الكتاب |
المُتْرَفُونَ
وصِنَاعَةُ الْفَسَادِ (إشكالية
الترف في الدين والسياسة)
قراءة من منظور قرآني |
تأليف |
الشيخ عارف هنديجاني فرد |
إعداد ونشر |
جمعية القرآن الكريم |
الطبعة |
الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت |
موقع جمعية القرآن الكريم |
www.qurankarim.org |
بريد جمعية
القرآن
الكريم |
info@qurankarim.org |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
خير خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
قال الله تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ .
إلى عاشق القرآن الكريم الآمر بجهاد النفس،
والأعداء، ونشر العلم والثقافة.
إلى المحب لسيدي ومولاي رسول الله الأعظم (صلى
الله عليه وآله وسلم).
إلى الموالي لمولاي قسيم الجنة والنار حيدر
الكرار (عليه السلام) .
إلى ناصر مولاتي الطاهرة الزهراء البتول
(عليها السلام) .
إلى المقتدي بالسبطين الزكيّين الحسن والحسين
(عليهما السلام) .
إلى المتمسك بالأئمة الحجج الكرام المعصومين
(عليهم السلام) ، لا سيما صاحب الزمان ومظهر
الدين ومقيم العدل الإمام الحجة (عج) جعلنا الله
من أنصاره.
إلى المجاهد في سبيل الله بالميادين العلمية
والثقافية والسياسية والعسكرية.
إلى حجة الإسلام والمسلمين سماحة السيد حسن
نصرالله (حفظه الله).
فرج الله عنك وعن جميع المؤمنين بالنصر
والمعونة في الدنيا والثواب في الأخرة.
أقدم هذا الجهد المتواضع للوصول إلى الأهداف
الإلهية وأرجو من الله أن يتقبل هذا الإنجاز
الصغير إنه سميع عليم.
الشيخ عارف هنديجاني فرد
سبق لكثير من الباحثين أن عرضوا لموضوع الترف
والمترفين في المجتمعات الإنسانية، وبيّنوا في
بحوث كثيرة أن المجتمع الإنساني، سواء أكان
مؤمناً متديّناً، أم لم يكن، هو عرضة لمساوئ
المترفين فيما يكون منهم من أقوال وأفعال تطال
كل شرائح المجتمع. وإذا كانت البحوث الإسلامية
قد تناولت هذا الموضوع من زاوية قرآنية، أو
دينيّة، فهي في كثير من التفاصيل لم تعرض لما
يحدثه الترف وأهله من فساد في بنية المجتمع
الإنساني، وقد أردنا في بحثنا هذا أن نعرض
لموضوع الترف، ودور المترفين في صناعة الفساد،
سواء في المجال الديني، أم في المجال السياسي،
فضلاً عن مجالات أخرى كالاقتصاد مثلاً الذي
تحاول هذه الدراسة أن تبيّن دور المترف
ووظيفته في إفساد الوضع الاقتصادي للناس،
وخاصة في طور مدنيّة الإنسان وتحضّره. ولا شكّ
في أن عدم القيام بهذه الدراسة يُبقي على كثير
من جوانب الموضوع مبهمة، أو غامضة، باعتبار أن
جملة التفاسير القرآنية التي عرضت لموضوع
الترف عرضت له من زاوية سلبيّاته في إطار
العلاقة مع النبوّة من جهة، ومع الدين بما هو
سنّة اجتماعية من جهة أخرى، ولهذا نحن سنحاول
جاهدين أن نستوفي ما نقص من بحوث، وأن نظهر
مكامن الخلل فيها على النحو الذي يجعل من
دراستنا هذه دراسة مفيدة ومجدية تضاف إلى سائر
البحوث الإسلامية القديمة والحديثة، التي
تناولت هذا الموضوع، سواء من جهة آثاره
الاجتماعية والسياسية، أم من جهة تداعياته على
عقائد الناس وثقافتهم. فالترف لا يخلو منه
مجتمع إنساني، وقد برّزه القرآن الكريم،
ليدلّل على ما للترف والمترفين من دور سلبي في
حياة الناس، ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى
حقيقة المقابلة القائمة بين قول النبوّة وقول
المترفين في القرآن الكريم، فهم أي المترفون،
كانوا دائماً على رأس كل معارضة للنبّوة لا
بما هم أصحاب أموال وحسب، بل بما هم أصحاب
نفوذ وسلطة في حياة الناس من خلال عقائد
ونظريّات ما أنزل الله بها من سلطان. ولهذا،
فإنّ الغاية، كما أوضحنا في هذه الدراسة، هي
معالجة النقص الموجود في تناول هذا الموضوع من
زاوية قرآنية.
لا شك في أن كل بحث، أو دراسة لها مسوّغات
تدفع إليها، وقد ألمحنا في تمهيدنا إلى أن
الدافع إلى هذه الدراسة هو التعرّف إلى حقيقة
ما تنطوي عليه الآيات القرآنية من معانٍ
ودلالات في إطار ما عرضت له من علاقة سلبية
دائمة ومضطردة بين الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، إضافة
إلى ما تختزنه الآيات من حقائق حول السنن
الحاكمة في ميدان التاريخ الإنساني، وهذا ما
نرى أنه يمكن الإجادة فيه، لأن المترف ليس هو
صاحب النعمة وحسب، بل هو الكافر بها، وقد جاء
الخطاب القرآني ليدلّل على هذا المعنى، ويرشد
إلى أن المترفين هم الذين يعيثون فساداً في
الأرض، ويدّعون أنهم مصلحون، ولا نكاد نلحظ
آية قرآنية تتحدّث عن الفساد، أو عن الترف، أو
عن الاستكبار في الأرض، أو عن الطاغوت، أو
عمّن استهوته الشياطين إلاّ وهي متضمّنة
الإشارة إلى أكثرية مترفة من الناس تعبث
بالأمن وتفسد في الأرض وتسفك الدماء. ولعلّنا
لا نخطئ القول بأن جواب الملائكة حينما أُمروا
بالسجود لآدم (عليه السلام) بقولهم: ﴿
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾
[1] ، هو
إشارة لطيفة إلى المترفين أصحاب النفوذ
والسلطة والمال الذين يفسدون في الأرض، وليس
من الغرابة في شيء أن نسوّغ لبحثنا هذا
بالحديث عن الترف من خلال التوسّع في معالجته
للاطلاع على حقائق لم يسبق لباحثين أن عرضوا
لها، أو توقفوا عندها، من قبيل شكوى الملائكة
التي تُرجمت على لسان الأنبياء (عليهم السلام) جميعاً فيما
أرشدوا إليه من علاقات سلبيّة بين أهل الإيمان
وأهل الترف، حيث دعوا جميعاً، أي الأنبياء
(عليهم السلام)،
إلى أن يكون الناس على حذر في علاقاتهم مع
المترفين لكونهم يعارضون الحق، ويمنعون من
العدل، ويفسدون في الأرض
...
كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أنَّ عرضنا لهذا
البحث فيما ينطوي عليه من عناوين جديدة، وخاصة
في مجال صناعة الفساد، يهدف ليس فقط إلى
الدوافع والمسوّغات التي تحتّم إعادة البحث في
هذا الجانب، بل تهدف أيضاً إلى وضع هذه
الدراسة بين أيدي الباحثين والمفسّرين للوقوف
على بعض الحقائق القرآنية التي سبق للباحثين
أن توقفوا عندها، ولكنهم لم يلحظوا جوانبها
المختلفة، وخاصة لجهة دور المترفين في صناعة
الفساد وتهديد الأمن الاجتماعي والسياسي
للناس، فضلاً عن الديني والأخلاقي. وهذا بحدّ
ذاته يشكّل مسوّغاً لإعادة البحث واستخلاص بعض
النتائج التي لا بدّ منها في إطار بناء
العلاقات الإنسانية الإيجابية، سواء بين
المسلمين أنفسهم، أم بين المسلمين وسائر
الشعوب والأمم التي هي في صراع دائم ومستمرّ
مع هذه المجموعة المترفة، وقد أرشد القرآن إلى
هذا المعنى فيما عرض له من عقيدة ومنطق خاصّين
بالمترفين، الذين يجمعهم سوء الاعتقاد وحب
المال والثروة، وغير ذلك مما له دخالة بحبّ
الدنيا والتلذّذ بمتاعها على حساب القيم
والمبادئ الإنسانية
...
إنّ كل دراسة أو بحث لا بدّ أن تنطوي على
إشكالية تدفع الباحث إلى إيجاد إجابات وحلول
لها، باعتبار أن البحث لا يكون لمجرّد البحث،
وإنّما بهدف استجلاء الموقف اتجاه مسألة أو
قضيّة، أو مشكلة تعرض للإنسان في رؤيته
للحياة، أو في علاقاته الإنسانية، أو في
نظريّاته عن الكون والخلق والحياة.
وهكذا، فإنّ معنى إيجاد حلّ لمشكلة ما، هو
المسوّغ للبحث، وليس خفيّاً على أحد من أهل
العلم والمعرفة أنّ أكبر مشكلة تواجه
المجتمعات الإنسانية منذ القدم هي مشكلة الترف
والمترفين في الحياة الإنسانية، وقد بيّن
القرآن هذا المعنى بما يوحي أن المترفين ليسوا
حالة طارئة في الاجتماع الإنساني، بل هم حالة
متجذّرة في المجتمع، بدليل ما عرض له القرآن
من علاقات سلبية بين الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، حيث
نجد قوّة الصراع على أوجّها في كل زمان ومكان
بين النبوة والمترفين، كما قال تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[2] . وهذا
يؤكّد على أن المجتمع الإنساني كان وسيبقى
عرضة لهؤلاء المترفين في مواجهة الأنبياء
(عليهم السلام) والصالحين، باعتبار أنهم أصحاب مشروع في
السياسة والاقتصاد والاجتماع، فضلاً عن الدين،
وليسوا مجرّد أشخاص يطمحون إلى أن تكون لهم
حالات متميّزة، وإنّما هم يمثّلون رؤية
ويحملون نظرية، ويؤكّدون على دورهم في استخدام
الناس لحساب نفوذهم ومشاريعهم السياسية
والسلطوية، ولعلّ هنا مكمن المشكلة الأساسية.
وقد عرض القرآن لهذه المشكلة في إطارها
الاجتماعي والسياسي والعقائدي، وهو فيما عرض
له يؤكّد على الطابع الإنساني الهادف إلى
تحرير المجتمع الإنساني من نفوذ المترفين،
ويمكن لنا أن نعرض المشكلة في شكل تساؤلات،
وأهمّها.
لماذا يظهر القرآن هذه العلاقة السلبية بين
الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين؟
وهل قدر النبوّة دائماً والصالحين من عباد
الله تعالى أن يواجهوا المترفين للحيلولة دون
انتصار رؤيتهم للحياة والخلق والوجود؟ وهل
يمكن للإنسان أن يكون بمنأى عن تأثيراتهم
السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
وكيف يؤسس القرآن لنظرية الإصلاح في مواجهة
المترفين؟
ولعلّ السؤال الأبرز في طرح المشكلة يكمن في
التساؤل الآتي: لماذا تنسب إلى المترفين صناعة
الفساد في المجتمع، باعتبار أنهم ليسوا مجرّد
أناس يصيبون ويخطئون في ممارساتهم وعلاقاتهم،
وإنّما هم أهل قصد وعزيمة ومشروع هادف قائم
على الوعي بالأهداف المنشودة؟
هذه هي حدود المشكلة، أن المترفين هم أهل
صناعة وتدبير، وليسوا مجرّد أشخاص تستهويهم
المصالح والغايات الدنيوية، وما نريد الإجابة
عليه وطرح الفرضيّات بشأنه هو هذا، أن نتعرّف
إلى مشروع هؤلاء، وإلى ما يعتمدونه من أساليب
في مواجهة الأنبياء (عليهم السلام) وأهل الإيمان، وقد سبق
للمفسرين والباحثين في النظريات الإسلامية أن
خلصوا إلى نتائج مهمة في سياق معالجتهم لهذه
المشكلة، وما يمكن أن يضاف إلى بحوثهم هو
التعرّف إلى مزيد من الحقائق، وخاصة في مجال
الرؤية الموضوعية لكثير من الآيات القرآنية،
وما جاءت به من سياقات تخرج الترف عن كونه
حالة ليكون مشروعاً يُخشى منه دائماً على أهل
الصلاح والإصلاح في المجتمع الإنساني، وخاصة
في المجتمع الديني.
لقد تقدّم الكلام في أن لكل بحث، أو دراسة
مشكلته الخاصة به، ومثلما أنّه على الباحث أن
يتعامل مع هذه المشكلة في ضوء ما هو ثابت
ومتغيّر في الرؤية الدينية، كذلك، فإنّ لكل
باحث منهجه الخاص به، باعتبار أنه لا بدّ من
اختيار الطرق والأساليب التي تتيح للباحث
باختيار ما يناسب بحثه. وإذا كان موضوع بحثنا
هو الترف والمترفون وما لهم من دور في صناعة
الفساد، فإنّه لا بدّ من اختيار المنهج
الملائم لهذه الدراسة التي اختير لها أن تكون
دراسة من منظور قرآني. فإن قلنا: إن المنهج
الذي يسمح بمناقشة ومعالجة هذا الموضوع هو
المنهج الاستقرائي، أو المنهج المقارن، أو
المنهج التحليلي، فإنّ هذه المناهج كلها يمكن
أن يحتاجها الباحث في دراسته القرآنية، وذلك
انطلاقاً من كون الدراسة هي ذات طابع موضوعي
يأخذ الآيات القرآنية لا على نحو ترتيبي،
وإنّما على نحو موضوعي هو الترف والمترفون،
وهذا ما يقتضي من الباحث أن يكون على وعي كامل
بالطريق والمنهج الذي يوصله إلى الغاية
المرجوّة من بحثه. ولا شكّ أن القرآن يرشد إلى
هذا المنهج القويم من خلال طريقة وأسلوب عرض
الآيات القرآنية ذات الصلة بموضوع الترف.
وهكذا، فإننا نرى ضرورة لأن نعتمد الخطوات
العملية التي تساعد على اكتشاف منحى القصة
القرآنية، أو الأهداف التي نريد تبيانها من
خلال خلاصة القصة القرآنية، إذ إنّ هناك فرقاً
كبيراً بين المنهجية التجزيئية التي تبحث عن
الآية كآية، وبين المنهجية الجمعيّة التي تنظر
إلى السورة الواحدة كمجموع، وقد رأى بعض
الباحثين أن التفسير الموضوعي هو اعتماد الجمع
بين الآيات والمواضيع، وبين هذين الجمعين فرق.
فالجمع بين الآيات غير الجمع بين المواضيع،
فالأول يعني تفسير آية بآية، أما الجمع بين
الموضوعات، فهو اعتماد جمع الآيات وترتيبها
على أساس موضوعٍ ما،.. ففي البحث عن قصة نوح
نجد قوله تعالى: ﴿
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26)
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ
وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً
﴾
[3]
. فكيف عرف نوح بأنهم لن يلدوا إلاّ فاجراً
كفّاراً، هنا تأتي آية أخرى تفسّر هذا الإشكال
وتقول: ﴿
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ
مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا
تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾
[4] .
وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أن المنهج الملائم
لاكتشاف حقيقة العلاقة بين المترف وما له من
آثار في المجتمع وبين ما يختزنه القرآن من
رؤية، هو المنهج أو الاتجاه الموضوعي الذي من
خلاله يمكن ملامسة حقيقة ما ترمي هذه الدراسة
إلى تبيانه والتجديد فيه، والله وليّ التوفيق.
[1] سورة
البقرة، الآية: 30.
[2] سورة
سبأ، الآية: 34.
[3] سورة
نوح، الآيتان: 26 - 27.
[4] سورة
هود، الآية: 36.
قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين من باحثين وغيرهم
أن المقصود بالترف والمترفين في القرآن هم
أصحاب المال والنعم التي يمنّ بها على
الإنسان، وهذا مما له وجوه من المدح في آيات
الله تعالى، باعتبار أن المال وسائر النعم
الإلهية هي من الزينة التي لا تقوم الحياة
الإنسانية إلاّ بها، كما قال تعالى: ﴿
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ
أَمَلاً ﴾
[1] . فالآية
ناظرة إلى حقيقة ما تتقوّم به الحياة من مال
وولد ونعم مادية ومعنوية، وما كانت الدنيا
لتستقرّ إلاّ بها. وعليه، فإنّ معنى أن تكون
مترفاً أن تتجاوز بما أنعمه الله عليك طاعة
الله إلى المعصية، بأن تكتنز الذهب والفضة
لتصدّ بها عن سبيل الله تعالى، كما قال تعالى:
﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً
مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
﴾
[2] .
وانطلاقاً مما تقدّم، نمهّد لهذا الفصل
بملاحظة جملة الآيات التي تعرض لموضوع الترف
والمترفين بحيث نتمكن من معرفة الحقائق التي
تلحظها وتستنبطها هذه الآيات؛ على النحو الذي
نستطيع معه أن نظهّر موضوع الترف وعلاقته
بكثير من العناوين القرآنية، مثل الاستكبار،
والعلوّ، والفساد، وغير ذلك من العناوين التي
لها علاقة مباشرة، أو غير مباشرة بموضوع
بحثنا. وقد يكون من المناسب جداً أن نمهّد
لهذا الفصل بالتعقيب على كثير من المفاهيم
القرآنية التي سبق لباحثين مسلمين وغير مسلمين
أن تعرّضوا لها في ضوء ما تناولوه من بحوث
إسلامية، فنقول: إنّ الترف ليس ظاهرة طارئة في
حياة الإنسان، ولا هو مما يمكن تجاوزه أو
التساهل بشأنه لكونه يشكّل حقيقة معاشة في كل
اجتماع بشري، ولعلّ ما عرض له القرآن من
علاقات سلبية بين الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين كاشف عن
هذه الحقيقة، باعتبار أن المترفين، بما هم
أصحاب نفوذ ومشاريع سلطوية كانوا دائماً في
طليعة المعارضين للمشروع الإلهي التي تحمله
النبوّة. وقوله تعالى: ﴿
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[3] دليل حيّ
وساطع على أن المترفين هم سبب كل جهل وفساد في
المجتمع الإنساني، وقد تجاوز الحال بالمترفين
إلى أن يكونوا في طليعة من يواجه المشروع
الإلهي من خلال استثمار ليس المال وحسب في
مشروع الصدّ عن سبيل الله وتعاليمه، بل
تجاوزوا ذلك إلى أن يكون الدين أيضاً، بما هو
سنّة اجتماعية، سبيلاً للترف
[4]
، على نحو ما بيّن فرعون في مواجهة مع النبي
موسى (عليه السلام) بقوله: ﴿
إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ
أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
[5] .
وكيف كان، فإنّنا نمهّد لهذا الفصل إلى ما
يعنيه الترف في القرآن بكل ما يلابسه من
عناوين ومفردات أخرى، وهذا ما يقتضي منّا أن
نعرّف الترف أولاً، سواء من حيث اللغة، أم من
حيث المفهوم، قبل أن نعرض لتفاصيل العناوين
الكبرى، التي نرى أنّه لا بدّ من ملاحظتها
والتوقف عندها لتبيان بعض الحقائق التي غفل
عنها البعض، أو تجاوز عنها ظنّاً منه أنها لا
تتجاوز الإطار الفردي، أو الحالة الحياتية
المعاشة للإنسان المترف، سواء أكان فرداً، أم
جماعة، أم مجتمعاً؛ فالترف الذي نبحث عنه هو
الذي يمكن استفادته من سياق الآيات القرآنية
بما هو مشروع هادف إلى مواجهة الأنبياء (عليهم
السلام)
والصالحين، وبما هو مشروع إفساد في الأرض.
وقد زعمنا فيما تقدّم أنّ الملائكة حينما
أشاروا إلى الإفساد في الأرض. وإلى سفك الدماء
في موضوع استخلاف النبي آدم (عليه السلام) على الأرض، إنّما لحظوا
هذه الحقيقة الأرضيّة إذا صحّ التعبير، حقيقة
أن المترفين لا يمكن أن يكونوا خلفاء في الأرض
في الوقت الذي يقوم الملائكة بالتسبيح لله
تعالى. وقد جاء الردّ الإلهي بأن المستخلف ليس
هو هذا المترف، وإنّما هو الإنسان الذي يعقل
عن الله تعالى، ويرضى عن فعله أهل السماوات
والأرض، كما قال تعالى: ﴿
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ .
وهذا ما سيكون بعونه تعالى مثار البحث والجدل
في هذا الفصل لعلّنا نوفّق إلى مزيد من
الحقائق الإلهية الكامنة في ما جاء به
الأنبياء (عليهم السلام) عند ربّهم، ذلك هو ما نروم معالجته
والتساؤل بشأنه لكون المترفين في القرآن، كما
أسلفنا، هم الجهة المقابلة للمشروع الإصلاحي،
بل لمشروع الهداية الإلهية في الأرض، كما قال
تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[6] .
قال ابن منظور: «ترف: التَّرف: التنعُّم،
والتُّرفةُ النعمةُ، والتتريف حسن
الغذاء...والمُترفُ: الذي قد أبطرته النعمة
وسَعة العيش، وأترفته النعمة أي أطغته.. وفي
الحديث: إن إبراهيم، فرَّ به من جبار مترف،
وقوله تعالى: «﴿
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ... ﴾ ؛ أَي أُولو التُّرْفةِ،
وأراد رؤساءها وقادة الشرّ منها»
[7] .
وقال الطريحي في مجمع البحرين في معنى ترف،
قوله تعالى: ﴿
وَأَتْرَفْنَاهُمْ ...
﴾ أي نعمناهم وبقيناهم في الملك،
ومثل قوله تعالى: ﴿
أُتْرِفُواْ ﴾ ، أي الذين نعموا في الدنيا
بغير طاعة الله، والمترف: المتروك يصنع ما
يشاء، وإنما قيل للمتنعم مترف لأنه لا يمنع من
تنعمه، فهو مطلق فيه...
»
[8] وإلى مثله
ذهب الراغب الأصفهاني في مفرداته، فرأى أن
المترف هو المتنعم بملاذ الدنيا، فيقال أترف
فلان، فهو مترف، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا
فيه، وهم الموصوفون بقوله تعالى: ﴿
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ
رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾
[9] ، والتُرفةُ:
التوسّع في النعمة...»
[10] .
إنّ كلام أهل اللغة يوضّح بما لا لبس فيه أن
أهل الترف هم الذين بدّلوا نعمة الله
كفراً،سواء في مجال العقيدة، أم في مجال
السلوك العملي، ولا يُستفاد من كلام أهل اللغة
والاصطلاح، حصر أهل الترف بالرؤساء وقادة
الشرّ، وإنّما الذي أوضحه الطريحي في تعريفه
للترف بأنه التنعم في الدنيا بغير طاعة الله
تعالى، وهذا التنعم مثلما أنه ينطبق على قادة
الشرّ، فإنّه ينطبق على كل مترف بدّل نعمة
الله كفراً، وقد يكون هذا المترف فرداً أو
جماعة، أو مجتمعاً، أو سلطة حاكمة، كما هو حال
وشأن السلطات التي تعاقبت على حكم المسلمين
وغيرهم في تاريخ الإنسان، ومن هنا يمكن لنا أن
نميّز بين النعمة بما هي نعمة أفاضها الله
تعالى على الإنسان لتكون في سبيل الله تعالى،
وبين التُّرْفة بما هي شهوة ولذّة وخروج عن
طاعة الله تعالى، وكثير من الناس ممّن بدّلوا
النعمة إلى ترفة، فحقّ عليهم القول وكانوا
قوماً بوراً ...
يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصف الدنيا: «إنها دار كتب
الله لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء... وقد
عجلت للطالب، والتبست بقلب الناظر، ويظنّ ذو
الثروة الضعيف... فارتحلوا منها يرحمكم الله
بأحسن ما بحضرتكم، ولا تطلبوا منها أكثر من
القليل، ولا تسألوا منها فوق الكفاف، وارضوا
منها باليسير ولا تمدُّنَّ أعينكم منها إلى ما
متّع المترفون به، واستهينوا بها ولا
توطِّنوها، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ،
وإيّاكم والتنعّم والتلهّي والفاكهات... إنّ
الدنيا قد تنكّرت وأدبرت واحلولت وأذنت بوداع،
ألا وان الآخرة قد رحلت فأقبلت وأشرقت وأذنت
باطلاع...»
[11] .
لا شكّ في أن كلام أمير المؤمنين (عليه
السلام) كاشف عن ما يعنيه حبّ الدنيا والتنعّم
فيها إلى حدّ الترف والتلهّي، فهو (عليه
السلام) يبيّن أن الترف، كما جاء في المعنى
اللغوي، يمنع من التبصّر بحال الدنيا وما هي
عليه من فناء وجلاء والتباس على الناظر إليها
والمتمتّع فيها. إن في كلام الإمام (عليه
السلام) ما يرشد إلى حقيقة ما جاء به القرآن
عن الترف والمترفين لجهة التلبّس بالدنيا
والاستغراق فيها، هذا فضلاً عن كون كلامه هو
استنطاق للآيات القرآنية وما تختزنه من مفاهيم
ودلالات عن الترف والمترفين، ولعلّ أهمّ ما
يمكن استظهاره من كلام الإمام علي (عليه
السلام) هو دعوته
إلى صرف النظر والقلب عمّا متّع به المترفون
فيها، وهذا هو المفهوم الحقيقي لمعنى الترف،
الذي يدفع بالإنسان إلى الاستغناء بالدنيا عن
الآخرة، والركون إلى ما هو زائل ومدبر، وقد
ورد في القرآن ما يدعو النبي إلى الاكتفاء
برزق الله تعالى، الذي هو أبقى مما يتطلّع
إليه أهل الترف في الدنيا، كما جاء في قوله
تعالى: ﴿
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَأَبْقَى ﴾
[12] .
وهذا هو في الجوهر، مفاد كلام الإمام علي
(عليه السلام) في
قوله «ولا تمدّنّ أعينكم منها إلى ما متّع
المترفون به...». فإنه زهرة الحياة الدنيا،
هذا فضلاً عن كونه فتنة للمتمتّع به، سواء
أكان فرداً أم جماعة أم مجتمعاً ...
إنّ معنى الترف، ومفهومه، هو هذا، أن يتخذ
الإنسان من التلهّي والفكاهة بديلاً عن رزق
الله تعالى، الذي هو خير وأبقى، فإذا كان
مفهوم الترف هو هذا، فلا يبقى أن نقول إلاّ
أنّ هذا المفهوم يستجمع أهل الترف ليكونوا
تعبيراً عمّا هو زائل وفانٍ ولا بقاء له، وهذا
ما يكشف لنا عن الدور والوظيفة التي يقوم بها
المترف في المجتمع الإنساني، إذ هو يدعو، أي
المترف، أصحابه ليكونوا من أصحاب السعير في
الآخرة، تماماً كما هم أصحاب الشيطان في الدنيا.
نعم، ليس للترف مفهوم إيجابي، بحيث يقال: إنّ
المترفين هم أصحاب النعم وقد خصّهم الله تعالى
بها لاستحقاقهم لها، وإنّما هي فتنة، كما قال
تعالى: ﴿
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
﴾ ، وهذا الابتلاء، قلّما ينجو منه
مترف في الحياة الدنيا. ولا شكّ في أن الآيات
القرآنية حافلة بمثل هذه الدلالات والمفاهيم
عن الترف والمترفين، كما في قوله تعالى: ﴿
وَارْجِعُواْ إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ... ﴾ . وليس بعيداً من
هذا ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة من أن
المترف هو سبب كل أزمة مالية، أو اقتصادية، أو
اجتماعية في أي مجتمع إنساني، سواء أكان
متديّناً، أم لم يكن، وهذا ما سيتمّ لحاظه في
مباحث هذه الدراسة، حيث سنرى كيف أن من معاني
الترف ودلالته أنه يخرج الإنسان من كونه عبداً
لله، ليكون عبداً للدنيا والطواغيت وقادة
الشرّ في المجتمع.
إذن، قادة الشرّ ورؤساء القوم هم المترفون
الذين يستعبدون الناس ويستخفون بهم ليكونوا
عبيداً لهم، وليس من المصادفة في شيء، ولا من
الفراغ في شيء أن يركّز القرآن الكريم على
الدور السلبي للمترفين في مواجهة الدعوى
النبوية.
يبقى أن نقول: إنّ مفهوم الترف يمكن استجلاؤه
من الرؤية القرآنية العامة حول الترف
والمترفين، طالما عرفنا أن الترف، كما بيّن
أهل اللغة، هو التنعم بالملذّات والشهوات،
والاهتمام بملاذ الدنيا وحطامها الزائل على
حساب القيم والمبادئ السامية، وكل إنسان، أو
مجتمع، أو أمّة تأخذ منه الدنيا مأخذها، وتبلغ
منه مأملها، هو إنسان مترف يعصي الله تعالى
فيما أنعم به عليه وابتلاه به. إنّه إنسان
متروك يصنع ما يشاء، لا تهمّه معصية، ولا
تستهويه قيمة، ولا يمنع من تنعمه شيء، كما
أفاد الطريحي، وكل إنسان، أو أمّة، هذا شأنه
لا بدّ أن تكون عاقبته الخسران لا لنفسه وحسب،
بل للمجتمع الذي يعيش فيه، وذلك كله إنما يمكن
استفادته مما تجمع عليه النصوص والتجارب من أن
أهل الترف، بما يمثلونه من رؤية ومشروع، وبما
يحملونه من أهداف، ليس لهم غاية وراء أطماعهم
وأهدافهم الدنيوية سوى التفنّن في الترف
وإحكام الصنائع المستعملة على حدّ تعبير ابن
خلدون
[13] .
ولهذا فإنهم، أي المترفون هم أهل صناعة فاسدة
في المجتمع الإنساني، هذا فضلاً عن كونهم
الجهة المقابلة دائماً لمشروع الحق والعدالة،
وهذا هو أهم مفهوم يمكن ملامسته في تعريفنا
للترف والمترفين،... سواء من حيث اللغة، أم من
حيث المعنى والمفهوم، ولعل البحوث القادمة
تعالج مفهوم الترف بالشكل الذي يكشف عن كثير
من المفاهيم والمدلولات التي لا بدّ من
التعرّف عليها فيما نرى أنه بحث ورؤية
جديدة...
إن منهج هذه الدراسة، كما بينّا في كلامنا حول
المنهج، ليس تفسير آية بآية أخرى، وإنّما
تفسير الآيات بلحاظ الاتجاه الموضوعي الذي
يتقدّم خطوة على الاتجاه التجزيئي على حدّ
تعبير الشهيد الصدر
[14] إذ هو يرى
أن هذا الاتجاه يسمح للباحث بالتعرف إلى
الموقف الإسلامي من عقائد المترفين وسلوكهم في
المجتمع في ضوء التجارب الإنسانية، وقد لحظ
القرآن هذا المعنى في إطار تجربة الأنبياء
(عليهم السلام) مع
المترفين، وخاصة في التجربة الإسلامية، حيث
أظهر القرآن حقيقة ما للترف من آثار سلبية على
حياة الناس وعقائدهم، وهذا ما يمكن تلمّسه من
خلال السياق العام للآيات القرآنية، فهي حيث
ذكرت تعطي دلالة واضحة على أن سبب هلاك الأمم
وموتها هو استحكام الترف بها، وقد سبق للشهيد
الصدر أن قدّم بحثاً فريداً في موضوع السنن
الحاكمة في حياة الناس مبيّناً ما لهذه السنن
من حاكمية في ميدان التاريخ وتحولات الإنسان،
مقسّماً هذه السنن إلى ما هو مشروط، وما هو
ناجز، فضلاً عمّا لبعض السنن من اتجاه موضوعي،
وهذا ما أدرجه الصدر تحت عنوان أشكال السنن
وما لها من خصائص
[15] .
