إن
مواقف اليهود على الصعيد الفكري والعقائدي طوال التاريخ يعدّ من
المباحث المهمة، بحيث نرى القرآن الكريم يتعرض إلى هذه المواقف
وينتقدها. وما نراه من العذاب والابتلاءات واللوم لبني إسرائيل
إنما يرجع إلى هذه الإنحرافات الفكرية والعقائدية والصفات الباطنية
الخبيثة التي كانوا يختزنونها في أنفسهم. لأن منشأ أكثر الإنحرافات
العملية عند اليهود أساسها إنحرفات فكرية وعلمية، وزلاّت في دائرة
الفكر والمواقف الفكرية، بحيث نرى أن بعض هذه المواقف والرؤى قد
نشأت من الميول والتعلق والأهواء النفسية عند بني إسرائيل.
إن
العناية بالآيات الشريفة والتوجه إلى ما بيّنه القرآن الكريم في
باب التموضع الفكري والمواقف الاعتقادية لدى اليهود، وبالتالي فضح
انحرافاتهم في هذا المضمار، يجعلنا أصحاب بصيرة ويعرّفنا كيف
نتعامل معهم في إطار معرفة اليهود وتعليل أفعالهم.
وما
يبينه هذا الفصل حول بني إسرائيل بالاستناد إلى آيات القرآن
الكريم، يعود بعضه إلى مرحلة بني إسرائيل في زمن تشكّل الدين
اليهودي ونبوة موسى (ع)، ثم الأنبياء من بعده، والبعض الآخر يتعلق
بأفكار اليهود في زمن الرسالة المحمّدية (ص) في فترة طلوع شمس
الإسلام، وما أظهروه في مقابل العقائد الإسلامية.
1-
الحسّية (لا يؤمنون إلا بما تدركه الحواس)
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُون}
(45).
رؤية الجهر: رؤية الله بحاسّة العين علانيةً وعياناً وجهاراً
وبصورة علنية وواضحة متشخصا أمام أبصارنا كما تدرك جميع الحواس
الأشياء من قريب.
الصاعقة: يذكر المرحوم الشيخ الطّبرسي للصاعقة ثلاثة معان:
نار تسقط من السماء.
الموت.
العذاب.
المعنى: أي لن نصدقك في قولك أنك نبي مبعوث (حتى نرى الله جهرة) أي
علانية فيخبرنا بأنك نبي مبعوث
(46).
أ-
بالتوجه إلى الآية 155 من سورة الأعراف، يظهر أن الذين طلبوا من
موسى أن يروا الله جهرة هم الأشخاص الذين اختارهم موسى (ع)
لمرافقته إلى الميقات في جبل الطور، وكانوا سبعين رجلاً، فلما نزلت
الألواح على موسى (ع) وعرضها عليهم قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى
الله جهرة).
ب-
عندما يصدر من الخواص والأصحاب هذا الفعل المذموم، ولا يقبلون
الإيمان إلاّ مشروطاً برؤية الله جهرة، فماذا يُنتظر من العوام في
غيبة موسى (ع) غير الانحراف والتوجه إلى عبادة العجل!. إن منشأ هذا
الانحراف هو الحسّية المادية التي تغلبت على نفوس بني إسرائيل.
والسامري استفاد من هذا الفكر المادي الحسّي والميل إلى معبود
محسوس، فصنع لهم عجلاً ليعبدوه ويسجدوا له
(47): {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ
حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَار}
(48).
ج -
مثال آخر عن الحسية المادية عند بني إسرائيل؛ طلب اليهود من موسى
(ع) أن يجعل لهم إلهاً كما لغيرهم إله ليعبدوه، وذلك عندما عبروا
نهر النيل ونجَّاهم الله تعالى من قبضة فرعون، فمرّوا على جماعة
يعبدون أصناماً لهم بخضوع وخشوع، فلما رأى بنو إسرائيل القوم
يعبدون أصنامهم، قالوا لموسى: نريد إلهاً كما لهؤلاء: {قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ}
(49).
د -
إن الميول إلى المادية والتعلق بالمحسوسات يصبح سبباً في عدم تأثير
الاستدلال والمنطق والمعجزات والآيات الإلهية في الأرواح والنفوس،
وبالتالي عدم تنبّه الأفكار والقلوب المختومة.
هـ
- إن الغفلة عن الله تعالى وآياته الواضحات، واللجاجة والعناد في
المواضع الخاطئة نتيجته استحقاق العذاب ونزول الصاعقة كي يتنبّه
القوم، والحقيقة أن الصاعقة التي تسبب اليقظة والتنبّه تكون نعمة
وليست نقمة.
و -
قد يتساءل المرء أن موسى (ع) قد طلب من الله تعالى مثل هذا الطلب،
حيث قال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ
تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}
(50).
إذن، لماذا كان جواب اليهود في طلبهم (رؤية الله جهرة) التوبيخ
والصاعقة، في حين أن جواب الله لموسى (ع) كان بالنفي والتجلي
للجبل، ولم يتعرض موسى (ع) لمثل ما تعرض قومه؟ إضافة إلى ذلك، أنه
لم يكن من المنتظر أن يصدر هكذا طلب من رسول ومعصوم!.
ما
يستفاد من الروايات أن نبي الله موسى (ع) كان يعلم علم اليقين أن
الله تعالى لا يمكن رؤيته بالعين، وأن ما طلبه موسى بلسانه، كان في
حقيقة الأمر على لسان قومه وبطلب منهم. إذن، فموسى (ع) طلب من الله
عز وجل ما أراده قومه، لأنه عندما نزلت الصاعقة وأهلكت القوم، ثم
أحياهم الله سبحانه ثانية، توجهوا بالخطاب إلى موسى (ع) فقالوا له:
لو أنك طلبت أنت من الله ذلك لكان الجواب مثبتاً ولأرانا ننظر إليه
جهرة، لأنك أنت نبيّه المرسل ولن يرفض طلبك، فخطّأهم موسى (ع)
لكنهم أصرّوا، فأراد موسى (ع) أن يثبت لهم أنهم مخطئون، عندها طلب
من الله سبحانه أن يراه، فجاء الجواب بالتجلّي للجبل، ولم تكن توبة
موسى (ع) توبة مذنب بل التوبة من اللفظ الذي جرى على لسانه بطلب من
قومه وإصرار منهم (51).
2-
نسبة العجز إلى الله تعالى
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}
(52).
