الوقف والابتداء في القرآن الكريم

دراسة وتطبيقاً

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الطبعة الأولى، رجب 1432 هـ . ق./2011 م

القسم الأول: " الدراسة "

فهرس الكتاب

القسم الثاني: " التطبيق "

 عنوان الكتاب

 تقريظ الكتاب

 مقدمة الكتاب

 مقدمة المؤلف

 القسم الأول «الدراسة»
 الفصل الأول: التعاريف
 الفصل الثاني: موضوع علم الوقف والابتداء وأهميته
 الفصل الثالث: تصانيف وتآليف المسلمين لعلم الوقف والابتداء
 الفصل الرابع: حاجة هذا الفن إلى مختلف العلوم

 الفصل الخامس: " أقسام الوقف العامة: تعريفها وأحكامها عند القراء "

 الفصل السادس: أقسام الوقف الاختياري
 الفصل السابع: الوقف التام
 الفصل الثامن: الوقف الكافي
 الفصل التاسع: الوقف الحسن
 الفصل العاشر: الوقف القبيح
 الفصل الحادي عشر: مذاهب العلماء في الوقف على رؤوس الآي
 الفصل الثاني عشر: الابتداء في اصطلاح القراء وأقسامه
 الفصل الثالث عشر: مسائل هامة تتعلق بالوقوف

 

 

 



الوقف والابتداء في القرآن الكريم

دراسة وتطبيقاً

المؤلف: عبد الرسول عبائي

 

 



مشيخة المقارىء المصرية

الأستاذ الدكتور أحمد عيسى المعصراوي

شيخ عموم المقارىء المصرية
 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، وأئمة القرآن الأشراف الذين نقلوا لنا القرآن غضّاً طرياً كما أنزل مصداقاً لقوله تعالى:﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ﴾ أي جوّده تجويدا. ولقد سئل الإمام علي (كرّم الله وجهه) عن الترتيل فقال: «الترتيل: هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف» فقوله هذا دليل على وجوب تعلم الوقوف ومعرفتها ولذلك اهتم الصحابة (رضوان الله عليهم) بمعرفة الوقوف، وكان هذا التوجيه من النبي (ص) لهم كاهتمامهم بمعرفة معاني القرآن، والوقف على حلاله وحرامه، كما اهتم به سلفنا الصالح أيّما اهتمام، ولذلك يقول الإمام محمد بن الجزري: إنه - أي الوقوف - قد تواتر عندنا تعلّمه والاعتناء به من السلف. وكما اهتم السلف الصالح بتعلّم الوقوف والاعتناء بها، فدرّسوها وعلّموها ودوّنوها كَفَنّ يُعرف به الفرق بين المعنيَيْن المختلفَيْن، والمتناقضَيْن المتنافيَيْن، والحُكمَيْن المتغايرَيْن، حتى قالوا « من لم يعرف الوقف لم يعرف القرآن » فقد نهج نهجهم الشيخ عبد الرسول عبائي، وذلك لجمعه لما آثر من أقوال العلماء القدامى والمحدثين في هذا الباب، فقام بدراستها دراسة علمية دقيقة، وذلك بربطه لعلم الوقف بمختلف العلوم، وبيان الحاجة الماسة إليه، وتعقيبه لكل ما يذكره بتطبيقات، وضّح بها المبهم، وأزال فيها المشكل، وقرّب بها البعيد، كل ذلك في أسلوب مسلسل، وهو وإن استطرد ففي غير ملل، وإن أوجز ففي غير خلل، ممّا ينمّ عن عمق فكره وبُعد وحسن تصرّفه، والكتاب بهذه الصورة يُعد من أنفع الكتب التي أُلّفت في هذا الباب. حيث لا يستغني عنه طالب العلم عامة والمتخصص في فنّ القراءات خاصّة.

والله أسأل أن ينفع به كل من قرأ، واطلع عليه، وأن يجعله في ميزان حسنات مؤلِفِهِ إنه سميع مجيب.

كتبه: أحمد المعصراوي

 



 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على خيرِ خلقهِ وسيّد رُسله محمد بن عبد الله (ص) وعلى آله الأخيار، المصطفين الأبرار.

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ﴾ المزّمّل/الآية 4

فسَّر نبينا الأكرم (ص) هذه الآية الكريمة المكوّنة من ثلاث كلمات تفسيراً جامعاً مانعاً واضحاً لا يقبل التأويل والتحليل، ولا يشتبه فيه اثنان، ولا يختلف عليه الثَّقلان، فيقول:

« بيّنه تبياناً، ولا تنثره نثر البقل، ولا تهذّه هذَّ الشعر، وقفوا عند عجائبهِ، حَرّكوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدِكم آخِرَ السورة ». (1)

فتبيانه، وعدم نثره كالبقل، ولا هذّه كالشعر، والوقوف عند عجائبه وتحريك القلوب به، ولا يكن همّنا الانتهاء حتى آخر السورة، كل هذه الفقرات الموجزة من الحديث النبوي الشريف تُبيِّن للمتأمل بجلاء كثيراً من علوم القرآن الأساسية، كالتجويد والتفسير وعلم الوقف والابتداء، والتدبر في معانيه، والتفكر في آياته لمعرفة أسراره وإدراك إعجازه. هذه الأمور هي التي تقودنا إلى التلاوة الحقّة التي يُريدها الله سبحانه وهي المعنيّة في تفسير الإمام الصادق (ع) للآية الشريفة: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ﴾. (2)
إذ يقول (ع): « يُرتّلون آياته، ويتفهّمون معانيه ... ». (3)
فأهل البيت (ع) هم أول من اهتم بمعرفة القرآن وترتيله وتفسيره وبيان علومه، وها هو سيد الأوصياء وإمام المتقين علي (ع) يُبيّن بشكل واضح وصريح مفردة (التجويد) في تفسيره للآية الكريمة الواردة آنفاً: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ﴾ حيث يقول (ع): « الترتيل: هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ».

فَجَعَل الوقوف الشِّقّ الثاني من الترتيل الذي أوله التجويد، وبهذا تتجلى بوضوح أهمية معرفة الوقوف في تلاوة القرآن الكريم، فالوقف والابتداء عِلمٌ قائمٌ بذاته، لا بد من معرفته والتخصص فيه، ومعرفة موارده ومواضعه لتكون التلاوة سليمة من العيوب، خالية من الشوائب، كما يريدها الله تعالى، وكما أنزل بها الوحي على صدر نبينا الأعظم (ص).

وللتخصص في هذا العلم الشريف، لا بُدَّ من الإحاطة بمعرفة المفردات القرآنية، والتفسير، وقواعد اللغة العربية، لتكتمل بذلك أركان علم الوقف والابتداء، ليتعاطف القارىء بكل وجوده وكيانه مع كلام الله، وبالتالي ليُصبح تأثيره كبيراً وفاعلاً على المستمع من خلال تأثره بالمفردة القرآنية الجميلة، لتتحقق الفائدة المرجوة من التلاوة الحقة والخاشعة، كما ورد في الحديث النبوي الشريف لما سُئل (ص) عن أحسن الناس قراءة قال: « من إذا سمعتَ قراءتَه رأيتَ أنَه يخشى الله ». (4)

وما كتابنا هذا، الموسوم بـ (الوقف والابتداء في القرآن الكريم - دراسة وتطبيقاً) إلا محاولة جادة بذل فيها الأخ الكريم والأستاذ الفاضل الحاج عبد الرسول عبائي جهوداً موفقة أماط فيها اللثام عن مكنونات هذا العلم الظريف، من خلال دراسته وتطبيقاته، فجاءت الدراسة مباركة والتطبيقات مُبيِنة.

ونأمل أن يأخذ هذا الكتاب مكانه في المكتبة القرآنية، وأن ينتفع به القارىء والمتخصص في هذا الفن على حدٍ سواء.

وسيكون هذا الجهد المبارك الذي قدّمه المؤلف، في عِداد الباقيات الصالحات التي ستنفعه إن شاء الله، ﴿ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾.

وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى  محمد وآله الطاهرين.

 

جمعية القرآن الكريم - رجب 1432 هـ. ق.

 



(1) منتخب ميزان الحكمة للريشهري / ص 418، نقلاً عن نوادر الراوندي /30.

(2) سورة البقرة / الآية 121.

(3) منتخب ميزان الحكمة للريشهري / ص 418.

(4) ميزان الحكمة للريشهري نقلاً عن كنز العمال / 4143.

 




 بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على خير الأنام محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

أما بعد، فقد صدق الله تعالى إذ قال: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ... ﴾ الإسراء/9، فالقرآن هو المنقذ من ظلمات الجهالة وخرافات الضلالة إذ يقول سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ إبراهيم/1، وقد أمر الله المؤمنين بتدبر القرآن وفهمه أثناء تلاوته، إذ يقول عز وجل: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرا ﴾ النساء/82، ويخاطب نبيّه (ص) قائلاً: ﴿ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ الإسراء/106، ففي المكث دعوة إلى التدبر والفهم، وبالتمهل والتأني يبلغ الإنسان فهم الشيء وإدراك كنهه.

وقد أرشد سبحانه وتعالى نبيه (ص) في موضع آخر قائلاً: ﴿ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ طه/114. فهذه طريقة يرشد الله رسوله ليقرأ بها القرآن، وهي الإنصات إلى تلاوة الوحي والتأنيّ في التلقي عنه، فذلك إرشاد عامّ، يلزم المؤمنين الذين يتلون القرآن أيضاً.

إنّ دراسة الوقف والابتداء في القرآن المجيد، هو جانب مهم في أداء التلاوة، وهو يوضح كيف وأين يجب أن ينتهي القارئ لآي القرآن، بما يتفق مع وجوه التفسير واستقامة المعنى وصحة اللغة وما تقتضيه علومها من نحو وصرف ولغة، حتى يستتم القارئ الغرض كلّه من قراءته، فلا يخرج على وجه مناسب من التفسير والمعنى من جهة، ولا يخالف وجوه اللغة وسبل أدائها من جهة أخرى، وبهذا يتحقق الغرض الذي من أجله يُقرأ القرآن، ألا وهو الفهم والإدراك.

فإذا استطاع القارئ مراعاة وقفة عند نهاية العبارة، فإنه لا شكّ سوف يبدأ العبارة التي تليها على النحو الأكمل، فهو لا يبدأ إلاّ من حيث يتمّ به المعنى من جهة، وبما لا يباين اللغة وعلومها من جهة أخرى، وهو ما حرصت عليه العرب في أداء عباراتها واهتمت له في كلامها.

فالإمام علي (ع) كان يعتبر معرفة الوقوف ركناً أساسياً من ركني الترتيل في قوله تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ﴾ المزمّل/4، كما نجد اهتمام الرسول (ص) قبل وصيّه أمير المؤمنين والصحابة والتابعين وعلماء القراءة وغيرهم بهذا الركن اهتماماً عظيماً كما سيأتي بحثه في القسم الأول من الرسالة.

أصبح للقرآن بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران دور مهم في حياة عامّة الناس فالمجتمع - وبتشجيع من مسؤوليه - أخذ يتوجه إلى كتاب الله قراءةً وحفظاً أكثر فأكثر، فصارت تلاوة القرآن ذات أهمية بالغة عندهم. لقد ألقيت نظرة فكانت حوالي ألف رسالة ماجستير ودكتوراة، ولم أجد من تطرّق لهذا الموضوع، ومن ثمّ وجدت المكتبة القرآنية تكاد تفتقر إلى مؤلَّف شامل يبيّن أصول الوقف والابتداء وبيان معالمهما بصورة دراسة علمية وتطبيق عملي.

- استشرت أساتذتي بعد التوكل على الله سبحانه وتعالى وطلبت موافقتهم بشأن رسالتي هذه وهي بعنوان « الوقف والابتداء في القرآن الكريم دراسة وتطبيقاً »، فأبدوا موافقتهم وشجّعوني على ذلك، فعزمت على الخوض في غمار هذا العلم، فذهبت ردحاً من الزمن أبحث عن المصادر والمراجع.

وبعد مطالعتي لتلك المصادر والمراجع بالإضافة إلى تجاربي في هذا المجال، جاءت الرسالة على ما أعتقد جامعة لأسس الوقف والابتداء في القرآن الكريم، مفيدة لقارئها، فائدة يمكنه أن يبني عليها صرح تلاوته، فقسّمت بحثي إلى قسمين:

القسم الأول الدراسة:

بيِّنت في هذا القسم أسس الوقف والابتداء ومعالمهما عند القراء قديماً وحديثاً من مصنفاتهم وتآليفهم، وقمت بمقارنة تعاريفهم للوقوف وذكرت مذاهبهم في الوقوف على رؤوس الآي والرأي الراجح عندي بالأدلة اللازمة، ثم أتيت بتسع مسائل هامّة حول الوقف والابتداء حيث عالَجتُ فيها كثيراً من المسائل المهمة التي يحتاج إليها القارئ في تلاوته، وقد جاء هذا القسم في ثلاثة عشر فصلا.ً

القسم الثاني التطبيق:

لقد جاء هذا القسم في ثلاثة فصول، الفصل الأول: عرّفت فيه الاستعاذة وصورتها وحكمها وأحوالها عند القراء، والبسملة تعريفها وحكمها وأوجه الابتداء وأوجه الإتيان بها ما بين السورتين وأقوال العلماء فيها، في الفصل الثاني والثالث جئت بإعراب سورة الفاتحة ومئة آية من سورة البقرة مستعيناً بأهم آراء علماء السلف والخلف في أمهات الكتب من القرن الثاني الهجري ولحدّ القرن الحالي، ثم بيّنت نوع الوقف فيها على أسس الدراسة مستعيناً بأمّهات المصادر القديمة المطبوعة، منها كتاب إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري وهو أقدم مصنف - مطبوع - في هذا العلم يليه كتاب القطع والائتناف لابن النحاس وهما من علماء القرن الرابع الهجري، وكتاب المكتفى للداني وهو من علماء القرن الرابع الهجري، وكتاب المقصد لشيخ الإسلام الأنصاري وهو من علماء القرن العاشر الهجري، وكتاب منار الهدى للأشموني وهو من أعيان القرن الحادي عشر الهجري، فحاولت الابتعاد عن ذكر الوجوه المختلفة في الإعراب والالتزام بأدقّ الوقوف واضبطها، إلاّ المواضع المهمّة في الإعراب وحالات الوقف التي لا تكلّف فيها، فأُرجِّح الرأي الأصح الذي يسهّل على القارئ التلاوة. ولا يأخذ به إلى الاضطرار للوقف بسبب قصور نَفَسه فيخلّ في معاني كتاب الله.

وفي الختام أُقدِّم شكري وامتناني إلى أساتذتي وإخوتي في كليّة أصول الدين في مدينة قم المقدسة، على ما أبدوه لي من ملاحظات قيّمة، وأرجو لهم التوفيق في خدمة القرآن، كما وأشكر مدير عام جمعية القرآن الكريم في لبنان وكل من ساهم على تحقيق هذا الكتاب وأخرجه راجياً للجميع العزّة والسداد.

وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

عبد الرسول عبائي

 



 

 


الفصل الأول:


التعاريف

تعريف الوقف:

الوقف في اللغة: هو الحبس وفي القراءة هو قطع الكلمة عمّا بعدها.

وقد جاءت مادة وقف في القرآن الكريم بالمعنى اللغوي في أربعة مواضع:

قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ... ﴾ (الأنعام/30).

وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ... ﴾ (الأنعام/37).

وقوله تعالى: ﴿ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ... ﴾ (سبأ/31).

وقوله تعالى: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ﴾ (الصافات/24).

وكلها تدل على الحبس وسكون الحركة.

ووردت هذه المادة في الحديث الشريف كثيراً، منها:

« ... إنّ القرآن لا يُقرأ هذرمةً ولكن يرتّلُ ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها، وسَلِ الله عزّ وجلّ الجنّة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار، فقف عندها وتعوّذ بالله من النار » فالوقف هنا بمعنى قطع القراءة.

وفي اصطلاح الفقهاء: الوقف هو عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة.

وفي اصطلاح النحويين: هو قطع النطق عند آخر الكلمة والوقف عليها بصورة معيّنة.

 وأمّا الوقف في اصطلاح القرّاء فلنا بحث مفصل حوله أنّ علماء الوقف والابتداء والقرّاء الأوائل أصحاب التآليف كابن الأنباري (ت: 328 هـ) وابن النحاس (ت: 338 هـ) والداني (ت: 444 هـ) وغيرهم، رغم تقسيمهم للوقف وتتبّعهم كلمات القرآن بالاستقراء الكافي، والوقوف أمام كل جملة مناقشين و محلّلين، لم يتعرضوا لتعريف «الوقف» على شكل نصّ، بل يمكن أن يفهم التعريف من كلامهم ضمنياً خلال الحديث عن أقسام الوقف في كتبهم، وأول عالم جاءنا بنص عرّف فيه الوقف هو الشيخ أبو الخير محمد، الشهير بابن الجزري (ت: 833 هـ) حيث يقول: « والوقف عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمناً يتنفس فيه عادة بنيّة استئناف القراءة أما بما يلي الحرف الموقوف عليه إن صلح الابتداء به، أو بما قبله من غير قصد الإعراض عن القراءة ويكون الوقف في رؤوس الآي وأواسطها ولا يكون في وسط الكلمة ولا فيما اتصل رسماً ولا بدّ من التنفّس معه ». (5)

إنَّ هذا التعريف مع كونه تعريفاً واضحاً و شاملاً إلاّ أنّه ينقصه تقييد الزمن، هل الزمن يسير أو طويل علماً بأنَّ المراد هو الزمن اليسير.

فالعلماء المحدثون عرّفوه تعريفاً جامعاً شاملاً إذ يقولون: « الوقف هو قطع الصوت عند آخر الكلمة القرآنية زمناً يسيراً يتنفس فيه عادة مع قصد الرجوع إلى القراءة أمّا بما يلي الحرف الموقوف عليه إن صلح الابتداء به أو بالحرف الموقوف عليه أو بما قبله ممّا يصلح الابتداء به ولا بدّ في الوقف من التنفس معه ». (6)

وكان كثير من العلماء المتقدمين على ابن الجزري يطلقون كلمة «الوقف» و «القطع» و «السكت» في كلامهم ويقصدون غالباً «الوقف» ولا يريدون بها غير الوقف إلاّ مقيّدة وأمّا عند المتأخرين وغيرهم من المحققين فقد فرّقوا بين هذه الاصطلاحات الثلاثة.

فـ «الوقف» قد مرّ تعريفه لغة واصطلاحاً أما « القطع » لغة: فهو الإبانة والإزالة. واصطلاحاً: « فهو عبارة عن قطع القراءة رأساً، فهو كالانتهاء، فالقارئ به كالمعرض عن القراءة والمنتقل منها إلى حالة أخرى سوى القراءة وهو الذي يستعاذ بعده للقراءة المستأنفة أدباً ولا يكون إلاّ على رأس آية لأنّ رؤوس الآي في نفسها مقاطع ». (7)

وأما السكت لغة: فهو الامتناع، يقال: سكت فلان عن الكلام إذا امتنع منه.

واصطلاحاً: هو عبارة عن قطع الصوت زمناً هو دون زمن الوقف عادة من غير تنفس (8) مع قصد القراءة وهو مقيد بالسماع فلا يجوز إلاّ فيما يثبت فيه النقل وصحّت به الرواية و يكون في وسط الكلمة وفيما اتَّصل رسم ». (9)

 تعريف الابتداء:

الابتداء لغة هو ضد الوقف، تقول بدأتُ الشي‏ء: فعلتُهُ ابتداءً والبدء: فعلُ الشي‏ء أولاً. (10)

واصطلاحاً: هو الشروع في القراءة سواء كان بعد قطع وانصراف عنها أو بعد وقف فإذا كان بعد قطع فلا بدّ فيه من مراعاة أحكام الاستعاذة والبسملة - وسيأتي بحثها في قسم التطبيقات في أول سورة الحمد - وأما إذا كان بعد وقف فلا حاجة إلى ملاحظة ذلك لأن الوقف إنّما هو للاستراحة وأخذ النفس فقط. (11)

فالوقف والابتداء عند القرّاء: « فنٌّ جليل به يعرف كيفية أداء القرآن ويترتبُ على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة وبه تتبيّن معاني الآيات ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات ». (12)

ولدراسة الوقف والابتداء على منهج القرّاء وفي علم القراءات هناك جانبان:

أولهما: معرفة ما يوقف عليه وما يبتدأ به وهذه قضية يحدّدها المعنى ويحكم فيها السياق وتتصل بتجويد الأداء.

والآخر: كيف يوقف على الكلمة وكيف يبتدأ وما يحدث في هذا الصدد من صور صوتيّة أو تصريفية (13)، والذي يهمنا هنا هو الجانب الأول.

 



(5)  النشر في القراءات العشر لابن الجزري، ط. دار الكتب العربية، مصر لا. ج1 ص 240.

(6)  أحكام قراءة القرآن للشيخ محمود خليل الحصري ص 198، سلسلة دراسات في الإسلام، ط. المجلس الأعلی للشؤون الإسلامية، القاهرة العدد 114 لا.ت.

(7)  النشر لابن الجزري، ج 1 ص 239.

(8)  النشر لابن الجزري، ج 1/240.

