بالإضافة إلى انحرافات بني إسرائيل الفكرية، ومواقفهم العدائية في
الميادين المختلفة، ونظرهم المخالف في شتى المسائل، ودسائسهم ضد
الثقافة الإسلامية، وطرحهم المشاريع المعادية وإجرائها أيضاً، نرى
أنهم عملياً قد أقدموا على فعل كل ما يقدرون عليه في مقابل
المسلمين والشعوب الأخرى. والتأمل بعمق فيما أقدموا عليه يوجب أخذ
الدروس والعبر في الحياة الفردية والاجتماعية، بالإضافة إلى
إيقاظنا وتنبيهنا فيما يتعلق بمواجهتهم لجبهة الحق، ووقوفهم في وجه
المؤمنين المتدينين، خصوصاً، أن كثيراً من أفعالهم كانت موجهة إلى
الأمة الإسلامية، لا بل أن بعض المسلمين قد تأثروا بهم وقلدوهم في
بعض أعمالهم.
من
المسائل العملية التي أقدم عليها اليهود، والتي اتخذت طابعاً
عمومياً، وقد ذكّرهم القرآن بها: اثنا عشر مورداً، نذكرها باختصار
في الآيات مورد الإشارة:
1-
النكث بالعهود
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}
(114).
أ-
من الصفات القبيحة التي التصقت باليهود طوال التاريخ وأصبحت ملازمة
لهم صفة (النكث بالعهد)، وعدم اعتبار أي قيمة لاتفاقياتهم، حتى
البنود التي يكتبونها بأنفسهم، وهذا الأمر قائم سواء في زمن موسى
(ع) أوفي زمن النبي الأكرم (ص). لقد نكث اليهود بعهودهم مرات
ومرات، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في مواضع عديدة في آياته
المباركة، نذكر بعضها:
1-
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ
إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}
(115).
2-
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...}
(116).
3-
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ
قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} (117).
ب-
إن عدم الإيمان وضعف الاعتقاد الديني عند اليهود هو منشأ النكث
بالعهود، فهم لا يعتقدون أن الله تعالى محيط بجميع أعمالهم، ولا
يؤمنون بأن نكث العهد لا يخفى عليه سبحانه وتعالى، ثم أنهم لا
يؤمنون أيضاً بالعقاب الإلهي المترتب على نقض العهود، ولا يعتبرون
ممن مضوا قبلهم من بني جلدتهم، ومن الأمم السالفة.
ج-
لعل المنشأ الآخر الذي جرّأ اليهود على الإقدام على نقض العهود،
عنصريتهم وتعصّبهم الأعمى لعرقهم ونسبهم، واعتبار أنفسهم مختلفين
ومتمايزين عن الآخرين، فما دام الشيء في مصلحتهم ونفعهم فهو محترم
عندهم أما بعد ذلك فلا قيمة له.
د-
ما يشاهده العالم اليوم من مواقف وأفعال تقوم بها إسرائيل الغاصبة،
يوضح بصراحة أنها لا تقيم أي وزن للمعاهدات والقرارات الدولية، بل
تأخذها على محمل السخرية والاستهزاء، وهي تنقضها علناً دون الشعور
بأدنى خجل، لا بل تفتخر بذلك، كل ذلك ليس سوى تلك الروحية الخبيثة
المليئة بالخيانة والاعتداء على الغير، ونقض العهود التي ورثوها من
أسلافهم اليهود، وبذلك صارت هذه الصفات جزءاً من طبيعتهم البشرية
والوراثية، ثم نرى أميركا تحاول بشتى الوسائل، وبالاستفادة من حق
(الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، أن تعيق جميع القرارات المتعلقة
بإسرائيل، وعلى الرغم من ذلك، فإن ما أصدره مجلس الأمن من قرارات
بحق إسرائيل يفوق ما أصدره بحق أي دولة أخرى في العالم، ومع ذلك لم
تقم إسرائيل أي اعتبار لهذه القرارات بل تعدها غير موجودة.
هـ-
لا ينحصر التعدي الإسرائيلي فقط بالعهود والمواثيق، ولا تقف خيانة
اليهود الصهاينة عند هذا الحدّ، بل يخونون الأمانات، فلا يمكن
الوثوق بهم مطلقاً، لأنه لا وفاء لديهم، إلاّ ما دمت قائماً فوق
رأسهم بالقوة والتسلط، عندها فقط قد يؤدون الأمانة ويوفون بالعهد:
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ
لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
(118).
و-
يذكر القرآن الكريم أمثلة عديدة لنقض اليهود المواثيق، نشير إلى
بعضها:
1/6
- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ
إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}
(119).
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ
تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}
(120).
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ
فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا
جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى
أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
(121).
والمواثيق عبارة عن:
1-
عبادة الله وحده.
2-
الإحسان إلى الوالدين.
3-
الإحسان إلى الأقرباء.
4-
الإحسان إلى الأيتام.
5-
الإحسان إلى الفقراء والمساكين.
6 -
معاشرة الناس بالحسنى.
7-
إقامة الصلاة
8 -
إيتاء الزكاة.
9-
عدم سفك الدماء.
10-
عدم تهجير الناس وإخراجهم من بيوتهم.
هناك مواثيق أخرى أخذها الله سبحانه على بني إسرائيل راجع الآيات:
(40، 63و64) من سورة البقرة.
2/6- أخذ الميثاق من بني إسرائيل في التوراة أن يؤمنوا بنبيّ آخر
الزمان (ص) ورسالته، لكنهم نقضوا الميثاق ولم يؤمنوا به وحاربوه:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ
لاَ يُؤْمِنُونَ}
(122).
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ
كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
(123).
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ
وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(124).
3/6- لقد عاهد بنو إسرائيل نبي الله موسى (ع) أن يطيعوه ويعينوه،
لكن عندما أمرهم بدخول أرض فلسطين ومقاتلة قومها الجبارين
(الطاغوت) خالفوه ونقضوا عهدهم معه، وقالوا له بكل وقاحة: {قَالُوا
يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ} (125).
4/6- عندما ورد الرسول الأكرم (ص) إلى المدينة مهاجراً عاهده بنو
النضير وبنو قريظة؛ أن لا يساعدوا أعداءه ولا يتآمروا عليه، لكنهم
نقضوا عهدهم مع الرسول (ص)، وساعدوا المشركين في حرب واقعة
الخندق، ووقفوا يداً بيد مع المشركين في وجه المسلمين: {أَوَ
كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
(126).
2-
التكذيب وقتل الأنبياء
{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}
(127).
أ
-إن الهدف من إرسال الأنبياء والرسل وإنزال الكتب السماوية هداية
البشر إلى الحق وإلى المقصد السماوي الواقعي الذي خلقوا من أجله،
لكن الأهواء والتعلق بالدنيا ومادياتها وحبها إلى درجة الهوس، هي
المانع الأساس لحركة الإنسان في مسير الهداية والاستمرار في طريق
الاستقامة، وهذه العوامل خصوصاً، (هوى النفس) هي سبب تمرد اليهود
وعصيانهم لأوامر الله سبحانه وأوامر أنبيائه (ص)، لا بل مواجهتهم
والتصدي لأحكامهم وتكذيبهم والتعدي عليهم: {فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ
اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
(128).
لذلك نراهم يكذبون الأنبياء، وحتى أنهم يقتلونهم عندما يتعلق الأمر
بالأحكام الإلهية التي لا تتناسب مع أهوائهم. (وما نشاهده اليوم
خير دليل على أن اليهود الصهاينة لا يتورعون عن قتل كل من يخالفهم،
ويغتالون علناً كل من يعمل ضدهم في العقيدة والسياسة والإقتصاد...
ويستفيدون من كل الوسائل في تحقيق هذا الهدف الخبيث)، ومن الأمثلة
على ذلك: اغتيال القادة الفلسطينيين، من أمثال الشيخ أحمد ياسين،
والدكتور الرنتيسي وغيرهم، كذلك اغتيال قادة المقاومة الإسلامية في
لبنان.