المعنى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي مقبوضة
عن العطاء ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل...
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي غلت أيديهم في جهنم... أو أن يكون القول
خرج مخرج الدعاء... فيكون دعاء عليهم... أو جعلوا بخلاء وألزموا
البخل فهم أبخل قوم فلا يلفى يهودي أبداً غير لئيم بخيل...
{وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي أبعدوا من رحمة الله تعالى
(53).
شأن
النزول: فيه أقوال عدة أهمها ما يورده صاحب تفسير الميزان، «وإما
أنهم تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض
الله قرضاً حسناً} «البقرة: 245» وقوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللهَ
قَرْضًا حَسَنًا} «المزمل:20» فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على
تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه وإحياء دعوته. وقد قالوا ذلك
سخرية واستهزاء على ما يظهر من بعض آخر مما ورد في أسباب النزول،
وهذا الوجه أقرب إلى النظر
(54).
أ-
ليس ببعيد ولا عجيب من قوم ينسبون ما لا يجوز لله تعالى ويوردون في
قصصهم أنه تعالى غُلِب على يد يعقوب (ع) أو آدم (ع)، أن ينسبوا
الكفر لله عز وجل، ويصفونه بأنه مغلول اليد وضعيف وعاجز، وهذا نوع
من الفكر المحدود والمادي الحسّي عند اليهود.
ب-
إذا كان هذا الإدّعاء والمطالب الأخرى التي ذكرت قد صدرت عن مجموعة
من اليهود وليس كل اليهود، لكن القرآن الكريم ينسبها إلى جميع بني
إسرائيل، لأن هذه الادعاءات والمقولات المنحرفة مقبولة عند البقية
من اليهود، ولم يعترض عليها أحدٌ منهم.
ج -
إذا أردنا أن نفهم المتون الدينية والآيات والمفاهيم القرآنية
علينا أن ندرك مدلول الكلام ومفهومه وعمق المطالب الإلهية بشكل
صحيح وعميق، لا أن تحمل على الظاهر والمعنى السطحي. فإذا طلب الله
عز وجل القرض من عباده ونسبه إلى نفسه، فهو في حقيقة الأمر لأجل
عباده، وليس بمعنى أنه عاجز عن رزقهم وتأمين حاجاتهم، إنما يريد
الله تعالى من هذا القرض أن يسمو الإنسان ويتعالى في التدرج
الكمالي، ولا يعني أيضاً رفع حاجة الإنسان بإقراض الله تعالى وأن
الله سبحانه والإنسان في مقابل بعضهما، لكن يعني أن التقرب إلى
الله عزّ وجلّ يكون عن طريق الأخذ بيد الفقراء والمحتاجين. {لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(55).
د -
بعض الناس يقومون بإلقاء ذنوبهم على الله تعالى، فيقولون أن حاجة
المحتاجين ناتجة عن ضعف الله سبحانه، وذلك ليفرّوا من عبء التكليف
الإلهي والإنفاق مما رزقهم مولاهم، وتبرير تمرّدهم على الأحكام
وعصيانها.
هـ
-إن نسبة العجز إلى الله تعالى هي نتيجة لأمرين: الأول: عدم معرفة
الله سبحانه وقدرته المطلقة، الثاني: العناد والخبث الباطني
والسخرية من الآخرين، فالأول لا يمكن نسبته إلى علماء اليهود (لكنه
ليس بعيداً عن عوامهم)، لأن ما تعلموه على يد أنبيائهم السابقين
لا يتوافق مع ذلك. من هنا لا يمكن أن نعدّ مواقف كبرائهم وعلمائهم
من باب الجهل وعدم المعرفة أو الشبهة العملية، بل يمكن القول أن
نسبة العجز إلى الله تعالى ناشىء من روحية الحقد والضغينة والعناد،
وبث الفتنة والتفرقة في مقابل الإسلام والمسلمين، والقرآن الكريم
يعقب في نفس الآية موضع البحث فيقول: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا
مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْراً}
(56) ثم يقول في ذيل الآية الشريفة: {وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
(57).
و -
نتيجة هذا العناد والفساد والطغيان واللعب بآيات الله سبحانه
والسخرية منها تكون كالتالي:
أولاً: العداوة والبغضاء بين أفراد اليهود إلى يوم القيامة:
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
(58).
ثانياً: العجز عن إحداث الفتن وإشعال نار الحرب: {كُلَّمَا
أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}
(59).
ز -
يستفاد من الآية سابقة الذكر أن من دأب اليهود إحداث الفتن والفساد
في الأرض وإشعال نار الحرب، وهذا الأمر سوف يرافقهم أبداً.
3-
نسبة الابن إلى الله تعالى
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى
الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
(60).
عزير في الأصل (عزراء)، لكن عندما عرّب الاسم صار عزيراً مثل كثير
من الأسماء الأعجمية التي تغيّرت عند تعريبها؛ (يسوع أصبح عيسى،
يوحنا أصبح يحيى)، وعزير كما سبق هو أهم شخصية عند اليهود بعد
موسى (ع)، لأنه توسط لليهود لدى قوروش وأعادهم من الأسر من بابل
إلى أرض فلسطين، وبذلك أعاد إليهم الحياة مجدداً، ثم بدأ بكتابة
التوراة المندثرة، لذلك حظيت هذه الشخصية باحترام خاص في المجتمع
اليهودي، بحيث وصل الأمر بهم أن يدّعوه (ابن الله) يضاهئون:
يشابهون به.
يؤفكون: يصرفون عن اعتقادهم عن الحق إلى الباطل:
أ-
ورد في دعوة اليهود (عزير ابن الله) احتمالان: الأول: أن اليهود
يعدّون عزيراً ابناً لله سبحانه، أي أنه من جنس الآلهة والجوهر
الربوبي، كما يدعي المسيحيون بالنسبة إلى عيسى بن مريم (ع)، بمعنى
أنه حقيقة ابن الله عزّ وجلّ.
والثاني: أنّ المسألة من باب التعظيم والاحترام الكبير، فنسبوه إلى
ذلك تشريفاً له، كما جاء في ادّعاءاتهم الأخرى في القرآن الكريم
أنهم أبناء الله وأحبّاؤه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}
(61).