وكيف كان، فإنّ هذا الاتجاه الموضوعي لفهم
آيات القرآن من خلال السياق الذي جاءت فيه، لا
بدّ أن يؤدّي بالباحث إلى الظفر بجملة من
المفاهيم والدلالات، فضلاً عن الحقائق التي
يريد الله تعالى تبيانها للناس ليكونوا على
بيّنة مما هم فيه، ويأخذوا بالشرائط والأسباب
التي تساعدهم على اختيار ما يلائمهم في طريق
سعيهم للفوز بالسعادة من خلال التخلّص من
المترفين ومساوئهم، طالما أن الفساد في
المجتمع لا ينفكّ عن وجودهم، باعتبار أنّ
القرآن لم يأتِ على كلمة الترف إلاّ بالذم،
وكما بيّن العلاّمة مغنية أنّ كلمة الترف
والمترفين حيث وردت في القرآن، فهي ترمز إلى
الفساد والهلاك. وأنّ أي مجتمع يوجد فيه
مترفون، فهو مجتمع يعيش في ظلّ نظام فاسد، لأن
وجود المترفين كوجود السرطان في الجسم،
والمسؤول الأول عن وجود الفاسدين في المجتمع
هو المجتمع بالذات
...
[16] .
وهكذا، فإنّ معنى أن يكون المجتمع مترفاً،
معناه أن يختار الناس بإرادتهم سلوك سبيل
المترفين، لأنّ إرادة الناس واختياراتهم لا
تتنافى وسنن الاجتماع والتاريخ، إذ إنّ كل أمر
في التاريخ وميادينه هو متوقف على إرادة
الإنسان، وهذه الإرادة، كما بيّن الصدر، لا
تتعارض مع السنن التاريخية. باعتبار أنّ ما
يمكن فهمه عن السنن الناجزة، هو غير ما يمكن
فهمه عن السنن المشروطة التي أشار إليها
القرآن وربطها بفعل الإنسان واختياره، كما في
قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾
[17] .
إنّ استنطاق جملة آيات الترف في القرآن، ومن
خلال السياقات التي جاءت بها، يحتّم على
الباحث أن يكون على رؤية موضوعية للأحداث
والقصص التي عرض لها القرآن، ولعلّ هذا هو
الذي حملنا على أن نعتمد التفسير الموضوعي
لكونه أوسع دلالة من أي تفسير آخر، فهو تفسير
يستنطق القرآن في ضوء القصة القرآنية بما
تحمله من تجربة إنسانية، باعتبار أن القرآن
تبيان لكل شيء، وهو في موضوع الترف والمترفين
يبيّن الحقائق وكل ما له علاقة بالإصلاح
والهداية
[18] ، وهنا
تجدر الإشارة إلى جملة من الآيات عن المترفين
لمعرفة السياق الذي جاءت فيه، إضافة إلى ما
تحمله من هداية للإنسان، من هذه الآيات قوله
تعالى: ﴿
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ
عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
﴾
[19]
.
وقال الله تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[20] .
فالآية الأولى، كما نلاحظ، تهدي إلى أن الناس
لا يزالون بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر وآمنوا بالله تعالى، وأنّ الترف يقود
الناس إلى الإجرام، إضافة إلى نجاة القليل من
الناس ممن أنجاهم الله بما أصلحوا وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر، فالآية لا تفيد أنّ
الهلاك تام وشامل وإنّما تلحظ مصير أولئك
الذين ظلموا، أما مَن لم يظلم ولم يبدّل نعمة
الله كفراً باتخاذ اللهو واللعب والترف سبيلاً
للإفساد، فهؤلاء، وهم قليل، لا ينالهم سوء،
ذلك أنّ الله تعالى لا يهلك القرى بظلم وأهلها
مصلحون، فالآية هي ذات مدلول سياسي واجتماعي
فيما جاءت به من سياق لكون الآيات تبدأ من
الأمر بالاستقامة للرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم)، ثم تنهى عن الركون إلى الظلمة وتأمر
بالصبر، ثم التأكيد على أنّ الله تعالى ما
كان ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
وهكذا، فإنّ السياق فيه ما يفيد أنّ الناس لهم
قدرة وخيار أن يكونوا بمنجاة من الهلاك فيما
لو أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولم
يتّبعوا ما أترفوا فيه، وهذا بخلاف ما لو اتبع
الذين ظلموا ما أترفوا واختاروا الركون إلى
الظلمة، فإنهم بذلك إنّما يكونون قد اختاروا
الإفساد في الأرض، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ .
ولا شكّ في أنّ مفاد هذه الآية ناظر إلى ما
يختاره المترفون من رؤية ومنطق ووسائل لمواجهة
الأنبياء (عليهم السلام). فهم اختاروا بإرادة ووعي أن يكونوا
في مواجهة الأنبياء (عليهم السلام)، وهذا ما يمكن ملاحظته في
سائر الآيات والقصص التي عرض لها القرآن عن
المترفين، حيث نلاحظ أن السياق لا يختلف بين
قصة وأخرى وإنّما الذي يختلف هو الأشخاص
والأزمنة. على نحو ما سنبيّن لاحقاً. فقد يكون
الحديث عن النبي موسى (عليه السلام) أو عن
النبي إبراهيم
(عليه السلام) أو عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وقد يكون لكل قصة منحاها التي تريد
الكشف عنه، ولكن السياق العام لآيات الترف هو
سياق واحد ذو مدلول واحد وحقيقة واحدة، يهدف
القرآن من خلاله إلى بيان حقيقة أن الترف مفسد
للخَلق والخُلق، ومؤدّي إلى الإفساد في
المجتمع. وإذا كان هناك من وظيفة للرسول، فهي
مواجهة هذا الترف بكل مفاعيله الاجتماعية
والسياسية والثقافية للحيلولة دون أن يكون له
آثار سلبية يمكن أن تؤدّي بالمجتمع إلى
الهلاك، كما بيّن الله تعالى فيما ذكره عن سنن
خاصة بأهل الباطل، وما حقّ فيهم من قول أو فعل
من قبيل تزيين الأعمال، والإمهال، وزيادة
الضلال والذنوب، والعذاب، والاستئصال، كما قال
تعالى: ﴿
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا
فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيراً ﴾
[21] .
غاية القول، إنّ الهدف من وراء ما عرضنا له هو
الدعوة إلى ملاحظة سياق الآيات في إطار الرؤية
والاتجاه الموضوعي في ضوء التجربة التي يعرض
لها القرآن الكريم بمعزل عن الأشخاص والأزمنة،
لأنّ التحدّث عن موضوع الترف والمترفين، هو
حديث واحد، ويكشف عن حقيقة واحدة، ذلك أن
القرآن، كما أفاد العلماء والمفسّرون، هو كتاب
هداية وإصلاح، وليس كتاباً علمياً يقدّم
النظريات العلمية، وإنّما كتاب يهدي إلى التي
هي أقوم في اكتشاف الحقائق التاريخية وما
يتحكم بها من السنن في ميدان التاريخ. وهذا ما
سنحاول التوقّف عنده مليّاً في هذا البحث لجهة
التأكيد على أنّ المترف ليس هو ذاك الإنسان
المتميّز في شركهِ أو كفرهِ أو عبادته وحسب،
وإنّما هو الإنسان الذي بدّل نعمته كفراً،
سواء في مجال الاعتقاد والأخلاق، أم في مجال
السلوك والعمل، سواء في قوله أم فعله، أم
ماله، فهو إنسان مترف قد يكون فرداً أو جماعةً
أو مجتمعاً، أو دولة، قد يكون حاكماً، أو
محكوماً، باعتبار أن المترف هو صفة المتنعّم
في ماله وجسمه وفي كل ما له من حالات أنعم
الله تعالى بها عليه، ولكنه أساء استخدام هذه
النعم وأفسد في الأرض.
ومن هنا، نرى ضرورة لأن نلحظ معنى الترف
والمترفين في سياق الحديث عن الاستكبار
والطاغوت؛ إضافة إلى العلم والعلماء الذين
اشتهروا بالترف، وخاصة في تجربتنا الإسلامية،
حيث نرى أنّ الأحاديث والروايات تحذّر من
اتخاذ الفقيه الذي دخل في الدّنيا أن يكون
واعظاً ومرشداً، أو دليلاً إلى الحق، كما جاء
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
بقوله: «فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على
دينكم»
[22] .
لقد ذهب بعض أهل اللغة، كما رأينا في مبحث
اللغة إلى القول بأن المترفين هم قادة الشرّ،
أو رؤساء القوم، وتابعهم في ذلك بعض
المفسّرين، على اعتبار أن القائلين بالباطل: ﴿
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ هم رؤساء القوم، الذين
تنكّروا للدعوة النبوية، ولا دليل على هذا
الحصر طالما أن التابع والمتبوع في منظومة
الترف هم جميعاً ممن ينطبق عليهم هذا القول،
بدليل ما ساقه القرآن من حوار بين المترفين،
سواء أكانوا مستكبرين، أم مستضعفين فهم
يتلاومون فيما بينهم، ويلقون بالتبعات على
بعضهم البعض، وتكون النتيجة أسرار الندامة،
كما قال تعالى: ﴿
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم
مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ
وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ
النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ
الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا
مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
[23] .
إنّ الحوار بين المترفين، كما هو مفاد الآية،
لا يستثني أحداً منهم، سواء أكانوا فقراء، أم
أغنياء، وهذا ما يدلّ على أن الترف ليس حالة
خاصة بقوم دون قوم، أو بجماعة دون أخرى،
وإنّما هو صفة، بما هو مترف، لكل معاند للحق
ومستكبر عن عبادة الله تعالى، ومُفسد في
الأرض، وهو ما لحظه الشيخ الطوسي في التبيان
[24] ،
والطباطبائي في الميزان
[25] ،
والزمخشري في الكشاف
[26]
، وغيرهم من المفسّرين، الذين رأوا في الترف
والإتراف والمترفين سبباً لهلاك الأمم، كما في
قوله تعالى: ﴿
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ .
لا شكّ في أن ما تقدّم من كلام في معنى الترف
والمترفين يحتّم الكلام في معنى هذه السنّة
الحاكمة في ميدان التاريخ، فنقول: إنّ ما يعرض
له القرآن في موضوع الترف ليس هادفاً إلى
تأكيد هذه السنّة على النحو الذي يفهم منه
أنها سنّة حاكمة لا مهرب منها، ولا مخرج
عليها، بحيث يقال: إنّها سنّة حاكمة لا سبيل
إلى الخروج مما تقتضيه من سرّاء وضرّاء في وعي
الإنسان وحركته الاجتماعية والسياسية
والحضارية. فهذا مما لا يمكن فهمه من سياق
الآيات القرآنية التي تحثّ على الاستقامة،
وإقامة العدل، وتحقيق الأمن، وقد بينّا فيما
سبق أن سنن التاريخ ليست من قبيل السنن
الناجزة التي لا يمكن تحدِّيها، وإنما هي من
السنن المشروطة المتوقفة على فعل الإنسان
وإرادته، فإن اقتضت إرادة الإنسان واختياره
التغيير حصل التغيير وفاقاً لفعل الإنسان
واختياره، كما قال تعالى: ﴿
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً ﴾
[27] .
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن هذه السنّة حاكمة،
وهي تجري على اللاحقين، كما جرت على السابقين:
﴿ سُنَّةَ
اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ
وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾
[28] . وقال
تعالى: ﴿
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ
فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ
الْمُنتَظِرِينَ ﴾
[29] .
وإذا كان لهذه السنّة هذا المعنى في حركة
الإنسان ودوره، فليس عليه إلاّ أن يسلك السبيل
المؤدّي به إلى الصلاح، بحيث يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر، ويؤمن بالله تعالى، بحيث
يكون له ما كان لأولئك الذين نجوا مع أنبيائهم
في التاريخ الإنساني وتجاربه؛ فلا يُقال كما
يعرض القرآن لأقوال جماعة من الناس عفوا ونموا
وحسبوا أنهم كأسلافهم فيما جرى لهم في البأساء
والضرّاء، حيث قال تعالى﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ
إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ
الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ
مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ
فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ ﴾
[30] .
إنّ هؤلاء لم يتّعظوا ولم يعتبروا بما سلف،
فأصابهم العذاب بغتة، ولكونهم أساؤوا فهم
السنن الحاكمة في التاريخ، وخرجوا عن مقتضى
السنن بإرادتهم، فكان لهم ما أرادوا، فلا يقال
بأن هؤلاء أجبروا على أن يكونوا على خطى
أسلافهم، ما يعني ضرورة الاعتبار وفقاً لهذه
السنن، والقيام بما يلزم للحيلولة دون وقوع
العذاب، سواء الجزئي، أم عذاب الاستئصال، الذي
أصاب الكثيرمن الأمم نتيجة الكفر والفساد
والعصيان. وإذا كان ما يرشد إليه القرآن من
سنن لا تبديل لها ولا تحويل قد أخضع الإنسان
لإرادته وفعله فيما يختاره لنفسه من خيارات،
ويتخذه لنفسه من مبادئ ووسائل، ويدين به من
اعتقاد، فإنّ مقتضى الفهم لهذه السنن أن يكون
الإنسان واعياً لحقيقة ما ينبغي أن يكون عليه
من تحولات، سواء في نفسه، أم في واقعه، على
اعتبار أن الإنسان يعبر في كل تحولاته عمّا
يعتقده بالقول والفعل، وهذا ما يقتضي منّا
التوقف مليّاً عند عقيدة المترف ومنطقه فيما
يواجهه من أحداث، وفيما ينطوي عليه من اعتقاد،
ويعتمده من أسباب ووسائل، ويسعى إليه من
أهداف.
إنّ أدنى تأمّل في سياق الآيات القرآنية التي
تَعْرُض لموضوع الترف والمترفين، لا بدّ أن
يكشف عن حقيقة ما يعتقده هؤلاء، ويرون أنه
أساس الحياة الإنسانية وجوهرها، فهم أي
المترفون في قولهم وفعلهم يعبّرون عن اعتقاد
راسخ لديهم بأنّ الحياة كلّ الحياة هي في ما
يتمتعون به من ملاذ وتنعّم، خلافاً لما يراه
الأنبياء (عليهم السلام) والصالحون من عباد الله تعالى. لهذا،
نجد دائماً هذه العلاقة السلبية المطّردة بين
الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، إذ في الوقت الذي يعتقد
فيه أهل الترف أنّ الدنيا والتكاثر فيها هو
منتهى الآمال والأحلام، يرى الأنبياء (عليهم
السلام) أنّ
الدار الآخرة هي الحيوان، كما قال تعالى: ﴿
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ
يَعْلَمُونَ ﴾
[31] .
إذن، هناك علاقة سلبية، كما يرى الصدر في سنن
التاريخ
[32] ، ومطهّري
في المجتمع والتاريخ
[33] ،
أنّ العلاقة هي علاقة تطارد وتناقض بين موقع
النبوة وموقع المترفين على الساحة التاريخية،
وقد عبّر القرآن عن هذه العلاقة بقوله تعالى:
﴿ وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُواْ
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾
[34] .
