الكتاب |
الوعدُ والوعيدُ في القرآن الكريم |
تأليف |
الشيخ عارف هنديجاني فرد |
إعداد ونشر |
جمعية القرآن الكريم |
الطبعة |
الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت |
موقع جمعية القرآن الكريم |
www.qurankarim.org |
بريد جمعية
القرآن
الكريم |
info@qurankarim.org |
إذا كان الباب الأول من هذا البحث قد عرض
للوعد والوعيد بما هما ترغيب وترهيب وتذكير،
وأتى على وجوه الكلام فيهما عند أهل اللغة،
إضافة إلى ذكر أنواعهما في الخير والشر، وغير
ذلك مما عرضنا له من أسلوب ومنهج ورؤية
متكاملة قدمها القرآن حول أثرهما في الحياة
الدنيا، وما يكون لهما من فائدة على مستوى
التحول الإنساني في طريق الكدح إلى الله
تعالى. فإنّ هذا المبحث بعون الله تعالى،
سيعرض للوعد والوعيد فيما ينتظره الإنسان في
آخرته، لكون الوعد والوعيد قد انقسم في القرآن
إلى ما يكون منه في الدنيا، وما يكون منه في
الآخرة، وهذا ما تمّ لحاظه تحت عنوان الغاية
والاستحقاق، والمنهجية التربوية التي يؤسس لها
القرآن في ضوء الهدف الرسالي وحقيقة استخلاف
الإنسان في الأرض وتمايزه عن سائر الكائنات...
وبما أن للوعد والوعيد غاية تربوية وتكاملية
في الحياة الدنيا، فإن الأمر لم يقتصر على ذلك
وحسب، بل تجاوزه إلى ترشيد وهداية الإنسان إلى
ما يكون له من مآلات في الآخرة، لأن الإنسان
لم يخلق سدىً ولم يترك هملاً، وقد اقتضت
الحكمة الإلهية، والعدالة الإلهية أن يكون
للإنسان حساب وعقاب على ما يأتيه من أعمال،
ويؤديه من التزامات، سواء في إطار علاقاته
الإنسانية والاجتماعية..إلخ، أم في إطار
العلاقة مع ربه، وقد هداه الله تعالى النجدين
إما شاكراً وإما كفوراً، هذا فضلاً عمّا قدّره
له من هداية في التكوين والتشريع، كما في قوله
تعالى: ﴿
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن
تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[252] ،
وهذا ما أشرنا إليه في عرضنا له من رأي
للعلامة اليزدي بأنّ الهداية التشريعية هي جزء
من تقدير خلق الإنسان، ومن دونها يستحيل إسكان
الإنسان على هذه الأرض واستخلافه فيها...
لقد أوحى الله تعالى في كثير من الآيات أن ما
ينتظر الإنسان في آخرته هو وعد ووعيد أيضاً
تماماً كما كان له من وعد ووعيد في الدنيا،
وقد واتر الله تعالى أنبياءه ورسله إلى الناس
منذ النبي آدم (عليه السلام) إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) ليستأدوهم ميثاق
نظرته، ويذكّروهم بمنسيِّ نعمته، ويحتجّوا
عليهم بالتبليغ، لأجل أن يهتدوا إلى سبيل
السلامة في الدين والدنيا والآخرة، ويفوزوا
بسعادة الدارين، وكانت النتيجة أن آمن من آمن،
وكفر من كفر، فتمّت الحجّة على العباد،
واستحقوا منازل الثواب والعقاب ولا يُظلمون
فتيلاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
نعم، إنّ الله تعالى قدّر لهذا الإنسان أن
يكون خليفته في الأرض، وأن يكون مكلّفاً
وممتحناً بالخير والشر فتنة: ﴿
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي
جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
﴾
[253] .
كما شاء الله تعالى أن يكون الإنسان ممتحناً
بأنواع البلاء اختباراً له أيصبر أم يجزع،
أيشكر أم يكفر؟ ﴿
وَمَن
شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن
كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾
[254] .