ب
-من أهم المسائل وأكثرها قيمة على الإطلاق قبول الحق، فلا دور
للميول والأهواء النفسية والمنافع الشخصية في هذه المسألة. فاليهود
طوال التاريخ كانوا يتقبلون من الأنبياء والتوراة التعاليم
والأحكام التي تتوافق مع إرادتهم وأهوائهم ومصالحهم الشخصية ولا
تتعارض معها، ويعلنون أنهم يؤمنون بها، لكن إذا تعارضت مع أهوائهم
ومنافعهم يكذبونها ويردونها، والنتيجة أن الدين يجب أن يكون تابعاً
لأهوائهم، لا أن تكون أهواؤهم تابعة للدين.
ج
-معظم المخالفات والتموضع اليهودي في مقابل النهضات الإصلاحية
للأنبياء والأولياء والربانيين نابعة من إتباع الهوى والميول
النفسية، ولم يكن منشؤها في أي وقت من الاعتقاد أو التصديق أو
الرؤية، فاليهود وبنو إسرائيل لم يكن عندهم شك في أحقية الأنبياء
وصدقهم وصدق رسالتهم، لكن ما لم يتحملوه ولم يرتضوا به تلك
التعاليم والأحكام التي جاء بها الرسل والكتب السماوية، لأنها
تخالف أهواءهم النفسية وتتعارض مع ميولهم الدنيوية.
د
-إن اتباع هوى النفس خطير إلى درجة يبعث الإنسان على قتل الأنبياء
والمعلمين وتصفيتهم جسدياً.
هـ-إن أكثر ما يسبب اتباع الهوى وتفضيل الميول النفسية وترجيحها
على كل شيء سواها، النفسية الاستعلائية والروحية الإستكبارية
والعنصرية عند اليهود.
و
-إن كشف الستار عن أعمال اليهود، وإفشاء ما كانوا يقومون به من
مخالفة الأنبياء والرسل، في الحقيقة، هو نوع من المواساة للنبي
الأكرم (ص) والمسلمين، فلا يتعجبون من عناد اليهود ومخالفاتهم
وتكذيبهم، لأنهم كانوا يفعلون ذلك مع أنبيائهم السابقين، وهذا ما
يصرح به القرآن الكريم في بعض آياته الشريفة: {الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}
(129).
ز
-اليهود لم يكذبوا الرسول الأكرم (ص) فقط، بل كانوا يضمرون له سوء
النية ويكنون الحقد والضغينة، وكانوا يتحينون الفرص لاغتياله
وتصفيته جسدياً، كما فعلوا بالأنبياء السابقين، غافلين عن أن الله
تعالى لن يمنحهم الفرصة لقتله، وأن النبيّ الأكرم (ص) مشمول بحفظ
الله عز وجل ورعايته، ولن يدع يد اليهود تمسّ حبيبه المصطفى بسوء.
والقرآن الكريم يبين في الآية التالية أن الله سبحانه حمى المؤمنين
وحفظهم وسلّمهم من يد الكفار والأشرار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ
أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ
الْمُؤْمِنُونَ}.
(130).
وقد
ذكر أن يهود بني النضير همّوا برسول الله (ص) يريدون قتله، لكن
الله تعالى حفظه من كيد أعمالهم ولم يمكنهم من ذلك
(131).
3-
التجسٌّس
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ} (132).
المعنى: نهى الله تعالى المؤمنين عن موالاة الكفار ومخالطتهم خوف
الفتنة منهم عليهم، ولا يفشون أسرارهم عندهم، وعلة ذلك، أن اليهود
والكفار من غير أهل ملتكم ولا يقصرون في السعي إلى فساد أمركم
ومضرتكم وإضلالكم عن دينكم.
شأن
النزول: نزلت في رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالاً من اليهود
لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع (عن ابن
عباس) وقيل نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين
ويخالطونهم (عن مجاهد)
(133).
أ
-هذه الآية تخاطب المسلمين وليس اليهود، لكنها تحذر المؤمنين من
نوع من الدسائس والمؤامرات التي يحيكها اليهود، مستفيدين من
الأسرار الداخلية للمسلمين، ومعرفة نقاط الضعف والقوة لديهم، من
أجل أذيتهم والوصول إلى أهدافهم المشئومة، من جملة هذه الأهداف،
الاستفادة من أسرار المؤمنين من أجل توجيه ضربة إلى فكرهم، والعمل
على إفساد عقولهم، لذلك استعمل القرآن الكريم لفظة (خبال) ومنه
الخبل للجنون لأنه فساد العقل.
(134) وذلك من شدة البغضاء والحسد.
ب
-إن حفظ الأسرار الفردية والاجتماعية تكليف ديني ووظيفة تخص الأمة
(وظيفة قومية بالمعنى الديني وليس القومي)، وهذا العمل يفشل
الأعداء المتربصين بالأمة شراً وبمؤامراتهم وبرامجهم الحاقدة، لأن
الإفشاء بالأسرار الداخلية يعدّ خيانة كبرى بحق الدين والشعب وخدمة
جليلة للعدو.
ج
-القرآن الكريم لم يضع خطوطاً حمراء ولا حدوداً لطالب الحقيقة،
ويمكن لأي إنسان أن يطرح ما يشاء من الأسئلة وهو آمن، وأن يحصل على
الإجابة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}
(135). أما المفسدون والجواسيس فأمرهم مختلف، وسؤالهم محل شك
وريبة، لذلك يمنع إفشاء أي مسألة عند كل من يسعى وراء الخيانة
والمؤامرة ضد المسلمين، ولا يعطى ما يسأل قطعاً، وتوضع الحدود
والموانع في طريقه.
د
-إن كل فرد في المجتمع الإسلامي، خصوصاً، القادة والمسؤولين سواء
الزمانيين والروحيين، يجب أن يراقبوا مؤامرات العدو وتحركاته
المشبوهة ويمنعوه من الوصول إلى نقاط القوة والضعف عند الأمة، وذلك
بإعمال العقل والتدبير من غير أن يكون لافتعال الأجواء الغير
مناسبة أي تأثير. لا يجب أن تشتبه الأمور على المجتمع، ففي المجتمع
الثوري والمقاوم لا يجب الخلط بين ما هو قريب وما هو غريب (من منّا
ومن ليس منّ)، ففي كثير من الأحيان يقع البسطاء والمنفعلون تحت
التأثير، فيتبدلون إلى جنودٍ للعدو ينفذ العدو من خلالهم إلى داخل
المجتمع، ويوجه إلى الأمة ضربات قاسية وغير قابلة للجبران، من خلال
المعلومات التي يحصلها من هؤلاء الأفراد البسطاء الغافلين.
هـ-
إن حفظ الأسرار وعدم إفساح الطريق للعدو وعملائه للإطلاع على
البرامج والمقررات والجلسات الخاصة، يعد من أهم الطرق للحماية من
مؤامرات الأعداء، من المهم التأكيد على الأفراد والقوات والحرّاس
باليقظة من العدو وتحذيرهم من مكره ودسائسه، لذلك عبّر القرآن
الكريم في ذيل الآية: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}
(136).
و -
في الآية 41 من سورة المائدة يبين الله تعالى لرسوله (ص) أن بعض
اليهود هم جواسيس لقوم آخرين: {وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ
تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ
يُرِدْ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
4-
الصد عن سبيل الله تعالى
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
كَثِيرًا} (137).
المعنى: فبما ظلموا أنفسهم (اليهود) بارتكاب المعاصي، ونقض
المواثيق، والكفر بالآيات وقتل الأنبياء، وقولهم على مريم بهتاناً
عظيماً، وبمنعهم عباد الله سبحانه عن دينه وسبيله التي شرعها
لعباده صداً كثيراً، وصدهم عن سبيل الله تعالى، وتقولّهم على الله
عزّ ولّ الباطل، وادّعائهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله
سبحانه وتحريفهم معانيه عن وجوهه، وأعظم من ذلك كله جحدهم نبوة
النبي الأكرم (ص)، وتركهم بيان ما علموه من أمره في كتبهم، اقتضت
المصلحة تحريم هذه الأشياء (الطيبات) عليهم، والطيبات في قوله
تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ}
(138).
