الكتاب |
الفوز العظيم والخسران
المبين في القرآن الكريم |
تأليف |
الشيخ عارف هنديجاني فرد |
إعداد ونشر |
جمعية القرآن الكريم |
الطبعة |
الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت |
موقع جمعية القرآن الكريم |
www.qurankarim.org |
بريد جمعية
القرآن
الكريم |
info@qurankarim.org |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
خير خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
يقول سبحانه : ﴿
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ
شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
﴾.
أهدي هذا العمل المتواضع إلَى العاشقين
المخلصين لله عزَّ وجل .
إلَى الأوفياء لنبيهم الثابتين على عهده
وميثاقه (صلى الله عليه وآله وسلم).
إلَى المطيعين له (صلى الله عليه وآله وسلم)
في التمسك بالقرآن والعترة الطاهرة.
إلَى الموالين لفاطمة الزهراء وأولادها
الأطهار المعصومين (عليهم السلام) .
إلَى المقتدين ببطلة كربلاء العقيلة زينب ابنة
علي (عليهما السلام) .
إلَى زوجتِي التِي وقفت معي في حلو الحياة
ومرها وأفراحها وأتراحها.
إلَى أبنائي وقرَّة عينِي وريحانتي، وفلذة
كبدي، وثمرة فؤادي .
إليكم جَميعًا أيها الأحبة، أهدي هذا الجهد
المتواضع، راجيًا من الله تعالَى القبول، ومن
النبِي وآله عليهم الصلاة والسلام الشفاعة لي
ولكم للفوز بالآخرة، اَللّهُمَّ
بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
الشيخ عارف هنديجاني فرد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
أشرف خلق الله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
وأصحابه المنتجبين.
اعتاد علماء التفسير، والباحثون في علوم
القرآن، على شرح المفاهيم القرآنية من خلال
سياق الآيات وفقاً للاتجاه التجزيئي بفهم
الآية من خلال آية أخرى في القرآن الكريم،
وكان لهذا النمط من التفسير إيجابياته في
تظهير المعاني القرآنية، ولكنه ليس هو
الطريقة، أو المنهج الأمثل لاستيعاب معاني
الآيات في إطار الرؤية الموضوعية. وقد رأينا
في بحوثنا القرآنية السابقة، سواء في مبحث
«حوار الأديان في القرآن» أم في مبحث «المترفون
وصناعة الفساد»، أنّ هناك طريقاً آخر لاستنطاق
الآيات القرآنية، والتدبّر فيها على النحو
الذي يؤدي بنا إلى فهم المواضيع القرآنية في
إطار الرؤية الشاملة للموضوع القرآني المراد
بحثه، على اعتبار أنّ الآيات ليست جزراً
منفصلة بعضها عن بعض، وإنّما هي تقدّم رؤية
شاملة لكل موضوع من خلال ترشيد الناس إلى
الأسس والقواعد التي لا بدّ من الاحتكام إليها
في بلورة الرؤية الإسلامية، أو الموقف
الإسلامي اتجاه قضية من القضايا الإنسانية، أو
الاجتماعية، أو السياسية، وفي كل مجالات
الحياة.
ونحن في هذا البحث سنحاول قدر المستطاع أن
نسلّط الضوء على موضوع من أهم المواضيع
القرآنية، بل يمكن اعتباره تجلياً من
التجلّيات القرآنية، وعنينا به موضوع الفوز
العظيم والخسران المبين في القرآن الكريم، إذ
هو موضوع يلحظ حقيقة التحوّل الإنساني في
الدين والدنيا، ويحدّد ملامح لما ينبغي أن
يكون عليه الإنسان في دينه ودنياه. ذلك أن
موضوع الفوز ليس مجرّد رؤية أو نظرية يمكن أن
يصيب بها الإنسان، أو يخطئ، وإنّما هو حقيقة
ومفهوم قرآني يتعلّق به مصير الإنسان في
الدنيا والآخرة..
ولهذا، فإنّ الكثيرين ممن تناولوا هذا الموضوع
بالبحث والدراسة، غالباً ما كانوا يلحظونه في
دائرة جزئية خاصة فيما يكون عليه الإنسان من
حال ماديّة، أو معنوية في تقلّباته الدنيوية،
وفي أحيان أخرى، نرى أنّ أغلب الباحثين في
الشؤون القرآنية يتحدّثون عن الفوز والخسران
في إطار رؤية عامة حول طريقة الإنسان وخياراته
في فهم نعمة الدنيا وزينتها، ولكنهم كانوا
يتجاهلون عن قصد، أو عن غير قصد معنى أن تكون
هذه النعم محكومة للابتلاء، سواء في مجال
الفرد، أم في مجال المجتمع والأمة، حيث إنّ
اختبار الإنسان في هذه الدنيا بصنوف البلاء،
هو الذي يحدّد مدى التزام الإنسان بالمبادئ
والقيم التي من خلالها يمكن للإنسان أن يتوفّر
على أسباب للفوز العظيم يأخذ بها الإنسان في
طريق كدحه إلى الله تعالى.
إنّ هذا البحث يتناول موضوع الفوز والخسران في
إطار رؤية قرآنية شاملة، نسعى من خلالها إلى
تبيان معنى أن يتحوّل الإنسان في ضوء هذه
الرؤية ليكون خاسراً أو فائزاً، لأنّ سياق
الآيات القرآنية لا يلحظ الفوز والخسران فيما
تعنيه تقلبات الإنسان المادية وحسب، بل يتجاوز
ذلك إلى إظهار معنى الفوز العظيم والخسران
المبين في حقيقة معناه، وذلك من حيث هي آيات
قرآنية مبيِّنة لمعانٍ كثيرة في مجال الرؤية
والاعتقاد والإيمان، ومدلّلة على أن الفوز
العظيم فيما جاء من آيات لم يظهر على أنّه فوز
في مكتسب، أو في تجارة رابحة، وإنّما ظهّره
القرآن على أنّه فوز عظيم فيما يؤدّي إليه من
حياة في الدنيا والآخرة، ومثله الخسران
المبين، فهو وإن كان قد لحظ في ما يخسره
الإنسان من متاع وزينة في الدنيا، إلاّ أنّه
أعطى رؤية شاملة لمفهوم الخسران على مستوى
النفس الإنسانية، حيث بيَّنت الآيات المباركة
أن الخسران المبين هو محقّق لا محالة لأولئك
الذين لم يتواصوا بالحق والصبر دونما اعتبار
لمتاع الدنيا وزينتها، كما قال الله تعالى: ﴿
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ
الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ
بِالصَّبْرِ ﴾
[1] ، فالخسر في الآية، ناظر إلى أنّ انعدام
الإيمان والعمل الصالح، وعدم التواصي بالحق
والصبر، إنّما يكون نتيجة لوقوع الإنسان في
الخسران المبين على مستوى نفسه وإيمانه وليس
على مستوى متاع الدنيا وزخرفها، وهذا أمر من
الأهميّة والوضوح بمكان، وهذا ما سنتحدّث عنه
ببحث مستقلّ في خاتمة هذا الكتاب إن شاء الله.
إنّ الفوز والخسران، كما سنرى في بحوث لاحقة،
لهما متعلقات كثيرة على مستوى الواقع الإنساني
وتجلّيات التجربة الإنسانية في الحياة؛ ذلك
أنّ هذه المفاهيم بما هي حقائق قرآنية تتجاوز
المعطى الواقعي إلى الفوز والخسارة على مستوى
النفس الإنسانية، كما هو مفاد سورة العصر،
وهذا يقتضي منّا أن نبحث في هذه المفاهيم في
الدائرة الإنسانية العامّة على مستوى الإيمان
والعمل الصالح والحق والصبر، لأنّ ما يمكن
تلمّسه من سياق الآيات القرآنية التي تتحدّث
عن خسران النفس والأهل والخلود في جهنّم فيما
لو كذّب الإنسان وتولّى، وكذلك الآيات التي
تتحدّث عن الفوز والرضوان، إنّ هذا كلّه هو
الذي يُخرج هذه المفاهيم من مجرّد كونها
أخباراً لتكون حقائق مُعاشة في حياة الإنسان
يتبصّر بها وفيها ليدرك أنّ الفوز والخسران
هما نتيجة لما يكون عليه الإنسان من إيمان
وعمل وسلوك وأخلاق، على اعتبار أن السياق في
كثير من الآيات يفيد هذا المعنى، ويؤكّد عليه،
وخاصة لجهة ربط الفوز والخسران بما ينبغي أن
يكون عليه الإنسان في ذات نفسه من عقيدة
وإيمان وولاء وانتماء إلى الله تعالى، فهو إن
كان مطيعاً لله ورسوله كان له الفوز والرضوان،
وأمّا إن كان مطيعاً للشيطان فله الخسران
المبين في الدنيا والآخرة.
ولهذا، فإنّ ما نجهد له في هذا المبحث هو أن
نتعرّف إلى حقيقة هذه المفاهيم من خلال عرض
شامل للرؤية القرآنية، دون إغفال لما كان عليه
المشركون وأهل النفاق من بلاء في الدنيا من
حيث ما كانوا عليه من عصيان وكفر وفسوق في
الوقت الذي كانوا فيه على نعم ماديّة لا تعدّ
ولا تحصى، بل هم في كثير من الأحيان، كانوا
يعتبرون أنفسهم على فوز عظيم، وقد ردّ الله
تعالى عليهم مزاعمهم، نافياً أن يكونوا على
فوز عظيم فيما كانوا عليه من رؤية واعتقاد، أو
في متاع دنيوي وزينة في مظاهر الحياة، وفي هذا
السياق يمكن لنا أن نفهم معنى أن يخاطب العصاة
والكفّار وأهل زينة الدنيا بما يُفيد خسرانهم
في الدنيا والآخرة معاً، كما قال الله تعالى
في شأن أولئك الذين أرادوا الحياة الدنيا
وظنّوا أن قارون هو على فوز عظيم، فقالوا: ﴿
يَا لَيْتَ لَنَا
مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
[2] . مقابل
الذين أوتوا العلم، حيث قال الله تعالى: ﴿
وَقَالَ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ
ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الصَّابِرُونَ
﴾
[3] . وكانت النتيجة الخسران المبين
لقارون، كما قال الله تعالى: ﴿
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا
كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ
اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ
﴾
[4] .
