لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

سيمات اليهود في القرآن الكريم

 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

ترجمة الأستاذ أحمد عودة

الطبعة الأولى، جمادي الثانية 1432هـ // 2011م

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

 المقدمة

5

 المقدمة الثانية للكتاب

9

 الفصل الأول: تاريخ اليهود

15

 أسماء اليهود

24

 كتاب اليهود المقدس وكاتبه

27

 الفصل الثاني: نعم الله على بني إسرائيل

31

 1- نعمة إرسال الأنبياء بكثرة

31

 2- تفضيلهم على الأمم المعاصرة

33

 3- الانتصار على فرعون

35

 4- نزول التوراة (الألواح)

37

 5- العفو العام والحياة ثانية

39

 6- النعم المادية

41

 7- النجاة من المصاعب والأزمات الاجتماعية

42

 8- البشارة وذكر علامات الرسول الخاتم (ص)

44

 


 مقدمة الجمعية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على خير خلق الله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.

يقول سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1).

تشير الآية الى أن الكثير من علماء اليهود والنصارى على معرفة صحيحة وجلية بنبوة محمد (ص)، تماماً كمعرفتهم بأبنائهم التي لا شك فيها، ولا ريب، لأن التوراة والانجيل بشّرا به، وذكراه بنعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره.. قال سبحانه: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (2) وقال تعالى أيضاً: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (3).

ومما يؤكد ذلك أيضاً ما قاله عبد الله بن سلام وقد كان من أحبار اليهود، ثم اسلم وفيما قال: أنا اعلم بنبوة محمد مني بابني.. فقيل له: ولمه؟ قال إني لا أشك في محمد أنه نبي، أما ولدي فلعل والدته قد خانت.

فحرصهم على الرئاسة الدنيوية والمصالح الشخصية وعنادهم للحق وخبثهم وصفات أخرى ستأتي في هذا الكتيب «سيمات اليهود في القرآن الكريم»، جعلهم ينكرون نبوة محمد (ص) وما نزل عليه من الوحي، ولأهميّة إحياء القرآن الكريم وما جاء فيه من تعاليم وإحياء سنة رسوله الكريم (ص) قامت جمعية القرآن الكريم بأخذ الموافقة على ترجمة هذا الكتيّب لإحياء التراث في الجمهورية الاسلامية الايرانية، يقول الامام الخميني قدس سره: «نحن مخلوقون من أجل إحياء سنّة نبي الاسلام (ص) وإحياء القرآن الكريم».

نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك ولمعرفة المزيد من التعاليم القرآنية إنه سميع مجيب.

جمعية القرآن الكريم

 للتوجيه والارشاد

 في 26/ربيع الثاني/1432هـ

  


الإهداء


 الى السر المنتظر (عج) الذي يملأ الارض قسطا وعدلا

ويقيم دولة السماء في الأرض

الى الشهداء الذين روت دماؤهم تراب هذه الأرض

فأنبتت بدورا وشموسا وضاءة

الى المجاهدين الذين يقارعون اليهود الطغاة

الى المستضعفين في الارض

 


 المقدمة الثانية للكتاب


 بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

منذ صدر الإسلام وجد التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، خصوصاً، في أحاديث المعصومين (ع) وتعاليمهم إلى جانب التفسير الترتيبي، لكن مع حلول القرن الرابع عشر حيث تم الرجوع إلى القرآن، وبدأت ظاهرة تدوين الأفكار والمسائل الدينية، كان للتفسير الموضوعي مكانة رفيعة وخاصة، لكن مع ظهور تفسير«القرآن بالقرآن» في آثار المفسرين الكبار مثل العلاّمة الطباطبائي (قدس سره)، راج هذا الأسلوب من التفسير بين المحققين وطلاب المعارف القرآنية بشكل كبير.

 

منذ بداية القرن الخامس عشر عاد التفسير الموضوعي ينتشر بشكل واضح، وأخذت الحوزات العلمية والجامعات تدون وتنشر التفاسير الموضوعية، وقد لاقى استقبالا من مختلف طبقات الناس، ومع الإهتمام بهذا النوع من التفاسير والتوجه إلى مزاياه، ينتظر أن ينتشر ويشمل جميع المجالات والمعارف القرآنية، وتصبح معرفة المواضيع القرآنية المختلفة أكبر وأعمق، وبالتالي، أكثر شمولية.

من الموضوعات المهمة المناسبة للتفسير والبيان موضوع «اليهود- بنو إسرائيل»، فهذا الموضوع يحوز على أهمية كبرى من الجهة الاعتقادية، بالإضافة إلى الناحية التاريخية والاجتماعية، خصوصاً، علاقة اليهود مع المسلمين وكيفية تعاملهم معهم، لذلك يمكن القول أن هذا الموضوع يحتوي على دروس ومطالب مهمة جداً، وحوادث كبيرة وكثيرة لا يمكن غض الطرف عنها، لاسيما إذا قارنا تاريخ اليهود وحوادثهم بالأحداث التي جرت بعد رحيل الرسول الأكرم (ص) من الدنيا، وأوجه التشابه الكبيرة بينها، وهذا ما أشار إليه الرسول (ص) في حديث حيث قال:«أن هذه الأمة ستركب ما ركبته بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل والقُذة بالقُذة حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخله هؤلاء» (4).

مع الانتصار العظيم الذي حققه السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني (قدس سره)، وإنشاء الجمهورية الإسلامية في إيران، ومع بزوغ فجر إسلامي جديد في لبنان مع ولادة المقاومة الإسلامية بدأ الإهتمام باليهود وتاريخهم أكثر فأكثر، وذلك من أجل معرفة الماهية الحقيقية لهذا العدو المتغطرس، ومعرفة المسائل المختلفة التي تتعلق بتاريخ وحاضر هذا الشعب العدواني، وكيفية التعامل مع هؤلاء بحسب السنن الإلهية والآثار المترتبة على سلوكهم، لهذا يعدّ الكشف عن بعض تاريخهم، وإظهار الحقائق التي وردت في القرآن الكريم درساً مهماً للمقاومين الشرفاء، ولكل شريف في هذا العالم، وتفتح لهم سبلاً جديدة من التبصر واليقظة.