(9)  معالم الاهتداء في الوقف والابتداء للشيخ محمود خليل الحصري (ت: 1401هـ) ص 174، سلسلة دراسات في الإسلام، ط. المجلس الأعلی للشؤون الإسلامية، القاهرة لا. ت.

(10)  لسان العرب لابن منظور (ت: 711) مادة: « بدأ » ط. نشر آدب الحوزة قم - ايران سنة 1405هـ.

(11)  غاية المريد في علم التجويد لعطية قابل نصر، ص 233.ط. دار الحرمين القاهرة مصر سنة 1994 م الطبعة الرابعة.

(12)  البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين محمد الزركشي، ج 1 ص 415 الطبعة الأولی 1408هـ - 1988م دار الفكر، بيروت لبنان.

(13)  في علوم القراءات للدكتور سيد رزق الطويل، ص 158 الطبعة الأولی سنة 1405هـ مكة المكرمة المكتبة الفيصلية.

 


الفصل الثاني:


 

موضوع علم الوقف والابتداء وأهميته

موضوع علم الوقف والابتداء هو القرآن الكريم من حيث الأداء السليم لتلاوته. (14)

أهمية الوقف والابتداء في القرآن الكريم:

« لمّا لم يمكن للقارئ أن يقرأ السورة أو القصة أو بعض الآيات في نَفَس واحد ولم يجز التنفس بين كلمتين حالة الوصل، كالتنفّس في أثناء الكلمة، وجب حينئذٍ اختيار وقف للتنفّس والاستراحة وتعيّن ارتضاء الابتداء بعد التنفّس والاستراحة وتحتّم أن لا يكون ذلك ممّا يخلّ بالمعنى ولا يخلّ بالفهم إذ بذلك يظهر الإعجاز ويحصل القصد ». (15)

من أجل هذا بدأ الرعيل الأول من الصحابة منذ فجر الإسلام بالاهتمام بالوقف والابتداء وقبل أولئك صاحب الرسالة (ص).

اهتمام الرسول (ص) ووصيّه علي بن أبي طالب (ع):

إنَّ النبي (ص) كان له عناية بالوقف في الكلام والابتداء به.

روى ابن النحاس (ت: 338 هـ) مسنداً عن عدي بن حاتم الطائي (ت: 68 هـ) قال:
جاء رجلان إلى رسول الله (ص) فتشهّد أحدهما فقال: من يُطِع الله ورسولَهُ فقد رَشَدَ (16) ومن يعصهما. فقال رسول الله (ص) بئس الخطيبُ أنت فَقُم كان ينبغي أن تَصِلَ كلامَك « ومَن يَعْصِهما فقد غوى » أو تقف على « رسوله فَقَدْ رَشَدَ » فإذا كان هذا مكروهاً في الكلام الذي يكلم به بعض الناس بعضاً كان في كتاب الله أشدّ كراهة ولكان المنع من رسول الله (ص) بذلك أوكد. (17)

ونقل السلف روايات وأحاديث عن النبي (ص) تدل على اعتناءه بتعليم التمام توقيفاً منه.

روى ابن النحاس أيضاً في كتابه القطع والائتناف مسنداً عن أبي هريرة (ت: 59 هـ) أن رسول الله (ص) قال:
« إنّ هذا القرآن أُنْزِلَ على سَبعةِ أحرف اقرأوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمةٍ بعذاب ولا تختموا ذكرَ عذابٍ برحمةٍ ».

فهذا تعليم التمام توقيفاً من رسول الله (ص) بأنّه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب ويفصل ممّا بعدها إن كان بعدها ذكر النار أو العقاب نحو ﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ (الإنسان/31) لا ينبغي أن يقول ﴿ وَالظَّالِمِينَ ﴾ لأنه منقطع ممّا قبله منصوب بإضمار فعل أي « ويعذّبَ الظالمين أو وأوعدَ الظالمين ». (18)

ويحدثنا الداني في المكتفى مسنداً عن أُبيّ بن كعب (ت: 22هـ) قال:
« أتينا رسول الله (ص) فقال: إن الملك كان معي فقال لي: اقرأ القرآن فعدّ حتى بلغ سبعة أحرف فقال ليس منها إلاّ شافٍ كافٍ ما لم تختُمْ آية عذابٍ برحمةٍ أو تختُمْ رحمةً بعذاب. (19)
فهذا تعليم التمام (20) من رسول الله (ص) عن جبرائيل (ع) إذ ظاهره دال على أنه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر النار والعقاب وتفصل ممّا بعدها إذا كان بعدها ذكر الجنة والثواب وذلك نحو قوله عزّ وجلّ: ﴿ فَأولئك أصحاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (البقرة/81).
هنا الوقف، ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ... ﴾ (البقرة /82) ويُقطع على ذلك وتختم به الآية».
(21)

ويحدثنا الداني مسنداً عن ابن مسعود (ت: 32هـ) حديثاً يدل على الوقف في كلام الله دون التمام:
عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله (ص) اقرأ عليّ.
فقلت: أَأَقرأ عليك وعليك أنزل؟
فقال: إني أحبّ أن أسمَعَه من غيري.
قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ﴾ (النساء/41).
قال: فرأيته وعيناه تذرفان.
فقال لي: حسبك. (22)

فالقطع على قوله ﴿ شَهِيدًا ﴾ ليس بتام ... فما بعده متعلّق بما قبله والتمام: ﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا ﴾ (النساء/42) لأنه انقضاء القصة وهو في الآية الثانية وقد أمر النبي (ص) عبد الله بن مسعود أن يقطع عليه دونه مع تقارب ما بينهما فدلّ ذلك دلالة واضحة على جواز القطع على الكافي (23) ووجوب استعماله ». (24)

وجاء عن علي (ع) (استشهد40هـ) أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ (المزمّل/4) فقال: « الترتيل هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ». (25)

في كلام علي (رض) دليل على وجوب تعلم (الوقف) ومعرفته. (26)

اهتمام الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بهذا العلم

أخرج ابن النحاس عن القاسم بن عوف البكري قال: سمعت عبد الله بن عمر (ت: 73هـ) يقول:
لقد عشنا برهة من دهرنا وإنَّ أحدنا لَيُؤتى الإيمان قبلَ القرآن تَنزِلُ السورةُ على محمد (ص) فنتعلّمُ حلالَها وحرامَها وما ينبغي أن يُوقَفَ عندَهُ منها كما تتعلّمون أنتم اليوم القرآن ولقد رأيت اليوم رجالاً يُؤتى أحدُهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحتِهِ إلى خاتمِتِه ما يدري ما آمرُهُ ولا زاجرُهُ ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه وينثره نثر الدقل. (27)

ما جاء عن ابن عمر يدل على أن صحابة رسول الله (ص) كانوا يهتمون بمعرفة الوقف بتوجيه منه (ص) كاهتمامهم بمعرفة معاني القرآن الكريم والوقوف على حلاله وحرامه وشبّه ابن عمر عدم عنايتهم بالقراءة بنثر التمر الردي‏ء اليابس.

ويقول ابن الجزري:
وصحّ بل تواتر عندنا تعلّمه والاعتناء به من السلف الصالح كأبي جعفر يزيد بن القعقاع (ت: 132هـ) إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين وصاحبه الإمام نافع ابن أبي نعيم (ت: 169هـ) وأبي عمرو بن العلاء (ت: 154هـ) ويعقوب الحضرمي (ت: 205هـ) وعاصم بن أبي النجود (ت: 127هـ) وغيرهم من الأئمة وكلامهم في ذلك معروف ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب ومن ثم اشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحداً إلاّ بعد معرفته الوقف والابتداء وكان أئمتنا يوقفونا عند كل حرف ويشيرون إلينا فيه بالأصابع سنّة لذلك أخذوها عن شيوخهم الأولين رحمة الله عليهم أجمعين وصحّ عن الشعبي (ت: 105هـ) وهو من أئمة التابعين علماً وفقهاً ومقتدى أنّه قال: إذا قرأت ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان ٍ﴾ فلا تسكت حتى تقرأ ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ﴾ (الرحمن/26،27). (28)

وقال الهذلي (ت: 167هـ) في كامله « الوقف حلية التلاوة وزينة القارئ وبلاغ التالي وفهم المستمع وفخر العالم وبه يُعرف الفرق بين المعنيَيْن المختلفَيْن والنقيضَيْن المتنافيَيْن والحكمَيْن المتغايرَيْن ». (29)

وقال أبو حاتم السجستاني (ت: 248هـ): « من لم يعرف الوقف لم يعرف القرآن ». (30)

وقال ابن الأنباري (ت: 328هـ): « ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه ». (31)

 



(14) مقدمة محقق كتاب المكتفی ص 31، لأبي عمرو عثمان الداني (ت: 444 هـ) مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان الطبعة الأولی 1404هـ - 1984م تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

(15) النشر في القراءات العشر للحافظ ابن الجزري (ت: 833 هـ) ج 1 ص 224، دار الكتاب العربي لا.ت.

(16) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة رقم 48، الجامع 2/594 وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل (المسند 4/256 و 4/379).

(17) القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس ص 88 تحقيق الدكتور محمد عمر الخطاب، الطبعة الأولی، مطبعة العاني بغداد 1398هـ - 1978م.

(18) ن. م ص 89.

(19) أخرج الحديث بهذا اللفظ أبو داود في كتاب الوتر، باب أنزل القرآن علی سبعة أحرف سنن أبي داود 2/160 وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل (المسند 5/114 و 122 و 124).

(20) سيأتي تعريف الوقف التام في الفصل السابع الصفحة 29.

(21) المكتفی للداني ص 132.

(22) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، الحديث رقم (4582) وفي كتاب فضائل القرآن الحديث رقم 5050 و 5055، وأخرجه مسلم: (باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظ للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر) رقم الحديث 247، الجامع 1/556 وأخرجه أبو داود في كتاب العلم، الحديث 3668 واخراجات اخری.

(23) سيأتي تعريفه في الفصل الثامن الصفحة 35.

(24) المكتفی للداني ص 137.

(25) النشر في القراءات العشر لابن الجزري، 1/209.

(26) النشر لابن الجزري 1/225.

(27) القطع والائتناف لابن النحاس ص 87.

(28) النشر لابن الجزري 1/225.

(29) القول المفيد للشيخ محمد مكي نصر، ص 195 المكتبة العلمية لاهور الهند لا.ت.

(30) ن.م ص 195.

(31) إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل، 1/108. لابن الأنباري ط. دمشق سنة 1390هـ - 1971م تحقيق محي الدين عبد الرحمن رمضان، مطبوعات مجمع اللغة العربية.

 


الفصل الثالث:


 

تصانيف وتآليف المسلمين لعلم الوقف والابتداء

مما تقدم اتضح لنا مدى أهمية الوقف والابتداء عند صاحب الرسالة (ص) وعند الصحابة والتابعين والعلماء لما يترتب عليه من إيضاح المعاني القرآنية للمستمع ولا يحصل ذلك إلاّ إذا كان القارئ على علم واسع ومعرفة تامّة بالوقوف. فكان الصحابة والتابعين يتناقلون مسائل هذا العلم مشافهة إلى أن جاء عصر التدوين فبدأ القرّاء والعلماء الغيارى على كتاب الله بالتأليف والتصنيف فيه وأول من ألّف في علم الوقف والابتداء هو شيبة بن نصاح المدني الكوفي (ت: 130هـ).

قال ابن الجزري: وهو أول من ألَّف في الوقوف. (32)

وممّا يلفت الانتباه أن كلَّ من ألّف في هذا الفن كانوا من القرّاء والنحويين وقلّ أن نجد إماماً في القراءة أو اللغة إلاّ وله مشاركة في هذا العلم. (33)

إنَّ الذين كتبوا حول الوقف والابتداء في القرآن الكريم سلكوا مسالك مختلفة فمنهم من صنّف كتاباً مستقلاً حول هذا الفنّ بلغ عدد هذه المصنفات منذ بدء التأليف حتى يومنا هذا حوالي 78 مصنفاً أكثرها مفقود وبعضها مخطوط في مخازن المكتبات الشهيرة كمخزن التيمورية في دار الكتب المصرية والمكتبة الأزهرية بمصر ومكتبة الظاهرية بسوريّة و... ومنها المطبوعة. (34)

ومن العلماء من ضمَّن كتابه في القراءات الموضوع مسهباً كما فعل السخاوي (ت: 643هـ) في كتابه « جمال القرّاء » الجزء الثاني تحت عنوان « علم الاهتداء في معرفة الوقف والابتداء » في 164 صفحة، وابن الجزري (ت: 833 هـ) في منظومته طيبة النشر وكتابه النشر في القراءات الجزء الأول في 19 صفحة هذا من القدماء ومن المتأخرين الشيخ محمد مكي نصر في كتابه « نهاية القول المفيد في علم التجويد » بحث موضوع الوقف والابتداء في الباب السادس منه في تسعة فصول وتتمّة في 44 صفحة ومنهم من ضمّنوا كتبهم موضوع الوقف والابتداء باختصار من القدامى علي النوري الصفاقسي في كتابه « غيث النفع » ومن المعاصرين القمحاوي في كتابه « البرهان في تجويد القرآن » والمرحوم أستاذنا السيد داود العطار في كتابه « التجويد وآداب التلاوة ».

والمجموعة الرابعة هم علماء علوم القرآن فقد أفردوا لهذا الفن باباً واعتبروه من العلوم المتعلقة بالقرآن منهم الزركشي في كتابه « البرهان في علوم القرآن » جاء به في النوع الثالث والعشرين والحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت: 851 هـ) في كتابه « الإتقان في علوم القرآن » في النوع الثامن والعشرين ومن المعاصرين إبراهيم الأبياري في موسوعته القرآنية تحت رقم 34.

وأقدم ما وصلنا من الكتب المستقلة حول الوقف والابتداء هما كتابا ابن الأنباري محمد بن القاسم بن بشار (ت: 328هـ) وابن النحاس أحمد بن محمد بن اسماعيل (ت: 338هـ) الموسومان بـ « إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجلّ » (35) و « القطع والائتناف». (36)

كتاب إيضاح الوقف والابتداء يعتبر من أشهر الكتب في هذا الفن، قال أبو عمرو عثمان الداني: سمعت بعض أصحابنا يقول عن شيخ له أنَّ ابن الأنباري لما صنف كتابه في الوقف والابتداء جي‏ء به إلى ابن مجاهد (ت: 324هـ) فنظر فيه وقال: لقد كان في نفسي أن أعمل في هذا المعنى كتاباً وما ترك هذا الشابّ لمصنِّف ما يُصنَّف. (37)

وقال ابن الجزري: وكتاب ابن الأنباري في الوقف والابتداء أول ما ألف فيه وأحسن. (38)

وكتاب « القطع والائتناف » يعتبر موسوعة في الوقف والابتداء يجمع ابن النحاس كلّ ما قيل فيه فهو يناقش الآراء المطروحة ويختار أصحها على قدر اجتهاده ومبلغه من العلم.

والكتاب الثالث حسب التسلسل الزمني هو كتاب أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الأندلسي (ت: 444هـ) الموسوم بـ « المكتفى في الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجلّ ». (39)

والمؤلف هو عمد من أعمدة علم القراءات. قال عنه الذهبي شمس الدين (ت: 748هـ) في تذكرة الحفاظ:

« إلى أبي عمرو المنتهى في إتقان القراءات والقرّاء خاضعون لتصانيفه واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك وله مئة وعشرون مصنّف ». (40)

وكتاب المكتفى هو استعراض من المؤلف لكتب السابقين وأقوالهم وموازنة بينها وكان قد رجّح بين مسائل كتب وأقوال السابقين وحقق فيه القول ودقّق فيها النظر بعين ناقدة بصيرة فاختار منها الصحيح وطرح السقيم مستدلاً لكل ذلك بالأحاديث المسندة والقراءات المتواترة والأقوال المنسوبة فجاء صحيحاً موثقاً مختاراً بعبارة موجزة وأسلوب رفيع.

والكتاب الرابع « المقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء » لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري (ت: 926هـ). (41)

وهذا الكتاب هو تلخيص لكتاب « المرشد في الوقف والابتداء » للحسن بن علي بن سعيد العماني المتوفي بُعَيد الخمسمئة من الهجرة.

يقول الأنصاري في مقدمة كتابه: « فهذا مختصر المرشد في الوقف والابتداء الذي ألفه العلامة أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد رحمه الله تعالى وقد التزم أن يورد فيه جميع ما أورده أهل هذا الفن وأنا أذكر مقصود ما فيه مع زيادة بيان محل النزول وزيادة أخرى غالبها عن أبي عمرو عثمان ابن سعيد المقرئ وسميته المقصد لتلخيص ما في المرشد ». (42)

والكتاب الخامس هو كتاب « منار الهدى في بيان الوقف والابتداء » مصنّفه هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم الأشموني من أعيان القرن الحادي عشر الهجري. (43)

هذا الكتاب اشتهر من بين كتب الوقف والابتداء عند المتأخرين فأقبلوا عليه يتدارسونه، وطريقة المؤلف أنه بدأ كتابه بمقدمة أودع فيها فوائد جمّة تنفع القرّاء وتعينهم على معرفة الوقف والابتداء فبيّن أهمية هذا العلم ومن اشتهر فيه ثم يبيّن نشأة هذا العلم وتعريفه وأقسامه ثم يعرض بعض التنبيهات الواجب اتباعها كاتّباع رسم المصحف العثماني ثم يبدأ بتطبيق هذه القواعد على سور القرآن مبتدئاً بسورة الفاتحة فالبقرة إلى آخر القرآن متتبعاً نهج من سلفه ببيان حكم كل موقف ودرجته من التام والكافي والحسن والجائز والقبيح ويناقش في المسائل الخلافية ويرجح بين الآراء وتظهر شخصيته العلمية جليّة من خلال ذلك.

إنّ مؤلّفي هذه الكتب الخمسة قد اتّخذوا طريقة واحدة في الكتابة بدءاً بابن الأنباري وانتهاءً بالأشموني كلّ منهم بعد المقدمة المفيدة يبين حكم كل موقف ودرجته في سور القرآن سورةً سورةً مبتدئين بسورة الفاتحة فالبقرة إلى سورة الناس.

 



(32) غاية النهاية لابن الجزري (ت: 833هـ) 1/330، عنيَ بنشره ج. برجستراسر، الطبعة الثالثة دار الكتب العلمية بيروت 104هـ 1982.

(33) مقدمة تحقيق كتاب الداني المكتفی في الوقف والابتداء للدكتور المرعشلي ص 49.

(34) مقدمة تحقيق كتاب الداني المكتفی في الوقف والابتداء للدكتور يوسف المرعشلي ص 7- 60؛ الكشف عن أحكام الوقف والوصل في العربية للدكتور محمد سالم محيسن ص 25- 28 ط. دار الجيل بيروت، الطبعة الأولی سنة 1412هـ - 1992م.

(35) هو من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، تحقيق الدكتور محي الدين عبد الرحمن رمضان، عام 1390هـ - 1971م في مجلدين.

(36) طبع طبعتين: طبعة في بغداد بتحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر ضمن منشورات وزارة الأوقاف العراقية، سلسلة إحياء التراث الإسلامي / 38 ط 1 1398هـ - 1978م مطبعة العاني وهو مجلد كبير، وطبعة أخری في المملكة العربية السعودية في مجلدين بتحقيق الدكتور عبد الرحمن إبراهيم المطرودي عام 1413هـ - 1992م.

(37) غاية النهاية لابن الجزري 2/231.

(38) ن.م.

(39) طبعته مؤسسة الرسالة في بيروت بتحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

(40) تذكرة الحفاظ لشمس الدين أبي عبد الله محمد ج 3 ص 1130مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن / الهند 1376 هـ - 1957م.

(41) طبع بهامش كتاب منار الهدی للأشموني ط 2 مطبعة مصطفی البابي الحلبي بمصر عام 1393هـ - 1973م.

(42) هامش منار الهدی، ص 4.

(43) طبع بالطبعة الثانية في مطبعة مصطفی البابي الحلبي بمصر عام 1393هـ - 1973م.

 


الفصل الرابع:


 

حاجة هذا الفنّ إلى مختلف العلوم

إن موضوع الوقف والابتداء يمكن أن يحسن القيام به كلُّ قارئ إذا أُوتي بعض الحظّ من علم باللغة ووجوه أدائها ولكنه يُشكِل في بعض الأحيان فلا يحسنه إلاّ العلماء الذين أُوتوا حظّاً من سماع ومن علم بالتأويل.