والحق يُقال: إنّ الآية وإن كانت تعبّر عن قول
المترفين، فيما زعموه لأنفسهم من تكاثر في
المال والولد، إلاّ أنها في الجوهر تعبّر عن
اعتقاد هؤلاء الراسخ بقيمة الدنيا، والكفر بما
أرسل به الأنبياء (عليهم السلام)، وهو قول صادر عن حقيقة ما
تنطوي عليه ضمائرهم، وليس مجرّد قول ظاهري
يأتي به الإنسان لمجرّد التعبير عن حالة طارئة
فيما يعرض له من أزمات على الساحة الاجتماعية
وما تذخر به من أحداث مختلفة قد تدفع بالإنسان
أحياناً إلى الدفاع عن مصالحه باضطراب في
القول والفعل. ومما يؤكد هذا المعنى الذي نذهب
إليه هو ما أفاده القرآن عن معتقدات المترفين
في تاريخهم، إذ إنّ القرآن بيّن أن هذه
المقالة للمترفين كانت لسان حالهم قولاً
واعتقاداً في كل حقب التاريخ. ولهذا كما نرى،
تأتي في الآيات لتسلية النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) مما مُني به من قومه، كما جاء في
تفسير الصافي
[35] ، وكما
أفاد شبّر بأن في هذا بيان للنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) أن أهل قريته جروا على منهاج
الأولين، وفي هذا إشارة إلى أن أتباع الأنبياء
(عليهم السلام) كانوا الفقراء دون الأغنياء
[36] ،
وقد سبق لنا أن عرضنا لحقيقة هذا التقويم،
ورأينا أن المترفين قد يكونون من الفقراء
أيضاً، فمفهوم الترف ومعناه ليس خاصاً
بالأغنياء، وإنّما هو حالة متجذّرة في المجتمع
وغالباً ما يكون أهلها من الفقراء والأغنياء
معاً، وهذا هو معتقد التابع والمتبوع فيما
أفادته جملة من الآيات: يوم يسأل هؤلاء عن
أعمالهم فيسرّون الندامة ويجزون بما كانوا
يعملون ...
مما تقدّم نستطيع القول: إنّ عقيدة هؤلاء
الذين أترفوا ليست وليدة الساعة، وإنّما هي
قديمة قدم وجود الإنسان على الساحة التاريخية،
كما أنها ليست وليدة الصدفة، ولهذا جاء القرآن
لتسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتقويته في مواجهة المترفين، وهي عقيدة قائمة
على التعصب والتفاخر بالمال والولد والتقليد
للآباء فيما كانوا عليه من اعتقاد وسلوك، وهذا
إن كان يدلّ على شيء، فإنّه يدلّ على مدى
ترسّخ هذا الاعتقاد في قلوب المترفين الذين
دفع بهم حبّ المال والولد إلى أن يكونوا في
مواجهة الحق، ويكفي لتأكيد هذه الحقيقة ملاحظة
السياق الذي جاءت به آيات المترفين، لمعرفة
حقيقة ما يعتقده هؤلاء، ولعل أكثر ما يتبدّى
هذا الاعتقاد الذي تنطوي عليه قلوب المترفين،
ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن
قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً
مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا
بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي
آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[37] فالآية
كما نرى تتحدّث عن حقيقة اعتقاد هؤلاء، ومدى
ما هم عليه من اعتقاد باطل فضلاً عمّا هم عليه
من كفر وعصيان،. فهم في مقابل قول المؤمنين:
«إنا بما أرسل به مؤمنون، قالوا إنا بالذي
آمنتم به كافرون»، فلم يأتوا على ذكر الرسالة
والرسول اطلاعاً، وهذا يدلّ على مدى كفر هؤلاء
وعتوّهم في مواجهة الحق، والحق يُقال: إن هذا
ليس مجرّد تقليد في الاعتقاد، وإنما هو رسوخ
في الكفر، وإصرار على الشرك وارتكاب المعاصي،
كما يُفيد سياق الآيات القرآنية
...
غاية القول: إنّ عقيدة المترفين، كما تتجلّى
في جملة من الآيات المباركة، وخصوصاً آيات
الاستكبار تؤكّد بما لا يدع أي مجال للشكّ بأن
المترفين هم أصحاب القول، لأن مؤدّى الترف هو
الاستكبار في الأرض والإفساد فيها على نحو ما
بينّا في مباحث سابقة، باعتبار أن عقيدة
هؤلاء، وإن كانت قد تظهّرت من خلال التركيز
على المال والولد والتقليد، إلاّ أنها في سياق
الرؤية الموضوعية مبتنية على اعتقاد راسخ
وموقف سلبي من الرسل والرسالات، وهذا يتجلّى
بوضوح فيما زعمه المترفون عن استحالة البعث
والنشور والعذاب والثواب في الآخرة، كما في
قولهم: ﴿
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً
أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ , إلى غير ذلك من الآيات
التي تكشف عمّا يعتقده هؤلاء بشأن الدنيا
والآخرة، فهم لا يؤمنون بالبعث، ويكفرون بالله
تعالى، ويستكبرون عن عبادته من منطلق عقيدتهم
الباطلة ووعيهم بهذا الباطل. إنّ ترفهم ليس
مجرّد ضلال أو تقليد أو زعم يمكن تسويغهُ في
إطار الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية
المهدّدة بفعل النبوّة ودورها، وإنّما هو ترف
واستكبار في الأرض نابع من رسوخ في الاعتقاد
بأن الدنيا هي دار قرار ولا بدّ من الدفاع
عنها بما تعنيه من مال وولد ونفوذ، ولعلّ أكثر
ما تجلّى هذا في الصراع مع قريش التي تنكّرت
لقيم السماء، وادّعت الحق فيما تكاثرت به من
مال وولد وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان،
هذا فضلاً عمّا استكبرت به من قول وفعل في
مواجهة الأنبياء (عليهم السلام)، كما قال تعالى: ﴿
فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾
[38] .
لا شكّ في أن الآيات القرآنية ذات الصلة
بموضوع الترف والاستكبار فيما لو أخذت في
سياقاتها المختلفة تبيّن أن خطاب المترفين في
الدنيا هو ذاته الخطاب الذي تجلّى بين
المستكبرين والمستضعفين في جملة من الآيات،
حيث قال تعالى: ﴿
لَا تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾
[39] وقال الله
تعالى: ﴿
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
﴾
[40]
، وفي هذه الآيات من الدلالة ما يكفي لإظهار
حقيقة التواصل والامتداد بين ما يكون عليه
المترف في الدنيا، وما يؤول إليه من مصير في
الآخرة بسبب ترفه واستكباره في الأرض بغير حق،
وهذا يعني فيما يعنيه أن مصير الآخرة وما
يلاقيه المترف من جزاء، هو نتيجة لما انطوى
عليه قلبه من اعتقاد، ولما تسبب به من إجرام
وإفساد في الأرض، وهذا هو مؤدّى قوله تعالى: ﴿
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا
أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾
[41] فاستحقوا
العذاب الأليم! وهنا تجدر الإشارة إلى أن
عقيدة أهل الترف ومسلكهم في الإجرام والإفساد،
وكذلك عقيدتهم بالتنكّر للآخرة والتكذيب بها،
هذا الاعتقاد لا بدّ أنّه يستبطن مؤديات كثيرة
في التحققات الاجتماعية والسياسية للناس على
نحو ما بينّا في المبحث السابق لجهة التأكيد
على الأثر السلبي لعقيدة المترفين في الدنيا
وما تتركه من تداعيات على الاجتماع الإنساني،
لأن المترفين فيما يلجأون إليه من وسائل
وأساليب، وفيما يعبرون عنه من اعتقادات،
يُحدثون الإجرام في المجتمع، ويتسببون بالفقر،
ويمنعون من التغيير على قاعدة قولهم: ﴿
وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾
[42] ، وهذا
كما بيّن القرآن، ما يكون مجال حوار بينهم
وبين المستضعفين يوم يسرّون الندامة على ما
قدّمت أيديهم في الدنيا.
إنّ عقيدة المترفين، وكذلك منطقهم، كما سنبيّن
لاحقاً، هي عقيدة تقوم على الكفر والتكذيب
بلقاء الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿
وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ
مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ ﴾
[43] . ثم أعقبوا قولهم هذا: ﴿
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾
[44] ، وهذا ما
يدلّل على أن عقيدة المترفين ليست مجرّد تعبير
عن صراع هادف إلى الحفاظ على الأموال والأولاد
والمصالح المادية، إذ لو كان الأمر كذلك لما
لجأ المترفون إلى مواجهة النبوّة والردّ عليها
بالتكذيب والاستكبار والكفر بالله تعالى
ورسله، ذلك أن النبوّة لم تكن بوارد منافسة
المترفين على ما في أيديهم من متاع الدنيا،
وكان الأنبياء (عليهم السلام) حريصين دائماً على مصالح هؤلاء
في حدود ما يسمح بإحقاق الحق وتحقيق العدالة
والحفاظ على سلامة المجتمع سياسياً
واقتصادياً، ولعلّ من أهمّ ما يدلّ على هذه
الحقيقة هو ما عبّر عنه أمير المؤمنين علي
(عليه السلام) بقوله: «ولقد دخل موسى بن عمران
ومعه أخوه هارون (عليه السلام) على فرعون،
وعليهما مدارعُ الصوف، وبأيديهما العصيّ،
فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزّه،
فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام
العِزّ، وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال
الفقر والذُلّ، فهلاَّ أُلقي عليهما أساورة من
ذهب؟ إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف
ولبسه! ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث
بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن
العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طير
السماء ووحوش الأرضين لفعل، ولو فعل لسقط
البلاء، وبطل الجزاء واضمحلت الأنباء»
[45] .
إنّ في كلام الإمام (عليه السلام) ما يفيد أن
حقيقة الصراع بين الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين لم تكن
بهدف إهلاك المترفين أو تدمير ثرواتهم
المادية، أو طمعاً بما في أيديهم، وإنّما كانت
تجليّات هذا الصراع منبعثة من رغبة الأنبياء
(عليهم السلام) في تخليص المجتمع الإنساني من الظلم
والاستعباد، وتحويل الناس عما هم عليه من
إخلاد للأرض، ولو أن المترفين عقلوا عن
الأنبياء (عليهم السلام) لما اختاروا هذا الصراع، بدليل ما
بيّنه الإمام (عليه السلام) بقوله: «فشرطا
له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزّه». فإذا
كان الرسل والأنبياء (عليهم السلام) لم يرغبوا في إزالة
الثروات من أيدي المترفين، ويريدون لهم الخروج
من الكفر والعصيان إلى رحاب الإسلام، بحيث
يؤمنوا بالله تعالى، ويعملوا الصالحات، فما
تكون مشكلتهم مع النبوة إذاً غير أن يكونوا
راغبين وعازمين على مواجهة النبوّة لإضلال
الناس والاستبداد بهم ليكونوا عبيداً لهم، كما
قال فرعون: ﴿
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
﴾
[46]
وغير ذلك مما زعمه من ألوهيّة وطريقة مثلى في
الدين والدنيا...!؟.
خلاصة القول: إنّ عقيدة المترفين فيما عبروا
عنه من اعتقاد راسخ بالكفر والشرك، وفيما
زعموه من تكاثر في المال والولد، وفيما ادّعوه
من فهم للحياة والخلق والوجود، وفيما نسبوه
لأنفسهم من قوة ورزق، كما زعم قارون بقوله: ﴿
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾
[47] إلى غير
ذلك من المزاعم، إنّ كل ذلك إن دلّ على شيء،
فإنّه يدلّ على أن عقائد المترفين على الساحة
التاريخية هي عقائد ظالمة، وليست مجرّد أقوال،
وقد عمل من خلالها المترفون إلى إضلال الناس
وتعبيدهم اعتقاداً منهم بصحّة وحقيقة ما
يزعمون، سواء في مجال العلم، أم العمل، وإن
ممّا يدلّ على هذه الحقيقة ما جاء به الأنبياء
(عليهم السلام) من معجزات لهداية هؤلاء دون أن يكون لهذه
المعجزات أدنى تأثير عليهم، وقد قال الله
تعالى فيهم تأكيداً على كفرهم وجحودهم، وصرفاً
للنبي عن الاهتمام بهم فيما يطلبونه تعنتاً
وجهلاً واستهزاءً: ﴿
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً
مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلَّا أَن
يَشَاءَ اللَّهُ ...
﴾
[48]
وقال تعالى: ﴿
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ
أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ
الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ
الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ
لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلَا يَزَالُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا
صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً
مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ ﴾
[49] .
لقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) في نصّه
المتقدّم طبيعة العلاقة وحقيقة الصراع بين
الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، وكشف عن ماهية هذا الصراع
الذي امتدّ على الساحة التاريخية منذ أن
استخلف الإنسان على هذه الأرض، وهو من السنن
الحاكمة التي لا مفرّ منها إلى أن يرث الله
تعالى الأرض ومن عليها، وطالما أن التجربة
التاريخية قد أثبتت أن عقيدة الإيمان هي
العقيدة الثابتة والراسخة، فإنّه لا يسع
الإنسان إلاّ أن يكون معتبراً بحال الأمم التي
خلت، بحيث يكون منه الإنصاف لنفسه فيما يختاره
لها من مبادئ وقيم تساعده على تحقيق ذاته في
مقابل أطروحات الترف والمترفين القائمة على
الظلم والإجرام والفساد في الأرض ...
إنّ نظرة فاحصة في ما عرض له القرآن عن حال
المترفين وما يسعون إلى تحقيقه، لا بدّ أن
تكشف عن حقيقة هذه السنّة التاريخية الحاكمة
على مصير الإنسان ومساراته في الدنيا والآخرة،
فلا يقال بأن الإنسان يمكن أن يكون له
استثناءً في عمل هذه السنّة بل هي امتحان له
للفوز في الدارين. وهو بمقدار ما يكون واعياً
بهذه السنّة وخاضعاً لها ومستجيباً لشروطها،
بمقدار ما يكون قادراً على تحقيق النصر فيما
يعرض له من أزمات وأحداث، وهذا ما بيّنه
الشهيد الصدر في حديثه عن هذه السنّة، مبيّناً
أنه لا استثناء من السنّة التاريخية لأحد ممّن
يعيش تفاعلات الأحداث وتحولاتها
[50]
وخاصة الإنسان المسلم الذي يعي تماماً أنه لا
مبدّل لكلمات الله تعالى فيما رغّبه به وأرشده
إليه من أحكام وتعاليم ووسائل لتحقيق حياته
وفاقاً لأمر الله ونهيه، بحيث يكون له النصر
على كل ما يقابله من مزاعم، سواء في العقيدة،
أم في العمل والسلوك، وكما قال تعالى: ﴿
فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ
حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ... ﴾
[51] .
وكيف كان، فإنّ الكلام في عقيدة المترفين يمكن
اختصاره على النحو الذي يمكن معه الكشف عن
جوهر هذه العقيدة في القرآن في إطار رؤية
شاملة يتبيّن من خلالها أن الرؤية القرآنية،
وخاصة في القصة القرآنية وما تشتمل عليه من
منحى، هي ذات وجهة واحدة فيما تأتي به للتدليل
على ما يكون عليه المترف من قول وفعل في
مواجهة النبوة. كونه لا فرق بين ما كان يزعمه
الذين كذّبوا النبي موسى (عليه السلام) والذين
كذبوا النبي محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم)،
باعتبار أن منطق المترفين لم يختلف بين زمن
وآخر، وبين رسول وآخر، بل هو كلام واحد هدف من
خلاله المترفون إلى الحفاظ على مواقعهم
الاجتماعية والسياسية، وكذلك منطق النبوة
أيضاً، فهو لم يختلف بين نبي وآخر من حيث كونه
هادفاً إلى الهداية والتغيير والإصلاح على
النحو الذي يخدم الإنسان في مسيرته الإنسانية،
ويساعده على تجاوز أزماته من خلال تغيير ما
بنفسه، كأساس وجوهر لكل إصلاح، وبهذا المعنى
تتجلّى لنا الرؤية الموضوعية لحقيقة هذا
الصراع، وهذا التقابل بين الأنبياء (عليهم
السلام) والصالحين
من جهة، وبين المترفين والمفسدين من جهة أخرى،
ولا يخفى على متأمّل بصير أن هذا الصراع
المحتوم دائماً ما كان ليستمر لولا أن
المترفين قد استطاعوا التأسيس لمنظوماتهم
عقائدياً في المجتمعات الإنسانية، وهذا أمر من
الأهمية والوضوح بمكان.
قلنا: إنّ من أولويات الاتجاه الموضوعي، أو
التفسير الموضوعي أن نفكك الموضوعات الكبيرة،
لكي نسهّل طرق الوصول إلى أي موضوع قرآني.