إنّنا نمهّد في مبحثنا هذا، لدراسة الفوز
والخسران في القرآن، حيث تمَّ تقسيم مباحث هذه
الرواية إلى أربعة فصول ينطوي كل فصل فيها على
مباحث في الفوز والخسران، مع خاتمة تتضمّن
خلاصة وأهمّ ما يمكن الوقوف عنده في مباحث
الفوز والخسران، وهذا يقتضي منّا أن نعرّف بكل
فصل من هذه الفصول فنقول:
إنّ الفصل الأول: يتضمن مباحث في الفوز العظيم
من القرآن مع ملاحظة كامل سياقات الآيات
القرآنية، وذلك بهدف تبيان حقيقة أن الفوز
العظيم لا يكون إلاّ من خلال الرؤية الإيمانية
الصادقة، التي من خلالها يستطيع الإنسان
استيعاب واقع الحياة بكل ما تزخر به هذه
الحياة من زينة وزخرف ومتاع، لأن الفوز العظيم
فيما جاءت به الآيات، سواء من خلال القصص
القرآني، أم من خلال آيات العبادات
والمعاملات، يركّز فيه على الطاعة لله تعالى
ورسوله فيما جاء به الرسول من عند ربّه،
باعتبار أن الفوز ليس مجرّد فوز دنيوي، وإنّما
له متعلقات إيمانية ورسالية لا بدّ أن تتوفر
للإنسان في حركته الاجتماعية والسياسية وفي كل
ميادين الحياة.
كما وبهذا اللحاظ أيضاً أتينا على ذكر ما هو
عليه الإنسان من نِعَم مَنَّ الله تعالى بها
عليه، فإذا لم يتوفر على معنى الإيمان والعمل
الصالح، فإنّه لا يلبث أن يسقط في الخسران
المبين، لكون التمتع في الحياة، وزيادة
المكاسب المادية ليست سبيلاً للفوز في الآخرة
فيما لو كانت متجرّدة عن المعنى الديني
والإيماني، وهذا ما أردنا التوقف عنده في
الفصل الأول بكل ما ينطوي عليه من عناوين، ثم
التمييز من خلال السياق القرآني بين أن يكون
الفوز مبيناً، أو عظيماً، أو كبيراً بلحاظ كون
الآيات تخرج الفوز عن كونه مجرّد فوز
دنيوي ليكون فوزاً في الدنيا والآخرة، ذلك أنّ
المؤمن الذي توافر على متاع الحياة بحقّ، هو
الذي استطاع أن يحدث لنفسه التحوّل المطلوب في
إطار ما أمر به ونُهي عنه، كما قال الله
تعالى: ﴿
وَمَنْ أَرَادَ
الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم
مَّشْكُوراً ﴾
[5] ، وهو سعي كما
تعلم إنما كان في
الدنيا وتحول معه الإنسان ليكون متوفراً على
الشكر الذي يتواصل معه من الدنيا إلى الآخرة،
خلافاً لذلك الإنسان الذي أراد العاجلة، وكان
مصيره جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً، كما قال
الله تعالى: ﴿
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا
لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ
جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا
مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ﴾
[6] .
أما الفصل الثاني: فقد بحثنا فيه جملة من
متعلقات الخسران المبين في الدنيا والآخرة،
حيث رأينا أن الخسران المبين إنّما يكون لذلك
الإنسان الذي اختار الدنيا ومتاعها على الآخرة
ونعيمها، ظنّاً منه أن الفوز المادي، والتوفر
على مقتنيات الحياة المادية، هو الذي يجعله
فائزاً في الدنيا والآخرة، في حين أنّه لا ربح
ولا فوز حقيقي في سياق الرؤية المادية للحياة.
كما قال الإمام علي (عليه السلام) : «معاشر
الناس، اتقوا الله، فكم من مؤمل لا يبلغه،
وبان لا يسكنه، وجامع ما سوف يتركه، ولعلّه من
باطل جمعه، ومن حق منعه، أصابه حراماً، واحتمل
به آثاماً، فباء بوزره، وقدم على ربه، آسفاً
لاهفاً، قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران
المبين»
[7] .
أما المبحثان الثالث والرابع: فقد عرضنا فيهما
لجوانب من تحققات الفوز والخسران في الدنيا
والآخرة؛ إضافة إلى ما يمكن أن تفيده تجارب
الإنسان في سياق السعي للفوز في الدنيا، إذ
رأينا كيف أن الكثيرين ممن اختاروا الدنيا على
الآخرة، قد أدركوا الخسران فيما زعموه لأنفسهم
من مكاسب في الدين والسياسة، وفي الحياة
المادية أيضاً.
إنّ الفوز والخسران هما من المباحث المهمة في
القرآن الكريم وقد تمّ التفصيل فيهما على
النحو الذي يربط بين مباحث هذه الدراسة
لاستخلاص النتائج المرجوّة منها. وخاصة في
مجال الرؤية القرآنية الحاكمة، لأن القرآن
فيما أرشد إليه من فوز وخسران أوضح السبل
الكفيلة بإخراج الإنسان من أوهامه وخيالاته،
ليكون على منهاج واضح فيما يختاره لنفسه، بحيث
يتمكن من الفوز في الدنيا والآخرة معاً،
باعتبار أن الدنيا هي قنطرة الآخرة. هذا فضلاً
عن كونها متجر للإنسان كيما يعبر بها إلى
الفوز والخلود دونما أن تكون له الخسارة
المادية، التي اعتبر بعضهم المترفين
والعصاة والكافرين أن الفقر وعدم توفر المال والزينة هو دليل على خسران الدنيا
والآخرة، وقد بيّن أمير المؤمنين (عليه
السلام) أنه ليس من ضرورة الفوز وقيمته
أن يكون الإنسان على زهد في الدنيا لدرجة
التنكّر لكل زينة ومتاع فيها
[8] ، إذ كيف يكون الأمر كذلك، وقد
بيّن الله تعالى أنّ هذه الزينة إنّما جعلت
للمؤمنين في الدنيا، آخذاً على أولئك الذين
تنكّروا لها، حيث قال الله تعالى: ﴿
قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ ﴾
[9] .
تعارف أهل العلم على أن كل بحث علمي لا بدّ أن
تكون له أسباب ودوافع ومسوّغات تدفع إلى
القيام به، إما لإضافة شيء جديد، وإمّا لسدّ
نقص في دراسات الباحثين. وبما أن موضوع الفوز
والخسران في القرآن، قد تعرّض له بالبحث
والدراسة كثير من المفسرين والباحثين في علوم
القرآن، فإنّ هذا ما يضاعف الحاجة إلى التوسع
في مجال هذا البحث للإحاطة بما لم يحط به
الآخرون، وإلاّ كان البحث تكراراً لبحوث أخرى،
وهذا من شأنه، إذا ما حصل أن يفقد البحث
مسوّغه، فلا تكون ثمّة حاجة إليه. وعليه، فإنّ
مقتضى الموضوعية والعلمية أن يتوفر بحثنا على
مزيد من الحقائق، بحيث تكون له رؤية جديدة
تدفع إليه، وغاية تسوّغه لجهة ما يراد بحثه،
أو التوسّع في ميدانه، وخاصة في مجال علوم
القرآن، التي لا يمكن لأحد أن يدّعي أنه
استوفى البحث الكامل فيها.
إنّ القرآن هو كتاب الله تعالى، الذي لا تفنى
عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ونحن إنّما نبحث في
موضوع الفوز والخسران بغاية تقديم رؤية جديدة
في ضوء تجارب الإنسان بعيداً عن الاستغراق في
الجانب التجزيئي للتفسير، وهذا ما نرى أنّ
أكثر الباحثين قد أغفلوه في بحوثهم القرآنية،
ولدينا دراسات كثيرة سابقة على هذا الموضوع،
وكانت لها تسويغات ودوافع، وربما قدمت رؤى
وحقائق جديدة نترك للباحثين التقييم لها
والحكم عليها ...
وفي هذا المبحث نرى أنه موضوع له ما يسوّغه،
إذ هناك ما يدفع ويُعطي أسباباً كافية للقيام
به على نحو ما بينّا في تقديمنا لهذا المبحث،
وقد رأينا أن من هذه الدوافع إقدام الباحثين
على دراسة موضوع الفوز والخسران في سياق رؤية
حياتية تتعلق بسعادة الإنسان في الدنيا، رغم
أنّ سياق آيات الفوز والخسران لا يلحظ الفوز
العظيم، أو الخسران المبين في سياق منفصل عن
الطاعة لله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، إضافة إلى ارتباط هذا الموضوع بحقيقة
التولّي والتبرّي، حيث نجد القرآن يقدّم
الاعتقاد والإيمان كأساس لسعادة الإنسان،
وتأتي النعم الإلهية في الدرجة الثانية محفوفة
بأنواع من البلاء والامتحان، هذا فضلاً عمّا
يراه القرآن ويعرض له في جانب التجربة البشرية
للإنسان، إذ هو لم يقل ـ أي القرآن ﴿
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾
[10] ، أو ﴿
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[11] ، من خارج
التجربة، بل كان الأمر الإلهي والالتزام به
والطاعة له هو تحقق الفوز والبلاء، تماماً كما
كانت معصية إبليس في التجربة سبباً في خسرانه
وخروجه عن أمر ربه. وكما قال بعض العارفين:
«يا معشر المغترّين بالعِصَم، إنّ تحتها
أنواع النقم، زيّن الله إبليس بأنواع عصمته،
وهو عنده في حقائق لعنته، وزيّن بَلعام بأنواع
ولايته، وهو في حقائق عداوته»
[12] .