إن موضوع اليهود وتاريخهم لا يمكن ضمه بين دفتي هذا الكتاب، وهو أوسع وأشمل من أن يتناوله هذا الكتاب تفسيراً موضوعياً كاملاً حول اليهود، بل عبارة عن درس منتخب من المدرسة القرآنية، يتناول بعض الجوانب التاريخية والاجتماعية والسياسية لليهود، وبشكل مختصر، ويبيّن سلوك اليهود في علاقتهم مع الله تعالى والأنبياء والأوصياء والشعوب الأخرى من غير العرق اليهودي، خصوصاً، مع خاتم الأنبياء (ص) والمسلمين، وهذا يعطي إشارة واضحة حول سلوكهم في الزمن الحاضر، وكيفية تعاملهم وارتباطهم مع الأمم الأخرى.

لقد جاء هذا الكتاب في خمسة أجزاء معتمداً على الآيات الشريفة في القرآن الكريم:

1- تاريخ اليهود.

2- نعم الله على بني إسرائيل.

3- التموضع الفكري والعقائدي لليهود.

4- أفعال اليهود العملية.

5- نتيجة أفعال اليهود.

ولقد تم الرجوع في تفاسير بعض هذه الآيات إلى كتاب الميزان للسيد الطباطبائي، وكتاب مجمع البيان للشيخ الطبرسي رحمهما الله تعالى، هذا بالإضافة إلى مقارنة مختصرة بين أفعال اليهود في الماضي وتطبيقها على واقع الحاضر.

ولا بد من الاعتراف أن هذا العمل المتواضع لا يحيط بالمسألة اليهودية، وبالتالي فهو بحاجة إلى تطوير من قبل المحققين والمهتمين في الشأن القرآني، لما لهذه المسألة من أهمية، خصوصاً، وأن العدو الصهيوني يشكل رأس حربة العالم المستكبر والظالم في وجه المسلمين والمستضعفين في الأرض.

 

نسأل الله تعالى أن يقدم هذا العمل خدمة للمؤمنين والمجاهدين والشرفاء، في سبيل الإطلاع على تاريخ أمة اليهود الفاسدة، ومعرفة ماهيّة هذا الشعب المجبول على الظلم والقتل والعدوان، فتدرك الأمة الإسلامية أكثر حقيقة هذا العدو، ويشكل عندها دافعاً أكبر لمواجهة هذه الغُدّة السرطانية واستئصالها من على وجه المعمورة.

 والله ولي التوفيق.

 


 الفصل الأول: تاريخ اليهود


يعدّ الدين اليهودي من الأديان السابقة والقديمة والمعروفة، ولطالما اهتم المؤرخون والمحققون بطبيعة تشكُّل هذا الدين وانتشاره ونموه، بالإضافة إلى علاقته بالأديان الأخرى، خصوصاً بالإسلام. والقرآن الكريم يبيِّن، في موارد كثيرة ومتعددة، مواقف اليهود من الإسلام، ويذكّر المسلمين في العديد من آياته ليأخذوا العبرة من تاريخ اليهود وسيرتهم، كذلك، أظهر القرآن الكريم الكثير من انحرافات بني إسرائيل ومؤامراتهم طوال التاريخ، بحيث نشير إليها - إن شاء الله - في بحث الآيات التي تتكلم عن اليهود. لكن لا بد من التعرّض إلى ماضي هذه الأمة بشيء من الإجمال، لأنه من دون معرفة تاريخ اليهود ونشأتهم، لا يمكن فهم معارف القرآن ومفاهيمه التي تتحدث عن بني إسرائيل، من هنا، كان لزاماً أن نشير ولو باختصار إلى تاريخ هذه الأمة وتطوُّر نشأتها.

من المعروف أن اليهود ينتسبون إلى العرق السامي (5)، كذلك العرب والآشوريون، فهم من العبرانيين الذين يرجع نسبهم إلى نبي الله إبراهيم (ع).

إن عظمة النبي إبراهيم (ع) جعل اليهود والمسيحيين وغيرهم من الأمم ينسبون أنفسهم إلى هذا النبي (ص). غير أن القرآن، في مقابل هذه الإدعاءات، يعرّفنا أن إبراهيم (ع) كان ينادي بالتوحيد والتسليم لله عز وجل، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (6).

ولد النبي إبراهيم (ع) في مدينة (أور) شرق بابل قبل ألفي عام من ولادة المسيح (ع) (2000 ق.م.)، في حدود 2600 عام قبل هجرة الرسول الأكرم (ص). هاجر إلى كنعان وهو في عمر (57 سنة) وكان برفقته زوجته سارة ونفر آخرون، وهبه الله سبحانه ولدين وهو في عمر الكهولة (العقد التاسع) هما: إسماعيل (ع) وأمه هاجر، ثم إسحاق (ع) وأمه سارة.

إسحاق (ع) رزق بولدين توأمين أحدهما يدعى عيسو (الأشعر) لأنه ولد وكان كثير الشعر في بدنه، والثاني سمّي بيعقوب لأنه ولد عقب أخيه.

بعد إبراهيم (ع) بُعث يعقوب (ع) نبياً، ثم هاجر مع أبنائه وعشيرته من كنعان إلى مصر بسبب القحط والجفاف الذي أصاب أرض كنعان، والقصة معروفة وقد وردت في القرآن الكريم في سورة يوسف (قصة يوسف (ع) )، وعرف أبناؤه «ببني إسرائيل» وعاشوا في مصر حياة رغيدة لفترة من الزمن.

عاش أبناء يعقوب (بني إسرائيل) قبائل متعددة في مصر، ونالوا قسطاً وفيراً من العلوم والفنون المعروفة آنذاك، واشتهروا بين الناس، وكان لهم موقع مرموق وحيثية رفيعة، مما جعلهم في موقع يحسدون عليه من قبل المصريين (أصحاب الأرض الحقيقيين). أحس المصريون بخطر موقعهم في البلاد، لذلك سعوا بشتى الوسائل كي يبعدوهم عن المناصب الحسّاسة والمواقع المهمة، ولم يتوان الفراعنة عن أذيتهم والإضرار بمصالحهم، خصوصاً، في زمن حكم الفرعون (رعمسيس الثاني).