وإذا كنّا قد أعرضنا عن هذا الأمر في مبحث
العقيدة، فذلك إنما كان من منطلق أن عقيدة
المترف هي عقيدة واحدة لم تختلف بين زمان
وآخر، بدليل ما عرضت له الآيات القرآنية لجهة
التأكيد على ما هو راسخ لدى المترفين من
اعتقاد عبّرت عنه جملة من الآيات كما في قوله
تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[52] ، وهي
سنّة كما بيّن الصدر، ليست مجرد ظاهرة وقعت في
التاريخ صدفة
[53] ، وإلاّ
لما تكرّرت بهذا الشكل المطرد، ولما قال الله
تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ ، والكلام هو في مطلق
القرية، سواء في الماضي أم في الحاضر.
وإذا كنّا نحن لم نفكك هذا الكلام في مبحث
العقيدة، فذلك أمر فرضه إطلاق الآية بما هي
سنّة جارية في ميدان التاريخ وتستبطن خصيصة
الاضطراد كما سلف القول، إضافة إلى كونها
تعبّر عن لسان حال كل المترفين، فضلاً عن
كونها تنطوي على عقيدة المترفين ومنطقهم في
مقابلة الأنبياء (عليهم السلام)، وهذه السنّة في مجال العقيدة
تشير إلى الإصرار والاعتقاد الراسخ بالكفر بما
أرسل به الأنبياء (عليهم السلام). أما في مجال المنطق، فهي
تشير إلى اغترار المترفين بما أتاهم الله من
مال وولد ظنّاً منهم أن ذلك مما يرضى الله
تعالى عنهم، واعتقاداً منهم قولاً وفعلاً أن
الأموال والأولاد هي التي تقربهم زلفى عند
الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى
إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً
فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا
عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾
[54] .
وإذا لاحظنا السياق الذي جاءت فيه الآية يظهر
لنا قوله تعالى: ﴿
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[55] ، الذي
توسط بين سنّة الله تعالى في إرسال الرسل
وتواتر الأنبياء (عليهم السلام)، وبين ما يدّعيه المترفون من
قول وكفر بما جاء به الأنبياء (عليهم السلام)، وهذا التوسّط
إنما كان، والله أعلم، بهدف بيان الحكمة من
التوسعة على بعض والتضييق على آخرين، وليس
هادفاً إلى شيء خلاف ذلك، وهذا ما يقتضي عدم
الاغترار بما هم عليه من مال وولد، وإنما
ينبغي التيقّن بأن الإيمان والعمل الصالح هو
الذي يقرّب من الله تعالى، وليس المال والولد
وغير ذلك من نعم الدنيا سوى امتحان وابتلاء
للإنسان، كما بيّن تعالى في سورة الفجر بأن
الغنى ليس دليل كرامة، ولا الفقر دليل هوان
[56] ،
وهذا ما أخفق المترفون في فهمه. فازدادوا
ترفاً وكفراً واستكباراً، ظنّاً منهم أن المال
والولد هما دليلا كرامة من الله لهم!!
إذن، تفكيك موضوع منطق المترفين، هو ما تقتضيه
حقيقة اختلاف مفردات الخطاب والمنطق بين أن
يكون في الدنيا بين المترفين والأنبياء (عليهم
السلام)
والصالحين، وبين أن يكون في الآخرة، كما تجلّى
هذا المنطق في سورة الأعراف، وغيرها من السور
القرآنية التي تعرض لمنطقهم في الآخرة تارة من
خلال قول المستكبرين، وهم الذين أترفوا في
الحياة الدنيا وطوراً من خلال خطاب الله تعالى
لهم، وجوابهم على هذا الخطاب، الذي تراوح بين
أن يكون مع الله تعالى، وبين أن يكون مع
المستضعفين، وهذا كما بينّا، يقتضي منّا أن
نميّزه في البحث من خلال تفكيك الموضوعات
الكبيرة إلى موضوعات صغيرة بهدف التعرّف إلى
منطقهم في الدنيا والآخرة، وهذا ما لم يكن
ممكناً في مبحث العقيدة، لأنها واحدة كما هو
مفاد آيات الترف والاستكبار في القرآن. عقيدة
راسخة لديهم تنطوي على التكذيب بلقاء الله
تعالى، والجحود والكفر بما أرسل به الأنبياء
(عليهم السلام)،
وهذا ما لا يظهر أي اختلاف في مؤدّياته لكونه
يرشد إلى أن عقيدة المترفين لم يكن لها من أثر
سوى أنها أوصلتهم إلى عذاب الله تعالى في
جهنم، وقد تجلّى هذا الوصول، والتعبير عنه
بقولهم نعم، كما في قوله تعالى: ﴿
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ
النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا
رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ
رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾
[57] بعد أن
كانوا في الدنيا يقولون: ﴿
قَالُواْ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً
وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا
مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ
﴾
[58]
.
لقد رأوا بأمّ أعينهم، كيف أنهم انتقلوا إلى
الدار الآخرة بما هم عليه من جحود وتكذيب
واستهزاء، فكان لهم جزاء ما قالوا وما اعتقدوا
قولاً وفعلاً، وهذا ما سنعرض له في مبحثنا هذا
بعد أن عرضنا لعقيدة المترفين، مميّزين بين
منطق المترفين في الدنيا، وبين منطقهم في
الآخرة، على اعتبار أن منطق الاستكبار في
الآخرة، هو ذاته منطق المترفين في الدنيا، إذ
لعلّ هناك من يتبادر إلى ذهنه السؤال التالي:
لماذا أتيتم على موضوع الترف في سياق الحديث
عن منطق الاستكبار في الآخرة؟ قلنا: نعم يصحّ
القول بأن الآيات لم تأتِ على حوار، أو جدل
بين المترف وغيره في يوم الحشر، ولكنه لا
ينبغي أن نسهى عن حقيقة قوله تعالى: ﴿
لَا تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَا
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾
[59] ، وقوله
تعالى: ﴿
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم
بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾
[60] ، وقوله تعالى: ﴿
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾
[61] ، وهذه
الآيات، كما نرى، تستبطن ما كان عليه المترفون
في الدنيا من استكبار واستعلاء، وهو ذاته
المنطق والحوار الذي يجري بينهم وبين
المستضعفين يوم يحشرون إلى الله تعالى.
إن المترف المستكبر هو الذي أخذ بالعذاب، وهو
الذي كان في دنياه من المترفين، وهو ذاته الذي
قال واعتقد وعمل ضدّ الأنبياء (عليهم السلام) والصالحين،
وادّعى ما لم ينزل الله به سلطاناً، إلى غير
ذلك مما عرض له القرآن في مئات الآيات، ويمكن
لأيّ باحث أن يُحصي مئات الآيات التي تشير إلى
قول المترفين بصيغة وقال الذين كفروا، سواء
أكانت تعني المنافقين، أم المترفين
المستكبرين ...
وانطلاقاً مما تقدّم نرى ضرورة لأن نبحث منطق
المترفين في الدنيا والآخرة على النحو الذي
نستطيع معه أن نبيّن حقيقة هذا المنطق
ومؤدّياته، وذلك يهدف إلى معرفة ما إذا كان
هذا المنطق قد اقتصر على المترفين المستكبرين،
أم أنه تجاوزهم إلى المستضعفين ممن تبعوا
المترفين وسمعوا لهم، وكان لهم ما كان
للمترفين من العذاب في الدنيا والآخرة، لأنّ
الترف والمترفين، كما سبق القول منّا، لا
ينحصر بالأغنياء، وإنّما هو يعني كل من سمع
لهم وتأثّر بهم وسار على طريقتهم واقتدى بهم،
وإلاّ كيف يمكن لباحث أن يفسّر هذا الحوار بين
المتكبرين والمستضعفين في يوم المحشر، وقد
أفاد القرآن عن هذا الحوار أنه كان حوار ندم
يوم لا ينفع الندم، كما قال تعالى: ﴿
وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ
الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي
أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
﴾
[62]
.
قال تعالى: ﴿
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ
فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ
قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم
مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا
مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ
﴾
[63]
.
لا شكّ في أن الآيات القرآنية بعد أن تقرر
لعقيدة المترفين المشركين كما أفادت آية سورة
سبأ: ﴿
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا
أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[64] ، بأنهم كافرون بما أرسل به
الأنبياء (عليهم السلام)، وقد بينّا سابقاً أن قوم عاد لم
يأتوا على ذكر الرسالة، بل قالوا: ﴿
إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ استكباراً في الأرض،
وجحوداً بالله تعالى، بعد هذا البيان القرآني،
الذي يقرّر سنّة من سنن التاريخ الحاكمة
والمضطردة، نرى آيات سورة الزخرف تعرض لمنطق
المترفين، وتذمهم على تقليدهم للآباء فيما
يعبرون عنه وينتمون إليه من عقيدة ومنهج ودين
في الحياة، فهم يرون أن الاهتداء والاقتداء
بالآباء هو الطريقة المثلى
[65] ،
والشريعة الحقّة، وكما رأينا سابقاً أن الله
تعالى كان يمنّ عليهم بتبديل السيئات إلى
حسنات ليتغيّروا، ولكنهم كانوا بعد أن يكثروا
ويعفوا، يقولون قد مسَّ آباءنا الضرّاء
والسرّاء، ﴿
فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ ﴾
[66] ، بل إنهم أجابوا على كلام الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) بأكثر من التقليد
للآباء فيما زعموه، فقال لهم النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): ﴿
أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا
وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُواْ
إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾
[67] ، وهذا إن
دلّ على شيء فإنّه يدلّ، ليس على التقليد
للآباء وحسب، بل على مدى ما وصل إليه هؤلاء من
جحود وكفر بما جاء النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وهذا ما عرضت له سورة الأنبياء مع
النبي إبراهيم (عليه السلام) ، حيث قال الله
تعالى: ﴿
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن
قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا
عَاكِفُونَ (52) قَالُواْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا
لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ
أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾
[68] .
ولا شكّ في أن نتيجة هذا التقليد الأعمى
والضلال المبين، كانت، كما يرى النيشابوري
[69] ،
اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله
تعالى، إذ هم اختاروا أن يكونوا عبيداً لأرباب
متفرّقين على أن يكونوا عباداً لله الواحد
القهّار، وقد قال تعالى: ﴿
أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾
[70] .
إنّ ما يفيده سياق الآيات، هو أن المترفين في
تقليدهم للآباء، وإجابتهم الواعية على قول
النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكفر
بالرسالة متجاوزين حدود التساؤل، إذ إنّ مقتضى
السؤال أن يجيبوا على ما يرونه من هدى بتأكيد
اتباع الآباء. أما أن يبادروا إلى القول: ﴿
إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ ، فذلك صلف في القول،
وغرور في التقليد إلى الحدّ الذي يمكن أن يقال
معه أن طيب العيش ولذّة الحياة والفساد قد
أعمتهم بصراً وبصيرة، فأدخلهم ذلك فيما وصفهم
الله تعالى به بقوله: ﴿
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
[71] ، لما آل
إليه أمرهم في القول والفعل، وهذا المنطق، كما
سنرى، ليس نابعاً من مجرّد جهل، أو عدم
مبالاة، وإنّما هو جحود واستعلاء في الأرض،
واستكبار عن الحق، وقد عبر فرعون عن هذا
المنطق بقوله: ﴿
وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ﴾
[72] ، وقوله تعالى: ﴿
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾
[73] .
ولهذا، فإننا نعجب ممن يذهب إلى القول بأن
منطق المترفين في الدنيا نابع من كونهم قنعوا
بعقائد الآباء واستكانوا لها على ما أفاد
النباطي في الصراط المستقيم
[74] ،
فهذا المنطق ليس مجرّد ميل عن صحيح النظر، بل
هو اعتقاد راسخ لدى المترف يصدر عنه ويعبّر
فيه عن عقيدته الكاذبة والناشئة عن تمكّن
الشيطان من قلبه وعقله، بدليل قوله تعالى: ﴿
فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ
الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُواْ
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ
﴾
[75] ،
فالمترف ليس مجرّد مقلّد للآباء، وإنّما هو
ممّن استهواه الشيطان فأركسه في الفساد وأضلّه
عن السبيل، ولهذا، نجد الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) قد أُمر بأن يقول لهؤلاء المترفين:
﴿ قُلْ
أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى
أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ
كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي
الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[76] فالآية
ناظرة، كما نلاحظ من سياقها العام في سورة
الأنعام، إلى أن عرض المشركين ورؤساء القوم
الذين أترفوا كان دعوة المؤمنين لأن يعبدوا ما
لا يضر ولا ينفع، أي آلهة المشركين، ولكن الله
تعالى أمر رسوله أن يردّ عليهم مقالتهم
الرخيصة بأشدّ الإنكار على ما يفيده الاستفهام
الإنكاري، وكانت النتيجة ما قاله الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم): إنّ هدى الله هو الهدى،
وليس مَن أضلّته الشياطين وجعلته تائهاً
حيراناً لا يقدر على إجابة، ولا يمنع من
استهواء. ذلك هو معنى أن يكون المترف مقلداً،
أن يكون مستكبراً في الأرض، ومدفوعاً من
الشياطين للإفساد فيها، باعتبار أن سياق آيات
أهل التقليد وما هم عليه من اعتقاد ومنطق،
يفيد الإصرار على تكذيب الأنبياء (عليهم
السلام)، والكفر بما
جاؤوا به من عند الله تعالى إلى غير ذلك مما
تميّزوا به من ضلال مبين، وعمى في البصر
والبصيرة، ما أدّى بهم إلى أن يكونوا مفسدين
في الأرض، عالين فيها، وقاهرين لأهلها على حدّ
تعبير فرعون الذي أظهر القرآن منطقه بما لا
يدع مجالاً للشك في أن منطق الفراعنة
والمترفين ليس هو ذاك المنطق الذي يصدر عن
الحاكم أو الرئيس، أو الطاغوت وحسب، وإنما هو
ذاك المنطق الذي يردّده التابع والمتبوع،
المستكبر والمستضعف الذي أتبعه وقال مقالته،
كما قال تعالى: ﴿
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ
كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
[77] .
هذا هو مؤدّى هذا المنطق الفرعوني، وما يكون
له من آثار على مَن يستكين له ولا يخرج عليه،
فيكون له من ذلك الاستخفاف والاستعباد، وعلى
هذا الحال كان مشركو مكة الذين أترفوا في
الحياة الدنيا، وكفروا بالرسالة والرسول فيما
أتبعوه من تقليد للآباء، واستخفّوا بالناس إلى
أن مَنَّ الله تعالى على المؤمنين بالهجرة
وإقامة العدل بعد فتح مكة، هذا الفتح الذي لم
يمنع عتاة قريش وأهل الترف والتقليد من
الاستمرار في مناهضة الرسالة والرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) سرّاً وعلانية
[78] ،
ونقول بصراحة: إنّ ما ظهر من ترف واستعلاء بعد
فتح مكة كان أعظم بكثير مما كان قبله، لأن
المترفين تابعوا نهج الآباء تحت عناوين
إسلامية للقضاء على الرسالة وأهلها، ولكن الله
تعالى حفظ هذه الرسالة من مكر الماكرين، وحال
دون أن يتمكّن المترفون من تحقيق مشروعهم، رغم
كل ما حقّقوه من انتصارات مادية وملاذ دنيوية،
كما قال تعالى: ﴿
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ
بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا
قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ
﴾
[79] .
إذن، ليس التقليد مجرّد اتباع للآباء، وإنّما
هو مشروع قائم على عقيدة ومنطق أشار إليه
القرآن في آيات كثيرة ولعلّ أهمّها هو ما عرض
عن فرعون ومنطقه، الذي قابله منطق أهل الإيمان
والصالحين من عباد الله تعالى، إذ مقابل
الاستعلاء، كانت التزكية، وقد أشرنا إلى قوله
تعالى: ﴿
وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى
﴾
[80]
، الذي يقابله قوله تعالى: ﴿
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾
[81] .