إنها مشيئة الله سبحانه في خلقه، وقد وعد
وأوعد وتوعّد في الدنيا والآخرة، ترغيباً
وترهيباً وتنبيهاً وتذكيراً ليكون الإنسان
مهتدياً إلى سواء السبيل، وسالكاً من منازل
الدنيا إلى منازل الآخرة على يقين من ربّه،
وعلى سلامة من دينه، تلك مشيئة الله عزّ وجلّ،
ولا معقب لحكمه، كما قال الله تعالى: ﴿
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراًَ
﴾
[255] .
إذاً، الوعد والوعيد ومنازل الآخرة، كل ذلك
ليس منقطعاً عن الدنيا، بل هو امتداد لها، كما
قال الله تعالى: ﴿
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ
لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
[256] .
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن مبحثنا هذا ليس
مجرّد عرض للآراء، وإنما هو مناقشة مستفيضة
لآراء العلماء بحسب ما ذهبوا إليه من آراء
ومقولات، وفيما أوّلوه من آيات، لعلنا نوفّق
إلى استخلاص موقف، أو تحقيق رؤية جديدة من
خلال تأكيد المواقف أو معارضتها، وطالما أننا
نبغي القربة إلى الله عزّ شأنه، فذلك يحتّم
علينا أن نعرض لآيات الله جلّ وعلا المباركة
التي اشتملت على الوعد والوعيد في الآخرة،
وحذّرت الإنسان من يوم الوعيد، اليوم الذي لا
ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب
سليم، وقد جاء في الأحاديث عن أهل العرفان
والتقوى، أنّ مَن مات فقد قامت قيامته، وأن
الإنسان يعبر مسالك الحياة إلى يوم لا بدّ أنه
ملاقيه، يوم يبدأ من وعد الدنيا إلى وعد
الآخرة، ومن وعيد الدنيا إلى وعيد الآخرة،
تصديقاً لما جاء في الآيات، وتحقيقاً لوعد
الله تعالى بأن الإنسان يُبعث للحساب، ويكون
له جزاؤه جزاءً وفاقاً، وقد نبّه رسول
الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه
المسلكية في مسيرة الإنسان، داعياً إلى
الاعتبار من جنائز الموتى في الطريق إلى أول
منازل الآخرة، وكما جاء في كتاب الدعوات، أن
رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا
أتبع جنازة يُرى عليه كآبة، ويقول للناس:
«زوروا قبور موتاكم، وسلّموا عليهم، فإن لكم
فيهم عبرة»، ثم قال: «إنَّ
القبر أوّل منازل
الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن
لم ينج منه فما بعده شرّ منه»
[257] ، وكان
الإمام علي (عليه السلام) يقول في زيارته لأهل
القبور: «يا أهل التربة، يا أهل الغربة...
أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق»
[258] .
إذاً، هذا الباب، فيما يتضمنه من بحوث،
سيتواصل مع الباب الأول، الذي تمّ التركيز فيه
على أنواع الوعد والوعيد في الدنيا والغاية من
ذلك فيما قدّمه القرآن من وعود على مستوى
التحولات الدنيوية والالتزامات في دار الدنيا،
وليس من ضرورة أن يشتمل هذا التمهيد على
تفصيلات في المبحث، بل يكفي أن نشير بإجمال
إلى ما عرض له القرآن في تجلّيات الرحمة
والعذاب في سياق تواصل الرؤية القرآنية من حيث
هي رؤية جامعة لا تفصل بين الإنسان وما أعدّ
له من فوز عظيم وخسران مبين.