قال ابن النحاس: « حكى لي بعض أصحابنا عن أبي بكر بن مجاهد (ت: 334هـ) انه كان يقول: لا يقوم بالتمام إلاّ نحويٌّ، عالمٌ بالقراءات، عالم بالتفسير، عالم بالقصص، وتلخيص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن. وقال غيره: يحتاج صاحب علم التمام إلى المعرفة بأشياء من اختلاف الفقهاء في أحكام القرآن، لأنه من قال من الفقهاء: لا تقبل شهادة القاذف وإن تاب، كان الوقف عنده ﴿ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ﴾ (النور/4) ... ومن قال تجوز شهادته إذا تاب كان الكلام عنده متصلاً والوقف عنده ﴿ فإنّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (النور/46). (44)

« ومن الذين صرحوا بذلك معين الدين عبد الله النكزاوي (ت: 683هـ) قال في كتاب الوقف: لابدّ للقارئ من معرفة بعض مذاهب الأئمة المشهورين في الفقه، لأن ذلك يُعينُ على معرفة الوقف والابتداء، لأن في القرآن مواضع ينبغي الوقف على مذهب بعضهم، ويمتنع على مذهب آخرين ». (45)

أمّا حاجته إلى علم النحو وتقديراته فلأن من جعل ﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ... ﴾ (الحج/78) منصوبة بمعنى « كملّةِ » وأعمل فيها ما قبلها لم يقف على ما قبلها ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبله ». (46)

وكذا الوقف على قوله: ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاً ﴾ ثم يبتدئ ﴿ قَيِّمًا ﴾ لئلا يتخيّل كونه صفة له إذ أن العوج لا يمكن أن يكون « قَيِّمًا ».

وهكذا الوقف على ما في آخره هاء السكت فإنك في غير القرآن تثبتُ الهاء إذا وقفت وتحذفها إذا وصلت، فتقول: قِهْ، عِهْ في الوقف، قِ زيداً، عِ كلامي، في الوصل.

أمّا في القرآن من قوله تعالى: ﴿ كِتَابِيَهْ ﴾ (الحاقة/19)، ﴿ حِسَابِيَهْ ﴾ (الآية/20) و ﴿ سُلْطَانِيَهْ ﴾ (الآية/29) و ﴿ لَمْ يَتَسَنّهْ ﴾ (الأنعام/259) و ﴿ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام/90) وغير ذلك، فالواجب أن يوقف عليه بالهاء لأنه مكتوب في المصحف بالهاء، ولا يوصل، لأنه يلزم في حكم العربية إسقاط الهاء في الوصل؛ فإن أثبتها خالف العربية، وإن حذفها خالف مراد المصحف، ووافق كلام العرب، وإذا هو وقف عليه خرج من الخلافين واتّبع المصحف وكلام العرب. (47)

وأمّا احتياجه إلى معرفة التفسير فلأنه إذا وقف على قوله تعالى: ﴿ فإنها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ... ﴾ (المائدة/26) كان المعنى محرّمة عليهم هذه المدّة، وإذا وقف على ﴿ فإنها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ كان المعنى محرّمة عليهم أبداً وأنّ التيه أربعون؛ فلا بدّ من الرجوع إلى التفسير فيكون الوقف بحسب ذلك.

وكذلك يستحب الوقف على قوله تعالى: ﴿ مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ... ﴾ (يس/52) ثم يبتدئ فيقول: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ ﴾ لأنه قيل: إنَّه من كلام الملائكة. (48)

وأمّا احتياجه الى المعرفة بالقراءات فلأنَّه إذا قرأ ﴿ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُورًا ﴾ (الفرقان/22) كان هذا التمام عنده، وإن ضمّ الحاء - وهي قراءة الحسن - فالوقف عنده ﴿ وَيَقُولُونَ حِجْرًا ﴾ وكان الرجل من العرب إذا نزلت به شدة، يقول: حجراً، فقيل له: محجوراً، أي: لا تُعاذون كما كنتم تُعاذون في الدنيا حَجَرَ الله جلّ وعزّ ذلك عليكم يوم القيامة.

وإذا قرأ: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ... ﴾ (المائدة/45) فهذا التمام عنده إذا نصب ﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ وهي قراءة نافع وعاصم والأعمش (ت:148هـ) وحمزة (ت: 156هـ) ومن قرأ: ﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ فرفعها ورفع ما بعدها فالوقف عنده ﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ وهذه قراءة الكسائي (ت: 180هـ) واختيار أبي عبيدة (ت: 209هـ) ... فعلى هذه القراءة ﴿ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ ابتداء حكم في المسلمين، وبجعل ما كتب عليهم في التوراة ﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ ويوجب الحكم في القصاص في العيون وما بعدها بين المسلمين بالآية. (49)

وأمّا احتياجه إلى المعنى فضرورة لأنّ معرفة مقاطع الكلام إنّما هي بعد معرفة معناه، فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ أن يتفهم ما يقرأه ويشغل قلبه به ويتفقد القطع والائتناف ويحرص على أن يُفهم المستمعين في الصلاة وغيرها وأن يأتي وقفه عند كلام مستغنٍ أو شبيهٍ وأن يأتي ابتداؤه حسناً ولا يقف على مثل: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى ﴾ (الأنعام/36)، لأن الواقف ها هنا قد أشرك بين المستمعين وبين الموتى، والموتى لا يسمعون ولا يستجيبون وانما أخبر عنهم أنهم يبعثون ومن لم يعرف الفرق بين ما وصله الله عزّ وجلّ في كتابه وبين ما فصله لم يحلّ له أن يتكلّم في القطع والائتناف فالقارئ يحتاج إلى أن ينظر أين يقطع وكيف يأتنف فإنّ من الوقف ما هو واضح مفهوم معناه ومنه مشكل لا يُدرى إلا بسماع وعلم بالتأويل ومنه ما يعلمه أهل العربية واللغة فيدري أين يقطع وكيف يأتنف. (50)

إنَّ ما تقدّم من اشتراط ابن مجاهد في صاحب الوقف، العلم بالنحو والتفسير والقراءات واللغة، واشتراط غيره المعرفة بأشياء من اختلاف الفقهاء تجعل موضوع الوقف والابتداء خصوصاً في كتاب الله تعالى ذا أهميّة خاصة لا يقدِرُ عليها إلاّ من تحقّقت فيه تلك الشروط.

 



(44) القطع والائتناف لابن النحاس، ص 94 و 95.

(45) الإتقان للسيوطي في علوم القرآن للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت: 851 هـ) ج1 ص 297، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، منشورات رضی ايران- قم.

(46) القطع والائتناف لابن النحاس، ص 95.

(47) البرهان للزركشي ج1 ص21 و 422.

(48) ن.م ص 422.

(49) القطع والائتناف لابن النحاس، ص 96.

(50) القطع والائتناف لابن النحاس، ص 97 و 98.

 


الفصل الخامس:


 

 أقسام الوقف العامة: تعريفها وأحكامها عند القرّاء

الوقف ينقسم في ذاته إلى أربعة أقسام (51) « وتسمى الأقسام العامة ». (52)

القسم الأول:

الوقف الاضطراري: « وهو الذي يعرض للقارئ أثناء قراءته ويضطر إليه اضطراراً بسبب انقطاع نَفَسه أو ضيقه أو عجز عن القراءة أو نسيان لها أو غلبة ضحك أو بكاء أو نوم أو عطاس أو عروض أيّ عذر من الأعذار التي لا يتمكّن معها من وصل الكلمات القرآنية بعضها ببعض حتى يقف على ما يصح الوقف عليه ». (53)

وقد سميّ اضطرارياً: لأنّ سببه الاضطرار الذي عرض للقارئ أثناء قراءته فلم يتمكّن من وصل الكلمة بما بعدها.

وحكمه: يجوز للقارئ الذي عرض له شي‏ء مما ذكر، الوقف على أيّ كلمة وإن لم يتمّ المعنى كأن يقف على شرط دون جوابه أو على موصول دون صلته ... ولكن يجب عليه بعد أن يعود إلى الكلمة التي وقف عليها فيبتدئ بها إن صلح الابتداء بها وإلاّ ابتدأ من كلمة قبلها يصلح الابتداءُ بها. (54)

القسم الثاني:

الوقف الاختباري بالباء التحتية الموحدة: وهو أن يأمر الأستاذ تلميذه مثلاً بالوقف على كلمة ليختبره في حكمها من قطع أو وصل أو إثبات أو حذفٍ كما في كلمة ﴿ الأََيْدِي ﴾ من قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأََيْدِي ﴾ (سورة ص/54) فيوقف عليها بالإثبات.

أمّا في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ ﴾ (سورة ص/17) فيوقف عليها بالحذف.

أو وقفه على كلمة بالتاء أو بالهاء كما في كلمة ﴿ وَامْرَأَتَ ﴾ من قوله تعالى: ﴿ اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ﴾ (التحريم/10) فيوقف عليها بالتاء المبسوطة.

أما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ ... ﴾ (النساء/128) فيوقف عليها بالهاء « فمتعلق هذا الوقف، الرسم لبيان المقطوع من الكلمات، والموصول منها، والثابت والمحذوف والمرسوم بالتاء، والمرسوم بالهاء، ليقف على المقطوع بالقطع، والموصول بالوصل، وعلى الثابت رسماً بالإثبات، والمحذوف بالحذف، وليقف بالتاء على بعض الكلمات، وبالهاء على بعضه ». (55)

وسميّ هذا الوقف اختبارياً « لحصوله إجابة على سؤال ممتحن أو تعليم متعلّم، كيف يقف إذا اضطر إلى الوقف، لأنه قد يضطر إلى الوقف على شي‏ء فلا يدري كيف يقف عليه » (56) « ولأنّه ليس محل وقف في العادة ». (57)

حكمه: هو جواز الوقف « على أن يعود إلى الكلمة التي وقف عليها فيبدأ بها ويصلها بما بعدها إن صلح البدء بها وإلاّ بدأ من كلمة قبلها من الكلمات التي يصحّ البدء به ». (58)

القسم الثالث:

الوقف الانتظاري: « وهو الوقف على الكلمة القرآنية ذات الخلاف ليستوعب ما فيها من القراءات والروايات والطرق والأوجه ولا يكون ذلك إلاّ حال تلقي الطالب على الشيخ وجمعه القراءات السبع أو العشر». (59)

وقد سمّي انتظارياً لما ينتظر الأستاذ من الطالب بشأن تكملته الأوجه التي وردت في الآية التي يقرؤها.

وحكمه: يجوز للقارئ الوقف على أيّ كلمة حتى يعطف عليها باقي أوجه الخلاف في الروايات وإن لم يتمّ المعنى وليعلم أنّه إذا انتهى القارئ من جمعه للروايات على الكلمة التي وقف عليها فلا بدّ له من وصلها بما بعدها إن كانت متعلقة بما بعدها لفظاً و معنًى. (60)

إذن لا يشترط في هذا الوقف ولا فيما قبله تمام المعنى فللقارئ « أن يقف على أيّ كلمة إذا اعترضه عارض من العوارض أو أراد ليُبيّن حكماً تجويدياً أو في رسم الخطّ، أو ليستوعب ما فيها من القراءات مهما كان تعلقها بما قبلها أو بما بعده ». (61)

القسم الرابع:

الوقف الاختياري بالياء المثناة التحتية: وهو أن يقصد الوقف لذاته من غير عروض سبب من الأسباب المتقدمة أي أن يقف القارئ على الكلمة القرآنية باختياره دون أن يعرض له ما يلجئه للوقف من عذر أو إجابة على سؤال، « وهذا القسم هو المراد بالوقف عند الإطلاق بمعنى أنه إذا ذكر لفظ وَقْف أو إذا قيل يوقف على كذا أو الوقف على كذا تامّ أو كافٍ أو نحو ذلك لا يُرادُ به إلاّ الوقف الاختياري ». (62)

وسميّ اختيارياً لحصوله بمحض اختيار القارئ وإرادته.

وحكمه: جواز الوقف عليه إلاّ إذا أوهم معنى غير المعنى فيجب وصله كما يجوز الابتداء بما بعد الكلمة الموقوف عليها إن صلح الابتداء بها، وإلاّ فيعود إليها ويصلها بما بعدها إن صلح ذلك وإلاّ فبما قبله. (63)

 



(51) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 223.

(52) البرهان في تجويد القرآن محمد الصادق القمحاوي ط، الدار السودانية للكتب، الخرطوم السودان 1414 هـ - 1993م.

(53) أحكام القرآن للحصري ص 198.

(54) ن.م.

(55) ن.م.ص 199.

(56) نهاية القول لمكي نصر ص 198.

(57) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 223.

(58) أحكام القرآن للحصري ص 199.

(59) ن.م. أيضاً.

(60) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 224.

(61) أحكام القرآن للحصري ص 199.

(62) ن.م ص 200.

(63) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 224.

 


الفصل السادس:


 

أقسام الوقف الاختياري

مع العناية البليغة من السلف الصالح وأقسامه ومعرفتها والمبالغة في حثّهم على تعلّمها وتعليمها كما عرفنا، لم ينقل عن رسول الله (ص) ولا عن أحد من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المجتهدين تسمية الوقوف وبيان أنواعه وتحديد كلّ نوع منه بحدّ يخصّه ويميّزه عن غيره، فإنّ ذلك حدث كلّه بعد الصدر الأول، ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله في تسمية الوقوف (64) وفي أقسامها فكان لكلّ فريق منهم اصطلاح خاصّ فاختلفوا في الوقف الاختياري على خمسة أقوال (65) أشهرها وأعدلها ما ذكره أبو عمرو عثمان الداني (ت: 444هـ) وأبو خير محمد ابن الجزري (ت: 833هـ) وهو أربعة أقسام تامّ وكافٍ وحسنٍ وقبيح، وهذا أي القبيح وإن كان لا يصحّ الوقف عليه لكنه ذكر تتمّة للأقسام ليتحرز منه وليعرفه القارئ ليتجنّب الوقوف عليه وإلاّ فالأقسام ثلاثة فقط كما قال ابن الجزري في مقدمته من الجزرية:

 

وبعدَ تجويدكَ للحروفِ

لا بدَّ مِنْ مَعرفةِ الوقوفِ

والابتداء وهي تُقْسَمُ إذَنْ

ثلاثةٌ تامٌ وكافٍ وحَسَن

وهي لما تَمَّ فإنْ لم يُوجَدِ تعلّقٌ أو كانَ معنًى فابتَدي
فالتامُ فالكافي ولفظاً فامنَعَنْ إلاّ رؤوسَ الآي جوّز فالحسن

وغيرُ ما تمَّ قبيحٌ وَلَه

يوقف مضطراً ويُبدا قبله
وليس في القرآن من وقف وجب ولا حرامٍ غيرِ ما له وَجَب (66)

 



(64) ولم يتعرض من القدماء أحد للتقسيمات العامة للوقف في التلاوة التي مرّ بها سوی ابن الجزري (ت: 833هـ) فإنه أشار في نشره قائلاً: « إن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري لأن الكلام أمّا أن يتم أو لا فإن تمّ كان اختيارياً... وإن لم يتم الكلام كان اضطرارياً وهو المصطلح عليه بالقبيح الذي لا يجوز تعمد الوقف عليه إلاّ لضرورة من انقطاع النفس ونحوه لعدم الفائدة أو لفساد المعنی » النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج 1 ص 226. فالمقصود من الاختلاف بين العلماء في الوقوف هو الوقف الاختياري.

(65) الوقف عند أكثر القراء ينقسم إلى أربعة أقسام: تامّ مختار وكاف جائز وحسن مفهوم وقبيح متروك. البرهان للزركشي ج 1 ص 427.

(66) مقدمة طيبة النشر لابن الجزري.

 


الفصل السابع:


 

الوقف التام

 تعريفه:

حسب مطالعتي إن أول من عرّف الوقف التام من العلماء القدماء بصورة نصّ هو ابن الأنباري (ت: 328هـ) حيث يقول: « الوقف التام هو الذي يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده ولا يكون بعده ما يتعلق به». (67)

ومنهم أيضاً أبو عمرو الداني (ت: 444هـ) وهو من العلماء المتقدمين: اعلم ان الوقف التامّ هو الذي يحسن القطع (الوقف) عليه والابتداء بما بعده لأنه لا يتعلق بشي‏ءٍ ممّا بعده. (68)

وأشمل تعريف للوقف التامّ من العلماء المتأخّرين قولهم: الوقف التام هو الوقف على كلمة لم يتعلق ما بعدها بها ولا بما قبلها لا من حيث اللفظ (69) ولا من حيث المعنى. (70)

وتحته نوعان:

النوع الأول: « هو الذي يلزم الوقف عليه والابتداء بما بعده لأنه لو وصل بما بعده لأوهم وصله معنى غير المعنى المراد وهذا هو الذي عبّر عنه السجاوندي باللازم ». (71)

وعبّر عنه بعضهم بالواجب ويطلق على هذا النوع (التامّ المقيّد) أي المقيد باللازم أو الواجب ». (72)

ويكون في غضون الآية أو في آخرها وأمثلته كثيرة، من أمثلته في وسط الآي « الوقف على كلمة ﴿ قَوْلُهُمْ ﴾ من قوله تعالى: ﴿ فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ (يس/76) لازم لأنه لو وصل بما بعده لأوهم أن جملة ﴿ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ من مقول الكافرين وهو ليس كذلك، وكذا قوله تعالى: ﴿ إنّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ (الأنعام/36) فالوقف على ﴿يسمعون﴾ لازم لأنه لو وصل بما بعده لأوهم أنَّ الموتى من قوله تعالى: ﴿ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ﴾ يشتركون مع الأحياء في الاستجابة ». (73)

ومن أمثلته في آخر الآي « الوقف على كلمة ﴿ النَّارِ ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أصحاب النَّارِ ﴾ (غافر/6) فالوقف على هذه الكلمة لازم لأن وصلها بقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ﴾ (غافر/7) قد يوهم السامع أن الاسم الموصول نعت لأصحاب النار وليس الأمر كذلك بل الاسم الموصول مبتدأ وجملته استئنافية سبقت لبيان أحوال حملة العرش من الملائكة المقربين ». (74)

حكمه: يلزم الوقف عليه ويلزم الابتداء بما بعده لجودة التلاوة وإحكام الأداء فالقراءة لا تكون جيّدة إلاّ إذا روعيت فيها هذه الوقوف. (75)

علامته: وضع ميمٍ أفقية « م » على الكلمة التي يلزم الوقف عليها. (76)

النوع الثاني: هو الذي يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء بما بعده ومعنى هذا أنّه يجوز وصله بما بعده طالما أن وصله لا يغيّر المعنى الذي أراده الله تعالى ويسمّيه بعضهم بالتام المطلق، وهي غالباً في أواخر السور وأواخر الآيات وانقضاء القصص ونهاية الكلام على حكم معين وقد يكون في وسط الآية وفي أوائلها.

ومن أمثلته « الوقف على ﴿ مُّبِينٍ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ ... بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ (لقمان/11) فالوقف على هذه الكلمة، وهي رأس آية تامّ لأنَّ ما بعدها لا تعلّق له بها ولا بما قبلها من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، أما عدم تعلّقه لفظاً، فلأن الواو في الآية 12 ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ... ﴾ للاستئناف لا للعطف ولا للحال، فالجملة بعدها مستأنفة لا ارتباط لها بما قبلها لفظاً. وأمّا عدم تعلقه معنىً فلأنَّ الآيات السابقة تهدف إلى لفت أنظار العباد وتوجيه قلوبهم إلى ما نصبه الحق تبارك وتعالى في كونه من آيات كمال قدرته ودلائل باهر حكمته من خلق السموات بغير عمد يرونها، وإلقاء الجبال الثوابت في الأرض حتى لا تضطرب بمن عليها، ومن بثِّ جميع أصناف الدوابّ فيها ومن إنزال الماء من السماء إلى الأرض لإنبات النبات الذي يسرّ النواظر ويشرح الخواطر ولذلك تحدّى المشركين بقوله: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ... ﴾ ثم تختم الآيات بالحكم على الظالمين المشركين بأنهم في بُعدٍ عن الحقّ والصواب. بعد ذلك تنتقل الآيات من الآية الثانية عشرة إلى قصة لقمان، وسرد الوصايا والنصائح المخلصة التي عرضها على ابنه وأمره بتنفيذها، فمن الواضح أنه لا ارتباط في المعنى الخاص بين الآيات المتحدثة عن وصايا لقمان (ع) والآيات التي قبلها، فوضَّح بهذا انتفاء التعلقَيْن اللفظي والمعنوي بين قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ... ﴾ وبين ما قبلها فحينئذ يكون الوقف على ﴿ مُّبِينٍ ﴾ تام ». (77)

« وسمّي تامّاً لتمام المعنى وكماله عند الكلمة الموقوف عليها وعدم احتياجها لما بعدها لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، ولا يتحتم الوقف على الكلمة التي يعتبر الوقف عليها تاماً من النوع الثاني أي (المطلق) بل يجوز وصلها بما بعدها نظراً إلى أنّه لا يترتب على وصلها بما بعدها خلل في المعنى أو إيهام خلاف المراد، وإن كان الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها، باعتبار تمام الكلام وعدم تعلّقه بما بعده لفظاً ومعنى ». (78)

ومن أمثلته في ثنايا الآي « هو الوقف على ﴿ هَذَا ذِكْرٌ ... ﴾ (سورة ص/49) جملة من مسند إليه ومسند قصد بها الفصل بين ما قبلها وما بعدها، فيؤتى بها للانتقال من قصة إلى قصة ومن غرض إلى غرض، فبعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة طرفاً من قصص المرسلين السابقين وما لقوا من أنواع البلاء وصنوف الابتلاء تثبيتاً لقلب نبيه محمد (ص) أراد أن يذكر في الآيات الآتية ما أعدّه لعباده المتقين من حسن المرجع وجزيل المثوبة والنعيم المقيم، وما أعدّه للطاغين من سوء المنقلب والعذاب المهين فقال: ﴿ هَذَا ذِكْرٌ ﴾ فصلاً بين المقامين وتمييزاً بين المقصدين ففي الإتيان بهذه الجملة إيذان بأن نوعاً من الكلام قد تمَّ وسيشرع في بيان نوع آخر منه، وعلى هذا تكون الواو في قوله تعالى: ﴿ ... وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ للاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة مسوقة لبيان مآل المتقين والطاغين بعد بيان أحوال المرسلين المتقدمين، إذ ليس ثَمَّ ارتباط لفظي ولا معنوي بين الآيات السابقة لقوله تعالى: ﴿هذا ذكر﴾ والآيات اللاحقة له فحينئذ يكون الوقف على ﴿ هَذَا ذِكْرٌ ﴾ تاماً وهو في وسط الآية ». (79)

ومن أمثلته في أول الآية، الوقف على كلمة ﴿ وَبِاللَّيْل ﴾ من قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْل ِ... ﴾ (الصافات/137 و 138) وقف تامّ وهو تمام الكلام لأن ما بعده لا يتعلّق به أو بما قبله لا لفظاً ولا معنىً فالوقف على ﴿ مُّصْبِحِينَ ﴾ ليس تاماً فلا يتم الكلام إلاّ بالوقف على ﴿ وَبِاللَّيْل ﴾ وجملة ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ (الصافات/38) جملة استفهامية لا ارتباط لها بما قبلها لا لفظاً ولا معنىً.