إن للترف منطقه كما للإيمان منطقه، وهذا ما
ينبغي التوقف عنده مليّاً، فنقول: إن منطق
المترفين في الدنيا، تابعين ومتبوعين، استحق
ويستحق دائماً أن يكون الأنبياء (عليهم
السلام) وأهل الصلاح
في مواجهته، ولهذا نجد القرآن يعبّر عن هذا
المعنى فيما أشار إليه عن قوم صالح (عليهم
السلام)، حيث قال
الله تعالى: ﴿
قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا
مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن
نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا
لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
مُرِيبٍ
﴾
[82]
، وقال الله تعالى: ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ
آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا ﴾
[83] ، وقال
تعالى: ﴿
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ
يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ .. ﴾
[84] ، إلى غير
ذلك من الآيات التي تلحظ لمنطق المترفين في
الدنيا في مواجهة دعوة الأنبياء (عليهم
السلام) والمرسلين،
وهو منطق كما أسلفنا، ليس قوامه الجهل، أو
الخطأ، وإنّما المعاندة والكفر والاستكبار في
الأرض بغير حق، وهو هادف دائماً إلى طلب
السلطة والاستئثار بالمال والنفوذ، بمعنى آخر
يمكن القول: إنه مشروع هادف إلى استعباد الناس
والاستخفاف بهم، وما يؤسف له ويعجب منه، هو
سرعة الاستجابة لهذا المشروع من قبل السواد
الأعظم من الناس رغم كل ما يتسبب به من فقر
وبلاءات وجراحات وقهر لهم، وهذا إن دلَّ على
شيء فإنّه يدلّ على حقيقة هامة جداً أظهرتها
التجارب، حيث نجد أن المترف لم يكن فيما هو
عليه من منطق وعقيدة مكترثاً لتقليد الآباء،
باعتبار أنه كان دائماً يخرج عن هذا التقليد
ليتخذ من الدين الجديد، سواء أكان المسيحية،
أو الإسلام شعاراً له للاستمرار في استعباد
الناس، وهذا ما كشفت عنه التجارب، وخاصة
التجربة الإسلامية التي عبّرت عن طاغوتية
جديدة، وفرعونية عاتية تلبّست بكل شيء للقضاء
على الرسالة الإسلامية، وهذا أمر لا يمكن
الشكّ فيه. أو المناقشة له، طالما أن تاريخ
المسلمين حافلٌ بما كان عليه أهل الترف من دين
ودنيا، ولم يكن التقليد للآباء هو الجوهر، أو
الأساس لحركتهم الدينية والسياسية، وإنّما كان
الدين والرسول والرسالة هو الشعار والعنوان
لعقائد المترفين ومنطقهم في التعامل مع
الأحداث والأشخاص
...
[85] .
إنّه مشروع شيطاني تلبّس به المشركون أولاً،
ثم المنافقون، ثانياً، ثم الآخرون ممّن لحق
بهم وعمل بسيرتهم ونطق بأموالهم، ولا يزال هذا
المشروع قائماً وله أهله في كل زمان ومكان.
وإذا أردنا أن نعرض لجملة من الآيات القرآنية
التي توضح هذا المعنى، فإنه يمكن ذلك، إلا أنه
واختصاراً لمبحثنا نكتفي بالإشارة إلى حقيقة
ما كان عليه أهل الترف من صلف ووعي بما كانوا
يطلبونه ويرغبون بتحقيقه من أهداف، فكانوا: ﴿
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ
وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
﴾
[86] ، وقد
حصل في التاريخ الديني وخاصة الإسلامي، أن
ارتكب المترفون الفواحش والجرائم ونسبوها إلى
الله تعالى تحت عناوين الجبر والقهر، وغير ذلك
مما عرفه التاريخ من نظريات، حيث نجد بعض
الحكام ممن تشدّقوا بالإسلام وحكموا باسمه قد
قتلوا أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) وقالوا إن الله تعالى قتلهم، كما حصل في
تاريخ كربلاء وغيرها من المناطق الإسلامية
الشاهدة على مكر هؤلاء الحكام وطغيانهم في
الأرض، وقد ردّ الله عليهم بقوله تعالى: ﴿
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ
بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً
لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي
الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ
إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً ﴾
[87] .
إن ما اتهم به الأنبياء (عليهم السلام) من قِبَل المترفين في
تاريخ البشرية، من تكذيب وافتراء، وسفاهة،
ومكر واستهزاء، وضلالة، إلى غير ذلك مما اشتمل
عليه القرآن من آيات عن صراع الأنبياء (عليهم
السلام) مع
المترفين، إضافة إلى ما عرض له القرآن من آيات
عن مكر هؤلاء الذي يبور، كل هذا يؤكد أن
أطروحة الترف والمترفين في الدنيا، وكذلك
منطقهم الناشئ عن اعتقادهم الراسخ في الباطل
والجريمة، ليست مجرّد أطروحة متقوّمة بالتقليد
وحسب، وإنّما هي باطل يقابل الحق دائماً. وإذا
كانت بعض العناوين قد تغيّرت، فإن المصطلح
القرآني يكشف دائماً جوهر هذه الأطروحة، سواء
رفعت منطق الآباء أم ادّعت غير ذلك لتسويغ
أطروحتها.
ومن هنا، فإننا ندعو إلى ضرورة التعمّق في فهم
المصطلح القرآني، وخصوصاً هذا المصطلح الذي لم
نجد له في كتابات الباحثين والمفسرين للقرآن
ما يقدّم إجابة شافية له، فهو مصطلح، كما
بينّا، جاء في سياق سنّة ثابتة وحاكمة
ومطّردة، وفي أكثر من آية، وقد سبق أن عرضنا
لإشارات قرآنية عن هذا المصطلح فيما عبرت عنه
الآيات تلامس يوم الحشر والعذاب الأخروي، كما
في قوله تعالى: ﴿
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾
[88] . فالترف،
كما رأينا، يتجاوز في معناه أن يكون أهل المال
والسلطة مفسدين في الأرض ومقلدين للآباء، فقد
يكون غيرهم كذلك مفسداً في الأرض، وطاغياً،
ومستكبراً ممن لا ينطبق عليه ترف المال
والنفوذ، وهذا ما يتطلّب المزيد من البحث
والدراسة لاكتشاف أنّ الترف، مصطلحاً
ومفهوماً، هو تعبير قرآني لاحظ لحقيقة الطبقة
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي
تُعبّر عن مشروعها في استعباد الناس وقهرهم
وسرقة أموالهم، كما سنبيّن في مبحث المترفين
وصناعة الفساد.
إنه، وباختصار، مصطلح قرآني يعرض لعدّة مسائل
تتعلّق بحياة الإنسان، فهو ينطوي على معنى
التقليد للآباء، كما يبدو للوهلة الأولى، ولكن
القرآن هنا يعرض له بصيغة ﴿
إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ﴾ ، فإنّ ذلك يعطيه أبعاداً
أخرى في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وكذلك
منطق المترف فهو يركّز، في القرآن على التقليد
ولكنه في جوهره يشير إلى حقيقة أن المترفين
إنّما يهتدون، ويقتدون بالآباء لا على نحو ما
نفهمه من تابعيّة لهم في حبّ المال والثروة،
وإنّما على نحو أن الآباء قاتلوا الأنبياء
(عليهم السلام)
وقتلوهم، وحملوا مشروع الدين بمعزل عمّا يعنيه
هذا الدين من أرض وسماء، ليكون لهم النفوذ
والسلطة والدور المؤثر في الحياة، وليس من عجب
أن يدّعي فرعون في عقيدته ومنطقه، أن النبي موسى
(عليه السلام) جاء ليغيّر دين الناس ويذهب
بطريقتهم المثلى، كما قال تعالى: ﴿
إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ
أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
[89] . فهذا
برأينا، كافٍ للتدليل على أن مشروع المترف
ومنطقه ليس مجرّد تقليد، بل هو مشروع اجتماعي
سياسي، وقبل ذلك هو مشروع ديني قوامه استعباد
الناس، ولكن الله تعالى أبى أن يكون لهذا
المترف منطقه ومشروعه المهيمن، فقال تعالى: ﴿
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُواْ
الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُواْ مَن لَّا
يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ
﴾
[90]
فكان ما أراد الله تعالى من وضع إصر وأغلال،
وخروج من الظلمات إلى النور، بما حققه
الأنبياء (عليهم السلام) والصالحين من تغيير وهداية وإصلاح.
إنّ مقتضى المنهجية في هذا الاتجاه الموضوعي
التوحيدي أن يقسّم موضوع الترف والمترفين في
القرآن، إلى قسمين، يلحظ كل قسم منهما ما يكون
عليه المترف من قول وفعل في دنياه وفي آخرته،
وذلك إنّما كان منّا بهدف استيعاب هذا الموضوع
بكل مدلولاته، لأنّ موضوع الترف، كما رأينا،
ليس مجرّد تعبير أو مصطلح جاء به القرآن
ليعبّر عن حالة عارضة في المجتمع الإنساني،
وإنما عرض له في سياق ما واجهته النبوة في
مسيرتها ودعوتها إلى الله تعالى. هذا، وقد
رأينا أيضاً أن الترف بما له من مؤديات لا
يختلف من حيث المدلول والمضمون عما عرض له
القرآن عن المستكبرين والطواغيت لما ذهب إليه
علماء التفسير من أنّ مؤدّى الترف والإتراف هو
الاستكبار في الأرض والإفساد فيها ...
كما أنه لم يغرب عن بالنا أيضاً، أن منهجيّة
البحث المقارنة حتّمت هذا التمييز بين المترف
في الدنيا ومنطقه، والمترف في الآخرة ومنطقه
في إطار رؤية موضوعية شاملة لما عرضت له
الآيات القرآنية على اعتبار أن التفسير
التجزيئي يمكن أن يقف على تفاصيل الآيات
وأسباب نزولها، إلاّ أنه لا يفي لدراسة موضوع
الترف كموضوع شامل في القرآن الكريم، فكان لا
بدّ من التقدّم خطوة، كما رأى الشهيد الصدر،
بإخضاع عقيدة المترفين ومنطقهم للتجربة
الإنسانية لاستخلاص الموقف الإسلامي الرسالي
من هذه السنّة التاريخية المطردة التي لا
تستثني أحداً، باعتبارها سنّة حاكمة على مسيرة
الإنسان وتاريخه في الماضي والحاضر والمستقبل،
كما قال تعالى: ﴿
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ
فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ﴾
[91] ، كما
أننا حاولنا من خلال الاتجاه الموضوعي أيضاً
أن نعطي لموضوع الترف أبعاده الحقيقية بحيث لا
نميّز بين المترفين، سواء أكانوا مستكبرين، أم
تابعين ومستضعفين، وهذا ما اقتضى منّا كما
أسلفنا القول أن لا نعبّر عن المترف بما هو
طاغوت وفرعون ومستكبر، وإنما بما هو إنسان
أترف في الحياة الدنيا، واستجاب لمنطق وعقيدة
الترف وخضع لها طوعاً أو كرهاً بفعل المؤثرات
والإغراءات المادية. إنّه الإنسان المترف،
الذي امتنع عن فعل شيء لتحرير ذاته من أسر
الطاغوت، ولم يقاتل في سبيل الله تعالى لتكون
له الحرية والعدالة، كما قال تعالى: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ
قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي
الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا
فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ
مَصِيراً ﴾
[92] .
وهكذا، فإنّ الذين قالوا: ﴿
إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ في الدنيا، كفراً
وطغياناً، إنّما عرّفوا عن أنفسهم ومنطقهم
ومسلكهم في الحياة الدنيا، هذا فضلاً عمّا
كشفوا عنه من مشروع يتجاوز التقليد والجهل إلى
الوعي بمسلك الآباء وما كانوا عليه من ضلال
مبين، وهو مشروع، كما رأينا، شيطاني، دفع
بأحدهم إلى القول بأن ما هو فيه من عزّة ومال
ولذّة ومتاع إنّما هو من عنديّاته كما زعم
قارون، وهذا يكشف لمتأمل بصير مدى الوعي
والتبصّر بمال الدنيا وسرّ الطغيان والترف
فيما يحمله المترفون من مشاريع هادفة إلى
التحكم بمصائر العباد والبلاد.
وإذا كنّا قد فصلنا بين منطق المترفين في
الدنيا، وبين منطقهم في الآخرة، فذلك إنما كان
لاستجلاء الصورة التي امتدّ بها القرآن من
الدنيا إلى الآخرة، وجعل منها صورة ماثلة
تنعكس على شهادة الإنسان وحضوره كما تنعكس على
الغيب، وهذا ما اقتضى التمييز والفصل بينهما
لاستيضاح المعنى الكامل لهذا الموضوع، بكل
صوره في الدنيا والآخرة، باعتباره موضوعاً له
حيثية الامتداد في الزمان والمكان والحياة ...
إنّ ما يقدّمه القرآن عن منطق المترفين
والمستكبرين في الآخرة لا يميّز بين مستكبر
ومستضعف، وهذا ما يعكس لنا صورة المترف
وحقيقته فيما يكون عليه من قول والتزام اتجاه
قضايا الدين والدنيا، بل إنه يعكس لنا، وبشكل
واضح المصير الذي يؤول إليه المترف لا بِما هو
رئيس أو فرعون، أو طاغوت، وإنّما بما هو إنسان
استهواه الشيطان وملك عليه قلبه وعقله وكل
حياته، فاستحال إلى مترف في عقيدته ومنطقه،
سواء أكان متساوياً مع قادة الشرّ فيما هم
عليه من ترف، أم كان إنساناً فقيراً لا يقدر
على شيء من ذلك، كحال أولئك الذين أرادوا
الدنيا وتمنّوا أن يكون لهم ما كان لقارون،
كما قال تعالى: ﴿
يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
[93] .
وهذا ما سنكشف عنه في سياق الحديث عن حوار
المترفين والمستكبرين يوم يُدعون ليشهدوا على
ما اقترفته أيديهم من فساد في الدين والدنيا،
قال الله تعالى:﴿
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ
الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم
مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ
وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ
النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ
الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا
مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
[94] .
وقال الله تعالى: ﴿
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم
مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ
(47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا
كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ
بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾
[95] . وهنا
ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الحوار وما ينطوي
عليه من مدلول ومكاشفة، ليس منقطعاً عن حالة
الدنيا وما كانوا عليه فيها، وإنّما هو نتيجة
وتعبير حقيقي لمنطقهم وحوارهم في الدنيا بعد
أن انكشفت لهم مكامن النفوس، وذاقوا حرَّ
النار، فقالوا: هل أنتم مغنون عنّا، ظنّاً
منهم بأنّ ما كان لهم في الدنيا من قوّة وغنى
واقتدار، يكون لهم في الآخرة، وأنّى يكون ذلك
وقد قالوا: ﴿
إِنَّا كُلٌّ فِيهَا
﴾ . ولا شكّ في أنّ معنى هذا كلّه
على تقدير الاستقبال لأنّ ما تحقق بمنزلة ما
قد كان
[96] ، كما قال
تعالى: ﴿
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ
﴾ . وقد أضاف الطبري إلى هذا
المعنى ما يفيد محبّة الضعفاء للمستكبرين فيما
ظهر بينهم من مخاصمة، فقال: ﴿
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم
مُّغْنُونَ عَنَّا ﴾ اليوم... فقد
كنا نسارع في محبتكم في الدنيا، و﴿
لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ ...
[97] .
إلى غير ذلك مما أفاده أهل التفسير في معنى
هذه المخاصمة، حيث يتبدّى بوضوح أن هذا الحوار
هو انعكاس حقيقي لترفهم في الدنيا، وقد أشرنا
في مبحث الترف في الدنيا أنّ قوّة هذا المنطق
كافية في استجابة أكثرية الناس له، بدليل ما
نشاهده اليوم من استكانة وخضوع للمترفين ممن
يفترض فيهم أن يخرجوا عليهم، وخاصة في
العالمين العربي والإسلامي، حيث نجد السكوت
والدعة والضعف في مواجهة العدوان على مقدّسات
المسلمين وثرواتهم، وقبل ذلك على كرامة
المسلمين في بلاد الإسلام، فهم إن كانوا
مستضعفين، أو غير ذلك، يتحقق فيهم الترف
لكونهم لم يقاتلوا ولم يهاجروا، لكي يكونوا
بمنأى عن العذاب
[98] .
