الكتاب |
المُتْرَفُونَ
وصِنَاعَةُ الْفَسَادِ (إشكالية
الترف في الدين والسياسة)
قراءة من منظور قرآني |
تأليف |
الشيخ عارف هنديجاني فرد |
إعداد ونشر |
جمعية القرآن الكريم |
الطبعة |
الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت |
موقع جمعية القرآن الكريم |
www.qurankarim.org |
بريد جمعية
القرآن
الكريم |
info@qurankarim.org |
تقدّم الكلام في معنى الترف والمترفين لغةً
ومفهوماً، إضافة إلى عقيدة المترفين ومنطقهم
في جميع حالاتهم ومآلاتهم سواء في الدنيا، أم
في الآخرة، أم في الدين، وقد أوضحنا
أن المترفين ليسوا فقط المتنعمين وأصحاب
الثروات والنفوذ، أو قادة الشر، وإنّما هم
أولئك الذين اختاروا الدنيا على الآخرة،
والشرّ على الخير، والباطل على الحق، وهم
يشكلون أغلبية المجتمع الإنساني.
ولهذا، نرى أن مبحث الترف والفساد لا ينفصل
عمّا تقدّم بحثه، وكان لا بدّ من التعريف
بالترف والمترفين، تمهيداً لمبحث الترف
والفساد، على اعتبار أن المترفين هم المفسدون
في الأرض،.. وهذا ما ينبغي التمهيد له في هذا
المبحث لتبيان حقيقة الموقف الإسلامي الرسالي
من الفساد والمفسدين، باعتبار أن المترفين بما
هم قادة ورؤساء، وبما هم بشر تابعين لأهل
الترف يصدرون عنهم ويسمعون لهم، لا ينفكّون عن
الفساد في الأرض والاستكبار فيها على نحو ما
بينّا في الفصل السابق، حيث تبيّن لنا أن شكوى
الملائكة إنما صدرت عنهم لكونهم مدركين لهذه
الحقيقة في الأرض، حقيقة الإفساد وسفك الدماء،
وغير ذلك مما ينطبق على المترفين.
ولعلّنا لا نخطئ القول: إن ما عرض له القرآن
في موضوع الفساد والترف يشكّل أساس هذا البحث
لكون الفساد والإفساد ليس حالة واحدة، أو
موضوعاً واحداً، وإنّما يختلف باختلاف ما يكون
عليه الإنسان من التزام وانتماء ومبادئ وقيم،
هذا فضلاً عمّا يكون عليه من حالات روحية
ومادية تدفع به إلى أن يكون صالحاً أو فاسداً.
كما أن القرآن، فيما عرض له، لم يفصل بين
المفسدين والمترفين، بل اعتبرهم حالة واحدة
فيما يؤدّونه من وظائف وأعمال، ويدّعونه من
اعتقاد ومبادئ، وقد بينّا أن آيات المترفين
كلها تلحظ حالهم من حيث هم كافرون بالرسالة
والرسول، ومقلدون لآبائهم، ومجرمون فيما
أترفوا فيه، كما قال تعالى: ﴿
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
﴾ ويكفي أن نلحظ معنى إجرام هؤلاء وظلمهم في
السياق الذي جاءت فيه الآية المباركة، حيث قال
تعالى: ﴿
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ
عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
﴾
[1] .
ويكفي للتدليل على معنى الإجرام هنا أن نستفيد
مما ذكره القرآن عن قوم لوط، حيث قال تعالى:﴿
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُواْ إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
﴾
[2]
. والإجرام هنا، كما تعلم، استحق أن يكون له
عذاب الاستئصال، لأنّه بلغ قمّة الفساد، وما
جاء في سورة هود الآنفة يشير إلى حقيقة هذا
الإجرام الذي تولّد عن كون الناس لا يأمرون
بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، إلاّ قليلاً
ممن أنجينا، حيث بيّن بالاستثناء المنقطع نجاة
القليل بنهيه عن المنكر، فلو نهى الكثير كما
نهى القليل لما أهلكوا على ما أفاد الشيخ
الطوسي
[3] .
إنّ التمهيد لمبحث الترف والفساد، إنّما يهدف
إلى تبيان طبيعة العلاقة بين المفسد في الأرض
وما يكون عليه من وعي وإدراك لما يقوم به من
قول وفعل، وبين غيره من المفسدين الذين لا
يعون ولا يدركون لحقيقة فعلهم، باعتبار أن
الإنسان قد يصدر عنه الإفساد دون وعي منه لما
أتى به من فعل أو قول، وهذا ما يقتضي منّا
التمهيد لدراسة فعل الفساد في الأرض من حيث
كونه صادراً عمّن يعون هذا الفعل، ويدركون
أنهم صانعون له، وليس لكونه مجرّد فعل، بل
دراية به، وقد أفاد فأجاد الراغب فيما عرض له
في معنى صناعة الفعل، إذ هو يرى أن كل صناعة
فعل، وليس كل فعل صناعة
[4] .
كما سنبيّن أيضاً في هذا المبحث أنواع الترف،
فهل هو نوع واحد، أم هو أنواع؟ وهل أن المترف
هو ممّن ينطبق عليه صناعة الفعل بما هو فساد؟
على اعتبار أنّ المترف هو دائماً في حالة
إفساد وإجرام في المجتمع، كما أوضحنا في
المبحث السابق.
هناك أسئلة كثيرة تبنى على فرضيات لا بدّ من
التوقف عندها والتعرض لها بالبحث والدراسة
لاستكشاف حقيقة الموقف من المترفين وأنواعهم،
حيث نرى كيف أن المترف ليس مجرّد إنسان عادي،
وإلاّ لما اختار الله تعالى له أن يكون
مقابلاً للرسول والرسالة، كما قال تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ . إنّ مَن يكون
له هذا الموقف ليس مجرّد إنسان مترف، وإنّما
هو إنسان مدرك لحقيقة موقفه، وعازم على مواجهة
النبوة والرسالة، ومتّسم بالإجرام لكونه
واعياً بقوله وفعله. وعليه، فإنّه لا معنى لأن
نكتفي بدراسة الفساد، أو الترف من حيث هو
مجرّد فعل، بل لا بدّ من التعمّق في مدلول هذا
المصطلح ومفهومه لنكون على بيّنة مما يلجأ
إليه المترفون لتشويه حياة الناس، وتعريض
اجتماعهم للخطر، هذا فضلاً عمّا يمكن أن
يتسبّب به هؤلاء من أخطار على مستوى عقائد
الناس وأخلاقهم.
نعم، هناك أسئلة كثيرة لا بدّ من التوقّف
عندها، إضافة إلى تفاصيل متعلقة بمدلول الآيات
القرآنية، حيث رأينا أنه لا بدّ من تفكيك
موضوع الترف ودراسته من خلال ملاحظة التجربة
الإنسانية، ذلك أن القرآن، فيما يدعو إليه من
تدبّر، يريد لنا أن نستوعب معنى أن يكون
المترف مفسداً ومجرماً، ومعنى أن يكون على
علاقة سلبية دائمة مع الأنبياء (عليهم السلام) والمرسلين،
لأنّ الوعي بهذا المعنى لا بدّ أن يدلّل على
حقيقة ما يهدف القرآن إلى تبيانه في ضوء
اختيار المترف لمواجهة النبوّة، وكأنّ هذا فيه
ما يشعر بأنّ الصراع إنّما هو ممتدّ ومستمرّ
في الحياة من خلال وجود هؤلاء المترفين في
حياة الناس، ولا بدّ من أن يُخشى منهم على
مصالح المجتمع الإنساني، وفي هذا إشارة دقيقة
أيضاً إلى معنى مشروعهم المتكامل إذا صحّ
التعبير في مواجهة مشروع الأنبياء (عليهم
السلام) في كل زمان،
بحيث لا يقتصر الأمر على المعتقد والأخلاق، بل
يتجاوز ذلك إلى الحياة العملية وكل مجالات
الاجتماع البشري من اجتماع واقتصاد وسياسة
وثقافة وحضارة إلى ما هنالك مما يعيشه المجتمع
ويتفاعل معه.
لذا، فإنّنا في هذا التمهيد سنحاول جاهدين أن
نعثر على إجابات دقيقة في موضوع الترف
والفساد، وقد يكون ممكناً تبيان حقيقة الموقف
من المترفين لا من حيث هم مجموعة تملك الثروات
وتؤثّر على عقائد الناس وحياتهم العملية، بل
من حيث هم مجموعات وأنواع في المجتمع قد دلّت
التجارب عليهم، وأظهرت أن المترف ليس هو الرجل
الاقتصادي وحسب، بل هو السياسي والديني، وهذا
ما يدخل تحت عنوان أنواع الترف، لأن الصراع مع
النبوة في المجتمعات الإنسانية ولّد الكثير من
أنواع الترف، وحوّل الترف من كونه حالة مالية
واقتصادية ليكون حالة دينية وسياسية وفكرية
وثقافية، ولعلّنا لا نخطئ القول: إنّ أكثر
مصائب المجتمع الإسلامي تولّد من الترف الديني
وليس من الترف الاقتصادي، أو المالي. نعم إنه
الترف الديني الذي انتقل بالفرعونية
والطاغوتية من كونهما حالات استكبار وكفر
وعصيان لله تعالى تواجه النبوّات، لتكون حالة
إيمان وإسلام كاذب تدّعي حماية المقدّسات،
وتلعب الدور والوظيفة ذاتها التي سبق لفرعون
وقارون ونمرود أن قاموا بها في مواجهة
النبوّة. وهذا ما يمكن النقاش فيه على النحو
الذي يؤدّي إلى استكشاف الموقف الرسالي من
المترفين والمفسدين، سواء أكانوا في مواجهة
النبوّة، أم كانوا في مواجهة أولياء الله في
كل زمان ومكان.
كما سنمهّد في هذا الفصل أيضاً إلى مبحث
المترفين والمصير المشؤوم الذي أرشد إليه
القرآن، إذ تبيّن جملة من الآيات وفقاً للرؤية
الموضوعية أن الانتصار كان وسيبقى حليف
المصلحين في الأرض وسيؤول أمر المترفين
والمفسدين إلى الخسران المبين، كما قال تعالى:
﴿ وَإِذَا
أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيراً ﴾
[5] ، وهنا تبدو الملاحظة الأساسية، وهي
أنه قال تعالى مترفيها ولم يختر أي مصطلح آخر،
ما يدلّل على ضرورة بحث هذا المصطلح واكتشاف
مدلولاته وفاقاً لرؤية شاملة تبدأ من النص،
وتنتهي بالتجربة الإنسانية، كما أفدنا في
بحثنا السابق.
إذا كان الترف يعني التنعم في الملاذ والتوسع
في النعم، كما أفاد الراغب في المفردات
[6] ، وأن يكون المترف
هو المنعم في الدنيا بغير طاعة الله تعالى،
والمتروك يصنع ما يشاء كما أفاد الطريحي
[7] ، فإنّ الفساد
يعني خروج الشيء عن الاعتدال كثيراً كان هذا
الخروج أو قليلاً، إذ يُقال: فسد فساداً
وفسوداً، فهو فاسد، والاسم الفساد، ويُضادّه
الصلاح، ويستعمل، كما يرى الراغب في النفس
والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة
[8] ، وقد عرّفه
الزمخشري بأنّه خروج الشيء عن حال استقامته
وكونه منتفعاً به، ونقيضه؛ الصلاح، وهو الحصول
على الحالة المستقيمة النافعة، والفساد في
الأرض: هيج الحروب والفتن
..
[9] .
لقد ذكر «الدامغاني» في قاموس القرآن أن «فسد»
تأتي على ستّة أوجه
[10] ، فهي مادة تأتي بمعنى
المعصية
[11] ، والهلاك
[12] ، والقحط وقلّة
النبات
[13] ، والقتل
[14] ، والخراب
بالظلم والجور
[15] ، والسحر
[16] ، وأضاف صاحب
القاموس الجامع الفساد بمعنى قلة البيع في
الزراعات والبيوت ومحق البركات من كل شيء، كما
قال تعالى: ﴿
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
﴾ ، والمفسدة خلاف
المصلحة
[17]
.
لا شكّ في أنّ ما ذكره الدامغاني ليس محصوراً
بهذه الأوجه، وإنّما يمكن أن تستفاد أوجه أخرى
لمعنى الفساد بما هو خروج عن حال الاستقامة،
وقد سبق الكلام منّا أن المترفين وإن كانوا في
كثير من أقوالهم وأفعالهم قد تجاوزوا حدّ
المعاصي لدرجة الكفر والشرك والطغيان، إلاّ
أنهم اعتبروا مفسدين في الأرض كفرعون وسائر
المترفين الذين واجهوا وعارضوا الدعوة
النبوية، كما قال تعالى: ﴿
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ ﴾
[18]
، فالفساد هنا لم يأتِ على أي وجه من الوجوه
التي ذكرها الدامغاني، باعتبار أن الفساد، كما
أفاد الراغب، قد يستعمل في النفس والبدن،
والأشياء الخارجة عن الاستقامة، فقد يكون
الفساد في شيء، وقد يكون فساداً مطلقاً في كل
الأشياء، سواء الخارجة أم الداخلة، في النفس
والواقع معاً، وهذا النوع من الفساد لا يكون
إلاّ من المترفين الذين يجمعون كل أوجه وأنواع
الفساد في أقوالهم وأفعالهم، ولهذا سمّاهم
القرآن بالمجرمين والعالين، والمستكبرين، حتّى
أن القرآن حين أراد أن يضع عنواناً للصراع في
واقعه الاجتماعي الإنساني، فإنّه لم يختر
مصطلحاً آخر يعبّر به عن الصراع السلبي
المحتدم في الحياة الإنسانية سوى الترف. فقال
تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ... ﴾ ، فلم يقل
المفسدين، وإنّما قال المترفين للتدليل على أن
هذه الكلمة تستبطن الفساد، كما في قوله تعالى
عن فرعون، وكما قال تعالى في سورة هود: ﴿
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ
عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ...
﴾ ، حيث نجد أن قوله
تعالى تتابع ليؤكد على أن الأمر لم يكن مجرّد
فساد في وجه من الوجوه التي ذكرها الدامغاني،
وإنّما أضاف إليها القرآن، قوله تعالى: ﴿
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
﴾ . ما يؤكد أن المترف ليس مجرّد
مفسد في الأرض ويعمل خلاف المصالح الاجتماعية
والسياسية... بل هو مجرم وظالم وقاتل ومستكبر،
فضلاً عن كونه كافراً ومشركاً ومكذّباً بلقاء
الله تعالى كما أفاد في قوله تعالى: ﴿
وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..
﴾
[19]
.
ممّا تقدّم، يمكن القول إنّ كل مترف مفسد،
وليس كل مفسد مترفاً، فقد يكون المفسد عاصياً،
وفاسقاً، ومنافقاً
[20]
، وقاتلاً، وساحراً، ولا يكون مترفاً. أما
المترف، كما جاء في التعريف لغةً ومفهوماً،
وفي جميع الآيات التي عرضت لموضوع الترف، فهو
الذي يتجاوز هذا كلّه إلى الفساد في جميع شؤون
الناس، سواء في مجال الاعتقاد والأخلاق، أم في
مجال السلوك والعمل
[21]
، بدليل ما تضمنته الآيات القرآنية عن
المترفين.
ولعلّ أهم ما يمكن التركيز عليه في هذا السياق
هو هذا الاضطراد والتناقض المشار إليه بين
موقع النبوّة وموقع المترفين، وكما يقول
الصدر: إنّ النقيض الطبيعي للنبوّة هو موقع
المترفين، وهذه سنّة من سنن التاريخ
[22]
. وهذا إن دلَّ على شيء، فإنّه يدلّ على
موقعيّة المترف بما هو مفسد في الأرض، ويقابل
مشروع النبوّة فيما يحملهُ من مشروع كفر وجحود
وعصيان وإفساد في الدين والدنيا!!
لسنا في هذا المبحث بصدد التهوين أو التقليل
من خطر المفسدين في المجتمع، وإنّما نريد
تحديد وتظهير حقيقة المصطلح وما ينطوي عليه من
مدلولات، إضافة إلى التفكيك بين موضوع الترف
والفساد على النحو الذي نستطيع معه التمييز
بينهما في ضوء النصّ والتجربة معاً. ولهذا،
رأينا أن يكون المبحث بين الترف والفساد، وكان
دافعُنا إلى هذا الأمر، هو تساؤلنا عن سرّ
ورود مصطلح الفساد في القرآن لأكثر من مئة
مرّة، في حين نجد أن مصطلح الترف والمترفين قد
ورد ثماني مرّات فقط، وهو حيث ورد جاء في سياق
علاقة سلبية مع النبوّة، خلافاً لمصطلح الفساد
الذي تراوح ذكره بين أن يكون مجرّد معصية، أو
ذنب، أو فعل سلبي في شيء من الأشياء، أو أخذ
المال ظلماً، فعل يمكن التوبة منه والإقلاع
عنه، وبين أن يكون ترفاً جامعاً لكل المساوئ
والقبائح في الدين والدنيا على نحو ما وصف
فرعون وهامان وقارون وسائر الطواغيت. ولهذا،
فإنّ ما نقوم به في هذا المبحث، هو محاولة
صادقة للتعريف بهذين المصطلحين والتمييز
بينهما في ضوء ما تفيده التجربة، حيث نجد أنّ
القرآن يفصل بين المفاهيم تاركاً للإنسان
تعقّلها في ضوء وعيه وعقله عن الله تعالى
وتجربته في الحياة، وهذا ما عنينا به سابقاً
أن تكون للباحث قدرة استنطاق النصّ القرآني
بهدف استخلاص الموقف الإسلامي، وقد بينّا في
البحث السابق أن المترف في عقيدته ومنطقه هو
فاسد ومفسد في الأرض، بل هو يقف على قمّة
الفساد والإفساد، وهو لكونه كذلك استحق أن
يكون نقيضاً للنبوّة في ميدان التاريخ، وليس
على الإنسان إلاّ أن يستوعب هذه السنّة
القرآنية، وأن يعمل وفاقاً لها، لأنّ أحداً لن
يكون له استثناء من هذه السنّة، كما قال
تعالى: ﴿
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ
الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾
[23]
.
لا شكّ في أن القرآن لحظ كل حالات الفساد التي
يمكن أن تعرض للإنسان في حياته، من قبيل ما
أشار إليه عن فساد المنافقين، أو فساد
المخلّين بالأمن ويقطعون الطريق
[24]
، أو فساد الذين ينقضون عهد الله تعالى،
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل. إلى غير ذلك
مما انطوت عليه الآيات القرآنية من معانٍ في
حالات المفسدين وشؤونهم، حتى إننا نجد القرآن
يعرض لحالات التقابل بين الناس المفسدين في
الأرض، والناس الذين يدفعون هذا الفساد، كما
في قوله تعالى: ﴿
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ ، في
مقابل ذلك الإنسان الذي إذا تولّى سعى في
الأرض ليُفسد فيها
[25]
، وهذا ما عرض له العلاّمة الطباطبائي
بعبقريّة فائقة في تفسيره القيّم في المجلّد
الثاني من تفسير الميزان، الذي عرض فيه لحقيقة
هذا التقابل فليراجع في مكانه (ص100).
إذن، المترف يقف على قمة الفساد والإفساد في
الأرض، أما المفسد، بما هو إنسان خارج عن حدّ
الاستقامة، سواء في نفسه، أم في الواقع، فهو
تميّز عن المترف في كونه مشتركاً معه في
الإفساد وفي وجه من الوجوه وليس من كل الوجوه
كما تقدّم ذكره من أن المترف يتجاوز إفساده
شؤون نفسه ودينه الخاص ليكون له مشروعه في
مقابل الرسول والرسالة، كما كان حال كل
المترفين على الساحة التاريخية منذ النبي آدم (عليه
السلام) حتى عصر رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، وستبقى للمترفين هذه الخصيصة حتى
قيام الساعة، وقد أفادت التجارب الإنسانية أن
المترفين، وخاصة في عصر الرسالة الإسلامية، لم
يكونوا مجرّد مفسدين في الأرض بنحو من
الأنحاء، وإنّما كانوا مفسدين في الدين
والدنيا، ومجرمين، ومستكبرين، كما قال الله
تعالى: ﴿
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ ﴾
[26]
، وقال الله تعالى: ﴿
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي
فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ
فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ
إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾
[27]
، إلى غير ذلك من الآيات التي تخرج المترف عن
كونه مجرّد إنسان فاسد ومفسد، لتجعل منه
إنساناً مستكبراً في الأرض، فيتجاوز حدود
إنسانيته ليجعل من نفسه إلهاً يعبد من دون
الله تعالى، ومتميزاً بالذبح والقتل
والاستضعاف والاستخفاف، وغير ذلك مما وُصف به
من صفات في القرآن الكريم، وفي هذا السياق
يمكن لنا أن نتأمّل في قوله تعالى: ﴿
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ
﴾ ، هذا الوصف الذي سبق سائر الأوصاف من
استضعاف وذبح واستحياء، إذ قد يكون في ذلك
إشارة إلى حقيقة ما ينبغي التركيز عليه في
مبحث الترف والفساد، حيث إنّ العلوّ
والاستكبار في الأرض من مؤدياته أن لا يكون في
المستكبر أي جهة، أو أي وجه من وجوه الصلاح،
هذا فضلاً عمّا يفيده ذلك من إفساد للآخر،
سواء أكان إنساناً، أم مجتمعاً
[28]
.
