الكتاب المُتْرَفُونَ وصِنَاعَةُ الْفَسَادِ (إشكالية الترف في الدين والسياسة)
قراءة من منظور قرآني
تأليف الشيخ عارف هنديجاني فرد
إعداد ونشر جمعية القرآن الكريم
الطبعة الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت
موقع جمعية القرآن الكريم www.qurankarim.org
بريد جمعية القرآن الكريم info@qurankarim.org

 

لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

 

فهرس الكتاب

الجزء الأول

الجزء الثاني الجزء الثالث

 

الفصل الثالث : المترفون والمصير المشؤوم

 تمهيد الفصل

 المبحث الأول: وعد الله وحاكمية السنن

 أ- النفس الإنسانية مبدأ التغيير

 ب- المترفون وسنّة التدافع

 المبحث الثاني: الامتحان بالبلاء وموت الأمم

 أ- الامتحان بالبلاء والعذاب

 ب- المترفون والعذاب المحتوم

خاتمة المبحث

الأمة الإسلامية بين الترف والعذاب

المصادر والمراجع

 

 

 


الفصل الثالث : المترفون والمصير المشؤوم


 

تمهيد الفصل
المبحث الأول: وعد الله وحاكمية السنن
أ- النفس الإنسانية مبدأ التغيير
ب- المترفون وسنّة التدافع
المبحث الثاني: الامتحان بالبلاء وموت الأمم
أ- الامتحان بالبلاء والعذاب
ب- المترفون والعذاب المحتوم

 



 

تمهيد الفصل



إنّ ما تقدّم في فصول ومباحث هذه الدراسة لم يشتمل في تفاصيله على أهم المباحث القرآنية، ونعني بذلك مبحث المصير المشؤوم الذي توعّد الله تعالى به المترفين. وإنّ أحداً لا يمكنه تجاوز هذا المبحث فيما لو أراد كمالاً لدراسته، وقد تأخرنا في الكلام حول مصير المترفين إلى الفصل الثالث قناعة منّا بأن ما أرشد إليه القرآن الكريم في مجال ألوان العذاب يحتاج دراسة مستقلة ترتكز إلى مقدمات كان لا بدّ منها في دراسة موضوع الترف من منظور قرآني.

ولهذا، نمهّد في هذا الفصل لدراسة هذا الموضوع بعد أن عرضنا لرؤية شاملة حول آيات الترف في القرآن في ضوء المنهجية الموضوعية ذات الاتجاه التوحيدي، على اعتبار أن الاستفادة من التجربة واستخلاص الرؤية في ضوء النصّ والتجربة معاً، يبقى السبيل الوحيد لاستيفاء هذا الموضوع حقّه. ولا شكّ في أن من يقرأ مباحث هذه الدراسة سيتوقف ملياً عند السبب الذي جعلنا نتأخر كثيراً في دراسة ما توعّد الله به المترفين من مصير، حيث قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [1] . ولكي لا نطيل الكلام في تمهيدنا هذا، فإنّنا نشير إلى أن سبب التأخير كان ضرورة استيعاب موضوع الترف في سياق رؤية شاملة للآيات. وبما أن هذه الآية تعطف مراحل التحوّل في الاجتماع الإنساني على نحو مذهل، فقد رأينا أن نؤخّر البحث فيها لتكون مجالاً للبحث في فصل مستقلّ يرتكز إلى مباحث الدراسة كلها، لعلّنا بذلك نوفّق إلى دراستها بالشكل الذي يسمح لنا باستخلاص النتائج المرجوّة منها، وخاصة أن الآية الآنفة الذكر كانت ولا تزال موضع دراسة وتدبّر عند الباحثين في الشؤون القرآنية، فهي آية، كما قلنا، تعطف مراحل التحوّل الإنساني بحرف الفاء، وترشد إلى الهلاك المحقق والمحتوم للمترفين في ضوء مراحل متعددة لا بدّ أن يمرّ بها الاجتماع الإنساني في كل زمان ومكان، وقد توقف المفسرون عندها ملياً واختلفوا حول تفسيرها، وقدموا نظريات متعددة بشأنها تراوحت بين أن يكون الهلاك والتدمير بسبب قادة الشرّ في هذه القرية، وبين أن يكون السبب هو المجتمع بكل أفراده، لما ذهب إليه مغنية في تفسير الكاشف، من أن الناس هم الذين يهيئون الظروف للمترفين كيما يستبدّوا بالناس، وهذا ما يؤدّي إلى أن يكون المجتمع بكامله عرضة للهلاك والتدمير [2] .

 

 

المبحث الأول: وعد الله وحاكمية السنن


رأينا في مبحث هذه الدراسة أن السنن الاجتماعية المعاشة ليست وليدة الصدفة، والناس إمّا أن يكونوا على سنّة اجتماعية معبّرة عن الفطرة بما هي دين حق، وإمّا أن يكونوا على سنن دائرة في المجتمع منحرفة عن الحق، تبتغي السبيل عوجاً، كما أفاد الطباطبائي في تفسيره [3] .

كما أشرنا أيضاً إلى أن وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر والاستخلاف في الأرض، ليس مجرد وعد لا شروط له ولا ظروف، وإنّما هو وعد مشروط. فإذا أراد الإنسان النصر، فلا بدّ أن يتوفّر على شروط النصر، باعتبار أن النصر هو حق طبيعي للإنسان، وليس حقاً إلهياً [4] ولا بدّ أن يتوفّر الإنسان على الشروط كيما يكون له الانتصار، كما قال تعالى: ﴿ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [5] . ولا شكّ في أن نصر الله تعالى، كما يقول الشهيد الصدر، إنما يكون بالالتزام بما أمر الله به ونهى عنه التزاماً حقيقياً، كما قال تعالى: ﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ ، والصبر والتقوى في الآية يفيدان أن يكون الإنسان حيث أمره الله تعالى، وأن لا يكون حيث نهاه، والكينونة هنا لسنا نقصد بها مجرّد الوعي بها، بل هي كينونة وعي وإدراك وتحوّل إيجابي في النفس والواقع معاً، لأنّ قوله تعالى: ﴿ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ ... ﴾ إنما هو ناظر إلى الصبر على المكاره، والقيام بحقّ الله تعالى، والمجاهدة في سبيله في جميع مجالات الحياة، هذا إضافة إلى ما تعنيه التقوى من التزام نفسي وروحي، ومن توطين للنفس على مكاره الدهر، وقبل ذلك على الطاعة لله ورسوله على النحو الذي يؤدّي بالإنسان والمجتمع إلى أن يكون تعبيراً حقيقياً عن هذه الطاعة الضامنة للحياة الإنسانية السليمة، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [6] .

وإذا كان وعد الله تعالى يتحقق في سياق ما يأتي به الإنسان من طاعات والتزامات عملية، فإنّ ذلك، كما تقدّم الكلام، لا يكون من خارج السنن التاريخية والاجتماعية الحاكمة لحركة الإنسان وتحوّلاته الاجتماعية والسياسية، وقبل ذلك الدينية، لأن الدين هو أيضاً له معنى حاكمية السنن فيما لو جاء في مجال وعي الإنسان لذاته وفطرته فيما هي عليه من ثبات في صيرورة التحولات الاجتماعية، وهذه السنّة، كما يرى الصدر، ليست مقولة حضارية مكتسبة يمكن الاستغناء عنها، بل هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لها [7] .

وهكذا، فإنّ معنى أن نبحث في وعد الله تعالى وحاكمية السنن، أن نتعرّف إلى الأسباب والحقائق التي يعرض لها القرآن في ميدان التجربة البشرية كيما يكون ممكناً الاحتكام للنصوص في دائرة إطلاق الأحكام، لأنّ القرآن فيما يعرض له من سنن في ميدان التاريخ، هادف إلى تعليم الإنسان وإرشاده إلى ضرورة الاعتبار والاكتشاف في آن معاً، وإلاّ فما يكون معنى أن نعرض للسنن التاريخية والاجتماعية، ولا يكون بالإمكان الاستفادة منها أو التعبير عنها؟ ومن هنا، نرى أن هذا البحث لا يكون مجدياً إلاّ إذا تمكّنّا من ملامسة السياقات القرآنية للآيات كخطوة أولية في طريق دراسة السنن، وخاصة السنّة المشروطة التي عرض لها القرآن وأوضح للإنسان سبل الاستفادة منها، ولعلنا لا نخطئ القول أن البداية كانت ولا تزال في ضوء الرؤية الموضوعية من النفس الإنسانية التي هي أساس كل تحوّل إنساني في ميادين الحياة والاجتماع؛ وإنّ مما يدلّ على هذه الحقيقة، هو قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [8] .

 

 

أ - النفس الإنسانية مبدأ التغيير


إنّ التدبّر في آيات الله تعالى يكشف لمتأمل بصير أن كل ما عرض له القرآن في مجال الترف والمترفين، لم يأتِ به في سياق متجرّد عمّا هو عليه الإنسان في ذات نفسه، وقد خاطبه الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ [9] ، وهذا يدلّل على أن حقيقة الكدح لا تكون من خارج النفس التي ألهمت فجورها وتقواها. فإذا كان المترفون قد استغرقوا في الثروات والأموال وما كان عليه الآباء من قول وفعل، فذلك ليس دليلاً إلاّ على أنهم قد استغرقوا في وضع نفسي، وحالة نفسية، جعلوا المال والثروة تعبيراً عنها. أما في الحقيقة والجوهر فهم إنّما فعلوا ذلك فجوراً وتأكيداً على ما في أنفسهم من مفاهيم مغلوطة عن الكون والحياة والإنسان، ولهذا نجد أن القرآن يخاطب هؤلاء الذين أترفوا، ويدعوهم إلى ضرورة العودة إلى أنفسهم ليدركوا أن مرض القلوب والنفوس، هو الذي حوّلهم عن كونهم بشراً أصحّاء طيبين، فجعل منهم أناساً مترفين مجرمين ينظرون إلى الثروة والمال والنفوذ في الواقع نظرة أساسية ونهائية لقيمة الحياة! فلو أنهم اتعظوا بتقلبات الحياة ومصائر الأمم لما آل أمرهم إلى أن يكونوا مقلدين لآبائهم متخذين منهم شعاراً للحياة، ومبدأً للاعتبار، وهذا كله إنما كان منهم، كما ذكرنا، بسبب الشيطان الذي حال بينهم وبين النفوس والقلوب، فكان ذلك سبباً رئيسياً في الإضلال لهم، فأوردهم مورد الهلكة، وهذا ما يمكن أن نستفيده من سياقين في القرآن الكريم، الأول هو سياق قوله تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ [10] .

أما السياق الثاني، فهو قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ [11] .
نلاحظ أن السياق الأول في الآية المباركة جاء بلحاظ القوم في التعبير، لأن الآية، كما نرى، ترسم ملامح للأمة، وليس لفرد من أفراد المجتمع، هذا فضلاً عمّا ترشد إليه من قانون وسنّة حاكمة في ميدان التاريخ، مفادها أنه لا تغيير في الواقع إلاّ بعد أن يكون الإنسان قد تغيّر داخلياً، وهذا ما عبّر عنه السيّد الصدر بالمحتوى الداخلي للإنسان، حيث أكّد على أن العلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان، والبناء الفوقي التاريخي للمجتمع هي علاقة تبعية، وعلاقة سبب بسبب [12] ، فما لم يتغيّر المحتوى الداخلي، فإنّ المجتمع سيبقى تعبيراً عمّا هو عليه الإنسان، فإن كانت نفسه فاجرة، فلا بدّ أن يكون المجتمع تعبيراً عن الفجور، وإنّ أدنى تأمّل في مبحث الشهيد الصدر، يظهر للباحث أن الشهيد اهتمّ بالعلاقة بين المحتوى الداخلي والمحتوى الخارجي، ولكنه لم يلتفت إلى سياق الآية ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ .. ﴾ هذا السياق الذي يُفيد مدى العناية الإلهية بالإنسان في طريق تحوّلاته الاجتماعية والسياسية، ولو لم يكن للسياق هذا المؤدّى، لما استطعنا أن نحكم على حركة التاريخ وفاقاً للسنن الحاكمة لكل ميادينه، وخصوصاً أن الآية جاءت بذكر القوم ولم تأتِ بذكر الإنسان كفرد، وهذا ما عقّب عليه علماء التفسير [13] ، ولكنهم لم يلحظوا المعنى الذي نذهب إليه بقولنا: إنّ حركة التاريخ لا بدّ أن تتغيّر وفاق هذه العناية الإلهية المحيطة بالإنسان، التي مكّنته في كثير من التحولات من الانتصار على المترفين [14] ، كما إنه سياق يفيد معنى الحفظ الذي مؤدّاه أن يتحصّل للنفس من الإلهام ما يجعلها في كثير من الأحيان واعية لحركتها الذاتية، فتتحوّل داخلياً، ويكون من آثار هذا التحول تغيّر وتبدّل الواقع من حال إلى حال، وإذا كانت النبوة قد واجهت تمرّداً هائلاً من المترفين في بداية كل دعوة، فإنّ التحول، وفق عناية الحفظ الإلهي، كان يتم بالارتكاز إلى هذا الحفظ من أمر الله تعالى، الذي كان غالباً ما يفجّر المكنون الإنساني ليكون في نصرة النبوة، لما ذهبنا إليه في بحوثنا السابقة من أن الإنسان لو لم يكن على وعي بالوحي، لما كان ممكناً أن يقبل الوحي [15] ، ولهذا جاء السياق الثاني في آية البقرة ليوضح هذا المدلول بقوله تعالى: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ [16] ، وهو سياق يُفيد حقيقة الارتكاز إلى فطرة الإنسان بما هي دين ﴿ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ ، كما أنه مرشد إلى وجوب إعمال البصيرة، كما أفاد الكاشاني في تفسيره [17] ، والخروج عن تقليد الآباء، بإعمال العقل للاهتداء إلى ما هو مرتكز فيه ومنطوٍ عليه، ومن هنا جاء الاستفهام للتوبيخ، لأنه يقتضي كما يقول الطبرسي، ما الإقرار به فضيحة عليه، ومعناه لو ظهر لكم أنهم لا يعلمون شيئاً مما لزمهم معرفته أكنتم تتبعونهم أم كنتم تنصرفون عن اتباعهم، فإذا صحّ أنه يجب الانصراف عن اتباعهم، فقد تبيّن أن الواجب اتباع الدليل دون اتباع هؤلاء [18] ، ولو لم يكن في ارتكاز النفس والعقل اتباع الدليل لما جاء التوبيخ لهم على الانصراف عنه، ما يؤكّد لنا أن فائدة السياق تكمن هنا أن يخرج هؤلاء القوم بأنفسهم إلى أنفسهم، قبل أن يخرجوا إلى أفق التاريخ والاجتماع، باعتبار أن ظاهر الآية يُفيد أن المعطيات لا بدّ أن يكون لها تحولات، وإن كان البعض قد فهم منها مجرّد الحفظ والعناية من خلال الملائكة، ولا شكّ في أن هذا الفهم لا يتنافى مع ما ذهبنا إليه أنه حفظُ مسبوق بالعناية بما هو عليه الإنسان في ذاته، بحيث يكون له الحفظ من الداخل والخارج معاً، وقد أعقب هذا التعقيب وفي سياق واحد: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ . وهنا نسأل، هل لأحد أن يرشدنا إلى معنى هذا التغيير فيما لو لم يكن آتياً في سياق التعقيب، الذي هو خير دليل على ارتكازية النفس وما تتجلّى به من تحوّلات داخلية وخارجية؟ وقد جاءت النبوة لتعزز من فرص القوم في تحقيق هذا التغيير كمقدمة لتغيّر الواقع وفقاً لأوامر الله تعالى للخروج من الظلمات إلى النور ...