لكن
يبدو أن الاحتمال الأول أقوى، لأن نسب عزير إلى الله سبحانه عند
اليهود جاء في آية واحدة مع نسب المسيح إلى الله عزّ وجلّ أيضاً
عند النصارى، وقد ساوى الله تعالى بين الصورتين في آية واحدة، هذا
بالإضافة إلى الذمّ والتقبيح الإلهي بحقهم، فإنه يناسب الاحتمال
الأول أكثر (62).
ب-
يجب إظهار ردة الفعل المناسبة وبشكل عملي في مقابل الإنحرافات
والأخطاء التي تتعلق بالمسائل العقائدية، وإلاّ يكون المرء شريكاً
في هذه الإنحرافات. فعندما تسكت أكثرية اليهود في مقابل هذا
الانحراف والادعاء (ابن الله) وهو شرك واضح، فهذا يعني أنهم راضون
بذلك وهم شركاء فيه، لذلك فإن هذا الانحراف العقائدي سوف ينسب إلى
جميع اليهود بدون استثناء.
ج-
إن جعل الولد لله تعالى لا يعدّ أكثر من لقلقة لسان، وليس له حقيقة
واقعية في الخارج، وهو تقليد أعمى لكلام هراء ليس له واقعية ولا
تحقق، ويصدر عن كلام أعمى من غير تأمل ولا تبصّر، لأن مدرسة
الأنبياء الإلهية ومن جملتها ما جاء به عيسى وموسى (ع)، ليس فيها
أي ريح أو لون للشرك والانحراف، ولا لأي شرك وانحراف سواه.
د-
ينقل السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الميزان: «وقد اعتنى جمع من
محققي هذا العصر بتطبيق ما تضمنه كتب القوم، أعني العهدين: (القديم
والجديد) على ما حصل من مذاهب البوذيين والبرهمائيين فوجدوا معارف
العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيراً من القصص
والحكايات الموجودة في الأناجيل فلم يبق ذلك ريباً لأي باحث في
أصالة قوله تعالى: (يضاهئون) الآية في هذا الباب»
(63).
هـ-
مهما حلّق الإنسان في العظمة وكِبَر الشخصية، فإنه لا يخرج من
مرتبة الإمكان والعبودية، ولن يصل إلى مرتبة الربوبية. في الإسلام
يعدّ الرسول الأكرم محمد (ص) أكرم وأشرف وأعظم إنسان على وجه
التاريخ وفي الوجود، وأعظم نبي وولي وأفضلهم على الإطلاق، ولقد
كانت أعلى وأرقى صفة له حتى قبل بعثته الشريفة مقام العبودية لله
تعالى. بمعنى أنه لا يجب الإفراط ولا التفريط في التعظيم والتكريم،
وأن لا يجعل الإنسان المخلوق والممكن الوجود في مرتبة واجب الوجود
والخالق. فأين هذه الثقافة وهذه التعاليم من ثقافة اليهود
وغيْرِهم، ممن يجعلون كبراءهم ورهبانهم أبناء الله تعالى عما يصفون
!؟
و-
(قاتلهم الله) أي لعنهم وغضب عليهم، فهم لا يستحقون الحياة ولا
رحمة الله تعالى.
4-
الشرك في الربوبية والتدبير
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(64).
أ-
من أهم المظاهر التوحيدية التي اعتنى بها القرآن الكريم التوحيد
الربوبي، ونفي ما دونه من أرباب، وحصر التدبير والإدارة الكونية
ونظام الخلق بيد الله وحده. والتوحيد ليس ذهنياً صرفاً أو فكرياً
محضاً، أي الاعتقاد بالذات الإلهية الواحدة وحسب، بل التوحيد يتجلى
في كل نظام الخلق وحركة الخليقة، وإدارة العالم، فإن رأى أحد أي
دور استقلالي لذاته أو لغيره من دون الله تعالى، في التدبير
والانتظام في الوجود والخلق وإدارة العالم، أو وهب نفسه أو جسده
لعبودية غير الله تعالى وإطاعته فقد أشرك.
ب -
من آثار التوحيد وتجلياته، حصر الحاكمية بالله تعالى، فثقافة
التوحيد في القرآن الكريم تبين بوضوح أن لا إرادة ولا ولاية لأحد
فوق إرادة وولاية الآخرين، ولا يجوز لأحد أو لطبقة اجتماعية أن
تجعل نفسها ولا غيرها أرباباً للناس. فالطاعة لله تعالى وحده، حتى
طاعة الرسل والأنبياء والأئمة (ع) ليست مستقلة، بل تدخل في طاعة
الله سبحانه وترجع إليها، بمعنى أن الأنبياء والرسل وأئمة الدين
مطاعون من حيث أنهم مبلغون لأحكام الدين وتعاليم السماء، لذلك
طاعتهم من طاعة الله تعالى، وليس لهم استقلالية في الحاكمية
والسلطة والولاية.
ج
-إن تقديس اليهود والنصارى لأحبارهم ورهبانهم وجعلهم أرباباً، في
الحقيقة هو شرك بالله سبحانه، لقد خرجوا من عبوديته تعالى بطاعة
هؤلاء الرهبان المطلقة، وقد ارتكبوا بذلك انحرافاً وشركاً في
التوحيد العبادي، إضافة إلى التوحيد الربوبي، لذلك يعرّف القرآن
الكريم طاعتهم من دونه جلَّ وعلا بالشرك. {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
(65).
د
-إن الاعتقاد المنحرف عند اليهود، فيما يرتبط بالأنبياء وكبار
العلماء والرهبان، هو من صنع البعض منهم من المغرضين أو الحمقى
والجاهلين، وليس له علاقة بأصل الدين السماوي.
هـ-
إن دعوة كبار اليهود والرهبان الناسَ إلى أنفسهم بدلاً من الله
تعالى، إنما يجعلون أنفسهم أرباباً للناس وشركاء الباري عز وجل.
وهذا الفصل ليس له مكان في الفكر ولا النظام التوحيديين.
و
-إن قطب الرحى في الدين هو الدعوة إلى الطاعة والحركة والعبودية
المطلقة لله سبحانه الواحد الأحد، فهو محور كل الحركة والنظام،
ومبدأ كل العالم والخلقة.
ز
-إن تقديس عوام اليهود الزائد لعظمائهم، بالإضافة إلى الابتلاء
بالشرك، موجب للشعور بالعظمة والغرور والعجب وحب الدنيا، في مقابل
دعوة الحق ورسالة النبي الأكرم (ص). إن حبهم للدنيا وعنادهم أعمى
قلوبهم وبصائرهم، فلم يتمكنوا من ترك الدنيا وعدم التوجه إليها،
لذلك كتموا ما كانوا يعلمونه من الحق، وجهدوا في استمرار ارتباط
الناس بشخصهم، حتى لا ينقطعوا عنهم، فتضرر مصالحهم.