ومن هنا، فقد رأينا أن النعم والابتلاءات
المختلفة بالفقر والغنى والصحة والمرض، ليست
من متعلقات الفوز والخسران بالشكل الذي يجعل
منها أساسيات لهما، فهذا كلّه شيء ثانوي في
سياق الرؤية القرآنية، ويكفينا في هذا المبحث
أن نعرض لقراءة جديدة يرى لها البحث العلمي
مسوّغاً، طالما أن العلماء يرون أن البحث لا
بدّ أن تكون له غاية، وهذه الغاية لا تخرج عن
واحدة من الغايات الآتية: إمّا اختراع معدوم،
أو جمع متفرق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل،
أو تهذيب مطوّل، أو ترتيب مختلط، أو تعيين
مبهم، أو تبيين خطأ
[13] . ولا نشكّ إطلاقاً في أنّ الباحثين
يمكنهم أن يجدوا لنا مسوّغاً في بحثنا هذا في
غاية من هذه الغايات.
ونحن نزعم لأنفسنا أن مسوّغاً أساسياً يقف خلف
هذا المبحث هو ترتيب مختلط، لأن المفسرين
للقرآن لم يتركوا مبهماً، ولم يخترعوا
معدوماً.. فإذا ما استطعنا أن نقوم بهذه
الغاية، فإننا نكون قد استوفينا بعض ما نراه
ضرورياً في تهذيب وترتيب هذا الموضوع، على
النحو الذي يقدّمه برؤية جديدة، ويخرجه بجملة
مفيدة ...
لا شكّ في أن مبحثنا هذا ينطوي على إشكالية
تتجلّى في كثير من الأسئلة التي يمكن أن تُثار
في سياق البحث عن الفوز والخسران في القرآن.
ولعلّنا لا نخطئ القول في أن هذا المبحث هو من
أكثر المباحث إثارة، لكونه يرتبط بمصير
الإنسان، وقبل ذلك بطرق عيشه، وتبدّل أحواله،
وإذا كان القرآن قد أكثر من استعمال الدنيا
والآخرة، فذلك إنّما كان بهدف أن يتبصّر
الإنسان بما يؤدّي به إلى السعادة والفوز بها
في الدنيا والآخرة. ولهذا، فإنّ أكثر الأسئلة
توارداً في هذا المبحث، هي الأسئلة الآتية:
هل معنى الخسران في الآخرة أن يفوز الإنسان في
الدنيا بما أعدّه الله تعالى له من نعمة
وزينة؟
ما هي الأسس، أو القواعد التي يرتكز عليها
الإنسان في تعريف وتحديد كل من الفوز
والخسران، سواء في الدنيا أم في الآخرة؟
وهل الإشكالية في بحثنا هذا تكمن في أن الدنيا
والآخرة لا تلتقيان، أو ضرّتان، فمن أراد
الدنيا خسر الآخرة، ومن أراد الآخرة خسر
الدنيا؟ أم أنّ الإشكالية كامنة في ذات
الإنسان وما يكون عليه من مبادئ وأهداف تجعله
مضطرباً في تحديد خياراته، وفي التبصّر
بمآلاته وتحولاته، لكون الإنسان هو أكثر شيء
جدلاً، إذ غالباً ما تدفع به تحوّلات الحياة
وزينة الدنيا إلى أن يكون أكثر الأشياء
اضطراباً في حركته الإنسانية في سبيل الحياة؟!
إنّ الإشكالية، كما نرى، كامنة في أنّ الإنسان
يريد أن يكون فائزاً، سواء في الدنيا، أم في
الآخرة، ولكنه، ونتيجة لاضطراب حالاته النفسية
والعقلية تلتبس عليه الأمور والأحوال، ويخرج
في طلب الدنيا ظنّاً منه أنها الغاية فيما
ينشده من مال ومتاع، وأن الموت هو منتهى
الآمال والأحلام، وقد قال المنكرون للبعث:
﴿
إِنْ هِيَ إِلَّا
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾
[14] . وقالوا أيضاً: لو
شاء الله تعالى أن لا نكون على ما نحن عليه من
المال والثروة والترف، لما كنا على كثير من
ذلك. ولو شاء الله أن لا نعبد إلاّ هو لما
عبدنا غيره! وبما أننا على كل شيء من ذلك،
فذاك دليل على أن الله تعالى شاء لنا أن نكون
على ما نحن عليه، وهذا هو منتهى الفوز بنظرهم،
طالما أن الله تعالى لم يبدّلهم عمّا هم عليه
من مال وولد، بل وصل بهم الأمر إلى أن يتعصبوا
لآثار مواقع النعم، كما قال الإمام علي (عليه
السلام) : فقالوا: ﴿
نَحْنُ أَكْثَرُ
أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ﴾، هذا فضلاً عمّا اعتقدوه
من رسوخ في حالات ترفهم ونموّهم، بعدما عفوا
وقالوا أنه قد مسّ آباءهم الضرّاء والسرّاء من
قبل، ﴿
فَأَخَذْنَاهُم
بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
وذلك بعد أن بدّلهم الله الحسنة مكان السيئة
ليعتبروا، فأخطأوا الهدف والتبس عليهم الأمر
فظنّوا أنّ ما هم عليه من النعمة، هو الفوز
والرضا، فآل أمرهم إلى العذاب، وكانوا على
خسران مبين فيما لحق بهم من الأخذ بما عصوا
وكانوا يعتدون.
إذن، الإشكالية في هذا المبحث، ليست في أن
الدنيا والآخرة لا تلتقيان، أو أنهما على طرفي
نقيض، وإنّما هي في ما ينطوي عليه الإنسان في
ذات نفسه من تناقضات وحالات نفسية وعقلية
واعية وغير واعية، إذ هو في الوقت الذي يعتقد
فيه أنه فائز يكون خاسراً، وذلك إنّما يكون له
بسبب تناقض أحواله، وتسافل اعتقاده، فيما يراه
أنه الحق، فيضطرب حاله، وتغلبه شهواته، فيؤول
أمره إلى الخسران المبين، مثله كمثل الإنسان
المريض الذي يعتقد واهماً أن علاجه إنّما يكون
فيما يختاره من دواء لنفسه، وليس فيما يختاره
الطبيب له، فيقدم على تشخيص حالاته وأمراضه
وفق رؤيته، ويعمى عمّن ينبغي أن يلجأ إليه في
تشخيص حاله بحسب ما يقتضيه مرضه الحقيقي. وقد
مَنَّ الله تعالى على الأمم والشعوب بالأنبياء
بهدف تطبيب الناس وهدايتهم إلى الحق والخير
والصواب، بحيث لا يلتبس عليهم الأمر، ويختاروا
ما هو النافع لهم في الدنيا والآخرة، ولكنهم
في كثير من حالاتهم وأحوالهم كانوا يصرّون على
اختيار ما يلائم أهواءَهم، ظنّاً منهم أنهم على
حق وصواب في وسائلهم وأهدافهم، ولعلّ ما أرشد
إليه القرآن هو خير دليل على عنادهم وكفرهم
وسوء حالهم، حيث قال الله تعالى: ﴿
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً
سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ
بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى
بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ
يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم
بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ
وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ ﴾
[15] .
إنّ إشكالية هذا المبحث تكمن، كما أسلفنا
أولاً وآخراً، فيما يرتكز إليه الإنسان من
اعتقادات ومبادئ، وليست في الخارج عنه فيما
يكون عليه من مال وجاه ودنيا، وقد جاء
الأنبياء لإثارة دفائن العقول كي ما يلتفت
الناس إلى حقيقة ما هو عليه فيختاروا الحق على
الباطل، والخير على الشر، والهدى على الضلال،
والآخرة على الدنيا، لا على نحو رفض الدنيا
وتحقيرها، وإنّما على نحو الاعتبار بها،
واتخاذها معبراً إلى الغاية الحقيقية، كما قال
الإمام علي (عليه السلام): « مَن أبصر بها
بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته »، وبين بها
وإليها فرق كبير، وسرّ عظيم، إذ إنّ البصر
بالدنيا يجعل منها وسيلة إلى غاية سامية،
بينما البصر إليها يجعل منها غاية، وهذا ما
يدفع بالإنسان إلى الركون إليها والتفاعل معها
على أنّها جنّة الخلد فيما قد يتوهّمه الإنسان
من حق وخير لنفسه في صيرورة تحولاته المادية،
وتبدّلاته في نعم الدنيا وزينتها...
إنّ الدنيا جُعلت، كما أرادها الله تعالى،
مزرعة للآخرة، وقنطرة يطلّ الإنسان من خلالها
على أفق الخلود، بل هي، كما يرى الأنبياء
والأولياء، متجر أولياء الله تعالى، وقد قال
الإمام علي - بمضمون
كلامه - أنّ أهل الآخرة ليسوا على عداء
مع نعم الله تعالى، أو مع ما جعلت عليه الأرض
من زينة، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّا جَعَلْنَا مَا
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
[16]
، وهذا دليل على أن الدنيا ليست نقيضاً
للآخرة، إذ كيف تكون كذلك، وقد اختارها الله
تعالى دار عبور لأوليائه إلى جنّات الخلد؟
لقد أراد الله تعالى لهذه الدنيا أن تكون
مختبراً يمتحن فيه الإنسان ويمحّص فيها لتكون
له السلامة في الدنيا والآخرة، فإذا ما عقل
الإنسان عن الله تعالى واهتدى إلى أمره ونهيه،
فإنّه يسلك سبيل الدنيا إلى الآخرة آمناً
مطمئنّاً، لأنّ الإنسان في جميع حالاته، وفيما
يكون عليه من نعم وابتلاء، هو الإنسان ذاته
دون تمييز بين إنسان وآخر، باعتبار أن الله
تعالى، كما قال الشيرازي في تفسير الأمثل، «قد
وضع جزءًا من نعمه في خدمة الجميع، يستفيد منها
المحسنون والمسيئون، وهذه النعم غالباً ما
تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة
عليه، وبتعبير آخر، إنّ هذه النعم هي تعبير عن
مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها
جميع الناس المؤمن والكافر، ولكن هناك نعم لا
تحصى وراء ذلك تختص بالمؤمنين والمحسنين دون
غيرهم»
[17] .