وقد يكون من الضرورة أيضاً أن نبحث في مجال
اختلاف الفرق الإسلامية، وأسباب نشوء هذه
الفرق التي تجاوز بها الجدل حدّ الاعتبار
بالقرآن، لتكون فيما ارتكزت عليه، وتحولت
إليه، خلاف ما أمر الله به ودعا إليه، وهذا ما
يجدر بالباحث أن يتوقف عنده ملياً فيما لو
أراد أن يبحث عن أسباب شقاء الأمة الإسلامية،
التي يُفترض فيها أن تكون على عزّة ومنعة بما
أتاها به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
والقرآن، فإذا بها تنقسم على نفسها، وتنقلب
على أعقابها، حتى آل أمرها إلى أن تكون شرّ
أمّة بدل أن تكون خير أمّة...!؟
إنّ فصول هذا الباب، كما أشرنا، ستبدأ بعرض
الرؤية القرآنية وفقاً لمنهج موضوعي من دون أن
تغفل حقيقة ما تعرض له القرآن والسنّة وأهل
البيت (عليهم السلام) من جفاء وهجران، لأن
المشكلة، كما سيظهر لنا، كامنة في تجاهل علوم
القرآن والاجتهاد فيها على نحو يُغلب فيه
الرأي والهوى على الكتاب والسنّة، وهنا تجدر
الإشارة إلى أن مدخلية مباحث هذا الباب من
شأنها أن تمكّن الباحث من ملامسة بحوث أخرى،
كالوعد والوعيد والعدل الإلهي، والكفر والشرك
والكبائر، والجنة والنار، وغير ذلك مما اختلفت
فيه الفرق، وتنافست فيه الأهواء...
إنّ ما أجمع عليه أهل العلم هو أن الله تعالى
لا يخلف وعده لا في الدنيا ولا في الآخرة،
ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان الله تعالى يخلف
في وعيده، فمنهم من رأى أن الله يخلف وعيده
لكونه من الجود والكرم، ومنهم من رأى أن الله
تعالى صادق في وعده ووعيده ولا يتبدل القول
لديه، إلى غير ذلك مما يمكن المناقشة فيه، وقد
تضمن هذا الباب شرحاً مستفيضاً لما تعنيه
التوبة في القرآن والعفو الإلهي، وإمكانية
سقوط العذاب، إضافة إلى الشفاعة، وكلها بحوث
سبق لعلماء المسلمين أن عرضوا لها واستفاضوا
في الشرح حولها، ولكننا نرى إمكانية لمناقشة
الآراء والخلوص إلى نتائج جديدة من شأنها أن
تضيء على مسائل التبس أمرها على كثير من
العلماء، وأدّت به إلى القول على الله تعالى
بغير علم، وهنا تجدر الإشارة إلى أن مرتكز
بحوث هذا الباب هو القرآن والسنّة وليس آراء
العلماء المتفرقة في بحوث القوم القدامى
والمحدثين، وقد يستغرب بعضهم قولنا: إننا لم
نجد بحثاً مستقلاً حول الوعد والوعيد يقف على
حقيقة الرؤية القرآنية في هذا المجال، ولعل
السبب في ذلك هو الخشية من أن تبعث نزاعات
الفرق مجدداً، وهذا ما سنحاول تلافيه من خلال
التركيز على الرؤية القرآنية التي هجرتها
الفرق لتستقل بنفسها ظنّاً منها أنها تلجأ إلى
ركن وثيق فيما رأته من اجتهاد وتلفيق. والله
الموفق للفوز بمنّه إنه أرحم الراحمين.
لا شكّ في أن الموت هو من الحقائق الكبرى في
عالم الخلق والوجود، وليس هناك من شكّ في أنّ
الله تعالى قهر عباده بالموت والفناء، فهو حق،
وقد قدمه القرآن على الحياة، كما في قوله
تعالى: ﴿
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
﴾
[259] .
وقال تعالى: ﴿
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ
إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
﴾
[260] ، ومثلما
أن هناك وعد ووعيد في الحياة، فكذلك هناك وعد
ووعيد في الموت، ولكنهما يختلفان في كون
أحدهما أبقى من الآخر، وإذا كان وعد الآخرة هو
امتداد لوعد الدنيا، سواء في الخير أم في
الشر، فإن الذي يحدث التواصل، ويزيل التصارم
بينهما هو الموت والقبر الذي، كما قال
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر منازل
الدنيا وأول منازل الآخرة، ولهذا قال سلام
الله عليه موتوا قبل أن تموتوا، واعتبروا
بالموت، وزوروا قبور موتاكم وَسَلِّموا
عَلَيهم فإنّ لكم فيها عبرة، إلى غير ذلك من
الأحاديث التي لا تعدّ ولا تحصى عن الأنبياء
والأولياء (عليه السلام) في ذكر الموت وما
بعده، ويكفي أن نذكر كلام أمير المؤمنين (عليه
السلام) بقوله: «بادروا بالأعمال عُمُراً
ناكساً، أو مرضاً حابساً، أو موتاً خالساً،
فإن الموت هادم لذّاتكم ومُكدِّر شهواتكم،
ومباعد طياتكم...»