لقد أذلَّ رعمسيس الثاني بني إسرائيل، فاستعبدهم وعذبهم بعدما علم بأن مولوداً منهم سوف يدمّر سلطانه ويسقط حكمه؛ لذلك أمر الفرعون بقتل الأبناء الذكور واستحياء الإناث من المولودين، كذلك أمر بفصل الرجال عن النساء، وبقر بطون الحوامل واستخراج الأجنة منها، لكن إرادة الله تعالى كانت فوق كل ذلك.

في هذه الأحوال والشروط الصعبة، ولد طفل يُدعى موسى (ع) من أب من بني إسرائيل اسمه عمران، كان متزوجاً من ابنة عمه.

خافت أم موسى (ع) على طفلها، فأخفته لفترة من الزمن عن عيون جواسيس الفرعون، ثم ألهمها الله سبحانه فوضعته في التابوت، وألقته في اليم، فأخذه فرعون إلى قصره. مع إصرار زوجته لم يقتل الفرعون موسى (ع)، وبذلك أنجاه الله تعالى من الموت المحتم، وتربَّى في بيت عدو الله سبحانه، يقول عزّ وجلّ: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (7).

عندما بلغ موسى (ع) وأصبح راشداً، آتاه الله عزّ وجلّ العلم والحكمة، قال سبحانه: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (8)، وكان في حفظ الله ورعايته، ثم بعثه نبياً لهداية بني إسرائيل والأمم الأخرى، لكن بني إسرائيل تبعوه وتعلقوا به أكثر من غيرهم بسبب الظلم الذي كانوا يتعرضون إليه، والأذى الذي كان يلحق بهم، فكانوا بحاجة إلى قائد ومخلص.

أخذ موسى (ع) زمام قيادة بني إسرائيل، ونهض في وجه فرعون وملائه، وبدأت المواجهة العلنية بين الحق والباطل، هناك أمر الله سبحانه موسى (ع) أن يحمل قومه خفيةً ويخرجوا من مصر سراً، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} (9)، لكن فرعون تبعهم يريد قتلهم، ولحق بهم عند ساحل البحر الأحمر. في ذلك الموقف الشديد أوحى الله تعالى لموسى (ع)، فضرب البحر بعصاه، فانفلق البحر وظهرت اليابسة، وعبر موسى (ع) مع أصحابه وقومه. أراد فرعون وجيشه العبور واللحاق بهم، لكن إرادة الله تعالى أغرقتهم، فعاد البحر كما كان وغرقوا جميعاً في الماء، قال عزّ وجلّ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (10).

بعد ذلك أمر الله سبحانه بني إسرائيل بالسير إلى أرض فلسطين، غير أنهم تمردوا على الأوامر الإلهية، فتاهوا في صحراء سيناء، قال سبحانه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (11).

في هذه الأثناء جرت عليهم حوادث كثيرة في أرض التِّيه، وفي هذه الفترة من الزمن ذهب موسى (ع) مع بضعة من أصحابه إلى جبل طور سيناء للمناجاة (12)، وخلف أخاه هارون نائبه في قومه، بقي موسى (ع) في جبل الطور أربعين ليلة، حيث أنزل الله فيها الألواح على موسى (ع)، وشملت هذه الألواح الأصول والعقائد والشرائع اليهودية، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (13)، من بين هذه العقائد ما يعرف بالوصايا العشرة أو «الأحكام العشرة» وهي مواثيق بني إسرائيل مع الله تعالى.

 

أهم ما جاء في المواثيق «الوصايا العشرة»:

 أن لا يجعلوا مع الله إلهاً آخراً.

 ولا يعبدوا الأصنام.

 ولا يدعوا الله (يهوه) باطلاً.

 وأن يحترموا يوم السبت.

 ويحترموا آباءهم وأمهاتهم.

 وأن لا يقتلوا.

 ولا يزنوا.

 ولا يسرقوا.

 ولا يشهدوا الزور وينسبوه لغيرهم.

ولا يعتدوا على أموال الغير ولا على ناموسهم وعبيدهم.

قام السامري أثناء غياب موسى (ع) بخداع بني إسرائيل، فصنع لهم عجلاً له خوار فهم له عابدون، هذا العمل أغضب الله سبحانه كما أغضب موسى (ع)، فحرقه موسى (ع) وذرّه في البحر. كذلك يذكر القرآن الكريم حوادث كثيرة جرت مع موسى (ع) لا يسع البحث لذكرها، منها موسى والخضر (ع)، وقصة بقرة بني إسرائيل في سورة البقرة...

توفي موسى (ع) عن عمر يناهز (120 سنة)، واستوطنت أمته أرض فلسطين المعروفة بخضرتها وجمالها واعتدال هوائها. فاستقروا فيها ردحاً طويلاً من الزمن تحت ناظر ثلّة من الأنبياء والأوصياء، يعلمونهم شريعة موسى (ع) والتوراة، وتوسع حكمهم فكان حكّام اليهود يديرون العباد والبلاد حتى ظهر (بخت نصر) حاكم بابل في سنة 600 ق.م. وهاجم أرض فلسطين واحتل بيت المقدس، فقتل عدداً كبيراً من اليهود، وأخذ البقية أسرى إلى أرض بابل، وأحرق ما كان عندهم من آثار، ومن جملتها نسخ التوراة. بقي اليهود أسرى في بابل حدود (50 عام) من دون كتاب أو معبد، يعيشون حياة صعبة، حتى جاء (كوروش) أول حاكم من سلالة «هخامنشيان» في حدود سنة 530 ق.م. فجرد حملة وهاجم بابل، فقضى على حكم الكلدانيين، وحرّر اليهود من الأسر وأعادهم بوساطة من عُزير (14) وتحت إمرته إلى أرض فلسطين، وهناك بدأ عُزير كتابة التوراة من جديد.

بعد عدة قرون هاجم الرومان مدينة القدس، وذلك في عام 70 ق.م. ودمروا المدينة المقدسة وتفرق اليهود في العالم، وتحملوا شتى أنواع الذل والمهانة.