إنّ الدنيا التي ذمّها الأولياء والأنبياء، هي
دنيا المعصية والفسق والكفر والشرك، دنيا
الأوثان والأصنام. أما دنيا العقل والطاعة
والإيمان، فهي الدنيا التي جُعلت ممراً لدار
القرار، دار الحيوان، ولو لم يكن الأمر كذلك،
لما قال الله تعالى: ﴿
وَابْتَغِ فِيمَا
آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا
تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾
[18]
ومن هنا يتبيّن لنا ضرورة أن نبحث معنى الفوز
والخسران في القرآن، بحيث يتظهّر لنا حقيقة أن
الفوز والخسران إنّما يكونان في الدنيا والآخرة
معاً، وليس كما ذهب بعضهم إلى القول بأن الفوز
في الدنيا يعقبه الخسران في الآخرة أو العكس،
باعتبار أن الفوز في الآخرة لم يتأتَّ لأحد من
خارج الدنيا، بل هو في الدنيا قبل الآخرة،
وكذلك الخاسر في الآخرة فهو لم يتأتَّ له ذلك
الخسران من خارج الدنيا حتى ولو كان يعتقد أنه
قد فاز بمالها ومتاعها وبعض آثار ومواقع النعم
فيها، فهو خاسر في الحالين معاً لكونه اعتقد
واهماً أن الدنيا إنّما كانت له دار مقرّ، وهي
ليست كذلك، فخسر الدنيا والآخرة معاً، لقول
الإمام علي (عليه السلام) : «ما خير بخير بعده
النار، وما شرّ بشرّ بعده الجنة، وكل نعيم دون
الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية»
[19] .
لقد أشرنا في بحوثنا السابقة، إلى مسلّمة
أساسية، وهي أن لكل بحث من البحوث، سواء في
العلوم النظرية، أم في العلوم التطبيقية،
منهجه الخاص، الذي يستند إليه الباحث في الكشف
عمّا يريده من حقائق، وهذا المنهج، كما عرفه
العلماء، هو الطريقة، أو البرنامج الذي يحدد
لنا السبيل للوصول إلى الحقيقة، وكما أفاد أهل
اللغة أنّ المنهج هو الطريق الواضح، فيقال:
نهجت الطريق، أي أبنته وأوضحته وسلكته، وفي
حديث العباس: «لم يمت رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) حتى ترككم على طريق ناهجة،
أي واضحة بيّنة...»
[20] .وقد جاء في القاموس
المحيط، قال: نهج الطريق أي سلكه، واستنهج
الطريق أي صار نهجاً، كأنهج ونهج فلان سبيل
فلان، أي سلك مسلكه ...
[21] .
إذن، لكل علم من العلوم منهج يعتمده بهدف
الكشف عن الحقيقة التي يبحث عنها، وكما يقول
العيسوي في مناهج البحث
[22] ، والفضلي في
منهجه
[23] ،
إن المنهج هو الطريق المؤدّي إلى
الكشف عن الحقيقة في العلوم. لذا، فإنّه من
الممكن أن نفهم هذا اللفظ بمعناه العام بحيث
ندخل تحته كل طريقة تؤدّي إلى غرض معلوم نريد
تحصيله. وهناك مناهج مختلفة باختلاف مواضيع
البحث، وكل باحث يختار المسلك الخاص بطبيعة
بحثه، فقد يكون البحث في مجال التعليم، أو في
مجال التربية، ولكل مجال من هذه المجالات
ركائز ودعائم تشكّل أساساً لانطلاقة كل بحث
علمي، وكما يقول بدوي: «إنّ للدراسات على
اختلافها مناهج، باعتبار أن منهج التعليم
يختلف عن منهج القراءة، ويمكن لنا تمييز نمطين
من المنهج في الطب: المنهج الوقائي من
الجراثيم، والمنهج العلاجي، ولكل منهج من هذه
المناهج طريقه وسبيله
[24] .
وما نحن فيه من بحث قرآني، كعادتنا، فيما سبق
من بحوث، نرى أن المنهج القويم لاستكشاف
العلوم القرآنية هو الاستناد إلى قواعد عامّة
في علم التفسير، إضافة إلى سلوك سبيل بيّن
واضح في جمع المواضيع القرآنية من خلال جمع
الآيات وترتيبها على أساس موضوع ما، وهذا
الجمع لا بدّ أن يكون أولياً، وذلك لاستحالة
الإحاطة بكتاب الله تعالى من كل جهاته. والحقّ
يقال: لو أنّ أحداً من الباحثين استطاع أن
يحقّق هذه الإحاطة في منهج ما، لما كان لنا
اليوم، أو لغيرنا غداً، أن يقوم بأي بحث في
العلوم القرآنية: إنّه كتاب الله تعالى الذي ﴿
لَّا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
﴾
[25]
.
وهكذا، فإنّ المنهج الموضوعي، والذي سمّاه
الشهيد الصدر بالاتجاه الموضوعي الذي يتجاوز
الاتجاه التجزيئي بخطوة
[26] ، هذا المنهج هو
الذي سنعتمده في بحثنا هذا من خلال جمع الآيات
في موضوع ما، ومن ثمّ الإحاطة قدر الإمكان
بقواعد المنهج بهدف الوصول إلى الهدف المنشود
في موضوع بحثنا، وحتى لا يلتبس الأمر على ما
نريد بحثه لا بدّ من التمييز بين التفسير ـ أو
الاتجاه الموضوعي ـ وبين ما نسمّيه المنهج، إذ
لا يقال المنهج الموضوعي، باعتبار أن المنهج
في ما يعنيه لغة واصطلاحاً هو يستبطن هذه
الموضوعية من حيث هو سبيل إلى اكتشاف رؤية، أو
تأكيد حقيقة. وفي هذا البحث، سنحاول جاهدين
التركيز على موضوع بحثنا باعتماد السبيل
الواضح لتبيان بعض اللطائف في موضوع الفوز
العظيم والخسران المبين في القرآن، وهذا
يستدعي أن يكون الباحث متوفراً على جملة
القواعد والركائز التي تساعده على سلوك هذا
المسلك للوصول إلى الغاية المرجوّة
...
كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن طريقة بحثنا،
تتطلّب منّا اعتماد المنهج المقارن، بحيث نأخذ
جانب الآيات بعضها عن بعض على النحو الذي
يسمح لنا بالتميّز بين ما تعنيه الآيات فيما
جاءت به من سياق، وبين الرؤية العامة التي
يمكن الخلوص إليها في مبحث الفوز في القرآن،
أو في مبحث الخسران في القرآن، إذ ما قد يكون
ملحوظاً في سورة، أو في آية، قد لا يكون
ملحوظاً في سورة أخرى. ومن هنا تبدو لنا ضرورة
الجمع بين الأمرين والمقارنة بينها، على
اعتبار أنّ أي نهج ينتهجه الباحث في موضوع ما
لا يمكن أن يكون منهجاً مستقلاً، أو منعزلاً
عن مناهج أخرى، تماماً كما في منهج الطبيب
الذي لا يمكنه الفصل الكامل بين المنهج
الوقائي والمنهج العلاجي للوصول إلى معالجة
المريض، وقد يضطرّ الباحث إلى أن يأخذ بعدّة
مناهج للإحاطة بموضوع بحثه. وهذا ما نبتغيه من
بحثنا هذا، أي التوفّر على أكثر من منهج في
بحثنا هذا.
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ منهجنا وإن كنّا نسلك
فيه مسلك الرؤية الموضوعية، أو ما يسمّيه
الفقهاء بالتفسير الموضوعي، إلاّ أنّنا نحتاج
مع ذلك إلى أن نستخدم أكثر من منهج في طريقنا
إلى توضيح، أو تأكيد رؤية ما في مجال بحثنا،
ولعلّ أهم المسالك والخطوات التي تحتاج إليها
في هذا المبحث، إلى جانب الرؤية الموضوعية، أن
نستقرئ ونحلّل ونقارن، هذا فضلاً عمّا يمكن أن
نحتاج إليه من مسلك تاريخي، إذ هو منهج وطريق
لا يمكن الاستغناء عنه في المباحث القرآنية،
لكونه يعتمد على النصوص والوثائق والوقائع،
بحيث يمكن للمؤرّخ الهادف من خلاله، وخاصة في
مجال القصص القرآني وما ينطوي عليه من أحداث
وسنن، استكشاف بعض الملامح، بل الحقائق التي
تعين المفسّر وكل باحث في علوم القرآن على
تحديد وجهة سيره في موضوع بحثه.
ومن هنا تتظهّر لنا حقيقة ما ذهب إليه بعض
العلماء والباحثين بقولهم: إنّ العلم لا يكون
علماً إلاّ بالمنهج الذي يستخدمه، فالعلم هو
منهج قبل أن يكون موضوعاً، ومجموعة من
المعارف، أو النظريات، وكما يقول زيدان عبد
الباقي في قواعد البحث الاجتماعي
[27] ، وإبراهيم مطاوع
[28] وغيرهم من الباحثين: « إنّنا لا
نستطيع أن نتوصل إلى المعارف العلمية بدون
استخدام منهج علمي يستطيع الباحث من خلاله جمع
ما يحتاج إليه من قواعد عامة تساعده على نيل
المطلوب، واكتشاف المرغوب
[29] .