5-
الاستعلاء والعنصرية
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}
(66).
شأن
النزول: «قيل أن اليهود قالوا نحن في القرب من الله سبحانه بمنزلة
الابن من أبيه... وقيل أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وكعب
بن أسيد وزيد بن التابوه وغيرهم قالوا لنبي الله (ص) حين حذرهم
بنقمات الله وعقوباته لا تخوّفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه فإن غضب
علينا فإنما يغضب كغضب الرجل على ولده يعني أنه يزول عن قريب
(67)». أما بقية اليهود فقد قبلوا هذا المنطق واستحسنوه، وغدا
يشكل ثقافة في الفكر اليهودي، لذلك نُسِبَ هذا القول إلى جميع بني
إسرائيل لأنهم قبلوا به ولم يعترض منهم أحد.
أ
-من خصائص اليهود وسيماتهم البارزة، الروحية العنصرية
والاستعلائية، بحيث يعدون أنفسهم فوق سائر الأمم والشعوب من جهة
العرق البشري، وهذا واضح في ميولهم الفكرية والثقافية، واعتقادهم
بهذه المسألة لا لبس فيه، كذلك نشاهد هذا النمط من العلو والعنصرية
في سلوكهم العملي ومواقفهم الاجتماعية وعلاقاتهم بالمجتمعات
والشعوب الأخرى بشكل جلي، وهم يعبرون عنه في جميع سلوكياتهم، وهناك
الكثير من الأمثلة في تاريخهم الفكري والعملي. من هذه الأمثلة
قولهم: أن لهم مكانة خاصة عند الله تعالى كما للولد عند أبيه، أما
سائر الناس فهم غرباء عن الله تعالى.
ب
-الفكر اليهودي شبيه بفكر أبناء الملوك والسلاطين، فهم يعتقدون أن
العلاقات الإنسانية والروابط بين البشر هي القاعدة التي تحكم في
القواعد والتنظيم الإلهي، أي أن الحكم عند الله شبيه بحكم الملوك
والسلاطين، فأبناء الملوك معفون من التكليف والمهمات التي يكلف بها
البشر العاديون عادة، وبالتالي فهم معفون من العقاب والحساب، لأنهم
أبناء الله وأحباؤه وشعبه المختار، وتكليفهم فقط التمتع واللذة
والمأكل والمشرب، فليس لأحد أن يسألهم عن شيء.
ج
-إن منشأ جميع الجنايات والتجاوزات والتعديات اليهودية عبر
التاريخ، وفي يومنا الحاضر (ما نراه من إرتكابات الصهاينة) هو تلك
الروحية الاستعلائية العنصرية عندهم.
د
-ليس في التعاليم السماوية من أمة أو شعب له امتيازات خاصة أو
فضائل ذاتية، ولم يخلق الله تعالى إنساناً أو طبقة من الناس
أرباباً أو عبيداً لغيرهم، فالجميع متساوون في الحقوق، ويتمتعون
بمنزلة واحدة في الأصل، وجميع الفضائل والامتيازات التي يكسبونها
إنما تكون اكتسابية وليست ذاتية، وهذا ما يرتبط بالقيم. لذلك نرى
أن القرآن الكريم يتحدث عن اكتساب ثلاثة قيم سامية هي ملاك الفضيلة
والتفضيل:
الأولى: الإيمان والتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ
أَتْقَاكُمْ} (68)
و{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
(69).
الثانية:العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
(70) كذلك الآية السابقة:
{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين
أوتوا العلم درجات}.
الثالثة: الجهاد والعمل الصالح والسعاية في الخير: {لا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى
الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيماً}
(71).
إن
اكتساب هذه القيم الثلاثة لا يوجب الاستعلاء والعنصرية والتفوق
العرقي لجماعة ما على الشعوب والأمم الأخرى، ولا يمنحهم الحق في
ظلم الآخرين والتعدي على حقوقهم، بل هو منشأ لصلاح المجتمع وخدمة
الآخرين.
هـ
-جواب القرآن الكريم لليهود في مقابل تلك الروحية العنصرية
القبيحة، والإدعاء بتمتعهم بموقع خاص لدى الله تعالى حاسم وقاطع،
إن كنتم كما تدعون فلماذا يعذبكم الله سبحانه وتعالى في الدنيا
بذنوبكم، ويعاقبكم بأشد العذاب، ولماذا نزلت عليكم الصاعقة (كذلك
الأمر في الآخرة) !؟
و
-ثم إنكم بشر كسائر الخلق، وليس لكم أن تتسلطوا على الآخرين، ولا
تملكون أيّة خصوصية في النظام الخلقي الإلهي، فالحكم المطلق لله
تعالى، والله سبحانه لم يجعل أحداً مميزاً أو مقرباً في أصل الخلقة
والتكوين، بل الجميع متساوون في هذا الأمر، لكن الله تعالى يقول:
{بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
(72).
6-
نسبة الفقر إلى الله تعالى
{لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ
الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ} (73).
شأن
النزول: لما نزلت (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسن) قالت اليهود إن
الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وقاله حي بن أخطب عن الحسن
ومجاهد. وقيل كتب النبي (ص) مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم
إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فدخل
أبو بكر بيت مدارستهم فوجد ناساً كثيراً منهم اجتمعوا إلى رجل منهم
يقال له فنحاص بن عازورا فدعاهم إلى الإسلام والصلاة والزكاة فقال
له فنحاص إن كان ما تقول حقاً فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء ولو
كان غنياً لما استقرضنا أموالنا فغضب أبو بكر وضرب وجهه فأنزل الله
هذه الآية، عن عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن اسحاق
(74).
أ
-إن الله تعالى محيط بجميع أعمال الإنسان، يعلم السر وما أخفى،
يسمع ويرى وهو على كل شيء شهيد، هذا، إضافة إلى الشهود من الخارج
والداخل، ممن يشهدون على جميع أعمال الإنسان وأحواله ويكتبونها، من
الملائكة حتى الجوارح.