إذن، وكما بيّن العلامة الصدر في رؤيته [19] والعلامة مطهري في المجتمع والتاريخ [20] ، والعلاّمة اليزدي في معارف القرآن [21] وغيرهم كثير من القدامى والمحدثين، أنّ سنّة التغيير تبدأ من داخل النفس بلحاظ المعطى الفطري فيها، والذي استحق أن يكون موضوعاً للخطاب أولاً وللحفظ ثانياً، وهذا ما نعتبره رؤية قابلة للنقاش، لأنه من غير الممكن تجريد السياق في الوقت ذاته الذي نرى فيه حقيقة واقعية وعملية، بحيث نجرّد المعقبات في الآية [22] ، ثم نلحظ الإطار العملي فيما تنطوي عليه الآية من تغيير رغم أن السياق واحد، ولا بدّ أن له مدلولاً عملياً في إطار وحدة الهدف.

وعليه، فإنّ ما نودّ التركيز عليه في معنى السياق، هو محورية التغيير وضرورة أن يبدأ من النفس، باعتباره فريضة إسلامية تحتم على المجتمع الإسلامي وعلى كل مجتمع أن يلحظ ذاته فيما تكون عليه من تحوّل نفسي وعقلي، ومن ثم لحاظ الواقع في ضوء هذا التحول ليكون المجتمع تعبيراً عن هذه النفس فيما ألهمت من تقوى، وقوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [23] ، إنّما يرشد إلى قدرة التعقل على احتواء صيرورة كل تحوّل داخلي في ذات الإنسان، وقد مَنَّ الله تعالى على الإنسان بالدين بما هو شريعة ليعضد الدين بما هو فطرة ليكونا شيئاً واحداً يعبّر الإنسان من خلالهما عن كلّ تحوّلاته الاجتماعية والإنسانية، بحيث تكون هذه التحولات تعبيراً عقلانياً يلحظ الأسباب والنتائج التي تحوّل الواقع عن كونه محكوماً لسنن اجتماعية دائرة في المجتمع، ليكون مجتمعاً هادفاً ومتحوّلاً وفقاً للسنن الإلهية الحاكمة، فلا يخالف المجتمع مقتضيات هذه السنن، بل يكون له استقامة النفس في التعبير عن هذه السنن وقبل ذلك في الامتثال لها لكونها سنناً ثابتة لا مفرّ من الاحتكام لها والعمل بمقتضاها، باعتبار أن الفارق كبير جداً بين أن تجرى هذه السنن على المجتمع وهو غائب عن نفسه، ومأخوذ بفجوره، وبين أن تجرى هذه السنن عليه وهو متعقل لصيرورة تحولاته، ولهذا خاطبه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ وقد تقدّم العقل على الهداية لكونه شرطها، فإذا لم يكن الإنسان عاقلاً، فلا تكون له قدرة اتباع الدليل كما قال الطبرسي، بل سيبقى مقلداً تجرى عليه السنن وفاقاً لما هو عليه في ذات نفسه من جهل وتقليد وترف لا طائل منه سوى أن يتحول الانسان اجتماعياً وسياسياً ودينياً، ليكون تعبيراً عن هذه الحالات التي تخرجه عن التأثير بالواقع، وتدفع به إلى أن يكون منفعلاً به، ومكذباً لنفسه فيما آتاه الله من نعم ظاهرة وباطنة، بحيث يكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [24] . وعلى هذا النحو يمكن لنا أن نفهم مؤديات السنن الأخرى التي عرض لها القرآن في سياق التعبير النفسي، كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً [25] ، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي تستعرض السنن من خلال مصاديقها، وقد وفى الشهيد الصدر في استعراض مدلولات هذه السنن في ميدان التاريخ والاجتماع البشري.

لا شكّ في أن الغاية من عرضنا هذا، ليست الاستغراق في دراسة السنن، وإنما التركيز على مبدأ التغيير للارتباط الوثيق بين موضوع بحثنا وبين هذا المبدأ، باعتبار أن المترفين إنّما جُعلوا في مقابل النبوّة لكونهم لم يهتدوا إلى هذه السنن جهلاً واستخفافاً وتمرّداً، بل والتزاماً بما اتخذوه وامتدوا به من أهواء في مقابل أمر الله تعالى، وقد بينّا سابقاً أن المترفين هم امتداد لعقيدة ومنطق إبليس، وليسوا مجرّد أشخاص لهم آراء واجتهادات مقابل النبوة...!؟

ولهذا، فقد اخترنا هذا المبحث للتأكيد على أن تغيير النفس هو ما ينبغي أن يؤسس عليه في تحولات المجتمع الإنساني، وهذا يقتضي بذل الجهد الإنساني لتغيير ما بالنفس من أوهام ومغالطات ومبادئ فاسدة، وأخلاق ذميمة من خلال إحياء العقل واتباع الدليل الذي جاء به الأنبياء (عليهم السلام) لإثارة دفائن العقول، وليس لخلق حالات عقلية ونفسية معدومة، وأراد لها الأنبياء (عليهم السلام) أن تتحقق ابتداءً [26] ، وقد قال الإمام علي (عليه السلام)  في هذا المعنى: «إنّ الله بعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول...» [27] .

وهذا ما نرى أنه يخدم وجهة نظرنا فيما ذهبنا إليه من أن تغيير النفس يقتضي أن يتحول الإنسان في ذات نفسه في ضوء ما أثاره الأنبياء (عليهم السلام) للإنسان في العقل قبل الواقع. وإذا كان المترفون قد عاندوا الحق، واختاروا الباطل والعناد والتحقير للأنبياء والأولياء، فذلك إنّما كان منهم لكونهم سدّوا منافذ العقل واحتكموا إلى فجور أنفسهم فيما ارتكزوا إليه من وحي شيطاني أدّى بهم إلى أن يكونوا على فساد في أنفسهم قبل واقعهم! وهذا كله، كما يرى علماء التفسير، كان ناشئاً من اختيار واعٍ وإرادة وعزيمة، ولم يكن مجرّد جهل أو سفه، أو إكراه على سلوك هذا الطريق، وقد استطاع الإنسان في تاريخه، وإلى أي دين انتمى، أن يؤسس لتحوّلات كبيرة جداً في واقعه من خلال الالتزام بالمنهج الذي جاء به الأنبياء (عليهم السلام) بالارتكاز إلى قوة النفس العاقلة التي سمحت بإجراء تغييرات وتحولات هامة في بنى الاجتماع البشري، وكما يقول محمد يوسف: «إن السعي لتغيير الواقع والارتقاء به، بأي حال، لا يعني عدم التسليم بقدر الله تعالى، بل يمثّل تطلعاً إلى قَدَر الله تعالى بعمل من شأنه التمكين للأمة في الأرض. فالمسلم القوي الأمين ذاته هو بمنزلة مقوّم من مقوّمات قضاء الله وقدره الغالب الذي لا يردّ» [28] .

مما تقدّم نستطيع القول: إن الإنسان يمكّن في الأرض، ويكون له الاستخلاف فيها، ويبدّل من بعد خوفه أمناً، كما أفادت آية وعد الله تعالى للمؤمنين[29] ، إنّ كل ذلك إنّما يكون للإنسان في ظلّ حاكمية السنن، وليس من خارجها، وكذلك المترفون هم إنّما يكون لهم الهلاك في الأرض والتدمير بما كسبت أيديهم وفقاً للسنن ذاتها، لأنّ الله تعالى قضى وقدّر أن تكون للإنسان إمكانية العمل والتحوّل، يدفع بعضهم بعضاً، بحيث يهتدي إلى سبل الله تعالى فيما يُحدثه لنفسه من تحوّلات اجتماعية وسياسية وإنسانية تؤهّله لأن يكون مقوماً من مقومات القضاء والقدر، فيرتكز إليه في تمكين ذاته بما هيّأه الله تعالى وأهله له في مسيرة الحياة، وهذا كله إنما يكون مرتكزه النفس الإنسانية، فهي إن اتبعت الأهواء والترف كان لها ما أرادت، وإن اتبعت العقل وما هداها الله تعالى إليه، أيضاً كان لها ما أرادت، لأنها هي مناط الدفع والتدافع بين أن تكون مهبطاً لإبليس، أو موئلاً لآيات الرحمة، ولا بدّ أن يكون لهذا الدفع أثره وتعبيره في حياة الإنسان، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [30] ، وبين دفع وآخر يكون للإنسان قضاؤه وقدره، وهذا يعني أن القضاء والقدر ليسا أمراً خارجياً يدفعان بالإنسان ليكون رهينة الدفع الخارجي، الذي لا أثر للإنسان فيه، بل الإنسان ذاته هو المقوّم لحقيقة الدفع والتدافع في الحياة، فهو، أي الإنسان، إن اختار هدى الله تعالى كان له ما أراد ومن دفع وتحوّل فيما يرضي الله تعالى؛ وإن اختار سبيل الشيطان، كان له ما أراد أيضاً على نحو ما بينّا سابقاً.

وعليه، فإن معنى أن يختار الإنسان، أن تكون له إرادة الفعل في تحقيق ذاته في صيرورة الحياة، وبهذا يتحصّل للإنسان أن يكون، كما أفاد محمد يوسف، مقوماً أساسياً في حركة التمكين القائمة على النفس وما ترتكز إليه من هدى أولاً، وعلى الدفع والتدافع فيما يختاره الإنسان من تحوّلات نفسية وموضوعية ثانياً، وفي جميع الأحوال يبقى للإنسان أن يختار في عملية الصراع المرتكزة أساساً على سنن الخلق والوجود، وعلى ما أراده الله تعالى في صيرورة التحول الإنساني منذ بدء الخليقة، كما قال تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [31] . وهذا مرشد إلى أن الدفع النفسي والعقلي للإنسان سابق على أي دفع آخر في الحياة، وما قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ [32] ، إلاّ دليل على أن الإنسان قد سُبق بدفع نفسي مرتكزه: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ﴾ ، أما مَن لم يتبع هداه، فلا بدّ أن يكون له دفعه المختلف تماماً عن هدى الله تعالى، وقد سبق لإبليس أن اتبع هدى نفسه فأضلّه الله وكان له تعبيره في الحياة، ودفعه في ما اختاره المترفون على طريقه وفي سبيله، فكان لهم ما أرادوه أيضاً من ضلال وإضلال وإفساد في الأرض ...

 

 

ب: المترفون وسنّة التدافع


تبيّن لنا في مبحث العلاقة السلبية بين الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، أن هذه العلاقة مضطردة، وهي تمثّل سنّة تاريخية ثابتة لا محيص عن الامتثال لها. كما يتظهّر لنا أيضاً من السياق القرآني أنها تستبطن معنىً دفعياً، بين الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، وقد بيّن الله تعالى في آيات الدفع، التي يصحّ القول فيها أنها نظرية الدفع القرآني، لكونها تشير في ظهورها إلى حقيقة تاريخية مفادها أن البشرية منذ آدم هي في دفع مستمر، حيث قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [33] ، وقال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [34] .

وكما نلاحظ أنّ سياق الآية الأولى هادف إلى بيان الحكمة من مشروعية الجهاد، وهي الدفع لأهل الكفر بأهل الإيمان حيث تمّت الهزيمة وقتل داود جالوت، إضافة إلى ما يلمح إليه السياق من فضيلة الإيمان بلقاء الله تعالى، وهذا الاختبار للأمة فيما يكون لها من استعداد للحرب، سواء أكانت كثيرة أم قليلة... أما سياق الآية الثانية، فقد بيّن الله تعالى فيه وعد الله الصادق بالدفاع عن المؤمنين، ومشروعية الدفاع والجهاد في مواجهة أهل الباطل، حيث علّل الله تعالى حقيقة هذا الدفع مبيّناً لحكمة الآية بالقتال، وداعياً إلى التمكن في الأرض لإقامة أسس الدولة الصالحة من خلال إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...