غاية القول: إنّه إذا كان في العلوم الإنسانية
يحتاج الباحث إلى التعرّف على أسباب حدوث
الظاهرة، أو الأسباب التي تحيط بها، فإنّه من
باب أولى أن يحتاج الباحث في العلوم القرآنية
إلى الإحاطة بأكثر من منهج للتعرف إلى حقيقة
ما ترمي إليه الآيات، سواء في الاتجاه
التجزيئي، الذي يفسّر الآية بالآية، أم في
الاتجاه الموضوعي، الذي يأخذ الآيات في سياق
موضوعي واحد لاكتشاف نظرية قرآنية واستخلاص
موقف إسلامي من قضيّة، أو حالة إنسانية أو
اجتماعية، وهذا ما نروم بحثه في موضوع الفوز
العظيم والخسران المبين في القرآن، نظراً لما
ينطوي عليه الكتاب العزيز من مفردات في الفوز
والخسران كلها تصبّ في مجال الدين والدنيا
والآخرة، وهذا ما يقتضي منّا أن نتعرّف إلى
حقيقة الموقف القرآني في مجال الفوز والخسران،
باعتبار أنّ هذين المصطلحين ليسا مصطلحين
مجرّدين، وإنّما لهما تحققات نفسية واجتماعية
وحضاريّة. قد يكون ممكناً من خلال الاتجاه
الموضوعي أن نستكشف بعض ملامح هذه التحققات،
وبالله التوفيق.
[1] سورة العصر، الآيات: 1 ـ 3.
[2] سورة القصص، الآية: 79.
[3] سورة القصص، الآية: 80.
[4] سورة القصص، الآية: 81.
[5] سورة الإسراء، الآية: 19.
[6] سورة الإسراء، الآية: 18.
[7] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة،
قصار الحكم: 344.
[8] قال الإمام علي (عليه السلام) : «واعلموا
عباد الله إنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا
وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم،
ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا
الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت،
فحظوا في الدنيا بما حظي به المترفون... ثم
انقلبوا عنها بالزاد المبلِّغ، والمتجر
الرابح...»، نهج البلاغة، الخطبة: 192.
[9] سورة الأعراف، الآية: 32.
[10] سورة الصافات، الآية: 106.
[11] سورة الصافات، الآية: 60.
[12] الغزالي، أبو حامد، منهاج العابدين إلى
جنّة ربّ العالمين، دار البشائر الإسلامية،
بيروت، ط2، 1997، ص403.
[13] جمال الدين القاسم، قواعد التحديث في
فنون مصطلح الحديث، بيروت، دار الكتب العلمية،
دون تاريخ، ص18.
[14] سورة المؤمنون، الآية: 37.
[15] سورة الرعد، الآية: 31.
[16] سورة الكهف، الآية: 7.
[17] الشيرازي، مكارم، سؤال وجواب، ملخّصات من
تفسير الأمثل، دار الكتب الإسلامية، 1429هـ،
ط2، ص348.
[18] سورة القصص، الآية: 77.
[19] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة،
قصار الحكم: 387.
[20] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب،
دار المعارف، القاهرة، (لا ـ ت)، ص4554.
[21] الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب،
القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1،
1986، ص266.
[22] انظر: د. عبد الرحمن العيسوي، مناهج
البحث العلمي، دار الراتب الجامعية، 1937م،
ص73.
[23] الفضلي، عبد الهادي، أصول البحث، الجامعة
العالمية للعلوم الإسلامية، ط1، دار المؤرخ
العربي، 1992م، ص50، يقول: المنهج هو خطوات
منظمة يتخذها الباحث لمعالجة مسألة أو أكثر
ويتبعها للوصول إلى نتيجة.
[24] عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث الإسلامي،
الكويت، وكالة المطبوعات، 1977، ص4.
[25] سورة فصلت، الآية: 42.
[26] الصدر، محمد باقر، التفسير الموضوعي،
الدار العالمية، بيروت، ط1، 1989م، ص30.
[27] انظر: زيدان عبد الباقي، قواعد البحث
الاجتماعي، ط2، مطبعة السعادة، القاهرة، 1980،
ص95 ـ 96.
[28] انظر: إبراهيم عصمت مطاوع، أصول التربية،
دار المعارف، ط2، القاهرة، 1980م، ص170 ـ 177.
[29] انظر: محمد جلال شرف، ومحمد محمد قاسم،
قراءات في فلسفة العلوم، دار المعرفة
الجامعية، الإسكندرية، (لا ـ ت) ص304.
إنّ أي باحث موضوعي لا يسعهُ إلاّ أن يتوقف
عند السياقات القرآنية التي جاءت على ذكر
الفوز العظيم، حيث يتبدّى بوضوح أن الفوز
العظيم ليس مجرّد فوز في نعمة، أو في زينة، بل
هو فوز وُصف بالعظيم، لكونه ينطوي على مدلولات
ذات أهميّة عظيمة في مجالات الدين والدنيا،
ويُراد للإنسان أن يتدبّر هذا المعنى، وهذه
العظمة في صيرورة تحوّله في طريق الكدح إلى
الله تعالى، وإنّ مما يدلّ على ضرورة التأمّل
والتدبّر جيداً في مدلول هذا الوصف هو ما جاء
فيه من سياق قرآني، حيث نرى أن العظيم هو من
صفات الله تعالى، فيسبّح العبد ربّه فيقول
سبحان ربّي العظيم، وقد قال النبي الأكرم (صلى
الله عليه وآله وسلم) : «عظّموا الربّ، أي اجعلوه
في أنفسكم ذا عظمة»
[1] ، وهذه العظمة، كما بيّن
العلماء لا تكيّف ولا تحدّ ولا تمثّل بشيء،
ومع هذا فقد وصف عذاب النار، فقال الله تعالى:
﴿
عَذَابٌ
عَظِيمٌ ﴾
، ووصف كيد النساء، فقال سبحانه: ﴿
إِنَّ
كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ ﴾ ورجل عظيم، وفوز عظيم، ثم
استعير، كما يقول الراغب لكل كبير
[2] ، فأجري مجراه محسوساً كان أو
معقولاً، عيناً كان أو معنىً. وهكذا، فإنّ ما
يدعونا القرآن إلى التدبّر فيه، هو ما خصّ به
الفوز العظيم من معنى ومفهوم لتبيان معنى
العظمة فيما ينطوي عليه هذا الفوز لجهة
دلالاته ومتعلقاته في حياة الإنسان، وذلك من
منطلق أن الفوز إنّما يكون فوزاً عظيماً فيما
لو استوفى الإنسان كامل تحققاته في الدين
والدنيا والآخرة.
ومن هنا، نرى أن سياق الآيات لا يأتي على
الفوز العظيم إلاّ من خلال مقدمات ومفردات
تعبّر عن الحق والعدل والطاعة لله تعالى
ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما
سنتوقّف عنده مليّاً في مطاوي هذا البحث،
لإظهار حقيقة هذا الفوز والتدليل عليه بما
يُفيده السياق، على اعتبار أنه لم يأتِ هذا
الوصف في الآيات ليدلّل على معنى دنيوي، أو
مادي، بل لحظ الحق والولاية والطاعة والتواصي
بالحق والصبر، هذا فضلاً عمّا أتت الآيات
المباركة على ذكره في إطار التدليل على الفوز
العظيم في الآخرة، كما في قوله تعالى: ﴿
لِّيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ
فَوْزاً عَظِيماً
﴾
[3] .
نعم، هناك حالات كثيرة نسب الإنسان فيها إلى
نفسه الفوز العظيم، في مقابل ما خصّ الله به
أهل الإيمان من فوز عظيم، ولكن معيار النسبة
هنا يختلف باختلاف ما يكون عليه حال الإنسان
من دين ودنيا، كما في قوله تعالى فيما نسبه
الإنسان المنافق لنفسه، حيث قال الله تعالى: ﴿
وَلَئِنْ
أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ
لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ
مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
﴾
[4] .
فالإنسان في هذه الآية يرى الفوز العظيم فيما
يكتسبه من مال ومتاع في الدنيا، في حين أنّ
الفوز العظيم فيما أراده الله تعالى لا يكون
إلاّ في تجلّي الحقّ والولاية والطاعة لله
ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا
والخلود في الجنة لأهل الإيمان في الآخرة. هذا
فضلاً عمّا سنعرض له في مباحث أخرى لجهة
الإشارة إلى الفوز العظيم من خلال سياق الآيات
التي تؤكد على أن الفوز العظيم إنّما يكون في
حقيقة الالتزام بما أمر الله به ونهى عنه،
وليس فيما يظنه الإنسان لنفسه من غرور
واستعلاء ومتاع دنيوي، وقد بينّا في تمهيد هذا
البحث أن الإنسان هو في خسارة دائمة إلاّ أن
يكون على تواصٍ بالحق وبالصبر بكل ما يعنيه
هذا الحق والصبر من مدلولات دينية وولائية،
كما هو مفاد ومضمون سورة العصر التي تؤكّد على
ديمومة الخسران لأولئك الذين لم يؤمنوا ولم
يعملوا الصالحات حتى ولا كان لهم من الفوز
الدنيوي ما تنوء به أولو العصبة، كما جاء في
التعبير عن حال قارون. إن الإنسان قد يكون على
كثير من النعم والابتلاءات، سواء في نفسه، أم
في ماله، إلاّ أنّ مقياس الفوز العظيم يبقى
فيما يريده الله تعالى للإنسان، وهذا ما التبس
الأمر فيه على الطغاة والعصاة والمترفين في
تاريخ البشرية، إذ كانوا دائماً يواجهون
النبوّة من موقع ترفهم وعصيانهم واعتقادهم
الباطل أنهم على زينة الدين والدنيا، ولكنهم
في حقيقة الأمر كانوا على خسران مبين فيما
زعموه لأنفسهم، فخسروا الدنيا والآخرة، وحقّ
عليهم القول بأنهم قوم مجرمين.
إنّ محاولتنا في هذا المبحث تقتصر على ملاحظة
الفوز العظيم في سياق الرؤية القرآنية، وما
تزخر به تجارب الإنسان، على أن نعضد ذلك
بالإشارة إلى حقيقة المدلول القرآني فيما يرشد
إليه من معاني الفوز العظيم، الذي خصّ به
الأنبياء والأولياء والصادقين من عباد الله
تعالى. كما سنرى في بحوث هذا الكتاب إن شاء
الله تعالى.