[261] .
إذاً، المبادرة إنما تكون بالأعمال، بل
بخواتيم الأعمال كما سنبيّن في هذا المبحث عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله
الأطهار، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إنما الأعمال بخواتيمها»، وبما أن القبر هو
أول منازل الآخرة، فإن نجا الإنسان منه كان ما
بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فإنّ ما بعده
شرّ منه، كما هو مفاد قول الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فهو يبيّن (صلى الله عليه
وآله وسلم) أن القبر ليس انقطاعاً، وإنما هو
تواصل جديد وعالم يدخله الإنسان لطي مراحل
جديدة، وأطوار مديدة، يكون العمل فيها صاحباً
غير مفارق، ولازماً غير مباين، وهذا العمل هو
الذي يجعل القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة
من حفر النيران، ويكفي تدليلاً على هذا ما
قاله الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة
الوداع: «معاشر الناس ليس بين الله وبين أحد
شيء يُعطيه به خيراً أو يصرف به عنه شرّاً
إلاّ العمل. أيها الناس لا يدّعي مُدّعٍ ولا
يتمنّى مُتمنٍّ، والذي بعثني بالحق لا يُنجي
إلا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت، اللهمَّ هل
بلّغت؟»
[262] .
إنّ ما ينبغي الالتفات إليه في كلام الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) هو حقيقة العمل
المشار إليه، فهل هو مجرّد عمل يؤدّيه الإنسان
في الحياة الدنيا من صلة أو قرابة، أو إحسان،
أو تكليف؟ أو هو عمل وراء ذلك تستوجبه حقيقة
الاستخلاف، وحمل الأمانة، والاستجابة لنداء
الحياة، وغير ذلك مما يمكن اعتباره خير
الأعمال في الدنيا والآخرة.؟؟
إنها أسئلة يثيرها كلام الرسول(صلى الله عليه
وآله وسلم) في لحظة حاسمة من الزمان، حيث نجده
في الخطبة ذاتها يقول (صلى الله عليه وآله
وسلم): «أيها الناس، إني فَرطكم وأنتم واردون
عليَّ الحوض، ألا وإني سائلكم عن الثقلين،
فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإن اللطيف الخبير
نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني، وسألت
ربّي ذلك فأعطانيه، ألا وإني قد تركتهما فيكم:
كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم
فتفرقوا، ولا تقصّروا عنهم فتهلكوا، ولا
تعلّموهم فإنهم أعلم منكم»
[263] .
فهل في هذا الكلام ما يرشد إلى حقيقة العمل
وقيوده؟ أم أنه يراد للإنسان أن يعمل وفق
أهوائه بحيث يعطف القرآن على الهوى، والقرآن
على الرأي، وقد قال الإمام علي (عليه السلام)
في خطبة له: «يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا
الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا
عطفوا القرآن على الرأي»
[264] ، وهذا الكلام
كان من الإمام (عليه السلام) في سياق بيان
الفرق بين من يعمل بهدى القرآن، وبين مَن يعمل
بهواه وآرائه...!؟
لقد بيّن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في
كلامه معنى أن يكون الإنسان مؤمناً وعاملاً
للصالحات، ومستوياً على جودي أعماله، بحيث
يكون صادراً في علمه وعمله عن القرآن والعترة،
وإلاّ فلن يكون مستجيباً لما دعاه إليه القرآن
والرسول، هذا فضلاً عن أن عمله لن يكون
مستوجباً لرحمة أو مؤدياً به إلى نجاة، لأن
السبق أو التقصير عن الكتاب والعترة سيؤدّي
بالإنسان إلى الهلاك، وبالتالي، فإنّ الموت
سيأخذ بالإنسان إلى أول منازل الآخرة، أي إلى
القبر، وهو على عمل غير مُرضي ناشئ عن كون
الإنسان لم يستجب لما دعاه إليه ربّه والرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث قال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ
﴾
[265] ،
وهي استجابة، فيما لو تحققت تشتمل على خير
الدنيا والآخرة، بل هي مفتاح كل خير، وزاد كل
سفر في أطوار ومنازل الدنيا والآخرة، حتّى إن
ما ذكره الشيخ القمي في كتابه عن طرق السالكين
فيما يختارونه من موت في الحياة، والذي رأى
أنه مبني على عشر قواعد، هي: التوبة، الزهد،
التوكل، القناعة، العزلة، الذكر، التوجه،
الصبر، المراقبة، الرضا، وكل هذا مفتاحه حقيقة
الاستجابة لما دعا إليه الرسول
(صلى الله عليه
وآله وسلم) ويُسأل عنه الناس في الدنيا
والآخرة، كما قال تعالى: ﴿
قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا
حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
﴾
[266] .