إذن، الآيات في سياقها العام في السورة، وفي السياق الخاص فيما تقدمها من آيات وتأخر عنها، يفيد ظاهرها أنها تدعو إلى قتال أهل الباطل وكل مَن يعتدي ليس على المسلمين وحسب بل على سائر الناس، باعتبار أن الآيات القرآنية لا تلحظ واقعاً خاصاً لما ذهب إليه علماء الأصول بأن المورد لا يخصص الوارد، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد جاءت روايات كثيرة تلحظ هذا الجانب الخاص في ظهور الآيات، ولكن الآية الثانية فيما تفيده من صوامع وبيع ومساجد تتجاوز الخصوصية إلى العالمية بحيث نفهم أن القرآن يؤسس لأطروحة عالمية ترتكز إلى نظرية الدفع، وهذا ما يدفعنا كثيراً إلى التأمّل فيما جاء في كتاب البرهان في تفسير القرآن الذي يشير فيه إلى جملة من الروايات عن أئمة أهل البيت هي في مجملها تؤكّد على أن الدفع هو ذو معنى خاص كما ينقل عن أبي عبد الله (عليه السلام)، يقول: «إنّ الله يدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا...»، إلى غير ذلك من الروايات التي جاءت تارة بمعنى الصلاة وطوراً بمعنى الزكاة [35] ، وإذا تجاوزنا ذلك كله، فإنّ أقصى ما يمكن الذهاب إليه، هو ما رواه الزمخشري في ربيع الأبرار عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح نحو مئة ألف بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية» [36] .

إنّ الذي نراه في ضوء ما تخلص إليه الروايات، وهي صحيحة السند، هو أن ما تضمّنته هو وجه من وجوه الدفع، لأنّ الآيات جاءت بكلمة الناس، ولا يمكن رفع اليد عن ظهور الآيات إلاّ بقرائن تفيد التخصيص، بحيث يكون الأمر مخصوصاً بالمؤمنين، أو بالمسلمين، ولا شكّ أن أهل البيت (عليهم السلام)  كانوا يتحدّثون إلى الناس بحسب أفهامهم لتقريب معنى الدفع إليهم، والذي نراه حقيقة هو أن الدفع مثلما أنه يمكن أن يكون في الدائرة الخاصة بالمسلمين، أو بالشيعة، كما هو لسان الروايات، فكذلك يمكن أن يكون في الدائرة العامة، لكون الدفع هو من الحقائق القرآنية الكبرى، وخصوصاً إذا ما لحظنا سياق آية الحجّ، (الآية: 40) التي جاءت على ذكر البيع والصوامع والمساجد لا لتعلّل أو تبيّن وجه الحكمة من القتال وحسب، بل لأجل أن تظهر المعنى العالمي لنظرية الدفع من خلال التركيز على الحقيقة الدينية الغالبة في تاريخ الإنسان، إضافة إلى التأكيد على حقيقة الدين في كل التحولات البشرية، ويمكن لنا أن نفهم أيضاً أن الآية تظهر حقيقة الصراع والدفع بأنه قائم فعلاً بين أهل الأديان من جهة، وبين المترفين من جهة ثانية، ومن هنا نفهم مغزى أن تأتي الأديان لتقابل بين الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين لتجعل من صراعهم سنّة تاريخية ثابتة مع ما يكون لكل منهما من امتدادات، فلا يكون الصراع بينهما مجرّد صراع، بل يكون دفعاً حقيقياً ينتصر فيه مشروع الإيمان على مشروع الكفر، الذي يجسّده المترفون في كل زمان ومكان.

غاية القول: إنّ ظهور آيات الدفع يُفيد أن الإنسانية في حاضرها ومستقبلها، وفيما شهدته من صراعات وتحولات كانت ولا تزال محكومة لنظرية الدفع، تماماً كما كانت في ماضيها. وهنا يمكن لنا أن نتلمّس حقيقة أخرى في سياق الآيات وظهورها، وخاصة آية البقرة التي يفيد ظاهرها أنه لولا الدفع لفسدت الأرض، في حين أن سورة الحج قالت أنه لولا الدفع لفسد الدين، وبرأينا المتواضع هذا الانتقال يمثل تحويلاً حقيقياً لوجهة الصراع ويُعطي أبعاداً أخرى تتجاوز مجرّد الدفع بين الناس، ليكون بين مشروعين في الحياة هما مشروع النبوة ومشروع الترف، دون أن يُلغي هذا التحول حقيقة الدفع في المجال الإنساني بدءاً من التجمّع الصغير وانتهاءً بالعالم كله، على اعتبار أن الدفع لا يكون بين أهل الإيمان وحسب، بل قد يكون بين أهل الإيمان وأهل الكفر، كما أنّه قد يكون بين أهل الكفر أنفسهم، بدليل ما نشهده اليوم على الساحة العالمية من دفع وتدافع بين المترفين وأصحاب الشركات الاقتصادية، فضلاً عن المؤسسات العسكرية واللوبيات الحاكمة في العالم.

والحق يُقال: إنّ الثورة الإسلامية في إيران التي قادها الإمام الخميني ﴾ ، ونحن تربّينا في أجواء هذه الثورة، ما كانت لتصل إلى أوج انتصاراتها الإسلامية والثقافية والعسكرية لولا أنها استطاعت أن تتقن لعبة الأمم، ومقتضيات نظرية الدفع الإنساني رغم كل ما تعرضت له من أخطار وحروب، وهذا يؤكّد لنا أن ظهور الآيات القرآنية كاشف عن حقيقة عالمية تتجاوز الذين نزل فيهم القرآن إلى العالم كله، وهي فيما أشارت إليه من أديان، بل فيما جاءت به من تقديم للبيع والصوامع على المساجد، تؤكّد على استيعاب النظرية الدينية في الآية القرآنية، وتعطي للدين بما هو فطرة وشريعة بُعده العالمي في مواجهة المترفين، باعتبار أن سنّة التدافع، كما يرى العلاّمة الطباطبائي وغيره من علماء التفسير [37] ، هي الركيزة الأساسية لمجابهة الفساد في الأرض، وما على المسلمين وسائر أهل الإيمان إلاّ أن يقوموا بالأسباب التي تؤهلهم لأن يكونوا منتصرين في هذا الصراع ضد المترفين، وكما بينّا في الفقرة السابقة، أنّ أوّل شروط الانتصار هو إثارة دفائن العقول، ومكامن النفوس، بحيث يتظهّر الإنسان، لا على أنه إنسان خاص له رسالة خاصة، وإنما بما هو إنسان عالمي مهيّأ لأن يخوض غمار التجربة وفقاً للسنن الثابتة في ميدان التاريخ، وقبل ذلك وفقاً لما يرتكز إليه من هُدى خصّه الله تعالى به، وجعل عالميته وإنسانيته رهناً له، وهو الهدى الذي أخبر الله تعالى الإنسان به منذ اللحظة الأولى التي أسكنه فيها هذه الأرض وجعله خليفة له فيها.

إن الإنسان بدأ من هناك رسالته العالمية رغم تدرّجه في حقب التاريخ، ورغم تعدد شرائعه، وتفاوت منازله في عالم الوجود، حيث اختير لهذا الإنسان أن يكون عالمياً، وهو لم ولن يستوي على جوديّ حقيقته، إلاّ إذا نجح في امتحان التحوّل التاريخي والإنساني من خلال حقيقة الدفع التي تحفظ له أن يكون متميزاً في صيرورة وجوده، ذلك هو معنى أن يكون الإنسان على هُدى من نفسه وربه، إنساناً يخوض غمار التجارب، ويدفع بالتي هي أحسن، ويتكافل مع أخيه الإنسان أيّاً كان هذا الإنسان، ويأخذ بالسنن إلى حيث ينبغي أن يكون في دينه ودنياه ...

وهكذا، فإنّ معنى أن يتحوّل الدفع، في جوهره، إلى دفع ديني، أن يكون الدين حاضراً في كل تحوّل إنساني، خلافاً لما يدّعيه البعض من أن الدين أخرج الدفع عن كونه إيجابياً، فجعل منه دفعاً سلبياً ومنحرفاً عن الجادة الوسطى، إذ إنّ هذه الدعوة لا تستقيم فيما لو علمنا أن المترفين هم الذين يأخذون بالدين والناس إلى التدافع السلبي من خلال إفساد الناس وتشويه المفاهيم، وتحريف الحقائق، فضلاً عن سوء استخدام الثروة والمال. إنهم فيما هم عليه، قديماً وحديثاً، من عقيدة ومنطق ورؤية للكون والحياة والإنسان يؤسسون لكل ما من شأنه أن يخرج الإنسان عن سبيله الحق، ليكون أسير أطروحتهم ولسان حالهم فيما يريدونه من قول أو فعل، وهذا ابتلاء حقيقي أرشد إليه القرآن فيما هدى الإنسان إليه، داعياً إيّاه إلى التبصّر بمآلات الحياة، وإلى أن يعتبر بمن مضى من الأمم والشعوب، لعله فيما يسترشد به يندفع إلى تأسيس حياته وفقاً لما أراده الله تعالى، بحيث يكون له موقعه في مواجهة المترفين، الذين يتدافعون للنيل منه، وقد أظهرت التجارب أن الدفع الحقيقي لهؤلاء جسّده الأنبياء (عليهم السلام) بأفضل ما يكون التجسيد بدليل ما جاء به القرآن من تمييز بين موقع النبوة وموقع المترفين، إذ فيه ما يؤكّد أن الأنبياء (عليهم السلام) قد انتصروا رغم كل ما تعرّضوا له، وهذا بذاته دليل على أن خط الأنبياء (عليهم السلام) سيكون له الانتصار في تاريخ الإنسان وميدان التاريخ. كما قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [38] .

 

 

المبحث الثاني: الامتحان بالبلاء وموت الأمم


لقد بسط القرآن الكريم الكلام في مصائر الأمم، وأرشد إلى حاكمية السنن، فقال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [39] .

إنّ الآيات كما يرى علماء التفسير ترشد إلى وقائع سنّها الله تعالى في الأمم المكذّبة، ويريد لعباده أن يعتبروا بما جرى على السابقين، بحيث يعقلوا عن الله تعالى، ويهتدوا إلى سبيله من خلال القرآن الذي أنزل بالحق ونزل به، كما هو مفاد آيات سورة الإسراء [40] ، وقوله تعالى: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ .. ﴾ كاشف عن أن مصائر الأمم المكذّبة حتّمتها أعمال الناس، فكان لهم من الخير والشر ما اختاروه لأنفسهم، وقد تراوحت مصائرهم، كما بيّن القرآن، بين أنواع من البلاء في الدنيا بما اختبروا به من نعم ظاهرة وباطنة، وبين أن يكونوا صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية بما عصوا وكانوا يعتدون، لأن الله تعالى ليس بظلاّم للعبيد، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [41] ، وقوله تعالى: ﴿ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ﴾ ، ناظرٌ إلى حقيقة ما آلت إليه أحوال السابقين الذين جاءتهم الأنبياء (عليهم السلام)، ولكنهم كذّبوا، فأخذوا بما كسبت أيديهم، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، وما على الذين جاءهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أن يسيروا في الأرض، وأن ينظروا، لأنهم ليسوا بمنأى عن أن يكون لهم المصير ذاته، فيما لو كذّبوا، وكان منهم ما كان من أسلافهم. أما كيف نعرف ما حلّ بهم من العذاب وصنوف البلاء، فذلك مما ترشد إليه تجارب الأمم وتحولات البشريّة في تاريخها. إذ قد يتوهّم البعض أن السير في الأرض للاعتبار، إنّما يكون باستحضار التاريخ والتجارب، ساهياً عن أن القرآن وإن لم يكن كتاب تاريخ وتفاصيل حياة، إلاّ أنه استوعب التجربة، واستحضر الأمم من تاريخها وتجاربها لتكون حاضرة في تحولاتها ومصائرها أمام مَن خاطبهم القرآن، ولهذا روي عن الأئمة  (عليهم السلام) ، وعن الصادق تحديداً أنه قال: ﴿ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ﴾ ، قال عنى بذلك انظروا في القرآن، فاعلموا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم وما أخبركم عنه [42] .

إنّ قوماً من الأقوام، أو أمة من الأمم، ليس بمنأى عن أن يكون لها المصير ذاته، لأن الناس يمتحنون فيما أنعم الله به عليهم، وفيما أمرهم به ونهاهم عنه، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ .. ﴾ ، وقد أشرنا في المبحث السابق إلى أن سنن التاريخ ثابتة لا تستثني أحداً، كما قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ .

إنّ الله تعالى يُعلّمنا أن الدنيا هي دار امتحان وابتلاء، تجري على اللاحقين كما جرت على السابقين، وإذا أراد الإنسان أن يكون له مصيراً مختلفاً، فليكن له عملاً مختلفاً، لأن حالة الصراع قائمة ومستمرة، وقد أرشد الله تعالى إلى السبل الكفيلة بإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور فيما بيّنه له من حقائق، وفيما جاءه من تعاليم وأحكام ووصايا من شأن اتباعها الفوز بسعادة الدارين، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [43] .