أ -
من صفات اليهود الشيطانية القبيحة، خصوصاً، العلماء منهم، أنهم
ليسوا فقط لم يسيروا في طريق الهداية والصراط المستقيم، بل جهدوا
في منع الآخرين من الهداية والسير على الصراط المستقيم، فكانوا
كقطّاع الطرق، يسدون الطريق إلى الله تعالى في وجه الآخرين بوسوسةٍ
من الشيطان، ويجرّون الناس نحو أهدافهم ومصالحهم الشخصية:
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}
(139).
ب-
إن المعاصي التي ارتكبها العوام من اليهود وغيرهم ممن وقع في حبائل
حيلهم، بالإضافة إلى علمائهم أنفسهم، جميعها في عنق اليهود الذين
صدوا عن سبيل الله تعالى، ومنعوا هداية الناس إلى الصراط والسعادة
في الدنيا والآخرة، فكانت موجبة للانحطاط والسقوط والعذابات
المضاعفة من قبل الله سبحانه وتعالى، بحيث أنزل ببني إسرائيل شتى
أنواع العذاب، فكان عذابهم مضاعفاً على غيرهم ممن انحرفوا فقط
بأنفسهم ولم يحرفوا غيرهم. وبتعبير آخر، إن التوجه العام لمجتمع
بأكمله وسيره في خط يرسمه الخواص بحسب أهوائهم ومصالحهم، بحيث تشكل
حركة عمومية تسير خلف مجموعة من الخاصة، فإن صلحوا صلح العامة وإن
فسدوا فسد العامة، هذه الخصوصية نشاهدها بوضوح في المجتمع اليهودي
وعند علماء بني إسرائيل، وهدفهم في ذلك الصد عن سبيل الله ونشر
الفساد والانحراف، لكي يتمكنوا من استثمار الناس لمنافعهم ومآربهم
الخاصة، ووضع اليد على الثروات والأموال بالباطل: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ
وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
(140).
ج
-استخدم اليهود جميع الوسائل المادية والمعنوية في سبيل الفساد
والانحراف والصد عن سبيل الله تعالى، ومن الأمثلة على ذلك: إلقاء
الشبهات، وبث التشكيك، وتحريف الآيات الإلهية، ونسبة ما لا يجوز
إلى الله سبحانه، وكتمان الحقيقة، وبث التفرقة، والعمل على الفتنة،
وإيجاد الشغب والأجواء الغير المناسبة، والهجوم الثقافي على
المسلمين، والتبليغ ضدهم، وإيجاد البدع والتكذيب والقتل لمن
يخالفهم في الفكر والعقيدة والسياسة، بحيث لم يتورع اليهود من
استخدام هذه الوسائل حتى مع أنبيائهم: (ففريقاً كذبتم وفريقاً
تقتلون)، كذلك نشاهد هذه الأساليب في تعاملهم مع النبي الأكرم (ص)
والمسلمين في صدر الإسلام، واليوم أيضاً يشاهد العالم كيف يستفيد
الصهاينة من جميع الإمكانيات والوسائل: (الاقتصادية، السياسية،
العسكرية والثقافية)، وبالإتكاء على الغرب وما يمثل من قوة في
جميع المجالات، كل ذلك من أجل محاربة المسلمين والدول الإسلامية،
لكن ما يدعو إلى الأسف أن أكثر الزعماء المسلمين وقادة هذه الدول
غافلون أو مستغفلون.
د
-الصدّ عن سبيل الله سبحانه وسدّ طريق الهداية في وجوه الناس،
إضافة إلى العذاب الأخروي الذي لا مفرّ منه، يوجب الحرمان من النعم
الإلهية المادية والمعنوية (الحلال) في الدنيا أيضاً: {قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ}
(141).
5-
الاستهزاء بالدين
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(142).
المعنى: ينهى الله تعالى المؤمنين عن مولاة الكفار واليهود، ممن
أظهروا الإيمان باللسان واستبطنوا الكفر، وأن لا يتخذونهم بطانة
وأخِلّاء، لأنهم اتخذوا دين المسلمين هزواً.
أ
-عندما يعجز اليهود والمشركون والمنافقون في الرد على منطق الإسلام
القوي وأحكامه الحقّة، ويستنفذون وسائل الدفاع المختلفة عن عقائدهم
الباطلة، يعمدون إلى الاستهزاء من مقدسات الإسلام وقيمه السامية،
ويتخذون أحكامه ومناسكه وتعاليمه على محمل السخرية واللعب، ففي
الآية التي تلي يبين القرآن ذلك بوضوح: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}
(143).
ب
-هذا الأسلوب القبيح له سابقة عند اليهود، فاليهود كانوا يستهزئون
بأنبيائهم ويسخرون من تعاليمهم، لكنهم في نهاية الأمر يقعون هم
أنفسهم في هذا الاستهزاء والسخرية، فيحيق بهم ويؤخذوا به: {وَلَقَدِ
اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ
سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} (144).
ج -
للإيمان ركنان: التولي والتبرّي، أي قبول ولاية الله تعالى
والبراءة من ولاية من دونه. فمع قبول ولاية هؤلاء الذين لا يحترمون
مقدسات المسلمين ومعتقداتهم لا يمكن الإدّعاء بالإيمان والتدين، من
هنا فإن الأفراد الذين لا غيرة عندهم على الدين، ويتساهلون في
أمورهم العقائدية، ويسايرون الذين يتخذون دينهم هزواً وسخرية،
ويعقدون معهم الصداقات والعلاقات الحميمة، لا يمكن عدهم من
المؤمنين والمتدينين.
د
-الاستهزاء والسخرية والتجريح بالقول واللسان هو نوع من الحرب
النفسية، من أجل كسر روحية المسلمين وتثبيطهم ودفعهم باتجاه
التزلزل وعدم الثبات على الدين، لذلك يجب مواجهة هذا الأمر
بالإيمان القوي والتقوى والتوكل على الله تعالى وعدم الانفعال.
هـ
-إن إقدام العدو، خصوصاً، اليهود على الاستهزاء من الشعائر
والتعاليم والعقائد الدينية دليل على أن هذه الشعائر لها تأثير
كبير، ولا يمكن للعدو تحملها، لذلك يظهر ردة فعله المتعصبة ضد
الإسلام، وهذا يعني الثبات والإقدام أكثر فأكثر على نشر هذه
الشعائر.
6-
نشر الفساد
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً
وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ} (145).
أ-
المشهور أن أكثر الأمم لم تسلِّم لأنبيائها في مقابل ما جاؤوا به
من إصلاح وهداية، غير أن اليهود لم يسلّموا لتعاليم أنبيائهم اكثر
من أي أمة أخرى، ليس هذا فقط، بل لم يألوا جهداً في نشر الفساد
ومواجهة الأنبياء والمصلحين، ولم يتركوا وسيلة إلاّ استخدموها في
هذه المواجهة، حتى وصل بهم الأمر إلى المسارعة والتسابق في أكل
الحرام وارتكاب المعاصي والعدوان والقتل: {وَتَرَى كَثِيراً
مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(146).
ب-
شعار جميع الأنبياء والأوصياء هو الإصلاح والعدالة والاستقرار
ومواجهة الفساد والانحراف، متوكلين في ذلك على الله تعالى: {قَالَ
يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ
أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
(147).
كل
طرف يدّعي الإصلاح، وكل مجموعة تحمل لواء هذا الشعار، لكن الخلاف
في ماهية هذه الإصلاحات؛ أو كيف يكون الإصلاح؟ وبأي وسيلة نصل إلى
هذا الهدف؟ لكن ما يستفاد من القرآن الكريم أن هناك طريق واحد، هو
التمسك بكتاب الله والعمل على تطبيق الأحكام السماوية، وبغير ذلك
لا يمكن الوصول إلى الإصلاح: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ
بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُصْلِحِينَ} (148).
ج-
يبيّن القرآن الكريم فسادين كبيرين لبني إسرائيل، وقد أشارت
التوراة المقدسة إلى هذين الفسادين: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيرا}
(149).
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ
عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ
وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولا}
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرا}
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا}
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا
وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرا}
(150).