نعم، إنه العمل الحقيقي الذي ينبغي أن يلتزم
به الإنسان ويؤديه كما أمر الله تعالى، لا وفق
ما يرغب ويشتهي، لأنّ الطاعة الحقيقية لله
تعالى إنما تكون من حيث أراد الله تعالى، لا
من حيث ما يريد الإنسان ويختار وفق رأيه
واجتهاده، وهذا هو سرّ انهيار المنظومة
الإسلامية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، الذي عبّر عنه القرآن بالانقلاب
على الأعقاب، فكان حال المسلمين دائماً، إما
في سبق للقرآن والعترة، وإما في تقصير عنهما،
فآل أمر المسلمين إلى أن يكونوا فرقاً ومذاهب،
يتقطعون أمرهم بينهم كل حزب بما لديهم فرحون،
فإذا كان الحال كذلك، ولم يصح العمل، ونعني به
عمل الهالكين، فما يكون عليه حال هؤلاء في
القبر الذي هو أول منازل الآخرة؟ أليس ممكنا
القول إن الوعد والوعيد الذي صحب الإنسان من
دنياه إلى آخرته، هو ذاته وعد الصدق الذي
يلازم الإنسان في أطوار وجوده من الموت، إلى
القبر وأحواله، ثم البرزخ والحشر والنشور
والحساب والعرض والصراط والميزان، وصولاً إلى
منازل الوقوف على النار، أو أمام ربهم حيث
تجسيد الأعمال، ويكون الكلام: ﴿
... يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ
بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا
كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ
رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
﴾
[267] . ذلك هو معنى خواتيم الأعمال، أن يكون
للإنسان خاتمة عمله، سواء في الطاعة لله
ورسوله أم في المعصية، في الاستجابة أم في
عدمها، في المودة أم في ضدها، وقد قال الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم): «اتقوا الله عباد
الله، واثبتوا على ما أمركم به رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) من توحيد الله ومن
الإيمان بنبوّة محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم)، ومن الاعتقاد بولاية علي (عليه السلام)
ولي الله، ولا يغرّنكم صلاتكم وصيامكم
وعبادتكم السالفة، إنّما تنفعكم إن وافيتم
العهد والميثاق، فمن وفى وُفِيَ له وتفضّل
بالإفضال عليه، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه
والله ولي الانتقام منه، وإنّما الأعمال
بخواتيمها..»
[268] .