قال ابن منظور: «الفوز: النجاءُ والظفر
بالأمنية والخير، فاز به فوزاً ومفازاً
ومفازة، وقوله عزّ وجلّ: ﴿
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً ﴾،
إنّما أراد موجبات
مفاوز، ولا يجوز أن يكون المفاز هنا اسم
الموضع، لأنّ الحدائق والأعناب لسنّ مواضع،
اللَّيثُ: الفوز الظفر بالخير والنجاة من
الشَّرّ، يقال: فاز بالخير، وفاز من العذاب،
وأفازه الله بكذا ففاز به، أي ذهب به، وفي
التنزيل العزيز: «فَلَا
تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ
الْعَذَابِ».قال الفراء: معناه بعيد من العذاب،
وقال أبو إسحاق بمنجاة من العذاب... وأصل
المفازة مهلكة، فتفاءلوا بالسلامة والفوز،
ويقال: فاز إذا لقي ما يُغبط، وتأويله التباعد
من المكروه...»
[5]
.
وعن الإمام علي (عليه السلام) فيما وصف
به البيت الحرام، والكعبة المقدّسة، حيث قال
(عليه السلام) : «ألا ترون أن الله تعالى
اختبر الأولين من لدن آدم (عليه السلام)
إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا
تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام
الذي جعله للناس قياماً به، ثم أمر آدم وولده
أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع
أسفارهم... تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز
قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة...»
[6] ،
والمفاوز في كلام الإمام إنما تعني الفلاة
التي لا ماء فيها، ما يدلّل على أن أصل
المفازة مهلكة، وقد ذكر القرطبي أن مفازاً هي
موضوع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار،
ولذلك قيل للفلاة إذا قلّ ماؤها مفازة،
تفاؤلاً بالخلاص منها...
[7] .
إذن، الفوز بحسب أهل اللغة، هو الظفر بالخير
والنجاة من الشر، وقد أضاف الراغب الأصفهاني
إلى معنى الفوز، بأنه الظفر بالخير مع حصول
السلامة، كما قال الله تعالى: ﴿
ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿
فَازَ
فَوْزاً
عَظِيماً ﴾، وقوله تعالى: ﴿
ذَلِكَ
هُوَ
الْفَوْزُ
الْمُبِينُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿
وَأُوْلَئِكَ
هُمُ
الْفَائِزُونَ ﴾، وقال بعضهم: سمّيت مفازة
من قولهم فَوَز الرجل إذا هلك، فإن يكن فوز
بمعنى هلك صحيحاً، فذلك راجع إلى الفوز
تصوّراً لمن مات بأنه نجا من حبالة الدنيا،
فالموت وإن كان من وجه هُلكاً، فمن وجه فوز،
ولذلك قيل ما أحد إلاّ والموت خيرٌ له. هذا
إذا اعتبر بحال الدنيا، فأما إذا اعتبر بحال
الآخرة فيما يصل إليه من النعيم فهو الفوز
الكبير، كما قال الله تعالى: ﴿
فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
﴾
[8] ، وقوله
تعالى: ﴿
فَلَا تَحْسَبَنَّهُم
بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ
﴾
[9] ، فهي مصدر فاز والاسم
الفوز، أي لا تحسبنّهم يفوزون ويتخلّصون من
العذاب ..
[10] .
وجاء في مجمع البحرين في معنى الفوز، بأنه
نجاة وظفر بالخير، كما أفاد الراغب، ولكنه
أضاف شيئاً جديداً في فهم قوله تعالى: ﴿
وَيُنَجِّي
اللَّهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ
﴾
[11] ، أي بسبب منجاتهم وهو العمل
الصالح، والمفازة المنجاة، وهي مفعلة من
الفوز؛ يقال فاز فلان: «إذا نجا...»
[12] .
كما جاء أيضاً في تحقيق كلمات القرآن في معنى
قوله تعالى: ﴿
إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ
مَفَازاً
﴾، إن المتقي هو مَن يتقي نفسه من
سوء الأعمال وعن رذائل الأخلاق، وعن الآراء
والأفكار الفاسدة، فيتحصّل له قهراً حالة صفاء
وطهارة ونزاهة.. فيناسبها قوله تعالى في مقام
الجزاء مفازاً حدائق وأعناباً، ويُراد بها
الوصول إلى الخير والنعمة، ومن مصاديقه: دخول
الجنة والحدائق وإطاعة الله تعالى وإطاعة
الرسول ورضوان الله تعالى
[13] .
نلاحظ مما أجمع عليه أهل اللغة والتحقيق، أن
الفوز ليس مجرّد حصول السلامة في أمر دنيوي،
وإنّما هو حالة تقوى يُناسبها أن يكون الإنسان
معها فائزاً في الدنيا والآخرة، إلاّ أن الفرق
يبقى شاسعاً وكبيراً بين أن تكون نتيجة التقوى
الزحزحة عن النار والفوز بالجنة، وبين أن يكون
الفوز كبيراً وعظيماً ومبيناً، بحيث يكون من
مصاديقه دخول الجنة والرضوان الإلهي، وهذا ما
سنتعرّف إلى منازله في بحوث هذا الكتاب لتبيان
حقيقة هذا الفوز ومعناه، على اعتبار أن الآيات
القرآنية قد لحظت هذا المعنى فيما أرشدت إليه
من رضوان أكبر، ومن تفضّل إلهي، كما قال الله
تعالى: ﴿ لَا
يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[14] .
لقد أجمع أهل اللغة على أن الفوز هو النجاة
وحصول السلامة في الدين والدنيا، ليكون جزاؤه
الجنة، وهو بحسب ما يكون عليه من إيمان وتقوى،
تكون له مصاديقه ودرجاته في الجنة، كما قال
الله تعالى: ﴿
الَّذِينَ
آمَنُواْ
وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ
أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
[15]
.
إذا كان معنى الفوز في اللغة هو النجاة والظفر
بالخير وحصول السلامة، ودفع كل مكروه، فإنّ
الفوز فيما يعنيه كمصطلح لا يختلف كثيراً عمّا
عرضنا له في مبحث اللغة، كونه يستبطن، كمفردة
قرآنية، معنى السلامة في الدين والدنيا، إضافة
إلى ما يعنيه من مفازة من خلال التقوى والعمل
الصالح، كما قال الله تعالى: ﴿
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ
بِمَفَازَتِهِمْ
﴾
[16] ، والتقوى
هنا تفيد تحقق الطاعة لله تعالى ورسوله فيما
أمر به ونهى عنه، بحيث يكون الإنسان حيث أمره
الله تعالى، ويفقده حيث نهاه، وهذا هو جوهر ما
يعنيه الفوز في الاصطلاح الشرعي، وذلك من
منطلق أن القرآن لا يتحدّث عن الفوز فيما
يعنيه من مكاسب ماديّة في حياة الإنسان، وقد
سبق منّا القول فيما يعنيه الفوز من إصابة فضل
دنيوي عبر عنه الإنسان بالفوز العظيم، كما قال
الله تعالى: ﴿
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ
فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن
لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ
يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ
فَوْزاً عَظِيماً ﴾
[17] .
إنّ معنى الفوز العظيم لم يأتِ في القرآن في
سياق الحديث عن نعمة أو سلامة دنيوية كيفما
اتفق، وإنّما جاء في سياق رؤية إيمانية، عبّر
عنها القرآن من خلال الطاعة لله ورسوله،
وبمقدار ما يكون الإنسان مجسّداً لهذه الطاعة
في حياته، بمقدار ما يكون فائزاً، كما قال
الله تعالى: ﴿
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
[18] .
إذن، الفوز في الاصطلاح ليس مجرّد فوز يظنّه
الإنسان فوزاً، وإنّما هو في حقيقته أمر ونهي
من الله تعالى، والتزام من الإنسان به، بحيث
يكون مؤمناً وعاملاً للصالحات، وقائلاً قولاً
سديداً، كما قال الله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ
قَوْلاً سَدِيداً ﴾
[19] ، هذا
الكلام الإلهي، ناظر إلى حقيقة ما ينبغي أن
يكون عليه الإنسان من التزام في القول والفعل،
وليس مجرّد القول وحسب، بل القول العدل، كما
جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) في
قوله لعبّاد بن كثير البصري، قال: «ويحك
يا
عبّاد غرّك أن عفّ بطنك وفرجك، إنّ الله عزّ
وجلّ يقول في كتابه: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ
قَوْلاً سَدِيداً ﴾، اعلم أنه لا
يتقبَّل الله ـ عزّ وجلّ ـ منك شيئاً حتى تقول
قولاً عدلاً»
[20]
، وهذا ما فسّره أمير المؤمنين (عليه السلام)
بقوله: «مَن يطع الله ورسوله فقد اهتدى وفاز
فوزاً عظيماً، ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلَّ
ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً... أوصيكم
عباد الله بتقوى الله وكثرة ذكر الموت والزهد
في الدنيا...»
[21]
.
نعم، قد يكون للإنسان فوز من خارج ما أمر الله
به ونهى عنه، بأن يكون عاصياً لله تعالى
وطالباً للكفاية من غيره، بحيث يكون مكذباً
لقوله تعالى: ﴿
أَلَيْسَ
اللَّهُ
بِكَافٍ
عَبْدَهُ ﴾
[22] ، إلاّ أن ذلك لا يكون
فوزاً حقيقياً، وكثيرون هم الذين توهّموا مثل
هذا الفوز، وخسروا الدنيا والآخرة، كأولئك
الذين اتخذ الشيطان منهم نصيباً مفروضاً،
واتبعوا سبيل غير المؤمنين، ولكنهم ما لبثوا
أن فارقوا الدنيا على خسران مبين!