وهكذا، فإنّ معنى الإشارة القرآنية الآنفة
الذكر، هو الإرشاد إلى حقيقة ما يميز المترفين
في المجتمع عن سواهم، من حيث هم مستكبرون في
الأرض، ويدّعون الألوهية، ويفسدون في الأرض،
ولهذا، نجد ختام الآية يؤكّد على أن فرعون كان
من المفسدين: ﴿
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
﴾ ؛ فلو أن القول جاء
في سياق مجرّد الفساد دون أن يكون مسبوقاً
بهذه الصفات، لكان من الممكن أن نلحظ الفساد
في معنى من المعاني، أو في شيء من الأشياء،
ولكنه جاء مسبوقاً بصفات العلوّ والاستكبار،
ما يؤكّد لنا معنى الفساد والإفساد بشكل مطلق،
والذي استحق به أن يكون مجرماً ومستحقاً
للاستئصال بالغرق، تماماً كما استؤصل غير
الفراعنة بالريح، أو بالخسف، أو بحجارة من
سجّيل، وهذا هو حال المترفين دائماً أن مصيرهم
الاستئصال بما يختاره الله تعالى لهؤلاء من
أنواع العذاب. وإذا كانت أمة الرسول محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) قد استثنيت من هذا
الاستئصال كرامة للرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) وحضوره بين ظهرانيها
[29]
، فإنها حتماً لم تستثن من حاكميّة السنن
التاريخية لها المنوطة بإرادة الإنسان
واختياره، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ
﴾
[30]
.
يبقى أن نقول: إنّ ما يميّز المترف عن المفسد،
وإن كانا يشتركان في بعض وجوه الفساد، هو أن
المترف، كما أفاد الطريحي في مبحث اللغة،
متروك يصنع ما يشاء، خلافاً للمفسد الذي يخرج
عن حالة الاستقامة في نفسه، أو في بدنه، أو في
أشياء خارجية. وكما بينّا فيما سبق، أن
المدلول اللغوي يُفيد مطلق الإفساد فيما يصنعه
المترف لنفسه أو غيره، وليس صدفة أن يستعمل
الطريحي فعل صنع للمترف، لما يعنيه الصنع من
وعي وإدراك بحقيقة وأثر الفعل المصنوع كما
بينّا في تمهيدنا لهذا الفصل، ما يؤكّد لنا
حقيقة التمايز بين أن يكون المترف مفسداً في
الأرض، وبين المفسد من جهة أو شيء، أو حالة من
الحالات، كما هو شأن كل المفسدين الذين عرض
لهم القرآن، سواء أكانوا من المسلمين، أم من
أهل الكتاب، باعتبار أن القرآن في كثير من
آياته التي عرض فيها للفساد، يدلّل على أنّ
الفساد هو سمة أكثرية الناس، وقد يظهر منهم في
القول أو الفعل، ولولا أن الله تعالى قد قوّم
أهل الأرض بالدفع لفسدت الأرض بما كسبت أيدي
الناس، كما قال الله تعالى: ﴿
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾
[31]
.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ ما عرض له القرآن
في موضوع الفساد في الأرض، وما أمر به الله
تعالى من إصلاح وعدل، إنّما يستفاد منه في ضوء
التجربة أنّ الفساد، وإن كانت له تحقيقات
كثيرة في المجتمع الإنساني، إلا أنه لم يعد
مستحكماً بما يجعل منه ترفاً قاتلاً، أو
استعلاءً واستكباراً يهدّد الإنسانية بالفاحشة
الكبرى، والفساد الشامل، كما كان عليه حال
الفرعونية، أو القرشية، أو غيرها من حالات
الترف التي كانت تهدد الإنسانية بالفناء، فهو
فساد محدود، وقد حدّه الإسلام من خلال
الأولياء والصالحين، ومنع منه بالقدر الذي حال
دون أن يتمكن المفسدون في الأرض من القضاء على
الرسالة، أو على تحريفها بما حقّقه الأولياء
من ثورات ونهضات ساعدت على الحدّ من نفوذ
المترفين والمسرفين والمفسدين، وحتّمت أن يكون
للإسلام دوره الفاعل والمؤثّر في مجريات
الأحداث قديماً وحديثاً، وإنّ ممّا يدلّ على
هذه الحقيقة هو استمرار الإسلام، عقيدة
وشريعة، في حياة الناس رغم كل ما تعيشه
المجتمعات الإنسانية من فساد، سواء على مستوى
النفس، أم على مستوى الواقع بما يعنيه الواقع
من فساد في العلاقات الإنسانية، وفي سوء توزيع
الثروات، وفي تحريم ما أحلّ الله تعالى،
وتحليل ما حرّمه الله، وفي بخس الناس أشياءهم،
وفي تحكّم الملوك برقاب الناس؛ إذ إنه رغم كل
هذا الفساد الظاهر في حياة الأمم والشعوب،
فإنّ الصالحين من عباد الله، بما هم امتداد
للنبوّة، لا يزالون في الموقع الذي يحتّم
عليهم مناوءة هذا الفساد ومنعه من أن يتحوّل
إلى حالة من الترف القاتل الذي يكون من
مؤدّياته تهديد الاجتماع الإنساني بالفناء،
وكما قال تعالى: ﴿
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن
فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ
فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ
﴾
[32]
.
إنّ أحداً من الباحثين، قديماً وحديثاً، لم
يعالج مبحث الترف والفساد بالشكل الذي يسمح
بالتمييز بين المصطلحات القرآنية، بحيث يظهر
المعنى الحقيقي لكل من هذين المفهومين، إذ في
الوقت الذي يرى فيه بعض الباحثين ضرورة
التمييز بين الفساد في الأرض وحكمه بما هو
إفساد في الأرض ونهب أموال وقتل للنفوس، وبين
الترف وحكمه بما هو كفر وبغي في الأرض واعتداء
على حدود الله تعالى وحدود الناس، يرى آخرون
أنّه لا ضرورة لذلك التمييز طالما أن المترف
هو المفسد بلسان الآيات والروايات، كما قال
تعالى عن فرعون: ﴿
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
﴾ .
وقد بينّا سابقاً أن منشأ هذا التمييز هو
تخصيص المترف بلغة القرآن بما لم يخصّ به
المفسد في الأرض، سواء في آيات النفاق، أم في
آيات أخرى تحصر الفساد في الأرض وتقيّده تارة
بالمحاربة، وطوراً بكونه دعوى غير صادقة من
المنافقين، وثالثاً بكونه إفساداً يضاف إلى
الأرض؛ باعتبار أن الإضافة «في الأرض»، كما
يرى العلاّمة الهاشمي، ليست لمجرّد الظرفية،
بل يقصد بها تعلّق الفساد ووقوعه على الأرض،
إلى غير هذا مما جاء فيه الفساد والإفساد
بمعنى السلب والقتل وانعدام الأمن... وهذا ما
له أحكامه الخاصة في الشريعة، تختلف عن أحكام
الكفّار والبغاة والخارجين على الحكومة
الإسلامية. يقول العلاّمة الهاشمي: «هناك فرق
واضح في ارتكاز العقلاء والمتشرّعة بين حكم
محاربة الكفّار أو الباغين، وحكم محاربة الناس
بملاك الإفساد في الأرض ونهب الأموال والأعراض
وقتل النفوس، والتي قد لا تتحقق من الكافر أو
الباغي، كما إذا خرج قوم على حكم الإسلام في
منطقة دون أن يسلبوا الناس أموالهم، فإنّ هذا
لا يصدق عليه الإفساد في الأرض..
»
[33]
.
لذا، فإنّ رأينا في معنى المترف، وما ترشد
إليه الآيات في بيان معناه، ليس هو حصرية معنى
الإفساد فيما يتعلق بالمال أو انعدام الأمن،
أو مجرّد الإفساد في الأرض، وإنّما هو ذلك
المعنى الحقيقي لكون المترف وضع في مقابل
النبوّة بما هي دين وأحكام وأخلاق، فهو أعمّ
من أن يكون مفسداً في الأرض باعتباره جاحداً
وكافراً ويتجاوز في إفساده الواقع الاجتماعي
وحدود الناس وحقوقهم، ليكون شيطاناً محارباً
لله ورسوله، ويجسّد فيما يحمله من مشروع إبليس
فيما يدّعيه من رأي في مقابلة النص، وهدى في
معارضة الأمر
[34]
. ولا شكّ أيضاً في أنّ ما يعبّر عنه المترف
من استكبار ليس هو مجرّد استكبار نابع من كونه
صاحب ثروة أو نعمة، وإنما هو نابع من كونه
مستكبراً بمادته التي خلق منها ما جعله
تعبيراً شيطانياً في حياة الأمم والمجتمعات
الإنسانية.
إن المترف له وضعية مختلفة عن المفسد في الأرض
بلحاظ كون لباب الآيات والروايات يفيد حقيقة
اختلاف وضعية كل منهما في المجتمع الإنساني،
ذلك أن المترف له وضعية الكفر والجحود
والاستكبار على أمر الله تعالى، في حين أن
المفسد قد تكون له وضعية النفاق، أو المعصية،
أو الخروج على أمن المجتمع، وقد يصل به الأمر
إلى أن يكون متميزاً بترفه بأن يتحوّل إلى
إنسان كافر وجاحد ويدّعي ما ليس له في مقابل
النبوّة، وقد سبق لإبليس أن ادّعى خيرية النار
على خيرية الطين..!؟
كما سبق أيضاً لكثير من المفسدين في الأرض أن
لحقوا بالمترفين والأبالسة في تاريخنا
الإسلامي، فادّعوا بلغة الدين أنهم ظلّ الله
في الأرض، متجاوزين بذلك إفسادهم في الأرض
ليكونوا قتلة الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء، وقد أدّى
بهم ذلك إلى أن يكونوا فراعنة وطواغيت يُفسدون
في الأرض، ويخرجون على أحكام الله تعالى كفراً
وطغياناً، ويدّعون الخيرية في مقابل الأولياء
والصالحين من عباد الله تعالى، بل تحوّلوا
ليكونوا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿
إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ .
غاية القول، في توضيح هذا المطلب، وتحقيق
المقصد هو أنّه لا بدّ من تفكيك المصطلح
القرآني في ضوء الآيات القرآنية والروايات
الشريفة على النحو الذي يمكّن الباحث من
استخلاص نتيجة، أو موقف قرآني يُلخص فيه حقيقة
ما ترشد إليه الآيات. ومن هنا كان الدافع إلى
التساؤل حول ما إذا كان المترف هو المفسد في
الأرض؟ وهل كل مفسد هو إنسان مترف؟ إلى غير
ذلك من الأسئلة التي تثير إشكاليات هامة في
سياق هذا المبحث، ولعلّنا وفقنا، بعونه تعالى،
إلى حدٍّ ما، وبفهمنا القاصر، إلى طرح ما
تقتضيه الإشكالية من فرضيّات يمكن أن يُبنى
عليها للتعرّف على أوجه الفساد التي يعرض لها
القرآن، هذا، بالإضافة إلى التساؤل المشروع
حول الحدود التي تفصل بين الترف والفساد، وقد
أشرنا إلى أنّ السؤال الجوهري في هذا المبحث،
هو لماذا خصّ المترفون دون المفسدين ليكونوا
في مواجهة النبوّة؟ وهل هذا يعني أن المفسد لم
يكن مقابلاً لها؟ وما هي الحدود التي تفصل بين
المترف والمفسد؟
لقد أشرنا، فيما اتسع له المبحث، إلى أن
المترف هو إنسان مفسد في الدين والدنيا، وأن
المفسد يمكن أن يكون مترفاً فيما لو اختار أن
يشرح بالكفر صدراً، بحيث يكون له ما للمترفين،
كما حصل في التجربة التاريخية للمسلمين، حين
اختار الكثيرون منهم أن يكونوا امتداداً
للفراعنة والطواغيت فيما اختاروه من كفر وجحود
تحت عناوين دينية وإسلامية. نعم المفسد في
الأرض، فيما له من معنى خاص من إفساد في المال
وحفظ الأمن والنفس والعرض، له أحكامه الخاصة
بلسان الآيات والروايات، ولكنه ليس ترفاً على
نحو ما بينّا في معنى الترف وما له من عقيدة
ومنطق في مقابل النبوّة، بل في مقابل الأمر
الإلهي، والحق الإلهي، فما بالنا لا نظهّر هذا
المعنى للمترف من حيث كونه مفسداً في الدين
والدنيا.. ومحارباً لله ورسوله!؟.
وإذا كان بعض الباحثين يرى بأن ما جرى في
تاريخ المسلمين هو إفساد في الأرض، فإننا لا
نختلف معه في ذلك، لأن المترف هو أيضاً إنسان
مفسد، لكن يبقى على الباحثين أن يتعرّفوا إلى
حقيقة المصطلح القرآني والتساؤل بشأنه، بحيث
يسأل لماذا قابل النبوّة الترف، ولم يقابلها
الفساد؟
فإذا كان الفعل هو فعل إفساد في الأرض بما
تعنيه الظرفية من معنى، وقد قلنا: إنّ الإضافة
إلى الأرض ليس للظرفية بل يُقصد بها تعلق
الفساد ووقوعه على الأرض كما أفاد آية الله
محمود الهاشمي في مبحثه
[35]
، فإنّ هذا الفعل مما يمكن إدخاله تحت أحكامه
فيما يعنيه من قتل وسلب وانعدام أمن، وأما إن
كان الفعل هو فعل كفر وجحود واستكبار في
الأرض، وكم من فرق بين الإفساد في الأرض،
والاستكبار فيها، فهذا مما لا يمكن إدخاله تحت
عنوان الفساد من حيث كونه مجرّد إفساد، وإنّما
لا بدّ من إدخاله في دائرة الترف والإجرام
والظلم الذي يتعدّى فيه الإنسان حدود نفسه
ومجتمعه ليكون متعدّياً على الله تعالى فيما
يدّعيه لنفسه من ألوهيّة واستكبار، بحيث ينطبق
عليه مطلق الإفساد في الدين والدنيا. وعليه،
فإنّ معنى الترف هو تقابل الكل مع الكل، تقابل
النبوة مع المترفين، وأنّى للمفسد في الأرض أن
يكون له هذا التقابل؟ وهذا ما تقتضيه دلالة
اللغة أولاً، والمصطلح القرآني ثانياً، لجهة
إظهار التقابل مع المترف وليس مع المفسد، وقد
أفلح العلاّمة الهاشمي فيما عرض له في مبحث
الفساد في الأرض حيث أشار إلى أن الفساد لا
يتجاوز كونه تعدّياً على غيره وأخذ المال
ظلماً دون أن يكون له أي معنى في مجال
الاعتقاد واختلاف الآراء، يقول: «إنّ الظاهر
من عنوان الفساد في الأرض ما يكون إخلالاً
بالصلاح، كون الفساد ضدّ الصلاح، لا ما يكون
فساداً بحسب نظر وفكر وعقيدة، أو نظام اجتماعي
دون نظر عقيدة أو نظام آخر، فإن هذا فساد
إضافي ونسبي قد يختلف فيه مذهب عن مذهب..
وظاهر الفساد في الأرض، الفساد المطلق، الذي
هو فساد بحسب كل منظار وعقيدة ولحاظ الآية
إخلال بالوضع البيعي المطلوب لحياة الإنسان في
الأرض على كل حال. فالشرك أو اعتناق المذاهب
الباطلة فساد، ولكنه ليس فساداً في الأرض...
فكم من فرق بين إفساد الناس بحيث يختاروا
بأنفسهم ما هو فاسد لهم، وبين عنوان الفساد
المضاف إلى الأرض، الذي يعني أن تكون الأرض
غير صالحة للاستقرار والحياة الآمنة بفعل
إنسان، فإنّ هذا لا يتحقق إلاّ إذا كان الفعل
بنفسه وبلا ضمّ أية حيثية أخرى إفساداً في
الأرض، وذلك لا يكون إلاّ في موارد التجاوز
على المال والنفس والعرض وسلب الأمن منها...»
[36]
.
وكيف كان، فإنّنا ندّعي أن ما ذهبنا إليه من
تمييز بين الترف والفساد ليس مجرّد تمييز خاضع
لمجرّد رؤية ندّعي أنها تظهر حقيقة المصطلح
القرآني، وإنّما هو حقيقة مفاد اللغة وسياق
الآيات القرآنية التي تميّز بين المفسد
والمترف، وما بينهما من نسبة، هي نسبة الأعمّ
والأخصّ مطلقاً
[37]
حيث نرى المفسد غالباً ما يختار لنفسه العقيدة
والمذهب من دون وعي وفهم لحقيقة ما يختاره،
أما الشيطان فهو على وعي دائم بما يختاره،
تماماً كوعي إبليس فيما أقدم عليه من مخالفة
لأمر الله تعالى، وهذا أمرٌ من الوضوح بمكان.
إضافة إلى ما
تقدّم، فإنّنا نرى ضرورة أن يبحث هذا الموضوع
بشكل مستقلّ، باعتبار أن المفسّرين للقرآن،
وكذلك الباحثين في الشؤون الإسلامية، اكتفوا
بالمدلول التفصيلي للآيات، ورأوا أنها تعني
المترف المتنعّم المنغمس في الشهوات، والمتروك
يصنع ما يشاء، ولكنهم لم يلتفتوا إلى أن
التقابل الذي جاءت به الآيات بلحاظ المدلول
الموضوعي الذي ترشد إليه، يتجاوز مجرّد
التنعّم إلى موضوع هو في غاية الأهمية، يتميز
فيه المترف عن المفسد، ولعلّ أهمّ تميُّز يمكن
لحاظه هو عدم اشتمال الإفساد في الأرض لمعنى
العقيدة والآراء الفكرية، في حين أن المترف هو
المفسد الذي يشمل فساده على الإفساد في الأرض،
وعلى التنكّر لكل رأي وعقيدة وفكر ونظام آخر،
فهو على النقيض مما جاء به الدين من تعدّد
وتنوّع في الخلق والوجود، ومع كل ما جاءت به
النبوّة من تعاليم وأحكام، وقد فصّل الهاشمي
الكلام في هذا المعنى لجهة ما يتميّز به
الإفساد في الأرض، عمّن يعتنق مذهب آخر فاسد،
وهذا إنّما ذهب إليه الهاشمي باعتبار ما تلحظه
الآيات من مشروعية لاختلاف الآراء. وهذا ما لا
يمكن اعتباره في ما جاء به القرآن عن المترف
والمترفين، الذين لا يقيمون وزناً لأي اختلاف،
ويرون في العقيدة الأخرى والمذهب الآخر نقضاً
لهم ولما يزعمون أن الحق كفرٌ وجحودٌ وطغيانٌ واستكبارٌ، فهم ليسوا مجرّد مفسدين
في الأرض فيما يعتمدونه من أساليب ووسائل
لتهديد الحياة الآمنة للناس، وإنّما هم،
بالإضافة إلى ذلك، يتنكّرون لكل دعوة، ويرفضون
كل عقيدة، ويكفرون بكل دين، فاستحقّوا أن
يكونوا، بفعل كفرهم وإجرامهم، مقابل الأنبياء
(عليهم السلام) والصالحين. وبهذا يمكن أن ندّعي ملامسة حقيقة
الموقف الرسالي من موضوعي الترف والفساد من
خلال التمييز بينهما بلحاظ الآيات القرآنية،
التي ميّزت بين موقع المترف، وموقع المفسد،
وهي وإن كانت، أي الآيات، قد لحظت حقيقة
الفساد فيما يزعمه المترف لنفسه، ولكنها مهّدت
لهذا اللحاظ بالإشارة إلى حقيقة الاستكبار
والظلم والإجرام، كما قال الله تعالى: ﴿
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
﴾ ، وقال تعالى: ﴿
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ ﴾ ، إلى كثير من
الآيات التي تُضيف للإفساد مصطلحات أخرى تخرج
المترف عن مجرّد كونه مفسداً، لتجعل منه
إنساناً مقابلاً للنبوة والحق، وهذا ما لا
يتحقق لكل مفسد في الأرض على نحو ما بيّن
الهاشمي
[38]
، والطباطبائي
[39]
، وغيرهم ممّن أكّد على تمايز المترف عن
المفسد فيما يكون عليه كل منهما من دعوى، سواء
في الدين، أم في الدنيا.
وانطلاقاً مما
تقدّم، نرى أن هذا المبحث يحتاج إلى مزيد بحث
وتحقيق لتبيان الموقف الرسالي في كل جوانبه،
وخصوصاً أن التجربة الإنسانية، وما حملته من
تعبيرات في مجال الترف والفساد، كفيلة بأن
تظهر الكثير من الحقائق التي عرض لها القرآن.
فإذا كان المفسد هو الذي يخرج في كثير من شؤون
دينه وحياته عن حدّ الاستقامة، فإنّ المترف
ليس عنده في دينه ودنياه ما يخرج عليه، لأنه
بذاته وفيما يزعمه من دين لنفسه لا يعرف
طريقاً إلى الاستقامة، وهو في جميع حالاته
وأقواله يقف على النقيض مع الحق، وشأنه دائماً
الإفساد في النفس والواقع، والصدّ عن سبيل
الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿
وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ
مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً
مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ
(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ
وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم
مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا
تُوعَدُونَ ﴾
[40]
، فهذه الآيات ناظرة إلى حقيقة ما يستبطنه
المترف من فساد في عقيدته ومشروعه، فهو مكذب
بلقاء الله تعالى، قد أطغته النعمة التي مَنَّ
الله تعالى بها عليه، ومستكبر على الرسل
والرسالات وكافر بما جاؤوا به، وفضلاً عن ذلك
فهو كافر بالمبدأ والمعاد، كما في قوله تعالى:
﴿ هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ . ولا شكّ في أن مَن كانت له هذه
العقيدة لا يكون مجرّد مفسد في الأرض يمكن أن
تنطبق عليه أحكام الفساد، وإنّما هو مترف
يستحق عذاب الاستئصال، كما قال الله تعالى: ﴿
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ
فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً
لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
[41]
.. والحمد لله ربّ العالمين.