 

 

 

أ - الامتحان بالبلاء والعذاب


ننطلق مما مهّدنا له في هذا المبحث للتأكيد على أن التمحيص للأمة والابتلاء لها فيما جاءها من تكاليف، وفيما تعيشه من سنن وتحوّلات في الاجتماع والسياسة، هو ما يعمّ الناس جميعاً، وليس مخصوصاً بأمّة دون أمة، بل هو مما خُلق الإنسان لأجله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [44] .

لقد خلق الإنسان ليكون ممتحناً في هذه الدنيا، وقد زيّنها الله تعالى له ليبلوه بما آتاه [45] ، وخاصة الإنسان المؤمن، كما قال تعالى: ﴿ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، إلى غير ذلك من الآيات التي تخصّ المؤمنين وتجعلهم في كثير من الأحيان، في غاية الامتحان، وذلك كله إنما يكون لهم ليمحّصهم ويتخذ منهم شهداء، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ .

يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طير السماء، ووحوش الأرض لَفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسلُه أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً... ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا تُرامُ وعزّة لا تُضام، ومُلك تمدّ نحوه أعناق الرجال وتشدُّ إليه عُقَدُ الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم عن الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الأتباع لرسله، والتصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستسلام لطاعته، أموراً له خاصة لا تشوبها من غيرها شائبة، وكلما كانت البلوى والاختيار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل» [46] .

وهكذا، فإنّ ما أريد للإنسان أن يكون عليه، هو أن يكون ممتحناً بالشرّ والخير فتنة، كما قال الإمام علي (عليه السلام) : «وأن الدنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد» [47] ، وقد أُريد للأمة، كل أمّة أن تكون في امتحان في الحياة بما تذخر به من نعم وزينة وأمر ونهي إلى غير ذلك مما خصّ به الإنسان دون غيره، باعتباره خليفة لله تعالى، ولو أن الإنسان سمع عن الله تعالى وعقل عنه فيما أمره به ونهاه عنه لما استبدّت به الأهواء، واشتدّت به البلواء، بل خرج عن أمر ربه، فكان أسير كفره ورهن حتفه. وهذا ما سبق أن عرضنا له في مبحثي سنّة التغيير وسنّة التدافع، حيث بينّا أن الإنسان ممتحن في دار الدنيا، ومأخوذ بخياراته وإرادته، إن شاء اهتدى وإن شاء كفر، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [48] ، ومن هنا كان للإنسان هذا الامتحان فيما خُلق له، وليس عليه سوى الخضوع للسنن الحاكمة في ميدان التاريخ والحياة، ليكون ممن فازوا ويفوزون بسعادة الدنيا والآخرة.

إن الغاية من مبحثنا هذا هي التمهيد لمبحث أسباب موت الأمم وما للمترفين من دور في ذلك، باعتبار أنّ المترفين هم أيضاً ممن امتحنوا بما أتاهم الله تعالى، وقد ابتلي المؤمن بالكافر، والأنبياء (عليهم السلام) بالمترفين، وهذا ما ركّز الإمام علي (عليه السلام)  عليه كثيراً في مواعظه وإرشاداته، فقال: «إن الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها ليعلم أيُّهم أحسنُ عملاً، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا، وإنّما وُضعنا فيها لنُبتلى بها، وقد ابتلاني الله بكَ، أي معاوية، وابتلاك بي، فجعل أحدنا حجّة على الآخر، فعدوتَ على طلب الدنيا بتأويل القرآن...» [49] .

إذن، محور البحث هو حقيقة ابتلاء المؤمنين بالمترفين الذين توعّدهم الله تعالى بالتدمير والهلاك، كما سنرى في الفقرة (ب) من هذا البحث، ولكننا أردنا التمهيد بهذا المبحث لنؤكد على أن حقيقة البلاء ليست خاصة بأمّة دون أخرى، وإنّما هو ممّا يعمّ؟، إذ ما من أحد إلاّ وهو مبتلى، إما بفقر، أو بغنى، فالابتلاء هو سنّة من سنن الحياة، كما قال تعالى: ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ .. [50] .

إن مما تجدر الإشارة إليه في هذا المبحث، هو أن الابتلاء لا يكون في الدنيا لمجرّد الابتلاء، فهو له آثاره الدنيوية قبل أن يكون له نتائجه الأخروية من جزيل الثواب، أو أليم العذاب، وقد أُريد للأمم أن تمتحن بالأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، وعلى ذلك جرت السنن، كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ .. [51] .

كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن من شروط التمكين لأمة من الأمم أن تنجح في امتحان البلاء، سواء في نفسها، أم في تجاربها، وهذا ما عرضنا له في سنن التغيير والتدافع، إذ ما لم تتغيّر الأمة في نفسها وتدفع الشرّ بالخير، وتقوم بالأسباب التي تؤدّي بها إلى النجاة، فإنّها لن تحقق الفوز في امتحانها، وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ [52] ، ناظر إلى أنه من شروط التمكين أن تكون الأمة، أي أمة، واعية لدورها، وقائمة بشروطها، ومستحقة لما خصّها الله تعالى به، بمعنى آخر، يمكن القول: إن الابتلاء أمر أساسي في استحقاق الأمة للتمكين في الأرض، فمن سنّة الله تعالى أن لا يمكّن أمة ما إلاّ بعد أن يختبرها. والقرآن، كما نعرف، حافل بمشاهد ونماذج الاختبار للأمة، وخاصة لبني إسرائيل، وسائر الشعوب والقبائل التي أخرجها الامتحان عن كونها مستحقة للتمكين، كأولئك الذين قيل لهم ادخلوا الأرض المقدّسة، فقالوا لن ندخلها ما داموا فيها، وكانت النتيجة التيه في الأرض أربعين سنة، أو كأولئك الذين امتحنوا بالنهر مع نبيهم، وسقطوا في الامتحان قبل أن يخوضوا معركة الحق، و﴿ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ ، في حين قال آخرون ممن آمنوا بالله حقاً، وظنّوا أنهم ملاقوا الله تعالى ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ  [53] .
وهنا بيت القصيد في مبحث الابتلاء، والله مع الصابرين، كما قال تعالى ﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [54] .

ومفاد هذا الصبر أن يكون الناس على قدر المسؤولية فيما يقومون به من أعمال، وعلى مستوى الوعي بالأسباب التي تؤهلهم وتهيّئهم للقيام بشروط النصر، لكون النصر حق طبيعي، وليس حقّاً إلهيّاً لكل الناس كيفما كانوا، وحيثما كانوا، بل هو مشروط بأسبابه، وأول هذه الأسباب أن يعي الإنسان أنه في ابتلاء فيما يواجهه من أحداث، وفيما يؤدّيه من مسؤوليات، ولا شكّ في أن ارتكاز ذلك كله على الصبر في المحن، لأن الابتلاء يوقظ الفطرة، ويميز الخبيث من الطيّب، وبه يُغاظ الأعداء، وأهم من ذلك كلّه هو مفتاح النصر، ولهذا نلحظ كيف أن القرآن يركّز في كثير من الآيات على الامتحان للأمم مقسّماً أنواع البلاءات، بين بلاء مُبين، وبلاء تربية، وبلاء استحقاق، وبلاء عقوبة، وبلاء تحقيق، مقابل الفوز المبين، والفضل المبين، والفوز العظيم، كما هو الشأن فيما عرض الله تعالى له في امتحان أنبيائه، فقال في حق سليمان: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [55] ، وقال في حق النبي إبراهيم  (عليه السلام) : ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ [56] .

إنّ الأمّة التي سقطت في الامتحان، واستحقت العذاب، سواء الجزئي، أم عذاب الاستئصال، فهي إنّما عرض لها ذلك بما كسبت، ولأنها لم تأخذ بأسباب النجاة، وهناك أمم أخرى كان البلاء عقوبة لها بما كان منها من كفر بنعم الله تعالى، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وكما قال بعض العلماء: «إن الله يختبر عباده بالمسار ليشكروا، ويختبرهم بالمضار ليصبروا، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر [57] ، ولهذا قال  (عليه السلام) : «مَن وسع عليه دنياه، فلم يعلم أنه مُكر به فهو مخدوع عن عقله» [58] .

إذن، الابتلاء هو حقيقة ارتكازية، في هدفيّة الخلق، وما من أحد إلاّ وله نصيب من هذا الامتحان، إذ هو من السنن الحاكمة في ميدان التحولات الاجتماعية والإنسانية، فهو، أي الابتلاء، إما أن يكون لتكميل غيره، وإمّا أن يكون لتكميل المبتلى، كبلاء النبي آدم (عليه السلام) كان المنظور منه تكميله بخروجه عن الجنة لتوسعة نسله وجنوده، وأما إبليس فإن الله ابتلاه لتكميل آدم وذريته، فإنه أتم سبب لتكميل بني آدم» [59] ، وفي ضوء هذا يمكن لنا أن نفهم معنى الابتلاء في دائرة التكميل، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ [60] .

وكيف كان، وتأسيساً على ما تقدم، يمكن لنا أن نحصر وجوه الابتلاءات فيما عرضت له الآيات، فنقول: إن البلاء له وجوه كثيرة، أوجزها صالح العضيمة في بحثه القيّم مصطلحات قرآنية على الشكل الآتي: بلوى اختبار، وبلوى استحقاق، وبلوى رفعة، وبلوى عقوبة، وبلوى تحقيق [61] ، ولكل بلوى من هذه الابتلاءات مثالاً ونموذجاً من تجارب الأمم، إلاّ أنّ الذي يعنينا من هذا كلّه أن نعرف أنّ ابتلاء المؤمنين بالمترفين هو مما يمكن التركيز عليه في هذا المبحث، طالما أن القرآن قد عرض لهذا النموذج من البلاء في مسيرة البشرية منذ النبي آدم (عليه السلام)  إلى عصرنا الحاضر، ولعل البلاء العقوبي هو النموذج الأبرز في آيات الله تعالى، باعتبار أن عذاب الاستئصال قد لحق بأمم كثيرة لم تعتبر بما وعظها به الأنبياء  والأولياء (عليهم السلام)، واختارت أن تكون امتداداً لإبليس في الضلال والإغواء والتكبر والاستعلاء، هذا فضلاً عمّا تميّزت به هذه الأمم من فواحش ظاهرة وباطنة، ما أدّى بها إلى أن تكون مستحقة للعقوبة، بعد أن لم يؤثر فيها الوعظ والإرشاد، وبعد أن لم تتربَّ بما ابتلاها الله تعالى به من عقوبات، وخصّها به من معجزات، فكان لها ما كان من تدمير وهلاك، وقد قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [62] . وهذا ما سيكون موضوع بحثنا في الفقرة التالية، طالما أننا اخترنا أن يكون هذا المبحث خاتمة لما عزمنا عليه في مباحث هذا الكتاب.

 

ب: المترفون والعذاب المحتوم


إذا كان القرآن الكريم قد كشف لنا أن مصائر الأمم والشعوب تراوحت بين الرحمة والعذاب بحسب ما كانت عليه كل أمة وكل قوم من التزام وطاعة، أو كفر وعصيان. وإذا كان القرآن قد هدانا إلى هذه المصائر فيما أمرنا به من سير ونظر، سواء في القرآن، أم في التجارب، فإنّه يبقى علينا أن ننظر فيما يعرضه لنا القرآن عن العذاب المحتوم للمترفين، وخاصة عذاب الاستئصال الذي أصاب به الكثير من الأقوام، سواء بالغرق، أم في الخسف، أم في الريح، أم في الحجارة من سجّيل، إلى غير ذلك مما لا تخلو منه سورة من ألوان العذاب...

لقد بيّن القرآن الكريم في كثير من الآيات أن الهلاك والتدمير إنّما كان يصيب الأمم بسبب ظلمها الاجتماعي والسياسي، وليس بسبب تعدّيها على حقوق الله تعالى، أو بسبب الشرك والكفر، وغير ذلك مما توعّد عليه تعالى، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [63] .

إنّ مدخلنا لبحث هذا الموضوع الذي يتعلق بعذاب المترفين، هو قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [64] . وقبل أن نعرض لآراء الفقهاء والمفسرين لهذه الآية وما اختلفوا فيه بشأنها، لا يسعنا إلا أن نلحظ بعض السياقات القرآنية المتعلقة بالهلاك للقرى، حيث قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [65] .

هناك جملة من الآيات التي يتظهّر لنا من سياقاتها المختلفة أن الله تعالى ما كان ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، بما يؤدونه من إنصاف لبعضهم بعضاً، على ما أفاد الكاشاني، بأنه لم يهلكهم بظلم منه لهم أو منهم لأنفسهم كشرك ومعصية يقول: «وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوق نفسه دون حقوق عباده، ولذا قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» [66] ، كما أنّ الله تعالى لم يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، لكونهم لم يُنبّهوا برسول، وإذا كانوا قد أهلكوا، فذلك إنّما كان لهم بعد إلزامهم الحجّة وقطع المعذرة، فكان الهلاك لهم بما ظلموا وكذّبوا الرسل، وهذا ما يُفيده سياق الآية في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا .. ﴾ . ومن هنا، يمكن لنا أن ندخل إلى ما يعنيه عذاب وتدمير المترفين في سورة الإسراء، التي تفيد الهلاك والتدمير للمترفين بما عصوا وفسقوا. إذ نلاحظ أن سياق الآية لا يختلف عمّا جاءت به الآيات الآنفة من سياق مؤدّاه أن عاقبة الظلم والتكذيب للرسل هو الهلاك والتدمير، وهذا ما أكّد عليه سياق آية الإسراء، حيث قال تعالى: ﴿ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً [67] .