وحكم هذا النوع من التامّ: يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء بما بعده، والوقف عليه أولى من الوصل، وعلامته: وضع كلمة « قلى » على الكلمة التي يحسن الوقف عليها وهي منحوتة من عبارة « الوقف أولى من الوصل ». (80)

 ثلاث فوائد حول الوقف التامّ:

1- قد يكون الوقف تاماً على تفسير وإعراب وقد يكون غير تام على آخر نحو قوله تعالى ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ﴾ (آل عمران/7) فالوقف على لفظ الجلالة تامّ على أن ما بعده مستأنف وهو قول بعض الصحابة وبعض القرّاء وأئمة العربية، فإنهم قالوا: الراسخون في العلم لا يعلمون التأويل لكن يقولون آمنا به، وهو غير تام عند آخرين والتمام عندهم الوقف على ﴿ الْعِلْمِ ﴾ من قوله تعالى: ﴿ ... وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... ﴾ فهو عندهم معطوف على لفظ الجلالة وهو اختيار ابن الحاجب (ت: 646هـ) وغيره. (81)

ومن أمثلته الوقف على ﴿ وَلَدٌ ﴾ من قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ﴾ (الزخرف/81) وقف تامّ إن جعلت ﴿ إِن ﴾ نافية بمعنى « ما »، أي ما كان للرحمن ولد، وان جعلت ﴿ إِن ﴾ شرطية كان الوقف على ﴿ الْعَابِدِينَ ﴾ والمعنى: إن كنتم تزعمون أنّ للرحمن ولداً فأنا أول العابدين، أي من عَبَدَ الله واعترف أنه إله. (82)

2- قد يكون الوقف تامّاً على قراءة وغير تامّ على أخرى نحو قوله تعالى: ﴿ ... مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناًً ... ﴾ (البقرة/125) تامّ على قراءة من كسر خاء ﴿ وَاتَّخِذُواْ ﴾ بعده وكافٍ على قراءة من فتحها، ونحوه قوله تعالى: ﴿ ... إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ (ابراهيم/1) تامّ على قراءة من رفع لفظ الجلالة بعدها وحسنٌ على قراءة من خفض. (83)

3- قد يتفاضل التامّ في التمام نحو: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ و ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ كلاهما تام إلاّ أنّ الأول أتمّ من الثاني لاشتراك الثاني فيما بعده في معنى الخطاب بخلاف الأول. (84)
ونحو: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ ﴾ و ﴿ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ كلاهما تام إلاّ أن الثاني أتمّ من الأول لأنه آخر القصة. (85)

 



(67) إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري ج 1 ص 149.

(68) المكتفی للداني ص 140.

(69) التعلق اللفظي: هو أن يكون ما بعد الكلمة الموقوفة عليها متعلقاً بما قبله من جهة الإعراب كأن يكون صفة للمتقدم أو مضافاً إليه أو معطوفاً أو خبراً له أو مفعولاً أو نحو ذلك.

(70) التعلق المعنوي: هو أن يكون ما بعد الكلمة الموقوفة عليها متعلقاً بما قبله من جهة المعني فقط دون شيء من متعلقات الإعراب كالإخبار عن حال المؤمنين أول البقرة فإنه لا يتم إلاّ عند قوله تعالی: ﴿ ... الْمُفْلِحُونَ ﴾ (البقرة /5) والإخبار عن أحوال الكافرين لا يتم إلاّ عند قوله ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (البقرة/7) والإخبار عن أحوال المنافقين لا يتم إلاّ عند قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (البقرة /20) حيث لم يبق لما بعده تعلق بما قبله لا لفظاً ولا معنی. القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 199 بتصرف.

(71) معالم الاهتداء للحصري ص 20.

(72) ولا يختص اللزوم بالتام فقط بل نجده في الوقف الكافي الحسن أيضاً كما سيأتي في باب الفوائد من كل نوع أمثلته ولكن اللازم في التام أكثر من غيره.

(73) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 225.

(74) ن.م. ص 225.

(75) معالم الاهتداء للحصري ص 19.

(76) معالم الاهتداء للحصري ص 19 بتصرف.

(77) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 225.

(78) معالم الاهتداء للحصري ص 20 و 21.

(79) ن.م. ص 22.

(80) ن.م.ص 26.

(81) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 227.

(82) القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 200.

(83) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/227.

(84) ن. م. ايضاً.

(85) منار الهدی للأشموني ص 326.

 


الفصل الثامن:


 

الوقف الكافي: تعريفه حكمه وعلامته

تعريفه:

قال أبو عمرو الداني: اعلم أن الوقف الكافي هو الذي يحسن الوقف عليه أيضاً والابتداء بما بعده غير أنّ الذي بعده متعلق به من جهة المعنى دون اللفظ. (86)

وتعريف المتأخرين له: هو الوقف على كلمة لم يتعلق ما بعدها بها ولا بما قبلها من حيث اللفظ، وتعلّق بها أو بما قبلها من حيث المعنى. (87)

وأكثر ما يكون هذا الوقف في رؤوس الآي ويكثر في أثنائها، « ومن أمثلته في رؤوس الآي الوقف على كلمة ﴿ يَعْقِلُونَ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أكثرهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ (الحجرات /4)، وإنما كان الوقف هنا كافياً لأن الآية بعدها وهي: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إليهمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لا تعلّق لها بما قبلها من حيث اللفظ باعتبارها جملة مستأنفة ولها تعلّق بما قبلها من حيث المعنى لأن الآيات كلها مسوقة لبيان مقامه (ص) الرفيع ومكانته السامية عند الله تعالى ... فنظراً لوثيق الصلة بين معاني الآيات كان الوقف على ﴿ يَعْقِلُونَ ﴾ كافياً ». (88)

ومن أمثلته في وسط الآي: الوقف على ﴿ نُفُوسِكُمْ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ... ﴾ (الإسراء/25) فالوقف على ﴿ نُفُوسِكُمْ ﴾ كاف لأن قوله تعالى بعدها: ﴿ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فإنه كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الجملة قبلها، فإنه تعالى لما أمر بالبر بالوالدين والإحسان إليهما وحذر من عقوقهما كان لسائل أن يسأل إذا بدرت من الإنسان بادرة أو وقعت منه زلّة فهل ذلك من العقوق؟ فأجيب بقوله تعالى: ﴿ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فإنه كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ أي إن تكونوا صادقين في البر بوالديكم وتوقيرهما والحنوّ عليهما والقيام بحقوقهما والنأي عن عقوقهما ثم بدرت منكم جفوة لهما أو زلّة في حقّهما واستغفرتم الله ممّا فرط منكم ورجعتم إلى والديكم تائبين طائعين فإنّ الله تعالى من رحمته بعباده يقبل توبتكم ويغفر لكم ما بدر منكم.

وبهذا البيان يتضح أنّ جملة ﴿ ... إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ ... ﴾ مرتبطة بما قبلها معنى لا لفظاً فحينئذٍ يكون الوقف على ﴿ نُفُوسِكُمْ ﴾ كافياً. (89)

حكمه: يُحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده ولا يتعيّن الوقف عليه بل يجوز وصلها بما بعدها كالوقف التامّ المطلق غير أنّ الوقف على التامّ يكون أكثر حسناً من الوقف عليه وسمّي كافياً للاكتفاء به عما بعده واستغناءه عنه لعدم تعلقه به من جهة اللفظ وإن تعلق به من جهة المعنى. وهو أكثر الوقوف الجائزة وروداً في القرآن الكريم. (90)

وعلامته: وضع حرف الجيم هكذا « ج » على الكلمة الموقوف عليها كما في الآية الكريمة ﴿ ... لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ... ﴾ (المائدة/95) أو وضع كلمة « صلى » على الكلمة الموقوف عليها كما في قوله تعالى: ﴿ وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي ... ﴾ (المائدة /110) وكلمة « صلى » منحوتة من عبارة (الوصل أولى من الوقف) وغير الأولى الجائز فعلم أنه كما يجوز وصله يجوز الوقف عليه والابتداء بما بعده. (91)

أربع فوائد حول الوقف الكافي:

1- قد يتفاضل في الكفاية كتفاضل التامّ نحو قوله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ كافٍ ﴿ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا ﴾ أكفى منه ﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ (البقرة/10) أكفى منهما. وأكثر ما يكون التفاضل في رؤوس الآي نحو: ﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ﴾ كافٍ ﴿ وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة/113) أكفى منه. ونحو: ﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ كافٍ ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ (البقرة/93) أكفى منه (92)، ونحو: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾ كافٍ ﴿ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ (البقرة/127) أكفى منه. (93)

2- قد يكون الوقف كافياً على تفسير أو إعراب ويكون غير كافٍ على آخر نحو: ﴿ ... يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر َ... ﴾ (البقرة/102) كافٍ إذا جعلت ﴿ مَا ﴾ بعده نافية فإن جعلت موصولة كان حسنا فلا يبتدأ بها، ونحو: ﴿ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ (البقرة/4) كافٍ على أن يكون ما بعده مبتدأ خبره ﴿ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ (آية /5) وحسن على أن يكون ما بعده خبر ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب ِ﴾ أو خبر ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْك َ﴾. (94)

3- قد يكون الوقف كافياً على قراءة وغير كافٍ على أخرى نحو قوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ (البقرة/139) كافٍ على قراءة من قرأ بعدها ﴿ أَمْ تَقُولُونَ ... ﴾ (آية/140) بالغيبة، وجائز على قراءة من قرأ بالخطاب. ونحو قوله عزّ وجلّ: ﴿ ... يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ ... ﴾ كافٍ على قراءة من رفع ﴿ ... فَيَغْفِرُ ويُعَذِّبُ ... ﴾ وحسنٌ على قراءة من جزمهما. ونحو قوله تعالى: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ ... ﴾ (آل عمران/171) كافٍ على قراءة من كسر همزة ﴿ وَأَنَّ ﴾ بعدها وحسن على قراءة الفتح. (95)

4- قد يتأكد الوقف على الكافي لبيان المعنى المقصود كالوقف التامّ اللازم فمن ذلك الوقف على قوله: ﴿ ... وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ (البقرة/8) والابتداء بقوله ﴿ يُخَادِعُونَ ... ﴾ لأن قوله: ﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ منكّر والجملة بعد المنكّر تتعلق به فلو وصل صار التقدير: وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصف عن الموصوف فينتقض المعنى، لأنَّ المراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم. ومنه قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ... ﴾ (البقرة/212) والابتداء بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ ... ﴾ وهو مبتدأ و ﴿ فَوْقَهُمْ ﴾ خبره ولو وصل صار ظرفاً لـ ﴿ وَيَسْخَرُونَ ﴾ أو حالاً لفاعل يسخر وقبحه ظاهر. ومنه قوله تعالى: ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ﴾ (المائدة/73) والابتداء بقوله: ﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ ... ﴾ لأنه يوهم السامع أنّه من قول النصارى الذين يقولون بالتثليث وليس كذلك. (96)

 



(86) المكتفی للداني ص 143.

(87) معالم الاهتداء للحصري ص 28.

(88) ن.م. أيضاً.

(89) معالم الاهتداء للحصري ص 29.

(90) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 228.

(91) ن. م ص 229.

(92) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج1 ص 228.

(93) ن.م. أيضاً.

(94) ن.م أيضاً.

(95) ن.م أيضاً.

(96) القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 205.

 


الفصل التاسع:


 

الوقف الحسن: تعريفه وحكمه

تعريفه:

قال ابن الأنباري: الوقف الحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسنُ الابتداء بما بعده. (97)

وقال أبو عمرو الداني: اعلم أنَّ الوقف الحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به من جهة اللفظ والمعنى جميع. (98)

وتعريف المتأخرين له: هو الوقف على كلمة تعلّق ما بعدها بها أو بما قبلها لفظاً بشرط تمام الكلام عند تلك الكلمة. (99)

وينبغي أن يعلم أنّه يلزم من التعلّق في اللفظ التعلق في المعنى ولا عكس، أي لا يلزم من التعلّق في المعنى التعلّق في اللفظ، والمراد بالتعلّق اللفظي، التعلّق من جهة الإعراب، كأن يكون ما بعد اللفظ الذي يوقف شديد التعلق باللفظ أو بما قبله أو صفة له أو حالاً منه أو معطوفاً عليه أو مستثنى منه كما مرّ بنا، فهو رأس آية أو خلال آية.

فإن كان خلال آية، يُحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، فيستحب لمن وقف عليه أن يبتدئ من الكلمة الموقوف عليها، فإن لم يفعل فلا إثم عليه، وقيل الابتداء به جائز.

وأمّا إن كان رأس آية نحو قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ و﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ فوقفه حسنٌ أيضاً ويحسن الابتداء بما بعده لكون الموقوف عليه من رؤوس الآي، والوقف على رؤوس الآي سنّة جاء عن النبي محمد (ص) في حديث أم سلمة (ت: 62) (رض): إنَّ النبي (ص) كان إذا قرأ قَطَّعَ قراءته آية آية يقول ﴿ بسم اللهِ الرحمن الرحيم ﴾ ثم يقف ثم يقول ﴿ الْحَمْدُ ِللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ثم يقف ثم يقول ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ثم يقف ثم يقول: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (100). وروى هذا الحديث أبو داود (ت: 274) ساكتاً عليه والترمذي (ت: 279هـ) وأحمد (ت: 241هـ) وأبو عبيدة وغيرهم وهو حديث حسن ومسنده صحيح. (101)

لقد استدل بعض العلماء وصِنفٌ من القرّاء بهذا الحديث على جواز الوقف في رؤوس الآي، وإن تعلق ما بعده به من جهة اللفظ والمعنى وسيكون لنا بحث نبيّن فيه آراء العلماء حول الوقف على رؤوس الآي.

ومن أمثلة الوقف الحسن الوقف على كلمة ﴿ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ ... وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ (الروم/4)، فإنّ قوله تعالى ﴿ بِنَصْرِ اللهِ ... ﴾ شديد التعلق بقوله ﴿ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، هذا مثال لشدّة التعلق، ومنه قوله تعالى: ﴿ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ... ﴾ (الحديد/12) فإنّ جملة ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ صفة لجنّات. ومنه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ... ﴾ (الأحزاب/45) فإنّ قوله تعالى: ﴿ شَاهِداً ﴾ حال من الضمير المفعول في ﴿ أَرْسَلْنَاكَ ﴾، ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ... ﴾ (الروم/11) فإنّ قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ معطوف على ﴿ يَبْدَأُ ﴾، ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... ﴾ (الحجر/42) فإن قوله تعالى: ﴿ ... إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ مستثنى من الضمير المجرور في ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾. (102)

وسمّي هذا الوقف حسناً لأنّه يفهم معنى يحسن السكوت عليه. (103)

وحكمه: يحسن الوقف عليه ولكن لا يحسن الابتداء بما بعده نظراً للتعلّق اللفظي الإعرابي، فإذا وقف القارئ على لفظ من هذه الألفاظ أو ما ماثلها استحبّ له أن يصله بما بعده، وإلاّ كان ابتداؤه قبيحاً إذ أن الابتداء بما يتعلّق بما قبله لفظاً، قبيح اللهم إلاّ إذا كان اللفظ الذي يوقف عليه رأس آية، فإنه يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده مهما كان بينهما من تعلّق لفظي ومعنوي. (104)

أربع فوائد حول الوقف الحسن:

1- قد يكون الوقف حسناً على تقدير وكافياً على آخر وتامّاً على غيرهما نحو قوله تعالى: ﴿ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ إذ يجوز أن يكون حسناً إذا جعل ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ نعتاً ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ وأن يكون كافياً إذا جعل ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... ﴾ رفعاً بمعنى هم الذين يؤمنون بالغيب، أو نصباً بتقدير أعني ﴿ الَّذِينَ ... ﴾ وأن يكون تاماً إذا جعل ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... ﴾ مبتدأ وخبره ﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ ﴾. (105)

2- قد يكون الوقف حسناً والابتداء بما بعده قبيحاً نحو قوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ ﴾، فالوقف حسن والابتداء بـ ﴿ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللهِ رَبِّكُمْ ... ﴾ قبيح لفساد المعنى، إذ يَصيرُ تحذيراً عن الإيمان بالله تعالى. (106)

3- قد يتأكّد الوقف على الحسن لبيان المعنى المقصود كالوقف على قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ﴾ (البقرة /246) والابتداء بقوله ﴿ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ... ﴾ لئلا يوهم أنَّ العامل فيه ﴿ أَلَمْ تَرَ ... ﴾ وقوله: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِِّ ﴾ (المائدة/27) والابتداء بقوله: ﴿ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ، ونحو قوله: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ﴾ (يونس/71) والابتداء بقوله: ﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ... ﴾ وقوله تعالى: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ (الحجر/51) والابتداء بقوله: ﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ ... ﴾ كلّ ذلك وما شابهه الزم السجاوندي (ت: 560هـ) بالوقف عليه لئلا يوهم أن العامل في ﴿ إِذْ ﴾ الفعل المتقدم. وقد ذكروا الوقف على قوله تعالى: ﴿ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ (الفتح/9) والابتداء بقوله ﴿ وَتُسَبِّحُوهُ ﴾ لئلا يوهم اشتراك عود الضمير على شي‏ء واحد فإنّ الضمير في الأوليَيْن عائد على النبي (ص) وفي الآخر عائد على الله عزّ وجلّ، ولذلك اختار البعض الوقف على ﴿ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ ﴾ (يوسف/27) والابتداء بـ ﴿ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ إشعاراً بأن يوسف (ع) من الصادقين في دعواه. (107)

4- من العلماء (108) من يعتقد أنه إذا كان ما قبل الكلمة الموقوف عليها كلاماً يفيد فائدة تامّة وما بعدها جملة متعلّقة بها أو بما قبلها تعلقاً معنوياً، ومن جهة اللفظ لم يتعلق بما قبله على الراجح يعتبر (وقفاً حسناً) وإن تعلّق بما قبله على الراجح يسمّونه (وقفاً صالحاً) وإن استوى التعلّق ولم يكن فيه رجحان يسمّونه (وقفاً جائزاً) بمعنى أنَّ كلاً من الوقف والوصل جائز من غير رجحان لأحدهما على الآخر.

فمثال الأول يعني الوقف الحسن، هو الوقف على كلمة ﴿ وَبَرْقٌ ﴾ من قوله تعالى: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ .... ﴾ (البقرة/19) فجملة ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ .... ﴾ فيها ثلاثة أَوجهٍ من الإعراب:

الوجه الأول: أن تكون مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الجملة السابقة، كأن سائلاً قال: فما يصنعون إذا أصابتهم تلك ‏الشدّة؟ فأجيب بقوله تعالى ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ .... ﴾ .

الوجه الثاني: أنّ لها موضعاً من الإعراب وهو الجرّ لأنها في موضع الصفة لـ « ذوي » المحذوف كأنه قيل « جاعلين ».

الوجه الثالث: أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في ﴿ فِيهِ ﴾، والراجع على ذي الحال محذوف نابَتْ الألف واللام عنه والتقدير من صواعقه. (109)

نجد أن الراجح عند أكثر المحققين من المفسرين في إعراب تلك الجملة هو الوجه الأول فلا يتعين الوقف على كلمة ﴿ وَبَرْقٌ ﴾ بل يجوز الوقف عليها وهو أولى، نظراً للوجه الأول الراجح ويجوز وصلها بما بعدها نظراً للوجه الثاني والثالث المرجوحَيْن.

ومثال الثاني (الوقف الصالح) هو الوقف على كلمة ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ في قوله تعالى ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ... ﴾ (البقرة/93) فجملة ﴿ وَأُشْرِبُوا ... ﴾ فيها وجهان من الإعراب:

الوجه الأول: أن تكون لها محل من الإعراب فيحتمل:

أ: أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل ﴿ قَالُواْ ﴾ بتقدير « قد » عند البصريين ومن غير تقديرها عند الكوفيين.