ب
-الاعتقاد بأن الله تعالى يرى كل شيء ويسمع كل قول، ما ظهر وما
بطن، ما أعلن وما أخفي، والعمل على هذا الأساس، سببُ في عدم دخول
الإنسان في المعصية وارتكاب الذنوب والإقدام على الطغيان والتمرد،
وباعث على الامتناع العملي في محضره سبحانه، لذلك يؤكد القرآن
دائما على الإحاطة الإلهية الكلية، وعلى رؤيته وسمعه للفعل والقول:
{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى}
(75).
ج
-لقد فعل الغرور والعداوة بروح اليهود فعلهما، بحيث اتخذوا آيات
الله هزواً وسخرية، في حال أنهم كانوا يعرفون معناها حقيقة، لكنهم
تغافلوا عنها وواجهوا الله تعالى بما لا يليق به سبحانه.
د
-إن من ينسب الأكاذيب والافتراءات إلى الله تعالى لا يتورع عن
نسبها إلى الآخرين، وبالتالي، لا يجب على المسلمين والقادة
الروحانيين أن يتفاجئوا أو ينزعجوا من الافتراءات المنسوبة إليهم،
لأن اليهود يفترون حتى على الرب سبحانه وتعالى، لكن الله عز وجل
يرى أفعالهم ويسمع كلامهم ويكتب ما قدموا وأخروا ويفضحهم على
الملأ.
هـ-
نسبة الفقر إلى الله تعالى قبيحة إلى درجة قرنها مع قتل الأنبياء
والنتيجة، طبعاً، العذاب والحريق.
7-
الكفر عناداً
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
(76).
شأن
النزول: في تفسير العياشي عن الصادق (ع) في نزول هذه الآية قال (ع):
«كانت اليهود تجد في كتبهم أن مَهاجِرَ محمد رسول الله (ص) ما
بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد
فقالوا حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيما، وبعضهم
بفدك، وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمر بهم
إعرابي من قيس فتكاروا منه، وقال لهم أمر بكم ما بين عير وأحد،
فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة،
قال: ذلك عير وهذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له: قد أصبنا
بغيتنا... وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا
الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا
بها الأموال وما اقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم واتخذوا
بأرض المدينة أموالاً فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبّع فغزاهم
فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم: إني قد استطبت
بلادكم ولا أراني إلا مقيماً فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر
نبيّ، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم فإني مخلف فيكم من
أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلف حيين تراهم: الأوس والخزرج،
فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول
لهم أما لو بعث محمد (ص) لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث
الله محمد (ص) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قوله: «وكانوا
من قبل يستفتحون على الذين كفروا...»
(77).
أ
-إعراض اليهود عن الإسلام ومخالفتهم الرسول (ص) والمسلمين لم يكن
تردداً ولا شكاً منهم في أحقية الإسلام والقرآن، بل كان عناداً
منهم وحفاظاً على مواقعهم المادية، مع علمهم يقيناً بصدقية الرسول
الأكرم (ص) ورسالته، فلم يكونوا مستعدين للتسليم والقبول بالرسالة
المحمدية (ص)، وهذا أسوأ أنواع الكفر وأشد خطراً على حالة الإنسان
وعلى الآخرين أيضاً، وهذا النوع من الكفر، لا شك، يستحق اللعنة
والطرد من اللطف الإلهي والحرمان من النعم.
ب
-حب الدنيا وعبادتها، والتعلق بالماديات إلى درجة الهوس، من أهم
الموانع التي تعيق الهداية وقبول الحق والتسليم في مقابل العدالة
والحكم الإلهي. فاليهود انخرطوا في صناعة الدسائس وخلق المؤامرات
الشيطانية بالشهرة العملية (ولم تكن شبهة علمية)، وهذا الأمر أشد
خطراً من عدم اتباع الحق بسبب الجهل وعدم المعرفة.
ج
-لقد كان اليهود، خصوصاً، يهود المدينة ينتظرون بعثة النبي الأكرم
(ص)، وكانوا يرون أن مستقبلهم ومصيرهم سيتعين في ضوء هذه البعثة،
غير أنهم لم يستقيموا أثناء الانتظار وانحرفوا عن السبيل القويم
وأخذتهم الدنيا بتعلقاتها، وعندما ظهر النبي (ص) الموعود، وشعروا
أن الإيمان به والتسليم لرسالته يمكن أن يكون له ثمن، فيدفعون من
أموالهم وأرواحهم أو من موقعهم في سبيل ذلك، وقفوا في وجهه وأظهروا
العداوة والبغضاء له ولأصحابه. إن شاء الله تعالى لا نكون نحن
المنتظرون للمصلح الكبير المهدي الموعود (عج) أمثال اليهود، نطرح
الشعارات فقط، بل نفديه بكل ما نملك في سبيله سبحانه والدفاع عنه
(عج) وعن دولته الشريفة، ونكون من المستشهدين بين يديه (ع)، فمن
المهم أن نكون ثوريين لكن الأهم الثبات على الثورة.
د
-لقد أظهر اليهود وبشكل واضح كفرهم وعنادهم وحقدهم في ميادين
مختلفة، مع علمهم بأحقية الإسلام ويقينهم بصدق الرسول (ص)، وصدق
رسالته، وقد ذكر القرآن الكريم في موارد عديدة أمثلة على ذلك:
{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
(78).
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُبِينٌ}
(79).
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ
اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم
مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا
يَكْسِبُونَ}
(80).
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ
مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ
وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}
(81).
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ}
(82).
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ
لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ}
(83).
هذا، بالإضافة إلى آيات أخرى كثيرة تتحدث عن طلبات اليهود
الصبيانية وذرائعهم حتى لا يؤمنوا بالرسول (ص).
8-
وحدة الفكر مع المشركين
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ
مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلاً}
(84).
الجبت: كل ما يعبد من دون الله سبحانه
(85).
والطاغوت: هو كل معبود من دون الله تعالى
(86) وقد ذكرت كلمة الطاغوت ثمانية مرات في مقابل ذكر الله
تعالى.
شأن
النزول: في سبب نزول هذه الآية روايات على وجوه مختلفة لكن كما
يقول السيد الطباطبائي: «أن الجميع تشترك في أصل القصة وهو أن
بعضاً من اليهود حَكَموا لقريش على النبي (ص)، بأن دينهم خير من
دينه» (87).
