تفسير سورة مريم

 جمعية القرآن الكريم للإرشاد والتوجيه - بيروت - لبنان

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

الآيات من 26 إلى 51 22
اللغة والبيان 24
التفسير 24
المسيح (ع) يتكلم في المهد 25
أيمكن أن يكون لله ولد؟ 26
يوم القيامة.. يوم الحسرة والأسف 26
قصة عيسى (ع) وأمّه في القرآن 28
ابراهيم (ع) ومنطقه المؤثر والقاطع 30
نتيجة البعد عن الشرك والمشركين 31
قصة ابراهيم (ع) في القرآن 32
موسى (ع): نبيّ مخلص ومجتبى 34

 


  الآيات من 26 إلى51

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (51)

 


  اللغة والبيان

فرياً: من الفرية، والمراد بها هنا دعوى الولادة بلا أب.

المهد: الموضع يهيأ للصبي.

الكتاب: المراد به الانجيل.

الأحزاب: المراد بها طوائف أهل الكتاب.

من بينهم: أي أن الاختلاف لم يخرج عنهم كما تقول اختلفوا فيما بينهم.

فويلٌ: الويل الخزي والهوان.

يوم الحسرة: يوم القيامة.

صدّيقاً: الصّديق مبالغة في الصدق والاخلاص.

صراطاً سوّياً: الصراط السوي الطريق القويم.

مليّاً: دهراً طويلاً.

حفيّاً: كثير الحفاوة والاعتناء.

شقياّ: خائباً في مسعاه.

 


  التفسير

  المسيح (ع) يتكلم في المهد

{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} (٢٦)

أي فكلي من الرطب الجني الذي يسقط واشربي من هذا الماء لتقرّ عينك سروراً بهذا الولد الذي ترين لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة، وأما ما تخافين من تهمة الناس وإساءتهم فالزمي السكوت ولا تكلمي أحداً فأنا أكفيكهم.

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِياًّ} (٢٧)

أي فأتت مريم (ع) بعيسى (ع) حاملة له وذلك أنها لفّته في خرقة وحملته الى قومها (قالوا يا مريم لقد جئتِ) أمراً عظيماً وقبيحاً ومنكراً إذ لم تلد انثى قبلك من غير رجل.

{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} (٢٨)

هارون أخو موسى، وهي من نسله، والقصد تذكيرها بأصلها الطيب، وأنه إذا زكا الأصل يجب ان يزكوا الفرع، فكيف صدر منها ما لم يصدر مثله عن أصلها، فمن تشبهين أنت بفعلتك هذه التي لا يقدم عليها إلا من كانت بنتاً لرجل سوء، أو بنت امرأة بغي !

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} (٢٩)

أي فأومت إلى عيسى (ع) بأن كلّموه واستشهدوه على براءة ساحتي فتعجبوا من ذلك، وقالوا كيف نكلم صبياً في المهد وفي الحجر رضيعاً.

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (٣٠)

شرع عيسى (ع) في الجواب واقرّ بالعبودية لله تعالى ليبطل به قول من يدعي له الربوبية وكأن الله سبحانه أنطقه بذلك لعلمه بما يقوله الغالون فيه، فهو عبد الله سيؤتيه الانجيل وسيجعله نبيّاً وكان ذلك معجزة لمريم (ع) على براءة ساحتها.

{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (٣١)

بيّن سبحانه تمام كلام عيسى (ع) فقال (وجعلني) معلماً للخير (وأوصاني) بإقامة الصلاة وأداء الزكاة ما بقيت مكلفاً.

{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (٣٢)

المعنى إني بلطفه سبحانه وتوفيقه كنت محسناً الى والدتي متواضعاً في نفسي حتى لم أكن من الجبابرة الأشقياء.

{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} (٣٣)

أي والسلامة عليّ من الله تعالى في هذه الأحوال الثلاث التي تستقبله في كونه ووجوده.

 


  أيمكن أن يكون لله ولد؟

{ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} (٣٤)

معناه ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى بن مريم هو الصدق والحقيقة لا ما يدّعيه ويشكّ به اليهود وغيرهم فزعمت اليهود أنه ساحر كذاب وزعم غيرهم أنه ابن الله وثالث ثلاثة.