لا شكّ في أن كبار العلماء والمفسرين قد استغرقتهم هذه الآية، بل ذهبت بهم في كل اتجاه، ولا نقول ذهبوا بها، لأنّ الذي يُحيّر العقول والألباب هو إعجاز القرآن، وليس فهم البشر وما يؤولوا إليه من تفسير وتأويل، اللهمَّ إلاّ أن يكون المُحيّر هو التخبّط فيما رآه العلماء من تشريع وتكوين في هذه الآية المباركة، فهذا الطوسي في التبيان [68] ، والطبرسي في البيان [69] ، والطباطبائي في الميزان [70] ، والزمخشري في الكشّاف [71] ، واليزدي في معارف القرآن [72] ، ومغنية في الكاشف [73] ، وشُبّر في تفسيره [74] ، والكاشاني في تفسير الصافي [75] ، هذا فضلاً عمّا ذهب إليه ابن حجر في فتح الباري [76] ، والصدر في السنن التاريخية [77] ، وغيرهم كثير ممن لا يعدّ ولا يحصى من المفسرين الذين لا يمكن الاطمئنان لكثير مما ذهبوا إليه في تفسير الآية المباركة، لكن الذي يهمنا في هذا المبحث، هو أن سياق الآية يُفيد أن الآية مفسّرة بقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [78] ، وهي مفسّرة أيضاً بالآية الآنفة التي أشرنا إليها بأن الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً .. [79] ، باعتبار أن الناس مأمورون بالطاعة لله تعالى ورسوله، فإذا كذّبوا وعصوا وظلموا حقّ عليهم القول بالعذاب، واستحقوا التدمير والهلاك. وعليه، فإنّ الأمر بالآية هو ضد النهي كما أجمع عليه كثير من المفسرين، ولا ندري من أين جاء الزمخشري بالمجاز في الآية، وقد يكون ملفتاً أيضاً ما ذهب إليه اليزدي لجهة القول بأن الأمر في هذا هو الأمر التكويني، أي إنّ إرادة الله تعالى تعلّقت بأن يقوم المترفون بالفسق، وهي إرادة تكوينية وليست تشريعية [80] ، وقد يكون التفسير الأفضل لهذه الآية هو ما ذهب إليه الشيرازي في تفسير الأمثل، إذ رأى لها تفسيراً واحداً [81] . والحق يُقال: إن لكل عالم من العلماء الأجلاّء اجتهاده ومسوّغاته اللغوية والدلالية، ولكن تبقى للسياق دلالاته أيضاً، فإذا كان الله تعالى قد أوضح بما لا لبس فيه أن العذاب والتدمير إنّما يكون للمترفين بما يلجأون إليه من معاصٍ وتكذيب للرسل وإفساد في الأرض، فهل يبقى من تأويل للأمر في الآية غير أن يكون أمراً بالطاعة بالمعنى التشريعي، لأنّ الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا بالفسق، وقد رأى الطبرسي أن الوجه الأقرب للصواب هو فهم الآية على الأمر الذي هو ضد النهي، وقد جاء ذكر الإرادة على وجه المجاز والاتساع، وإنّما عنى به قرب الهلاك والعلم بكونه لا محالة، كما يقال إذا أراد العليل أن يموت خلط في مأكله ومشربه.. وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل وجه، ومعلوم أن العليل والتاجر لم يريدا في الحقيقة شيئاً لكن لما كان من المعلوم من حال هذا الهلاك ومن حال ذلك الخسران حسن هذا الكلام واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه، ولكلام العرب إشارات واستعارات ومجازات لأجلها كان كلامهم في الغاية القصوة من الفصاحة [82] . كما أن العلاّمة الطباطبائي قد ألمح إلى هذا المعنى بالتركيز على أن ظاهر السياق في الآيات أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، ويؤيده برأيه خصوص سياق النفي، ويستدلّ على كون الإرادة هي من المجاز والاتساع بما لا يؤدي إلى القول بالإرادة التكوينية [83] ، وهو يؤيّد ما ساقه الطبرسي بأن العليل إذا أراد أن يموت، والسماء إذا أرادت أن تمطر، فلا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة، كما في قوله تعالى: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ . ولعله يمكن الاستفادة مما ذكره الراغب في مفرداته فيما ذكره عن أن المشيئة من الله تعالى هي الإيجاد، ومن الناس الإصابة، والمشيئة من الله تقتضي وجود الشيء، ولذلك قيل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والإرادة منه لا تقتضي وجود المراد لا محالة، ألا ترى أنه قال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ . وقال تعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ ﴾ ، ومعلوم أنه قد يحصل العُسر والتظالم فيما بين الناس..» [84] .

نعم، هناك كلام قوي جداً للعلامة اليزدي في تلخيص الموقف من آراء العلماء والمفسرين، إذ يرى أن كثيراً من الآراء لا تنسجم وظاهر الآية، وقد أسس لموقفه هذا على مبحثه في الإرادة، مبيناً أن كل ما يقع في العالم من طاعة وعصيان، وكفر وإيمان فهو متعلق بالأمر التكويني والقضاء والتقدير الإلهي، ولا مانع عنده من ذلك لأنه يتحقق عن طريق اختيار الأفراد أنفسهم، ولا يؤدّي إلى إجبارهم عليه» [85] . ونحن لا نرى بدورنا أن العلاّمة اليزدي قد أضاف جديداً، وإن كنّا لا نوافقه على ما ذهب إليه في الظاهر من الآية، أو في السياق الذي جاءت فيه، لأنه بناء على مبتناه في هذه الإرادة يمكن لسائل أن يسأل أنّه ما دام الأمر متعلقاً بالتكوين، فإن الكلام فيه قد يعود إلى النبي آدم (عليه السلام)  وإبليس، فهما أيضاً لم يخرجا عن متعلقات هذا الأمر التكويني وما قضاء الله وقدره، باعتبار أن الله تعالى، كما يرى اليزدي، هو الذي جعل هذا النظام وأوجد المترفين، ولذلك استطاعوا أن يكرّسوا جهودهم للفسق والفجور.. والنظام الأحسن، برأيه، يقتضي وجود الناس للامتحان والاختبار [86] ، وعليه فإنّ معنى أن يكون الأمر تكوينياً، أن نسلّم بأنّ الله تعالى شاء لهذا العالم أن يكون على ما هو عليه، وهذا صحيح لقول الإمام علي  (عليه السلام) : «وأن الدنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد»، وهذا صحيح، لأن الله تعالى هو الذي شاء وقضى وقدّر، لكنّ الكلام ليس هنا، وإنّما هو فيما تفيده الآية، بحيث نسأل، هل الإرادة فيها تكوينية أم تشريعية؟ طالما أن إرادة الله تعالى لا تقتضي وجود المراد لا محالة كما بيّن الراغب؟!

ثم إنّه ما معنى أن نخرج عن سياق الآية فيما جاءت فيه من أن شرط العذاب والاستئصال، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ ، هو أن يكذّب الرسل وتظهر المعاصي فيما بين الناس ولا نقول معصية الله تعالى لما ذهب إليه العلماء من أن الظلم الذي يؤخذ به الناس هو ظلمهم لبعضهم بعضاً، وليس بسبب ظلمهم لله تعالى، كما بيّن الصدر في السنن التاريخية [87] ، فالسياق، كما يرى اليزدي نفسه، سواء قبل قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا ﴾ أو بعده، كما في قوله: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ إنما يفيد استحقاق هؤلاء للعذاب بسبب ارتكاب الفسق والفجور، فما يكون معنى الأمر التكويني بلحاظ كون الآيات تتحدّث عن أمر تشريعي واضح لا لبس فيه، وقد استدرك اليزدي في نهاية بحثه بالقول: «وعلى كل حال، فسواء كان الأمر تكوينياً أم تشريعياً، فحقّ على أهل القرية القول بتحقيق العذاب، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾  [88] .

وكيف كان، فإن الارتباك يبدو واضحاً في مذاهب القوم، وكان يمكن للمفسرين أن لا يأخذوا الآية في اتجاهات شتّى، وأن يكتفوا بالإشارة إلى أن المترفين هم امتداد لعقيدة ومنطق إبليس، وقد وُعِظوا وأُرشِدوا إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من هدى من خلال الرسل والأنبياء (عليهم السلام)، ولكنهم اختاروا أن يكونوا امتداداً لإبليس، وهذا مما قضاه الله وقدّره، ولسنا نعارض ما ذهب إليه اليزدي، ولكنه لم يوضح معنى وعلاقة هذا الأمر بالتكوين طالما أن العذاب للمترفين ناشئ من كونهم فسقوا فحقّ عليهم القول، وإذا كان هذا الأمر من متعلقات الأمر التكويني، فإنّه يمكن أن يقال أيضاً بأن سياقات الآيات كلها قد تُلحظ في سياق الجعل التكويني الذي يذهب إليه اليزدي [89] ، في حين أن إجماع المفسرين، بل أكثر المفسرين يأخذون بالسياق التشريعي لكونه متعلقاً بأمر الله ونهيه الذي جاء به الرسول، والإنسان يملك إرادة واختيار أن يكون مؤمناً، أو كافراً، ويبقى على العلاّمة اليزدي أن يفسّر لنا المعنى الذي ذهب إليه العلاّمة الطباطبائي في سياق التدليل على كل من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [90] ، باعتبار أنه بمجرّد أن نتحدّث عن الأمر التكويني، فإنّه لا بدّ أن نلحظ ما قاله السيّد الطباطبائي: «وأما الأمر التكويني فعدم تعلّقه بالمعصية من حيث إنها معصية أوضح لجعله الفعل ضرورياً يبطل معه تعلّقه باختيار الإنسان، ولا معصية مع عدم الاختيار..» [91] .

لقد رأى العلاّمة اليزدي أن الله تعالى هو الذي جعل هذا النظام وأوجد المترفين... وقد تعلّق الأمر التكويني بهذا الجعل، وهذا ما ترشد إليه الآية المباركة لجهة تعلّق إرادة الله تعالى بأن يقوم المترفون بالفسق [92] . ولا شكَّ في أنّ هذا ما ناقشه العلاّمة الطباطبائي في تفسيره، مؤكّداً على ضرورة التمييز بين الإرادة والأمر الإلهيَّيْن، على اعتبار أن الإرادة التكوينية تتعلّق بأن يريد الله تعالى بالذات أن يفعل فعلاً خاصاً كالإحياء والإماتة وإنبات النبات... أما الإرادة التشريعية، فهي إنّما تتعلّق بفعل الغير بأن يفعل أو يترك، من ظلمٍ أو عدل، بحيث يكون للإنسان اختياره في ما يريد فعله أو تركه. وهذا ما ذهب إليه العلاّمة الآملي في فهم الأمر والإرادة، إذ هو يميّز بين أن يكون الله تعالى مُريداً أو آمراً كما في قوله: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ الذي هو ليس أمراً وإنّما هو خطاب إيجاد لا صوت فيه ولا نداء [93] .
وفي هذا الخطاب التكويني، كما يرى الآملي، لا يميز بين الأمر والإرادة والمشيئة، الذي يستحيل معه العصيان والامتناع، لأنّ الموجودات كلها أسلمت لله ربِّ العالمين.
إنّ الأمر التشريعي يختلف عن الأمر التكويني في كونه متعلقاً بمتن القانون والحكم، لا بنفس الفعل الخارجي، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ إذ إنّ هذا الأمر الإلهي يمكن أن يُطاع ويمكن أن يُعصى، كما قال تعالى: ﴿ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً [94] .

وبناءً على هذا، فإنّه يكون معنى: ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ ، هو أمر بالطاعة وليس بالفسق، والإرادة هنا ليست متعلّقة بفعل بالذات، بل بفعل الآخر، ما يعني أنها إرادة تشريعية يُحفظ فيها اختيار الإنسان بحيث يكون قادراً على الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والمعصية، وهذا ما يمكن لحاظه من الآيات المباركة، التي ميّزت بين الإرادة التي لا يتخلّف فيها المراد، كما في قول الله تعالى: ﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ ، وبين الإرادة التي لا تقتضي وجود المراد حتماً كما في قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ ، التي تفيد الإرادة التشريعية.
وعليه، فإنّ ما يراه العلاّمة اليزدي لا يخرج عن كونه ملحوظاً في دائرة الإذن التكويني لكل أمرٍ وفعل، سواء في عالم التكوين، أم في عالم التشريع، وهو الإذن الذي ينتزعه العقل انتزاعاً، على حدّ تعبير العلاّمة اليزدي، لاستحالة أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة لشيء.

إذا كان هذا هو جوهر ما يذهب إليه العلاّمة اليزدي، فلا مشاحة فيما ذهب إليه من متعلقات الأمر والإرادة، لأنّه ما من شيءٍ في هذا الوجود يخرج عن إرادة الله تعالى. أما إذا كان مراده إخراج الأمر عن كونه أمراً بالطاعة لتلافي كون متعلّق الإرادة هو فعل الشرّ، والإفساد في الأرض فذلك ما أجاب عليه العلاّمة الآملي، بقوله: «فإذا تبيّن أن لله تعالى إرادتين، وأنّ لكل واحدة منهما حكماً يختصّ بها، وأنّ الإيمان مأمور به ومراد بالأمر والإرادة التشريعية، وأنّ الشرك منهيٌّ عنه ومكروه بالكراهة التشريعية، فإنّ هذه الإرادة تقبل العصيان والتحدّي إلى أمدٍ قصير، في حين أنّ الإرادة التكوينية لا تقبل المعصية ليس إلاّ ...» [95] .