إن المترف عاقبته الاستئصال. أما المفسد فله
ألوان من العذاب
...
إذا كان معنى الفساد في الأرض هو الخروج عمّا
تقتضيه سنن الخلق والاجتماع البشري، وعمّا
شرّعه الله تعالى من أحكام لاستقامة شؤون
الإنسان في الدين والدنيا، باعتبار أن الله
تعالى لا يحب الفساد
[42]
. وإذا كان من معانيه أيضاً الخروج عن حال
الاستقامة وعن كونه منتفعاً به، سواء في
النفس، أو البدن، أو الأشياء الخارجية، كما
أفاد الراغب في مفرداته
[43]
، الزمخشري في كشّافه
[44]
، فإنّ هذا الفساد لا يعدو كونه خروجاً عن حدّ
الاعتدال والاستقامة في أي شأن من شؤون
الحياة، سواء الاجتماعية، أم السياسية، أم
الدينية، وفي كل المجالات التي أوكل إلى
الانسان أمر القيام بها لتكون على وجه الصلاح،
كما قال الله تعالى: ﴿
وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلَاحِهَا ﴾
[45]
، ما يعني أن هذا الفساد فيما يعنيه على مستوى
الاجتماع الانساني، كما أشرنا آنفاً، مرتبط
ارتباطاً وثيقاً بمدى قيمومة الإنسان على نفسه
في شؤون الحياة، وتخلّفه عن الأخذ بالأسباب
الكفيلة بتأمين الاستقرار والأمن له، باعتبار
أن الفساد في الأرض، لا يعني التراب والصخور
وغير ذلك مما تحتويه الأرض، وإنّما يعني
الانسان وما يحقق له الأمن والاستقرار، فهو إن
كان آمناً كانت الأرض أمينة، وإن كان فاسداً،
كانت الأرض فاسدة، وقد شرّعت لهذا الإنسان
الأحكام التي تضمن له صلاح نفسه فيما لو
اتّبعها، وهذا ما دفع بالعلماء إلى التمييز
بين متعلق هذا الفساد في الأرض كما يفيد لسان
الآيات والروايات، وبين أن يكون متعلقاً بفساد
الرأي، أو العقيدة، وغير ذلك مما له علاقة
بالفكر والرأي والاختلاف فيه، وقد سبق القول
في أن الفساد في الرأي والعقيدة ليس مما يمكن
اعتباره إفساداً في الأرض، لأن الاختلاف في
الرأي والنظر والمذهب، هو مما تقتضيه سنن
الخلق والاجتماع فيما يكون عليه الناس من تنوع
في الآراء، واختلاف في النظر، ولو لم يكن لهذا
الاختلاف معناه وأثره الإيجابي لما قال الله
تعالى: ﴿
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ ﴾
[46]
. وقال تعالى: ﴿
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾
[47]
، وقال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
﴾
[48]
. إنّ هذه الآيات ناظرة إلى أن حقيقة التكامل
البشري تقتضي أن يكون الناس على حوار واختلاف
وتعارف لتحقيق الكمال الاجتماعي والإنساني
...
وانطلاقاً من هذا المعنى، نرى أن الفساد
ومعناه يتراوح بين أن يكون فساداً في النفس،
أو البدن، أو في أشياء خارجة عنه، وهو إنّما
يكون فساداً بحسب متعلقه وتحققه على النحو
الذي يجعله ظاهراً في الواقع، أو متحققاً في
النفس، وهو غالباً ما يكون متحققاً في الواقع
الموضوعي بما يأتي به الإنسان من أعمال تخرجه
عن كونه صالحاً، وتجعله مفسداً في الأرض،
ولهذا رأينا كيف أن العلاّمة الهاشمي لم يطلق
الفساد في الأرض على حالة الشرك أو الاعتقاد
الباطل، وإنّما هو يُطلق غالباً، كما يرى، على
موارد التعدّي والتجاوز على الأنفس والأموال
وما إليها
[49]
.
وكما قلنا: إنّ دراسة موضوع الفساد والترف
تبقى بحاجة إلى مزيد من الدرس والتحقيق من
خلال رؤية موضوعية توحيدية حسب تعبير الصدر،
بحيث يميّز بينه وبين الترف وما يعنيه من فساد
في الاعتقاد والأخلاق والسلوك، فضلاً عما
يعنيه من فساد سياسي واجتماعي وحضاري...
ولعلّنا لا نخطئ القول: إنّ أنواع الفساد، هي
في الحقيقة، مستوعبة ومتضمّنة في أنواع الترف،
وقد اعتاد الباحثون على استعمال مفردة الفساد
السياسي، أو الاجتماعي، دون وعي منهم لما
يعنيه مصطلح الترف والمترفون، خلافاً لما
تقتضيه مدلولات الآيات القرآنية والأحاديث
الشريفة، إذ ليس كل فساد سياسي، أو اجتماعي هو
تعبير عن حالة الاعتقاد التي ينتمي إليها
الإنسان، فقد يكون المقصود هو التعبير عن حالة
الفساد الواقعي بما يعنيه من أمن واستقرار،
وقد يكون المقصود عند الباحثين طبعاً، التعبير
عن فساد الرأي والعقيدة، وهذا ما تستبطنه
معاني الفساد السياسي، أو الاجتماعي، ما يؤكّد
ضرورة الوعي بالمصطلح حتى يكون ممكناً الإجابة
على أسئلة الواقع وإشكالياته، سواء لجهة
استكشاف الواقع وما هو عليه، أو لجهة الوعي
بحقيقة المصطلح، أو المفهوم الذي يراد التعبير
عنه من قبل الباحثين.
ومن هنا، نرى أهميّة البحث في أنواع الترف
والمترفين، لكون منظومة الحياة عندهم لا تقوم
على أساس رؤية سياسية أو اجتماعية، وإنّما هي
مؤسسة على هوى النفس والتعصب وما نصبه إبليس
من حبائل في دار الغرور، كما أفاد الحلّي
[50]
، بدليل أن المترفين قديماً وحديثاً كفروا
بمنظومة القيم الإنسانية، وقدّسوا زينة الحياة
بما تعنيه من مال وولد وسلطة، وبرّروا الموت
والحياة من خلال ذلك، وكان لسان حالهم دائماً:
﴿ هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ . فهم، أي المترفون، يرون في
المال والثروة مقياساً لكل شيء، تماماً كما
كان أهل السفسطة يرون الإحساس مقياساً لكل شيء
وهذا أدّى فيما أدّى إليه إلى أن يكون الدين
عند المترفين، وكذلك الشرائع، تعبيراً عن
المال والثروة، وسبيلاً إليها دونما اعتبار
لأية دعوة من خارج مكوّنات هذا الترف
الدنيوي...!؟
وكيف كان، فإنّ ما نرى من أهمية للبحث عنه، هو
هذا النوع من الترف الذي عكسته آيات القرآن
بشكل جليّ، وأظهرت معانيه على النحو الذي
يؤكّد أنه ليس ترفاً أنتجته الصدفة، وإنّما هو
ترف له تعبيره في منظومة الخلق الآدمي، حيث
نرى الملائكة يشكون من هذا الترف، بل نجد
إبليس هو أول مَن عبّر عنه حين استكبر على
النبي آدم (عليه
السلام)، ورفض الأمر الإلهي بالسجود، واختار أن
يكون ملعوناً في الأرض والسماء، وبحق نقول:
ليس الترف، بكل أنواعه المادية والدينية
والسياسية والحضارية، سوى تعبير عمّا اتخذه
الشيطان لنفسه من وسائل وأساليب لإغواء
الإنسان وإضلاله، ليكون من جنود إبليس فيما
يصدر عنه من أفعال، وفيما ينطق به من أقوال.
وما مقولة الترف والمترفين، كما أظهرها
القرآن، إلاّ تعبيراً عن الطاعة لهذا المخلوق
الشرّير، الذي أبى إلا أن يكون مفسداً للأرض،
وفاسقاً عن أمر ربه.
لقد اختار
المترفون أن يكونوا تعبيراً عن هذا الكفر
والفسوق بكل ما يعنيه من إفساد في الأرض، وهذا
ما عقدنا العزم على تبيانه تحت عنوان أنواع
الترف، لإظهار حقيقة ما يعنيه الترف من إفساد،
سواء في الجانب المادي الدنيوي، أم في الجانب
الديني السياسي، على اعتبار أن المترفين هم
أهل السياسة أيضاً، وكانت لهم محاوراتهم مع
الأنبياء (عليهم السلام)، تماماً كما كان لإبليس حواره مع
ربّه. فالمترف ليس وهماً، وإنما هو حقيقة
ومشروع هادف، وقد وضعه القرآن في مقابل
الأنبياء (عليهم السلام) لكونه يشكل استجماعاً للشرّ، ويعبّر
عن مشروعه في مقابل إرادة الله تعالى، وهذا ما
رأينا أنه يشكّل قمّة الإفساد في المجتمع
الإنساني، سواء في العقيدة، أم في السلوك،
فإذا ما توفرنا على سرّ هذا الترف، فإنّنا
نكون من خلال هذا البحث قد استوفينا كامل
الشروط التي لا بدّ من توفّرها لجعل هذا
المبحث قائماً على كل التفاصيل المشار إليها
في مدلول الآيات القرآنية المتضمّنة لحقيقة ما
يردده المفسدون في الأرض، على اعتبار أن
الفساد بكل وجوهه ومتعلقاته هو مترشّح ومتسرّب
من منظومة الترف الشيطاني، كما قال تعالى: ﴿
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ
حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ ﴾
[51]
، وقال تعالى: ﴿
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
لِلْإِنسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾
[52]
.
إنّ القرآن الكريم، فيما جاء به من أحكام،
وشرّعه للإنسان، إنّما هدف من خلال ذلك إلى
بناء حياة إنسانية متوازنة، وهو، أي القرآن،
لا يتحدث عن المادة والزينة بطريقة سلبيّة كما
يحلو للبعض أن يقول، وإنما نراه يؤكّد على هذه
الحياة وزينتها ونعمها على النحو الذي يدفع
بالإنسان إلى أن يكون حاكماً لهذه الزينة،
ومستفيداً منها في طريقه إلى الله تعالى.
ولهذا، قال تعالى: ﴿
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً
لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً ﴾
[53]
. إذ لم يقل أكثر عملاً وإنّما أحسن عملاً بما
يُفيد أن حسن العمل وقيمته وأثره في الخير
والإحسان، هو المعتبر والمنشود فيما جعله الله
تعالى على هذه الأرض من نعم مَنَّ بها على
الإنسان لتكون عوناً له، وسبباً لتجاوز صعاب
الحياة للفوز بالرضوان، وكما رأينا فيما سبق
من بحوث أن القرآن لم يتحدث عن الترف إلا
بالذم في بضع آيات قصد الله تعالى بها
المترفون، واضعاً إيّاهم في مصاف الكفر
والجحود والطغيان، لكونهم اختاروا أن تكون
النعم الإلهية التي مَنَّ الله تعالى بها
عليهم سبيلاً للمعصية وطريقاً إلى الإضلال،
كما قال تعالى: ﴿
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ
فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا
لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُواْ حَتَّى
يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾
[54]
. وكما جاء في مجمع البيان للطبرسي، أن الله
أعطاهم ذلك للإنعام عليهم مع تعرّيه من وجوه
الاستفساد، وكانت عاقبة أمرهم أنهم يضلون عن
سبيلك، ولا يجوز أن يكون اللام في «ليضلّوا»
لام الغرض، لأنا قد علمنا بالأدلّة الواضحة أن
الله تعالى لا يبعث الرسول ليأمر الناس
بالضلال، ولا يريد منهم الضلال وكذلك لا
يأتيهم المال ليضلّوا
[55]
، ولهذا نجد أنّ دعاء النبي موسى (عليه
السلام) يأتي في سياق الشكوى مما آلت إليه
النعم في أيدي الفراعنة، ويدعو إلى طمس
أموالهم بحيث لا ينتفع بها كما قال عامّة أهل
التفسير، فالزينة كما يبيّن
القرآن الكريم ليست عائقاً في طريق الهداية،
وهي إنّما جعلت للذين آمنوا في الحياة الدنيا،
كما قال تعالى: ﴿
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾
[56]
.
إنّها زينة ما كانت الدنيا لتستقرّ من دونها،
وهي وسيلة للاستقرار، وسبيل إلى القيام في
طريق الحق، فما بال الفراعنة والمترفين يتخذون
منها وسيلة للإضلال، ويقومون بها على أنها
منتهى الآمال والأحلام؟ رغم أنّ أولياء الله
تعالى لا يفوتهم أبداً أن يكون لهم من هذه
الزينة التي أخرجها الله ما يجعلهم يقولون
برضا الله تعالى. ولعلّ خير من عبّر عن هذه
الحقيقة هو الإمام علي فيما ذكره من رابطة
حقيقية بين أهل الترف وإبليس وما يكون لأهل
الدنيا وأهل الآخرة فيما امتحنوا به في هذه
الدنيا، يقول الإمام علي (عليه السلام) : «ولقد نظرت فما
وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من
الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو
حجة تليطُ بعقول السفهاء غيركم، فإنكم
تتعصّبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علّة. أما
إبليس فتعصّب على آدم لأهله، وطعن عليه في
خلقته، فقال: أنا ناري وأنت طيني، وأما
الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع
النعم، فقالوا: ﴿
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
[57]
.
وقال (عليه السلام) : «واعلموا عباد الله إن
المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة،
فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم
أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما
سكنت، وآكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا
بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه
الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد
المُبلِّغ، والمتجر الرَّابح، أصابوا لذة زهد
الدنيا في دنياهم، وتيقّنوا أنهم جيران الله
غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة ولا ينقص لهم
نصيب من لذة...»
[58]
.
نلاحظ كيف أن الإمام (عليه السلام) يربط بين إبليس وعصبيته
على النبي آدم (عليه
السلام)، وتعصّب مترفة الأمم لآثار مواقع
النعم، وقولهم: نحن أكثر أموالاً وأولاداً
... ومن هنا يتبدّى لنا سرّ التقابل
بين النبوّة والترف في آيات الله تعالى، حيث
نرى أن إبليس يتطوّر في مشروعه من خلال
المترفين في الحياة الدنيا، وتكون النتيجة
الفساد بكل وجوهه وأنواعه في المجتمع
الإنساني، وليس من عجيب أبداً أن يتحدّث إبليس
عن الإغواء والتزيين لبني آدم ليكونوا تعبيراً
عنه فيما يزعمونه من زينة في المال والولد،
حيث قال تعالى: ﴿
رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ ﴾
[59]
. وقد شرح الإمام هذا الكلام، قائلاً: «قذفاً
بغيب بعيد، ورجماً بظنّ مصيب، صدّقهُ به أبناء
الحميّة، وإخوان العصبيّة، وفرسان الكِبرِ
والجاهلية، حتى إذا انقادت له الجامحة منكم،
واستحكمت الطماعية منه فيكم، فنجمت الحال من
السرّ الخفي، إلى الأمر الجليّ، استفحل سلطانه
عليكم وَدَلَف بجنوده نحوكم، فأقحمُوكم ولجات
الذلّ، وأحلّوهم وَرَطَات القتل...»
[60]
، يقول العلاّمة مغنية في شرح كلام الإمام (عليه السلام) :
«إن إبليس قال: لأغوينّ بني
آدم، ولم يكن عند قوله هذا آدمي على وجه
الأرض، وإنّما قال ذلك ظنّاً ورجماً بالغيب...
ومع هذا صدق ظنّه، لأنّ الناس كلهم من حزبه
إلا قليل»
[61]
.
إذن، الترف المادي، فيما يعتمد عليه من زينة
وتزيين، هو الذي يترشّح عنه، ويتسرّبُ منه أن
يكون الشيطان آخذاً بزمام المبادرة لقيادة
المجتمع الإنساني، لأنّ أكثر الناس من حزبه في
كل زمان ومكان، وقد حذّر الله تعالى عباده من
أن يستجيبوا لندائه، أو أن يسمعوا لهاتفه،
وكانت النتيجة التعصّب لآثار مواقع النعم،
والاستجابة لندائه، حتى أخذ الشيطان منهم
مأخذه، وبلغ فيهم مأمله، كما بيّن الإمام علي
في كلامه إلى أحد المترفين، ذامّاً إيّاه،
بقوله: «خذ أهبة الحساب، وشمّر لما قد نزل بك،
ولا تمكن الغواة من سمعك، وألاّ تفعلُ أُعلمك
ما أغفلت من نفسك، فإنّك مترفٌ... ومتى كنتم
يا معاوية ساسة الرعيّة وولاة أمر الأمة؟»
[62]
.
لقد تبيّن
لنا، في معرض الحديث عن الترف والفساد، أن
الترف المادي الدنيوي، هو ليس مجرّد تعبير عن
حالة مادية يعيشها الإنسان في هذه الحياة،
وإنّما هو مشروع شيطاني هادف إلى إقصاء
الأنبياء (عليهم السلام) والأولياء عن قيادة الأمة
[63]
، تعصباً للمال والولد، وانخداعاً بالزينة
والفاكهات من الدنيا، وظناً من المترفين، سواء
أكانوا من أصحاب الثروة، أم من الأشراف
المستكبرين. أنّ الدنيا وزينتها، إنّما هي
تعبير عن تميّز خاص للمترفين لا يعقبه عذاب
ولا فناء، تماماً كما قال أولئك الذين لم
يعتبروا بما آل إليه حال آبائهم وأجدادهم
فقالوا: ﴿
قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ
وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ
لَا يَشْعُرُونَ ﴾
[64]
، وهذا إنّما كان منهم بعد أن بدّلهم الله
مكان السيئة بالحسنة حتى عفوا وكثروا.!؟
وهكذا هو حال
المترفين، إذ يرون كل نعمة عليهم سبباً للمزيد
في الطغيان والاستكبار، وقد بينّا آنفاً أن
الترف بكل أنواعه، المادية والمعنوية، إذا صحّ
التعبير، قد ذمّه الله تعالى لما ينطوي عليه
من مساوئ في القول والفعل، فضلاً عمّا يتقوّم
به هذا الترف من تعصّب لم يسبق إليه إلا إبليس
فيما عبّر عنه من معصية واستكبار وهوى في
مقابل الأمر الإلهي، وهذا ما التزم به
المترفون دائماً، منذ النبي آدم (عليه
السلام) إلى عصرنا الحاضر،
وهذا ما يؤكّد لنا ضرورة أن لا يلتبس الأمر
على الباحثين في الشؤون الإسلامية، كيما لا
يخلطوا بين أنواع الفساد في الأرض وبين أنواع
الترف، وخاصة حينما يتعلّق الأمر بالدفاع عن
مشروع النبوة في الواقع الإنساني. ولا شكّ في
أن المسوّغ لهذا الاعتبار، هو أنّ الترف ذو
منشأ نفسي، وعنه تترشّح كل أنواع الفساد في
المجتمع الإنساني، سواء في مجال العقيدة، أم
في مجال العمل والتطبيق، وإذا كان هناك من ذهب
إلى القول بأنّ الترف هو من توابع الثروة كابن
خلدون، فيما اعتمده من منهج تاريخي، وفيما رآه
في نظريته عن الاجتماع الإنساني والعمران
البشري
[65]
، فإنّ ذلك إنّما يصح فيما لو كان الحديث عن
تحققات الفساد في المجتمع، أما الترف
ومتعلقاته، فقد بيّنت الآيات القرآنية، أن
الترف هو من توابع وترسّمات التعصّب لإبليس
والشيطان، الذي حذّر القرآن من اتِّبَاعه،
ودعا إلى اتخاذه عدوّاً حتى لا يُجلِب عليهم
بخيله ورجله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الزينة
التي أتاه الله للفراعنة، وكل ما يمكن أن ينشأ
عن الاستغراق فيها ليس الترف نتيجة لها، وإلاّ
لماذا نرى الإمام (عليه السلام) يربط بين
تعصّب إبليس لأصله، وتعصّب مترفة الأمم لآثار
مواقع النعيم، لو لم يكن لهذا الربط بعده
النفسي لجهة ما يكون عليه المترف في نفسه من
اتباع للهوى، وتقليد للشيطان، قبل أن يكون
مقلّداً لآبائه، وقد عرفنا معنى أن يكون
المترف مقلداً لآبائه فيما عرضنا له من تقابل
بين موقع النبوّة وموقع المترفين، حيث قالوا:
﴿ إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾
[66]
. والحقّ يُقال: إنّ هؤلاء، كانوا متبعين
ومقلدين لإبليس قبل أن يكونوا مقلدين لآبائهم،
لأن منطقهم هو منطق إبليس، وفعلهم فعل إبليس،
فلا معنى لأن نتحدّث عن الترف المادي في سياق
ما نراه من زينة وتزيين، ونعَم اختبر الله
تعالى بها عباده، ولعلّ ما ذهب إليه
الشهرستاني هو خير معبّر وكاشف عمّا يعنيه
الترف منذ النبي آدم (عليه
السلام) وحتى عصر رسول الله، حيث رأى:
«أنّ مَن جادل نوحاً، وهوداً، وصالحاً،
وإبراهيم، ولوطاً، وشعيباً، وموسى وعيسى
ومحمّداً صلوات الله عليهم أجمعين، كلهم نسجوا
على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته،
وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم وجحد
أصحاب الشرائع والتكاليف بأسرهم، إذ لا فرق
بين قولهم: ﴿
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾
[67]
، وبين قوله: ﴿
أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
﴾
[68]
وعن هذا صار مفصل الخلاف، وموضع الافتراق ما
هو في قوله تعالى: ﴿
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ
جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَن قَالُواْ
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً
﴾
[69]
، فبيّن تعالى أن المانع من الإيمان هو هذا
الهوى
[70]
! فأين، إذاً، تظهر لنا حقيقة مقالة
ابن خلدون، وسائر علماء الاجتماع، الذين
يربطون بين الترف والثروة، طالما أن القرآن
يعتبر الترف والمترفون صدى لمقالة إبليس
والشيطان في كل زمان ومكان!؟
نعم، يمكن أن
يكون للمال والولد وتوابعها تأثير على حياة
الترف والمترفين من خلال استغلالهما في مشروع
التصدي لما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) عن ربهم، إلاّ أن
ذلك ليس المسوّغ الوحيد والأساسي لظهور الترف
المادي بكل ما نشأ عنه من فساد في المجتمع
الإنساني... بيد أن هذا الذي نراه من حقيقة
للترف في ضوء الرؤية التوحيدية، ومن خلال
تفكيك موضوع الترف، لا يجعل الترف المادي
الدنيوي، غريباً عمّا زُينت به هذه الأرض،
لكنه يبقى إطاراً ثانوياً لتفسير مقالة
المترفين، وقد تبيّن لنا في ما أوضحه الإمام
علي (عليه السلام) عمّا ناله أولياء الله
تعالى من نعم الدنيا رغم اختلافهم في المقالة
والرؤية عن المترفين، حيث كان لهم الفوز في
الدنيا والآخرة، وهذا إنّما كان لهم لا بسبب
أنهم زهدوا في الدنيا، وتركوا زينتها، وإنما
لكونهم عقلوا عن الله تعالى، ولم يسمعوا لهتاف
الشيطان، واختاروا أن تكون الزينة والثروة
اختباراً لهم في طريق الكدح إلى الله تعالى.