ولعل أشهر التفاسير لهذين الفسادين الذين يليهما تدميران لدولة بني
إسرائيل وإزالة حكمهم كالتالي:
الفساد الأول قتل زكريا (ع) والفساد الثاني قتل يحيا (ع).
الفساد الأول قتل شعيب (ع) والفساد الثاني قتل يحيا (ع).
إشارة إلى قتل أمير المؤمنين علي (ع) وبنيه (ع).
إشارة إلى قصة جالوت، والثانية قضاء بخت نصر (نبوخذ نصر) على
دولتهم.
الأول حملة بخت نصر على اليهود وتدمير دولتهم، والثانية هجوم طيطوس
(الملك الهخامنشي) من ملوك الفرس.
فساد اليهود في أول الدعوة الإسلامية وطرد الرسول الأكرم (ص) لبني
إسرائيل من أرض الجزيرة، والثانية قتل اليهود على يد هتلر النازي.
غير
أن صاحب تفسير الميزان يذكر أن: «الذي هو كالمسلم عندهم أن إحدى
هاتين النكايتين اللتين تشير إليهما الآيات هي ما جرى عليهم بيد
بخت نصر (نبوكد نصر) من ملوك بابل قبل الميلاد بستة قرون تقريباً.
وكان ملكاً ذا قوة وشوكة من جبابرة عهده، وكان يحمي بني إسرائيل
فعصوه وتمردوا عليه، فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر
بلادهم، ثم فتحها عنوة فخرّب البلاد وهدم المسجد الأقصى، وأحرق
التوراة وكُتب الأنبياء، وأباد النفوس بالقتل العام، ولم يبق منهم
إلا شرذمة قليلة من النساء والذراري وضعفاء الرجال، فأسرهم وسيرهم
معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حامٍ ولا يدفع عنهم دافع
طول زمن حياة بخت نصر وبعده زماناً طويلاً، حتى قصد الكسرى كورش
أحد ملوك الفرس العظام بابل وفتحها، فتلطف على الأسرى من بني
إسرائيل وأذن لهم بالرجوع إلى الأرض المقدسة وأعانهم على تعمير
الهيكل- المسجد الأقصى- وتجديد الأبنية وأجاز لعزراء (عُزير) أحد
كهنتهم أن يكتب لهم التوراة، وذلك في نيف وخمسين وأربعمائة سنة قبل
الميلاد.
والذي يظهر من تاريخ اليهود أن المبعوث أولاً لتخريب بيت المقدس هو
بخت نصر وبقي خراباً سبعين سنة، والمبعوث ثانياً هو قيصر الروم
إسبيانوس سيّر إليهم وزيره طوطوز فخرب البيت وأذل القوم قبل
الميلاد بقرن تقريب
(151).
لكن
المهم أن بني إسرائيل لم يعتبروا من الحادثتين، وأن الله تعالى
يجازيهم في كل مرة يفسدون فيها في الأرض حتى في هذه الدنيا قبل
الآخرة.
د-
من مصاديق الفساد الأخرى والتي وردت في الآيات والروايات: بث
الاختلاف والتفرقة، التعدي والاستيلاء على أموال الغير وممتلكاتهم،
استعمار الآخرين، الصد عن الحق، أكل الحرام والسحت والرشوة، قتل
النّسل، إحداث الفتن، الطغيان والتعدي، حرف أفكار الآخرين، الإخلال
بالأمن العام، النفاق وتحريف الواقع، مزاولة السحر والشعوذة، أكل
الربا. وخلاصة القول، أن اليهود لم يتركوا معصية إلا ارتكبوها، ولا
فساداً إلاّ ركبوه، وليس أدل على ذلك من كثرة الآيات والروايات
التي تتحدث عن فساد بني إسرائيل.
7-
الافتراء على الله الكذب
{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ
إِثْماً مُبِين} (152).
شأن
النزول: قيل نزلت في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي (ص)
فقالوا هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا فقالوا: ما نحن إلا كهيئتهم
ما عملناه بالنهار كفّر عنا بالليل وما عملناه بالليل كفّر عنا
بالنهار فكذّبهم الله عن (الكلبي). وقيل نزلت في اليهود والنصارى
حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه قالوا لن يدخل الجنة إلاّ من كان
هوداً أو نصارى... وهو المروي عن أبي جعفر (ع)
(153).
أ
-الروحية العنصرية وتمجيد الذات عند اليهود وصلت بهم إلى حد
الافتراء بما لا يجوز عليه سبحانه، علاوة على افترائهم على
الأنبياء والصالحين.
ب
-العجب والغرور إذا لم يتوقف عند حد فإنه يوصل الإنسان إلى
الانحراف الفكري، ويبعث على نسبة ما لا يجوز إلى الله تعالى
والافتراء عليه كذباً وعدواناً، بل قد يصل الأمر إلى تعيين ما
يتوجب على الله فعله وما لا يتوجب فعله، كأن يقولوا يجب على الله
تعالى أن يميزنا عن الآخرين.
ج
-الأمر المثير للتعجب أن يصدر هذا الافتراء من قومٍ يعدُّون أنفسهم
أهل كتاب، ويصدقون بالكتب السماوية والرسل وما نزل من عند الله
سبحانه، ويتجرأون على فعل هذا العمل القبيح، أو يجعلون لأنفسهم
مقاماً ليس حقيقياً ولا واقعياً، لذلك عبر القرآن الكريم بكلمة:
(أنظر كيف)، ما يشير إلى التعجب والاستغراب من هذا الطرح الغريب
والغير مقبول.
د
-الافتراء على الله تعالى ذنب عظيم، بحيث إذا لم يرتكب اليهود أي
ذنب سوى هذا الذنب لكان كافياً لإنزال العذاب، وأي معصية أكبر من
هذا الذنب!؟: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى
رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
(154).
هـ-لمصاديق الافتراء على الله والكذب عليه صور كثيرة، منها: نسبة
تفضيل اليهود على غيرهم من الأمم إلى الله تعالى، نسبة الكذب إليه
تعالى في نظام الخلق، اختصاص الجنة بمجموعة معينة من أصحاب
الديانات، تصويرهم أن الله عزّ وجلّ تجسد على هيأة إنسان وتصارع مع
أنبيائه، وغير ذلك من تفسير الآيات بالرأي ونسبتها إلى الخالق عز
وجل، وكل ذلك دليل على الكفر بآياته وعدم الإيمان بها: {إِنَّمَا
يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
(155).
8-
قساوة القلب
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ
لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} (156).
أ -
بعد بيان قصة بقرة بني إسرائيل في سورة البقرة، يعرّف القرآن
الكريم هؤلاء القوم بأصحاب القلوب القاسية، ويشبهها بالحجارة
الصمّاء الصلدة، بل أشد قسوة منها، بحيث أنها وصلت إلى مرحلة غير
قابلة للتغيير، فاليهود وبعد كل تلك المعجزات والعلامات والمدد
الغيبي من قبل المولى تعالى، لم تلن قلوبهم ولم يتوجهوا إلى الله
تعالى، بل على العكس، كلما زادت المعجزات ونزلت الآيات الإلهية عبر
مرور الزمن، كلما ازداد عنادهم وظهرت مخالفتهم للشرع المقدس
وللأنبياء وتعاليمهم، ولم يعتبروا بكل ما جرى عليهم.
ب-
قساوة القلب من أسوأ الأمراض الروحية وأقبح العلل القلبية، بحيث
تميت القلب وتغشّيه بالصدأ والسّواد، فيختم عليه، واليهود بسبب هذا
الابتلاء القاتل لم يظهروا أي انعطافة نحو قبول دعوة الأنبياء
وهدايتهم، رحمة بهذه الأمة وشفقة عليها. بل كان جوابهم: {وَقَالُوا
قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً
مَا يُؤْمِنُونَ}
(157).
قوله كذلك: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ
بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيل}
(158).
ج-
من علامات الإيمان امتلاك قلب يقظ وليّن يحمل العواطف والأحاسيس
الإنسانية، بحيث إذا ذكر الله سبحانه وجل القلب وازداد إيماناً
وتألقاً وسروراً وطمأنينة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ} (159).