ويذكر صاحب مجمع البيان ما مضمونه أن كعب بن الأشرف خرج مع سبعين
رجلاً من اليهود إلى مكة ليتحالفوا مع قريش ضد الرسول (ص)، ثم
اقترح عليهم أن يختاروا ثلاثين نفراً من قريش ويختار هو ثلاثين من
اليهود، ثم يأتوا إلى الكعبة فيضعون أكبادهم بالكعبة ويتعاهدون على
قتال النبي (ص)، ففعلوا ذلك، عندها سأل أبو سفيان كعب بن الأشرف
وقد كان يقرأ ويكتب، وهو من أهل الكتاب، أيُّنا أهدى نحن أم محمد؟
فقال كعب أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد (ص). فأنزل الله
تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ
الْكِتَابِ} (88).
أ
-عداوة اليهود للمسلمين هو السبب في ترجيح اليهود المشركين على
المسلمين والطاغوت على الله تعالى، كذلك سبب لسجودهم للجبت.
ب -
إن أعداء الإسلام يتحدون ضد المسلمين مع وجود الاختلافات الكبيرة
فيما بينهم، لكن الله سبحانه يشتت هذه الوحدة ويجعلهم فرقاً، لأنهم
يتحدون في طريق الانحراف والهدف الخبيث. وقد رأينا مثيل هذا
الإتحاد ضد الثورة الإسلامية في إيران في مراحل مختلفة، وقد تجلى
في زمن الحرب المفروضة من قبل صدام ضد الجمهورية الإسلامية، حيث
اتحد الشرق والغرب، كذلك، (نشاهد اليوم توحد العالم المستكبر شرقه
وغربه مع اليهود الصهاينة ضد المقاومة الإسلامية وحزب الله في
لبنان)، وهذا يتطلب من المسلمين أن يتوحدوا ولا تأخذهم الخلافات
فيهنوا في مقابل الأعداء.
ج
-وحدة اليهود مع المشركين تجلت في صدر الإسلام، في حين أن القرآن
الكريم والإسلام الحنيف كان يدعو اليهود والنصارى إلى الوحدة حول
محور التوحيد والإيمان بالله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
(89).
د
-الكفار والمشركون يستفيدون دائماً من الموحّدين (طلاّب الدنيا
والمتعلقين به)، كما حدث مع اليهود الذين كانوا يسجدون لأصنام
المشركين ويرجّحون دين المشركين وعاداتهم على دين الموحدين
والأنبياء السالفين، كذلك نرى اليوم، كيف تمنح بعض الأطراف
الداخلية - بسبب مصالحهم الدنيوية - الاستكبار العالمي الفرصة
ليستفيد من مواقفها. وهؤلاء بحبهم للدنيا، أو خوفهم من القوى
العظمى يضعون أفكارهم وماضيهم جانباً ويخضعون للمستكبرين والأعداء،
ويفضلونهم على الثوريين النهضويين من أبناء جلدتهم، أو شركائهم في
الوطن.
هـ
إن نتيجة خيانة اليهود للمسلمين وتوحّدهم مع المشركين في الدنيا،
لم يجلب لهم منفعة سوى الهزيمة للطرفين (اليهود والمشركين)،
وتعرضهم للعنة الإلهية، لذلك يقول القرآن الكريم في الآية التي
تلي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}
(90).
9-
إضلال الناس (الهجوم الثقافي)
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
(91).
شأن
النزول: إن جماعة من اليهود دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى
اليهودية.
أ
-لقد كفر اليهود، وانحرفوا بعنادهم مع إدراكهم وعلمهم، وسعوا في
إضلال الآخرين وصرف المسلمين عن الصراط المستقيم، ومنعهم من
الهداية. وهذا في حقيقة الأمر هجوم ثقافي وفكري على المسلمين،
فاليهود يستفيدون من جميع الوسائل المختلفة والمتاحة في سبيل تحقيق
هذا الهدف.
ب
-إن اليقظة ومعرفة ماهية العدو وأهدافه من أهم عوامل إسقاط الهجوم
الثقافي، وإفشال مخططاته ومؤامراته، فلو أن الأمة عرفت العدو حقاً،
وانتبهت إلى دسائسه، فلن تقع في شرك حباله، ولن تؤخذ على حين غرة
منها، وبالتالي لن تكون رهينة الأعداء، لذلك يخاطب القرآن الكريم
المسلمين ويطلب منهم التنبّه واليقظة لمخاطر اليهود المفسدين
المضلين.
ج
-المجتمع الذي يملك معتقدات دينية راسخة، ومبان فكرية عميقة وقوية
لا يقع تحت تأثير الهجوم الثقافي، ولا الفتنة من قبل العدو، كما
حاول اليهود أن يضلوا عماراً وآخرين من الصحابة، لكنهم فشلوا بسبب
العقيدة ورسوخ الدين لدى هؤلاء الصحابة، من هنا، فإن تكليف القادة
الروحيين والعاملين في مجال التثقيف الديني أن يعملوا على تقوية
القواعد والأصول الفكرية والاعتقادية عند الناس، ويعدّوهم بالمنطق
والاستدلال، ويقللوا من خطر تأثرهم بالضرر من هكذا نوع من الثقافة
الغريبة والمنحرفة.
د
-إن السعي لإضلال الناس هو ضلال في ذاته، وسبب في انحراف السّاعين
أنفسهم أكثر، وبالتالي هو هجوم ثقافي وتعرّض إلى الأمن الفكري
والاعتقادي للآخرين، وهذا الأمر غير قابل لغض الطرف عنه والسكوت
عليه، ويجب مواجهته بشدة.
هـ-اليهود يستخدمون جميع الوسائل المتاحة في سبيل إضلال الناس،
وحرفهم عن الصراط، والهجوم على المسلمين ثقافياً وفكرياً
وعقائدياً، وبشهادة القرآن الكريم:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
(92).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ}
(93).
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}
(94).
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا
خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا
فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
أَفَلا تَعْقِلُونَ}
(95).
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ
وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ
بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}
(96).
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ} (97).
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ
سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ
بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ} (98).
10-
مخالفة الأحكام الإلهية
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا
فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ} (99).