خلاصة القول: إنّ ما بيّنه القرآن وشرحه
الإمام علي (عليه السلام) ، وقدمه علماء
الإسلام الأتقياء في معنى الترف، يخرج الزينة
عن كونها سبباً وحيداً لتعصّب المترفين، ويكشف
أن دعاء النبي موسى (عليه السلام) على فرعون أن
يطمس أمواله، إنما يهدف إلى تعريف فرعون وغيره
من الفراعنة أن الزينة إنّما تحوّلت عن كونها
من حيث الخلقة عارية عن وجوه الاستفساد، وفد
فسدت حينما تلبّس بها فرعون في نفسه، فكان
المرض في قلبه، فزاده الله مرضاً، لأن الله
تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فإذا كانت
الزينة قد استقرت عند المترفين بما لجأوا إليه
من وسائل وأساليب للاحتكار وجمع الثروات، فذلك
لا يشكل دليلاً عن أن الترف هو من توابع
الثروة، وإلا كيف لنا أن نفسّر حقيقة الترف
عند التابعين، الذين بلغ بهم الترف حدّ أن
يقبلوا الاستخفاف، وأن يستجيبوا لنداء فرعون
ضحّى لمقابلة النبي موسى (عليه السلام) مع السحرة، بعد أن تمّ
التوافق على أن يكون اللقاء يوم الزينة، وأن
يُحشر الناس ضحىً، فهل كان هذا الترف متولداً
في أنفسهم من ثروة فرعون وطغيانه، أم كان
الترف نتيجة لاستجابة قلوبهم وميل أنفسهم له
[71]
.
ومن هنا، صحّ قول العلاّمة مغنية بأن الترف هو
ناشئ من المجتمع الذي اختار بإرادته أن يكون
المترفون تعبيراً عن دينهم وكل شؤون حياتهم،
وخير ما يعبّر عن هذه المشهديّة في الترف
المادي، هو ما جاء في سورة طه، والشعراء،
والأعراف، إذ يظهر من منحى القصص القرآنية أن
الترف والفساد كان ولا يزال مرهوناً بما يكون
عليه الناس من أمراض قلبية ونفسية، بعد أن لم
يستجب هؤلاء لما جاء به أصحاب الشرائع
والتكاليف، كما بيّن الشهرستاني في الملل
والنحل.
وهكذا، فإنّ معنى أن يكون المجتمع مترفاً
مادياً، ومستغرقاً في المتاع والزينة والقناطر
المقنطرة من الذهب والفضة، معناه أن المجتمع
لم يعقل عن الله تعالى بأنّ هدى الله هو
الهدى، واختار بإرادته أن يكون له منطق ورأي
واجتهاد إبليس فيما عبّر عنه من كفر وعصيان
وجحود، وتأتي الزينة لتزيد الطين بلّة في
تظهير هذا الترف كبرياءً واستكباراً وعلوّاً
في الأرض، حيث قال الله تعالى: ﴿
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي
الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[72]
، وكما نلاحظ أن الآية تقدم فيها العلوّ على
الفساد، بما يفيد بأنه كلما ازداد العلوّ في
الأرض، كلما ازداد الفساد في المجتمع، لأنّ
العلوّ والاستكبار هو حالة نفسية قبل أن يكون
حالة واقعية، أو موضوعية، ما يعني أن الترف
والمترفين في أجواء الطغيان المادي، هو أنهم
خضعوا وعبّروا عن مرضهم القلبي، وفسادهم
النفسي، الذي أعقبه تنكّراً وجحوداً بالمبدأ
والمعاد، كما قال تعالى: ﴿
فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
﴾
[73]
. وهذا هو دليل على أن القلوب المنكرة، هي
السبب في سوء استخدام الثروة والزينة، كما
أنها السبب في السماع لنداء إبليس بأن
يتحوّلوا عن طاعة الله تعالى، ليكونوا في طاعة
الطاغوت، وقد سبق أن بينّا في مبحث سابق من
الفصل الأول، أنّ الترف ليس مخصوصاً بفئة
معيّنة من الناس، بل هو متشكّل في ضمير الرؤية
والمشروع الإبليسي الشيطاني الذي أقسم بأن
يُزيّن ويُغوي الناس أجمعين، وقد تمّ هذا
الأمر لإبليس إلاّ قليلاً من الناس ممن آمنوا
ولم يجعلوا لإبليس سبيلاً عليهم رغم مجاورة
هذه الدنيا بكل زينتها وزخرفها.
إنّ الترف المادي الدنيوي، هو ذلك الترف الذي
يحوّل الإنسان عن عبودية الله تعالى، ليكون
تعبيراً مادياً، يأخذ شكل البداوة طوراً، وشكل
الحضارة طوراً آخر، وهو في جميع الأحوال يعبّر
عن مشروع إبليس المقابل لمشروع الله تعالى،
الذي حملته النبوّة ودعت إليه في كل زمان
ومكان.
عرفنا أن الزينة التي أخرجها الله تعالى
لعباده ليست شرّاً بذاتها على الإنسان، بل هي
اختبار وامتحان له، كما قال الله تعالى: ﴿
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ...
﴾ ، وكما قال تعالى: ﴿
قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي
أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ
فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾
[74]
.
وإذا كان الله تعالى قد حبّب للإنسان الإيمان
وزيَّنه في قلبه، ورغبه بالزهد في الدنيا، فذلك
إنّما كان من الله تعالى تسديداً للإنسان
وتوفيقاً له كيلا تستغرقه حبائل الغرور،
ومصائد الشرور، بحيث تدفع به إلى التعصّب
لآثار مواقع النعم، فيقول، أنا أكثر منك مالاً
وولداً، كما قال الله تعالى: ﴿
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا
وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً
﴾
[75]
، وقال الله تعالى: ﴿
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ
مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾
[76]
لقد أرشد الله تعالى الإنسان إلى سبل سعادته،
وهداه إلى مسالك العبور في دنيا الغرور، فقال
له: ﴿
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا ﴾
[77]
، وهذا كله إنّما كان إرشاداً للإنسان ليكون
واعياً لدوره ومدركاً لحقيقة استخلافه في
الأرض، ورغم هذا كلّه، فإنّ الكثيرين ممن لم
يعقلوا عن الله تعالى معنى أن يعيشوا النعم،
قد أخذوا بالزهد سبيلاً إلى رفض الزينة،
تماماً كما أخذ الكثيرون بالترف طمعاً، إلاّ
القليل ممن عقل عن الله تعالى، فأخذ بما أمره
الله به، ونهاه عنه، رغبة بما عند الله تعالى،
بعد أن حَلَتِ الآخرة في أعينهم فلم يختاروا
بها بدلاً، ولا ابتغوا عنها حولاً، لأنها دار
أعدّت للمتقين، وقد يكون كافياً ما تقدّم
للتدليل على أن المطلوب من الإنسان في هذه
الدنيا أن يستعمل متاع الدنيا وزينتها على طبق
القوانين التي جاء بها الأنبياء والرسل (عليهم
السلام) كما
أفاد البحراني
[78]
.
كما تقدّم الكلام أيضاً في معنى أن يكون منشأ
الترف المادي والاستغراق فيه إلى حدّ الغرور
والعلوّ، هو النفس الأمّارة بالسوء وما أسس له
إبليس فيما زعمه لنفسه من تمييز وكبرياء، هذا
اللعين الذي صدق ظنّه بأن يكون أكثر الناس
تبعاً له، كما قال تعالى: ﴿
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ
مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن
تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ
إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾
[79]
، وهذا يعني فيما يعنيه، أن الشيطان يضل من
يتولاّه، لأنه جُبل عليه، كما جاء في تفسير
الصافي
[80]
، فأصبح وإياه شيئاً واحداً في القول والفعل.
وهنا نسأل، فما يكون معنى الزينة والمال
والثروة فيما لو كان الإنسان مجبولاً على طاعة
الشيطان، ومأخوذاً بزمامه، غير أن تكون الزينة
أسلوباً ووسيلة لإحكام سطوته وتمتين احتناكه
للإنسان، كما قال تعالى: ﴿
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً
﴾
[81]
.
إذن، الترف المادي الدنيوي، ليس تعبيراً
خارجياً، وإنما هو حالة قلبية نفسية يتمكن
الشيطان من خلالها نصب شراكه، وإدلاء حبائله
لأسر الإنسان وحرفه عمّا أعدّ له من نعيم
الخلد في الدنيا والآخرة.
إنّ ما تقدّم هو بمثابة التأسيس لأطروحة جديدة
نودّ أن نعرض لها في سياق هذا المبحث، حيث نرى
أن الترف الديني السياسي لم يقتصر أمره
وتعبيره على مَن أخذوا بشرع الله تعالى
واحتكموا إليه، باعتبار أنه سبق للفراعنة
والطواغيت، وخاصة في تاريخنا الإسلامي، أن
رفعوا شعار الدين والإسلام لتسويغ الترف بكل
متعلقاته، أسوة بالفراعنة والمترفين في كل
زمان، وكما بيّن الشهرستاني أن الشبهات التي
وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات
التي وقعت في أول الزمان، «كذلك يمكن أن نقرّر
في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملّة وشريعة: أن
شبهات أمته في آخر زمانه ناشئة من شبهات
خصماء أول زمانه من الكفار والملحدين وأكثرها
من المنافقين، وإن خفي علينا ذلك في الأمم
السالفة لتمادي الزمان، فلم يخف في هذه الأمة
أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات منافقي زمن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم يرضوا
بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا
مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عمّا منعوا
من الخوض فيه والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل
فيما لا يجوز الجدال فيه..»
[82]
.
إنه كلام حاكم للشهرستاني فيما يشير إليه
ويؤكّد عليه لجهة أن الأمم والشعوب كانت ولا
تزال تتداول الترف وزينة الحياة بما لا يرضي
الله تعالى، وقد أمرنا الله تعالى في كتابه
العزيز أن نتدبّر حال الأمم السالفة لنتعرّف
إلى ما كان عليه الناس، وما آلوا إليه في
صيرورة تحولاتهم الدينية والإنسانية، حيث قال
تعالى: ﴿
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ..
﴾
[83]
. وقال الإمام علي (عليه السلام) : «استدلوا على ما
لم يكن بما قد كان، فإن الأمور أشباه»
[84]
. إنّ ما صنعه المترفون في الدين يتجاوز
كثيراً ما صنعه المترفون الذين فتنوا بزينة
الحياة الدنيا، ونطقوا جهاراً بلسان إبليس في
مواجهة دعوات الأنبياء (عليهم السلام)، متعصبين لآبائهم
وأموالهم وتقليدهم، جاعلين من ذلك ديناً لهم،
وقد حاوروا الأنبياء (عليهم السلام) على أساس أنهم أصحاب دين
في مقابل دين الأنبياء (عليهم السلام)، وأنهم إنما كان لهم
الامتياز والكبرياء في كونهم أصحاب الثروة دون
غيرهم من الفقراء! فإذا كانوا قد ميّزوا بها،
فكيف يعذبون بها أو عليها!؟
هناك أسئلة كثيرة عرض له القرآن على لسان
المترفين، ويكفي أن نؤكّد هنا على حقيقة أشار
إليها الشهرستاني، وهي أن أهل النفاق ممن
ادّعوا الإيمان وأظهروه، واستبطنوا الكفر
وأسرّوه، هم كانوا أهم تعبير من تعابير الترف،
وأبين دليل عليه، لكونهم أخذوا بأسباب الثروة،
وآمنوا بترف الفراعنة بعد أن استفادوا منه
غاية الاستفادة، وأكثر ما يتجلّى هذا الأمر في
زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث
كان لهم الدور الأبرز في مواجهة الدعوة
النبويّة، وطرح الشبهات تقليداً للكفار
والملحدين والمترفين، وكم يكون الأمر صعباً
ومؤسفاً فيما لو علمنا أن كثيراً من هؤلاء
المنافقين تابعوا خطى أبي جهل، وأبي سفيان،
وأبي لهب، بما كانوا يمثلونه من ترف وكفر
ظاهر، فاقتدوا بهم حرصاً على زينة الدنيا،
والتزاماً منهم بما قطعوه من عهد مع الشيطان
في تهديم الدين الجديد
[85]
! والحق يُقال: إنّ هؤلاء هم الذين
حوّلوا الترف من كونه ظاهرة، بل حقيقة فرعونية
شيطانية ظاهرة ليكون ظاهرة تحمل اسم الإسلام
وتحكم باسم الإسلام، وإلاّ فما يكون معنى
الشهرستاني فيما لو أعرضنا عن هذه الحقيقة؟
فلم يعد الترف ترفاً دنيوياً مادياً له آثاره
الدنيوية في مجالات الحياة الإنسانية، وإنّما
تحول ليكون ظاهرة دينية، وترف ديني يقوم مقام
الفرعون والطاغوت، بل مقام إبليس تحت عنوان
الدين والإسلام، تماماً كما قام مقامه في زمن
الأنبياء السابقين (عليهم السلام) ...
وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على مدى ما
يمكن استكشافه من القرآن فيما عرض له عن ظاهرة
النفاق الملازمة دائماً للترف والمترفين، ولكن
بوجه آخر، وأطروحة أخرى. ألا تلاحظ كيف أن
فرعون حينما ذهب إليه النبي موسى (عليه
السلام) ليقول له قولاً
ليّناً كيف أنه خرج عن طوره، واستشار
زبانيته؟ فقالوا له: ﴿
أَرْجِهْ وَأَخَاهُ .. ﴾
[86]
. فإذا كان فرعون مترفاً، وظاهر الترف والكفر
والعصيان، فما باله يسمع للنصيحة، في حين نجد
الحاكم باسم الإسلام يقتل النجباء ويذبح أطفال
الأولياء باسم الدين والإسلام
[87]
؟ إنها حقيقة عجيبة وناصعة، نرمز من
خلالها إلى ما أسميناه بالترف الديني السياسي،
الذي حمله الكثير في زمن مضى، حيث تحوّل الترف
مع المنافقين والطلقاء وأبنائهم من كونه ظاهرة
فرعونية مكشوفة الكفر والعصيان والجحود، ليكون
ترفاً دينياً مجرماً سبق لفرعون أن عبّر عنه،
كما قال الله تعالى: ﴿
إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ
أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ
﴾
[88]
.. وهذا الدين، الذي هو في عرف القرآن سنّة
اجتماعية في المجتمع الإنساني، كما يرى
الطباطبائي
[89]
، تحول في تاريخ المسلمين ليكون تعبيراً عن ما
أشار إليه فرعون من دين وطريقة مثلى في
الحياة! إذ هو لا يختلف عنه في شيء، طالما أنه
له المؤدّى ذاته، من حيث هو ترف تبدّل من كونه
سنّة فرعونية، فأصبح سنّة إسلامية لا تنطبق في
شيء على ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم).
وهنا تجدر الإشارة إلى مفارقة مهمة جداً، وهي
ما يعرضه القرآن من مشاهد عن الحوار بين النبي
موسى (عليه السلام) وفرعون، وما تبع هذه
الحوارات مع قوم النبي موسى (عليه السلام) بعد فرعون، حيث نجد أن
الترف الفرعوني كان قليلاً إزاء ما بدر من قوم
النبي موسى (عليه السلام)، باستثناء أولئك السحرة الذين آمنوا،
وقالوا لفرعون: ﴿
فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي
هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾
[90]
، وهو كلام كاشف عن حقيقة الإيمان في مقابل
أولئك المترفين، وهم الأكثرية، الذين قالوا: ﴿
إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ
الْغَالِبِينَ ﴾
[91]
، وهنا تتجلّى الحقيقة الفرعونية فيما نطق به
هؤلاء، والمشهد ذاته نجده في حوار النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) مع قومه الذين أترفوا
وقالوا له: «اعدل يا محمد، فإنّك لم تعدِل»
[92]
، وكانت النتيجة أنهم مرقوا من الدين كما يمرق
السهم من الرميّة، حيث خرجوا على النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، واستكبروا في الأرض
وكانوا قوماً مترفين.
تلكم مفارقات وموافقات عجيبة وفريدة في ما
يعنيه الترف الديني الذي كان شعاراً لفرعون،
قبل أن يكون شعاراً لمترفة الأمة الإسلامية،
إذ لا بأس أن نسمّيه بالترف الديني لكونه
واجهة جديدة أُريد من خلالها اقتناص الدين
الجديد وتحوله عن كونه ديناً إلهياً ليكون
ديناً أموياً، أو عباسياً، أو عثمانياً.
وهكذا حصل حيث تحوّل الدين إلى فرعونية جديدة
قوامها المال والسلطة وولاية العهد، وغير ذلك
مما حفل به تاريخ المسلمين من عناوين في الدين
والسياسة. ولعلّ الأمر يصبح أدهى فيما لو
علمنا أن أحد الحكام المسلمين، لم يجد في
حروبه ما يتغنّى به سوى الافتخار بأجداده،
فقال: ليت أشياخي ببدر شهدوا...، ولكن شهدوا
على ماذا؟ على قتل ابن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) في كربلاء. وذلك كله إنّما كان منه
بهدف أن يعتدل الميزان بين قتلى الشرك
والوثنية والترف، وقتلى أولياء الأنبياء
(عليهم السلام) ؟ وبعد
هذا كله يُقال: أين الترف الديني؟ وهل يصحّ أن
نسمّيه بالترف باعتبار أنها كلمة مذمومة
قرآنياً، إلى غير ذلك من المزاعم التي يُنتصر
بها للترف الديني في عالمنا الإسلامي.
وهكذا، فإنّ معنى أن نحيط بهذه الظاهرة،
الحقيقة، أن نهتدي بهدى القرآن لتوضيح معنى
الترف وتمييزه عن التقوى والطاعة لله تعالى.
ولو أن المسلمين كما قال الشهرستاني وكثير من
علماء المسلمين سمعوا عن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وعقلوا عنه معنى الدين بما هو
عقيدة وشريعة إلهية، لا بما هو سنّة اجتماعية
دائرة في الاجتماع الإنساني لما آل أمرهم إلى
أن يكونوا حيارى في زلزال من الأمر، وفي بلاء
من الشك، ولما استبدّ بهم أمثال ذي الخويصري
التميمي الخارجي الذي جاء اتهامه للنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بعدم العدل، تعبيراً عن
حالة مترفة الأمة الإسلامية، الذين تعاقبوا
على حكم المسلمين، وقتلوا الأولياء الصالحين،
في وقت لو كان فرعون موسى (عليه السلام) هو
الحاكم فيهم لما قتل الأولياء، لأنه لم يسبق
له أن قتل السحرة، بل قال لهم: ﴿
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً
وَأَبْقَى (71) قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ
عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا
لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا
أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾
[93]
.