ب: أن تكون معطوفة على جملة ﴿ قَالُواْ ﴾.

الوجه الثاني: أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب جيء بها لمجرد الإخبار بذلك ولكن هذا الوجه ضعّفه النحوي الكبير أبو البقاء العكبري، وعلّل ضعفه بأن قوله تعالى: ﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكُمْ ... ﴾ جواب لقولهم ﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ فيحسن أن لا يكون بينهما أجنبي، فحينئذ يحسن وصل ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ بما بعدها نظراً للاحتمالَيْن الأوليَيْن في الوجه الأول ويجوز الوقف عليها نظراً لوجه الاستئناف وإن كان ضعيفاً.

ومثال الثالث ﴿الوقف الجائز﴾ هو الوقف على كلمة ﴿ الْعَذَابِ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ (البقرة/49) وذلك أن جملة ﴿ يُذَبِّحُونَ ... ﴾ بعده، يحتمل فيها:

أ: أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾.

ب: أن تكون استئنافية لا موضع لها من الإعراب، وقعت جواباً عن سؤال نشأ في جملة ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ كأن سائلاً قال: ما الذي ساموهم إيّاه؟ فأجيب بقوله تعالى ﴿ يُذَبِّحُونَ ﴾ ولا مرجّح لأحد هذَيْن الوجهَيْن على الآخر بل هما سواء.

فالوجه المشترك بين الوقف الحسن والصالح والجائز عندهم هو أنّ الكلام قبلها أفاد فائدة يحسن السكوت عليه، وما بعدها جملة متعلقة بما قبلها في المعنى وأما في اللفظ ففي (الحسن) لا تعلق على الراجح وأمّا في (الصالح) فالتعلّق اللفظي راجح وأمّا في (الجائز) فيستوي الوجهان. (110)

 



(97) إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/150.

(98) المكتفی للداني ص 145.

(99) القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 198.

(100) وسائل الشيعة للحر العاملي (ت:1104 هـ) ج4 ص 865 ط. المكتبة الإسلامية الإيرانية طهران سنة 1367 هـ.ش.

(101) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج1 ص 226.

(102) أحكام القرآن للحصري ص 204.

(103) القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 207.

(104) أحكام القراءة للحصري ص 205.

(105) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج1 ص 229.

(106) ن. م. ص 230.

(107) ن. م. ص 333و 334.

(108) ابن النحاس في كتابه القطع والائتناف والأنصاري في كتابه تلخيص المرشد في الوقف والابتداء والأشموني في كتابه منار الهدی.

(109) إملاء ما من به الرحمن للعكبري 1/22.

(110) معالم الاهتداء للحصري - بتصرف ص 31 -38.

 


الفصل العاشر:


 

الوقف القبيح: تعريفه أنواعه وحكمه

تعريفه:

قال أبو عمرو الداني: اعلم أنَّ الوقف القبيح هو الذي لا يعرف المراد منه. (111)

وعبّر الأشموني عنه: هو أن يتصل ما بعده بما قبله لفظاً ومعنىً. (112)

وتعريف المتأخرين له: هو الوقف على لفظ غير مفيد لعدم تمام الكلام، وقد تعلّق ما بعده بما قبله لفظاً ومعنى (113) وتحته نوعان:

النوع الأول: هو الوقف على لفظ لا يفهم السامع منه معنى، ولا يستفيد منه فائدة يحسن سكوته عليها لشدة تعلّقه بما بعده من جهتي اللفظ والمعنى معاً.

نحو: الوقف على المبتدأ والوقف على الرافع دون المرفوع، وعلى المضاف دون المضاف إليه، وعلى الاسم الموصول دون صلته، والوقف على فعل الشرط والبدء بجوابه، وعلى المقسم به والابتداء بجواب القسم، والوقف على المنعوت، والبدء بالنعت، وعلى المعطوف عليه والبدء بالمعطوف، وعلى المبدل منه والابتداء بالبدل، وعلى المؤكَّد والبدء بالمؤكِّد، وعلى عامل الحال أو صاحبها والابتداء بالحال، وعلى المميّز والبدء بالتمييز، وعلى المستثنى منه والبدء بالمستثنى، وعلى فعل الأمر والبدء بجوابه، وما إلى ذلك من أنواع الوقف التي لا تتِمّ بها جملة ولا يفهم منها معنى، فلا يسوغ الوقف عليها والابتداء بما بعده (114) إلاّ لضرورة كانقطاع النّفس أو عرض له شي‏ء من الأعذار التي لا يمكن بها أن يصل القارئ إلى ما بعده، أو كان الوقف لامتحان أو تعليم فحينئذ يجوز له الوقف على أي كلمة كانت وإن لم يتمّ المعنى لكن يستحب له، وقيل يجب أن يبتدئ من الكلمة التي قبل الموقوف عليها أو بها على حسب ما يقتضيه المعنى من الحسن، لأنّ الوقف قد أبيح للضرورة فلمّا اندفعت لم يبقَ مانع من الابتداء بما قبله. (115)

ولهذا أشار ابن الجزري في مقدمته: (116)

 

 وَغيرَ ما تمَّ قبيح وَلَه

يوقف مضطراً ويبدأ قبله

 

النوع الثاني: الوقف الذي يفضي إلى فساد المعنى وتغيير الحكم الشرعي كالوقف على كلمة ﴿ وَلأَبَوَيْهِ ﴾، كما في الآية الكريمة: ﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ ... ﴾ (النساء /11) فالوقف عليها يفيد أحد أمرين:

إمّا اشتراك البنت في النصف مع أبَوي الميّت وإمّا أخذ الأبوين النصف أيضاً كالبنت، وكلا الأمرين باطل فإن الحكم الشرعي أنّ البنت تأخذ نصف التركة إذا انفردت كما قال تعالى: ﴿ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ﴾ وإنَّ لكل واحد من أبوي الميت السدس إذا وُجِدَ للميّت ولدٌ ذكر كان أم أنثى، قال تعالى: ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ والولد يتناول الذكر والأنثى. وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُس ... ﴾ مستأنفاً لبيان ميراث الأصول بعد بيان ميراث الفروع، وحينئذ فالوقف إنّما يكون على ﴿ فَلَهَا النِّصْفُ ﴾ ثم يبتدأ بقوله ﴿ وَلأَبَوَيْهِ ... ﴾.

ونحوه الوقف على ﴿ وَالْمَوْتَى ﴾ في قوله تعالى: ﴿ إنّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى ... ﴾ (الأنعام/36) فإن الوقف عليه يفيد أن الموتى يستجيبون أيضاً مع الذين يسمعون وليس المعنى كذلك، بل المعنى أنَّ موتى القلوب وهم المنكرون للبعث الجاحدون لليوم الآخر وما فيه من نعيم وعذاب لا يجيبون داعي الإيمان، ولا يسمعون له سماع انقياد وقبول، وسيبعثهم الله يوم القيامة ثم يجازيهم على كفرهم جزاءً وفاقاً، وعلى هذا يتعين الوقف على ﴿ يَسْمَعُونَ ﴾ ثم يبتدأ بقوله ﴿ وَالْمَوْتَى ... ﴾ لأنَّ الواو فيه للاستئناف والجملة بعدها مستأنفة لبيان حال الكفار وجزائهم في الآخرة.

ومثل ذلك الوقف على كلمة ﴿ لَهُ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ ﴾ (الرعد/18)، فالوقف على هذه الكلمة يترتب عليه اشتراك الذين لم يستجيبوا لله ولم يذعنوا لأحكامه مع الذين استجابوا له تعالى وأذعنوا لأوامره ونواهيه في الجزاء، ولا شك أن هذا الاشتراك باطل لقوله تعالى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ (سورة ص /28) و ﴿ لا يَسْتَوِي أصحاب النَّارِ وَأصحاب الْجَنَّةِ أصحاب الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ (الحشر/20).

ومثال ذلك أيضاً الوقف على ﴿ وَإِن يَعُودُواْ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ ... ﴾ (الأنفال/38)، فالوقف عليه يفيد تحقّق الغفران للكافرين سواء انتهوا عن كفرهم ورجعوا إلى ربّهم أم عادوا إلى الكفر ورجعوا إلى التمرّد والعناد ولا يخفى بطلان هذا المعنى.

ونحوه: الوقف على ﴿ وَّإِن تَوَلَّوْا ﴾ في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ... ﴾ (آل عمران /20) فإن هذا يترتب عليه التسوية في الاهتداء بين من أسلم ومن تولى عنه وهذا المعنى بيّن الفساد.

ونحوه: الوقف على ﴿ كَفَرْتُمْ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ﴾ (إبراهيم/7) فإنَّ الوقف عليه يوهم أنَّ وعد الله تعالى بزيادة النعم للكافرين عامّ سواء شكروا الله تعالى على نعمه فآمنوا به وبرسله أم استمرّوا على كفرهم وضلالهم وهذا واضح البطلان.

فينبغي للقارئ الكريم أن يقف على كلمة ﴿ الْحُسْنَى ﴾ في سورة الرعد، وعلى كلمة ﴿ سَلَفَ ﴾ في سورة الأنفال، وعلى ﴿ اهْتَدَوْا ﴾ في آل عمران، وعلى ﴿ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ في سورة إبراهيم تقريراً للحقائق ودفعاً لتوهم المعاني الفاسدة. (117)

النوع الثالث: الوقف الذي يوهم اتّصاف الله بما يتقدّس عنه ذاته وتتبرّأُ منه صفاته ويفهم مستحيلاً في حقّه تعالى كالوقف على قوله تعالى ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ ... ﴾ (البقرة/258) فهذا الوقف يوهم اشتراك الله مع الكافر في البهت وهو الانقطاع والحيرة وهو تعالى منزّه عن ذلك فالوقف هو على ﴿ كَفَرَ ﴾ أو وصله بآخر الآية.

ونحوه الوقف على قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ ... ﴾ (النحل/60)، فهو يفيد أنَّ لله مثل السوء وهو سبحانه له المثل الأعلى، ومثل ما تقدم في القبح الوقف على ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي ﴾ (القصص/50 وغافر/28)، فهذا الوقف يدلّ على أنَّ الله لا يهدي أحداً لأنّ حذف المعمول يؤذن بالعموم وهذا معنى فاسد، وذلك أنّ المراد بالهداية في الآيتَيْن المذكورتَيْن الهداية الخاصة، وهي توفيق القلب وشرح الصدر بالإيمان الذي ينبعث منه العمل الصالح، وهي بهذا المعنى منحة ربّانيّة يهبها الله عزّ وجلّ من يشاء من عباده كما قال تعالى لنبيه محمد (ص): ﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ (القصص/56).

وقد مضت سنّته تعالى مع عباده أنّه لا يمنح هذه الهداية الخاصة من ظلم نفسه وآثر طريق الغيّ على طريق الهدى، وأسرف في العناد والكذب كما قال تعالى في الآية الأولى: ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ (القصص/50) وفي الآية الثانية: ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ (غافر/28) فيجب على القارئ أن يقف على ﴿ السَّوْءِ ﴾ في آية النحل أو يصل إلى ﴿ الأَعْلَى ﴾ أو إلى آخر الآية وأن يصل ﴿ يَهْدِي ﴾ بما بعده من قوله تعالى ﴿ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ أو ﴿ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ في آيتي سورة القصص وغافر، حتى لا يوقع السامع في المعنى الفاسد والوهم الباطل، فإن لم يفعل أَثِم ووقع في الخطأ الفاحش والخطل البغيض، فإن تعمّد الوقف على ما تقدم وما شابهه وقصد المعنى الفاسد خرج من ربقة الإسلام والعياذ بالله تعالى. (118)

ومن هذا النوع من القبيح أيضاً الوقف على الأسماء التي تبيّن نعوتُها حقائقها نحو قوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴾ (الماعون /4) لأنّ المصلين اسم ممدوح محمود لا يليق به ويلٌ، وإنّما خرج من جملة الممدوحين بنعته المتصل به وهو قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾. (119)

وأقبح من هذا وأبشع الوقف على المنفي الذي يأتي بعد حرف الإيجاب ﴿ لا إِلَهَ ﴾ و ﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ ﴾ من قوله ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾ (الصافات/35) و ﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللهُ ﴾ (آل عمران/62) و﴿ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ ﴾ وشبهه ولو وقف واقف قبل حرف الإيجاب من غير عارض لكان ذنباً عظيماً، لأنّ المنفي في ذلك كلُّ ما عُبِدَ غيرَ الله ومثله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ (الإسراء/105) و ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ (الذاريات/15) إن وقف على ما قبل حرف الإيجاب في ذلك آل إلى نفي إرسال محمد (ص) وخلق الجنّ والإنس وكذلك ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ﴾ (الأنعام/95) و ﴿ قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللهُ ﴾ (النمل/65) وما كان مثله.

ولا يخفى على من عنده أدنى مسكة من عقل أو إثارة من تفكير وَجْه القبحِ والشناعةِ في الوقوف السابقة وما ماثلها، فعلى القارئ الفطن أن يتجنبها ويتحرز منها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإلاّ اقترف إثماً كبيراً وذنباً جسيماً فلو تعمّدها وقصد معناها كفر في الحال نعوذ بالله من ذلك. (120)

 



(111) المكتفی للداني ص 148.

(112) منار الهدی للأشموني ص 9.

(113) الإضاءة في بيان أصول القراءة للشيخ علي محمد الضباع طبع ونشر عبد الحميد أحمد حنفي القاهرة مصر لا. ت.

(114) معالم الاهتداء للحصري ص 41.

(115) القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 214.

(116) طيبة النشر في القراءات العشر لابن الجزري (ت: 833هـ) تحقيق الشيخ علي محمد الضباع ط. مكتبة ومطبعة مصطفی الحلبي وأولاده مصر. الطبعة الأولی 1369هـ - 1950م.

(117) معالم الاهتداء للحصري ص 42 - 44.

(118) معالم الاهتداء للحصري ص 45.

(119) المكتفی للداني ص 151.

(120) معالم الاهتداء للحصري ص 46.

 


الفصل الحادي عشر:


 

مذاهب العلماء في الوقف على رؤوس الآي

 

إنَّ رأس الآية، هو آخر كلمة فيها نحو: ﴿ الْعَالَمِينَ ﴾ (الحمد/1) و ﴿ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (البقرة/5) و ﴿ عَظِيمٌ ﴾ (البقرة/7) و ﴿ حَدِيثاً ﴾ (النساء/42) وهكذا ...

وقد اختلف علماء الإسلام في الوقف على رؤوس الآي على أربعة مذاهب:

المذهب الأول:

جواز الوقف عليها والابتداء بما بعدها مطلقاً، مهما اشتدّ تعلّقها بما بعدها وتعلق ما بعدها بها كالوقف على قوله ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ (الحجر/92) والابتداء بقوله تعالى ﴿ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ (الحجر/93) وعلى قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ﴾، والابتداء بقوله ﴿ عَبْداً إذَا صَلَّى ﴾ (العلق/9)، حتى ولو كان الوقف عليه يؤدّي إلى معنى فاسد كالوقف على ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴾ (الماعون/4)، أو كان الوقف على رأس الآية سائغاً ولكن الابتداء بما بعدها يفضي إلى معنى باطل كالوقف على ﴿ أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ﴾ (الصافات /151) والابتداء بقوله ﴿ وَلَدَ اللهُ ﴾ (آية/152) فالوقف على رؤوس الآي على هذا المذهب سائغ مطلقاً مهما كان مِن تعلّقٍ ومهما ترتّب عليه من فساد في المعنى، وقد اختار هذا المذهب الإمام الحافظ أبو بكر أحمد البيهقي (ت: 458هـ) في كتابه شعب الإيمان وكذا غيره من العلماء، واشتهر هذا المذهب عن أكثر أهل الأداء. (121)

ويعتبر أصحاب هذا المذهب الوقف على رؤوس الآي مطلقاً سنّة يُثاب القارئ على فعلها، واستدلّوا لمذهبهم بما روي عن أم سلمة زوج النبي (ص) أنها قالت: كان رسول الله (ص) إذا قرأ يقطع قراءته آية آية يقول: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، ثم يقف ثم يقول ﴿ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، ثم يقف ثم يقول ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ... ووجه الدلالة عندهم أن رسول الله (ص) قد وقف على ﴿ الْعَالَمِينَ ﴾ وعلى ﴿ الرَّحِيمِ ﴾، ففصل بين الموصوف وصفاته مع ما بينهما من وثيق الصلة، وقال بعضهم الأفضل الوقف على رؤوس الآيات وإن تعلّقت بما بعدها، إذ اتباع هدى رسول الله (ص) وسنته أولى، واستدلوا أيضاً بأن رؤوس الآي بمنزلة فواصل السجع في النثر، وبمنزلة القوافي في الشعر من حيث أنها محال الوقف. (122)

المذهب الثاني:

جواز الوقف على رؤوس الآي‏ والابتداء بما بعدها إن لم يكن ارتباط لفظي بينها وبين ما بعدها، أو لم يكن في الوقف عليها أو الابتداء بما بعدها إيهام خلاف المراد، فإن كان هناك ارتباط لفظي بين رأس الآية وبين ما بعده نحو: ﴿ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴾ (المطففين/4)، فإنه يجوز للقارئ أن يقف عليه عملاً بحديث أم سلمة (رض) السابق، ولكن ينبغي له أن يرجع فَيَصله بما بعده وهو ﴿ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ مراعاة للتعلق اللفظي وحينذاك يكون قد جمع بين العمل بالحديث وملاحظة التعلّق اللفظي، وإذا كان الوقف على رأس الآية صحيحاً لا يوهم شيئاً لكن الابتداء بما بعده يوهم معنى فاسداً كالوقف على ﴿ أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ﴾ (الصافات/151) والبدء بقوله تعالى: ﴿ وَلَدَ اللهُ ﴾، فإنه يجوز للقارئ الوقف على رأس الآية عملاً بالحديث، ولكنّه بعد الوقف على رأس الآية يتعيّن عليه أن يرجع فيصله بما بعده دفعاً لتوهم المعنى الباطل وتنبيهاً على المعنى المراد، وأما إذا كان الوقف على رأس الآية يوهم معنى فاسداً كالوقف على ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴾، فلا يجوز الوقف عليه حينئذٍ بل يتعيّن وصله بما بعده دفعاً لتوهم المعنى الفاسد ومسارعة إلى بيان المعنى المقصود. (123)

المذهب الثالث:

جواز السكت بلا تنفس على رأس كل آية بناءً على أن السكت يجوز في رؤوس الآي مطلقاً سواء صحّت الرواية به أم لا، حال الوصل لقصد البيان أي بيان أنها رؤوس الآي.

ومستند أصحاب هذا المذهب هو المنقول عن أبي عمرو بن العلاء البصري، أنّه كان يسكت على رأس كلّ آية وكان يقول: إنّه أحبّ إليّ إذا كان رأس آية أن يُسْكَت عنده. (124)

إنّ المرويّ عن أبي عمرو لا يصلح سنداً لصحة مذهبهم، لأن القدامى كثيراً ما كانوا يذكرون لفظي السكت والقطع ويريدون بهما الوقف، فالقطع والسكت والوقف كانت عندهم بمعنى واحد، ولم يفرق بين معاني هذه الألفاظ الثلاثة إلاّ المتأخرون كما مرّ بنا.

وبناءً على هذا يكون المراد بالسكت في هذا الأثر الوقف، فلا يكون فيه دليل لهذا المذهب وحمل الوقف في حديث أم سلمة على السكت خلاف الظاهر، فلهذا كان هذا المذهب في غاية الضعف عند عامة القرّاء وأهل الأداء. (125)

المذهب الرابع:

أنّ حكم الوقف على رؤوس الآيات كحكمه على غيرها ممّا ليس برأس آية، فحينئذٍ ينظر إلى ما بعد رأس الآية من حيث التعلق وعدمه، فإن كان له تعلّق لفظي برأس الآية فلا يجوز الوقف على رأس الآية، وإن لم يكن له به تعلق لفظي جاز الوقف، فليس ثَمّ فرق بين رأس الآية وغيره من حيث الوقف وعدمه، ولهذا وضع أصحاب هذا المذهب علامات الوقف المختلفة فوق رؤوس الآي كما وضعوها فوق غيرها ممّا ليس برأس آية.

وهذا مذهب بعض علماء الوقف كالإمام أبي عبد الله محمد بن طيفور السجاوندي (ت: 560 هـ)، والعلامة الشيخ أبي محمد الحسن بن علي بن سعيد العماني، والعلامة المحقق شيخ الإسلام الشيخ زكريا الأنصاري (ت: 926هـ)، والشيخ الجليل أحمد بن عبد الكريم الأشموني وقد أجاب أصحاب المذهب الأخير عن حديث أم سلمة (رض) بجوابين:

الجواب الأول:

إنّ سند حديث أم سلمة غير متصل، « وقد أعلّ الطحاوي الخبر بالانقطاع فقال: لم يسمعه ابن أبي مليكة من أم سلمة، واستدل على ذلك برواية الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلي بن مملك عن أم سلمة، ولكن قال ابن حجر: وهذا الذي أعلّ به ليس بعلّة فقد رواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة وصحّحه ورجّحه على الإسناد الذي فيه يعلي بن مملك ». (126)

الجواب الثاني:

إنّ مقصود الرسول (ص) من الوقف على رؤوس الآي بيان جواز الوقف عليها وتعليم الصحابة الفواصل، قال المحقق الجعبري (ت: 732هـ): « إنّ الاستدلال بهذا الحديث على سنيّة وقف الفواصل لا دلالة فيه على ذلك، لأنّه إنّما قصد به إعلام الفواصل، قال: وجهل قوم هذا المعنى وسمّوه وقف السنّة إذ لا يسنّ إلا ما فعله النبي (ص) تعبّداً ولكن هو وقف بيان ». (127)

وينقل صاحب نهاية القول المفيد عن الحافظ العسقلاني: « أنه تعقب الاستدلال بالحديث على سنيّة الوقف على رؤوس الآي ».