أ
-من أخطاء اليهود العظيمة أنهم عصوا نبيهم ولم يطيعوه، مع وجود
العناية واللطف الإلهي بهم، وعلمهم بالأحكام والتعاليم السماوية،
فخرجوا يختلقون شتى أنواع الذرائع الواهية والشبهات الساقطة، في
مقابل التسليم لأوامر السماء والأحكام الإلهية، وهم يعلمون أن هذه
الأحكام والتعاليم إنما جاءت من أجل مصالحهم ومنافعهم، ومع ذلك
امتنعوا من تنفيذها، واحدة من هذه النماذج، ما جاء في هذه الآية
المباركة، بحيث أمرهم موسى (ع) بدخول أرض فلسطين بعد انتصارهم على
فرعون، فقالوا له، إن فيها قوماً ظالمين وجبارين، ونحن نخاف منهم
ومن قوتهم، ولن ندخلها أبداً ما داموا هم فيها، اذهب أنت وإلهك
فقاتلا القوم، فإذا انتصرتم وأخرجتموهم من أرض فلسطين فإنا داخلون
إليها.
ب
-إن التعبير بجملة (أنت وربك) يوحي بأنهم لا يؤمنون بهذا الرب
إلهاً لهم، وإنما هو إله موسى (ع) فقط.
ج
-إن روحية قبول أحكام الدين في ظل الشرائط السهلة والمريحة، وعدم
قبولها أثناء الصعوبات والمشكلات، موجب للسقوط والانحراف في أكثر
الأمم والمجتمعات، واليهود بتمردهم وعصيانهم للأوامر الإلهية بقوا
مشردين لأربعين سنة في الصحراء. وأمة النبي محمد (ص) عندما تخلت عن
الإمام الحسين (ع) ولم تنصره في نهضته ضد طغاة عصره (عبيد الله بن
زياد ويزيد)، خاصة، عندما استلزم الأمر الجهاد بالنفس والمال؛ بل
استحبت الدنيا والراحة على الآخرة والصعوبات، وبهذا الخذلان لم
تستحق الأمة أياماً سعيدة وجيدة.
د
-من الأمثلة الأخرى على تمرد بني إسرائيل وعدم إطاعتهم الأوامر
السماوية:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}
(100).
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ
بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
(101).
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ
فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
(102).
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
(103).
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}
(104).
وأكثر الآيات في سورة البقرة، من 24 إلى 249 تتحدث عن بني إسرائيل
وفسادهم وتمردهم على الأنبياء والتعاليم السماوية.
11-
سوء السريرة والضغينة
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا
الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
(105).
أ -
يشترك اليهود مع المشركين في الفساد الروحي الباطني، حيث يكنّون
سوء النيّة وفساد السريرة، ويفيضون حقداً على المؤمنين، فإذا مسّ
المؤمنين شيء من الخير من قبل الله تعالى يغضبون لذلك، وإذا أصابهم
الشر يفرحون، خصوصاً، أن بني إسرائيل كانوا يعدّون أن نعمة النبوة
منحصرة فيهم، فلا يرغبون أن تمنح لغيرهم من الأمم، فلما كان النبي
الأكرم (ص) وخاتم الأنبياء ليس من بني إسرائيل غضبوا كثيرا وامتلؤا
غيظاً وحقداً.
ب
-على الرغم من أن خصوصية سوء النية مشتركة بين اليهود والمشركين،
غير أن القرآن الكريم في موضع آخر خص اليهود فقط بهذه الميزة
القبيحة: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ
تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
(106).
ج
-تذكير المؤمنين وتنبيههم إلى خباثة اليهود الباطنية، وفسادهم
الروحي، وسوء سريرتهم، وعدوانيتهم، موجب لكي يتعامل المؤمنون مع
هؤلاء بيقظة وتنبّه، فلا يغرّنّهم الظاهر فيقعوا في شباك الدسائس،
ولا يتصوّروا أن هؤلاء الأعداء مثلهم، يملكون نفسية سليمة وروحية
نظيفة خالية من الشر والفساد، أو يتمنون الخير والمحبة لغيرهم،
يتحدث القرآن الكريم في هذا الشأن فيقول: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ
كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
(107).
د
-الحسد والحقد المضمر في القلب، والغيظ من النعم التي تصل إلى
الآخرين يجعل صاحبها في بادىء الأمر مضطرباً وعصبي المزاج، يعاني
العذاب الباطني، ويفقده التوازن والاعتدال، ويسلبه الطمأنينة
والراحة النفسية، هؤلاء الذين يتمنون للآخرين عدم الراحة وسلب
الطمأنينة، هم أنفسهم أول من يتعرض إلى هذا النوع من السلب والعذاب
الداخلي.
هـ-
رَغبات اليهود والمشركين وتمنياتهم بانحصار النعمة فيهم ليس له أي
تأثير في الإرادة الإلهية، فالله عز وجل يمنح نعمته على أساس
الحكمة والمصلحة، ويجعل نعمة الرسالة والنبوة في من يشاء طبقاً
لهذه الحكمة.
و
-إن الطريق الصحيح والسليم للنجاة من حقد الأعداء، خصوصاً اليهود،
وظلامية نفوسهم المملوءة بالكراهية والضغينة، هو اليقظة والتنبّه
إلى الروحية الملوّثة والقبيحة لهؤلاء، ونواياهم السيئة والخبيثة،
ثم الصبر والتوكل على الله تعالى، من بيده النعم جيمعها والفضل
كله. كما يصرح القرآن الكريم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ} (108).
ز
-يجب على المؤمنين أن يدركوا جيداً، أن اليهود يريدون دائماً أن
تنحرفوا عن ديدنكم وترتدوا عنه، ويودون أن تصبحوا كفاراً أمثالهم:
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}
(109).
فاليهود الأعداء يفرحون لو تفعلون ذلك، وتمتلىء قلوبهم غيظاً
واضطراباً عندما تسيرون على هدى الصراط المستقيم، وتمشون في محور
ولاية الله سبحانه، لذلك يجب أن يكون سلوك المؤمنين، سواء الفردي
أو الجماعي، في حركة لا تجعل الأعداء يفرحون، بل في حالة دائمة من
الغيظ وعدم الاستقرار.
12-
العداوة والبغضاء للمسلمين
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا
الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}
(110).