والحق يُقال: إنّ هؤلاء فيما لو سألوا عن
حالهم، لكان منطقهم منطق المترفين في الدنيا
والآخرة، ولقالوا: ﴿
إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ
مِنْ أَرْضِنَا ﴾
[99] ، تماماً
كما سيكون عليه حالهم، يوم يقولون: ﴿
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ ... ﴾
[100] .
إنها صورة حقيقية يعتقد البعض أنها من عالم
الغيب، ولكن التبصر في سياق هذا المنطق بين
الدنيا والآخرة، والتدبّر في ما تهدي إليه
الآيات، من شأنه أن يزيل الغشاوات ليتظهّر
للإنسان أن نفسه هي الصورة الحقيقية، وقد كان
أستاذنا في الحوزة العلمية يقول لنا: إنّ نفسك
هي أقرب الأشياء إليك، فإذا أردت أن تعرف ما
في عالم الغيب والشهادة، فانظر إليها إن كنت
بصيراً، فتعلم أنّك أنت الغيب والشهادة، فكن
أنت أنت حيث أنت لتشهد على ذاتك فيما يكون
منها ولها... ولا شكّ في أنّ لهذا الكلام
دلالة واضحة على انعكاس صور الأشياء والأحوال
بين عالمي الغيب والشهادة، وخاصة أقوال
المترفين والمستكبرين والذين يلحقون بهم ممّن
استضعفوا وأترفوا في الحياة الدنيا.
وكيف كان، فإن هذا الحوار القرآني كاشف عن
حقيقة امتداد هذا المنطق المترف من الدنيا إلى
الآخرة، فلا يُقال: إن المستضعفين أكرهوا على
أن يكونوا مترفين وتابعين، بل هم اختاروا أن
تكون لهم هذه المخاصمة في النار، فلا غرابة
عليهم أن يقولوا: يا ليتني لم أتخذ فلاناً
خليلاً، أو كيف أُحشر أعمى وقد كنت بصيراً،
إلى غير ذلك من الأقوال التي لو سمح له
بالعودة إلى الدنيا لعاد إلى سيرته الأولى،
وكان مترفاً ولم يسأل عن شيء من هذا إطلاقاً،
لأنّ الشيطان استهواه، فجعله أسير ترفه
وطغيانه. وهكذا، فإنّ منطق المترفين في الآخرة
هو تجسيد حقيقي لما يكون عليه المترف في
الدنيا، وما على المستضعف المترف المأسور
لمنطق قادة الشرّ ورؤساء النعم الذين يتغذّون
على سمعه وبصره وطاعته وركونه إليهم، إلاّ أن
يبادر إلى البراءة من المستكبرين قبل أن
يحشروا إلى الله تعالى جميعاً، ويتبرّأوا من
بعضهم البعض، وقبل أن يقول الضعفاء: لو أنّ
لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّأوا منّا، كما
قال تعالى: ﴿
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ
الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا
تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ
اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ
وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾
[101] .
إنّه مشهد حقيقي يعكسه القرآن من الآخرة إلى
الدنيا، لتكون للإنسان فرصة التحوّل والخروج
من ظلمات الجهل والترف إلى الإيمان والعمل
الصالح، لكي يكون الإنسان بمنأى عن هذا المصير
في الندامة والعذاب والحسرة. وبحق نقول: إنّ
الهدف من هذا التصوير القرآني لحقيقة هذا
المشهد الحواري الشاحب بين المستكبرين
والمترفين والمستضعفين، هو تبيان هذه الحقيقة
للإنسان، بحيث يعرف أن هذا هو شهوده ومشهده
اليوم وغداً في محضر الحسرة فيما لو ركن إلى
ترفه وغروره وتقليده، وفيما لو استمر
بالاستجابة لمنطق الترف في الدنيا. فإذا كان
الإنسان بصيراً بحاله، وواعياً لمقامه، فما
عليه إلاّ حضور مشهد ذاته ليخرج من ظلماته
وترفه ليكون ممّن حقّ القول فيهم: ﴿
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ
يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ
﴾
[102]
.
إذن، مما تقدّم، نستطيع القول: إنّ منطق
المترفين في الآخرة، في ضوء منهجنا الموضوعي،
ليس غريباً عن تجربة الإنسان في الحياة، لأنّ
ما تقتضيه حقيقة هذا المنهج، هو أن يتمكّن
الباحث من توحيد الرؤية، أو على الأقل، أن
يستنطق النص أو الآية القرآنية في ضوء
التجربة، لا بمعنى إخضاع القرآن للتجربة، بل
بمعنى محادثة النص وسؤاله عمّا تعنيه لغة
الحوار في النار، أو في الآخرة، أو في المحشر،
فيما لو لم يكن لها معنى انعكاسي على حياة
الإنسان في الدنيا، وخصوصاً بعد أن أفادنا
النص أن منطق المترفين والمستكبرين في الدنيا،
هو الذي تسبب بالفساد للناس، وإلاّ فما يكون
معنى قولهم غداً، ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا
تَبَرَّؤُواْ مِنَّا ﴾ ، بعد
أن كان قولهم في الدنيا، قوله تعالى: ﴿
إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ
مِنْ أَرْضِنَا ﴾ ، فهل لهذا القول
من معنى غير أنّ هؤلاء خافوا غارات المترفين،
فاختاروا أن يكونوا منهم ولهم لكي يكونوا في
مأمن من غاراتهم، وهم يعلمون أنه الهدى من
ربّهم. فإذا جاء يوم الحشر علموا أن ما كان
منهم في الآخرة هو ذاته ما كان منهم في الدنيا
فلم يكونوا بمنجاة من العذاب، وهذا هو مقتضى
التوحد بين النص والتجربة.
ولعلّ تقسيمنا لهذا المبحث إلى مترف في الدنيا
ومترف في الآخرة، هو نابع من كوننا أردنا
إيجاد الرابط الموضوعي بين ماينبغي أن يكون
عليه الإنسان في حياته الدنيا، وبين منطقه في
الآخرة. وقد بينّا في هامش هذا المبحث كيف أن
المسلمين في عصرنا الحاضر يتهرّبون ويخافون من
أن يتخطّفوا، فيلجأون إلى المترفين
والمستكبرين لحماية أنفسهم، وهم يعلمون علم
اليقين أن هؤلاء ليسوا مغنين عنهم في النار،
وهذا ما يستدعي منهم في الدنيا أن لا يكونوا
في نار العذاب، وعلى فرض أنهم تخطّفوا في
الدنيا، فإنّ ذلك يبقى أفضل لهم من أن يكونوا
انعكاساً لما يتبرّأون منه غداً، ولعلّ ما هم
فيه من عذاب اليوم هو تعبيرٌ عن حالهم غداً.
والله أعلم.
غاية القول: إنّ المستضعفين يعون تماماً وهم
في حال الدنيا أن المستكبرين ليسوا على الهدى،
وأنهم مفسدون في الأرض قولاً وفعلاً، فإذا ما
جاء النصّ ليؤكّد هذا المعنى، كما في قوله
تعالى: ﴿
وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلَاْ ﴾
[103] ، فلا
يكون قد أضاف شيئاً جديداً إلى ما هم عليه من
كبرياء وطغيان، وهذا ما يؤكّد حقيقة الامتداد
أولاً، وحقيقة الانعكاس ثانياً، وذلك إنما
يكون من خلال التجربة في الدنيا بعد أن يكون
هؤلاء قد خرجوا عن سبيل الهُدى، واتحدوا مع
مصيرهم في الآخرة فيما أُعدّ لهم من عذاب، وقد
رأى المفسّرون أن الآية نزلت يوم بدر من قريش
على ما أفاد الطوسي في التبيان
[104]
، وأنّها تعني جميع قادة الكفرة وأئمة الضلال،
كما يرى الطبرسي في تفسيره
[105]
، وقد جاءت في سياق الحديث والتمنّي من
المستضعفين أنهم لو أطاعوا الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) ولم يطيعوا المترفين، للتدليل
على أنّ طريق الهدى هو طريق الرسالة، ولكن
النتيجة تقلّب وجوههم في النار بما أدّوه من
طاعة لساداتهم وكبرائهم، وهذا ما يؤكّد لنا
حقيقة الوعي من خلال التجربة الدنيوية التي
قالوا فيها ﴿
إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ ، فلو أنهم التفتوا قليلاً
وبعيداً عن وحي الشيطان، لما امتد بهم الحال
إلى أن يكونوا أسرى العار والنار في الدنيا
والآخرة.
لقد تبيّن لنا من مباحث الترف أنّ النصوص
القرآنية ليست مجرّدة عن الواقع، وخاصة القصص
القرآنية التي تعرض لأحداث الأنبياء (عليهم
السلام) مع
أقوامهم، وإنّما هي تلحظ الواقع من خلال
التجربة التاريخية والسنن الحاكمة فيها. هذه
السنن التي تجري على اللاحقين كما تجري على
السابقين، ويكفي أن يعرض الباحث بطريقة
موضوعية لمنحى القصة القرآنية فيما تعرض له من
أحداث مع النبي وقومه، حتى تتجلّى لنا حقيقة
الموقف الإسلامي الرسالي من أي موضوع يراد
معالجته. وعليه، فإنّ ما اتضح لنا من خلال
التقسيم الذي اعتمدناه أن ما جاء من حوارات،
سواء في الدنيا، أم في الآخرة، ليس هو إلا
انعكاس حقيقي لما تؤدّيه التجربة في النهاية،
باعتبار أن النص القرآني الذي يُتحدث فيه عما
يحصل من حوار، أو قول متبادل بين الضعفاء
والمستكبرين، قد سبق للقرآن أن عرض له في سياق
الواقع والتجربة ولم يلتفت إليه، وهذا يدلّ
بشكل قاطع على أن التوحد بين النص والتجربة،
لا بدّ أن يكشف عن حقيقة الخطاب المنتظر الذي
سبق أن قدّمه الأنبياء (عليهم السلام) في تجاربهم، كما قال
تعالى في سورة هود على لسان الأنبياء (عليهم
السلام)، أو في
سورة الأنبياء، ﴿
يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ ؛ إذ كان الخطاب
منهم دليلاً على صيرورة هذا المعنى الذي
استكبر عليه الذين قالوا: ﴿
وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلَاْ ﴾ .
إنّه مشهد حقيقي من مشاهد التجربة البشرية
صاغته يد العناية الإلهية في عالم آخر لتدلّل
من خلاله على حقيقة انعكاس الموقف، الذي لا
بدّ أنّ الإنسان المستكبر والمستضعف صائر
إليه، وهذا ما أردنا توضيحه لجهة ما اعتمدناه
من اتجاه موضوعي توحيدي يخرج النصوص القرآنية
عن مجرد كونها تعبيراً عن حقائق غير مشهودة
لتكون حقائق حاضرة ومؤثرة في صياغة الموقف من
الترف والمترفين، طالما أن هؤلاء هم الذين
عاندوا النبوّة وحالوا دون أن يكون أكثر الناس
على سبيل الهدى، وقد أشرنا إلى حقيقة أن هؤلاء
الناس مثلما أدركوا أنه يمكن أن يتخطّفوا فيما
لو اتبعوا النبي، كان من الممكن أن يدركوا
أيضاً مساوئ اتباع المترفين والركون إليهم
فيما لو عقلوا عن الله تعالى، وأطاعوا الرسل
فيما جاؤوا به من عند ربّهم.
وفي هذا المجال نقول، لعلّنا قدمنا رؤية جديدة
في هذا الاتجاه، ونسأل الله أن تكون رؤية
واعية وواضحة لمن تأمّل فيها لجهة ما تعنيه من
استنطاق للنصوص القرآنية في ضوء حالات التجربة
البشرية، لأنّ النصّ القرآني، هو نصّ حيّ في
كل زمان ومكان، ولا بدّ من إخضاع التجربة له
لاستخلاص الموقف الحقيقي مما تعرّض له، وهذا
ما كان منّا في سياق الحديث عن المترفين وما
تميّزوا به من عقيدة ومنطق في الدنيا والآخرة.
[1] سورة الكهف، الآية: 46.
[2] سورة التوبة، الآية:
34.
[3] سورة سبأ، الآية: 34.
[4] يقول الطباطبائي: «إنّ
الدين في عرف القرآن هو السنّة الاجتماعية
الدائرة في المجتمع، وهذه السنن، إمّا دين حقّ
فطري وهو الإسلام، أو دين محرّف عن الدين الحق
وسبيل الله عوجاً».
انظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1991م، ج1، ص181.
[5] سورة غافر، الآية: 26.
[6] سورة سبأ، الآية: 34.
[7] ابن منظور، محمد بن
مكرم، لسان العرب، دار المعارف، مصر، (لا ت)
ج1، ص429.
[8] الطريحي، فخر الدين،
مجمع البحرين، دار المرتضوي، طهران، ط3،
1417هـ، ج5، ص30.
[9] سورة الفجر، الآية: 15.
[10] الأصفهاني، الراغب،
معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، بيروت،
(لا ـت)، ص70.
[11] الشيخ الصدوق، من لا
يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم
1413هـ، ج1، ص514.
[12] سورة طه، الآية: 131.
[13] لقد بيّن ابن خلدون
في مقدمته أن طبيعة الملك تقتضي الترف،
فالفقير يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه، ثم
يزداد ذلك في الأجيال إلى أن يقصر العطاء كله
عن الترف وعوائده،... فالترف مُفسدٌ للخَلق
بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة،
وخاصة في أجواء الحضارة ومناخاتها، إذ إنّ
الحضارة هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع...
فالحضارة، كما يرى ابن خلدون، من توابع الترف،
والترف من توابع الثروة والنعمة، والثروة من
توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل
الدولة... انظر: ابن خلدون، عبد الرحمن،
مقدمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ج، (لا ت)، ص167
170.
[14]
يرى الصدر أن التفسير التجزيئي يكتفي
بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية،
بينما الموضوعي يطمح إلى أكثر من ذلك، فهو
يحاول أن يستحصل أوجه الارتباط بين هذه
المدلولات التفصيلية... ومن خلاله يصل المفسر
إلى نظرية قرآنية عن النبوة مثلاً، وعن سنن
التاريخ... إنه منهج يوحّد بين التجربة
البشرية وبين القرآن الكريم، ويبدأ من الموضوع
الخارجي وينتهي إلى القرآن الكريم. انظر:
الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي في
المدرسة القرآنية، الدار العالمية، بيروت، ط1،
1989، ص30 31.
[15] يرى الصدر أن السنن
تأخذ أشكالاً عدة، الشكل الأول، هو شكل القضية
الشرطية التي تؤكد على العلاقة الموضوعة بين
الشرط والجزاء، مثال هذا الشكل: إن الماء إذا
تعرض للحرارة وبلغت الحرارة درجة المئة مثلاً
في مستوى معيّن من الضغط، سوف يحدث الغليان،
ومثال هذا من القرآن، قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ ، فالصدر
يرى أن القانون بيّن في هذه الآية بلغة
القضيّة الشرطية، ومن الأمثلة أيضاً: قوله
تعالى: ﴿
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً ﴾ ، إنّ هذه الآية تتحدّث بلغة
القضية الشرطية على سنّة من سنن التاريخ،
فالآية تربط وفرة الإنتاج بعدالة التوزيع.
أمّا الشكل الثاني من أشكال السنن، فهو الذي
يتخذ شكل القضية الفعلية المتميزة المحققة،
ومثاله العالم الفلكي حينما يصدر حكماً علمياً
في ضوء قوانين مسارات الفلك، وبأن الشمس سوف
تنكسف في اليوم الفلاني، هذه قضية علمية، وهو
شكل، كما يرى الصدر، لم يصغ بشكل القضية
الشرطية ...