في هذه الفترة من الزمن، توجه عدد من اليهود إلى أرض يثرب في جزيرة العرب، وكان الدافع إلى ذلك علمهم بظهور نبي آخر الزمان (ص) بحسب (وعد التوراة)، فأرادوا أن ينتظروا ظهوره (ص) الذي بشر به التوراة، حتى أنهم كانوا يتوعدون أعداءهم بظهور هذا النبيّ (ص)، وأنهم سوف ينتقمون منهم ويبيدونهم. وقد مال إليهم بعض العرب في يثرب وقبلوا دينهم اليهودي.

عندما أشرقت شمس الإسلام، كان اليهود في يثرب قد تشكلوا في عدة قبائل أهمها: بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع.

لقد جاء اليهود إلى مدينة يثرب وفقاً للوعد التوراتي، وكان يُنتَظَر منهم أن يكونوا أول من يؤمن برسالة النبي محمد (ص)، ويدافعوا عن رسالته بشدة، خصوصاً، بعدما هاجر الرسول (ص) إلى المدينة، لكنهم انشغلوا بجمع الثروات، وأخذتهم الدنيا بزينتها وبهرجها، وبدل أن يسلموا ويؤمنوا بالرسالة الجديدة، راحوا يقاتلون المسلمين بشدة ويعاندون الوحي بصلابة، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل راحوا يدسون الدسائس والمؤامرات للمسلمين، ويحرضون المشركين ضد الرسول الأكرم (ص) وأتباعه من المؤمنين، والقرآن الكريم يشير في كثير من آياته إلى تلك الدسائس والجرائم، بحيث نوردها إن شاء الله تعالى في موضعها.

وقد كان لليهود الدور الكبير والمهم في تحريف معارف القرآن، وإدخال الإسرائيليات في التفاسير، وخلق الإنحرافات الفكرية والعقائدية بعد رحيل الرسول الأكرم (ص) من الدنيا، ثم إنهم عمدوا إلى بث الفرقة بين المسلمين، وجهدوا في إخراج الفتن وتضعيف مذهب التشيع على الخصوص، وتقربوا من السلاطين الظالمين يبررون أعمالهم الظالمة وانحرافاتهم المخالفة للشرع والدين، ويدافعون عنهم، وهذا الأمر بحاجة إلى بحث مستقلّ.

كذلك نشاهد اليوم أعمال اليهود في فلسطين والعالم، فالصهيونية هي رأس حربة الاستكبار والظلم في هذا العالم، وكل التجاوزات والدسائس والظلم الحاصل ضد المسلمين خاصة، لليهود فيه سهم كبير وأساسي، ولعل القرآن الكريم خير من يشير إلى هذا المعنى حيث يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (15).

 


أسماء اليهود


اشتهر أتباع موسى (ع) بأسماء مختلفة منها: اليهود، بني إسرائيل، أهل الكتاب؛ العبرانيين؛ ولكل من هذه الأسماء دليل.

فالقرآن الكريم عندما يذكرهم في زمن موسى (ع)، يعبَر عنهم باسم (بني إسرائيل) وإذا أراد أن يشير إليهم في زمن الرسول الأكرم (ص)، يذكرهم باسم (اليهود)، فقد ذكروا في القرآن باسم بني إسرائيل: (41) مرة، وباسم اليهود (8) مرات، أما في سائر الموارد فقد عبر عنهم (بأهل الكتاب).

 

1- اليهود:

لقد ذكروا في وجه هذه التسمية دليلين:

أ- اليهود من (هاد- يهود- هود) بمعنى التوبة والرجوع الهادىء، وقد سموا بهذا الاسم لقول موسى (ع) في الميقات بعد الصاعقة وبعدما أذنب قومه: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (16).

ثم أطلق هذا الاسم على قومه تدريجياً بعد هذه الحادثة، فصاروا يُدعون (يهود) (17).

ب- كلمة اليهود مأخوذة من (يهوذ)، وهو اسم أحد أبناء يعقوب النبي (ص)، بحيث أبدلت الذال دالاً، وراحوا يدعون باليهود تدريجياً. (18).

 

2- بني إسرائيل:

إسرائيل من ألقاب نبي الله يعقوب (ع)، وأبناؤه عرفوا (ببني إسرائيل) أي أبناء إسرائيل، وقد ذكروا في هذه التسمية سببين:

 الأول: أن إسرائيل كلمة عبرية مركبة من «إسرا» أي عبد و«ئيل» يعني الله تعالى. وبذلك تكون كلمة إسرائيل بمعنى «عبد الله»، ويعقوب (ع) كان يدعو نفسه بعبد الله لذلك لقب بهذا الاسم.

الثاني: يذكرون في أساطيرهم أن إسرائيل في اللغة العبرانية تعني (قاهر الأبطال)، وتطلق على من يهزم الأبطال في المصارعة، ويعقوب (ع)، بحسب روايتهم، صارع الله تعالى في أحد الأيام أو (أحد الملائكة الذي هو مظهر قدرة الله عز وجل) فهزمه وانتصر عليه ولقب بإسرائيل، أي قاهر الأبطال. (19).

 

3- العبرانيون:

 يدعى اليهود بالعبرانيين، أي أنهم ينتسبون إلى النبي إبراهيم (ع). والعبراني مشتقة من عَبَرَ (عبور النهر) (20) لأن إبراهيم (ع) عبر النهر ودخل أرض كنعان، لذلك سمي بالعبراني، في حين أن البعض يقول بأن جدّ إبراهيم (ع) عبر النهر فسمي بذلك.

 

4- أهل الكتاب:

 القرآن الكريم يخاطب أتباع الأديان المختلفة ومنهم اليهود (بأهل الكتاب)، لأن جميع الأديان السماوية تشترك بالأحكام في كثير من الأمور، لكن القرآن، في الأغلب، يطلق هذا اللفظ على أتباع موسى (ع) وعيسى (ع)، لأنهما أصحاب كتب سماوية مهمة (التوراة والإنجيل)، والقرآن توجه بالخطاب إليهما أساساً.