{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (٣٥)

كذبهم سبحانه بأنه ما كان ينبغي لله تعالى وما يصلح له ولا يستقيم أن يتخذ ولداً واحداً ولا اكثر ثم نزه سبحانه نفسه عن ذلك وبيّن السبب في كون عيسى (ع) من غير أب بأنه لا يتعذر عليه إيجاد شيء على الوجه الذي أراده.

 


  يوم القيامة.. يوم الحسرة والأسف

{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (٣٦)

من كلام عيسى (ع) ختم كلامه بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقّه ويتم الحجة عليهم، وامر بعبادة الله الواحد الأحد على الطريقة الواضحة التي لا اعوجاج فيها.

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمِْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (٣٧)

أي أن الأحزاب من أهل الكتاب اختلفوا في عيسى (ع) فقال قوم منهم هو الله وهم اليعقوبية وقال آخرون هو ابن الله وهم النسطورية وقال آخرون هو ثالث ثلاثة وهم الاسرائيلية وقال المسلمون هو عبد الله، فشدّة عذاب الله سبحانه سيحلّ بهم بقولهم في المسيح وذلك يوم القيامة يا له من مشهد عظيم من شدة اهواله وفضحه لهم

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (٣٨)

معناه اسمعهم وابصرهم أي بصّرهم وبيّن لهم أنهم إذا أتوا مع الناس الى موضع الجزاء سيكونون في ضلال مبين عن الجنّة والثواب.

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُون} (٣٩)

المعنى خوّف يا محمد كفار مكة يوم يتحسر المسيء هلا أحسن العمل والمحسن هلاّ ازداد من العمل وهو يوم القيامة، فإذا فرغ من الأمر وانقطعت الآمال وأدخل قوم النار فيها وقوم الجنة فيها مخلّدين، وهم مشغولون اليوم بما لا يعنيهم غافلون عن أحوال الآخرة لا يصدّقون بذلك.

{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (٤٠)

أي نميت سكانها فنرثهما ومن عليها من العقلاء لأنّا نميتهم ونهلكهم فلا يبقى فيها مالك ومتصرف، وإلينا يردُّون بعد الموت أي الى حيث لا يملك الأمر والنهي غيرنا.

 


  قصة عيسى (ع) وأمّه في القرآن

كانت أمّ المسيح مريم بنت عمران حملت بها أمّها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا وضعته محرراً يخدم المسجد وهي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلمّا وضعتها وبان لها أنها أنثى حزنت وتحسّرت ثم سمّتها مريم أي الخادمة وقد كان توفّي أبوها عمران قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلّمها للكهنة وفيهم زكريا فتشاجروا في كفالتها ثمّ اصطلحوا على القُرعة وساهموا فخرج لزكريا فكفلها حتى إذا أدركت ضرب لها من دونهم حجاباً فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلاّ زكريّا وكلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد كانت عليها السلام صدّيقة، وكانت معصومة بعصمة الله طاهرة مصطفاة محدّثة حدّثها الملائكة: بأن الله اصطفاها وطهّرها وكانت من القانتين ومن آيات الله للعالمين.

ثم إن الله تعالى أرسل إليها الرّوح وهي محتجبة فتمثل لها بشراً سوياً، وذكر لها أنه رسول من ربّها ليهب لها بإذن الله ولداً من غير أب، وبشّرها بما سيظهر من ولدها من المعجزات الباهرة، واخبرها أن الله سيؤيده بروح القدس، ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل، ورسولاً الى بني اسرائيل ذا الآيات البيّنات، وانبأها بشأنه وقصّته ثم نفخ الرّوح فيها فحملت به حمل المرأة بولدها.

وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شؤون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الانسان.

فلما رآها قومها ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال امرأة حملت ووضعت من غير بعل، وقالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا أخت هارون ما كان ابوك امرء سوء وما كانت امّك بغياً..

