يا ليتني
متُّ قبل هذا وكنت) شيئاً حقيراً متروكاً.
{فَنَادَاهَا
مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ
سَرِيّاً} (٢٤)
أي ناداها جبرئيل او عيسى "وهو
الأقرب" ليزول ما عندها من الغم والجزع لا تغتمي قد جعل ربك تحت
قدميك نهراً تشربين منه وتتطهرين به.
{وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيّاً}
(٢٥)
معناه اجذبي إليك بجذع النخلة وكانت
يابسة وإنّما اخضرّت وأورقت واثمرت رطباً جنياً لساعتها، فالوضع
الذي كانت فيه مريم (ع) معجزات في معجزات.
|