إنّ ما ذهب إليه العلاّمة اليزدي يحتاج إلى مزيدٍ من البحث والتحقيق لئلاّ يُفهم من الإذن التكويني عدم التمييز بين الإرادة بما هي مشيئة وأمر ومتعلّقة بفعل يريده الله تعالى تكويناً، وبين الإرادة المتعلّقة بفعل الآخر وما يكون له من اختيار في دائرة الفعل والترك، باعتبار أن الآية المباركة: ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ ، كما بيَّن الطباطبائي، تلحظ الأمر للمترفين بما هو أمر متعلّق بالطاعة يمكن أن يُطاع ويمكن أن يُعصى، ولا تلحظ الإرادة والأمر بما هو خطاب إيجاد لأنّ الأشياء بإرادته دون أمره مؤتمرة، ولأنها بكراهته دون نهيه منزجرة، كما بيّن العلاّمة الآملي في بحوثه القرآنية.

غاية القول: إن هذا المبحث هو من المباحث الشائكة عند المفسرين، ولكن هناك من المفسرين مَن رأى أن في آراء القوم ما لا لزوم له فيما ذهبوا إليه من مباحث في اللغة والدلالة والفصاحة والبلاغة، وكأن القرآن غير مبين ويحتاج إلى تبيان من غيره بالرغم أن الآية، كما يرى العلاّمة مغنية، لا تحتاج إلى هذه الفلسفات، كونها واضحة لا لبس فيها، فهو يرى أن الراجح في الأقوال، هو أن الله تعالى أطلق كلمة المترفين على جميع أهل القرية، من باب استعمال الجزء في الكل، ومثل هذا الاستعمال كثير في كلام العرب إذا كان الجزء عضواً رئيسياً في الكل، كالعين بالنسبة إلى جسم الإنسان، فقد استعملوها في طليعة الجيش، لأنّ للعين مزيّة على سائر أعضاء الجسم، ولما كان المترفون أقدر وأسرع إلى الفسق، وأجرأ على المعصية من غيرهم، وهم في الوقت عينه متبوعون تقلدهم العامة فيما يفسدون، فلما كان كذلك، صحّ إطلاق كلمة المترفين على جميع أهل القرية...» [96] .

هذا ما رجّحه العلاّمة مغنية، وقد ذكرنا في مباحثنا السابقة، أن الإنسان المترف كما استعمل في اللغة لا يفيد أنه شخص معيّن كقائد الشر أو الإنسان المتبوع، وإنّما يُفيد التابع والمتبوع وكل مَن هو متروك يصنع ما يشاء ولا حدّ لتنعّمه وطغيانه. وعليه، فإنه لا يبقى لجدال المفسرين ما يسوّغه، طالما أن المعنى واضح للآية لجهة ما جاءت فيه من سياق وعطف وتلاحق لتؤكد على أن المترفين فيما لو خالفوا أمر الرسول، واتبعوا الأهواء، وفسقوا بما يؤدي بهم إلى الكفر بنعم الله تعالى، فلا بدّ أن يحقّ القول عليهم ويدمّروا تدميراً، وقد سبق أن دُمّر أقوام من بعد نوح بما عصوا وكانوا يعتدون، وهذا ما أعقب الآية للتدليل على اختيار الإنسان بإرادته فيما يصدر عنه من فعل أو قول، أما أن نقول بأن النظام الأحسن يقتضي وجود الناس للامتحان والاختبار، وأن المترفين ينشغلون بالفسق والفجور في عالم التكوين، كما أفاد اليزدي، فإن هذا من شأنه أن يلحظ ما شرّعه الله تعالى في دائرة التكوين، ويكون مقتضى هذا الجعل التكويني بمثابة التأسيس لوعي حركة النبوات في التاريخ الإنساني، بدءاً من النبي آدم (عليه السلام)  وانتهاءً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن نرى أنه لا شيء في هذا العالم يخرج عن إرادة الله تعالى، وكل ما في هذا الوجود متعلق بها بما في ذلك فسق المترفين، كما يرى العلاّمة اليزدي فيما انتزعه العقل من إذن إلهي، واستحالة أن يكون الله تعالى مغلوباً لعامل آخر، ولكن الإشكالية لا تكمن هنا، وإنّما في كيفية تحقق هذا الجعل التكويني الذي قضى بأن يكون لكل نبي عدواً من المجرمين على النحو الذي يفهم منه مسؤولية هؤلاء عن أعمالهم [97] ، وطالما أن الكلام هو في متعلق الإرادة، فقد بينّا أن الإرادة، كما بيّن الراغب، لا تقتضي وجود المراد لا محالة،... ولولا أن الأمور كلها موقوفة على مشيئة الله تعالى، وأن أفعالنا متعلقة بها وموقوفة عليها لما أجمع الناس على تعليق الاستثناء به في جميع أفعالنا، نحو قوله تعالى: ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [98] ، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا .. ﴾ ، سواء قلنا أنه متعلق بالإرادة التكوينية، أم بالإرادة التشريعية، فإن شيئاً لا يتحقق من خارج هذا التعلق، لأنّ الإنسان إن فعل الخير أعانه الله عليه، وإن إرادة الله تعالى لا بدّ أن تتعلق بهذا الفعل، وإن فعل الشر، فإن الله تعالى لم يعنهُ عليه، وكان له ما أراده دون أن يعني ذلك أنه غير متعلق بإرادة الله تعالى، باعتبار أن كل فعل متعلق بإرادته وموقوف عليها، دون أن يكون الإنسان مكرهاً أو مُلجأً لهذا الفعل، وفي جميع الأحوال يبقى القول بالأمر التشريعي هو أصوب الأقوال لما يفيده السياق بأن المؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال تتوقف على بعث الرسول بعناية من الله تعالى لا بحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل مبعث الرسول، كما أفاد العلاّمة الطباطبائي في تفسيره [99] . إذ ليس الأمر كما ذهب إليه اليزدي بأن الدافع إلى القول بالأمر التشريعي هو أن يلزم عنه أنّ أمر الله تعالى لا بدّ أن يتعلق بفعل الخير، بحيث تؤول الآية بقولنا: أمرنا مترفيها ليعدِلُوا أو يطيعوا، وإنّما المقصود، هو الأمر التكويني، أي إنّ إرادة الله تعلقت بأن يقوم المترفون بالفسق، وذلك نظراً لما تقدم الكلام فيه بأن الآية: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا .. ﴾ ، ليست إرادة مقصودة بحقيقة معنى الإرادة، كما في قوله تعالى: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ ، ولكنه لم ينقضّ، وإرادة الله تعالى لو تعلقت به على نحو إرادة التكوين لما تخلّف لاستحالة تخلّف المراد عن الإرادة، إلاّ أن يراد كما بيّن العلاّمة الطباطبائي الإرادة الفعلية لجهة تحقق الأسباب الموافقة وهو كفران النعمة والطغيان بالمعصية [100] ، وهذا مؤداه تعلق الأمر بالطاعة بحقيقة معناه، بأن يتحقق العذاب والاستئصال بناءً لفروع البيان النبوي، الذي لا تتم الحجة فيها بمجرّد العقل، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ . وعليه، فإنّ العذاب المحتوم للمترفين لا يكون إلاّ بعد البيان النبوي ومخالفته بالمعصية والكفر، وهذا من السنن الحاكمة في ميدان التاريخ، لقوله تعالى: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ ، وإن كل أمة من الأمم تخالف مقتضيات السنن الحاكمة، وتعصي البيان النبوي وتخرج عليه بالمعصية والكفر، فلا بدّ أن تؤاخذ بالعقوبة، وأن يلحق بها الفناء والهلاك والتدمير، ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [101] .