إنّ ما شهده تاريخنا الإسلامي من ترف ديني
وسياسي ليس له ما يشبهه في تاريخ الأمم
والشعوب، والدليل على ذلك هو ما قاله رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما أوذي نبي
مثلما أوذيت»، وهذا يدلّ على مدى ما تعرض له
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة
مترفة زمانه من منافقين وطلقاء وغيرهم، هذا
فيما لو كنا نودّ الحديث عن زمان النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وحضوره، فما يكون عليه
الحال، وينتهي إليه المآل فيما لو أردنا أن
نخرج من السقيفة الأولى بعد وفاة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) إلى زماننا هذا؟ فما
يكون عليه الحال، وماذا يمكن أن يقال، غير أن
الذي حدث وجرى هو نهاية المقال!!!؟
فإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في
زمانه، رغم صعوبات أيامه، قد حوّل المجتمع
المترف إلا قليلاً، من مجتمع وثني تتحكم به
الجاهلية الجهلاء، إلى مجتمع إسلامي حقيقي،
يفتخر فيه الناس بروح الشهادة، وعظيم الصبر،
وعزيمة الجهاد، كما يرى شمس الدين
[94]
، فإنّ هذا المجتمع بعد وفاة الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)، وإن كان حافَظَ على روح
العقيدة والشريعة، إلاّ أنه تحوَّل سراعاً إلى
مجتمع مترف يتخذ من الدين شعاراً ودثاراً
لترفه كما بيّن إمام عبد الفتّاح إمام في
كتابه الطاغية
[95]
إذ هو يكشف عن أسرار هذا الترف الديني
والسياسي الذي مارسه الخلفاء، والذي تبدّى
المجتمع الإسلامي من خلاله وكأنّه عالم من
الوحشية يسوده الظلام، وتكتنفه حيرة الثكلان،
وخاصة فيما يشير إليه من حال الفقهاء والعلماء
وأصحاب المدارس والفرق الإسلامية التي يهون
معها أن تقرأ سيرة فرعون وقارون وهامان، لأنّك
قد تجد شيئاً من العقل والسياسة، بل والمنطق
أحياناً في مجادلتهم، أما مع ما حفل به عالمنا
من حكام، فذلك مما لا يمكنكك تصوّره ولا
تصديقه نظراً لما تعثر عليه من كفر وجحود
وعصيان تجلّت أكثر ما تجلّت فيما زعمه هؤلاء
الحكام المترفون من ظلّيّة سماوية، وحاكمية
إلهية، وعهدية زمانية عنونها الحاكم الأموي
بقوله بعد أن بويع بالخلافة وهو يقرأ القرآن،
قال: «إنّ هذا هو آخر عهدي بك»
[96]
، فما بالك بذلك الذي قال: إن سألك فقل له
مزّقني الوليد
[97]
...
نعم، إنّ الذي
قيل في كربلاء، وفي كل معارك الإسلام الناصعة،
هو أن الله خير وأبقى، المقالة الممتدة من
النبي آدم (عليه السلام) إلى يوم يبعث الإنسان للحساب،
مقالة امتدّت في زمان الأنبياء (عليهم السلام)، وتحققت على
نحو يؤكّد أن ما خفي علينا من الأمم السالفة،
لم يعد خافياً على أحد ممن اعتبر واتقى ورأى
بأمّ عينه كيف أن الأيام يتداولها الناس،
ويتعرّفون إلى حقائقها وفاق السنن التاريخية
الحاكمة، كما بينّا سالفاً، إذ إنّ الناس على
إثر بعضهم بعضاً، وكما قال الإمام الحسن (عليه
السلام) . إنها السنن والأمثال يشبه بعضها
بعضاً، فما يخفى على أحد أن الترف الديني بكل
تجلّياته الجاهلية لم تنفرد به الأمة
الإسلامية، بل كان يظهر مع كل أمة كانت تفتقد
نبيّها سواء بالغيبة، كما حصل مع النبي موسى
(عليه السلام) ، أو بالموت، أو بالقتل، حيث
نجد هذه الأمم تنتج جبابرتها من علماء وحكّام
مترفين ليكونوا بديلاً للفرعونية الظاهرة،
التي، كما رأينا، أنها كانت في بعض مظاهرها
أخفّ وطأة من الفرعونية المقنّعة التي عايشها
الناس طيلة قرون من الزمن. كما أنه لا يخفى
أيضاً، وهو من الأهمية بمكان، أن نشير إلى ما
جرى مع النبي موسى (عليه السلام) حينما ذهب
لميقات ربه لمدة أربعين ليلة، وكانت النتيجة
ما جرى مع أخيه هارون حيث ظهرت الفرعونية في
وسط النبوة، متمثّله بأولئك الذين فتنوا
بالسامري، واتخذوا منه إلهاً يعبد من دون الله
تعالى قبل أن تجفّ أقدامهم من ماء البحر!؟
[98]
.
وهكذا، فإنه
من العجب أن لا يعتبر الإنسان مما جرى، فيقوم
بتقليد واتباع ما سبق له أن علم وهنه وضعفه
وهوانه، وقد سبق لعلي (عليه السلام) أن قال:
«ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار»
[99]
. تلك هي حالة الأمم مع الأنبياء (عليهم
السلام) ومن دونهم،
وقليل هو عدد الذين يعتبرون ويتّعظون بما جرى
ويجري، وهذا كلّه ناشئ من كون الإنسان لم يحسن
التعرف إلى حقيقة ما ينبغي أن ينتمي إليه من
عقيدة وشريعة، بل إنه لم يدرك حقيقة العبادة
ولمن ينبغي أن تكون حتى يكون شكره لها وافراً،
بحيث يكون مصداقاً لأولئك الذين عبدوا الله حق
عبادته وانتموا إليه حقيقة الانتماء، أما
أولئك الذين غابوا في ترف الأيام والأحلام،
فهم أعجز من أن يكونوا قادرين على أداء الشكر،
كما قال تعالى: ﴿
وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
﴾ . وإذا كان الحال
مع ربّ العباد كذلك، فما يمكن أن ينتظر من
هؤلاء في صروف الدهر ومكارهه، وفي غياهب الترف
ومسالكه. إنّهم تمثّلوا حال الأمم السالفة
فضلّوا وأضلّوا، وكانوا مصداقاً لما شبّهوا به
على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بأنهم أتباع وتمثّلات حقيقية لتلك الأمم التي
شبّهوا بها، قدرية الأمة، ومجوس الأمة، ويهود
الأمة، ونصارى الأمة، كما قال (صلى الله عليه
وآله وسلم): «لتسلكنّ سُبل الأمم قبلكم حذو
القذّة بالقذّة، والنعل بالنعل، حتى لو دخلوا
جُحر ضب لدخلتموه»
[100]
، إنه معنى الوحي الذي أنبأنا به رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأرشدتنا إليه
تجارب الأمم فيما كانت لها من تجارب وأحداث،
وإيمان وكفر، وترف مادي وديني. وإذا بقي لنا
أن نقول شيئاً في معنى الترف الديني والسياسي،
فإننا نقول: إنّ الأمة الإسلامية فيماانتهت
إليه في عصرنا الحاضر، هي امتداد حقيقي لا لمن
سلف منها، وإنما لكل الأمم التي عملت فيها
السنن، وغابت عنها الحكم، وكانت النتيجة تحول
هذه الأمة إلى مجوس وقدرية وفرق لا تعدّ ولا
تحصى، ومثلما أن أمةً من الأمم لم تخلُ من
عباد صالحين، وشهداء أحياء، وأولياء عاملين
لهدايتها، تماماً كذاك المشهد المزدوج الذي
تجلّى في أمة النبي موسى (عليه السلام) ، حيث نجد
كيف أن السحرة خرجوا من دائرة الترف الفرعوني
غير آبهين، وفي مقابل هذا المشهد نجد أمة
النبي موسى
(عليه السلام) في مشهد آخر تخرج إلى عبادة
العجل وتسمع للسامري في ما ادّعاه لها من إله،
فهذه مشاهد ليست حكراً على أمّة من الأمم،
وإنّما هي من تجلّيات مخاضات الأمم فيما تعيشه
من كفر وإيمان، وترف وطغيان، ولا بدّ أن في
هذه الأمة الإسلامية مَن خرج أو يخرج ليقول:
«ربّنا اغفر لنا خطايانا وما أُكرهنا عليه من
السحر أو الترف» اعتقاداً منهم بأن الله
خيرٌ
وأبقى.
إنّ قولنا هذا يمكن أن نسوّغ له من خلال آيات
الله تعالى التي هي خير مرشد لمن تدبّر بها
واتعظ منها، لأنها كلمات الله التي لا تنفد،
ولا تبدّل، وهي ناطقة بالحق، وقد اقتضى منا
هذا المبحث أن نركّز على سياق الآيات القرآنية
وليس على النصوص التاريخية، لأنّ القرآن هو
خير مرشد للباحث في طريق بحثه، كيف لا وقد قال
الله تعالى فيه: ﴿
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ .. ﴾
[101]
، ونسأل الله العليّ القدير أن نكون من
المهتدين والمعتبرين والمتدبّرين في آياته،
وقد نكون، إن شاء الله، وفّقنا إلى ملاحظة بعض
الحقائق في سياق حديثنا عن الترف والمترفين،
وخاصة في مجال ما يدّعيه المترف من قول أو
فعل، سواء في الماضي أم في الحاضر، في الأمة
الإسلامية، أم في غيرها من الأمم. والحق
يُقال: إن الأمة الإسلامية خرجت عن كونها خير
أمّة أخرجت للناس بفعل إرادتها وليس رغماً
عنها، إذ هي لم تميّز في تاريخها بين أن تكون
تحت حكم الفرعون والطاغوت والمترف، وبين أن
تكون تحت حكم ووصاية أولياء الله تعالى، فكان
لها ما أرادت، والله غالب على أمره، ولا معقّب
لحكمه، ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً. وقد
قال الإمام علي (عليه السلام) : «واحذروا ما نزل
بالأمم قبلكم من المثُلاتِ بسوء الأفعال وذميم
الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أفعالهم،
واحذروا أن تكونوا أمثالهم... وتدبّروا أحوال
الماضين من المؤمنين قبلكم، كيف كانوا في حال
التمحيص والبلاء، ألم يكونواأثقل الخلائق
أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا
حالاً، اتخذتهم الفراعنة عبيداًفساموهم سوء
العذاب، وجرّعوهم المُرار، فلم تبرح الحال بهم
في ذلّ الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلة في
امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع، حتى إذا رأى
الله جدّ الصبر منهم على الأذى في محبّته
وإلاحتمال للمكروه من خوفه جعلَ لهم من مضايق
البلاء فرجاً، فأبدلهم العزّ مكان الذلّ،
والأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكاً حكاماً،
وأئمة أعلاماً، وبلغت الكرامة من الله لهم ما
لم تذهب الآمال إليه بهم...»
[102]
.
عرضنا في مبحث الترف والفساد وما بينهما من
اتصال لمعنى أن يكون الترف حقيقة نفسية قلبيّة
قبل أن يكون مظهراً خارجياً، أو تعبيراً
ظاهرياً للإنسان، أو المجتمع. وقد رأينا كيف
أن المترف هو إنسان ينطوي على اعتقاد ورؤية
دينية، أو فكرية تجعله أسير شهواته وملذاته،
هذا فضلاً عن كونه، أي الإنسان المترف، ينضوي
على خصائص ومميزات تتقاطع مع كل ما أسس له
إبليس في منظومة الخلق والحياة، وهذا ما أطلق
عليه بعض الباحثين«فقه إبليس» لكونه يقوم في
جوهره على الحسد والكبر والتفاخر
[103]
، وبعضهم أسماه باللعين الأول الذي تمرّد على
أوامر الله تعالى، واختار أن يكون عدوّاً لآدم
(عليه السلام) إنها العداوة التي تأسّس
عليها الكثير من المفاسد في عالم الخلق بعد أن
توعّد إبليس وأرعد أن يكون مضلاً للإنسان،
ودافعاً به إلى أن يكون تعبيراً عنه في كل
ميدان من ميادين الحياة، ولعلّنا قد بينّا بعض
الآراء المهمة التي من شأنها أن توضّح مدى
الارتباط الوثيق بين المترفين وما يحدثونه في
المجتمع الإنساني، وبين الفقه الإبليسي القيّم
على الإضلال والغواية، وهذا إنّما رأيناه
ضرورياً لكونه يقوم على أساس الرؤية الموضوعية
للآيات القرآنية التي ربطت وقابلت بين
الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، فلو لم يكن لهذا الربط
دلالاته، لما رأينا القرآن يُرشد إليه على
النحو الذي يخرج المترفين عن كونهم أصحاب سلطة
ومال وثروة وقوة، ليكونوا أصحاب رؤية وموقف
وعقيدة يترجمون من خلالها مفاسد ثرواتهم
وأموالهم، وكما قلنا: إنّ المترف إنما هو مترف
لكونه يشكل امتداداً لإبليس والشيطان في
أطروحته للحياة، وليس لكونه يملك الأموال
والثروات، وإن مما يدلّ على هذه الحقيقة، هو
ما تفيده الآيات القرآنية الكثيرة التي عبر
بها المترفون عن حقيقة مشروعهم وانتمائهم، كما
في قوله تعالى: ﴿
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾
[104]
، وقوله تعالى: ﴿
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ
جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَن قَالُواْ
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً
﴾
[105]
، إلى غير ذلك من الآيات التي تفيد التلاقي
بين إبليس والمترفين، سواء في الرؤية
والاعتقاد، أم في المنطق والسلوك. ومن خلال
هذا المعنى التي تتضمنه الآيات يمكن لنا أن
نفهم حقيقة التقابل بين مشروع النبوة بما هو
امتداد لإرادة الله تعالى وشريعته، ومشروع
المترفين بما هو امتداد لفقه إبليس ومعصيته،
وعلى هذا تتابعت البشرية منذ النبي آدم (عليه
السلام) إلى زمن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، ويبقى هذا الامتداد مستمراً ما
دامت الدنيا والحياة عليها قائمة.
وهكذا، فإنّه في ضوء ما تقدم يمكن لنا أن نبحث
موضوع صناعة الفساد من خلال منهجنا الموضوعي،
الذي نرى فيه المنهج المناسب جداً لاستيعاب
حقيقة موضوع الترف والفساد في القرآن الكريم،
وهذا ما يقتضي منا أن نفصل بين المواضيع
القرآنية بهدف الاستفادة من حقيقة التمايز
القائمة فعلاً بين ما تشير إليه الآيات في
صناعة الفساد، إذ هناك بعض الآيات تتحدث عن
الفساد بما هو صناعة خاصة بأناس معينين، وفي
آيات أخرى تنسب صناعة الإثم والعدوان والفساد
إلى الأحبار والرهبان والعلماء، وهذا ما يقتضي
منا كما أشرنا إفراد عناوين خاصة نعالج من
خلالها موضوع المترفين والفساد، على أن يكون
هذا المبحث منقسماً إلى قسمين، قسم يتناول
صناعة الفساد عند الولاة والحكام، وقسم يتحدّث
عن صناعة الفساد عند العلماء والأحبار.
هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تلحظ
الصنع ومعناه، وترشد إلى مدلولات مختلفة له،
فالصنع تارة يأتي بلحاظ كونه تعبيراً عن غاية
الإتقان في الخلق، وطوراً يأتي بلحاظ كونه
عملاً إنسانياً له دلالاته في القول والفعل،
من قبيل قوله تعالى باللحاظ الأول: ﴿
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
﴾
[106] ، وباللحاظ
الثاني قوله تعالى: ﴿
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً
مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ
اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعَُونَ
﴾
[107] . وقال تعالى: ﴿
أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ
حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
[108] . هذه جملة من الآيات
المباركة التي تعرضت لمعنى الصنع ودلالاته،
وقد أتينا على بعض هذه الآيات لكوننا سنعرض في
سياق بحثنا لجملة الآيات القرآنية في موارد
مختلفة، وحيث يقتضي أن تكون الدلالة ظاهرة
المعنى فيما نريد التدليل عليه والإشارة إليه.
وعليه، فإنّ معنى الصنع، كما أفاد أهل اللغة،
يأتي بمعنى الفعل والإتقان فيه، كما رأى
الراغب في مفرداته، بأن كل صنع فعل، وليس كل
فعل صنعاً
[109] ، وجاء في لسان العرب
معنى صنع، فيقال: صنعه يصنعه صنعاً ومصنوع
وصُنعُ عمله، وقوله تعالى: ﴿
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾
[110] ، تأويله: اخترتك
لإقامة حجتي... والاصطِناع: افتعالُ من
الصنيعة، وهي العطية والكرامة والإحسان.
والصناعة: حِرفة الصانع، وعمله الصنعة، ورجل
صَنيع اليدين، وصِنع اليدين، بكسر الصاد، أي
صانع حاذق، وامرأة صُناعُ اليدِ حاذقة ماهرة
بعمل اليدين
[111] .
إذن، الصناعة، كما أفاد أهل اللغة، ليست مجرّد
فعل، وإنّما هي اختيار ووعي وحذاقة، وإتقان
فيما يريد الإنسان القيام به من فعل
[112] . أما لجهة
الدلالة فيما يعنيه صنع الله تعالى، فالصنع،
كما يرى ابن منظور، عن ابن إسحاق، أن القراءة
بالنصب ويجوز بالرفع، فمن نصب فعلى المصدر،
لأنّ قوله تعالى: ﴿
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ ، دليل
على الصنعة كأنه قال صَنعَ اللهُ ذلك صُنعاً،
ومن قرأ صُنعُ الله، فعلى معنى ذلك صُنعُ الله
تعالى
[113] .
غاية القول:
إن لهذه المفردة دلالات مختلفة في القرآن
الكريم، ما يقتضي لحاظ معناها في سياق مبحثنا
لكونها تدلّل على أن هناك أفعالاً ناشئة عن
وعي واختيار وحذاقة، وأخرى ليس لها المؤدّى
ذاته، وهذا ما نودّ التعرض له في مبحث صناعة
الفساد عند المترفين، على اعتبار أن القرآن
إنّما عرض لهذه المفاهيم المختلفة بهدف
الاستفادة منها في تحديد ملامح الشخصية
الإنسانية أولاً، وملامح المجتمعات الإنسانية
ثانياً، وذلك من منطلق أن النص القرآني لم
يأتِ من خارج الواقع والتجربة الإنسانية، بل
هو يعبّر عنها في إطار رؤية شاملة تستوعب
حقيقة ما هو عليه الإنسان، سواء فيما هو كائن
عليه، أم فيما ينبغي أن يكون عليه. ومن هنا
قال العلماء: إن المورد لا يخصص الوارد، وإنّ
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهم إنّما
لحظوا هذا في شروحهم وتفسيرهم لكون النص حاكم
على التجربة، ومستوعب لها، وكاشف عمّا تقتضيه
حقيقة التحوّل الإنساني في سياق السنن
التاريخية والاجتماعية الحاكمة والسارية في
الزمان والمكان والإنسان.
وانطلاقاً مما
تقدم، نرى أن صناعة الفساد في المجتمع
الإنساني لا تلحظ في القرآن في سياق مجرّد عن
وعي الإنسان وإدراكه، وإنّما هي تأخذ الواقع
وتدلّل عليه من خلال رؤية موضوعية شاملة، وهذه
الرؤية القرآنية الشاملة تقول إن منشأ الفساد
في المجتمع الإنساني لم ولن يكون نتاج صدفة،
أو تحوّل فجائي، بل هو ناشئ عن حذاقة فعل ووعي
وإتقان يقوم بها المترفون لإحداث تحوّلات
سياسية واجتماعية وثقافية ملائمة ومعبّرة عن
مشروعهم الهادف إلى تحويل المجتمع عن وجهته
فطرياً واجتماعياً، وقد بينّا سابقاً ما للترف
من دور في صناعة الفساد بما هو فقه، لا بما هو
مال وثروة، وهذا ما أرشد إليه القرآن في كثير
من آياته، فهو حين يعرض لعمل السحرة بقوله
تعالى: ﴿
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا
صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ
وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى
﴾
[114] فصنع السحرة لم يكن
مجرّد عن الوعي والإتقان، بل كان صنعاً واعياً
وهادفاً إلى إضلال الناس، والتأثير على قلوبهم
وعقولهم ليكونوا تحت تأثيرهم اجتماعياً
وسياسياً، وقبل ذلك الهيمنة على أفكارهم
ليكونوا بمنأى عن أي تحوّل من خارج الرؤية
الفرعونية، فهم يُجيدون فنّ السحر لا من حيث
هو مجرّد عمل أو مهنة، أو غير ذلك مما يأتي به
الإنسان من أعمال في حياته، بل هو سحر قائم
على فقه ووعي بضرورة أن يبقى الناس أسرى لهم،
كما قال تعالى: ﴿
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ
كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
[115] . إنّ الهدف واضح ولا
بدّ من تسويغه في إطار من الوعي الاجتماعي وعن
أي طريق، سواء عن طريق السحر، أم عن طريق آخر
يمكن أن يختاره المترف لتسويغ أطروحته في
الحياة، وهذا ما يمكن تلمّسه من تاريخ
الفراعنة والمترفين، وما التجربة الإسلامية
عنا ببعيدة، حيث الحكام والولاة يعتمدون
الأساليب والوسائل ذاتها في إقناع الناس
ليكونوا مندمجين في مشروع الترف ضدّ النبوة،
وقد بيّن لنا ابن خلدون
[116] ، وغيره ممن
كتبوا في الاجتماع البشري والتاريخ، كيف أن
الحكام الأمويين والعباسيين قد تفنّنوا في
وجوه الصنع لتحويل الناس عن مشروع النبوّة،
ويمكن للباحث أن يأخذ عيّنات من تاريخ
المسلمين ليكشف بنفسه مدى ما وصل إليه الصنع
الحاذق في السياسة والدين معاً لتسويغ نظرية
هذا الحاكم أو ذاك، وخاصة في العصر الأموي،
الذي أعطى للترف أبعاداً ووجوهاً لم يهتدِ
إليها الفراعنة في تاريخهم»
[117] !؟
كما نلاحظ أيضاً أن القرآن جاء بمفردة الصنع،
وبصيغة المضارع في كثير من الآيات، فقال تعالى
في أهل الكتاب، وفي النصارى تحديداً: ﴿
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾
[118] ، وقال
تعالى: ﴿
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
[119] ، وقال تعالى: ﴿
قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ
ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
[120] ، ولعل أهم ما يمكن التوقف عنده في
هذا المبحث هو ما عرض له القرآن في سياق ما
تعنيه الصلاة وتلاوة الكتاب، حيث قال تعالى: ﴿
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ﴾
[121] ، ولهذه الآية
دلالات كبيرة وعظيمة فيما لو أردنا أن نقف على
ما يعنيه الصنع في سياقه لجهة ما تعنيه
التلاوة للكتاب والصلاة، ولكن هذا الأمر خارج
عن المبحث ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لبحث
هذا الموضوع في مبحث مستقل.