ثم قال الحافظ: « والأظهر أنّه عليه الصلاة والسلام إنّما كان يقف ليبين للمستمعين رؤوس الآي، ولو لم يكن لهذا لما وقف على ﴿ الْعَالَمِينَ ﴾ ولا على ﴿ الرَّحِيمِ ﴾ لما في الوقف عليهما من قطع الصفة عن الموصوف ولا يخفى ما في ذلك ». (128)

فخلاصة المذهب الرابع هو أن حكم الوقف عليها كحكم الوقف على غيرها مما ليس رأس آية.

الرأي الراجح في الوقف على رؤوس الآي:

كانت هذه آراء العلماء حول الوقف على رؤوس الآي والابتداء منها، وأرجح هذه المذاهب على ما أعتقد هو المذهب الثاني، لأنّ تعيين الآيات من كل سورة من قبل النبي‏ (ص) له جانبه البلاغي وأثره الإعجازي بُحِث في كتب علوم القرآن مفصلاً، وأن قراءة النبي (ص) هي القدوة لنا والأسوة، فقد جاء في الأثر روايتان عن زوجة الرسول (ص) أم سلمة رحمة الله عليها عن كيفية قراءة النبي (ص): إحداهما مرويّة عن ابن جريح عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة (رض) أن النبي (ص) كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية يقول: ﴿ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ثم يقف فيقول ﴿ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ثم يقف فيقول ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ثم يقف و... هكذا.

وقد مرّت هذه الرواية في بحث « الوقف الحسن ».

وهناك رواية أخرى مروية عن الليث بن سعد عن ابن أبي مُلَيْكة عن يعلي بن مَملك أنه سأل أم سلمة (رض) عن قراءة رسول الله (ص) وصلاته فقالت: فما لكم وصلاته ؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلّى ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلّى حتى يصبح ثم نعتت لَهُ قراءته مفسّرة حرفاً حرفاً. ذكر ذلك الترمذي. (129)

ففي الحديث الأول تصف أم سلمة (رض) النبي ‏ (ص) بأنّه كان يقطع قراءته آية آية وفي الحديث الثاني نعتت قراءته بأنها كانت مفسّرة حرفاً حرفاً.

ويمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي (ص) كان تارة يقف على كل فاصلة (آخر آية) ولَوْ لم يتم المعنى بياناً لرؤوس الآي، وكان تارة يتبع في الوقف تمام المعنى فلا يلتزم أن يقف على رؤوس الآية لتكون قراءته مفسّرة حرفاً حرفاً وعلى هذا يمكن أن يقال: حيثما كان الناس في حاجة إلى بيان الآيات حَسُنَ الوقف على رؤوس الآي ولَوْ لم يتمّ المعنى، وحيثما كان الناس في غنًى من معرفة رؤوس الآي لم يحسن الوقف إلاّ حيث يتم المعنى. (130)

 



(121) معالم الاهتداء للحصري ص 51.

(122) ن.م. ص 52.

(123) المكتفی للداني ص 146. 

(124) معالم الاهتداء للحصري ص 53.

(125) نيل الأوطار للشوكاني (ت: 1255هـ) ج2 ص 206ط. دار الجيل بيروت / لبنان الطبعة الأولی 1412هـ - 1992م.

(126) نهاية القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 208.

(127) ن.م. ص 209.

(128) الجامع الصحيح للترمذي (ت: 297هـ) ج6 ص 182 تحقيق أحمد محمد شاكر، دارالمكتبة الإسلامية بيروت/ لبنان - جمال القرّاء وكمال الإقراء للإمام علم الدين السخاوي (ت: 643هـ ) ج 2 ص 380 تحقيق د. عبد الكريم الزبيدي ط. دار البلاغة بيروت لبنان الطبعة الأولی 1412هـ - 1993م.

(129) الجامع الصحيح للترمذي (ت: 297هـ) ج5 ص182 - تحقيق أحمد محمد شاكر- دار المكتبة الإسلامية - بيروت - لبنان - وجمال القرّاء وكمال الإقراء للإمام علم الدين السخاوي (ت: 643 هـ) ج2 ص 380، تحقيق د. عبد الكريم الزبيدي- ط. دار البلاغة بيروت / لبنان - الطبعة الأولى 1412هـ -  1993م.

(130) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ج ص 239 دار الفكر للطباعة والنشر بيروت/ لبنان الطبعة الأولی 1416هـ - 1996م.

 


الفصل الثاني عشر:


 

الابتداء في اصطلاح القراء وأقسامه

تعريفه:

إنّ الابتداء في اصطلاح علماء القراءات هو الشروع في قراءة كتاب الله سواء كان بعد قطع وانصراف عنها أو بعد وقف، فإذا كان بعد قطع فلا بد فيه من مراعاة أحكام الاستعاذة والبسملة، وأما إذا كان بعد وقف فلا حاجة إلى ملاحظة ذلك لأن الوقف إنّما هو للاستراحة وأخذ النّفس فقط. (131)

فلا يكون الابتداء في التلاوة إلاّ اختيارياً لأنّه ليس كالوقف تدعو إليه ضرورة، فلا يجوز إلاّ بمستقلّ بالمعنى موفٍ بالمقصود (132)، فإن أخل بالمعنى المقصود أو أوهم خلاف المراد كان قبيحاً فعلى القارئ أن يتجنبه ويتحرّز منه. (133)

أقسام الابتداء:

فعلى هذا نقسم الابتداء إلى قسمين: حسن و قبيح.

الابتداء الحسن:

هو الابتداء بكلام مستقل في المعنى بحيث لا يغير ما أراده الله تعالى، ويكون ذلك بعد وقف تام أو كافٍ وأمثلته واضحة جليّة لا تحتاج إلى بيان.

الابتداء القبيح:

هو الابتداء بكلام ناقص مخلّ بالمعنى المقصود أو موهم خلاف المراد، فالقبح فيه إمّا لعدم كونه مفيداً لمعنىً نحو الابتداء بقوله تعالى: ﴿ ... أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ (المسد/1)، لأنَّ المبدوء به يتعلّق بما قبله لفظاً ومعنىً، فالكلام مبتور ولا بد من الابتداء بما قبله، فالابتداء بالمفعول به أو المضاف إليه أو الحال أو التمييز أو المعطوف أو البدل وما شابه ذلك هو الابتداء بلفظ من متعلقات جملة قبلها.

وإمّا لكونه موهماً لمعنى فاسد كالابتداء بقوله ﴿ ... وإيّاكم أَن تُؤْْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ ﴾ (الممتحنة/1) و﴿ ... وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ ... ﴾ (النساء/131) و﴿ ... لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ... ﴾ (يس/22)، ومثله الابتداء بقوله: ﴿ ... غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم ... ﴾ (فاطر/3) ففي المثالَيْن الأول والثاني البدء يوهم التحذير من الإيمان بالله ومن تقواه، وفي المثال الثالث نفي العبودية لله، والرابع يوهم هذا الابتداء بأن الرازق هو غير الله ونعوذ بالله من ارتكاب هذا الكلام الموهم.

وإمّا لكونه هو مع ما بعده منقولاً عن كافر ومن أمثلته: ﴿ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ﴾ (التوبة/30)، ﴿ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ﴾ (التوبة /30)، ﴿ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ ﴾ (آل عمران/181)، ﴿ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ (المائدة/17)، ﴿ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ﴾ (المائدة/73)، ﴿ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ﴾ (مريم/88 و الأنبياء/26)، ﴿ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ (المائدة /64).

لا يخفى على أحد قبح البدء بهذه الألفاظ وشناعتها، فيجب على القارئ حال قراءته أن يكون يقظاً متفهماً ما يقرأ، ملاحظاً معاني الآيات، ومواقع الجمل، حتى لا يقع في محظور من وقف ناقص أو ابتداء شنيع.

ثلاث فوائد حول الابتداء:

قد يكون الوقف على كلمة حسناً، والابتداء بها قبيحاً، نحو قوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ﴾ (الممتحنة/1) هنا الوقف حسنٌ، لتمام الكلام، ولكن الابتداء بالكلمة الموقوف عليها قبيح جداً لفساد المعنى، فيصير تحذيراً من الإيمان بالله تعالى.

قد يكون الوقف على كلمة قبيحاً والابتداء بها جيّداً نحو قوله تعالى: ﴿ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا ﴾ (يس/52)، فإن الوقف على ﴿ هَذَا ﴾ قبيح، لفصله بين المبتدأ وخبره ولأنه يوهم أن الإشارة إلى مرقدنا والابتداء بكلمة ﴿ هَذَا ﴾ ابتداء كافٍ، أو تامٌّ لأنه وما بعده جملة مستأنفة ردّ بها قولهم ولأئمة التفسير أقوال. (134)

كما يضطر القارئ إلى الوقف القبيح، يضطر أيضاً إلى الابتداء القبيح، وذلك إذا كان المقول عن بعض الكفرة طويلاً لا ينتهي نفس القارئ إلى آخر المقول، فيقف في بعض مواضعه بالضرورة فيضطر إلى الابتداء بما بعده إذ لا فائدة حينئذ في العودة إلى فعل ﴿ وَقَالَ ﴾ أو ﴿ قَالُوا ﴾ لأنّه ينقطع نفسه في أثناء المقولة البتة وكل القول كفرٌ كقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الآخِرَةِ ... ﴾ (المؤمنون/33) يستمر قولهم إلى قوله تعالى: ﴿ ... وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ (آية/38) فإنه قلّما يوجد قارئ ينتهي نفسه إلى آخر القول هنا، وكل المقول كفر.
وبالجملة ليس من وصل ولا وقف ولا ابتداء يوجب تعمده الكفر. (135)

 



(131) غاية المريد لعطية قابل نصر ص 233.

(132) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/230.

(133) معالم الاهتداء للحصري ص 68.

(134) النشر في القراءات العشر ص 230.

(135) نهاية القول لمحمد مكي نصر ص 233.

 


الفصل الثالث عشر:


 

مسائل هامّة تتعلق بالوقوف

 

المسألة الأولى:

قول أئمة الوقف: لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه، ولا على الفعل دون الفاعل ولا على الفاعل دون المفعول، ولا على المبتدأ دون الخبر، ولا على نحو كان وأخواتها وأنّ وأخواتها دون أسمائها، ولا على المنعوت دون النعت، ولا على المعطوف عليه دون المعطوف، ولا على القسم دون جوابه ولا على حرف دون ما دخل عليه إلى آخر ما ذكروه وبسطوه من ذلك، إنّما يريدون بذلك الجواز الأدائي، وهو الذي يحسن في القراءة ويروق في التلاوة، ولا يريدون بذلك أنّه حرام ولا مكروه ولا ما يؤثم، بل أرادوا بذلك الوقف الاختياري الذي يبتدأ بما بعده، فمعنى « لا يجوز الوقف على كذا »، لا يحسن الوقف عليه تلاوة وأداء فالوقف عليه يسلب التلاوة حسنها والقراءة روعتها وبهاءها، كذلك يريدون بقولهم « لا يوقف على كذا » أو « لا يصح الوقف على موضع كذا » أو « إن موضع كذا ليس محلاً للوقف » يريدون بهذا القول إنّ هذا الموضع إذا وقف عليه لا يصح البدء بما بعده، كما أن قولهم « يجوز الوقف على موضع كذا » معناه أنّه يصحّ الابتداء بما بعده ذلك إنّ كلّ ما أجازوا الوقف عليه أجازوا البدء بما بعده، وكلّ ما لم يجيزوا الوقف عليه لم يجيزوا البدء بما بعده (136)، كما أن قولهم ذلك لا يريدون به أنه لا يوقف على موضع كذا و و... البتة، فإنه حيث اضطرّ القارئ إلى الوقف على شي‏ء من ذلك باعتبار قطع نَفس أو نحوه من تعليم أو اختبار جاز له الوقف بلا خلاف عند أحد منهم، ثم يعتمد في الابتداء ما تقدم من العود إلى ما قبل فيبتدئ به، اللهم إلاّ من يقصد بذلك والعياذ بالله تحريف المعنى عن مواضعه وخلاف المعنى الذي أراد الله تعالى، فإنه يحرم عليه ذلك ويجب ردعه بحَسَبِه على ما تقتضيه الشريعة المطهرة. (137)

وقصارى القول إنّ قول علماء الوقف: لا يجوز الوقف على كذا أو لا يصحّ على كيت ... معناه أنّ هذا الموضع ليس محلاً للوقف الاختياري الذي يبتدأ بما بعده، وهذا لا يمنع في الوقف عليه لضرورة، كغلبة عطاس و... ثم يوصل بما بعده.

المسألة الثانية:

ليس كلّ ما يتعسفه (138) بعض المعرِّبين، أو يتكلّفه بعض القرّاء، أو يتأولّه بعض أهل الأهواء، ممّا يقتضي وقفاً أو ابتداءً ينبغي أن يتعمد الوقف عليه، بل ينبغي تحرّي المعنى الأتمّ والوقف الأوجه وذلك نحو الوقف على قوله تعالى: ﴿ وَارْحَمْنَا أَنتَ ﴾ (البقرة/286) والابتداء بـ ﴿ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ على معنى النداء، ونحو الوقف على قوله تعالى: ﴿ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكَْ ﴾ (لقمان/13) ثم الابتداء ﴿ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ على معنى القسم ونحو الوقف على ﴿ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ ﴾ (البقرة/158) والابتداء ﴿ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾، وهذا خلاف أسباب النزول، ونحو ﴿ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً ﴾ (الروم/47) والابتداء بـ ﴿عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، ونحو الوقف على ﴿ وَهُوَ اللهُ ﴾ (الأنعام/3) والابتداء ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأََرْضِ ﴾ وأشد قبحاً من ذلك في نفس الآية الوقف على ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ والابتداء ﴿ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ ... ﴾ ونحو الوقف على ﴿تمشي﴾ في قوله تعالى: ﴿ فَجَاءَتْهُ إحداهما تَمْشِي ﴾ (القصص/24)، ثم الابتداء ﴿ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ ... ﴾ وأمثلة أخرى.

فهذه الوقوف التي يرتكبها المتعسفون بعضها تنافي أسباب النزول والأحاديث الشريفة الواردة فيها ومخالفة لقواعد اللغة العربية وأساليب القرآن ومعانيه السامية، وفي بعضها إيهام وإفساد في المعنى لا مجال هنا للتفصيل فيها، فعلى القارئ الذي يحرص كل الحرص على أن يعرض القرآن الكريم في أبهى حلله وأبهج مظاهره أن يتجنب هذه الوقوف وأشباهها، لما فيها من التصنّع والتكلّف، والتمحّل والتعسّف، والتحريف للكلم عن مواضعه كل ذلك يُذهب برونق القراءة وروعة التلاوة وجلال الأداء.

المسألة الثالثة:

يُغتفر في طول الفواصل والقصص والجمل المعترضة ونحو ذلك وفي حالة جمع القراءات، وقراءة التحقيق والترتيل ما لا يغتفر في غير ذلك، فربما أجيز الوقف والابتداء لبعض ما ذكر ولو كان لغير ذلك لم يُبح وهذا الذي يسمّيه « السجاوندي » الوقف المرخّص ضرورة ومَثَّلَهُ بقوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ (البقرة/22 و غافر/64)، والأحسن تمثيله بقوله تعالى ﴿ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ (البقرة /177)، وبنحو ﴿ وَالنَّبِيِّينَ ﴾، وبنحو ﴿ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾، وبنحو ﴿ عَاهَدُواْ ﴾ (البقرة/177)، ونحو كلٍّ من ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ... ﴾ (النساء/23)، ويستمر الموضوع إلى ﴿ ... إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ﴾ من الآية 24، إلاّ أنَّ الوقف على آخر الفاصلة (الآية) قبله أكفى يعني على كلمة ﴿ رَّحِيمٌ ﴾، ونحو كلٍّ من فواصل سورة المؤمنون ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ (آية/1) إلى آخر القصة وهو ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (آية/11)، ونحو فواصل سورة ص: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ (آية/1) إلى قوله ﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ (آية/14) فإنه جواب القسم، ونحو ذلك الوقف على فواصل سورة الشمس ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ (آية/1) إلى ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾ (آية/9)، ولذلك أجيز الوقف على ﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ (الكافرون /2) دون ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ (آية/1) وعلى ﴿ اللهُ الصَّمَدُ ﴾ دون ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ﴾. (139)

ولكن نقل الأشموني عن الكواشي: أنّ طول الفواصل والقصص لا يعتبر عذراً مبيحاً للوقف قبل تمام الكلام، بل ينبغي للقارئ أن يقف حيث ينتهي نفسه أو يضيق ثم يبتدئ من أول الكلام ويصل بعضه ببعض حتّى يقف على موضع يسوغ الوقف عليه. (140)

وقال صاحب المستوفي جمال الدين أبو سعد علي بن مسعود الزغاني: والنحويون يكرهون الوقف الناقص في التنزيل مع إمكان التامّ فإن طال الكلام ولم يوجد فيه وقفٌ تامٌّ، حَسُن الأخذ بالنّاقص كقوله تعالى ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ... ﴾ (الجن/1) الى ﴿ ... فَلا تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً ﴾ (آية/18) إن كسرت بعدها (يعني بعد أوحي) إنّ، فإنْ فتحتها فإلى قوله ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ (آية/19). (141)

ويحسن الوقف الناقص بأمور منها:

أن يكون لضرب من البيان كقوله تعالى: ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاً ﴾ (الكهف/1)، فإنّ الوقف هنا يبين أن ﴿ قَيِّماً ﴾ منفصل عنه، وأنه حالٌ في نيّة التقديم، وكقوله تعالى: ﴿ وَبَنَاتُ الأُخْتِ ﴾ (النساء /23) ليفصل به بين التحريم النسبي والسببي ...، ومنها أن يكون الكلام مبنّياً على الوقف فلا يجوز فيه إلا الوقف صيغة كقوله تعالى ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ ﴾ (الحاقة/25) و ﴿ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ﴾ (آية/26). (142)

وقال ابن الجزري: كما اغتفر الوقف لما ذكر - من طول الفواصل - قد لا يغتفر ولا يحسن فيما قصر من الجمل، وإنْ لم يكن التّعلّق لفظياً، نحو قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ (البقرة/87) لقرب الوقف على ﴿ بِالرُّسُلِ ﴾ وعلى ﴿ الْقُدُسِ ﴾ ونحو قوله تعالى ﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ (آل عمران/26) لم يغفروا القطع عليه لقربه من ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ ﴾ وأكثرهم لم يذكر ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ ﴾ لقربه من ﴿ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ﴾، وكذا لم يغفر كثير منهم الوقف على ﴿ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ ﴾ لقربه من ﴿ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ﴾ وبعضهم لم يرضَ الوقف على ﴿ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ﴾ لقربه من ﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾ وكذا لم يرضوا الوقف على ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ﴾ (آل عمران/27) وعلى ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ لقربه من ﴿ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ ومن ﴿ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ وقد يغتفر ذلك في حالة الجمع وطول المدّ وزيادة التحقيق وقصد التعليم فيلحق بما قبل لما ذكر بل قد يحسن. كما أنّه إذا عرض ما يقتضي الوقف من بيان معنى أو تنبيه على خفيّ، وقف عليه وإن قصر بل ولو كان كلمة واحدة ابتدئ بها كما نصوا على الوقف على ﴿ بَلَى ﴾ و ﴿ كَلاّ ﴾ ونحوهما مع الابتداء بهما لقيام الكلمة مقام الجملة. (143)

المسألة الرابعة:

قال الإمام ابن الجزري: ربّما يراعى في الوقف الازدواج فيوصل ما يوقف على نظيره ممّا يوجد التمام عليه وانقطع تعلّقه بما بعده لفظاً وذلك من أجل ازدواجه (144)، يعني أنّه قد يجتمع في الآية جملتان تكون كلّ واحدة منهما مستقلّة عن الأخرى في المعنى، ولا يكون بينهما تقابل أو تعادل فإذا كانت الجملتان بهذه المثابة فلا يوقف على الأولى منهما بل توصل بالثّانية ويكون الوقف عليها، نحو قوله تعالى: ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ (فصلت/41 و الجاثية/15)، فالجملة الأولى ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ﴾ مستوفية ركني الإسناد وتامّة المعنى غير متعلّقة بالجملة الثّانية لفظاً، ويوقف على مثلها ولكن لا يوقف عليها لوجود التقابل بين الجملتين، وذلك أنّ ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً ﴾ في الأولى يُقابله ﴿ وَمَنْ أَسَاءَ ﴾ في الثّانية و ﴿ فَلِنَفْسِهِ ﴾، في الأولى يُقابله ﴿ فَعَلَيْهَا ﴾ في الثّانية، ومثل هذا قوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ (البقرة/286)، وذلك أنَّ ﴿ لَهَا ﴾ في الأولى يقابله ﴿ وَعَلَيْهَا ﴾ في الثّّانية، و ﴿ كَسَبَتْ ﴾ في الأولى يقابله ﴿ اكْتَسَبَتْ ﴾ في الثّانية، لأن كسب يستعمل في الخير واكتسب يستعمل في الشرّ غالباً، كانت هذه أمثلة للتّقابل، ومثال ما يكون بينهما التّعادل قوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ﴾ (البقرة/134)، وقوله تعالى: ﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثم عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ﴾ (البقرة/203)، وقوله تعالى ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ (آل عمران/27)، هاتان الجملتان متعادلتان ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ (آل عمران/27) وهاتان متعادلتان أيضا (145)، إنّ وصل الجملة الأولى بالثّانية اختيار نصير بن محمد (146) ومن تبعه من أئمة الوقف. (147)

يقول الأشموني: والأولى الفصل والقطع بين الفريقين ولا يخلط أحدهما مع الآخر بل يقف القارئ على الأولى ثم يبتدئ بالثاني. (148)

كان هذا رأي كلّ من نُصَيْر النحويّ والأشموني فنجمع بين الرأيَيْن، ونقول: إنّ الجملتَيْن إذا كانتا قصيرتَيْن يحسن وصل الأولى والوقف على الثّانية، نحو: ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ و ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾، أمّا إذا كانتا طويلتين فيحسن الوقف على كلٍّ منهما، لأنّ نَفس القارئ قد لا يتّسع لكلتا الجملتين فيقف في أثناء الثّانية، وقد يُفضي ذلك إلى تغيير المعنى كقوله تعالى في سورة النور: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ (آية/26)، فإذا وصل القارئ ﴿ لِلْخَبِيثَاتِ ﴾ فقد يضيق نَفَسه فيقف على ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ ﴾، فيترتب على ذلك فساد معنى النظم الكريم إذ يصير المعنى والخبيثون للخبيثات والطيّبات، ولا يخفى على أحد فساده، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ﴾ (الرعد/18) فإذا وصل القارئ قوله تعالى ﴿ الْحُسْنَى ﴾ فقد يضيق نَفَسَه فيقف على ﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ ﴾ فيفسد المعنى حينئذ، لأنه يصير هكذا (للذين أطاعوا ربهم الحسنى) - وهي الجنّة - والذين لم يطيعوه كذلك، أي لهم الجنّة أيضاً، وهو معنى واضح البطلان، إذ لا تسوية بين الفريقين في الجزاء. قال عزّ من قائل: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأََرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ (سورة ص/28).