أما
في الجهة المقابلة، فإن من علامات الكفر عدم التأثر ببشارة
الأنبياء ولا بإنذارهم، بحيث أن القلب قد امتلأ بحب الدنيا وانشغل
بغير الله سبحانه، فلم يبق لله تعالى فيه من مكان، فختم الله عز
وجل على قلوب هؤلاء بسبب أعمالهم القبيحة وخبث باطنهم وفسادهم:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(160). لذلك فهم محرومون من فهم الحقيقة وإدراك الواقع.
د-
القلب هو حرم الرب، ومكان تجليات أنواره الغيبية، بحيث يمكنه
السموّ والعروج إلى أرقى المدارج، في أعلى عليين، بهذه التجليات
القدسية والأنوار الملكوتية، وبذلك يكون في حكم مركز القيادة
والهداية لجميع الأعضاء والجوارح الأخرى للوصول إلى الكمال
المطلوب. غير أن التعلقات المادية الدنيوية الوضيعة والعناد
ومخالفة أحكام الشريعة تجعل القلب قاسياً وغليظاً ويختم عليه،
فيحيل صاحبه إلى أسفل سافلين، فلا يمكن أن يطلق عليه خليفة الله
سبحانه، ويصبح، بلا شك، أضل من الحيوان وأوضع منه: {وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ
بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ
كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
(161).
هـ-
واليهود إضافة إلى عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم التي لم تلن في مقابل
الآيات الإلهية والمعجزات الواضحات، نرى أن علاقاتهم مع الأمم
الأخرى قائمة على الوحشية وقساوة القلب وانعدام العاطفة والرفق،
فهم يعاملون الناس من غير ملتهم بسلوك حيواني مفترس، فكل من ليس
معهم يعد عدوهم، ويستحق منهم كل غلظة وشدة، ويجيزون الاعتداء عليه
وعلى أمواله وممتلكاته، ويستعملون شتى الوسائل في سبيل ذلك، وما
نشاهده اليوم من سلوك الصهيونية العالمية إلاّ صورة بارزة عن نمط
علاقاتهم مع الآخرين، وطبعهم الوحشي في التعامل مع غير اليهود، وما
يراه العالم من اعتداءات وجرائم وحشية غير قابلة للوصف، سواء في
لبنان وفلسطين وكل العالم الإسلامي، خير دليل على تاريخهم وحاضرهم،
وفي المقابل، نرى أن هذا العالم الذي يدّعي حقوق الإنسان، وينادي
بالحرية والعدالة، لا يقوم بأي ردة فعل خوفاً من إغضاب هذا الغول
المفترس الذي لا يقيم للأعراف السماوية والأرضية والإنسانية إي
اعتبار.
و-
عوامل قسوة القلب كثيرة، وقد وردت في الآيات الكريمة والأحاديث
الشريفة بوفرة، من أهم هذه العوامل التي ابتلى بنو إسرائيل
بأكثرها: نقض المواثيق، الكفر بما أنزل الله تعالى وعدم الخضوع
للحق، طول الأمل، عدم ذكر الموت، استماع اللهو، طلب الصيد وإتيان
السلطان، ترك العبادة والذكر، كثرة المال
(162).
كذلك هناك عوامل أخرى اختص بها اليهود: أكل الحرام والربا، كثرة
المعاصي والذنوب، إتّباع الهوى، حب الدنيا والتعلق بالشهوات،
ومعاندة الحق.
ز-
في مقابل عوامل قسوة القلب، هناك عوامل تحيي القلب وتلينه وتجعله
مبتهجاً بالحق وذكر الله سبحانه، والواقع أن اليهود حرموا من هذه
العوامل ونأوا بأنفسهم وقلوبهم عنها: كثرة ذكر الله تعالى، ذكر
الموت والقيامة، التدبر في آيات الله عز وجل، ترك الضغينة والحقد،
البعد عن الجمود والتحجر الفكري، التوبة من الذنب، مجالسة العقلاء
والعلماء، الاهتمام بالمحتاجين والفقراء ومواساتهم، البكاء من خشية
الله، تلاوة القرآن الكريم و...
9-
النفاق
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ} (163).
أ- عندما أدرك يهود المدينة قدرة المسلمين لم يستطيعوا مواجهتهم
رسمياً، وبصورة علنية، لذلك توسلوا النفاق سبيلاً، وراحوا يتعاونون
مع المشركين وينسِّقون حركاتهم معهم في حركة خبيثة، مستفيدين من
إظهار الوجهين واللسانين، وهذا عين النفاق، وفي كل ذلك بقوا على
عقائدهم ولم يحيدوا عنها، فإذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان
واستفادوا من الوضع الآمن في المدينة والإمكانيات المتاحة فيها، من
أجل جمع المعلومات والإطلاع على أسرار المسلمين، ثم كانوا إذا
رجعوا إلى مدبّري الدسائس وصنّاع المؤامرات، وضعوا هذه الأسرار
والمعلومات في اختيارهم وأطلعوهم على خطط المسلمين وأسرارهم. وإذا
كان المنافقون من المشركين هم من يديرون النفاق في مكة، حتى بعد
فتحها على يد المسلمين، فإن النفاق في المدينة كان يُدار من قبل
اليهود.
ب- الخطاب في هذه الآية موجّه إلى المسلمين، والحقيقة أن الله
سبحانه يحذّر القيادة المسلمة وأفراد المجتمع المسلم من خطر النفاق
اليهودي، فلا يغفلون عن هذا الأمر فيكونون عرضة للوقوع في فخ هؤلاء
المنافقين، ولا ينخدعون بالظواهر المدّعية للإيمان والقداسة.
والتعبير القرآني واضح، بأن المنافقين من اليهود يدخلون على
المسلمين وهم كافرين ويخرجون وهم كافرين، فهم لم يتأثروا أبداً
بالمسلمين وبعقائدهم، ولم يتحولوا إطلاقاً، ولم يكن دخولهم إلا
بدافع التخريب واستراق المعلومات والأسرار، والحقيقة أن قلوبهم
ليست مستعدة إطلاقاً للقبول بأي شيء آخر.
ج- إذا أظلمت القلوب وسادها السواد، ووصلت إلى حد لم تعد تسمع الحق
وترى الحقيقة، عندها لا يمكن لنَفَسِ الأنبياء المقدَّس ولا
إجراءاتهم العملية أن تؤثر في أصحاب هذه القلوب، ويغدو دخولهم في
المجتمع الإسلامي وخروجهم سيّان، فلا يتصوّرنّ أحد أن إعطاءهم
الفرصة وخلو الساحة لهم سوف يغيرهم ويؤثر فيهم، وبالتالي سيهديهم،
بل إن حضورهم لن يكون إلا من أجل التخريب وإعمال المؤامرات.
د- مشكلة المنافقين اليهود الأساسية في المدينة هي أن الله تعالى فضح
أسرارهم ومكائدهم، واطلع الرسول والمسلمين عليها بوسيلة الوحي،
وحذرهم من نفاقهم ودسائسهم وأفشلها جميعها، ثم أن اليهود حافظوا
على سياق سلوكهم بالنفاق والتعاون الكامل مع المشركين وسائر
المنافقين، حتى بعد رحلة الرسول الأكرم (ص). وهذا النفاق وما ينتج
عنه من الذنوب والمعاصي التي ارتكبها عموم اليهود، إنما يقع على
كاهل علمائهم، لأنهم كانوا يكتمون الحق فيمنعون بذلك الآخرين من
معرفة الحق والهداية، ولا ينهون عن المنكر فيمهدون الأرض لنشر
الفساد، لذلك ينتقد القرآن الكريم في الآية التالية أحبار اليهود
ويلومهم على ترك النهي عن المنكر: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
(164).