إنّ الفوز الحقيقي، فيما يتبدّى لنا من ضمّ
آيات الفوز بعضها إلى بعض، هو أن يكون
الإنسان قائماً بأمر الله تعالى، ومستنداً إلى
أصول الإيمان وصالح الأعمال، باعتبار أن كل ما
ذكره القرآن عن الفوز بكل أنواعه وأوصافه هو
آت في سياق التأكيد على الطاعة لله ورسوله،
وعلى الصدق في القول والعمل وفاقاً لما أمر
الله
تعالى به ونهى عنه، وهذا هو ما تعنيه حقيقة
التوكل على الله تعالى والكفاية به والقيام
بحقه، والصبر على طاعته، ومعرفة حدوده
[23] .
غاية القول: إنّ الفوز، فيما اصطلح عليه من
معنى، ليس شيئاً غير ما عرّفه به أهل اللغة من
ظفر بالخير وحصول السلامة في الدين والدنيا،
بحيث يكون الإنسان على خوف ورجاء وتقوى فيما
يأتيه من أعمال، ويؤدّيه من طاعات، لأنّ
التقوى، كما يقول الحرّاني في تحف العقول، بها
فاز مَن فاز من المتقين، وبها أوصى الله
سبحانه الأولين والآخرين، كما قال الله تعالى:
﴿
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ
وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ ﴾
[24] ، وأثنى عليها، كما
قال الله تعالى: ﴿
إِن تَصْبِرُواْ
وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ
هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ
آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
﴾
[25]
، وهي توجب حفظ النفس، والمال من الأعداء، كما
قال الله تعالى: ﴿
وَإِن تَصْبِرُواْ
وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ
شَيْئاً ﴾
[26] ، وتوجب
النصر من الله تعالى كما قال الله تعالى: ﴿
أَنَّ
اللَّهَ
مَعَ
الْمُتَّقِينَ ﴾
[27] ، وتوجب محبته، كما
قال الله تعالى: ﴿
فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
[28] ، وتوجب إكرامه كما
قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
[29] ، وتوجب إصلاح
العمل، كما قال الله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ
قَوْلاً سَدِيداً ﴾
[30] ، وتوجب
قبول العبادة، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ ﴾
[31] ، وتوجب البشارة
عند الموت، كما قال الله تعالى: ﴿
الَّذِينَ آمَنُواْ
وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
﴾
[32] ،
وتوجب النجاة من النار، كما قال الله تعالى: ﴿
ثُمَّ
نُنَجِّي
الَّذِينَ
اتَّقَواْ ﴾
[33] ، وتوجب الخلود في
الجنّة، كما قال الله تعالى: ﴿
أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[34] ، وبالجملة هي حكمة
عملية مركّبة من العلم والعمل توجب محبّة
صاحبها لله تعالى ومحبّة الله تعالى
لصاحبها...»
[35] .
فإذا كان معنى الفوز هو الظفر بالخير مع حصول
السلامة، والنجاة من كل هلكة، كما بيّن أهل
اللغة، فهذه آيات القرآن توضّح لنا معنى أن
يتّقي الإنسان ربّه ليكون فائزاً في الدنيا
والآخرة، لأن ما لخّصه ابن شعبة الحرّاني أتى
على كل تفاصيل الخير والسلامة من خلال التقوى،
وهذا هو أيضاً ما اصطلح عليه عند الفقهاء
والمفسرين في معنى الفوز، فيما ذهبوا إليه من
معانٍ كلها تفيد أن ملاك هذا الأمر وجوهره هو
الطاعة لله ورسوله وخشية الله دون غيره، كما
قال الله تعالى: ﴿
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
[36] .
يقول الإمام علي (عليه السلام) : «إنّ القرآن
فيه تبيان لكل شيء، وأنه يُصدّق بعضه بعضاً،
وأنه لا اختلاف فيه، وإنّ القرآن ظاهره أنيق
وباطنه عميق، ولا تكشف الظلمات إلاّ به»
[37] ، وعن الإمام أبي جعفر (عليه
السلام) : «إنّ القرآن يجري في حياة البشر
مجرى الشمس والقمر»
[38] . وبما أن القرآن
كتاب ﴿ لَّا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾، و﴿
يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ ﴾، فإنّ مفهوم
الفوز في القرآن فيما ينطوي عليه من معانٍ
ودلالات، هو مما يمكن تلمّس كامل دلالاته من
القرآن الكريم من خلال ضمّ الآيات بعضها
إلى بعض، لأنّ القرآن تبيان لكل شيء، فكيف لا
يكون تبياناً لنفسه كما قال العلاّمة
الطباطبائي
[39] .
وعليه، فإنّه يمكن للباحث عن مفهوم الفوز أن
يتدبّر في سياق الآيات القرآنية للوقوف على
كامل المعنى للفوز، باعتبار أنّ دلالة القرآن
تمتاز بالدقّة والإحاطة والشمول
...
كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ علماء الأصول
قد توقفوا مليّاً عند ما أسموه بمنطوق القرآن
ومفهومه، تماماً كما توقفوا عند عامّه وخاصّه،
ومطلقه ومقيّده، ومجمله ومفصّله، وقد تباينت
مناهج العلماء في دراسة علوم القرآن، إلاّ أن
الذي يعنينا من هذا المبحث هو مفهوم الفوز
العظيم ودلالته في القرآن الكريم، على النحو
الذي يؤدّي بنا إلى استكشاف منطويات ومكامن
هذا المصطلح القرآني الذي أحيط بعناية خاصّة
في آيات الله تعالى، لجهة التركيز عليه في
خاتمة كل آية، كما في قوله تعالى: ﴿
وَذَلِكَ
الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ ﴾، و ﴿
وَذَلِكَ
الْفَوْزُ
الْمُبِينُ ﴾، و ﴿
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾، إلى غير ذلك من
الآيات التي تظهّر الفوز على أنّه ذو دلالة
متميّزة في سياق منطوق القرآن ومفهومه. وكما
قلنا: إنّ الذي يثير اهتمامنا في إطار هذا
المبحث، هو ما توقف علماء الأصول عنده في
تعريف كل من المنطوق والمفهوم، فقالوا: إنّ
أول ما ينبغي معرفته هو منطوق القرآن ومفهومه،
لأنّهما يُفصّلان أنواع الدلالة القرآنية
المستفادة من اللفظ والمستنبطة من المعنى،
فيشملان النص والظاهر والمؤول، وفحوى الخطاب
ولحنه، ومعاني الوصف والشرط والحصر، وقد عرفوا
المنطوق، كما في أصول الفقه للعلاّمة مغنيّة،
أنه ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم
ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق»
[40] ، وهذا ما ذهب إليه السيوطي في
الإتقان، مبيّناً في تعريف المفهوم أن المعنى
الذهني هو المنفذ الوحيد إلى دلالته، ويسمّى
مفهوم موافقة إذا وافق المنطوق في حكمه،
ومفهوم مخالفة إذا لم يوافقه
[41] ، وقد شرح العلامة مغنية هذا
القول ممثلاً عليه بدلالة اللفظ في معنى
الحقيقة، مثل قوله تعالى: ﴿
وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾، وفي معنى المجاز،
كما في قوله تعالى: ﴿
أَوْ لَامَسْتُمُ
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً
فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ﴾، حيث دلّ
الكلام بمنطوقه في الآية الأولى على جواز
البيع وتحريم الربا بنحو الحقيقة، وفي الثانية
على وجوب التيمم عند عدم الماء ووجود الجنابة
المعبّر عنها باللمس مجازاً... يقول العلامة
مغنية: «وفي جميع الحالات، فإنّ المقصود الأول
في البحث هو المفهوم انطلاقاً من المنطوق، ومن
هنا دعت الحاجة للإشارة إلى المنطوق»
[42] .
إذن، المفهوم له الأثر الكبير في تفصيل
الدلالة القرآنية المستفادة من اللفظ
والمستنبطة من المعنى، باعتبار أنّه ما دلّ
عليه اللفظ في غير محل النطق، وهذا اللفظ إمّا
أن يكون له مفهوم موافقة، وإمّا أن يكون له
مفهوم مخالفة، يقول صبحي الصالح في مباحث
القرآن: «إنّ لكل من هذين المفهومين فروع
تتعلق به، فمفهوم الموافقة إذا دلَّ على
المعنى الأولي بالأخذ والاعتبار سمّي «فحوى
الخطاب»، كدلالة ﴿
فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ
﴾، على تحريم ضرب
الوالدين، لأنه أولى بالتحريم ...
وإذا دلَّ على المعنى المساوي سمّي «لحن
الخطاب» كدلالة: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً
إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾،
على تحريم إحراق أموال اليتامى، لأنّ الإتلاف
هو المقصود بالتحريم، سواء أحصل بالأكل أم
بالإحراق، فكل منهما مساوٍ للآخر...»
[43] ،
وهذا ما أرشد إليه العلامة مغنيّة في الأصول
بقوله: «قد يطلق على المفهوم الموافق لحن
الخطاب وفحوى الخطاب، لأن الحكم الثابت
للمنطوق، يثبت للمفهوم في نفس الخطاب وروحه
ومعناه، والمفهوم الموافق حجّة عند الجميع
إلاّ مَن شذّ من أهل الظاهر...»
[44]
.