 


كتاب اليهود المقدس


عُرف كتاب اليهود المقدس باسم التوراة أو العهد القديم.

العهد القديم: وهو مقابل العهد الجديد (كتاب المسيحية المقدس)، وقد أطلق هذا الاسم (العهد القديم) على مجموع آثار اليهود المقدسة وعددها 39 كتاباً. أهمها: خمسة كتب وخمسة أسفار باسم التوراة، أما سائر الكتب فقد كتبت بعد موسى (ع).

التوراة: كلمة عبرية تعني القانون والشريعة، وقد اشتهر الكتاب المقدس لدى اليهود بالتوراة؛ لأن فيه أحكاماً وقوانين كثيرة، واعتبروا هذه الأحكام هي الشريعة.

يُعدّ التوراة أهم قسم من العهد القديم، وهو يشمل خمسة كتب أو خمسة (أسفار)، وقد عرفت بالأسفار الخمسة.

من هنا، يعتقد اليهود أن هذا القسم من الكتاب المقدس (التوراة) هو كلام الوحي المبلغ من قبل الله تعالى.

 

كاتب الكتاب المقدس:

لا شك أن موسى (ع) من الأنبياء أصحاب الشرائع، وقد نزلت عليه الألواح والأحكام الإلهية، واشتهرت باسم التوراة، وقد صرح القرآن الكريم بوضوح بنزول التوراة. {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (21).

إن أجزاء من شريعة موسى (ع) ومحتوى التوراة - وليس الألفاظ- موجودةً الآن، كما كانت موجودة زمن موسى (ع)، وقد استند إليها القرآن الكريم ودعا اليهود للعمل بها. لكن الأكيد أن سائر الكتب المقدسة لدى اليهود لا تمتّ بصلة إلى الوحي الإلهي، ولا إلى النبي عيسى (ع)، أما فيما يتعلق بالمتن الفعلي للتوراة حالياً فلا يمكن الاطمئنان بأنه وحي إلهي بالكامل، أو أنه هو التوراة الحقيقي الذي نزل على موسى (ع)، بل إن الشواهد التي بين أيدينا تقتضي القول أن توراة موسى (ع) قد تعرضت إلى التحريف والتغيير. مثال:

1- تذكر التوراة الحالية حادثة وفاة موسى (ع)، كذلك تأتي على ذكر أسماء لمدنٍ قامت بعد موسى (ع)، وهذا دليل على أنها كتبت بعد النبي موسى (ع).

2- جاء في التوراة أن يعقوب النبي (ع) صارع الرب تعالى فصرعه وتغلّب عليه، كذلك ما ينسب إلى موسى (ع) وبعض الأنبياء (ع)، بحيث أن القارىء يجزم بأنها محض خرافات، وقصص أطفال، لا يمكن أن تكون من الكتاب المقدس الحقيقي.

 

توضيح:

هناك كتب أخرى لدى اليهود مثل (التلمود)، وهو كتاب يفسر الشريعة اليهودية ويبيّن أحكامها وقد كتبه الرهبان، ولا يعد جزءاً من الكتب المقدسة.

يذكر التاريخ أن التوراة قد اندثرت كلياً في مرحلتين من الزمن، الأولى: في زمن حكم سليمان (ع) (جلوس 973-931 ق.م) عندما فتحوا الصندوق (التابوت) فوجدوا أن الألواح مفقودة.

والثانية: في زمن بخت نصر (600 ق.م) عندما هاجم المدينة المقدسة، فقتل وسبا، ثم أحرق التوراة وجميع الآثار المقدسة، وبقي اليهود 50 عاماً في الأسر (في بابل) من غير كتاب ولا معبد، ثم جاء عزير المعظم عند اليهود بعد موسى (ع)، وكتب التوراة مجدداً بالاعتماد على حافظته، حتى دُعِيَ بابن الله عزّ وجلّ.

 


 الفصل الثاني: نعم الله على بني إسرائيل


إن النعم الإلهية تفيض باستمرار على الخلائق، خصوصاً الإنسان، غير أن الله تعالى قد خص اليهود من بين سائر الأمم بعنايات خاصة وبارزة، وأتم عليهم الحجة في هذا الطريق، لكنهم بدلوا النّعمة كفراً وعناداً، وواجهوا نعم الله تعالى باللجاجة والتذرع حيناً، والإصرار على العناد في المواقع الخاطئة والمواقف غير المناسبة أحياناً، حتى استحقوا العذاب الإلهي على أفعالهم هذه؛ من كفران النعمة إلى عبادة الأهواء وحب الدنيا.

 


1- نعمة إرسال الأنبياء بكثرة


يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} (22).

أ- نعمة الهداية من النعم الإلهية العظيمة، وهي تتحقق بإرسال الرسل والأنبياء، لذلك يُعرِّف القرآن الكريم بعثة خاتم الأنبياء محمد (ص) بالمنة الإلهية على أمة الإسلام: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (23).

ب- لقد اختار الله تعالى لبني إسرائيل واحداً من أهم وأعظم الأنبياء، وهو صاحب شريعة مقدسة وكتاب سماوي، ويُعدّ من أنبياء أولي العزم، بحيث جاء بعده عدد كبير من الأنبياء ليبلغوا رسالته ويبينوا شريعته، وهو النبي موسى (ع). والقرآن الكريم يتحدث عن عظمة هذا النبي، ليس فقط في عناية الله الخاصة بولادته وترعرعه في بيت فرعون، بل اختاره الله عز وجل ليكون كليمه: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} (24).

ثم خصّه تعالى بمعجزات كثيرة في بني إسرائيل حيثما ذهب وجاء، كل ذلك لهدايتهم، وهذه نعمة كبيرة لبني إسرائيل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورً} (25).

ج- أرسل الله تعالى إلى بني إسرائيل، بالاضافة إلى نبي الله موسى (ع)، عدداً كبيراً من الأنبياء جاؤوا بعده لهدايتهم (على شريعة موسى (ع) وتوراته)، بحيث كان بإمكان اليهود أن يستفيدوا من هذه النعم الوفيرة (بعثة الرسل)، ويقبلوا دعوتهم للوصول إلى الكمال والسعادة، من هؤلاء الأنبياء: نبي الله يعقوب (ع)، يوشع (ع)، داوود (ع)، سليمان (ع)، إلياس (ع) ويحيى (ع).