هـ-
من مظاهر النفاق عند بني إسرائيل الازدواجية في التعامل مع
التوراة، والنفاق في تعريف شخصية الرسول الأكرم (ص)، بالإضافة إلى
الضربات المؤلمة التي وجهها اليهود إلى المسلمين، والمؤامرات
والدسائس التي حاكوها ضدهم، سواء في حياة النبي محمد (ص)، أو بعد
رحيله إلى الملكوت الأعلى. وما كعب الأحبار وعبد الله بن سلام سوى
مثال واضح لهذه الطبقة المنافقة من اليهود الذين تعاملوا مع
المسلمين بوجهين ولسانين، وحاولوا تمزيق الصف الإسلامي بتوجيه
الضربات القاسية وحياكة المؤامرات.
10-
شراء متاع الدنيا بالدين
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً
قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
(165).
شأن
النزول: «عن أبي جعفر الباقر (ع) وعن جماعة من أهل التفسير... وقيل
كتابتهم بأيديهم أنهم عمدوا إلى التوراة وحرفوا صفة النبي (ص)
ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود... وقيل كانت صفته في
التوراة أسمر ربْعة فجعلوه أدَمّ طويلاً وفي رواية عكرمة عن أبي
عباس قال أن أحبار اليهود وجدوا صفة النبي (ص) مكتوبة في التوراة
أكحل أعين ربعة حسن الوجه فمحوه من التوراة حسداً وبغياً فأتاهم
نفر من قريش فقالوا أتجدون في التوراة نبياً منا قالوا نعم نجده
طويلاً أزرق سَبْط الشعر...»
(166).
أ-
يمكن الاستنتاج أن اليهود في زمن البعثة النبوية، كذلك في العصور
الأخرى، كانوا فئتين: فئة العوام من اليهود المقلدين الذين يتبعون
أحبارهم ورهبانهم خبط عشواء ومن غير تبصر، فكانوا يتبعونهم اتباع
الأعمى للبصير. وكانوا ورقة استثمار رابحة في يد العلماء من بني
إسرائيل.
والفئة الثانية: هم العلماء الذين علموا حقيقة الإسلام وأحقّيته،
ووجدوه مكتوباً في التوراة، لكنهم مع ذلك عرّفوا عوامَ الناس الدين
وقدموه لهم بشكل مغاير للحقيقة، وذلك من أجل البقاء على استثمار
الطبقة العامة، ومنعهم من معرفة الحقيقة، كي يحافظوا على مواقعهم
ومنافعهم الشخصية ومصالحهم الدنيوية، ويُبقوا الناس على تقليدهم
الأعمى.
ب-
من أقبح الأعمال التي ارتكبها علماء اليهود شراء متاع الدنيا
بالدين الإلهي، والاسترزاق عن طريق تحريف الدين، لذلك عبر القرآن
بعبارة (ويل) ثلاث مرات، وهذا يدل أن من يبيع دينه مقابل دنياه،
ويحرّف التعاليم السماوية في سبيل استثمار الآخرين، عليه أن يواجه
أصعب العقوبات وأقساها، ولا ينتظر من الله تعالى سوى الغضب والسخط
عليه.
ج-
يتوجب على عامة الناس أن لا يقبلوا كل ما يطلبه أو يقوله الآخرون،
من دون تأمل أو تبصر، وأن لا يغفلوا عن الحقائق والواقع، وإلا سوف
يقعون في يد الخائنين وبائعي الدين بالدنيا كأفضل ورقة استثمار،
وبذلك يخسرون دينهم ودنياهم وآخرتهم. ثم إن التقليد في أصول الدين
مردود، والتقليد الأعمى في الفروع أيضا غير مقبول ولا مستحسن، إنما
التقليد يكون في معرفة الأحكام (وليس العقائد)، فإن كان الفرد ليس
من أهل الاختصاص والعلم والدراية، يعود في غياب الإمام المعصوم إلى
علماء الدين والمتخصصين في الشؤون الفقهية، ممن أحرزوا صفة العدالة
والسلامة في النفس والدين وسلموا من أي انحراف، فلا يتبعوا من يحمل
المسائل على أساس الرأي والمنفعة الشخصية، بل عليهم الاقتداء بمن
يقوم باستنباط الأحكام الإلهية ويكشف عن الأحكام بالوجوه الشرعية
ويقدمها إلى الناس في غياب المعصوم (ع).
فإذا كانت المسؤولية في إضلال الناس من العامة تقع على علماء
اليهود، وإذا كانت الخيانة والتغرير والانحراف صدر من هؤلاء
العلماء، وبالتالي أثروا على العامة، فهذا لا يعفي عامة الناس من
المسؤولية، لأن تقليدهم كان تقليداً أعمى ومن غير مبنى صحيح.
د-
اللعب بالأحكام الإلهية وتحريف التعاليم والآيات السماوية وبيع
الدين بالدنيا خطر دائم، وآفة كبيرة من آفات المجتمعات الدينية،
وعادة ما يقوم به العلماء الفاسدون طلاب الدنيا والأشخاص المقبولون
من عامة الناس. والأمة الإسلامية طوال التاريخ قد ابتليت مرات
ومرات بهذه الآفة، حيث نرى أن المغرضين وضعفاء النفوس من المقبولين
عند عامة الناس، كلما خالف الدين أهواءهم ومنافعهم الشخصية من جهة،
ورأوا أنهم لا يمكنهم مخالفة أحاسيس الناس وعواطفهم الدينية من جهة
أخرى، عمدوا إلى إظهار الدين وتعريفه للعامة بصورة مغايرة للحقيقة
والواقع، بحيث لا يشكل لهم أية مشكلة أي (دين غير مزعج - دين بلا
حركة)، ونرى نماذج كثيرة في وقتنا الحاضر على تقديم هذا النوع من
الدين.
و-
لقد نهى الله تعالى بني إسرائيل عن فعل التكسب القبيح هذا،
والاسترزاق بالدين وشراء الدنيا ومتاعها بتحريف الآيات والتعاليم
السماوية: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}
(167). لكن اليهود لم ينصاعوا للأوامر الإلهية، وشروا بالآيات
والأحكام متاع الدنيا الزائلة، فكانوا أن استحقوا العذاب الإلهي،
وكانت نتيجة هذه التجارة الخاسرة إعراض الله سبحانه عنهم، لأنهم
بدّلوا الهداية بالضلال والعذاب بالمغفرة: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}
(168).
ز-
الأديان السماوية إنما جاءت من أجل الهداية، وليس من أجل تأييد
الأمراء والسلاطين وإرادتهم الشخصية التي يلبسونها لباس الدين،
لذلك عدّ تفسير الآيات والتعاليم بالرأي وفرض الآراء وتحميلها على
الآيات من الذنوب الكبيرة. من هنا، يتوجب مواجهة هذه الأفعال، لأن
التفسير بالرأي يوجب التحريف في الدين وإضلال الناس وحرفهم عن
الحقائق، وكل من يدخل هذا الميدان وهو عارف متعمد لهذا الفعل فهو
مفسد في الأرض، تماما، كما فعل علماء اليهود وأحبارهم، حيث أظهروا
تعاليم التوراة بالصورة التي أرادوها، بما يوافق أهواءهم ومصالحهم
الشخصية، مستفيدين من جهل عامة الناس.
ح-
أفضل السبل لإفشال طروحات العلماء المفسدين، وإسقاط خططهم التي
يستثمرون بها عواطف العامة الدينية، ويسيئون الاستفادة منها تكون
كالتالي: أولا: السعي من أجل الارتقاء ببصيرة عامة الشعب والعمل
على تقوية اليقظة والتنبّه لديهم، على أن لا يقبلوا أي كلام أو
مطلب يصدر من أي شخص - حتى لو كان عالماً - من دون دليل ومستند،
خصوصاً، في المسائل العبادية، وأن لا يكونوا أسراء التقليد
الخاطىء، وبتعبير أمير المؤمنين (ع): «إن الحق والباطل لا يعرفان
بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله»
(169). ثانياً: على وسائل الإعلام أن لا تكون- من حيث تعلم أو
لا تعلم- مطيّة لعلماء السوء المفسدين أو أبواقاً لعلماء (تجار
الدين)، عليهم أن يحذروا من هؤلاء. لكن في نهاية الأمر، ستكون
عاقبة هؤلاء المفسدين سيئة، ولن ينظر الله تعالى إليهم، ولن تشملهم
الرحمة الربانية أبداً: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً
وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ
نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا
بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}
(170).