المسألة الخامسة:

قد يجيزون الوقف على حرف ويجيز آخرون الوقف على آخر، ويكون بين الوقفَيْن مراقبة على التضادّ، فإذا وقف على أحدهما امتنع الوقف على الآخر، كمن أجاز الوقف على ﴿ لا رَيْبَ ﴾ (البقرة/2)، فإنه لا يجيزه على ﴿ فِيهِ ﴾، والذي يجيزه على ﴿ فِيهِ ﴾ لا يجيزه على ﴿ لا رَيْبَ ﴾، ويسمّى هذا النوع من الوقف وقف « المعانقة » أو« المراقبة »، سمّي بالمعانقة لمعانقة كلّ من الكلمتين الكلمة الأخرى واجتماعهما معاً في موضع واحد وسمّي بالمراقبة لأن القارئ حين قراءته يراقب الموضع الذي اجتمع فيه هاتان الكلمتان، ليقف على إحداهما، أو لأنَّ السّامع يرقب القارئ ويلاحظه حين قراءته ليعرف الكلمة التي يقف عليها، وليرشده إلى الوقف على إحدى الكلمتَيْن إذا وقف عليهما معاً. (149) وعلامته ثلاث نقاط متتالية توضعان على الموضعَيْن ففي القرآن خمسة وثلاثون موضعاً من هذا النوع. (150)

ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿ قَالَ فإنها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ (المائدة/26)، ففي هذه الآية كلمتان وهما ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ و ﴿ سَنَةً ﴾ ويصح الوقف على كلّ منهما، لكن إذا وقف على ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ امتنع الوقف على ﴿ سَنَةً ﴾ بل يجب وصلها بما بعدها وإذا أريد الوقف على ﴿ سَنَةً ﴾، امتنع الوقف على ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أو الابتداء منه، يجب أن يستأنف تلاوته بعد كلمة ﴿ سَنَةً ﴾.

المسألة السادسة:

قال بدر الدين الزركشي: إنّ جميع ما في القرآن من ﴿ الَّذِينَ ﴾ و﴿ الَّذِي ﴾ يجوز فيه الوصل بما قبله نعتاً له والقطع، على أنّه خبر لمبتدأ إلاّ في سبعة مواضع فإنّ الابتداء بها هو المتعيّن. (151)

الأول: قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ﴾ (البقرة/121).

الثاني قوله: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ (البقرة/146).

الثالث: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ﴾ (سورة الأنعام/20).

الرابع قوله: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ ... ﴾ (البقرة/275).

الخامس قوله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ ْ... أَعْظَمُ دَرَجَةً ﴾ (التوبة /20).

السادس قوله: ﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ ... أولئك شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ (الفرقان/34).

السابع قوله: ﴿ أَنَّهُمْ أصحاب النَّارِ ، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... ﴾ (غافر/6 و 7) .

نفهم من كلام الزركشي أنّ كلّ ما وقع في القرآن من هذَيْن اللَّفظَيْن يجوز فيه الوجهان السابقان، سواء وقع كلُّ منهما في صدر الآية أم في أثنائها، وليس الأمر كذلك فإنّ ما وقع في أثناء الآية لا يجوز الوقف على ما قبله، بل يتعيّن وصله به نحو: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ونحو: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ﴾ (البقرة/255)، فحينئذ يتعين حمل كلامه على ما يكون في صدر الآيات من اللفظَيْن، ففي الآيات السبع وجب الوقف على ما قبل الموصولات والابتداء بها، لأنّ وصلها بما قبلها يوهم كونها نعتاً له وهذا ينافي المعنى المراد، كما يظهر بالتّأمّل في الآيات المذكورة والاسم الموصول في الآيات الأولى حتى الخامسة بالإضافة الى السَّابعة، يتعين أن يكون في محل رفع على الابتداء، وأما في الآية السّادسة فيحتمل أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير: « هم الذين » أو على أنّه مبتدأ واسم الاشارة بعده ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ بدل منه أو بيان له وخبره ﴿ شَرٌّ ﴾ أو اسم الاشارة مبتدأ ثان وشرٌّ خبره، والجملة خبر الموصول.

وبهذا نجد كلام الزركشي عندما قال: « والقطع على أنه خبر مبتدأ محذوف » لا يتحقق إلاّ في الآية السادسة.

المسألة السابعة:

في حكم الوقف على المستثنى منه:

الاستثناء كما نعرف على ضرْبَيْن: متصل ومنقطع، فالاستثناء المتصل يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، أمّا الاستثناء المنقطع كما نعرف يكون فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه فلا يصح الوقف قبل الإتيان بالمستثنى إن كان الاستثناء متّصلاً، بل يجب وصله بالمستثنى منه لتحقق الفائدة المقصودة من الكلام، ومن أمثلته: ﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ (البقرة/249) المستثنى منه الواو في ﴿ فَشَرِبُوا ﴾ والمستثنى ﴿ قَلِيلاً ﴾، وهو من جنس المستثنى منه إذ المراد من المستثنى منه جنود طالوت، والمراد من المستثنى بعض هؤلاء الجنود فلا يجوز الوقف على ﴿ فَشَرِبُواْ ﴾ ولا على ﴿ مِنْهُ ﴾، لأن الوقف على أحدهما يوقع ذهن السامع أن الشرب تحقق من جميع الجنود وهذا خلاف ما أراده الله، فالواجب وصل المستثنى بالمستثنى منه تقريراً للواقع ودفعاً للمعنى الباطل الذي لم يكن مراداً من الآية.

ومن أمثلته أيضاً: ﴿ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ (النور /31)، لا يصح الوقف على ﴿ زِينَتَهُنَّ ﴾ وهو المستثنى منه، لأن الوقف عليه يتبادر إلى الذهن أنّ النّهي يشمل جميع أنواع الزينة ظاهرها وخفيّها، وليس المقصود من الآية هذا المعنى، فيتحتم على القارئ وصل المستثنى منه بالمستثنى ليكون المعنى المقصود واضحاً لا إبهام فيه.

وأمّا إن كان الاستثناء منقطعاً ففي الوقف على المستثنى منه دون المستثنى ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: الجواز مطلقاً سواء صرح بالخبر أم لا:

قال ابن الحاجب (ت: 646هـ): وجه من جوّز الوقف مطلقاً أنّه في معنى مبتدأ حذف خبره للدلالة عليه فكان مثل قولك: زيدٌ لمن قال: من أبوك؟ ألا ترى أنّ تقدير المنقطع في قولك: ما في الدار أحدٌ إلاّ الحمار: لكن الحمار في الدار، ولو قلت « لكنّ الحمار » مبتدئاً به بعد الوقف على ما قبله لكان حسناً ألا ترى إلى جواز الوقف بالإجماع على مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ﴾ (يونس/44) والابتداء بقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ فكذلك هذا. (152)

المذهب الثاني: المنع مطلقاً:

قال ابن الحاجب أيضاً: ووجه من قال بالمنع (مطلق) ما رأى من احتياج الاستثناء المنقطع الى ما قبله لفظاً ومعنى. أمّا اللفظ فلأنه لم يعهد استعمال « إلاّ » وما في معناها إلاّ متصلة بما قبلها لفظاً ألا ترى أنّك إذا قلت: ما في الدار أحدٌ غير حمارٍ، فوقفت على ما قبل « غير » وابتدأت به لكان قبيحاً فكذلك هذا، وأمّا المعنى، فلأن ما قبله مشعر بتمام الكلام في المعنى فإنّ قولك: ما في الدار أحدٌ إلا الحمار هو الذي صحّح قولك إلاّ الحمار، ألا ترى أنّك لو قلت إلاّ الحمار على انفراده كان خطأ. (153)

المذهب الثالث: التفصيل:

قال ابن الحاجب في أماليه: يجوز إن صرّح بالخبر ولا يجوز إن لم يصرّح به، لأنّه إذا صرح بالخبر استقلّت الجملة واستغنت عما قبلها وإذا لم يُصرَّح به كانت مفتقرة إلى ما قبله (154)، يعني إذا كان الخبر مصّرحاً به جاز الوقف لأن جملة المستثنى حينئذ مستقلّة ومستغنية عما قبلها وإذا لم يصرح بالخبر لم يجز الوقف، لأنّ جملة المستثنى حينئذ تكون مفتقرة الى ما قبلها.

ومن أمثلة الاستثناء المنقطع الذي لم يصرح فيه بالخبر قوله تعالى:

﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ ﴾ (البقرة/78)، ووجه كون الاستثناء هنا منقطعاً أنّ الأماني جمع أمنية، والأمنية في الأصل كلّ ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك تطلق على ما يتمنّاه الإنسان، وعلى الكذب، وقد أشار الى هذا المعنى الراغب في باب منى والآلوسي في تفسيره ...، فالاستثناء هنا منقطع وعلى هذا « إلاّ » بمعنى لكنّ المشدّدة والخبر محذوف والتقدير لكن أماني أي: أكاذيب أخذوها تقليداً من شياطينهم المحرفين وتلقوها من رؤسائهم المضلّلين فاعتمدوها.

ومن أمثلة الاستثناء المنقطع الذي صرح فيه بالخبر قوله تعالى:

﴿ إِلا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ (الانشقاق/25)، ووجه كونه منقطعاً أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليسوا من جنس من عاد عليهم الضمير في قوله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ وهم الكافرون المكذبون في الآية وعلى هذا ﴿ إِلا ﴾ بمعنى لكن المخفّفة، والاسم الموصول ﴿ الَّذِينَ ﴾ مبتدأ وجملة ﴿ آمَنُواْ ﴾ صلة الموصول وجملة ﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ عطف على الصلة وجملة ﴿  لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ خبر المبتدأ.

المسألة الثامنة:

الوقف على بعض الكلمات المتداولة في القرآن الكريم:

أ: في حكم الوقف على ﴿ بَلَى :

للقرّاء مقاييس يقيسون بها الوقف على كلمات مخصوصة من القرآن الكريم، منها المقياس البلاغي القرآني فلفظة ﴿ بَلَى ﴾ هي من الكلمات التي لها صلة بالبلاغة من ناحية مدلولها، ووقع فيها الخلاف حالة الوقف عليه. (155)

بلى: حرف جواب يجاب به عن كلام قبلها، وتختص بالنفي بمعنى أنّها لا تقع إلاّ بعد كلام منفي فلا تقع بعد كلام مثبت إلاّ في النزر اليسير، وهي تفيد، إبطال النَّفي عمّا قبلها وتقرّر نقيضه، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ﴾ (التغابن/7)، فلفظ ﴿ بَلَى ﴾ في هذه الآية أفاد إبطال نفي البعث وإذا بطل نفي البعث ثبت البعث وحينئذ يكون قوله تعالى ﴿ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ﴾ تصريحاً بما أفادته ﴿ بَلَى ﴾ من إبطال النّفي المتقدِّم، وقد وقعت في اثنين وعشرين موضعاً من القرآن الكريم في ست عشرة سورة، ولفظ ﴿ بَلَى ﴾ من الأمور التي دار حولها الجدل والخلاف بين العلماء قديماً وحديثاً، وأفردوا لها مصنفات خاصة بها وملخص الخلاف الذي دار حولها أن العلماء قسّموها ثلاثة أقسام:

- القسم الأول:

ما يختار فيه كثير من القرّاء الوقف عليها لأنها تقع جواباً لما قبلها وليس لها تعلّق بما بعدها وذلك في عشرة مواضع.

- القسم الثاني:

ما لا يجوز الوقف عليها لتعلّق ما بعدها بها وبما قبلها وذلك في سبعة مواضع.

- القسم الثالث:

ما اختلفوا في جواز الوقف عليها والأحسن المنع، لأن ما بعدها متصل بها وبما قبلها وذلك في خمسة مواضع.

ولكن بعد دراسة ﴿ بَلَى ﴾ في آيات القسم الثالث يتبيّن أنّ الحقّ الذي يجب أن يؤخذ به ولا يعدل عنه في المواضع الخمسة هو الوصل يعني أنه لا يجوز الوقف على ﴿ بَلَى ﴾ في تلك المواضع.

بناءً على هذا تقسم ﴿ بَلَى ﴾ إلى قسمين فقط:

قسمٌ يجوز الوقف عليه وذلك في عشرة مواضع، وقسم لا يجوز الوقف عليه وذلك في اثني عشر موضعاً، وطلباً للاختصار سنكتفي بذكر مثال واحد لكلّ نوع.

فما يجوز الوقف عليه قوله تعالى:

﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأولئك أصحاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ (البقرة/81 - 80).

فكلمة « بلى » في هذه الآية أفادت إبطال قول اليهود ﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ ونفت نفي مسّ النار لهم وإذا انتفى نفي مسّ النار لهم ثبت نقيضه وهو المسّ، لأنّ نفي النّفي إثبات وقوله تعالى ﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب سيقت تعليلاً لما أفادته ﴿ بَلَى ﴾ من ثبوت مسّ النّار لهم، فكأنه قيل: أنتم كاذبون في زعمكم أنّ النّار لن تمسّكم إلاّ أياماً معدودة فإنها ستمسّكم وتخلدون فيها أبد الآبدين، لأنّ من كسب سيئة أي كفراً وأحاطت به خطيئته واستولت عليه وأحاطت به من كلّ جانب فشملت ظاهره وباطنه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

من هذا يتبيّن أن جملة ﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ لا تعلّق لها بما قبلها من حيث اللفظ، بل تعلّقها من حيث المعنى فحينئذ يصح الوقف على ﴿ بَلَى ﴾ وهو وقف كافٍ. (157)

 ومثل هذا بقية المواضع التسعة الأخرى. (158)

ومما لا يجوز الوقف عليه قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا ﴾ (الأنعام/30) لا يجوز الوقف على ﴿ بَلَى ﴾، لأنّ جملة ﴿ وَرَبِّنَا ﴾ من ضمن مقول الكفار فهم لم يقتصروا على قولهم ﴿ بَلَى ﴾ الدالّ على اعترافهم بما كانوا يجحدونه في الدنيا من البعث والجزاء، بل اعترافهم باليمين، إظهاراً لكمال يقينهم بحقيته وإيذاناً بأنّ هذا الاعتراف صدر عنهم برغبة ولهفةٍ طمعاً في أن يكون سبباً في نفعهم ودفع عذاب الله عنهم ولكن أنّى لهم ذلك؟

فنظراً لعدم جواز فصل بعض المقول عن بعض ولوجوب وصل المقسم به بالمقسم عليه لا يجوز الوقف على ﴿ بَلَى ﴾. (159)

مثل هذا الحكم بقية المواضع الاثني عشر. (160)

ومن مقاييسهم المقياس النحوي القرآني، إنّ بعض الكلمات القرآنية والأدوات النحوية امتازت بخصائص قد لا توجد في غيرها من الأدوات الأخرى، وكانت موضع نظر القرّاء بالنسبة لقضية الوقف والوصل وهذه الادوات منها ما هو للجواب مثل ﴿ نَعَمْ ﴾ ومنها ما هو للردع مثل ﴿ كَلا ﴾ ومنها ما هو للاستثناء مثل ﴿ إِلاّ ﴾، وظاهرة الوقف على هذه الأدوات كانت موضع خلاف بين القرّاء، فبعضهم يجوّز الوقف عليها والبعض الآخر يمنعه ولعلّ سبب الخلاف بينهم هو المعنى الذي يفهم من السياق العامّ وما تؤديه هذه الأدوات من وظائف في النظم، وقد مرّ بحث أداة الاستثناء ﴿ إِلاّ ﴾ في المسألة السابعة مفصلاً سنحاول تفصيل القول في الوقف على ﴿ نَعَمْ ﴾ و ﴿ كَلا ﴾.


ب: حكم الوقف على ﴿ نَعَمْ :

أمّا ﴿ نَعَمْ ﴾ فهي حرف جواب يجاب بها عن كلام قبلها ويختلف معناها باختلاف ما قبلها، فإن كان ما قبلها جملة خبرية مثبتة كانت أم منفيّة فهي حرف يدلّ على تصديق المخبر بكسر الباء، فإذا قيل: قام محمد أو قيل: لم يقم محمد فتصديقه فيها ﴿ نَعَمْ ﴾.

وإن كان ما قبلها جملة إنشائية سواء كانت أمرية أم نهييّة أم تحضيضيّة فهي حرف يفيد وعد الطالب مطلوبه، فإذا قيل افعل كذا أو لا تفعلْ أو هلاّ تفعلُ فقولك: ﴿ نَعَمْ ﴾ وعدٌ للطالب بإجابة مرغوبه فكأنك قلت: سأفعل أو لن أفعل فكلمة ﴿ نَعَمْ ﴾ نابت مناب الجملة التي دلّت على تحقيق المطلوب من فعل أو ترك.

وإن كان ما قبلها استفهاماً فهي حرف يدل على الإعلام أي إعلام من يستخبر ويستفهم عن أمرٍ ما، فالمتكلم بها يُعلِمُ مخاطبه بجواب استفهامه ولم تستعمل ﴿ نَعَمْ ﴾ في القرآن الكريم إلاّ بهذا المعنى. وفي أربعة مواضع:

الأول: قوله تعالى: ﴿ فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ... ﴾ (الأعراف/44).

قال الزركشي والمختار هو الوقف على ﴿ نَعَمْ ﴾ في هذه الآية، لأنّ ما بعدها ليس متعلقاً بها ولا بما قبلها إذ ليس هو قول أهل النار ﴿ قَالُواْ نَعَمْ ﴾ من قولهم. (161)

وقول الزركشي « لأنّ ما بعدها ليس متعلقاً بها ولا بما قبلها » المراد نفي التّعلّق اللفظي فقط، وأمّا التعلق المعنوي فمتحقق قطعاً لأن الآيات بعد ذلك لا تزال تتحدث عن أهل الجنة وأهل النار فيكون الوقف على ﴿ نَعَمْ ﴾ في هذه الآية كافياً.

الثاني: قوله تعالى: ﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ (الأعراف/114).

لا يجوز الوقف فيها على ﴿ نَعَمْ ﴾، لأنّ جملة ﴿ وإنّكم لمن المقربين ﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة التي قامت ﴿ نَعَمْ ﴾ مقامها في الجواب، وأصل الكلام « إنّ لكم لأجراً وإنّكم لمن المقرّبين »، فحذفت جملة « إنّ لكم لأجراً » ونابَتْ ﴿ نَعَمْ ﴾ عنها في الجواب، وكلتا الجملتَيْن مقول القول ولا يفصل بعض المقول عن بعض.

الثالث: قوله تعالى: ﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إذا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ (الشعراء/42).

يقال فيها ما قيل في الآية الثانية.