[1] سورة الإسراء، الآية: 16.
[2] مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج5، ص31.
[3] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج10، ص181.
[4] الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي في المدرسة القرآنية، م.س، ص65.
[5] سورة محمد، الآية: 7.
[6] سورة الأنفال، الآية: 24.
[7] الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي، م. س، ص98. يرى الشهيد الصدر أن الدين نفسه سنّة موضوعية من سنن التاريخ، فليس الدين تشريعاً فقط، وإنّما هو سنّة من سنن التاريخ أيضاً، وهو فطرة الله تعالى ولا تبديل لها، وهذا الدين كفطرة لا يمكن انتزاعه من الإنسان، كما لا يمكن الاستغناء عنه.
[8] سورة الرعد، الآية: 11.
[9] سورة الانشقاق، الآية: 6.
[10] سورة الرعد، الآية: 11.
[11] سورة البقرة، الآية: 170.
[12] الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي، م. س، ص115.
[13] جاء عن الأئمة  (عليهم السلام)  في تفسير الآية عن أبي عبد الله  (عليه السلام)  قال: إنّ أبي كان يقول أنّ الله قضى قضاءً حتماً لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إيّاه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة، وذلك قول الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ ، في ضوء هذه الرواية نفهم معنى أن تحدث الأمة أو القوم، وقد رأى الصدر هذا المعنى بقوله: «ومن الواضح أن المقصود من تغيير ما بالنفس، تغيير ما بأنفس القوم...، التفسير الموضوعي، م. س، ص115.
[14] روي عن الإمام الرضا (عليه السلام)  في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ ﴾ فصار الأمر إلى الله تعالى. انظر البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت، ط4، 1992، ص284. قوله صار الأمر إلى الله تعالى بلحاظ أول الآية وآخرها، آخذاً بالاعتبار لوحدة السياق بين المعقبات، وإذا أراد الله بقوم سوءاً، ويبقى السؤال ما هو سرّ توسّط قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ... ﴾ بين أول الآية وذيلها، وهذا ما استفدنا منه سرّ العناية التي ضمنت التحول الإيجابي مع الأنبياء (عليهم السلام)، والله أعلم.
[15] جاء في كتاب كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق، أنّ الله تعالى لا يدعو إلى سبب إلاّ بعد أن يصوّر في العقول حقائقه، وإذا لم يصوّر ذلك لم تتسق الدعوة ولم تثبت الحجّة، وذلك أن الأشياء تألف أشكالها وتنبو عن أضدادها، فلو كان في العقل إنكار الرسل لما بعث الله عزّ وجلّ نبياً قط.
انظر: الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1991، ص16.
[16] سورة البقرة، الآية: 170.
[17] الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، م. س، ج1، ص211.
[18] الطبرسي، تفسير مجمع البيان، م. س، ج1، ص470.
[19] الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي، م. س، ص115.
[20] مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ، دار المرتضى، بيروت، 1988، ص175.
[21] انظر: اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن، تعريب الخاقاني، الدار الإسلامية، بيروت، ط1، 1989، ج4، ص249.
[22] إنّ سياق المعقبات في الآيات المباركة يرشد إلى تحول خارجي يعضد التحولات النفسية والعقلية للإنسان، وبما أنه لا يمكن تجريد الآية على نحو يستفاد منه حصر التغيير بالمحتوى الداخلي، فكذلك لا يمكن تجريد المعقبات أيضاً، لأن الله تعالى من خلال هذه المعقبات قد يغيّر حال الناس من السيّئ إلى الأحسن، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ ... ﴾ ، ما يُفيد أن للمعقبات دوراً فيما يراد بالإنسان وله، باعتبار أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه، وهذا ما يذهب إليه اليزدي في معارف القرآن من أن الله تعالى لا يغيّر النعمة إلاّ إذا فقد الناس الاستحقاق لها، وأما النقمة، فقد يغيّرها الله من دون تغيير من قبل الناس لمصالح يعلمها هو ومن جملتها الإملاء والاستدراج.
را: معارف القرآن، م.س، ج4، ص249. والذي رأينا أنه قابل للنقاش هو هذا الذي يراه بعض العلماء عن تغيير النقمة. وهنا السؤال: هل للمعقبات دور في ذلك!!؟.
[23] سورة الشمس، الآية: 9.
[24] سورة الأعراف، الآية: 96.
[25] سورة الجن، الآية: 16.
[26] إن دور النبوة يقتصر على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الفطرة إلى البرهان، وذلك كله إنّما يكون من خلال إثارة دفائن العقول، وقد أشرنا آنفاً إلى ما ذهب إليه الشيخ الصدوق من أنه لو كان في العقل إنكار الرسل لما بعث الله تعالى نبيّاً قط، ومثاله على ذلك أن الطبيب يعالج المريض بما يوافق طباعه، ولو عالجه بدواء يخالف طباعه أدى ذلك إلى تلفه.
را: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، م.س، ص16.
[27] الإمام علي  (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م. س، الخطبة: 1.
[28] يوسف، محمد، التمكين للأمة في ضوء القرآن، القاهرة، دار الشروق، ص205.
[29] قال الله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾ [النور: 55] .
[30] سورة الإنسان، الآية: 3.
[31] سورة البقرة، الآية: 38.
[32] سورة البقرة، الآية: 251.
[33] سورة البقرة، الآية: 251.
[34] سورة الحج، الآية: 40.
[35] را: البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن. م. س، ج3، ص93. ج1، ص238.
[36] م. ع، ص238.
[37] يقول الطباطبائي: لولا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه وانمحت جميع آثاره، لأن المعابد هي الشعائر والأعلام الدالة على الدين المذكرة به والحافظة لصورته في الأذهان.
را: تفسير الميزان، ج14، ص387.
[38] سورة يوسف، الآية: 110.
[39] سورة آل عمران، الآية: 137 - 142.
[40] قال الله تعالى: ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ [الإسراء: 105] .
[41] سورة هود، الآية: 117.
[42] را: الكاشاني، الفيض، م.س، ج1، ص385.
[43] سورة آل عمران، الآية: 144.
[44] سورة الإنسان، الآية: 2 - 3.
[45] قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 7] .
[46] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م. س، الخطبة: 192.
[47] م، ع، الكتاب: 31.
[48] سورة طه، الآية: 82.
[49] الإمام علي  (عليه السلام) ، م. ع، الكتاب: 55.
[50] سورة آل عمران، الآية: 140.
[51] سورة الرعد، الآية: 30.
[52] سورة الحج، الآية: 41.
[53] سورة البقرة، الآية: 249.
[54] سورة آل عمران، الآية: 120.
[55] سورة النمل، الآية: 16.
[56] سورة الصافات، الآية: 106.
[57] انظر: صالح عضيمة، مصطلحات قرآنية، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، دار النصر، بيروت، 1994، ص32.
[58] الإمام علي  (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م. س، قصار الحكم: 131.
[59] عضيمة، صالح، مصطلحات قرآنية، م. س، ص33.
[60] سورة محمد، الآية: 31.
[61] يعرّف العلماء البلوى على الشكل الآتي: بلوى الاختبار، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ . أما بلوى الاستحقاق، المراد بها تطهير الأولياء عن أدناس الطبيعة، وأنجاس الهوى، وأرجاس الشيطان، فإن حق الولاية أن لا يرضى الولي لوليِّه إلا الطهارة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ .
أما بلوى العقوبة، فذلك إنّما يكون للخذلان والحرمان ونقص الإيمان كبلاء إبليس بالعصيان، وبلاء بلعام بالمخالفة وانسلاخه عن الحق.
أما بلوى الرفعة، كالبلاء الموكل بالأنبياء (عليهم السلام)، ثم الأمثل فالأمثل،، كابتلاء النبي إبراهيم (عليه السلام)  بمحاججة نمرود، ومعاندة عبادة الأصنام، ورميه في النار، ويبقى بلوى التحقيق، وهي تكون ليحقق به صدق المدعين وكذبهم، فالمؤمن الصادق يثبت في التجربة، ويزداد بيّنة، والمنافق يكشف أمره عند نفسه وعند الناس، وتقوم الحجّة عليه. هذا ملخص لما يعمّ من البلوى في دائرة الامتحان والاختبار، عصمنا الله من الزلل، ووفقنا لما يحبّ ويرضى، إنّه وليّ التوفيق.
[62] سورة الإسراء، الآية: 16.
[63] سورة النساء، الآية: 48.
[64] سورة الإسراء، الآية: 16.
[65] سورة القصص، الآية: 59.
[66] الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، م. س، ج1، ص385.
[67] سورة الإسراء، الآيات: 15 - 17.
[68] الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، م. س، م. س، ج6، ص459.
[69] الطبرسي، تفسير مجمع البيان، م. س، ج6، ص234.
[70] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج13، ص59.
[71] الزمخشري، تفسير الكشاف، م. س، ج2، ص628. يقول الزمخشري في معنى الآية: «إذا دنا وقت هلاكهم ولم يبقَ زمان إمهالهم إلاّ قليل، أمرناهم «ففسقوا»، أي أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، وجه المجاز أنه صبّ عليهم النعمة صبّاً، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، واتباع الشهوات...»..
[72] اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن، م. س، ج4، ص269.
[73] مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، م. س، ج5، ص30.
[74] شبّر، عبد الله، تفسير القرآن، م. س، ج1، ص358.
[75] الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، م. س، ج1، 385.
[76] ابن حجر، فتح الباري، (ت 852)، دار المعرفة، بيروت، ط2، ص299.
[77] الصدر، محمد باقر، السنن التاريخية، م. س، ص85.
[78] سورة الإسراء، الآية: 15.
[79] سورة القصص، الآية: 59.
[80] اليزدي، معارف القرآن، م. س، ج4، ص269.
[81] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، م. س، ج7، ص255. يقول: هناك تفسير واضح للآية، يمكن تبيانه من مؤدّى ظاهرها، وهو أن الله لا يعاقب أحداً بالعذاب قبل أن يتمّ الحجّة عليه.
[82] الطبرسي، مجمع البيان، م. س، ج6، ص234.
[83] لقد فنّد الطباطبائي الكلام، واستوعب كلام الزمخشري فيما ذهب إليه من قول بالمجاز في الآية، فقال: «ويمكن أن يُراد به الإرادة الفعلية، وحقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشيء وتعاضدها على وقوعه، وهو قريب من المعنى الذي أشار إليه من أنه إذا دنا وقت هلاكهم، وحقيقة هذا تحقق ما لهلاكهم من الأسباب وهو كفران النعمة والطغيان بالمعصية، كما قال سبحانه: ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7] ، وأما الأمر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث أنها معصية أوضح بجعله الفعل ضرورياً يبطل معه تعلقه باختيار الإنسان ولا معصية مع عدم الاختيار، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82] ، نعم يختم الطباطبائي كلامه بالإشارة إلى متعلق الأمر، هل هو الطاعة، فإذا كانت الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه وهو الأمر التشريعي، وكان هو الأمر الذي توجه إليهم بلسان الرسول الذي يبلغهم الأمر، وإن كان متعلق الأمر هو الفسق، كما رأى الزمخشري، كان الأمر مراداً به الإكثار في إفاضة النعم عليهم وتوفيرها على سبيل الإملاء والاستدراج، وتقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب... را: الميزان، ج13، ص59.
[84] الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، م. س، ص278.
[85] يفسّر اليزدي كلامه بأن بعض الأشياء التي تعلق بها الإذن التكويني تتمتع بإذن تشريعي أيضاً، كالأفعال الواجبة والمستحبة والمباحة الصادرة عن الإنسان. أما أفعاله المحرّمة والمخالفة للقانون فلها إذن تكويني، لكنها محرومة من الإذن التشريعي.
را: معارف القرآن، م. س، ج1، ص261.
[86] م. ع، ج4، ص269.
[87] يقول الصدر: «إن الآية تستبطن سنّة تاريخية بلغة القضية الشرطية عندما ربطت بين أمرين، بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله، فمتى ما وجد الشرط وجد الجزاء، وهذا شكل من أشكال السنن التاريخية التي عرض لها القرآن، وهذا المعنى لحظه الطباطبائي بقوله: إنّ النفي دال على الاستمرار في الحاضر الظاهر في أنه كانت السنة الإلهية في الأمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذبهم إلا بعد أن يبعث إليهم رسولاً ينذرهم بعذاب الله، ولعلّ قول الطباطبائي في الأمم الخالية مرشد إلى أمر ما فيما يتعلق بحاضر ومستقبل الأمم، وهذا ما سنلحظه في خاتمة هذا البحث..
انظر: الصدر، محمد باقر، السنن التاريخية، م. س، ص86. وقا: مع الطباطبائي، الميزان، ج13، ص57.
[88] سورة الأنعام، الآية: 44.
[89] يسوّغ اليزدي تفسيره للآية بقوله: «تلاحظون في هذه الآية أنه ينسب هلاك المترفين وفسقهم الذي كان مقدمة لهلاكهم إلى الإرادة والأمر الإلهي... بمعنى أنه لا يعدّ هذا الأمر خارجاً عن نطاق الإرادة والأمر التكويني، فهو نظام قد جعله الله وليس فيه ما يؤدّي إلى إجبار الأفراد، ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ... ﴾ فهذا جعل تكويني مثل الجعل في قوله تعالى: ﴿ نَبِيٍّ عَدُوّاً ﴾ . هذا مذهب في التفسير، وإن كان مرتكزاً إلى أن شيئاً لا يحدث من خارج إرادة الله تعالى، إلاّ أنه يؤدي إلى محظورات كثيرة لكون المرتكز في تحقيق العذاب هو مخالفة الأمر وتكذيب الرسل وما جاؤوا به، ولو أن البيان النبوي لم يأتِ لما كان معلوماً أن يتحقق العذاب لقاعدة قبح العقاب بلا تبيان، وهذا ما خالف فيه الطباطبائي بأن الآية ليست مسوقة لبيان هذه القاعدة، لأن قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ نفي لوقوع العذاب لا لجوازه...
را: الميزان، ج13، ص58.
[90] سورة يس، الآية: 82.
[91] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج13، ص60.
[92] اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن، م. س، ج4، ص269 - 270.
[93] يقول العلاّمة الآملي: «إنّ الإرادة التكوينية يترتّب عليها لزوم تحقّق المراد وامتناع تخلّفه، وكون المخاطب تابعاً للخطاب في الوجود... فهو خطاب الإيجاد لا التكلّم اللفظي، لأنّ الأشياء بإرادته دون أمره مؤتمرةً، ولأنّها بكراهته دون نهيه منزجرة، فلا لفظ، ولا صوت، ولا نداء، وما إلى ذلك، بل إنّما هو إفاضة الوجود على ما هو المعلوم في الحضرة العلمية مما يقتضي الظهور دون غيره مما لا يستدعيه ولا يصلح له، وهذا القسم من الأمر والإرادة والمشيئة هو الذي لا مردَّ له ويُمتنع العصيان فيه...»
انظر: آملي، جوادي، علي بن موسى الرضا والقرآن الحكيم، دار الصفوة، بيروت، ط1، 1994م، ص122 124.
[94] سورة الطلاق، الآية: 8.
[95] را: آملي، جوادي، م. ع، ص122.
[96] مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، ج5، ص31.
[97] خلاصة الرأي عند اليزدي، هو أننا نستفيد من الآيات والروايات أن جميع ما في الوجود قد تعلق به الإذن والمشيئة والإرادة التكوينية الإلهية، أما بالنسبة للإنسان والمخلوقات التي تتميّز بالأفعال الاختيارية مثله، فإن الإذن والإرادة والمشيئة والإرادة التشريعية أيضاً تجري بشأنها وتتعلق بأفعالها الحسنة.. أما الأفعال المحرّمة، فلها إذن تكويني، كما سبق وذكرنا، لكنها محرومة من الإذن التشريعي. هذا كلام اليزدي. را: معارف القرآن، م. س، ج1 و2، ص261، 265.
[98] سورة الصافات، الآية: 102.
[99] الطباطبائي، م. س، ج13، ص59 - 60.
[100] م. ع، ص60.
[101] سورة الفتح، الآية: 23.


 

 


خاتمة المبحث


 

 

الأمة الإسلامية بين الترف والعذاب


لقد تجلّت رحمة الله تعالى فيما أرشد إليه الإنسان من بيان يخرجه من الظلمات إلى النور، وينجّيه من العذاب الأليم، حيث قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ ، لكن السؤال الذي يطرح ويمثل إشكالية في البحوث الإسلامية، هو: هل للسنن الحاكمة قيود تمنع من تحققها بنحو من الأنحاء؟ أم أن هذه السنن لها خاصيّة الثبات؟ ولماذا رأى العلاّمة الطباطبائي، أن النفي دالّ على الاستمرار في الماضي الظاهر أنه كان سنّة إلهيّة في الأمم الخالية؟
هناك أسئلة كثيرة يمكن للإنسان أن يجعلها مثاراً للنقاش، لكن الذي يعنينا مما عرضنا له في بحوث هذا الكتاب، هو الكلام، بما نراه وجهة نظر، في عذاب الاستئصال لأمة من الأمم، وقد سبق أن عرضنا لعذابات الأمم بما أحدثته لنفسها من تحولات صعبة نتيجة الكفر والعصيان بعد بيان النبوة لها، وهنا نعود للسؤال، هل الأمة الإسلامية هي بمنأى عن هذا العذاب؟ وما هو مفاد الأجل المسمّى الذي أشار إليه العلاّمة الطباطبائي بقوله: «إنّ الرسالة منصب خاص إلهي يستعقب الحكم الفصل في الأمة إما بعذاب الاستئصال، وإما بالتمتع في الحياة إلى أجل مسمّى، كما قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [102] ، وقال: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً [103] ، فالتعبير بالرسول لإفادة أن المراد نفي التعذيب الدنيوي، دون التعذيب الأخروي، أو مطلق التعذيب» [104] .

كما يمكن لأي باحث أيضاً أن يسأل عن مفاد وظاهر قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [105] .
لا شكّ في أن الأمة الإسلامية ليست استثناءً من الأمم فيما يمكن أن يعرض لها من تحولات وعذاب، فهي أمة لها أجل مسمّى، تماماً كما لكل فرد أجله، ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ
[106] .

ثمّ إنّ ما جرى في تاريخ الأمم والشعوب، هو تحقق السنن بلحوق العذاب بأقوام الفراعنة، وعاد وثمود، وقوم لوط، وقارون بعد أن جاءهم الأنبياء والرسل (عليهم السلام) بالوعد والوعيد، ولكنهم فسقوا وتجاوزوا مرحلة الأمر والنهي، إلى الفسق، إلى مرحلة استحقاق المجازاة وصولاً إلى مرحلة الهلاك على حسب ما جاء به مكارم الشيرازي من تفصيل استفاده من المراحل الأربعة المعطوفة على بعضها البعض بواسطة «فاء» التفريع [107] ، ما يعني أن كل أمة لها هذا التحقق فيما لو سلكت هذه المراحل، وعاندت النبوة، ولعل ما أفاده الصدر في السنن التاريخية أوضح مما ذكره آخرون لجهة ربطه بين أمرين، بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع، وبين دمار ذلك المجتمع، باعتبار أن قوله تعالى ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا .. ﴾ يستبطن سنّة تاريخية بلغة القضية الشرطية، وهذه السنّة ثابتة تجري على اللاحقين، كما جرت على الأمم الخالية، والأمة الإسلامية هي من الأمم التي تشملها هذه السنّة، لقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [108] .