11-
الحرص على الدنيا
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ
سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ
وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
(171).
أ-
بالنظر إلى الآيات التي تسبق هذه الآية، يتضح أن اليهود كاذبون
ومنافقون ومخادعون، فمن جهة يدّعون أن الدار الآخرة خالصة لهم من
دون غيرهم من الأمم، وهم أحباء الله تعالى، ولهم عنده مقام خاص ليس
لأحد سواهم، ومن جهة أخرى، يتمنون لو يعمرون أبد الدهر، فهم بذلك
أحرص على الدنيا حتى من المشركين، والحقيقة أنهم لا يحبون الموت
لعلمهم بعاقبة الأمور، ذلك بما فعلوا من ارتكاب المحرمات والتحريف
وإضلال الناس وتكذيب الأنبياء وقتلهم، وغير ذلك من الأفعال
المشينة: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ
اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ،
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ
سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ
وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
(172).
ب-
من أهم عوامل انحرافات اليهود الفكرية والعملية، خصوصاً في زمن
الرسول الأكرم (ص)، تعلقهم الشديد بالدنيا وحب المال والجاه إلى
درجة الهوس، لقد كان كبراؤهم ورؤساؤهم لا يتورعون عن ارتكاب شتى
المعاصي، وتوسل الفساد والسلوك السّيىء من أجل الحفاظ على مصالحهم
الشخصية الناشئة من عبودية الدنيا، والتعلق بالماديات، وحب
الشهوات، واتباع الرغبات والأهواء النفسية، والتاريخ الماضي
والحاضر أكبر شاهد على أنه لا يوجد أمة ولا شعب، لا في الماضي ولا
في الحاضر، أكثر حرصاً على المال والمقام وحب الدنيا من بني
إسرائيل، ولا يوجد أحد في الدنيا أجاز لنفسه فعل أي شيء، وأباح
ارتكاب ما يشاء للحفاظ على هذه المكاسب الدنيوية كما فعل اليهود.
لقد
أباحوا لأنفسهم القتل والافتراء على الله عزّ وجلّ، وتكذيب
الأنبياء وقتلهم، وارتكاب الفساد، والنكث بالعهود، والسجود
للأصنام، وبيع الدين، والخيانة، وغير ذلك من القبائح والرذائل. كل
ذلك في سبيل الوصول إلى متاع الدنيا.
ج-
كان يُتوقع من اليهود أن يقبلوا دعوة الرسول الأعظم (ص) الموعود،
ويتمتعوا بنعمة النبوة والهداية الإلهية قبل غيرهم من الناس، لأنهم
لم يعترهم الشك ولا التردد بأحقية الرسول والدين الإسلامي من
الناحية الفكرية والعقائدية التي كانوا يحملونها، لأن أحبارهم
وعلماءهم كانوا مطّلعين على هذه البشارة، وقد قرأوها في كتبهم،
وذكرت أوصاف النبي في توراتهم بشكل لا يقبل التأويل، لكن للأسف،
حرصهم الشديد على الدنيا، وحبهم للشهوات والمال والجاه جعلهم
يدوسون على جميع الحقائق والمعتقدات، ويغمضون أعينهم، ويصمون
آذانهم عن الحق والحقيقة، ليس هذا فقط، بل دفعهم الحرص على
التعلقات الدنيوية والتعلق بمتاعها الفاني إلى ارتكاب أقبح
الأعمال. وهذا الأمر لا يتعلق باليهود فقط، لأن كل أمة وكل فرد
عندما يسلم نفسه للدنيا، ويسخّر ذاته عبداً لها، فإنه يسلك بذلك
وادٍ لا قرار له من الفساد والمعاصي، والحديث النبوي الشريف يعبر
عن ذلك خير تعبير، حين يقول: «حب الدنيا أصل كل معصية وأول كل ذنب»
(173). وهذا يدل على أن حب الدنيا والحرص عليها والهوس بالمال
والجاه، بحيث يصل الإنسان إلى حالة يصبح فيها أسير الماديات، يسقط
الإنسان في بئر من الانحطاط والكفر لا يعلم قعره أحد.
د-
إن الرغبة في طول العمر، بحيث يتمنى الإنسان لو يعمر ألف سنة
مترافق مع التعلق بالدنيا والحرص عليها، لا يحمل خيراً للإنسان، بل
عواقبه ستكون سيئة وفيها ضرر كبير عليه.
يقول الإمام السجاد (ع): «وعمِّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك
فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ»
(174).
هـ-
لا يجب أن ننسى أن المذموم في الآيات والروايات ليس أصل الدنيا،
ولا النعم الدنيوية، بل المذموم هو الإفراط في حب الدنيا إلى درجة
الحرص والعبودية، فإذا أصبحت الدنيا هي المعبود والهدف والمعشوق،
والموجِّه والآمر والناهي، تكون عندها مذمومة وتوجب السقوط، أما
إذا كانت الدنيا في اختيار الإنسان، مركباً وممراً ومزرعة ومسجداً
للآخرة، عندها يمكن أن تكون أفضل فرصة وأكبر نعمة من أجل بناء
الآخرة وإعمار الأبدية فيها، ورسالة الدين الإسلامي للإنسان هي
التالي: «أيها الإنسان الدنيا لك ولأجلك وأنت لست لها ولا لأجلها،
فلا تكن عبداً لعبدك».
12-
أذية اليهود للمسلمين
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
(175).
شأن
النزول: « نزلت الآية في كعب بن الأشرف وكان يهجو النبي (ص)
والمؤمنين ويحرض المشركين عليهم ويُشبّبْ بنساء المسلمين فقال (ص): من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن سلمة: أنا يا رسول الله فخرج هو
وأبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي (ص) آخر
الليل وهو قائم يصلي»
(176).
أ -
مرة أخرى تطرح هذه الآية توحد اليهود والمشركين في جبهة واحدة وهدف
واحد مشترك ضد المسلمين، وقد ذكر اليهود في هذه الآية قبل
المشركين، علماً بأن أذى اليهود للمسلمين حصل في زمن متأخر عن أذى
المشركين، لأن أذاهم جاء بعد الهجرة النبوية إلى المدينة، وهذا
دليل على أن أذى اليهود أشد على المسلمين وأخطر من أذى المشركين،
ثم أنه لم يكن متوقعاً صدور الأذية من بني إسرائيل، لأنهم من جهة،
هم أهل كتاب، ومن جهة ثانية، كانوا يعلمون ببعثة النبي الموعود (ص)، وإنما جاؤوا إلى المدينة بانتظار هذه البشارة.
ب
-من الامتحانات الإلهية للمؤمنين تحمُّل أذى الأعداء باللسان
والتعدّي الجسدي عليهم، والصبر والصمود في مقابل هذا الأذى يوجب
الرشد والكمال والعلو الروحي عند المؤمنين.
ج -
الأذى العملي والكلامي الصادر من المشركين يرجع منشؤه إلى الجهل
والعادات الجاهلية، في حين أن أذى اليهود وعدوانهم يعود إلى عنادهم
وحقدهم وحسدهم وحرصهم على الدنيا، مع علمهم بأحقية المسلمين
المعتدى عليهم.
د
-إن أسلوب الأشخاص الذين لا منطق لديهم، ولا يعتمدون على أصول
استدلالية ومنطق سليم، هو الاعتداء باللسان والجسد على كل من
يخالفهم، وتوسل سبل الخداع والكذب وخلق أجواء غير ملائمة لخداع
الآخرين وتضليلهم وحرف أفكارهم وعقائدهم، كل ذلك من باب خبث الباطن
والروحية الاستعلائية المستكبرة، وأبرز مصداق لهؤلاء الأشخاص هم
اليهود.
هـ
-إن تحمل الأذى المعنوي باللسان، والصبر على الاعتداء على الأفكار
والمعتقدات والمقامات، والتعرّض إلى القيم السامية بالنسبة إلى
الإنسان المؤمن الغيور والمعتقد بالمباني والقيم الإنسانية، أشد
وأصعب بمراتب من تحمل ضرب السيوف وقصف المدافع. لذلك يحتاج هذا
النوع من التحمل إلى صبر أكبر وتقوى أقوى، من هنا فإن هذه الآية
توصي المؤمنين بذلك.