الرابع: قوله تعالى: ﴿ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ (الصافات/18).

لا يسوغ الوقف فيها على ﴿ نَعَمْ ﴾، لأنّ جملة ﴿ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ في محل نصب على أنها حال من الفاعل الذي حذف مع فعله وقامت ﴿ نَعَمْ ﴾ مقامه والأصل قل لهم تبعثون والحال أنّكم أذلاءُ صاغرون، من هذا يتبيّن أنّ « المختار ألاّ يوقف على ﴿ نَعَمْ ﴾ في هذه المواضع الثلاثة لتعلق ما بعدها بما قبله لاتصاله بالقول » (162) وإنّما يوقف على الموضع الأول فقط.


ج: حكم الوقف على ﴿ كَلا ﴾:

أمّا ﴿ كَلا ﴾ فهي حرف تفيد الردع والزجر وهذا مذهب أكثر النحويين من مدرسة البصرة، منهم إمام النحو سيبويه والخليل والمبرد والزجاج ليس لها عند هؤلاء معنى سوى ذلك، ولهذا يجيزون الوقف عليها والابتداء بما بعدها، لأنّها زجر وردع لما قبلها، وأمّا ما بعدها فهو منقطع عنها، ويُردّ على هؤلاء أنّ هذا المعنى الذي ذكروه لها - وهو الردع والزجر - لا يمكن تحققه في بعض الآيات كقوله تعالى: ﴿ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ، كَلاّ إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى ، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ (العلق/7 - 5)، فلو تأملنا الآيات قبلها لا نجد كلاماً يقتضي ما يزجر عليه فـ ﴿ كَلاّ ﴾ جاءت في ابتداء الكلام والردع والزجر يقتضي سبق ما يزجر عليه.

ومثل قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ، كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴾ (القيامة/21-19) فلا يمكن تحقق الزجر والردع في هذه الآية أيضاً، كما يظهر ذلك بأدنى تأمل في سابق الآيات ولاحقها، فلكون هذا المعنى غير مطرد في الآيات القرآنية والأساليب العربية، اضطر النّحاة إلى أن يزيدوا فيها معنى ثانياً يصح معه أن يوقف على ما قبل ﴿ كَلاّ ﴾ ويبتدأ بها ثم اختلفوا في تعيين هذا المعنى الزائد على ثلاثة مذاهب:

الأول: مذهب الكسائي والكوفيين وهو أنها تكون بمعنى « حقّ ».

الثاني: مذهب النضر بن شميل (ت: 203هـ) والفرّاء (ت: 217هـ) ومن وافقهما أنها تكون حرف جواب بمثابة إِيْ ونعم.

الثالث: مذهب أبي حاتم (ت: 248هـ) ومن شايعه أنها تكون أداة استفتاح بمنزلة ألا الاستفتاحية. (163)

ويؤخذ من كل ما تقدم أن كلمة ﴿ كَلاّ ﴾ لها أربعة معان لا تخرج في جميع مواردها عنها: الردع والزجر، معنى حقاً، معنى نعم، معنى الاستفتاح وقد تستعمل في بعض المواضع محتملة معنيين أو أكثر من هذه المعاني والذي يحدّد معناها ويكشف المراد منها، إنما هو معنى الآية وفحواها وهدفها ومرماها، وقد وقعت هذه الكلمة ﴿ كَلاّ ﴾ في القرآن الكريم في ثلاثة وثلاثين موضعاً في خمس عشرة سورة كلّها في النصف الثاني من القرآن وليس في النصف الأول منها شي‏ءٌ، وحكمة ذلك أن النصف الثاني نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة فتكرّرت هذه الكلمة على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلهم وضعفهم. (164)

وقسّمها الإمام مكي بن أبي طالب (ت: 437هـ) أربعة أقسام:

الأول: ما يحسن الوقف فيه على ﴿ كَلاّ ﴾ - على معنى الردّ لما قبلها والإنكار له فتكون بمعنى: ليس الأمر كذلك، والوقف عليها في هذه المواضع هو الاختيار ويجوز الابتداء بها على معنى « حقّ » أو « ألاَ » وذلك في أحد عشر موضعاً منها موضعان في سورة مريم آية 78 و 79، وآية 81 و 82 وفي سورة المؤمنون آية 100 وفي سورة سبأ آية 27 وموضعان في سورة المعارج آية 14 و 15 وآية 38 و 39 وموضعان في سورة المدثر آية 15 و 16 وآية 52 و 53 وموضع في سورة المطفّفين آية 13 و 14 وسورة الفجر آية 16 و 17 وسورة الحطمة آية 3 و 4.

قال: فهذه أحد عشر موضعاً، الاختيار عندنا وعند أكثر أهل اللغة أن تقف عليها على معنى النفي والإنكار لما تقدمها ويجوز أن تبتدئ بها على معنى « حقّ » لجعلها تأكيد للكلام الذي بعدها أو الاستفتاح.

الثاني: ما لا يحسن الوقف فيه عليها ولا يكون الابتداء بها على معنى « حق » أو « ألاَ » أو تعلقها بما قبلها وبما بعدها ولا يوقف عليها ولا يبتدأ بها والابتداء بها في هذه المواضع أحسن وذلك في ثمانية عشر موضعاً:

موضعان في سورة المدثر آية 32 و آية 54 وثلاثة في سورة القيامة آية 11 و آية 20 و آية 26 وموضع في سورة النبأ آية 4 وموضعان في سورة عبس آية 11 وآية 23 وموضع في سورة الانفطار آية 9 وثلاثة مواضع في سورة المطففين آية 7 وآية 15 وآية 18 وموضع في سورة الفجر آية 21 وثلاثة مواضع في سورة العلق آية 6 وآية 15 وآية 19 وموضعان في سورة التكاثر آية 3 وآية 5.

فهذه ثمانية عشر موضعاً، الاختيار عندنا، وعند القرّاء، وعند أهل اللغة، أن يبتدأ بها أي ﴿ كَلاّ ﴾ على معنى « حق » أو « ألاَ » وألاّ يوقف عليها.

الثالث: ما لا يحسن الوقف فيه عليها، ولا يحسن الابتداء بها، بل تكون موصولة بما قبلها من الكلام وبما بعدها وذلك في موضعين: الأول في سورة النبأ آية 5 وسورة التكاثر آية 4، فلا يحسن الوقف عليها ولا الابتداء بها.

الرابع: ما لا يحسن الابتداء بها ويحسن الوقوف عليها وهو موضعان: وهما في سورة الشعراء آية 15 وآية 62.

قال الإمام مكي: فهذا هو الاختيار، ويجوز في جميعها أن تصلها بما قبلها وبما بعدها ولا تقف عليها ولا تبتدئ به. (165)


د: حكم الوقف على ﴿ ذَلِكَ ﴾:

يستعمل لفظ ﴿ ذَلِكَ ﴾ في بعض موارده في فصيح الكلام منثوره ومنظومه في الانتقال من غرض الى غرض ومن شأن الى شأن ومن قصة إلى أخرى ومن معنى إلى معنى.

قال العلاّمة الزمخشري (ت: 538هـ): في ﴿ ذَلِكَ ﴾ في قوله تعالى ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ ... ﴾ (الحج/30): ﴿ ذَلِكَ ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر والشأن ذلك، كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر، قال: هذا، وقد كان كذا وكذا انتهى (166) ومعنى هذا انّ اسم الإشارة ﴿ ذَلِكَ ﴾ أو « هذا » يذكر أحياناً للفصل بين كلامَيْن أو بين وجهَيْ كلام واحد.

وقال القرطبي (ت: 671هـ) عن « ذلك » في قوله تعالى ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ ﴾ (سورة محمد/4)، وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام وهو كما قال تعالى: ﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾ (سورة ص الآية/55)، أي هذا حق وأنا أعرفكم أن للظالمين كذا انتهى. (167)

وقد وقع هذا اللفظ في مواضع كثيرة في القرآن الكريم ولكنه لم يستعمل في المعنى الآنف الذكر إلاّ في مواضع معينة من القرآن العظيم، ولا يصح الوقف عليه إلاّ في المواضع التالية:

الموضع الأول: قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ (الحج/30).

في لفظ ﴿ ذَلِكَ ﴾ في هذه الآية إعراب:

الأول: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير: الذي ذكرته لكم في سابق الآيات ذلك.

الثاني: أن يكون مبتدأ حذف خبره والتقدير: ذلك حكمُ الله.

الثالث: أن يكون في موضع نصب على أنه مفعول لفعل محذوف والتقدير امتثلوا ذلك.

قال العلامة الآلوسي: واختيار ﴿ ذَلِكَ ﴾ هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته... انتهى. (168)

أخذ التعظيم وبعد المنزلة من اللام لأنها موضوعة للدلالة على بعد المشار إليه، إمّا في الحسن والمكان وإمّا في الرتبة والمكانة.

وعلى هذه الإعراب الثلاثة ينتفي الارتباط اللفظي بين ﴿ ذَلِكَ ﴾ وبين الجملة بعده وهي ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ ... ﴾ لأن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وبناءً على ما ذكر يكون الوقف على ﴿ ذَلِكَ ﴾ كافياً. (169)

الموضع الثاني: أيضاً سورة الحج الآية 32.

الموضع الثالث: أيضاً سورة الحج الآية 60.

الموضع الرابع: سورة محمد (ص) الآية 4.

إعراب ﴿ ذَلِكَ ﴾ في هذه المواضع الثلاثة الأخيرة كالموضع الأول والوقف على ﴿ ذَلِكَ ﴾ كافٍ لتحقق التعلق المعنوي وانتفاء التعلق اللفظي، وما عدا هذه المواضع الأربعة لا يصح الوقف فيها على ﴿ ذَلِكَ ﴾.

 

هـ: حكم الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾:

أمّا الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾، يوقف عليه في المواضع الآتية:

الموضع الأول: ﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ﴾ (الكهف /91).

الكاف في ﴿ كَذَلِكَ ﴾ في هذه الآية يحتمل أن تكون في موضع رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: أمر ذي القرنين كذلك.

ويحتمل أن تكون صفة مصدر محذوف لـ « وَجَدَ »، أي وجدها تطلع وجداناً مثل وجدها تغرب في عين حمئة. وعلى هذا الوجه تكون في محل نصب.

ويحتمل أن تكون في محل جرّ على أنها صفة قوم، والتقدير وجدها تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليه الشّمس في الكفر والحكم.

والحاصل أنّ الكاف هنا اسم بمعنى « مثل » في موضع رفع أو نصب أو جرّ.

وعلى جميع هذه الإعرابات قالوا في « وقد أحطنا » للاستئناف، وحينئذ ينتفي التّعلّق اللّفظي بين ﴿ كَذَلِكَ ﴾ وبين ما بعده ويتحقق التعلق المعنوي فيكون الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾ كافياً.

الموضع الثاني: سورة الشعراء الآية 59: ﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ

في الكاف من ﴿ كَذَلِكَ ﴾ في هذه الآية أيضاً ثلاثة أعاريب كسابقتها والواو في ﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا ﴾ يحتمل أن تكون مستأنفة، وأن تكون عاطفة جملة ﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا ﴾ على جملة ﴿ كَذَلِكَ ﴾ وعلى كلا الاحتمالَيْن يصح الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾، أمّا على كون الواو مستأنفة فظاهر، وأمّا على كونها عاطفة فهي عاطفة على أخرى وعطف الجمل لا يمنع الوقف وعلى هذا يكون الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾ حسناً.

الموضع الثالث: سورة فاطر الآية 28: ﴿ كَذَلِكَ إنّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾.

الكاف اسم بمعنى « مثل » في محل نصب صفة لمصدر « مختلف » والتقدير مختلف اختلافاً مثل ذلك، أي: مثل اختلاف الثمرات والجبال، فالوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾ في هذه الآية كاف لأن قوله تعالى ﴿ إنّما يَخْشَى اللهَ ... ﴾ مستأنف لا موضع له من الإعراب.

الموضع الرابع: سورة الدخان الآية 28: ﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾.

في الكاف من ﴿ كَذَلِكَ ﴾ في هذه الآية وجهان من الإعراب:

الأول: أن تكون مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر كذلك.

الثاني: أن تكون منصوبة المحلّ على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير: أهلكناهم اهلاكاً وانتقمنا منهم انتقاماً كذلك أو التقدير: كم تركوا تركاً مثل ذلك الترك.

ويصحّ الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾، لأنّ « الواو » في « ﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا ﴾ تحتمل الاستئناف والعطف على «تركوا» وعلى كلّ يصح الوقف لأن عطف الجمل لا يمنع الوقف، وحينئذ يكون الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾ في هذه الآية حسناً وما عدا هذه المواضع لا يجوز الوقف على ﴿ كَذَلِكَ ﴾. (170)

 

و: حكم الوقف على ﴿ هَذَا:

أمّا الوقف على ﴿ هَذَا ﴾ فيوقف عليه في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول:

﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾ (سورة ص/55) يحتمل أن يكون ﴿ هَذَا ﴾ خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير: الأمر هذا، أي: أمر المتقين وشأنهم وجزاؤهم هذا الذي سبق بيانه.

ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره محذوف والتقدير هذا - الذي تقدم شرحه - جزاء المؤمنين ثم بيّن جزاء غير المؤمنين فقال: ﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾.

ويحتمل أن يكون مفعولاً به لفعل محذوف، والتقدير: اعلموا هذا، أي: هذا الجزاء الذي أعدّه الله لعباده المؤمنين لتعلموا أن الحصول عليه بمباشرة أسبابه وهي الإيمان والأعمال الصالحة.

وعلى جميع هذه الاحتمالات فالواو في ﴿ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ... ﴾ للاستئناف على ما هو الأظهر، ويحتمل أن تكون للعطف عطفت جملة ﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾ على جملة ﴿ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ (ص/49) وعلى ذلك يكون الوقف على ﴿ هَذَا ﴾ حسناً.

الموضع الثاني:

﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ (سورة ص/57) أنَّ ﴿ هَذَا ﴾ في هذه الآية خبر مبتدأ مضمر تقديره: العذاب هذا، أي: الذي تقدم بيانه، وعلى ذلك يكون الوقف على ﴿ هَذَا ﴾ حسناً.

الموضع الثالث:

﴿ قَالُواْ يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ (يس/52) الظاهر من سياق الآية، وفحواها أنّ اسم الاشارة مبتدأ، وما: اسم موصول خبره وجملة ﴿ وَعَدَ الرَّحْمَنُ ﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ معطوفة على جملة الصلة قبلها وعلى هذا الإعراب لا يصحّ الوقف على اسم الاشارة لما فيه من فصل المبتدأ عن خبره، وجوّزوا أن يكون اسم الإشارة صفة لمرقدنا لتأويله بالمشتق، وعلى هذا يصحّ الوقف عليه وبناء على ذلك الإعراب يكون « ما » في قوله تعالى ﴿ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ ﴾ اسم موصول مبتدأ ويكون خبرها محذوفاً تقديره: حقٌ ويصحُّ على هذا الإعراب أن تكون « ما » خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو ما وعد الرحمن ... وما عدا هذه المواضع لا يسوغ الوقف فيها على ﴿ هَذَا ﴾.

 

المسألة التاسعة:

« في بيان مذاهب القرّاء في الوقف والابتداء »

لا بدّ من معرفة أصول مذاهب الأئمة القرّاء في الوقف والابتداء ليعتمد في قراءة كلٍّ مذهبَه.

أ- نافع:

كان يراعي محاسن الوقف والابتداء بحسب المعنى والسياق وقد ورد عنه النص بذلك. (171)

2- ابن كثير:

كان يعتمد الوقف على رؤوس الآي مطلقاً، وأما أواسطها فقد ورد عنه أنه كان يقول: إذا وقفت في القرآن على قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ ﴾، وعلى قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ ﴾ وعلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ لم أبال بعدها وقفت أم لم أقف.

وعلّق ابن الجزري وقال: وهذا يدل على أنه كان يقف حيث ينقطع نفسه. (172)

3- أبو عمرو بن العلاء:

إنّه كان يتعمّد الوقف على رؤوس الآي ويقول هو أحبّ إليّ وأما أواسط الآي فإنه كان يطلب حسن الابتداء ونقل عنه أنّه كان يراعي حسن الوقف. (173)

4- عاصم الكوفي والكسائي:

كانا يتحريان تمام المعنى فيقفان عنده ويلزم من هذا حسن الابتداء. (174)

5- حمزة الزيات الكوفي:

اتّفقت الرواة عنه أنّه كان يقف عند انقطاع النفس، فقيل لأنّ قراءته التحقيق والمدّ الطويل فلا يبلغ نفس القارئ إلى وقف التمام، ولا إلى الكافي، ثم قال ابن الجزري: وعندي انَّ ذلك من أجل كون القرآن عنده كالسورة الواحدة فلم يكن يتعمّد وقفاً معيناً، ولذلك آثر وصل السورة بالسورة، فلو كان من أجل التحقيق، لآثر القطع على آخر السورة. (175)

وأمّا باقي القرّاء فكانوا يراعون حسن الحالتين من الوقف والابتداء والله تعالى أعلم.

كانت هذه دراسة في علم الوقف والابتداء سيكون لنا تطبيق في سورة الحمد ومئة آية متتالية من سورة البقرة على ضوء ما طرحناه في الفصول السابقة، فنبيّن إعراب المفردات المهمة في كل آية، وإعراب الجمل فيها وبيان أنواعها ومدى ارتباطها، ببعض أو عدم ارتباطها ونبيّن وجوه الاختلاف في الإعراب وفي الوقف والابتداء على الكلمات والجمل القرآنية إن شاء الله تعالى.

 



(136) معالم الاهتداء للحصري ص 71 و 72.

(137) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/231. 230.

(138) التهسّف في الكلام: أخذه على غير هداية ولا دراية وتكلّف منه حمله على معنىً لا تكون دلالته عليه ظاهرة. أقرب الموارد 2/781.

(139) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ص 236.

(140) منار الهدی للأشموني ص 9.

(141) كتاب البرهان للزركشي 1/437.

(142) ن.م. ص 441- 442.

(143) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ص 237.

(144) ن.م. ص 237.

(145) معالم الاهتداء للحصري ص 162و 163.

(146) نُصير بن محمد، يبدو أن «محمد» هو «يوسف» فالمشار إليه هو نصير بن يوسف أبو المنذر النحوي الرازي البغدادي له كتاب «وقف التمام» توفي في حدود سنة (240هـ) وهو تلميذ الكسائي، وقيل صاحب الكسائي والأصمعي وأبا زيد. ابن النديم الفهرست ص 89 ؛ انباء الرواة للقفطي 3/347.

(147) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/237.

(148) منار الهدی ص 19.

(149) معالم الاهتداء للحصري ص 40.

(150) نهاية القول لمحمد مكي نصر ص 222.

(151) البرهان للزركشي 1/434.

(152) الأمالي النحوية لأبي عمرو عثمان المعروف بابن الحاجب تحقيق الدكتور عدنان صالح مصطفی، ص 275، دار الثقافة – قطر الطبعة الأولی سنة 1406هـ - 1986م.

(153) ن. م. ص أيضاً.

(154) ن.م. ص أيضاً.

(155) الكشف عند أحكام الوقف والوصل في العربية، للدكتور محمد سالم محسن، دار الجيل بيروت - الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م، ص52.

(156) الكشف عن أحكام الوقف والوصل في العربية للدكتور محمد سالم محسن، دار الجيل بيروت، الطبعة الأولی سنة 1412هـ - 1992م، ص 52.

(157) معالم الاهتداء للحصري ص 105.

(158) وهي سورة البقرة آية 11و 112 سورة آل عمران آية 75و 76 وآية 124و 125 وسورة الأعراف آية 172 وسورة النحل آية 28 وسورة يس آية81 وسورة غافر آية 50 وسورة الاحقاف آية 33 وسورة الانشقاق آية 14 و 15.

(159) معالم الاهتداء للحصري 116.

(160) وهي: سورة النحل آية 38، سورة سبآ آية 3، سورة الزمر آية 9، سورة الأحقاف آية 33، سورة التغابن آية 7، سورة القيامة آية 4، سورة البقرة آية 260، سورة الزمر آية 71، سورة الزخرف آية 80، سورة الملك آية 9 وسورة الحديد آية 14.

(161) البرهان للزركشي 1/454.

(162) البرهان للزركشي 1/455.

(163) معالم الاهتداء للحصري ص 128و 129.

(164) البرهان للزركشي 1/447.

(165) البرهان للزركشي 1/450- 452.

(166) تفسير الكشاف للزمخشري 3/154 نشر أدب الحوزة قم / إيران افست الطبعة المصرية لا.ت.

(167) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671هـ) 16/229هـ ط. الثالثة دار الكاتب العربي للطباعة والنشر القاهرة مصر 1387هـ - 1967م.

(168) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم لأبي الفضل شهاب الدين الألوسي (ت 270هـ) 17/147 إدارة الطباعة المنيرية دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان لا.ت.

(169) معالم الاهتداء للحصري ص 164-166.

(170) معالم الاهتداء للحصري ص 170.

(171) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج 1 ص 238.

(172) ن.م. ص 238.

(173) ن.م. ص 238.

(174) معالم الاهتداء للحصري ص 176.

(175) النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج 1 ص 238.