إنّ ظاهر الآية يكشف أن الأمة الإسلامية ليست مستثناة من السنن التاريخية؛ ولكنها خصّت بأمانين في الأرض يرفعان العذاب عنها، وهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والاستغفار، ما يعني أن الأمة يمكن أن تكون بمنجاة من العذاب فيما لو أخذت بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأطاعت أمر الله تعالى، أو لاذت بالاستغفار كسبيل إلى النجاة من العذاب، وقد قيل، كما جاء في بعض التفاسير، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أماناً للأمة، وسيبقى أماناً لها من العذاب، فلا تُصاب بالاستئصال والإبادة الشاملة، لأنّ ظاهر الآية هو أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمان للأمة في حياته. أما بعد وفاته، فإنّ فضيلة الاستغفار هي السبيل لمنع العذاب، أو الإبادة، فإذا لم تستغفر الأمة، فلن يكون لها منجاة من العذاب، وهنا يبرز السؤال الإشكالية، هل الأمة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) استغفرت وقامت بمقتضى هذا الاستغفار الذي يعادل ويوازي حقيقة الالتزام بما جاء به الرسول من عند ربّه؟ أم أن هذه الأمة لم تستغفر ومحكومة لأجل مسمّى رغم كل ما هي عليه من بلاءات وتحولات جاهلية، بل إنّ ما يذهب إليه بعضهم في مجال المقارنة بين ما كانت عليه حياة الناس في مكّة قبل الإسلام، وما هم عليه اليوم، فلا يكاد يجد فرقاً بين الجاهلية الأولى التي ذكرها القرآن، وبين الجاهلية الثانية أو الثالثة، ولعلّنا أصبحنا اليوم في حال من الجاهلية تلتقي في كثير من تفاصيلها مع الجاهليات التي استؤصلت، لأن أحداً لا يستطيع أن يجزم بأن الأمة الإسلامية في تاريخها قد نجت بسبب استغفارها، أو طاعتها لرسولها.

والحق يقال: إن الأجل المسمّى المضروب للأمم عِلمهُ عند الله تعالى، هذا أولاً.
ثانياً: إنّ قوم لوط لم يهلكوا حين كان النبي لوط (عليه السلام) بين ظهرانيهم، وهم إنّما حصل لهم العذاب بالاستئصال بعد أن خرج النبي من وسطهم إلاّ امرأته فكانت من الغابرين... وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على مدى الرحمة الإلهية للإنسان. فكيف بمن جُعل رحمة للعالمين، وخصّ أمته بالأئمة المعصومين (عليهم السلام)؟
ثالثاً: إنّ الأمة الإسلامية لم تخلُ يوماً من التحولات التاريخية والإيمانية التي تمنع عنها عذاب الاستئصال، كما وأن هذه الأمة قد خصّت كما يرى علماء المسلمين بالأئمة الذين هم خلفاء للرسول، وهم يشكّلون ضماناً للأمة كيما يتحقق لها هذا العذاب، كما قال السيوطي: «لا يزال هذا الدين متيناً إلى اثني عشر إماماً كلهم من قريش...»
[109] .

ثم إن سياق التحول التاريخي، والسنن الحاكمة، تقتضي أن يكون لهذه الأمة تميزٌ خاصٌ لكونها خير أمة أخرجت للناس، ناهيك عن تميّز آخر في كون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو رسول الله وخاتم النبيين، وهذا التميّز لا بدّ أن يكون له خصوصية في التحول التاريخي للأمة، وقد لا نبالغ بالقول: إنّ ما تميّزت به الأمة من خصوصية، هو أن الحجّة في الأرض قائمة، وهي امتداد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا ما تحقق عذاب الاستئصال لهذه الأمة بما كسبته من تحولاتها السياسية والاجتماعية والدينية، فإن ذلك لا يُبقي أي معنى لتواصل الإمامة كما جاء في الحديث النبوي، هذا فضلاً عمّا يقتضيه الأجل المسمّى الذي قد يستفاد منه حضور الحجة فعلياً لتحقيق الاختبار المطلوب، سواء لجهة الحضور، أم لجهة الاستغفار، لأنه لا مانع عقلي أو شرعي أن نفترض أن الأجل المسمّى للأمة الإسلامية، الذي علمه عند الله تعالى، هو استيفاء حركة النبوّة في الواقع البشري، تماماً كما كانت كل الأمم السالفة تستوفي أجلها بحسب ما أُعدّ لها من خطوات ومراحل وأئمة يهدونها إلى سبيل الرشاد، وقد قال الإمام علي  (عليه السلام) : «إن الأرض لا تخلو لله تعالى من حجّة إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مستوراً...» [110] .

رابعاً: لا ينبغي لمتأمل بصير أن يسهى، أو يتجاهل أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو رحمة للعالمين، وبعث للناس كافة، ومقتضى هذه الرحمة أن لا يكون الاستئصال عاماً وشاملاً للأمة فيما لو عصت وفسقت في الأرض، هذا فضلاً عن أنه لم يسبق لهذه الأمة أن حققت جاهليتها على النحو الذي يجعل منها مستحقة لعذاب الاستئصال، بدليل أنه ما من مرحلة أو حقبة تاريخية إلاّ وكانت تشهد ثورة، أو حركة إصلاحية تمنع المترفين من أن يدفعوا بالأمة إلى مزالق الخطر والإبادة، وهذا لا يتنافى مع قولنا بأن هناك جاهليات كثيرة قد تحققت في حياة الأمة الإسلامية، بل نؤكّد عليه مع فارق أنه لم يسمح لهذه الجاهليات وما أفرزته من مترفين أن تتهدّد عقيدة وشريعة الإسلام، كما جرى في عام الستين للهجرة حينما حاول بعض حكام الأمويين أن يعيد سيرته الأولى كأن لا نبي جاء ولا وحي نزل، ولكنه لم يفلح لأنّ ثورة كربلاء منعت منه وسجّلت فتحاً مبيناً في تاريخ الأمة [111] ، وبحق نقول: إنّ الذي منع الاستئصال عن هذه الأمة هو هذه الثورة، لأنها أبقت على الإسلام في حياة الناس وشكّلت امتداداً حقيقياً لرسول الله ورسالته، وستبقى كذلك إلى أن يمنّ الله تعالى على هذه الأمة بمن يخرجها من الظلمات إلى النور على مستوى التحولات التاريخية بحيث يكون لها فعلاً وحقيقة ما خصّها الله تعالى به من خيرية وشهادة ووسطية..!!


[102] سورة يونس، الآية: 47.
[103] سورة إبراهيم، الآية: 10.
[104] الطباطبائي، تفسير الميزان، ج13، م. س، ص58.
[105] سورة الأنفال، الآية: 33.
[106] سورة الأعراف، الآية: 34.
[107] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل، م. س، ج7، ص255.
[108] سورة البقرة، الآية: 214.
[109] السيوطي، جلال الدين، منشورات الرضا، طهران، (ت 911هـ) 1411هـ، ص10. يذكر السيوطي عن ابن مسعود أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة، قال: سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل.
[110] نهج البلاغة، قصار الحكم: 147.
[111] إنّ التدافع في الأمة شكّل حماية لعدم استئصال الأمة وإفساد الأرض، وهنا تكمن أهمية ثورة كربلاء حيث إنها لم تسمح بدروس الدين وهدم البِيع، والصوامع والمساجد، فإذا قلنا: إنّ هناك أجلاً مسمّى للمجتمع في الحياة، كذلك يصحّ القول إنّ هناك أجلاً لمن يبعث الحياة ويصلح في الأرض ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فالسنن التاريخية عاملة وثابتة، وقد جعل الله لكل أجل كتاب، حيث وعد المؤمنين العاملين للصالحات أن يستخلفهم في الأرض، وهذا يُنبئ عن أن حركة النبوّة بكل امتداداتها لا تزال قائمة ومنذرة للأمة، وهذا ما يشكّل برأينا تعبيراً عن حقيقة أمان الاستغفار الذي أشارت إليه الآية المباركة، باعتبار أنه إذا كان قوم لوط لم يحقّ القول عليهم إلاّ بعد أن خرج لوط، فما بالكم بالأئمة والصالحين من عباد الله تعالى في واقع الأمة الإسلامية؛ فهل يُعقل أن تستأصل هذه الأمة ولمّا تستوفي أجلها بعد فيما يعود إلى معنى وحقيقة استغراق الإمامة في تاريخها؟!!
لقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حقيقة استيفاء الأجل، وما على المسلم إلاّ أن يكون مستغفراً ومنتظراً في صيرورة التحولات الإيمانية والتاريخية كيما يتحقق الوعد المنشود، ويتظهّر الحق الموعود...

 


 

 


المصادر والمراجع




القرآن الكريم.
نهج البلاغة.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1966م.
ابن حجر، فتح الباري، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1987م.
ابن خلدون، عبد الرحمن، المقدمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، (لا-ت).
ابن رشد، فصل المقال،فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال، بيروت، دار المشرق، 1986م.
ابن قتيبة، الدينوري، تاريخ الخلفاء، دار الأضواء، بيروت، 1990م.
ابن كثير، لأبي الفداء الحافظ، قصص الأنبياء، بيروت، دار الفكر، 1996م.
ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار المعارف، مصر، (لا-ت).
ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، دار العالم الإسلامي، بيروت، 1979م.
الأصفهاني، أبو الفرج، كتاب الأغاني، دار إحياء التراث، بيروت، (لا-ت).
إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، عالم المعرفة، الكويت، عدد 183، 1994م.
آملي، جوادي، علي بن موسى الرضا (عليه السلام)  والقرآن، دار الصفوة، بيروت، 1994م.
أيّوب، سعيد، معالم الفتن، دار الكرام، بيروت، 1993م.
البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، دار الهادي، بيروت، 1992م.
جعيط، هشام، الفتنة، دار الطليعة، بيروت، 1995م.
حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، 1964م.
الحلّي، أحمد بن فهد، عدة الداعي ونجاح الساعي، تحقيق القمي، مكتبة الوجداني، قم، (لا-ت).
الحلّي، الحسن بن يوسف، تحرير الأحكام، مؤسسة الصادق، قم، 1420هـ.
الدامغاني، الحسين بن محمد، قاموس القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، 1989م.
الراغب، الأصفاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، (لا-ت).
الراوندي، فضل الله، كتاب النوادر، دار الحديث، قم، (لا-ت).
الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، الكشاف، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009م.
سبحاني، جعفر، سيرة سيّد المرسلين، دار البيان العربي، بيروت، 1992م.
سبحاني، جعفر، المذاهب الإسلامية، دار الولاء، بيروت، 1005م.
السيوطي، الحافظ، جلال الدين، تاريخ الخلفاء، منشورات الرضا، طهران، 1411هـ.
شبّر، عبد الله، تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2009م.
شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين، المؤسسة الدولية، بيروت، 1996م.
الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، دار صعب، بيروت، 1986م.
الشيرازي، محمد الحسيني، تقريب القرآن إلى الأذهان، دار العلوم، بيروت، 2003م.
الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2007م.
صالح عضيمة، مصطلحات قرآنية، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، دار النصر، بيروت، 1994م.
الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي، الدار العالمية، بيروت، 1989م.
الصدر، محمد باقر، السنن التاريخية في القرآن، دار التعارف، بيروت، 1983م.
الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية، الدار العالمية، بيروت، 1989م.
الصدوق، محمد بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1413هـ.
الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1991م.
الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1991م.
الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1425هـ.
الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الهاشمي، بيروت، 1425هـ.
الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، دار المرتضوي، طهران، 1417هـ.
الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، بيروت، 1409هـ.
عبد الباقي، محمد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار المعرفة، بيروت، 1991م.
عامر، توفيق، مدخل إلى علم التفسير، دار البيان العربي، بيروت، 1993م.
العسكري، مرتضى، معالم المدرستين، المجمع العالمي لأهل البيت  (عليهم السلام) ، طهران، 1424هـ.
القالي، أبو علي، الأمالي والنوادر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (لا-ت).
القشعمي، محمد صالح، الإلهيات والفلسفة العليا، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1999م.
قطب، محمد، كيف نكتب التاريخ، دار الشروق، القاهرة، 1992م.
الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، مكتبة الصدر، طهران، 1416هـ.
كاظم، دشتي، المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، دار الأضواء، بيروت، 1886م.
المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403هـ.
مرتضى العاملي، جعفر، الإمام الحسن (عليه السلام) ، دار السيرة، بيروت، 1994م.
المشهدي القمي، محمد رضا، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، طهران، 1991م.
مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ، دار المرتضى، بيروت، 1988م.
المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1990م.
مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار العلم للملايين، بيروت، 1981م.
مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة، دار العلم للملايين، بيروت، 1979م.
المفيد، محمد بن محمد، تصحيح اعتقادات الإمامية، إيران، قم، 1404هـ.
النباطي العاملي، علي بن محمد بن يونس، الصراط المستقيم، المكتبة الحيدرية، النجف، 1426هـ.
النيسابوري فتال، محمد بن أحمد، روضة الواعظيم، وبصيرة المتعظين، منشورات الرضا، 1411هـ.
الهاشمي، محمود، مقالات فقهية، مؤسسة الغدير، بيروت، 1999م.
هارون، عبد السلام، سيرة ابن هشام، مؤسسة الرسالة، الكويت، 1984م.
اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن، بيروت، 1989م.
يوسف، محمد، التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، دار الشروق، القاهرة (لا-ت).
موسوعة كلمات الإمام الحسين  (عليه السلام) ، معهد تحقيقات باقر العلوم، 1415هـ.


أنجز هذا الكتاب يوم مولد السيدة زينب (عليها السلام)  
الواقع في 5 جمادي الأولى/1435 هـ.
الشيخ عارف هنديجاني فرد