يبقى الشكل الثالث من أشكال السنن، وهو شكل،
كما يرى الصدر، اهتمَّ به القرآن الكريم
اهتماماً كبيراً، وهو السنّة التاريخية
المصاغة على صورة اتجاه طبيعي في حركة
التاريخ، ومثاله أن الإنسان يمكنه أن لا يصلّي
وأن لا يصوم، لأنّ وجوب الصوم والصلاة حكم
تشريعي وليس قانوناً تكوينياً، لكنه لا يمكنه
أن يتحدّى القوانين الكونية والسنن
الموضوعية... وهناك اتجاهات موضوعية في حركة
التاريخ ومسارات الإنسان يمكن أن تقبل التحدّي
ولو على شوط قصير، مثال ذلك: نقول: إنّ هناك
في تركيب الإنسان وتكوينه اتجاهاً موضوعياً لا
تشريعياً إلى إقامة علاقات معيّنة بين الذكر
والأنثى في المجتمع... وقد أمكن لقوم لوط أن
يتحدّوا هذه السنّة فترة من الزمن، فهذا اتجاه
موضوعي ركب في طبيعة الإنسان، وهو سنّة على
مستوى الاتجاه لا على مستوى القانون.
يبقى أن نشير إلى ما ذكره الصدر عن خصائص عرض
لها تحت عناوين وحقائق ثلاث: حقيقة الاطراد،
وحقيقة الربّانية، وحقيقة اختيار الإنسان.
را: الصدر، محمد باقر، السنن التاريخية في
القرآن، صياغة محمد جعفر شمس الدين، دار
التعارف، بيروت، ط1983، ص89 - 90.
[16] انظر: مغنية، محمد
جواد، تفسير الكاشف، دار العلم للملايين،
بيروت، ط3، 1981، ج5، ص30.
[17] سورة الرعد، الآية:
11.
[18]
أجمع العلماء والمفسرون على أن القرآن
هو كتاب هداية وتغيير، وبما أن القرآن يهدي
إلى التي هي أقوم، فإنّ معنى ذلك أن القرآن
يهدي إلى السبل الكفيلة باستخلاص الحقائق،
ولعل الاتجاه الموضوعي هو أقوم الطرق لاكتشاف
حقائق القرآن لكونه يركّز على التجربة
التاريخية وما هي محكومة له من سنن، وقد بيّن
المفسّرون أنّ هذا الاتجاه أي الموضوعي يحتاج
إلى طرق عدّة للوصول إلى أي موضوع في القرآن،
وهذا ما أشار إليه توفيق العامر من خلال
تركيزه على تفكيك الموضوعات القرآنية
واستنطاقها على النحو الذي يمكن الباحث من كشف
ما تهدي إليه من حقائق، وخاصة في مجال القصص
القرآني.
انظر: توفيق العامر، مدخل إلى علم التفسير،
دار البيان العربي، بيروت، ط1، 1993، ص133.
[19]
سورة هود، الآية: 116.
[20]
سورة سبأ، الآية: 34.
[21] سورة الإسراء، الآية:
16.
[22] را: الحلّي، الحسن بن
يوسف، تحرير الأحكام، تحقيق إبراهيم البهادري،
إشراف جعفر سبحاني، مؤسسة الإمام الصادق، قم،
ط1، 1420هـ، ج1ـ ص33.
[23] سورة سبأ، الآيتان:
32 - 33.
[24] لقد بيّن الطوسي في
التبيان أن حالات الترف المستأصلة بالعذاب في
الدنيا ليست متميزة بين تابع ومتبوع، ولهذا،
فعجب الله نبيّه كيف لم يكن منهم بقية في
الأرض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكيف
اجتمعوا على الكفر حتى استأصلهم الله بالعذاب،
ثم انتهى بقوله: ﴿
إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ ... ﴾ . را: الطوسي، التبيان في
تفسير القرآن، تحقيق أحمد حبيب العاملي، ط1،
1409، ج6، ص81.
[25] الطباطبائي، محمد
حسين، تفسير الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت،
ط1، 1991، ج11، ص61.
[26] الزمخشري، جار الله
محمود بن عمر، الكشاف، دار الكتب العلمية،
بيروت، ط5، 2009م، ج2، ص420.
[27] سورة الجن، الآية:
16.
[28] سورة الأحزاب، الآية:
62.
[29] سورة يونس، الآية:
102.
[30] سورة الأعراف،
الآيتان: 94 - 95.
[31] سورة العنكبوت،
الآية: 64.
[32] الصدر، محمد باقر،
التفسير الموضوعي، الدار العالمية، بيروت، ط1،
1989، ص59.
[33] مطهّري، مرتضى،
المجتمع والتاريخ، دار المرتضى، بيروت، 1988م،
ص327.
[34] سورة سبأ، الآيتان:
34 - 35.
[35]
انظر: الفيض الكاشاني، تفسير الصافي،
(ت 1091)، مكتبة الصدر، طهران، قم، 1416هـ،
ج4، ص322. وقا: القمي المشهدي، محمد رضا،
تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، طهران، مؤسسة
الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1411هـ، 1991م،
ص508. انظر شرحه لنصّ نهج البلاغة لأمير
المؤمنين (عليه السلام) الذي قال: وأما الأغنياء من مترفة
الأمم فتعصبوا لآثار مواقع النعم،... فقالوا:
﴿ نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
﴾ يقول الإمام (عليه السلام) : فإن كان لا بدّ من
العصبية، فليكن التعصّب لمكارم الخصال ومحامد
الأمور....
[36] ليس معنى أن يكون
الفقراء أنصار الأنبياء (عليهم السلام)، أنه لا يوجد أغنياء
في صفوف أنصار الأنبياء (عليهم السلام)؛ ولكن القرآن خصّ
المترفين المتنعّمين بالذكر لأنهم كما يقول
شبّر أصل في العناد، ونحن نرى أنّ فرز
المترفين إلى فقراء وأغنياء ليس صحيحاً طالما
أنه يوجد في الفقراء مترفون، بل لولا الفقراء،
كما سنرى عند «مغنيّة» لما استبدّ أهل الترف.
إنّ الناس هم الذين يصنعون الترف بغضّ النظر
عمّا إذا كانوا فقراء أو أغنياء، وهذا ما
سنعرض له في بحوثنا المقبلة فيما سنعرض له عن
المحاججة بين المستكبرين والمترفين من جهة،
وبين المستضعفين من جهة أخرى، هذه المحاججة
التي تنتهي بالجميع إلى أن يُسرّوا الندامة
حين يرون العذاب، وهذا دليل على أنه لا معنى
لهذا الفرز في الدنيا طالما أن مقتضى الجعل
وموجبه هو الكفر، كما قال تعالى: ﴿
وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ
الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ موضع
الضمير إيذاناً بموجب الجعل كما يرى شبّر في
تفسيره.
انظر: عبد الله شبّر، تفسير القرآن الكريم،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 2009، ص409، وقا:
مع مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار العلم
للملايين، بيروت، 1981، ج6، ص267. وقا: مع
الشيرازي، محمد الحسيني، تقريب القرآن إلى
الأذهان، دار العلوم، بيروت، 2003، ج4، ص390.
[37] سورة الأعراف،
الآيتان: 75 - 76.
[38] سورة النحل، الآية:
22.
[39] سورة الأنبياء،
الآية: 13.
[40] سورة الواقعة، الآية
45.
[41] سورة هود، الآية:
116.
[42] سورة الأنعام، الآية:
29.
[43] سورة المؤمنون،
الآية: 33.
[44] سورة المؤمنون،
الآية: 36.
[45] الإمام علي (عليه
السلام) ، نهج البلاغة، الخطبة: 192.
[46] سورة الأعراف، الآية:
127.
[47] سورة القصص، الآية:
78.
[48] سورة الأنعام، الآية:
111.
[49] سورة الرعد، الآية:
31.
[50] انظر: الصدر، محمد
باقر، المدرسة القرآنية، والتفسير الموضوعي،
م. س، ص57.
[51] سورة الأنعام، الآية:
34.
[52] سورة سبأ، الآية: 34.
[53] الصدر، محمد باقر،
التفسير الموضوعي، م. س، ص57.
[54] سورة سبأ، الآية: 37.
[55] سورة سبأ، الآية: 36.
[56] قال تعالى: ﴿
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ
رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
﴾ [الفجر: 15 - 16] .
[57] سورة الأعراف، الآية:
44.
[58] سورة المؤمنون،
الآيتان: 82 - 83.
[59] سورة الأنبياء،
الآية: 13.
[60] سورة المؤمنون،
الآية: 64.
[61] سورة الواقعة، الآية:
45.
[62] سوة سبأ، الآية: 33.
[63] سورة الزخرف، الآيات:
21 - 23.
[64] سورة سبأ، الآية: 34.
[65] را: المفيد، محمد بن
محمد،تصحيح اعتقادات الإمامية، وفاة المؤلف،
413هـ، إيران، قم، 1414هـ، ط2، ص72.
[66] سورة الأعراف، الآية:
95.
[67] سورة الزخرف، الآية:
24.
[68] سورة الأنبياء،
الآيات: 51 - 54.
[69] النيشابوري فتال،
محمد بن أحمد، روضة الواعظين، وبصيرة
المتعظين، (وفاة 508هـ) منشورات الرضا، إيران،
قم، 1417هـ، ط1، ج1، ص20.
[70] سورة يوسف، الآية:
39.
[71] سورة الفرقان، الآية:
44.
[72] سورة طه، الآية: 64.
[73] سورة الأعراف، الآية:
127.
[74] انظر النباطي
العاملي، علي بن محمد بن يونس،، الصراط
المستقيم، المكتبة الحيدرية، النجف، 1426هـ،
ط1، (ت 877هـ)، ج2، ص157.
[75] سورة الأعراف، الآية:
30.
[76] سورة الأنعام، الآية:
71.
[77] سورة الزخرف، الآية:
54.
[78] را: ما قاله أبو
سفيان حينما كانت تدخل سرايا الإسلام مكة،
وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس
بن عبد المطلب: احبسه بمضيق الوادي حتى تمرّ
به جنود الله، قال العباس: فحبسته حيث أمرني
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
والقبائل تمرّ براياتها إلى أن مرّت الكتيبة
الخضراء والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيها، فقال أبو سفيان للعباس بعد أن رأى ما
رأى من القوّة: «سبحان الله يا عباس، والله يا
أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، قلت:
أي العباس، يا أبا سفيان، إنّها النبوّة...
وهذا ما يكشف لنا كم كان الترف مستحكماً بأبي
سفيان، إلى حدّ أنه لم يرَ في النبوّة إلاّ
ملكاً عظيماً. ولولا أن الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) قد أعطاه شيئاً من الفخر لما سكنت
نفسه عن الطغيان، حيث قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): «فمن دخل دار أبي سفيان فهو
آمن»، تسكيناً لنفسه، وتلبيداً لترفه وطغيانه.
انظر: عبد السلام هارون، سيرة ابن هشام، مؤسسة
الرسالة، الكويت،ط1، 1984م، ص253.
[79] سورة الأنعام، الآية:
89.
[80] سورة طه، الآية: 64.
[81] سورة الأعلى، الآية:
14.
[82] سورة هود، الآية: 62.
[83] سورة العنكبوت،
الآية: 12.
[84] سورة سبأ، الآية: 43.
[85] انظر: سبحاني، جعفر،
سيرة سيّد المرسلين، دار البيان العربي،
بيروت، ط1، 1992، ج2، ص272.
[86] سورة الأعراف، الآية:
28.
[87] سورة الإسراء، الآية:
60، وقوله تعالى: ﴿
وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا
طُغْيَاناً كَبِيراً ﴾ . إشارة إلى أن
الترف الأقوى قد ولّد هذا الطغيان الكبير،
وأدّى إلى مظالم كثيرة بحق الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) وأهل بيته، كان أبرزها قتل
الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء. وكيف
لا يكون هذا الطغيان ناشئاً عن هذا الترف
الأموي، وكلنا يعلم أن شجرة الترف الملعونة في
القرآن، هي التي واجهت النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) لمدة تزيد على عقدين من الزمن،
وتسببت له بمآسي كبيرة في مكة والمدينة، إضافة
إلى ما أحدثته من فتن في الأمة الإسلامية عبرت
عنها الآية القرآنية؟ وكما قال تعالى: إنه
أحاط بالناس وكان بالمرصاد من خلال أوليائه
لهذه الفتنة التي حيل بينها وبين أن يكون لها
فعلها في تعريض الإسلام، عقيدة وشريعة، للخطر.
إنه الترف الأموي في تاريخ الإنسانية، وقد
استمر مع العباسيين، ولا يزال يمتد مع
الأجيال، لا بما هو تقليد ووراثة أموال
وامتيازات، وإنما بما هو مشروع سياسي وديني
هادف إلى الاستبداد والاستعباد والهيمنة!؟.
[88] سورة الواقعة، الآية:
45.
[89] سورة غافر، الآية:
26.
[90] سورة يس، آية: 20.
[91] سورة آل عمران،
الآية: 137.
[92] سورة النساء، الآية:
97.
[93] سورة القصص، الآية:
79.
[94] سورة سبأ، الآيتان:
32 - 33.
[95] سورة غافر، الآيتان:
47 - 48.
[96] الطوسي، محمد بن
الحسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتب الإعلام
الإسلامي، ط1، 1409هـ، ج1، ص155.
[97] الطبري، أبو جعفر
محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي
القرآن، (ت 310) 1415هـ، دار الفكر، بيروت،
ج24، ص92.
[98] إنّ مشهديّة الحوار
بين المستضعفين والمستكبرين كما عرضها القرآن
الكريم في العديد من السور القرآنية، تُظهر
لذي لُبٍّ أنها ليست أكثر من تعبير عن حال
هؤلاء في الدنيا على نحو ما سنبيّن لاحقاً إذ
نرى أنّ مليارات البشر اليوم، وخصوصاً في
العالم الإسلامي هم محكومون للمترفين
والمستكبرين فيما يؤدونه من أعمال ويلتزمون من
وظائف، بل إنهم ينطقون بلسان المترفين في كثير
من شؤون دينهم، إلاّ القليل ممن آمن وعمل
صالحاً، وإذا كان القرآن قد عرض لهذا المشهد
على أنه مشهد في الأعراف أو في النار، أو لنقل
خارج عالم الشهادة، فإنّه يمكن تحسّس وتعقّل
هذا المعنى للحوار في الدنيا كي تدرك أن النار
التي سعّرها المترفون للمستضعفين في دنياهم هي
شيء مما ينتظرهم في الآخرة. وقد أراد القرآن
فيما عرض له من حوارات أن يستفيد منها الإنسان
لتكون له النجاة في دنياه، بحيث لا يستغرقه
الترف، ويدفع به إلى أن يكون ممّن تنطبق عليه
هذه المشهديّة غداً، باعتبار أن الناس الذين
يتحاورون غداً هم الناس الذين يعيشون التجربة،
وقد قال عليّ : إنّ العقل هو حفظ التجربة، فما
بالنا نقرأ النصوص ونقوم بتجريدها، وكأنّ
الإنسان الذي يتحاور فيها اليوم هو غير
الإنسان الذي يخاصم غداً، إنّه الإنسان ذاته
الذي ينبغي عليه أن يعكس هذا الحوار في حياته
وتجربته لكي لا يكون من أهل الخصومة غداً.
هذا ما أردنا تبيانه في سياق الحديث عن وحدة
التجربة مع النصّ، وحاكمية النصّ للتجربة في
ضوء ما عرض له القرآن من حقائق، سواء في
الدنيا، أم في الآخرة على ضوء ما تبيّن لنا في
حديثنا عن الأنبياء (عليهم السلام) والمترفين، وما تميّز به
كل منهما من عقيدة ومنطق، وكما قال تعالى: ﴿
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ ﴾ [ص: 64] .
[99] سورة القصص، الآية:
57.
[100] سورة سبأ، الآية:
33.
[101] سورة البقرة،
الآيتان: 166 - 167.
[102] سورة الحجرات،
الآية: 15.
[103] سورة الأحزاب،
الآية: 67.
[104] الطوسي، التبيان في
تفسير القرآن، م. س، ج8، ص363.
[105] الطبرسي، الفضل بن
الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة
الأعلمي، بيروت، ط1، 1425هـ، ج8، ص184.