د- قابل بنو إسرائيل نعم الله بالكفران، فبدل أن يقدّروا هذه النعم الكبيرة ويشكروا الله تعالى ويطيعوا الأنبياء، واجهوهم بأسوأ معاملة فآذوهم وكذبوهم وقتلوهم، وكانوا يواجهون كل حكم إلهي يرونه مخالفاً لأهوائهم وحبهم للدنيا بالعنف والشدة والعتوّ، وهذا يحيى (ع) الشاهد الأبرز على ما فعلوه بالأنبياء (ع)، لذلك نرى القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث يقول: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُون} (26).

 


2- تفضيلهم على الأمم المعاصرة


يقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (27).

النِّعمة: نِعمة الله سبحانه، بكسر النون: منُّهُ وما أعطاه الله تعالى العبدَ ممّا لا يمكن غيره أن يعطيه إيّاه كالسمع والبصر، والجمع منهما نِعَمٌ وأنعُمٌ. (28).

ونعمتي أي نعمة الله تعالى.

أ- إن التوجه إلى نعم الله سبحانه وذكرها يوجب تقوية التواضع والتعبد والشكر والتقدير لدى الإنسان، وهذا الأمر يدفعه إلى عدم منح ما لديه بخساً.

ب- لقد ذكرت الآية المباركة شأن التفضيل بشكل مستقل بعد بيان النعمة الإلهية، وهذا يظهر عظمة هذه النعمة.

ج - ان الله تعالى قد شمل بني إسرائيل بنعم كثيرة - من أهمها؛ تفضيلهم على غيرهم من الأمم: كإرسال الأنبياء بشكل متكرر، إنزال التوراة، المدد الغيبي والنصر على الأعداء - بما لم يشمل به سائر الأمم والأقوام المعاصرة التي كانت في زمن بني إسرائيل، وهذا الأمر يجعل التكليف الملقى على عاتقهم أكبر وأثقل.

د - بدل أن يشكر بنو إسرائيل الله عزّ وجلّ على هذا الامتياز الذي منحهم إياه من دون سائر الأمم، كفروا بنعمة التفضيل وأحالوها إلى أبشع صورها.

 أولا: لقد عدّوا هذا الامتياز الإلهي امتيازا ذاتياً وتفضيلاً لهم في العرق والنسل، (وليس لطفاً وفرصة ممنوحة من الله تعالى من أجل هدايتهم)، وتعاملوا مع سائر الخلق بروحية مستكبرة ونفسية فوقية وطغيان على عبيد الله الآخرين.

ثانياً: أظهروا العناد والعصيان في مقابل الله تعالى، لذلك استحقوا غضبه ولعنته عليهم، واشتروا الذلة والمسكنة لأنفسهم.

هـ - إذا لم يُستفد من النعمة بالشكل المطلوب، ولم تقدر كفاية، فإنها سوف تتبدل إلى نقمة، وهذه سنّة الله تعالى ولا تبديل لسنته.

 


3- الانتصار على فرعون


قال تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (29).

أ- حكم الفراعنة مصر لعدة قرون، وكان اليهود - كما الشعب المصري - يعانون أشدّ العذاب ويتعرضون لشتى أنواع الظلم والطغيان، خصوصا،ً عندما وصل رعمسيس الثاني إلى الحكم، وكان قلقاً على مستقبله ومصيره، لذلك لم يتورع عن ارتكاب الجرائم والجنايات والظلم بحق اليهود، حتى قتل الأطفال والرضع، وبقر بطون النساء الحوامل، وكان يعد نفسه إلهاً فوق البشر والحجر، لذلك أهلكه الله سبحانه شر هلاك، وكانت هذه نعمة كبيرة على بني إسرائيل.

ب- إن فرار موسى (ع) وقومه ليلاً من فرعون يدلّ على ضعف الإمكانيات المادية لدى موسى (ع) وأتباعه في مقابل فرعون.

ج - لقد فلق الله تعالى نهر النيل العظيم لموسى (ع) وقومه الذين خرجوا هرباً من فرعون، وبأمر من (الله ولله) تعالى، ونجاهم إلى الضفّة المقابلة، في حين أن العبور كان مستحيلا في تلك الحال، خصوصاً مع وجود هذا العدد الكبير من بني اسرائيل.

د - إن نعمة نجاة بني إسرائيل وهلاك فرعون كان أمام عيون القوم (اليهود)، ولم يكن من الممكن تناسي هذه الحادثة العظيمة أو تكذيبها، لذلك عبّر القرآن الكريم: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}.

هـ - بعد انتصار بني إسرائيل على فرعون ووصولهم إلى برّ الأمان، سرعان ما تناسوا كل شيء، فبدل إظهار الشكر لله تعالى والحركة في محور التعاليم والتشريعات الإلهية، شرعوا بعبادة العجل وطلبوا من موسى (ع) صنماً يعبدونه، ولم تكن أقدامهم قد جفّت من ماء نهر النيل بعد، ولم تزل حادثة غرق فرعون أمام ناظريهم!.

و - العجب والغرور من الآفات التي تعقب النصر؛ غير أن جبهة الحق، ما دامت تعتقد أن نصرها إنما تحقق بالمدد الغيبي الإلهي والعناية الربانية، فإنها لن تبتلى بالغرور والعجب، بل ستزداد خضوعاً لله تعالى وخشوعاً وتعبداً له، وهذا ما حُرِم منه بنو إسرائيل على رغم المشاهدة الحضورية لحادثة عبور النهر وهلاك الظالمين.

 


4- نزول التوراة (الألواح)


{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} (30).

أ- بعد هلاك فرعون وإزالة الموانع، هيأ الله تعالى لبني إسرائيل أرضية للسعادة والرشد والكمال الدائم، بمنحهم نعمة جديدة (التوراة والألواح)، وهي عبارة عن ميثاق الله تعالى مع عباده المصطفين المؤمنين، وهي مبنية على أساسين: الهداية والنورانية.