و
-الأذى نوع من الامتحان الإلهي للمؤمنين، والصبر يوجب ارتقاء
روحياً وعلواً في الدرجات وصولاً إلى مراتب في الكمال الإنساني،
بالإضافة إلى يأس الأعداء وعدم تمكنهم من إلحاق الضرر الكبير
بالمؤمنين، يقول تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ
يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}
(177).
ز-
كلما ترافق الصبر والاستقامة مع ملكة التقوى ومراقبة النفس ولجم
أهوائها، يصبح العمل أكثر اطمئناناً، وأكبر قوة وصلابة، وتكون
النتيجة فشل العدو وعدم الوصول إلى تحقيق غاياته.
السؤال الذي يطرح في هذا المضمار هو التالي: ما هي النتيجة الحتمية
لأفعال اليهود؟، وإلى أين وصلت بهم مواقفهم الفكرية والعقائدية؟،
وما هي عاقبتهم بنظر القرآن؟، هل استطاع بنو إسرائيل التمتع بالنعم
الإلهية والاستفادة منها، أو أنها تبدلت إلى عقاب ونقمة؟.
إن
التوجه إلى هذا البحث بإمعان، والتأمل فيه بدقة، يكشف بوضوح أن فيه
عبرة كبيرة ودروس قيّمة من خلال التدبر في تاريخ الأمم السابقة
وقصصهم وأفعالهم، وهذا أهم هدف من جريان هذه القصص على لسان
القرآن، وفيه آثار بنّاءة وعبر قيمة للأمة الإسلامية وللمؤمنين
الثوريين الذين يعتقدون بحاكمية الدين خاصّة.
ومن
المؤكّد أن ما جرى على اليهود من منحهم النعم المختلفة، ثم
معاقبتهم ونزول العذاب الإلهي بأشكال متعددة، لم يكن شيئاً خاصاً
باليهود من جهة أنه لا ينطبق على سواهم، بل كان جزءً من سنة إلهية
يمكن أن تتكرر مرات متعددة مع أقوام مختلفة، من هنا، نرى أن الحديث
النبوي الشريف يشير إلى هذه المسألة:«أن هذه الأمة ستركب ما ركبته
بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل والقُذة بالقُذة حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخله هؤلاء» (178). والمقصود في هذا الحديث الأمة الإسلامية التي ستحذو حذو بني
إسرائيل. لذلك، فإن التدبر والاعتبار بقصص اليهود وحياتهم وعاقبتهم
مفيد وبناء.
في
خلاصة إجمالية، فإن القرآن الكريم يبيّن أن عاقبة بني إسرائيل وما
نزل بهم من العذاب، نتيجة حتميّة لأعمالهم التي يلخصها الكتاب
المبين ببيعهم الآخرة بالدنيا، وهذا ما أوجب شتى أنواع العذاب في
الدنيا، والعقاب العسير في الآخرة، بحيث لم يجدوا لهم من نصير:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا
رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
(179).
وفي
توضيح آخر يظهر القرآن أن هؤلاء اليهود اشتروا الضلالة بالهدى
والعذاب بالمغفرة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى
النَّارِ} (180).
وطبعاً هذه أسوأ تجارة وأخسرها على الإطلاق، والعاقبة أن الكفر بما
أنزل الله يستوجب غضب السماء ونزول العذاب: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً
أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ مُهِينٌ}
(181).
على أن العقاب الإلهي في الدنيا بعضه كان لمدة قصيرة
واختصّ بجزء من بني إسرائيل، والبعض الآخر يشمل جميع اليهود وهو
دائم وأبدي حتى يوم القيامة، والبعض الآخر يتعلق بعذاب ما بعد
الموت، ابتداء من القبر حتى الوصول إلى المحكمة الإلهية الكبرى،
وتحديد المصير النهائي.
وهذا بعض ما نزل ببني إسرائيل من عذاب وعقاب، وما حل بهم نتيجة
أفعالهم ومواقفهم استناداً إلى الآيات القرآنية:
أ-
الغضب الإلهي
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ
مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(182).
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ
بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ} (183).
ب-
الذِّلة والمَسْكنة
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ
مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(184).
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ
بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ
الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ} (185).
ج-
لعنة الله والأنبياء
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ}
(186).
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ
دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ} (187).
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}
(188).
د-
التفرق والعداوة فيما بينهم
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ} (189).
هـ-
المسخ
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
(190).
{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
(191).
و-
التِّيه في الأرض
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ} (192).
ز-
الافتضاح في الدنيا
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا
جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى
أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
(193).
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ
أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(194).
ح-
تحريم الطيبات
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
كَثِير} (195).
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ
الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ
مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ} (196).
ط-
تسلط من لا يرحمهم
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
(197).
ي-
حبط العمل
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(198).
ك-
العذاب السماوي
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي
قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ
بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}
(199).
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ
السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
(200).
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرائيلَ} (201).
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ}
(202).
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً
مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا
مُوسَى سُلْطَاناً مُبِين}
(203).
ل-
أشد العذاب الأخروي
{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
(204).
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا
جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى
أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
(205).
بناءً للسنّة الإلهية كل ذلك هو نتيجة حتمية لأفعال اليهود
وأفكارهم ومواقفهم، فهم بأعمالهم وسلوكهم استحقوا الغضب الإلهي
والعذاب السماوي: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا
قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
(206).
وعلى الرغم من كل تلك المعاصي والذنوب فإن الله تعالى لم يقفل
أبواب الرجوع والتوبة في وجه بني إسرائيل، بل دعاهم إلى الإيمان
والتقوى، وعفا عنهم مرات عديدة، ووعدهم بالتكفير عن خطاياهم،
ومنحهم النعم والرزق الوافر: {وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}
(207).
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ
وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}
(208).
هذه
هي سنة الله في الخلق وهذا هو قانونه العادل، فالإيمان به
والعبودية له والتسليم لأحكامه وكتبه ورسله تقابلها النعم والألطاف
الإلهية، أما العناد والكفر والفساد والتكذيب فيوجب الغضب والعذاب:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ
كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
(209).
اللهم إنّا نسألك وندعوك أن نكون ممن تشملهم رحمتك وألطافك وعفوك
في الدنيا والآخرة، وأن لا نكون ممّن يُطردون من رحمتك فنكون من
الخاسرين.
والحمد لله رب العالمين
(116)
سورة البقرة: 84-85.
(129)
سورة آل عمران: 183 و184.
(131)
راجع: مجمع البيان، مصدر سابق، ج3-4، ص 262-263.
(132)
سورة آل عمران: 118.
(133)
مجمع البيان، مصدر سابق، ج1-2، ص 820.
(134)
تفسير الميزان، مصدر سابق، ج3، ص 386.
(136)
سورة آل عمران: 118.
(138)
راجع: مجمع البيان، مصدر سابق، ج3- 4، ص 213.
(150)
سورة الاسراء: 5-6-7- 8.
(151)
تفسير الميزان، مصدر سابق، ج13، ص 44.
(153)
مجمع البيان، مصدر سابق، ج3-4، ص 90-91.
(162)
راجع، محمد الريشهري، ميزان الحكمة، دار إحياء التراث
العربي، بيروت، ط1، ج8، ص 3460-3462- 2001م.
(166)
مجمع البيان، مصدر سابق، ج1-2، ص 292.
(168)
سورة البقرة: 174-175.
(169)
ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج2، ص 473-474.
(172)
سورة البقرة: 94-95-96.
(173)
ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج3، ص 294.
(174)
دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع):مفاتيح
الجنان، الشيخ عباس القمي، الناشر دبوق، بيروت، ط1، ص 134،
2007م.
(175)
سورة آل عمران: 186.
(176)
مجمع البيان، مصدر سابق، ج1-2، ص 903.
(177)
سورة آل عمران: 111.
(178)
تفسير الميزان، مصدر سابق، ج13- ص 43- 44.
(183)
سورة آل عمران: 112.
(185)
سورة آل عمران: 112.
|