وكيف كان،
فإنّ صناعة الترف بما هي صناعة فساد يقوم بها
الحكام في كل زمان ومكان وفقاً لرؤية وفقه
تحقيري، وقد تابعهم فيها المنافقون الذين لم
يدّخروا جهداً إلاّ بذلوه لاكتساب مغانم
المترفين والفراعنة، باعتبارهم يشكّلون
الامتداد الحقيقي لعقائد الشرك والوثنية، حيث
نجد في التاريخ الإسلامي كيف أنهم تابعوا
المترفين، وعبّروا عن منظومتهم تحت ستار الدين
والإسلام والخلافة والشورى، مستخدمين كل وسائل
الترف والنفاق للحفاظ على مصالحهم السياسية
والاجتماعية والاقتصادية، سواء من خلال الدين،
أم من خلال غيره، فإذا كان الدين يؤمن لهم ما
يبتغونه، فإنّهم كانوا يأخذون به ويرفعونه
شعاراً لهم، كما جرى في صفّين والجمل
والنهروان حتى زماننا هذا، فإنّنا نجد أكثر من
يُجيد صناعة الدين، بماهو سنّة اجتماعية دائرة
في المجتمع والنفاق، يقوم بممارسة كل شيء لأجل
تظهير ذاته دينياً وسياسياً واقتصادياً على
النحو الذي يوحي بأنه يجسّد الحق وأهله، وهو
إنما يلجأ إلى هذه الأعمال لغايات أخرى لا
تختلف عمّا كان يقوم به من سبقه من السلف،
وهذا، كما بينّا، من السنن التي ينبغي الفهم
لها والاعتبار بها، لأن الإنسان لم يترك سدى،
وقد خصّه الله تعالى بما يؤهله لأن يكون
صانعاً لقوله وفعله بما يخدم إنسانيته، ويُعطي
خلافته في الأرض معناها الحقيقي، بحيث يكون له
الامتداد الإلهي، وليس أي امتداد آخر مما
اختاره الشياطين وإبليس والمترفون. إنّه صراع
حقيقي دائر بين الناس منذ أن هبط النبي آدم (عليه
السلام) إلى
الأرض، بين إنسان اختار أن يكون امتداداً
لهُدى الله تعالى، وبين إنسان آخر اختار
التحول عن ذات نفسه، وعن فطرته وشهادته ليكون
تعبيراً عن الشيطان ومنطقه. ولولا أن الله
سبحانه وتعالى قد نصر عبده فيما هيّأه له من
ظروف ووسائل وقوة عقل ومنطق وصبر لما تمكن
الحق وأهله من متابعة هذا الصراع الذي وعد
الله تعالى بأن يكون النصر فيه حليف الذين
آمنوا وعملوا الصالحات
...
لا شكّ في أن
بحثنا هذا لا يبغي التأريخ لحكّام الفساد في
التاريخ الإنساني، ولا هو هادف إلى التعرّف
إلى جودة أو هشاشة صناعاتهم فيما أجادوا فعله
في تاريخ الإنسان لإغوائه، بل أردنا فقط وفقط
أن نؤسّس لرؤية قرآنية واضحة تعزّز فرضية أن
ما يقوم به الحكام والولاة في كل زمان من خارج
دائرة الوحي والنبوة، هو صناعة شيطانية ينبغي
بل يجب الحذر منها والقيام بما يلزم لمواجهة
مفاعيلها الاجتماعية والسياسية والدينية كما
أمر الله تعالى، على اعتبار أن الإنسان مخلوق
مختار ومكلّف بأن يقوم بالدور المناط به في
دائرة وجوده، هذا فضلاً عمّا خصّه الله تعالى
به من وحي وهداية وكلمات تامّات لا تبديل لها
[122] تشكّل ضمانة
استمرار هذا الإنسان حياً على مدى الأزمان.
وقد تمكّن الأنبياء (عليهم السلام) ومن سار في خطهم واتبع ما
صنعوه للمؤمنين من تحولات إيمانية وإنسانية
بهدف الوصول إلى مستوى إدارة عملية الصراع
وهزيمة المترفين، كما قال الإمام علي (عليه
السلام) : «فانظر
كيف كانوا حيث كانت الأمْلاءُ مجتمعةً،
والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلةً، والأيدي
مترادفةً، والسيوف متناصرةً، والبصائر نافذةً،
والعزائم واحدةً، ألم يكونوا أرباباً في أقطار
الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين...
فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين
وقعت الفرقةُ، واختلفت الكلمة والأفئدة..، قد
خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة
نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً
للمعتبرين..»
[123] .
إنّ أدنى
تأمّل في تاريخنا الإسلامي لا بدّ أن يكشف عن
حقيقة مفادها أنّ صناعة الفساد التي اختارها
الحكام والولاة طريقاً للفوز في الدين والدنيا
لم تفلح رغم كل ما وقع في تاريخنا من مساوئ،
لأنّ مشروع النبوّة ضمن للإنسان المؤمن أن
يكون عزيزاً وحيّاً في كل تحوّلاته، وليس
صحيحاً ما يدّعيه البعض ممن اختاروا التعادل
في طرح رؤيتهم الإسلامية، أن الولاة والحكّام،
وإن كانوا تميّزوا في الفساد والفجور، إلاّ
إنهم قدّموا للأمة الإسلامية إيجابيات جمّة
على مستوى الدين والسياسة
[124] ، وكذلك ليس
صحيحاً ما زعمه بعضهم من أن الأمويين لم
يعرّضوا الإسلام والمسلمين للخطر، كما هو مفاد
وخلاصة ما ذهب إليه الأستاذ محمد قطب في كتابه
التاريخ
[125] ، وإنما الصحيح هو أن
يُقال بأن المترفين ممن أجادوا صناعة الفساد
في تاريخنا الإسلامي لم يتمكّنوا من إحكام
سيطرتهم على الدين الإسلامي لما واجهوه من
ثورات إيمانية وحركات نبوية وإصلاحية منعت
هؤلاء المترفين من التمادي، وأسّست لمشاريع
المعارضة الصادقة، ولصناعة فكر إسلامي تمتدّ
به الأمة الإسلامية في التاريخ والزمان، وليس
بعيداً من هذا أن نذكر ما حقّقته كربلاء من
صناعة في الفكر والعمل، في الدين والسياسة،
وفي جميع ما له دخالة بحياة الإنسان وسعادته
في الدنيا والآخرة.
كما تجدر
الإشارة هنا أيضاً إلى ما عرض له القرآن من
رؤية في إطار الكشف عن مشروع المترفين وما
يتسبّبون به من أزمات على مستوى الواقع
الإنساني، بعد أن عرضنا لكل مساوئهم
وامتداداتهم الشيطانية بالفكر والعمل وصناعة
الفساد، فنقول: إنّ الإسلام ينسب إلى هؤلاء
صناعة الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي،
فضلاً عن الفساد الديني، حيث قال تعالى: ﴿
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا
رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ
لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ
يَصْنَعُونَ ﴾ [126]
.
لقد توقّف
المفسرون للقرآن مليّاً عند هذه الآية،
واستغرقوا فيها من حيث المفهوم واللغة
والدلالة، ولجهة ما ترمز إليه من مخاوف
اجتماعية واقتصادية بما كسبت أيدي الناس، وقد
عبّر الله تعالى باللباس للإحاطة، والقرية هنا
هي تجسيد للحياة الإنسانية حيثما تجلّت،
ولكنهم لم يلتفتوا إلى معنى وحقيقة الصنع في
الآية، واكتفوا بمجرّد الإشارة إلى قدرة الله
تعالى وإنعامه على الإنسان فيما يحتاج إليه
لتأمين استقراره، ومعيشته، مع الإشارة من قريب
إلى سبب نزول هذه الآية التي نرى أنها تحملُ
مدلولات عظيمة جداً يمكن لمن يعمل في حقل
الاقتصاد، أو علم الاجتماع السياسي، أن يُظهر
مكوّنات هذه الآية المباركة من خلال إعطاء فعل
الصنع معناه الحقيقي، فيخرج به عن كونه مجرّد
فعل، ليعطيه بُعده في دائرة الوعي القيادي
للمجتمع، باعتباره هو المسؤول عن صناعة
الفساد، والقائم بها، وهذا الوعي غالباً ما
يكون متمثلاً بنخبة سياسية واقتصادية حاذقة
تؤدّي بالمجتمع نتيجة فسادها إلى أن يذوق لباس
الجوع والخوف بما صنعوا
[127] .
هذه هي
الخلاصة التي أردنا الانتهاء إليها في مبحث
الولاة وصناعة الفساد من منظور قرآني، حيث
تبيّن لنا أن تأكيد القرآن على صناعة الفعل
ليس هادفاً إلى تبيان مجرّد الفعل الصادر عن
الإنسان، وإنّما هي صناعة هادفة متقنة لفعلها
في كل دوائر الاجتماع الانساني، ما يعني ضرورة
التأمل في هذا المصطلح، والتأكيد عليه لجهة
دلالاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،
على نحو يمكّن الباحث من إدراك خطورة هذه
الصناعة التي نسبها الله تعالى في كتابه
العزيز إلى أهل الكتاب تارةً، وإلى السحرة
طوراً آخر، وإلى المسلمين ثالثة، لأنّ مقصود
القرآن من هذا أن يعي الإنسان حقيقة كل تحوّل
في الحياة، هذا فضلاً عمّا ترشد إليه الآيات
من تحذير للحيلولة دون الوقوع في شراك
المنافقين والمترفين فيما يصنعونه ويرسمونه من
أهداف، يعون تماماً أنها لن تتحقق إلا إذا وقع
الإنسان في حبائل الشيطان، واستجاب لدعوة
هؤلاء المترفين فيما يدعونه إليه من تحوّل
ديني ومادي.
لا شكّ في أن علم أهل الترف بصناعتهم كان ولا
يزال التزاماً قديماً بالعهد الذي قطعوه مع
إبليس بأن يكونوا الأداة في التعبير عنه. وبما
أن هذا هو خطّ الصراع في حياة البشرية، فإنّه
لا يسع أهل الدعوة إلى الله تعالى إلاّ أن
يكونوا أصحاب صناعة حق ووعي وإدراك بأن الباطل
زاهق، كما قال تعالى: ﴿
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا
صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ ﴾
[128] .
إذا كان معنى الصنع هو الإتقان في الفعل
والإجادة فيه، على نحو ما بينّاه في المبحث
السابق، فإنّ هذا الصنع لا يقتصر أمره على شأن
معيّن من شؤون الاجتماع الإنساني، وإنما يشمل
كل مجالات الحياة وميادينها، سواء في الدين،
أم في السياسة، أم في الاقتصاد... الخ، وقد
أشارت الآيات القرآنية إلى عمومية هذا الصنع
في مجالات الحياة. كما أشرنا إلى بعض ما عرضت
له الآيات في مجال السياسة والحكم والسلطة،
إضافة إلى ما نرى أنه يعني حقيقة الصنع في
الدائرة الاقتصادية، على اعتبار أن لكل شأن من
شؤون المجتمع جهابذته وزبانيته ومترفيه.
وفي هذا
المبحث سنحاول قدر المستطاع أن نطلّ على حقيقة
أخرى مما عرضت له الآيات القرآنية، وهي حقيقة
الصنع في المجال الديني، حيث نرى أن القرآن
ينسب الصنع إلى أهل الكتاب الذين نسوا حظّاً
بما ذكّروا به، وقد توعّدهم الله تعالى بأنه
سوف ينبئهم بما كانوا يصنعون، ولعل أكثر ما
يتجلّى هذا الصنع فيما ذكره القرآن عن العلماء
والرهبان والأحبار، كما في قوله تعالى: ﴿
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ
يَصْنَعُونَ ﴾
[129]
. هذه الآية التي توضح لمتأمل بصير ومتدبّر
عاقل أن العلماء ليسوا بمنأى عمّا يتعرض له
المجتمع الإنساني من مفاسد بسبب ما يؤدّيه
الأحبار والرهبان من دور ووظيفة واعية وهادفة
لصرف الناس عن حقائق الأمور، وإخضاعهم لمنطق
الواقع وحقيقة ما ينطوي عليه من مخالفة لأوامر
الله تعالى، في حين أن ما أنيط بهم من مهام،
وخصّوا به من احترام وتقدير، إنما كان لهم بما
يمثّلونه من امتداد للنبوّة، وهنا يأتي السؤال
عن أسباب الذم لصناعتهم، فنسأل، هل لأنّهم
تولّوا الظلمة؟ أم لأنّهم تخلّوا عن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أم لكونهم خرجوا
عن مبادئ الحق، واختاروا أن يكونوا صنّاعاً
للباطل بما يعظون به الناس ويرشدونهم إليه كما
يفعل المترفون..؟!
هناك أسئلة
كثيرة تحيط بهذا الجانب من صناعة العلماء
والأحبار، ولكن قبل تفصيل الكلام بالإجمال
يمكن أن نعرض لحقيقة تعلمناها من أساتذتنا
وعلمائنا في الحوزة والجامعة، وهي أن الراسخ
في أذهان الناس منذ القدم هو ما تواتر من
أحاديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بأن العلماء أمناء الرسل، وورثة الأنبياء
(عليهم السلام)،
وحصون الإسلام، وعلماء أمتي أفضل من أنبياء
بني إسرائيل، ومجاري الأمور بأيدي العلماء،
هناك أحاديث كثيرة حفظها الناس كما يُقال عن
ظهر قلب، وقاموا بواجب الاحترام والإجلال
للعلماء حيثما حلّوا بغضّ النظر عمّا تعنيه
هذه الأحاديث في المضمون، كوننا نرى أنها خاصة
بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وليس غيرهم،
إلاّ أن الناس واحتراماً وطاعةً منهم لأهل
البيت (عليهم السلام) قاموا بتأدية واجب
الإجلال لكل عالم يحمل فكر أهل البيت (عليهم
السلام) وفقههم، فإذا كان الحال كذلك، فلماذا
نرى القرآن يتحدّث عن سوء صناعتهم؟ وكيف لنا
أن نهتدي إلى مَن ذمّهم القرآن بسوء فعالهم
وأقوالهم؟
نعم، بعيداً
عن الحيرة والشك فيما قد يراودنا من أفكار
وهواجس، يمكن لنا أن نهتدي إلى حديث رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال فيه:
«الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا،
فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم»
[130] . وهذا الحديث يكشف
لنا عن كل جوانب الذمّ للأحبار والفقهاء
والرهبان، على اعتبار أن حب الدنيا، كما يقول
الإمام علي (عليه السلام) ، هو رأس كل خطيئة، ومَن
يدخل في الدنيا لا يؤمن منه أن يُدخل الناس في
الخطيئة، ويدفع بهم إلى الترف في الحياة، فكيف
إذا كان العالم، أو الفقيه هو الذي يخوض غمار
الدنيا وهو واعٍ لحقيقة ما يصنع، ولا نقول، ما
يفعل، لما ذهبنا إليه من أقوال العلماء بأن كل
صناعة فعل، وليس كل فعل صناعة.
ولهذا، فإنّ
الفقيه يمتاز عن عامة الناس في كونه، بما هو
عليه من صناعة فقه، عالماً بما يقول ويفعل،
بمعنى آخر يمكن القول: إنّ وظيفة الفقيه أن لا
يقنط الناس من رحمة الله تعالى، وأن يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن ينهى الناس عن
قول الإثم وأكل السحت، فإذا لم يقم الفقيه
بهذا الأمر حقّ القيام، وفعل خلاف ما هو مقتضى
فقهه وعلمه فما يكون عليه حال الأمّة إذن؟
لقد بيّن الله تعالى في محكم كتابه أن دور
العلماء أن يكونوا أمناء على ما استحفظوا من
كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً
وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ
وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا
تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا
تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾
[131] . وقال الله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ
كَثِيراً مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
﴾
[132] .
هناك جملة من
الآيات تحمّل مسؤولية إضلال المجتمع للعلماء،
وتحذّرهم العذاب الأليم، وتدعوهم إلى خشية
الله تعالى دون الناس، وإلى الحكم بما أنزل
الله تعالى، إلى غير ذلك مما أمروا به ودُعُوا
إلى الامتثال له، فهم إذا لم يؤدوا هذا الدور،
ولم يقوموا بالقسط، فإن المجتمع لا يلبث أن
يسقط في أيدي المترفين، هذا إذا لم يتحوّل
العلماء والفقهاء إلى أهل ترف يردّدون شعار:
الناس أبناء الدنيا ولا يلام المرء إذا ما أحب
أمه، إلى غير ذلك مما يسوّغ به كثير من
العلماء اللحاق بالدنيا!
إنّ أهل البيت
(عليهم السلام) لم يتركوا هذا الحال من دون
بيان، فهذا الإمام الحسين (عليه السلام)
وقبله أمير المؤمنين (عليه السلام) ، يقول:
«اعتبروا، أيها الناس، بما وعظ الله به
أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول:
﴿
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ
يَصْنَعُونَ ﴾
[133]
، وقال تعالى: ﴿
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ
وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾
[134]
.
وإنما عاب عليهم ذلك، لأنهم كانوا يرون من
الظلمة بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهوهم
عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما
يحذرون، والله تعالى يقول: ﴿
فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ
﴾ ويختم
الإمام الحسين (عليه السلام) بالقول: لقد
خشيت عليكم أيها المتمنّون على الله تعالى أن
تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من
كرامة الله تعالى منزلة فضّلتم بها، ومن يُعرف
بالله لا تُكرمون، وأنتم بالله في عباده
تكرمون.... وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم
عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون»
[135] .
هذا هو الكلام
الفيصل في معنى أن يكون العلماء على صناعة
فاسدة في المجتمع من موقع إدراكهم ووعيهم بما
يؤدّونه من أفعال، ويأمرون به من أحكام لإرضاء
الظلمة والطواغيت وأهل الترف طمعاً بدنيا
زائلة، أو رهبة مما يحذرون، فاختاروا أن
يكونوا تبعاً للمترفين، بدل أن يكون قادة
الناس بطاعة الله تعالى، وكم هو الفرق كبير أن
يقول الله تعالى فيمن يسارعون إلى الإثم
والفساد من عامة الناس «لبئس ما كانوا
يعملون»، وبين أن يقول في العلماء والأحبار
«لبئس ما كانوا يصنعون»، وقد بيّن الشيرازي
هذا المعنى في تفسيره الأمثل فراجعه
[136] .
كما لا يخفى
أيضاً، بإلمامة تاريخية، ما كان عليه العلماء
بعد الرسل والأنبياء (عليهم السلام)، وخاصة بعد وفاة الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث ظهرت طبقة من
العلماء لا همّ لها سوى الترف، كما يرى جعيّط
في بحوثه التاريخية
[137] ، وكما يرى المؤرّخ
إبراهيم حسن في تاريخه
[138] ، والشهرستاني
في الملل والنحل
[139] ، وابن قتيبة في
الإمامة والسياسة
[140] ، وليس غريباً عن هذا
ولا بعيداً عنه أن يذكر المؤرخون أن الخليفة
الثاني لما أحسّ بوفرة المال في خلافته منع
الصحابة رضوان الله عليهم من الخروج للتجارة
حتى لا تتكوّن منهم طبقة تملك المال في أيديها
وتملك السلطان الأدبي على الناس فيحدث التميّز
وتفسد الأحوال، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم
أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب
الخليفة، فتفسد مشورتهم حين تترهّل نفوسهم،
لأنّ آفة المال الترف، والترفُ معدٍ ككل آفة،
فحين لا يعالج ولا يوقف، فإنه ينتشر ولا بدّ،
وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمره أسوأ،
لأنّ الحكام دائماً قدوة
[141] .