ب-الظاهر أن التوراة نزلت على شكل ألواح مكتوبة، والقرآن يشير إليها بأنها بيان لكل شيء: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَ} (31).

ج - نزول التوراة على موسى (ع) كان في موضع واحد، وعلى فترة أربعين ليلة من الزمن، وهذا الأمر جعل اليهود في زمن الرسالة المحمدية يعترضون على الرسول (ص)، فكيف ينزل القرآن على دفعات وبشكل تدريجي؟، ولماذا لا ينزل كما نزلت التوراة في مكان واحد ودفعة واحدة؟: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ} (32).

د - التوراة والألواح عبارة عن أحكام شريعة موسى (ع)، والمبنى العملي لها، وشريعة الأنبياء الذين جاؤوا من بعده.

هـ - عندما شاهد بنو إسرائيل الألواح في يد موسى (ع)، أظهروا عدم الرضا والشكر، بدل أن يفرحوا ويلتزموا بها عملياً في مسيرة الهداية الإلهية، فطلبوا من نبي الله موسى (ع) أن يريهم الله تعالى جهرة، وأعلنوا أنهم لن يؤمنوا حتى يروا الإله، مثلما وقفوا بعد ذلك في وجه الأنبياء الذين دعوا إلى العمل بالتوراة، وقالوا لا طاقة لنا بذلك، فكذبوهم وقتلوهم.

و - اليهود لم يؤمنوا بالقرآن ولم يتعبّدوا به، بل إنهم لم يطيعوا كتابهم المقدس المبعوث من السماء (التوراة) فعارضوه مراراً وتكراراً، وخالفوا تعاليمه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (33).

لقد عصوا وتمردوا على الدخول إلى أرض فلسطين، كذلك تمردوا على حكم التوراة بتعطيل الصيد يوم السبت، فلم يفعلوا بل أصروا على الصيد، كذلك الأمر بالنسبة إلى حكم زنا المحصنة، ولم يكتفوا بذلك، بل ذهبوا إلى تحريف التوراة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (34).

 


5- العفو العام والحياة ثانية


يقول تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (35).

أ- لقد ارتكب بنو إسرائيل ذنباً عظيماً بعبادتهم العجل، فاستحقوا بذلك عذاب الموت، لكن الله تعالى شملهم بلطفه وعنايته وعفا عنهم ومنحهم فرصة أخرى، لعلهم يرجعون إلى الحق ويشكرون هذه النعمة.

ب- في فترة غياب موسى (ع) اتخذ اليهود العجل رباً فعبدوه، أما الأشخاص الذين رافقوا النبي (ع) إلى جبل الطور فكانت خطيئتهم من نوع آخر، حيث اشترطوا لإيمانهم بموسى (ع) وما نزل عليه أن يروا الله تعالى، فأخذتهم الصاعقة وهلكوا جميعاً، ثم أن الله تعالى أحياهم مجدداً، ومنحهم هذا اللطف والعناية الخاصة، {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (36).

واللطيف والملفت للنظر في هاتين الآيتين (العفو والإحياء)، أن دليل العفو والإحياء مجدداً هو منح الفرصة من جديد على أمل أن يظهر بنو إسرائيل الشكر لله تعالى، فاللطف الإلهي والنعمة الجديدة الممنوحة كانت لإيجاد روحية التقدير والشكر في قوم موسى (ع).

ج - العجيب أن هذه النعمة الممنوحة وهذه الفرصة الجديدة، بعد ضلال بني إسرائيل وهلاكهم، لم توجب التنبّه، ولم تردعهم عن تكرار ما فعلوه، بل لجّوا وتمردوا وأظهروا عدم الشكر والامتنان مرة ثانية، لكن بصور وأشكال مختلفة. وأول هذا التمرد كان عدم دخولهم أرض فلسطين، والجهاد ضد الحكام المستكبرين فيها:{قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (37).

د - إن روحية طلب الرفاهية والسعي لأجل تحقيقها، بالإضافة إلى العناد واللجاجة، كثيراً ما تُعمي الإنسان، حتى ولو مات على أثر ذنبه ثم بعث من جديد، فإنه سوف يطوي ذات المسير، ويعاود ما كان عليه في الماضي، ولن يتنبّه من غفلته، وليس من كفران لنعمة أكبر من هذا الكفران!. لا شك أن هكذا إنسان أو مجتمع يستحق الذلة الأبدية، والغضب واللعنة الإلهيتين، ولن تطأ قدمه طريق السعادة أبداً: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (38).

 


6- النعم المادية


يقول تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (39).

أ- في الحياة الثانية لبني إسرائيل المشردين والمحتاجين إلى مسائل كثيرة، هيأ الله تعالى لهم الفرصة ثانية، ووضع بين أيديهم ما يحتاجون إليه، فظللهم بالغمام وأنزل عليهم الطعام {المن والسلوى)، وأخرج لهم الماء العذب من اثنتي عشرة عيناً يشربون منها: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (40).

ب- إن التشرد والتيه في الصحراء كان نتيجة أعمال اليهود وتمردهم عن دخول الأرض المقدسة (أرض فلسطين)، على الرغم من ذلك، فقد مدهم الله تعالى بعونه وشملهم برحمته، حيث أنزل عليهم أفضل أنواع الرزق من المأكل والمشرب.

ج - غير أن اليهود لم يظهروا الشكر حتى على هذه النعم المادية، وراحوا يتذرّعون بشتى الذرائع، فطلبوا من موسى (ع) الخضار والحبوب من عدس وبصل وفوم وغير ذلك بدل المن والسلوى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (41).

د- عدم تقدير النعمة والشكر كان موجباً للقول لهم: (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله) (42).