شأن
النزول: عندما اشتد الضغط على أصحاب الرسول الأكرم (ص)، وراحت كل
قبيلة تؤذي من فيها من المؤمنين وتعذبهم، أمر الرسول (ص) أصحابه
المؤمنين بالخروج إلى أرض الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب، حتى
يجعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين فرجاً، وكان ملك الحبشة يدعى
النجاشي واسمه أصحمة، وهذه هي الهجرة الأولى للمسلمين، فلما علمت
قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا
إلى النجاشي، حتى يُرجع المسلمين ويسلمهم إلى المشركين، فلما قدم
عمرو بن العاص على النجاشي وأخبره أن قوماً خالفونا في ديننا
وسبّوا آلهتنا والتجأوا إليك (وهو يعني جعفر بن أبي طالب وأصحابه)
فردهم إلينا. فأرسل النجاشي إلى جعفر فلما حضر قال جعفر للملك: «أيها الملك بعث الله فينا نبياً أمرنا بخلع الأنداد وترك الإستقسام
بالأزلام وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان..» إلى آخر
الحديث. ثم سأله النجاشي هل تحفظ شيئاً مما أنزل الله على نبيّك،
فقرأ جعفر سورة مريم، فلما وصل إلى قوله وهزّي إليك بجذع النخلة
تساقط عليك رطباً جنيا، قال النجاشي هذا والله هو الحق.
ثم
رد النجاشي الهدايا إلى عمرو بن العاص وطرده وقال لجعفر وأصحابه
امكثوا فإنكم سيوم، والسيوم تعني الآمنون، وأقام جعفر وأصحابه في
أرض الحبشة بخير وأحسن جوار إلى أن هاجر الرسول (ص) إلى المدينة
وعلا أمره، فهاجروا إليه والتحقوا به في المدينة وكان يرافقه سبعون
رجلاً منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فيهم
بحيراء الراهب فقرأ عليهم الرسول (ص) سورة «يس» إلى آخرها فبكوا
حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى
(ع)
(111).
في
هذه الأثناء نزلت الآية الشريفة {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ
عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}
(112).
أ
-ذكر اليهود قبل المشركين لعل فيه إشارة إلى شدة العداوة والحقد
الذي كانوا يكنونه في صدورهم أكثر من المشركين على المسلمين، وهذا
ما ظهر عملياً فاليهود كانوا أكثر عداوة وأشدّ بغضاً وإيذاءً
للمسلمين من المشركين.
ب
-لم يكن قلق المسلمين من النصارى، ولم يكونوا يشكلون أي خطر على
المسلمين وفيهم رهبان وقسيسون يقرأون الكتاب ولا يستكبرون، إنما
كان القلق من خطر اليهود وأفعالهم.
ج
-إذا كانت أفعال اليهود واضحة وأقوالهم ظاهرة، غير أن عداوتهم
وأحقادهم الباطنية أكبر من ذلك، وبتعبير القرآن الكريم، فإنهم
كانوا يعضون على أناملهم من شدة الغيظ والحقد، لكن جواب الله
سبحانه لهم أن موتوا بغيظهم
(113).
د
-إن معرفة ماهية العدو، وحقيقة عداوته وأحقاده وأهدافه وبرامجه
ودسائسه وأساليبه العدوانية ضرورة لكل أمة حيّة وفعّالة، فلا يقال
أن المؤامرة وهم، وأن العدو مُختلق كما يعبّر دائماً «بوهم
المؤامرة»، فنقع في المقابل في الغفلة عن دسائس العدو، والسذاجة في
تصديق مظاهره الخادعة وأقواله الواهية بطلب الصلح والسلام، فنحمله
على حسن الظن، فتكون ذلك فرصة له للنفوذ إلى الأمة وإعمال الأذية
والضرر في مجتمعاتها، والتأثير على الشعوب المسلمة، فيوجد الفتنة
والمؤامرات التي توقع بين فئاتها.
هـ-إن عداوة اليهود تتخذ أشكالاً مختلفة، فهم يعملون بحسب مقتضيات
الزمان، ولكل زمان أدواته؛ فمثلاً: يعملون أحياناً على تحريف
الدين، وأحياناً أخرى بالاستهزاء بالأحكام الدينية للمسلمين،
وثالثة بالتجريح باللسان، ورابعة بخيانة العهود والمواثيق، وخامسة
بالهجوم الثقافي، وسادسة بدس الخلافات بين المسلمين، وسابعة بإرسال
الجواسيس والوحدة مع المشركين، وثامنة خلق المشاكل الاقتصادية
والاجتماعية، وأخرى بالهجوم العسكري واحتلال الأرض... والقرآن
الكريم والتاريخ والروايات كل ذلك يشهد على أفعالهم ومؤامراتهم
التي لا تعدّ ولا تحصى. وما نشاهده اليوم من أعمال الصهيونية
العالمية واليهود الغاصبين لأرض فلسطين خير شاهد على ذلك.
(46)
مجمع البيان، للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، دار
المعرفة، بيروت ج1-2 ص 240.
(47)
لقد أشار القرآن الكريم إلى اتخاذ العجل معبوداً من قبل
بني إسرائيل في سبعة مواقع، سورة البقرة: 51-54-92-93،
وسورة النساء:153، وسورة الأعراف: 148، وسورة طه: 88.
(51)
راجع تفسير الميزان، مصدر سابق، ج8، ص 262-268 (بحث روائي
حول الرؤية والمشاهدة القلبية).
(53)
مجمع البيان، مصدر سابق، ج3-4، ص 339-340.
(54)
تفسير الميزان، مصدر سابق، ج6، ص 32.
(62)
العلامة الطباطبائي يؤيد الإحتمال الثاني، راجع تفسير
الميزان، ج9، ص 244.
(63)
تفسير الميزان، مصدر سابق، ج9، ص 244، نقلا عن
BUDHIST AND CH (ع) ISTIAN
GOS (ص) E (ع) S EDMUDS A. J. 2 V (ص) HI (ع) ODE (ع) (ص)
HIA 1908.
(67)
مجمع البيان، مصدر سابق، ج3-4 ص:272.
(74)
مجمع البيان، مصدر سابق، ج1-2، ص 898.
(77)
تفسير الميزان، مصدر سابق، ج1- ص 223-224.
(85)
الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 374.
(86)
الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 375.
(87)
الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 383.
(88)
راجع: مجمع البيان، مصدر سابق، ج3، ص92.
(91)
راجع: مجمع البيان، مصدر سابق، ج1-2، ص 771، الهامش.
(92)
سورة آل عمران: 71-72.
(106)
سورة آل عمران: 120.
(107)
سورة آل عمران: 119.
(108)
سورة آل عمران: 120.
(111)
ملخص ما في مجمع البيان، مصدر سابق، ج3-4، ص 360-361.
(113)
راجع: سورة آل عمران: 118-120.
|