هذا غيض من
فيض مما يمكن أن يذكر في ترف العلماء في
تاريخنا الإسلامي، كأولئك العلماء الذين
ترسّموا خطى الأمراء والخلفاء، وجعلوا من
الدين والإسلام معبراً لهم للفوز بالدنيا، كما
بيّن إمام عبد الفتاح في كتابه الطاغية فيما
ذكره عن الفقيه أبي يوسف في البلاط العباسي
[142] ، وغيره من
الفقهاء في العصر الأموي الذين سكتوا عن قتل
الإمام الحسين (عليه السلام) ، بل تجاوز الأمر
بكثير من العلماء وأهل الفنّ إلى تسويغ ما جرى
في كربلاء على أنه خروج على الحاكم الشرعي،
إلى غير ذلك مما تجد له مثيلاً وشبيهاً في زمن
الصحابة والتابعين، الذين تخلّفوا عن الحسين
(عليه السلام) بعد خطابه معهم في منى في موسم
الحج
[143] .
إنّ كل ما تقدّم يمكن ملامسته إلاّ أنه يبقى
قليلاً عند ما قاله أمير المؤمنين (عليه
السلام) في نهج البلاغة في وصف الفقهاء
والعلماء وما يهيئونه من حشو رثّ للإيقاع
بالناس في شراك الشيطان والمترفين، يقول
الإمام (عليه السلام) : «ترد على أحدهم القضية
في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد
تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف
قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الذي
استقضاهم فيُصوِّب آراءهم جميعاً، وإلهُهُم
واحد! ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم
الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه
فعَصوه! أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً
فاستعان بهم على إتمامه.. أم أنزل الله تعالى
ديناً تاماً فقصّر الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) عن تبليغه وأدائه؟ والله تعالى يقول: ﴿
مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ
﴾ .. أما والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود
الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ
يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت
حبلها على غاربها، وأسقيت آخرها بكأس
أولها...»
[144] . ذلك هو
معنى أن يختلف العلماء، أو أن يجتهدوا مقابل
النص ليكونوا من أهل الرأي في مخالفة الشريعة،
كما بيّن مرتضى العسكري في معالم المدرستين
[145] ، إذ تحوّل
العلماء في تاريخ المسلمين إلى أحبار ورهبان
يكنزون الذهب والفضة ويصدّون عن سبيل الله
تعالى، ويفتون بما يناسب الدنيا وأهل الأهواء،
تقليداً واعياً وهادفاً لأولئك الذين تحدّثوا
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مئات
الآلاف من الأحاديث بعد أن منع الحديث خوفاً
على القرآن، أو أن يشتبه الأمر على الناس، كما
زعموا، وهذا ما أفرد له العلاّمة مرتضى باباً
في تاريخه
[146] ، موضحاً بما لا لبس
فيه أن منع الحديث فسح في المجال أمام أحبار
اليهود وغيرهم أن يملأوا فراغ الأمة الإسلامية
في الحديث، كما رأى الشهرستاني في الملل
والنحل
[147] ، والسبحاني في
المذاهب الإسلامية
[148] ، وغيرهم كثير ممن لا
عدّ لهم ولا إحصاء من مؤرخين وعلماء تفسير
وحديث، فهم يجمعون على أن تاريخ المسلمين لم
يكن للعلماء أي دور في صناعته كما أراد الله
تعالى، باستثناء العلماء الذين باشروا روح
اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، كما
جاء في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في
وصف أهل العلم والتقى
[149] .
إنه تاريخ إسلامي تعاضد فيه أهل صناعة الترف،
مع أهل صناعة العلم الذين تسمّوا بالعلم
وليسوا به، فكان مما لا يمكن لأمّة أن تحتمله
من أزمات على مستوى الاعتقاد والسلوك! وذلك
كلّه إنّما كان سببه الولاة والحكام والعلماء
والأحبار، الذين وقفوا بالمرصاد للربّانيّين
في كل زمان ومكان للحيلولة دون أن يكون لهم أي
دور في صناعة التاريخ، ورغم ذلك كله، فإنّ
القلّة القليلة من هؤلاء العلماء استطاعت أن
تحدّ من صناعة الفساد، وأن تحمي الإسلام من
سوء التحريف والتأويل، وأن تمنع من أن يحكم
الطغاة باسم الشريعة والدين، بل كان لهم الدور
الحاسم، كما في كربلاء وسائر الحركات
الإصلاحية في تاريخنا، في هداية الناس
الصالحين والمستضعفين إلى ما ينبغي أن يكونوا
عليه من فعل إسلامي يرتكز إلى هُدى الله تعالى
الذي هو الهدى، هذا فضلاً عمّا كان للعلماء
والأتقياء من دور في إيصال الإسلام إلى محطات
لامعة ومضيئة سمحت للكثيرين في كل زمان أن
يتنفّسوا الصعداء، وأن يخرجوا من كهوف
المذهبية والطائفية إلى رحاب الإسلام كما جرى
في بلادنا؛ في الجمهورية الإسلامية الإيرانية،
وفي لبنان وسائر الدول الإسلامية التي تشكّل
امتداداً حقيقياً وحيوياً للمشروع الإسلامي
كما جاء به الأنبياء والرسل (عليهم السلام) من عند الله
تعالى.
لقد أفلح ابن رشد في فصل المقال فيما ذهب إليه
من ضرورة أن يكون الفقيه على صناعة حق وخير
وإصلاح
[150] ، وهذا ما يفترض به
أن يكون عليه من تقوى وإخلاص وطاعة، خلافاً
لما هو عليه أكثر الفقهاء في كل زمان من تحول
باتجاه الترف وملاذ الدنيا أسوة بالمترفين في
تاريخ الإنسانية. وإذا كان من كلمة تُقال في
خلاصة هذا المبحث، فإنّنا نرى سرّاً عجيباً
فيما يظهره القرآن، سواء لجهة حاكمية ولاة
الجور وما تتقوّم به صناعتهم، أو لجهة حاكمية
الفقه والفقهاء، وما ينبغي أن يكونوا عليه من
دور ووظيفة، ورؤية هادفة، إذ تبيّن الآيات، في
كثير منها، أنّ الملامة في ما يغوص به الناس
من ترف لا تقع على سواد الناس وحسب
[151] ، وإنما على
الواعين من أحبار وعلماء ورهبان، لكون الذمّ
لحق بهم لجهة كونهم أهل صناعة ووعي وإدراك
لحقيقة ما يراد في إطار التحوّل الاجتماعي
والسياسي للشعوب، فضلاً عن الديني، لأنّ مقتضى
أن يكون الدين حيّاً، أن يستمر الصراع مع
المترفين، لإلحاق الهزيمة بهم من قبل أتباع
الأنبياء (عليهم السلام)، ذلك أن في هزيمتهم تتحقق هزيمة
الشيطان الديني والسياسي، الذي هو امتداد
لمنطق إبليس وصناعته، هذا اللعين الذي أبى
إلاّ أن يكون له من العباد نصيباً مفروضاً،
والعباد هنا ليست تعني فقراء الناس وعامتهم،
وإنّما تعني العلماء والأحبار والرهبان وكل من
يتخذ من الترف سبيلاً لمواجهة خط النبوة في
تاريخ الإنسان، أو يجعل من الدنيا سبيلاً
للفوز بالحياة والثروة والسلطة كما كان يفعل
المنافقون دائماً، لأنهم مفردة حقيقية من
مفردات الترف والمترفين، ولا شكّ في أن
الكثيرين من الناس بعد انتصار الدعوة الحقّة
كانوا يتحولون من كونهم مترفين وكافرين
ومشركين، ليكونوا منافقين مترفين وفقاً
للعقيدة ذاتها التي جُبلوا عليها، لقوله
تعالى: ﴿
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ
فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ﴾
[152]
.
وهكذا، فإنّ
خلاصة هذا المبحث، وقدر ما استطعنا، أن نستجمع
حقيقة الرؤية القرآنية التي كانت دافعنا إلى
هذا المبحث، ولم نرد أن نسبر غور التاريخ
والقصص والأحداث، أو الغوص في التجارب؛ بل
أردنا أن نتّجه موضوعياً في تحديد أفق الرؤية
النظرية القرآنية، في موضوع الترف والمترفين
للتدليل على أن النص استوعب التجربة، وأعطى
ضوءاً مشعّاً للباحثين كيما يتبصّروا بحقيقة
الموقف الإسلامي على النحو الذي يؤهلهم لأن
يكونوا على وعي بكل حدث، أو تجربة، لأنّ كل
شيء نجده ملحوظاً في السنن التي يرشد إليها
القرآن، ويجعلها مفتاحاً لكل تحوّل اجتماعي أو
سياسي، أو حضاري، وقبل ذلك كلّه لكل تحوّل
ديني، باعتبار أن الدين ليس مجرّد سنّة
اجتماعية، وإنما هو دين الفطرة التي لا تبديل
لها، ودين الشريعة والعقيدة والنظام الذي جاء
به الأنبياء (عليهم السلام) لهداية الشعوب وفك الإصر والأغلال
عنهم، ليكونوا على بيّنة مما هو مراد بهم ولهم
في خط الدين والحياة بعد أن مَنَّ الله تعالى
على الإنسانية بمن يخرجها من الظلمات إلى
النور، كما قال تعالى: ﴿
وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ
لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ
لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ
﴾
[153] .
[1]
سورة هود، الآية: 116.
[2]
سورة الحجر، الآيتان: 57 - 58.
[3]
الطوسي، محمد بن الحسن، البيان في تفسير
القرآن، م. س، ج6، ص82.
[4]
الراغب، الأصفهاني، معجم ألفاظ القرآن الكريم،
دار الفكر، بيروت، (لا ت)، ص294.
[5] سورة الإسراء، الآية: 16.
[6] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ
القرآن الكريم، م. س، ص70.
[7]
الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، م. س،
ج5، ص30.
[8] الراغب، الأصفهاني، م. ع، ص393.
[9] الزمخشري، تفسير الكشاف، م. س، ج1، ص70.
[10] الدامغاني، الحسين بن محمد، قاموس
القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1985،
ص357.
[11] قال تعالى: ﴿
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي
الْأَرْضِ ﴾ يعني لا
تعملوا المعاصي ونحوه..
[12] الفساد الهلاك، كما في وله تعالى: ﴿
لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
﴾ يعني لتهلكن في الأرض مرتين.
[13] الفساد القحط، كما في قوله تعالى: ﴿
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
﴾ يعني قحط المطر وقلة النبات.
[14] الفساد القتل، كما في قوله تعالى: ﴿
أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي
الْأَرْضِ ﴾ يعني ليقتلوا.
[15] الفساد الخراب بالظلم، كما في قوله
تعالى: ﴿
إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا ﴾ يعني يخربونها بالظلم.
[16] الفساد يمعنى السحر، كما في قوله تعالى:
﴿ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
﴾ يعني السحرة.
[17] انظر: الغديري، عيسى إبراهيم، القاموس
الجامع للمصطلحات الفقهية، دار المحجة، بيروت،
ط1، 1938، ص427.
[18] سورة يونس، الآية: 91.
[19] سورة المؤمنون، الآية: 33.
[20] من جملة ما عرض له القرآن في شأن
المنافقين وما يزعمونه من صلاح وإصلاح، قوله
تعالى: ﴿
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي
الْأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ
﴾ [البقرة: 11 - 12] .
[21] يقول العلامة محمود الهاشمي: «لا إشكال
في أن عنوان الفساد يدلّ على كون العمل قبيحاً
ومستنكراً تنفر منه الطباع، وليس هذا واضحاً
إلا في مثل الظلم والتعدّي على الحقوق الأولية
للإنسان، لا الأمور الأخرى الفكرية
والعقائدية، أو السياسية التي هي محل نظر وبحث
واختلاف بين الناس، ولعلّه لهذا السبب لا نجد
في القرآن الكريم إطلاق المفسد أو الفساد في
الأرض على حالة الشرك أو الاعتقادات الباطلة،
بينما نجده يطلقه غالباً على موارد التعدّي
والتجاوز على الأموال والأنفس وما اليها، وقد
رأيت أن صاحب القاموس يفسّر الفساد بأنّه أخذ
المال ظلماً». را: الهاشمي، محمود، مقالات
فقهية، شمول حكم المفسد في الأرض لغير من شهر
السلاح وسلب الأمن من سائر أنواع الفساد،
الغدير، ط1، 1996م، ص111.
[22] الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي في
المدرسة القرآنية، م.س، ص59.
[23] سورة البقرة، الآية: 214، ورا: أيضاً:
سورة التوبة، الآية: 16، وآل عمران، الآية:
142.
[24] قال تعالى: ﴿
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ
يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ
مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي
الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33] .
[25] قال تعالى: ﴿
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ
عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ
الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسَادَ ﴾
[البقرة: 204 205] . وقال تعالى: ﴿
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207] . وهذا ما يمكن
مقابلته، كما يرى العلاّمة الطباطبائي، مع
قوله: ﴿
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ
﴾ إلخ. إذ هو يُفيد الوصف،
مقابل الوصف، أي مقابل المنافق المفسد، يوجد
المؤمن المصلح. ولهذا، فإنّ الفساد الطارئ على
الدين والدنيا من قبل من لا هوى له إلا في
نفسه لا يمكن سدّ ثلمته إلاّ بالصلاح الفائض
من قبل آخرين ممن باع نفسه في الله تعالى،
وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله
تعالى: ﴿
وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ ، ولا شكّ أن هذا التقابل هو
المشار إليه في بحثنا هذا، وهو يبدأ بين
الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، وينتهي بكل تقابل ينشأ في
صراع الحياة، سواء في الحياة الخاصة، أم في
الحياة العامّة، كما قال تعالى: ﴿
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ .
را: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م.
س، ج2، ص99 100.
[26] سورة القصص، الآية: 4.
[27] سورة القصص، الآية: 38.
[28] إنّ مما يدلّ على إفساد المترف لنفسه
ولغيره، إضافة إلى ما يُصيب المجتمع من فساد
بسببه هو قول الله تعالى: ﴿
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ
فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا
لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُواْ حَتَّى
يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾
[يونس: 88] .
[29] قال الله تعالى: ﴿
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ
فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33] .
[30] سورة الرعد، الآية: 11.
[31] سورة البقرة، الآية: 251.
[32] سورة المؤمنون، الآية: 71.
[33] انظر: الهاشمي، محمود، حكم المفسد في
الأرض، م. س، ص107 - 108.
[34] انظر: الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم،
الملل والنحل، دار صعب، بيروت، 1986م، ج1،
ص16.
[35] يقول الهاشمي: «ومما يدل على أن الظرف
ليس لمجرد الظرفية المحضة تكراره في قوله
تعالى: ﴿
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ ، فإنه إذا كان
لمجرّد الظرفية كان تكراراً محضاً، وهذا واضح
الرِكّة، فلا بدّ أن يكون لإفادة نكتة زائدة،
وهي التي ذكرناها من إزالة صلاح الأرض وإظهار
الفساد فيها». انظر: الهاشمي، محمود، حكم
المفسد في الأرض...، م. س، ص110.
[36] انظر: الهاشمي، محمود، حكم المفسد في
الأرض، م. س، ص111.
[37] ليس كل مفسد مترفاً، وكل مترف مفسد في
الأرض فيما لو أخذنا التوسع في الجانبين على
نحو ما تقدّم الكلام.
[38] الهاشمي، محمود، م. س، ص108.
[39] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان، ج2،
ص121.
[40] سورة المؤمنون، الآيات: 33 - 36.
[41] سورة المؤمنون، الآية: 41.
[42] يرى العلاّمة الطباطبائي أن الفساد الذي
لا يحبه الله تعالى إنّما هو الفساد المتعلق
بالتشريع، وليس ما هو فساد في الكون والوجود
والفساد التكويني، وحاشا لله تعالى أن يبغض ما
هو مقدّره وقاضيه، فالله تعالى لا يحب الفساد،
وهو تعالى إنّما شرّع ما شرّعه من الدين ليصلح
به أعمال العباد، فيصلح عباده... فيعتدل بذلك
حال الإنسانية، وعند ذلك تسعد حياتهم في
الدنيا والآخرة.
را: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م.
س، ج3، ص98.
[43] الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ
القرآن الكريم، م. س، ص393.
[44] الزمخشري، تفسير الكشاف، م. س، ج1، ص92.
[45] سورة الأعراف، الآية: 56.
[46] سورة المائدة، الآية: 2.
[47] سورة البقرة، الآية: 256.
[48] سورة الحجرات، الآية: 13.
[49] الهاشمي، محمود، حكم المفسد في الأرض، م.
س، ص110 - 111.
[50] يقول الحلّي: من لدن آدم (عليه السلام)
حتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
الأغنياء المترفون والأشراف المستكبرون هم
الذين يتصدون للدعوى الإلهية ضد الفقراء
الأولياء، وهذا ما عيّروا به الرسل: «أنؤمن لك
واتبعك الأرذلون».
انظر: الحلّي، أحمد بن فهد (ت 841هـ)، عدّة
الداعي ونجاح الساعي، تحقيق أحمد القمي، مكتبة
الوجداني، قم، ص111.
[51] سورة فاطر، الآية: 6.
[52] سورة الإسراء، الآية: 53.
[53] سورة الكهف، الآية: 7.
[54] سورة يونس، الآية: 88.
[55] انظر: الطبرسي، تفسير مجمع البيان، (ت
548هـ)، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1995م، ج5،
ص220.
[56] سورة الأعراف، الآية: 32.
[57] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة،
المعجم المفهرس لألفاظ النهج، دار الأضواء،
بيروت، 1986، الخطبة: 192.
[58] م. ع، الكتاب: 27.
[59] سورة الحجر، الآية: 39.
[60] الإمام علي (عليه السلام) ، م. ع،
الخطبة: 192.
[61] معنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة،
دار العلم للملايين، بيروت، ص3، 1979م، ج3،
ص113.
[62] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج
البلاغة، م. س، الكتاب: 10.
[63] يقول الإمام علي (عليه السلام) لعبد
الله بن جندب: «يا عبد الله لقد نصب إبليس
حبائله في دار الغرور فما يقصد فيها إلا
الأولياء ولقد حلت الدنيا بأعينهم حتى ما
يريدون بها بدلاً، ثم قال: آه، آه، على قلوب
حُشيت نوراً، وإنّما كانت الدنيا عندهم بمنزلة
الشجاع الأرقم،أنسوا بالله واستوحشوا مما به
يأنس المترفون، أولئك أولياء الله حقاً، وبهم
تكشف كل فتنة، وتدفع كل بليّة، نهج البلاغة،
الكتاب: 10.
[64] سورة الأعراف، الآية: 95.
[65] ابن خلدون، المقدمة، م. س، ص172 - 173.
[66] سورة الزخرف، الآية: 22.
[67] سورة التغابن، الآية: 6.
[68] سورة الإسراء، الآية: 61.
[69] سورة الإسراء، الآية: 94.
[70] انظر: الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم،
الملل والنحل، دار صعب، بيروت، ج1، 1986م،
ص19.
[71] إنّ مما يعزّز ما نذهب إليه فيما نراه عن
الأثر النفسي للترف، وأن الثروة ما هي إلا وجه
من وجوه قوله تعالى: ﴿
قَالَ فَمَا
خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ
بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ
قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ
فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي
نَفْسِي ﴾ ، انظر إلى قوله تعالى:
﴿ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي ﴾ ، فهو رغم ما هو عليه من اعتبار
مالي ومعنوي، تراه يؤكّد على نفسه في محور
الإضلال والفتنة، باعتبار أن النفس هي طريق
الإنسان إلى ربّه، وكما يقول الباحث سعيد
أيوب؛ لقد أقام الله تعالى على الإنسان الحجة
فيها، فألهمه طريق الفجور وطريق التقوى، فمن
انغمس في الشهوات غشي عمله على قوة النفس
الهائلة، فيفتح العمل على طريق الفجور على
اتساعه، أما من التزم في عمله بما أمر الله به
وما نهى الله عنه، تكون نفسه حظ سعيد ينتهي
بالإنسان إلى ثواب الله تعالى، وهنا المقصد،
وجوهر المطلب، أن الإنسان لا يطأ موطأً في
سيره إلاّ بأعمال قلبية هي الاعتقادات
ونحوها.. والسامريّ سوّلت له نفسه، فما أغنت
عنه هجرته، ﴿
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ
أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ
مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى
إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً
لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي
الْيَمِّ نَسْفاً ﴾ .
را: سعيد أيوب، معالم الفتن، دار الكرام، ط1،
1993، ج1، ص64.
[72] سورة القصص، الآية: 83.
[73] سورة النحل، الآية: 22.
[74] سورة النمل، الآية: 40.
[75] سورة مريم، الآية: 77.
[76] سورة الكهف، الآية: 34.
[77] سورة القصص، الآية: 77.
[78] يقول ابن ميثم البحراني في شرح نهج
البلاغة: إن ترك الدنيا بالكليّة ليس هو مطلوب
الشارع من الزهد فيها والتخلي عنها، لأنّ
الشارع يراعي نظام العالم باشتراك الخلق في
عمارة الدنيا وتعاونهم على المصالح لبقاء
النوع الإنساني، وإن ترك الدنيا وإهمالها
بالكليّة يعدم ذلك النظام وينافيه، بل الذي
يأمر به الشارع القصد في الدنيا واستعمال
متاعها على القوانين التي جاء بها الرسل
والوقوف فيها عند الحدود المضروبة في شرائعهم
دون تعدّيها كما قال الإمام علي (عليه السلام)
لأحد أصحابه: العلاء بن زياد الحارثي في شأن
سعة داره، وسؤاله له: ما كنت تصنع بسعة هذه
الدار الدنيا؟!».