لذا، فإنّ ما نراه في مفهوم الفوز، سواء في
المنطوق، أم في المفهوم، هو الدلالة الحقيقية
له في الآيات من حيث كونه ينطوي على معنى
الظفر والسلامة والفوز بالرضا والرضوان، وإذا
كان بعضهم يرى اشتمال هذا المعنى في ما هو نصّ
أو ظاهر، فما معنى أن نؤوّل النصوص باتجاهات
شتّى ليفهم الفوز منها على أنّه خاص بهذا
الشخص أو ذاك من أفراد الأمة الإسلامية. كما
في قوله تعالى:
﴿
وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
﴾
[45] . وهكذا، فإنّ المفهوم من الآية هو ما
ابتدأت به من سبق يحتّم أن تكون من للتبعيض
وليس للبيان. فلماذا الاختلاف إذاً حول ظاهر
الآية وهي تخبر عمّن فاز بسبقه إلى الإسلام
ظاهراً وباطناً؟؟ وهنا يطرح السؤال الآتي، هل
يُفهم من الآية المباركة، منطوقٌ ومفهومٌ،
بأنها تميّز بين أفراد الأمّة، أو أنها ترمز
إلى أشخاص معيّنين بأشخاصهم، كما أفاد الحافظ
الحسكاني في شواهد التنزيل
[46] ؟؟
إنّنا بحاجة ـ لفهم هذه الآية ـ إلى الإحاطة
بسبب النزول أولاً، ومن ثمّ إلى تأويل الآية
المباركة لمعرفة ما إذا كانت (من) في الآية
للتبعيض أم للبيان، إضافة إلى العلم بما تواتر
عليه أهل القرآن في تفسيرها، باعتبار أن الآية
ليست بحاجة إلى تأويل، طالما أن المفهوم منها
هم أهل الهجرة الذين سبقوا. وبما أن هناك
مهاجراً سابقاً ومهاجراً لاحقاً، فلا بدّ أن يكون
مفهوم الآية لاحظاً لبعضهم وليس للكل، ويكون
الفوز العظيم في الآية لاحظاً لهذا التمييز،
وإن كان سياق الآية يُفيد أن الفوز هو
للمهاجرين والأنصار ولمن تبعهم بإحسان، الذي
هو شرط الفوز العظيم كما هو مفهوم الآية فحوى
ولحناً، فإذا لم يكن الاتباع بإحسان لأولئك
الذين سبقوا من أهل الرسالة واستحقوا الرضا
فلن يتحقّق الفوز العظيم، وعلى هذه القاعدة
يمكن التأسيس لفهم الكثير من الآيات القرآنية
الظاهرة الدلالة على أن الفوز لا يكون فوزاً
كما اتفق، وإنّما لا بدّ من اعتباره في سياقه،
سواء أكان الكلام نصاً، أم ظاهراً، أم مؤولاً.
وكما بينّا أن الآية ليست بحاجة إلى تأويل
كيما يستفاد منها لفظاً ومعنى حقيقة الدلالة
القرآنية التي هدفت الآية إلى إظهارها والكشف
عنها. وعموماً يمكن القول: إنّ مفهوم الفوز
ودلالته في القرآن ليس خاصاً وإن كانت له
تمايزاته في سياق الآيات المباركة، كما سنرى
لاحقاً في فصول هذا الباب، باعتبار أنّ الفوز
العظيم في القرآن له تحققاته ومتعلقاته على
نحو ما بيّنا في اللغة والاصطلاح، ويكفي في
هذا المفهوم أن نعي أنه لا بدّ من التوفر على
صفات وخصائص وأعمال لكي يكون الإنسان مستحقاً
للفوز العظيم. ويمكن للباحث أن يتدبّر سياق
هذا الفوز في القرآن ليرى أنه يأتي في سياقات
متعددة يؤكّد القرآن من خلالها على حقيقة
الطاعة لله ورسوله وأُولي الأمر الذين حقّ
فيهم الرضا والسبق علماً وتقوى، إضافة إلى
الجهاد في سبيل الله تعالى، واتقاء السيئات
وعمل الصالحات، إلى غير ذلك مما جمعه الغزالي
واعتبره أصلاً أصيلاً في العبادة والفوز،
فقال: «إنّ العبادة شطران: شطر الاكتساب، وشطر
الاجتناب، فالاكتساب فعل الطاعات، والاجتناب:
الامتناع عن المعاصي والسيئات وهو التقوى؛ وأن
شطر الاجتناب على كل حال أسلم وأصلح وأفضل
وأشرف للعبد من شطر الاكتساب...»
[47] .
هناك آيات كثيرة في القرآن تحدّثت عن الفوز
العظيم، أو المبين، أو الكبير، ولكنها في
الدلالة، ومن خلال وحدة السياق، نرى أنها
تبيّن ضرورة أن يكون الإنسان على إيمان وعمل
صالح، وعلى تقوى فيما يأتيه من أعمال، ويؤدّيه
من طاعات، لأنّ الفوز العظيم سبيله أن يعبر
الإنسان هذه الدنيا كما أمره الله تعالى، حتى
تكون له الحياة، كما قال الله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ... ﴾
[48] ،
ولا شكّ في أنّ مقتضى هذه الحياة فيما لو
توفّر عليها الإنسان أن يكون له الفوز العظيم
فضلاً منَ الله تعالى ونعمة، وهذا ما سيكون
موضع بحث وتدبّر في الفصول الآتية إن شاء الله
تعالى.
[1] انظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان
العرب، دار المعارف، دون تاريخ، ج4، ص3004.
[2] الراغب الأصفهاني، معجم ألفاظ القرآن، دار
الفكر، بيروت، (لا ـ ت)، ص351.
[3] سورة الفتح، الآية: 5.
[4] سورة النساء، الآية: 73.
[5] ابن منظور، لسان العرب، م. س، ص3484، وقا:
مع البيضاوي، عبد الله بن محمد الشيرازي
الشافعي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (ت 682
هـ)، دار إحياء التراث، بيروت 1998، ص2810.
[6] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة،
الخطبة 192.
[7] را: القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام
القرآن، (ت 671هـ)، تحقيق أبو إسحاق إبراهيم،
1985م، دار إحياء التراث، بيروت ج6، ص379.
[8] سورة آل عمران، الآية: 185.
[9] سورة آل عمران، الآية: 188.
[10] الراغب الأصفهاني، معجم ألفاظ مفردات
القرآن الكريم، م. س، ص401.
[11] سورة الزمر، الآية: 61.
[12] الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، وفاة
(1085)، الناشر المرتضوي، طهران، 1417هـ، ط3،
ج4، ص30.
[13] المصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن،
وفاة (1426هـ)، طهران، ط1، 1410هـ، وزارة
الثقافة والإرشاد الإسلامي، ج8، ص232.
[14] سورة الدخان، الآيتان: 56 ـ 57.
[15] سورة التوبة، الآية: 20.
[16] سورة الزمر، الآية: 61.
[17] سورة النساء، الآية: 73.
[18] سورة الأحزاب، الآية: 71.
[19] سورة الأحزاب، الآية: 70.
[20] انظر الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي،
دار الحديث، قم، ط1، 1429هـ، ج5، ص262.
[21] انظر: ابن بابويه، محمد بن علي، من لا
يحضره الفقيه، وفاته (381)، مؤسسة النشر
الإسلامي، قم، 1413هـ، ط2، ج1، ص518.
[22] سورة الزمر، الآية: 36.
[23] قال الله تعالى: ﴿
تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[النساء: 13] .
[24] سورة النساء، الآية: 131.
[25] سورة آل عمران، الآية: 125.
[26] سورة آل عمران، الآية: 120.
[27] سورة البقرة، الآية: 194.
[28] سورة آل عمران، الآية: 76.
[29] سورة الحجرات، الآية: 13.
[30] سورة الأحزاب، الآية: 70.
[31] سورة المائدة، الآية: 27.
[32] سورة يونس، الآيتان: 63 ـ 64.
[33] سورة مريم، الآية: 72.
[34] سورة آل عمران، الآية: 133.
[35] انظر: ابن شعبة، الحرّاني، الحسن بن علي،
تحف العقول عن آل الرسول، القرن الرابع،
الناشر جماعة المدرسين، قم، 1404هـ، ط2، ص232.
[36] سورة النور، الآية: 52.
[37] الإمام علي (عليه السلام) ، المعجم
المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، كاظم محمدي،
ومحمود دشتي، دار الأضواء، بيروت، 1986م،
الخطبة 18.
[38] را: البحراني، هاشم، البرهان في تفسير
القرآن، دار الهادي، بيروت، ط4، 1992، ج1،
ص20.
[39] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان،
مؤسسة الأعلمي، بيوت، ط1، 1991، ج1، ص14.
[40] مغنية، محمد جواد، علم أصول الفقه، دار
التيّار الجديد، بيروت، ط3، 1988، ص142.
[41] السيوطي، الحافظ جلال الدين، الإتقان في
علوم القرآن، القاهرة، ط3، 1941م، ج2، ص53.
[42] مغنية، محمد جواد، علم أصول الفقه، م. س،
ص142 ـ 143.
[43] الصالح، صبحي، مباحث في علوم القرآن، دار
العلم للملايين، بيروت، ط22، 1999، ص301.
[44] مغنية، محمد جواد، علم أصول الفقه، م. س،
ص142.
[45] سورة التوبة، الآية: 100.
[46] الحاكم الحسكاني، عبد الله بن عبد الله،
شواهد التنزيل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2، ج1،
ص254، يقول الحسكاني في نزول هذه الآية:
«إنّها نزلت في ستة من قريش أوّلهم إسلاماً
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ويروي
عن الضحاك أن السابقين هم علي (عليه السلام)
وحمزة وعمّار وأبو ذرّ وسلمان والمقداد».
[47] يقول الغزالي: «لقد اشتغل المبتدئون من
أهل العبادة، الذين هم أول درجة الاجتهاد بشطر
الاكتساب، وكان كل همّهم أن يصوموا نهارهم
ويقوموا ليلهم ونحو ذلك دون أن يراعوا جانب
الاجتناب، فإذا حصل لك الشطران جميعاً،
الاكتساب والاجتناب، فقد استكمل أمرك وحصل
مرادك وقد سلمت وغنمت، فإذا لم تبلغ إلاّ إلى
أحدهما، فليكن ذلك جانب الاجتناب، فتسلم إن لم
تغنم، وإلاّ خسرت الشطرين معاً. وما ينفعك
قيام ليل وتعبه، ثم تُحبطهُ بإرادة واحدة؟ وما
يُغنيك صيام نهار طويل وتفسده بكلمة واحدة؟».
انظر: الغزالي، أبو حامد، توفي 505هـ
، منهاج
العابدين، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط2،
1997م، الكتاب 224.
[48] سورة الأنفال، الآية: 24.