 


7- النجاة من المصاعب والأزمات الاجتماعية


من العنايات الإلهية والألطاف الربانية التي شملت بني إسرائيل، نجاتهم من المشاكل الاجتماعية والأزمات الداخلية، بحيث كانت تهدد أمن المجتمع اليهودي الداخلي، وتضعه على شفير الهاوية، كل ذلك بفضل من الله تعالى، حيث كان يتدخل في المواقف الحرجة والمصاعب الشديدة، ويساعدهم وينقذهم من وباء الاختلافات والفساد الذي كان يحيط بمجتمعهم، ويرفع عنهم هذه الابتلاءات والمصائب، والنموذج الأكثر بروزاً في القرآن الكريم، قصة بقرة بني إسرائيل، وخلاصتها: أن شخصاً من بني إسرائيل قُتِل خفية على يد شخص إسرائيلي آخر، فاختلفت القبائل حول من هو القاتل؟ فذهبوا إلى موسى لحل مشكلتهم، طلب موسى (ع) العون من الله عز وجل، فأمره تعالى أن يذبح بنو إسرائيل بقرة ويضربوا بقطعة من لحمها جسد القتيل، عندها سيحيا القتيل وسينطق باسم القاتل، لكنهم في البداية اتخذوا الأمر هزواً ومزاحاً، وظنوا أن موسى (ع) يسخر منهم، لكنهم عندما شاهدوا حزم موسى (ع) في المسألة، راحوا يختلقون المشاكل ويضعون العقد ويكثرون التساؤل.

في النهاية أوحى الله تعالى إلى موسى (ع)، وأنبأه بصفات البقرة ولونها فوجدوها، فذبحوها، والقصة معروفة في القرآن الكريم في سورة البقرة:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِين * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ* وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (43).

 


8- البشارة وذكر علامات الرسول الخاتم (ص)


يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل} (44).

أ- من العنايات الإلهية ببني إسرائيل اطلاعهم على المستقبل، وإخبارهم عن ظهور النبي الخاتم (ص) الذي سيأتي بأكمل الأديان وأشملها على الإطلاق، وقد ذكرت أوصافه الشريفة وعلاماته في كتبهم بشكل دقيق وصريح لا لبس فيه، بحيث يمكِّنهم من التّجهز والاستعداد لقدومه المبارك والإيمان به وبتعاليمه العظيمة، لكنهم للأسف حرموا من هذا الخير الكبير.

ب- لقد كان اليهود في جزيرة العرب ينتظرون هذا الظهور لنبيّ الإسلام (ص)، وكانوا يهتمون لذلك القدوم النبوي ويبشرون به، حتى أنهم كانوا يتوعدون أعداءهم ويهددونهم بالرسول الموعود المنتظر، ولم تكن هجرتهم إلى يثرب إلاّ من أجل بلوغ هذا الهدف الذي كانوا يعدونه النعمة الإلهية الكبرى لأهل الكتاب، والأمل لمستقبلهم.

ج - كان يُنتظر من اليهود أن يكونوا أول من يلتحق بالإسلام، ويؤمنوا به، ويشكروا هذه النعمة بالدخول في الإيمان وحماية الدين الإسلامي والدفاع عنه، لأنهم كانوا ينتظرون هذه البعثة النبوية، وقد قرأوا ذلك في كتبهم، وعلموا أوصاف الرسول الجديد (ص) بالاسم والكنية والصفات، غير أنّهم في هذه المرة أيضا كفروا بالنعمة بإظهارهم العداوة والبغضاء لنبي الإسلام (ص)، وامتلأت قلوبهم بالحقد والضغينة، وراحوا يُعملون الدسائس ويحيكون المؤامرات ضد المسلمين. لقد منعهم حبهم للدنيا وإتباعهم لأهوائهم من الانقياد للرسالة الجديدة والهداية بهديها.

 




 (1) سورة البقرة: 146.

 (2) سورة الأعراف: 157.

 (3) سورة الصف: 6.

 (4) تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج13، ص43.

 (5) الساميون هم أبناء سام بن نوح (ع).

 (6) سورة آل عمران: 67.

 (7) سورة طه: آية 38-39-40.

 (8) سورة القصص: 14.

 (9) سورة الشعراء: 52.

 (10) سورة يونس: 90-92.

 (11) المائدة: 21-24و26.

 (12) جبل الطور يقع في جنوب شبه جزيرة سيناء بين قناة السويس وخليج العقبة ويعرف اليوم «بجبل موسى».

 (13) الأعراف: 141- 142.

 (14) يُعدُّ عزير الشخصية الفذة والمحترمة الأولى بين اليهود بعد موسى (ع).

 (15) سورة المائدة: 82.

 (16) الأعراف 156.

 (17) راغب أصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن (دار الكتاب العربي)، تحقيق نديم مرعشلي، 1392 هـ.ق، ص 544.

 (18) ناصر مكارم شيرازي وآخرون، تفسير نمونه، (تهران، دار الكتب الإسلامية، 1353) نقلا عن تفسير أبو الفتوح، ج5،ص300.

 (19) حسين توفيقي، ص 75و76 به نقل از تورات سفر پیدایش 32:24-32 قاموس كتاب مقدس، ص 53و957.

 (20) راغب أصفهاني، مصدر سابق، ص 321.

 (21) سورة المائدة: 44.

 (22) سورة المائدة: 70.

توضيح: راجع الآيات التي تتحدث عن نعم الله تعالى على بني إسرائيل: 16-17 من سورة الجاثية.

 (23) آل عمران: 164.

 (24) الأعراف: 144.

 (25) الإسراء:101.

 (26) سورة المائدة: 70.

 (27) البقرة: 47 و122.

 (28) لسان العرب، ابن منظور، محمد بن مكرم، دار المعارف، بيروت، ج6، ص 4479.

 (29) سورة البقرة – 50.

توضيح: فرعون هو الاسم الغالب على ملوك مصر في فترة الفراعنة لكن المقصود بفرعون في هذه الآية هو رعمسيس الثاني.

 (30) سورة المائدة: 44.

 (31) سورة الأعراف: 145.

 (32) سورة النساء: 153.

 (33) سورة البقرة: 64.

 (34) سورة البقرة: 59.

 (35) سورة البقرة: 52.

 (36) سورة البقرة: 56.

 (37) سورة المائدة: 24.

 (38) سورة البقرة: 61.

 (39) سورة البقرة: 57.

 (40) سورة الأعراف: 160.

 (41) سورة البقرة: 61.

 (42) سورة البقرة: 61.

 (43) سورة البقرة: 67-68-69-70-71-72-73.

 (44) سورة الأعراف: 157.