البحراني، ابن ميثم، شرح نهج البلاغة، دار
العالم الإسلامي، بيروت، ج4، ص18.
[79]
سورة الحج، الآيتان: 3و 4.
[80] انظر: الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي،
مكتبة الصدر، ط1، طهران، ج2، 1420هـ، ص796.
[81] سورة الإسراء، الآية: 62.
[82] را: الشهرستاني، الملل والنحل، م. س، ج1،
ص18.
[83] سورة يونس، الآية: 102.
[84] نهج البلاغة، الكتاب: 12.
[85] لقد وفّق الباحث «أيوب» أيّما توفيق فيما
أشار إليه من أن إبليس هو مؤسس فقه التحقير،
وهذا الفقه، بما ينطوي عليه من حسد وتكبّر
وتفاخر، مارسه ضد الأنبياء (عليهم السلام) من
النبي آدم (عليه
السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وإذا كان مؤسس هذا الفقه، رفض أمر
السجود لآدم في بداية الخلق، فإنه على امتداد
المسيرة البشرية وضع عقبات أمام أمر الله
تعالى الذي حمله الأنبياء (عليهم السلام) والأوصياء للسجود
لله تعالى. ونحن بدورنا نرى أن المنافقين
والطلقاء وأبناءهم قد تابعوا الخطى، رافعين
راية التحقير للبشر بعد رحيل النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لإيقاف مسيرة الأولياء
والصالحين...
انظر: معالم الفتن، م. س، ج1، ص26.
[86] نعم، الفراعنة قالوا: ﴿
أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي
الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴾
وأما أهل الترف في تاريخنا الإسلامي، فقتلوا
أهل البيت (عليهم السلام) وعاثوا في الأرض
فساداً باسم الدين، ولعل أفضل ما قرأت في
المقارنة بين الفراعنة، وما كانوا عليه من
فقه، وبين الولاة الذين تعاقبوا على حكم
المسلمين، ما نقل عن معتمر بن سليمان التيمي،
قال: لما جاء بالشَّجَّاء، وكانت امرأة من
الخوارج، إلى زياد بن أبيه، قال لها: ما
تقولين في أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه؟
قالت: ماذا أقول في رجل أنت خطيئة من خطاياه!
فقال بعض جلسائه: أيها الأمير، أحرقها بالنار،
وقال بعضهم: اقطع يديها ورجليها، وقال بعضهم:
اسمل عينيها، فضحكت حتى استلقت، وقالت: عليكم
لعنة الله! فقال لها زياد: مِمَّ تضحكين؟
قالت: كان جلساء فرعون خيراً من هؤلاء، قال
لها: ولِمَ؟ قالت: استشارهم في النبي موسى
(عليه السلام) فقالوا: أرجه وأخاه، وهؤلاء يقولون: اقطع
يديها ورجليها واقتلها، فضحك منها وخلّى
سبيلها».
انظر: القالي، أبو علي، الأمالي والنوادر، دار
الآفاق الجديدة، بيروت، (لا ت)، ص174.
[87] يروي السيوطي عن الطيالسي في مسنده أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
«الأئمة من قريش ما حكموا فَعَدلوا، ووعدوا
فَوَفَوا، واسترحموا فرحموا» أخرجه أحمد وأبو
يعلى في مسنديهما والطبراني. وهنا نسأل: أين
كان العدل؟ وأين كان الوفاء؟ وأين كانت
الرحمة؟ وقد جرى في كربلاء ما جرى! ألم يحدث
في التاريخ أن استشار الخليفة لإخماد الثورة،
فقالوا له: جمّرهم في المغازي، واقطع
الأعطيات، إلى غير ذلك مما يندى له جبين
الإنسانية.
را: السيوطي، الحافظ جلال الدين، تاريخ
الخلفاء، منشورات الرضى، قم، 1411هـ ط1، ص9.
ورا: ابن قتيبة، الدينوري، الإمامة والسياسة،
دار الأضواء، بيروت، ط1، 1990م، ج2، ص184.
[88] سورة غافر، الآية: 26.
[89] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان،
م. س، ج10، ص181.
[90] سورة طه، الآية: 72.
[91] سورة الأعراف، الآية: 113.
[92] الشهرستاني، الملل والنحل، م. س، ج1،
ص26.
[93] سورة طه، الآيات: 71 - 73.
[94] يرى شمس الدين: «أن عهد رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) كانت روح الشهادة بين
أصحابه شائعة كالهواء والنور، فحقّق الإسلام
انتصارات واسعة تجاوزت كل القوانين العامة
للتاريخ، لأنّ عاملاً نوعياً هو عامل الشهادة،
غيّر المعطيات العادية لحركة التاريخ... أما
بعد وفاته، فقد تغيّر الأمر كثيراً، إذ ما وصل
المسلمون إلى زمان الإمام الحسين (عليه
السلام) حتى تحول الأمر ودمرت روح الشهادة
واستبدّ النظام الأموي، وآل أمر الأمة إلى أن
تكون أمة خاملة، وقد أدرك الإمام الحسين
(عليه السلام) أن الأمة فسدت، ولا بدّ من
إصلاحها، فما كان منه إلاّ أن خرج مصلحاً
ليفجّر في الأمة روح الشهادة من جديد، لتغدوَ
مع ثورته وشهادته كالنور والهواء كما كانت في
عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
انظر: شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين،
الرجال والدلالات، المؤسسة الدولية، بيروت،
لبنان، ط3، 1996م، ص12.
[95] را: إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، عالم
المعرفة، الكويت، عدد 183، 1994م، ص208.
[96] م. ع، ص208 -210، يقول عبد الفتاح: إنّه
لما علم عبد الملك بن مروان أنه بويع
بالخلافة، والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هذا
آخر عهدنا بك، وهكذا بدأ خلافته.
[97] جاء في كتب التاريخ والتفسير أن الوليد
بن يزيد بن عبد الملك الحاكم الأموي الجبّار
تفأل بالقرآن يوماً لكي يرى حظه في المستقبل،
فظهر له قوله تعالى:﴿
وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ ﴾ فاستوحش
وأخذته العصبية ومزّق القرآن وأخذ ينشد:
أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر، فقل يا رب مزّقني
الوليد
را: الأصفهاني، أبو الفرج، كتاب الأغاني، دار
إحياء التراث، بيروت، ج7، ص37.
وقا: مع ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار
صادر، بيروت (ت 630هـ) 1966م، ج5، ص290.
[98] لقد عرضنا سابقاً لمعنى موت الأمم في ضوء
السنن الحاكمة في ميدان التاريخ، وفي كل زمان،
وخاصة في ميدان السنن المشروطة، وطالما أننا
نتحدّث عن مصائر الأمم وما آلت إليه الأمة
الإسلامية من ترف ديني وسياسي في تاريخها، فلا
بأس أن نشير إلى حاكمية السنن وما عرض له
القرآن في شأن أولئك الذين طلبوا أن يبعث لهم
ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله تعالى، وقد
استجاب الله تعالى لهم وبعث طالوت ملكاً.
ولكنهم رفضوا ما اختاره الله لهم من بسطة في
العلم والجسم، وقالوا: ﴿
أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ﴾ ، وهكذا عبّروا عن فساد داخلهم،
وترف قلوبهم بما سوّلت لهم أنفسهم، كما أشرنا
في السامري قبل قليل، وجادلوا بالباطل، وكانت
النتيجة أن شربوا من النهر إلا القليل ممن
اغترف بيده غرفة، والحكمة هنا تكمن في أنّ
الأكثرية الساحقة التي شربت هي التي انهزمت،
والقلة هي التي انتصرت. حيث قال تعالى: ﴿
كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وهكذا هو حال
سائر الأمم أنها تركن للترف، وترضخ للظلم، وقد
دلَّ السياق القرآني على أن هذه السنّة هي
سنّة حاسمة، ومن خلالها تحيا الأمم وتموت،
تماماً كحال أولئك الذين قيل لهم ادخلوا الأرض
المقدّسة، فلم يدخلوا، وكان لهم التيه أربعين
عاماً، بسبب انعدام المبادرة والخوف من ملاقاة
العدو. هناك الكثير من الأمثال والآيات التي
تكشف لمتدبّر في كتاب الله تعالى أن الامتثال
في الشأن الحياتي من جانب الأمة مؤشّر يمكن في
ضوئه التنبّؤ بمدى قدرتها على الثبات في ساحة
القتال، والقرآن، يوجهنا إلى ضرورة وأهمية أن
نتلمّس أدلّة محسومة على الصدق ممن تتوجّه
إليهم الدعوة، أو يُطلب منهم الامتثال لأمر
الله تعالى.
انظر: د. السيد عمر، خارطة المفاهيم القرآنية،
دمشق، دار الفكر، 2009م، ص71.
[99] يمكن لمتدبّر في القرآن أن يلحظ بموضوعية
سياق الأحداث وترسمها في كشف مصائر الأمم
وتشابه قلوبهم، فأتباع السامري، قال فيهم
تعالى: ﴿
وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ ﴾ [البقرة: 93] . أما
أتباع مسجد ضرار، فقال فيهم: ﴿
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة: 110] . وهذا يؤكد لنا
تشابه القلوب، وتعاقب الأمم وفاق القسم
الإبليسي الشيطاني: ﴿
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً
﴾ [الإسراء: 62]
.
[100] يقول الإمام علي (عليه السلام) :
اعتبروا بحال وَلَد إسماعيل، وبني إسحاق، وبني
إسرائيل، فما أشدّ اعتدال الأحوال، وأقرب
اشتباه الأمثال.
[101] سورة الإسراء، الآية: 9.
[102] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج
البلاغة، م،س، الخطبة: 192.
[103] را: الشهرستاني، م. س، ج1، ص18، وقا: مع
أيوب سعيد، معالم الفتن، م. س، ص182، وقا: مع
الطباطبائي، الميزان، ج2، م، س، ص272.
[104] سورة التغابن، الآية: 6.
[105] سورة الإسراء، الآية: 94.
[106] سورة النمل، الآية: 88.
[107] سورة المائدة، الآية: 14.
[108] سورة فاطر، الآية: 8.
[109] الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ
القرآن الكريم، م. س، ص294.
[110] سورة طه، الآية: 41.
[111] ابن منظور، لسان العرب، م. س، ج4،
ص2508.
[112] يرى الفلاسفة وعلماء الكلام، أن الإبداع
والخلق والصنع كلها ألفاظ متقاربة المعاني في
اللغة العربية، فكلها تعني الإيجاد إلاّ أن
لكل واحد خصوصية تنطبق على ذلك الفعل الذي هو
الإيجاد، والصنع له هذه الخصوصية التي تنبئ عن
الدقة والعناية والهندسة في الفعل.. واشتق منه
الصانع... وبعضهم جعل استخدام هذا الصنع خاصاً
بالمتكلمين مميزاً لهم عن الفلاسفة الذين
قالوا بمصطلح «واجب الوجود»، وعن العرفانيين
الذين استخدموا «نور الأنوار»، وهكذا
المتكلمون، فقد خصّوا بلفظ الصانع للدلالة
عليه تعالى وصدروا إلهياتهم به.
انظر: القشعمي، محمد صالح، الإلهيات والفلسفة
العليا، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط1،
1999م، ص158.
[113] ابن منظور، لسان العرب، ج4، م. س، ص. ن.
[114] سورة طه، الآية: 69.
[115] سورة الزخرف، الآية: 54.
[116] ابن خلدون، المقدمة، م. س، ص174. إن
الترف يذهب بخصال الخير، ص169.
[117] را: مقالة ابن خلدون بما فعله الحجّاج
حينما سأل عن ولائم الفرس، وقال لأحدهم أخبرني
بأعظم صنيع شهدته لكي يكون من صنيعه ما لا
يأتيه أحد لشدّة ترفه، المقدمة، م. س، ص173.
[118] سورة المائدة، الآية: 14.
[119] سورة الكهف، الآية: 104.
[120] سورة النور، الآية: 30.
[121] سورة العنكبوت، الآية: 45.
[122] قال الله تعالى: ﴿
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30] .
يقول مطهري: «إن الدين هو الفطرة ولا تبديل
لخلق الله تعالى، وهذا يعني أن الدين هو كلٌّ
ما في داخل الإنسان وتركيبه ومسار تاريخه، هذه
القيمومة في الدين هي التعبير المجمل للآية
عما يكتنف هذامن علاقات بينه وبين ما خُصّ به
من لدن الله تعالى».
را: مطهري، مرتضى، المجتمع والتاريخ، م. س،
ص366.
[123] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج
البلاغة، م. س، الخطبة: 192.
[124] انظر: إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية،
م.س، ص213.
[125] قطب، محمد، كيف نكتب التاريخ، دار
الشروق، القاهرة، ط1، 1992، ص134.
[126] سورة النحل، الآية: 112.
[127] إنّ الآية ترشد إلى أن صناعة الترف هي
التي تؤدّي بهذه القرية إلى الهلاك، لأنّ
القيّم على كل اجتماع سياسي، وخصوصاً في العصر
الحديث، يدرك جيداً معنى أن يكفر مجتمع من
المجتمعات بنعم الله تعالى، وهذا الإدراك
يتأتى له من خلال المظالم التي تلحق بهذا
المجتمع من قبل القيّمين عليه سياسياً
واقتصادياً. فإذا لم يلحظ هؤلاء بحكم قيمومتهم
مسألة العدالة في التوزيع، ويقوموا بوضع
سياسات اقتصادية واجتماعية لإدارة الثروة،
وتأمين ما يلزم لتحقيق الاستقرار، فإنّ هذ
المجتمع لا يلبث أن يقع في أزمات كبيرة قد
تؤدّي بالناس إلى الكفر والثورة والعصيان، وقد
بيّن علماء الاجتماع السياسي أن الظروف
السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تشكّل
الإطار الطبيعي لفهم حقيقة سياسات المترفين،
وغالباً ما يتمّ التعبير عن هذه الظروف باللغة
السياسية لفرض واقع جديد وتهدئة الخواطر، وخلق
المناخ الملائم تحاشياً للثورة، ما يؤكّد لنا
أن الآية المباركة هي في الجوهر فيما تؤكّد
عليه من صناعة تؤشّر إلى أن سوء الإدارة من
قبل المسؤولين عن الواقع، بما هم خبراء وأهل
اختصاص ولديهم الوعي بما يقومون به، هو الذي
يتسبّب بالأزمات الاقتصادية، وهذا ما أطلق
عليه القرآن مصطلح الكفر بالنعمة بما يعني من
عدم قيام بحق هذه النعمة، وهو إنّما أطلق
الكفر بالنعمة على مَن لم يحسن إدارة الأزمات
في المجتمع، وأذاق الناس لباس الجوع والخوف.
وكلنا يعلم أن المجتمع وأكثرية الناس ليسوا
على وعي اقتصادي أو سياسي، حتى يكونوا مشمولين
في هذه الصناعة. إنّ فقه الآية، بما تحويه من
تأكيد على صناعة الفعل، يرشدنا إلى تلك الفئة
المترفة التي تقوم بإدارة شؤون المجتمع، وتسيء
إلى ثروته، سواء من حيث الإنتاج، أم من حيث
التوزيع. هذا ملخص لما وفّقنا له من تحليل
واستنطاق للآية المباركة، والتي هي عنوان
اقتصادي وسياسي واجتماعي يمكن للفقهاء وأهل
الخبرة أن يؤسّسوا عليها لإنتاج نظرية في مجال
الرؤية الاقتصادية وتشكلات المجتمع السياسي.
ولعلّنا لا نخطئ القول بأن أكثرية المفسرين لم
يتعرضوا إلى كثير من تفاصيلها، ومرّوا عليها
دون أن يلتفتوا إلى تضميناتها الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية، ومن خلال هذا الفهم
يمكن لنا أن نطلق الأحكام بشأن ما تتعرض له
المجتمعات الإنسانية من مظالم، فنقول: إن
صناعة الترف، قديماً وحديثاً، هي المسؤولة عن
عدم استقرار المجتمع سياسياً وااقتصادياً
واجتماعياً.
إن صناعة الترف هي التي تؤسس للمظالم، وتدفع
بالناس إلى أن يكونوا أسرى الأغنياء بسبب
الحاجة إلى المال والثروة لإدامة حياتهم، وهذا
يؤدّي بهم إلى أن يتحولوا وفاقاً لمنظومة
الترف الهادفة أساساً إلى استثمار هؤلاء في
المشاريع السياسية والاقتصادية، ليكونوا أمة
الاستخفاف، وشعبة الاستبداد..!؟
إنّ صناعة الترف، كانت ولا تزال تسعى إلى رسم
حدود فاصلة بين المال والثروة والدعوة النبوية
للحيلولة دون أن يكون للنبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أو للصالحين من عباد الله تعالى،
أي دور في الاستفادة من المال والثروة في
تعزيز استقرار المجتمع من خلال تأمين الحاجيات
التي تسمح للناس الصالحين من متابعة دورهم
وتحمّل مسؤولياتهم وفاقاً لرؤية أخلاقية تمنع
من الاستبداد والاستئثار والاحتكار، ولعل قوله
تعالى في سورة المنافقون يرشد إلى ما يبتغيه
المترفون من سطوة المال والثروة حيث قال: ﴿
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ
عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى
يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴾
[المنافقون: 7] .
[128] سورة هود، الآية: 16.
[129] سورة المائدة، الآية: 63.
[130] انظر: المجلسي، محمد باقر، بحار
الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403هـ، توفي
(1111هـ)، ج1، ص216. وقا: الراوندي، فضل الله،
كتاب النوادر، دار الحديث، قم، تحقيق سعيد
العسكري، توفي (571)، ج1، ص156.
[131] سورة المائدة الآية: 44.
[132] سورة التوبة، الآية: 34.
[133] سورة المائدة، الآية: 63.
[134] سورة المائدة، الآيتان: 78 - 79.
[135] يُروى أن الإمام الحسين (عليه السلام)
قال هذا الكلام في العام 58هـ، وكانت
المناسبة حجّ بيت الله الحرام، فاجتمع إليه
بمنى أكثر من ألف رجل من أصحاب رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ومن أبنائهم والتابعين
ومن الأنصار، حيث قام خطيباً ليبيّن للناس ما
صنعه الطغاة من مظالم، طالباً إليهم لما
يمثلونه عند الناس أن يقوموا بدورهم، وإبلاغ
الناس، قائلاً لهم: «أنشدكم بالله إلاّ رجعتم
وحدّثتم به من تثقون به».
انظر: موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه
السلام) ، معهد تحقيقات باقر العلوم، منظمة
الإعلام الإسلامي، طهران، قم، 1415، ص374.
[136] نقل عن ابن عباس قوله: «إنّ هذه الآية
أعنف آية وبّخت العلماء المتجاهلين
لمسؤولياتهم الصامتين عن المعاصي، وقد أوضح
السبحاني في سياق بيان الفرق بين قوله تعالى
«يعملون» وقوله «يصنعون»، مبيناً أن العالم
الذي لا يؤدّي واجبه، فهو يرتكب إثماً عن
دراية وعلم وتفكير.
را: الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 2007م، ج3، ص568.
[137] انظر: جعيّط، هشام، الفتنة، دار
الطليعة، بيروت 1995، ص62.
[138] حسن، إبراهيم، تاريخ الإسلام، مكتبة
النهضة المصرية، 1964م، ج1، ص341.
[139] الشهرستاني، الملل والنحل، م. س، ج1،
ص42.
[140] الدينوري، ابن قتيبة، (ت276هـ) تحقيق
علي شيري، الإمامة والسياسة، المعروف بتاريخ
الخلفاء، دار الأضواء، بيروت، ج2، ص216.
[141] را: قطب، محمد، كيف نكتب التاريخ، م. س،
ص146.
[142] را: إمام، إمام عبد الفتاح، الطاغية،
دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، عالم
المعرفة، م. س، ص222.
[143] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه
السلام) ، م. س، ص174.
[144] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج
البلاغة، م. س، الخطبة: 3.
[145] العسكري، مرتضى، معالم المدرستين،
المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) ،
ط1، 1424هـ، طهران، ج3، ص231.
[146] انظر: مرتضى العاملي، جعفر، الإمام
الحسن (عليه السلام) دار السيرة، بيروت، ط1،
1994، ص92.
[147] الشهرستاني، الملل والنحل، م. س، ج1،
ص82.
[148] السبحاني، جعفر، المذاهب الإسلامية، دار
الولاء، بيروت، ط2، 2005م، ص11.
[149] قال الإمام علي (عليه السلام) : «اللهم
بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما
ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل
حجج الله وبيّناته، وكم ذا وأين أولئك، أولئك
والله الأقلّون عدداً، والأعظمون قدراً، يحفظ
الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم،
ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على
حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا
ما استوعره المترفون، وأنِسُوا بما استوحش منه
الجاهلون...، نهج البلاغة، م.س، قصار الحكم:
147.
[150] يقول ابن رشد: «فكم من فقيه كان الفقه
سبباً لقلّة تورّعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر
الفقهاء كذلك نجدهم وصناعتهم العملية إنّما
تقتضي بالذات الفضيلة العملية».
انظر: ابن رشد، فصل المقال فيما بين الشريعة
والحكمة من اتصال، بيروت، دار المشرق، ط1،
1986، ص34.
[151] را: الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير
الأمثل، م. س، ج3، ص212.
[152] سورة الحج، الآية:
4.
[153] سورة الحجرات،
الآية: 7.