فدافع عن أمّه وأزال الريب بكلامه وهو في المهد، فكان هذا الكلام منه (ع) كبراعة الاستهلال بالنسبة الى ما سينهض على البغي والظلم وإحياء شريعة موسى (ع) وتقويمه، وتجديد ما اندرس من معارضه، وبيان ما اختلفوا فيه من آياته.

ثم نشأ عيسى (ع) وشب وكان هو وأمه على العادة الجارية في الحياة البشرية يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود الى آخر ما عاشا.

ثم إن عيسى (ع) أوتي الرسالة الى بني اسرائيل فانبعث يدعوهم الى دين التوحيد والى شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى (ع) إلا أنه نسخ بعض ما حرّم في التوراة تشديداً على اليهود، وكان يقول: يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.

وأنجز (ع) ما ذكره له من المعجزات كخلق الطير واحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والاخبار عن المغيبات بإذن الله.

ولم يزل يدعوهم الى توحيد الله وشريعته الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما شاهد من عتوّ القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة التي آمنت به الحواريين أنصاراً له الى الله سبحانه.

ثم إنّ اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفاه الله ورفعه إليه، وشبه لليهود فمن زاعم أنهم قتلوه، ومن زاعم أنهم صلبوه، ولكن شبه لهم.

 


  إبراهيم (ع) ومنطقه المؤثر والقاطع

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّ} (٤١)

ذكر سبحانه قصة إبراهيم (ع) فقال (واذكر) يا محمد (ص)في القرآن كثير التصديق في أمور الدين والذي كان عليّاً رفيع الشأن برسالة الله تعالى.

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (٤٢)

هناك اختلاف بين العلماء في المراد من أبي ابراهيم (ع) المذكور في القرآن: هل هو الأب الحقيقي، أو الأب المجازي أي أخو الأب، ومهما يكن فان ابراهيم (ع) دعا اباه الحقيقي أو المجازي الى الاسلام، واحتج عليه بمنطق العقل والفطرة، حيث كان أبوه يعبد الأصنام التي هي من حجارة صماء لا تنفع ولا تضر تعبدها وتسجد لها ؟ فأين عقلك وفهمك.

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (٤٣)

كل الناس الذين يرفضون عبادة الأصنام هم أعلم وأعقل ممن يعبدها، فكيف الأنبياء الذين يتلقون العلم من الله سبحانه ؟ ومنهم ابراهيم (ع) الذي قال لأبيه اقتد بي، أوضح لك طريقاً مستقيماً معتدلاً غير جائر بك عن الحق الى الضلال.

{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} (٤٤)

أي لا تطعه فيما يدعوك إليه فتكون بمنزلة من عبده ولا شبهة ان الكافر لا يعبد الشيطان ولكن من أطاع شيئاً فقد عبده (إن الشيطان كان للرحمن) عاصياً.

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} (٤٥)

أي إني أخاف يا أبت أن يأخذك شيء من عذاب خذلانه، وتنقطع عنك رحمته فلا يبقى لتولّي أمرك إلا الشيطان، فتكون ولياً للشيطان والشيطان مولاك فتكون موكولاً إليه وهو لا يغني عنك شيئاً.

 


  نتيجة البعد عن الشرك والمشركين

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} (٤٦)

أي أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام (يا ابراهيم) وتارك لها، لئن لم تمتنع عن هذا (لأرجمنك) بالحجارة، وفارقني دهراً طويلاً.

{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} (٤٧)

قابل ابراهيم (ع) اباه "فيما أساء إليه وهدّده" بالسّلام الذي فيه إحسان واعطاء الأمان، ووعده أن يستغفر له ربّه، إنه سبحانه كان باراً لطيفاً رحيماً.

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (٤٨)

أي أتنحى منكم جانباً وأعتزل عبادة ما تدعون من دونه من الاصنام، واعبد الله سبحانه رجاء أن يقبل طاعتي وعبادتي ولا اشقى بالرد فإن المؤمن بين الرجاء والخوف.

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (٤٩)

أي (فلم) فارقهم وهاجرهم الى الأرض المقدسة ورزقناه بإسحاق ويعقوب وأنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله وكلاّ من هذين جعلناه نبياً يقتدى به في الدين.

{وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} (٥٠)

لم يذكر سبحانه نوع الموهوب، لأن كلمة رحمتنا تومىء إليه، وكفى بمرضاة الله هبة ونعمة، والمراد بلسان الصدق ما يردده الناس جيلاً بعد جيل من حسن الثناء على ابراهيم (ع) واسحاق (ع) وإسماعيل (ع) ويعقوب (ع).

 


  قصة ابراهيم (ع) في القرآن

كان ابراهيم (ع) في طفوليّته الى اوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثم خرج إليهم ولحق بأبيه فوجده وقومه يعبدون الأصنام فلم يرتضى منه ومنهم ذلك وقد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيدة من الله سبحانه بالشهود الحق وإراءة ملكوت كلّ شيء بالجملة وبالقول الحق والعمل الصالح.

فاخذ يحاجّ أباه في عبادة الأصنام ويدعوه الى رفضها وتوحيد الله سبحانه واتباعه حتى يهديه الى مستقيم الصراط ويبعده من ولاية الشيطان، ولم يزل يحاجّه ويلحّ عليه حتّى زبره وطرده وأوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء والرّغبة منها.

فتلطّف إبراهيم (ع) إرفاقاً به وحناناً عليه وقد كان ذا خلق كريم وقول مرضيّ فسلّم عليه ووعده أن يستغفر له..

وقد كان من جانب آخر يحاجّ القوم في أمر الأصنام.. حتى خرج القوم ذات يوم الى عبادة جامعه خارج البلد واعتل هو بالسّقم فلم يخرج معهم وتخلف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضرباً باليمين فجعلهم جذاذاً إلاّ كبيراً لهم لعلّهم إليه يرجعون فلمّا تراجعوا وعلموا بما حدث بآلهتهم وفتّشوا عمّن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم،فأحضروه الى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون... وبعدما إنكشف أمره.

قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم...

ثم لما أنجاه الله من النار أخذ يدعوا الى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن من له شرذمة قليلة وقد سمّى الله تعالى منهم لوطاً ومنهم زوجته التي هاجر بها وقد كان تزوج بها قبل الخروج الى الأرض المقدسة.

ثم تبرّأ هو (ع) ومن معه من المؤمنين من قومهم وتبرّأ هو من آزر الذي كان يدعوه أباً ولم يكن بوالده الحقيقي وهاجر ومعه زوجته ولوط الى الأرض المقدسة ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين.. وبشره الله سبحانه هناك بإسماعيل وباسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب وقد شاخ وبلغه كبر السّن فولد له اسماعيل ثم ولد له إسحاق وبارك الله سبحانه فيه، وفي ولديه وأولادهما.

ثم أنه (ع) بأمر من ربّه ذهب الى أرض مكة وهي وادٍ غير ذي زرع فأسكن فيه ولده اسماعيل (ع) وهو صبي ورجع الى الأرض المقدّسة فنشأ اسماعيل هناك واجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك وبنيت بذلك بلدة مكة.

وكان (ع) ربما يزور اسماعيل في أرض مكة قبل بناء مكة والبيت وبعد ذلك، ثم بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من اسماعيل (ع) وهي أول بيت وضع.. ثم امره بذبح ولده اسماعيل (ع) فخرج معه للنسك فلما بلغ معه السعي قال يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين..

وفداه الله بذبح عظيم.

وآخر ما قصَّ القرآن الكريم من قصصه (ع) أدعيته في بعض أيام حضوره بمكة المنقولة في سورة ابراهيم، وآخر ما ذكر في قوله (ع): « ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب».

 


  موسى (ع): نبيّ مخلص ومجتبى

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (٥١)

هنا يشير سبحانه الى موسى (ع) الذي هو ذرية إبراهيم (ع)، والذي سار على خطاه ويخاطب نبيه محمد (ص) ويقول له (واذكر) في القرآن (موسى إنّه) أخلص العبادة لله تعالى وأخلص نفسه لأداء الرسالة، فأخلصه الله بالنبوة واختاره للرسالة (وكان رسول) الى فرعون وقومه (نبيّ) رفيع الشأن عالي القدر.