إنّ العهد والميثاق، الذي قال فيه تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن
بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
﴾
[269] . واللعنة هنا، كما هو مفاد الآية،
متواصلة من منازل الدنيا إلى منازل الآخرة،
فلا انقطاع لها، لأنها مرتبطة بنقض العهد وخلف
الوعد، فإذا لم يفِ الإنسان بعهده، فإنّ الله
تعالى لن يفِ معه، كما قال تعالى: ﴿
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ... ﴾
[270] ، والعهد هنا هو ما عهد به إلى
الناس من الإيمان والطاعة لله ورسوله فيما أمر
به ونهى عنه، وقد قال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ
اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الْأَمْرِ مِنكُمْ ... ﴾
[271] وهي طاعة واحدة للرسول وأولي
الأمر فلم يفصل بينهما بالطاعة، ما يدلّل على
أن أولي الأمر لهم الطاعة نفسها لاستحالة أن
يأمر الله تعالى عباده بطاعة مَن يأتي
بالمعصية أو الذنب، فيكون قد أمر ونهى في فعل
واحد، وحاش لله تعالى أن يأمر وينهى في فعل
واحد، هذا فضلاً عمّا تقتضيه المغايرة والعطف
من اشتراك في الحكم بين المعطوف والمعطوف
عليه، وهل أهل اللغة العربية، والبلاغة
العربية، ومَن له باع في علم النحو يجهلون
معنى ما تقدّم من دلالات مفهومية ونحوية؟
لسنا بصدد الإجابة على أسئلة سبق للعلماء
والمفسرين أن تحاوروا بشأنها وأجابوا عليها
بما يخدم مناهجهم المذهبية والطائفية، كما سبق
للفرق الإسلامية من الخوارج إلى سائر الفرق
التي لحقت بهم، أن أجابوا على هذه الأسئلة،
لكن الذي يعنينا في عنوان بحثنا، هو أنّ منازل
الآخرة ليست منازل رمزية أو تخيّلية، بل هي
منازل حقيقية تضمنها القرآن ودعا إلى عبورها
بسلام من خلال منازل الدنيا، لأن الدنيا هي
المتجر الرابح لمن أراد الخير في الدنيا
والآخرة، وقد جعلها الله مزرعة للآخرة، وقنطرة
لها، ويمكن للإنسان أن يشرف من خلالها على ما
أعدّ له من مصير، من وعد ووعيد، كما قال
تعالى: ﴿
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا
﴾
[272] ، وقد
جاء في الدعاء عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): «اللهم اجعل خير أعمالنا ما يلي
آجالنا، واجعل خيار أيامنا يوم نلقاك...»
[273] .
وكيف كان، فإنّ ما نروم بيانه في هذا المبحث،
هو أن أعمال الإنسان لا بدّ أن تأتي في سياق
أمر الله ونهيه، وبما أنّه لا يمكن تجزئة هذا
الأمر، وهذا النهي، فإنّه لا يسع الإنسان الذي
يريد عبور ما أعد له من منازل سلام، سواء في
الدنيا أم في الآخرة، إلاّ أن يلحظ مفاتيح
وأدلة النجاة، لأن لكل شيء ظاهراً وباطناً
وحدًّا ومطلعاً، كما جاء في الرواية عن أهل
البيت (عليهم السلام)، وملاك العمل هو قوامه
ونظامه، وهذا ما يفرض على الإنسان أن لا
يتلهّى بالقشور عن اللباب، بحيث تأتي الأمور
من غير أبوابها، سواء في صلاته أم في صومه أم
في حجّه، وفي سائر تكاليفه، كيف لا وقد تواتر
الكلام في تاريخ المسلمين، وعلى لسان صحابتهم
وتابعيهم، بل إنّك لا تكاد تجد كتاباً إلاّ
وكتب فيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»
[274] ،
«عليّ مع الحق والحق مع عليّ»، إلى غير ذلك من
الأحاديث التي لا يختلف حولها المسلمون، وكلها
تؤكد على أن هذا الدين، هذا الإسلام العظيم له
أبواب يؤتى منها، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ
هَادٍ ﴾
[275] ، فلا يغترنّ أحد بالتوبة، أو
بحلم الله تعالى، أو برحمته، ظنّاً منه أن ذلك
يجعله في طرق السالكين برحمة رب العالمين،
وكما قال المتقي الهندي في كنز العمال:
«فالنادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت،
وكل عامل سيقدم على ما أسلف عند موته، فإنّ
ملاك الأعمال بخواتيمها، والليل والنهار
مطيتان فاركبوهما بلاغاً إلى الآخرة، وإيّاكم
والتسويف بالتوبة، والغرة بحلم الله تعالى،
واعلموا أن الجنّة والنار أقرب إلى أحدكم من
شراك نعله، ﴿
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرّاً يَرَهُ
﴾
[276] »
[277] . وكل إنسان رهين عمله.
إن مَن يأتي من غير الباب سمّي سارقاً،
والسارق هو دائماً رهين خوفه وانقطاع السبل
به، هذا فضلاً عما يلتبس عليه من حلال وحرام،
ومن غير الممكن أن يكون هذا الدين عرضة
للسارقين فيما يأتونه من متاع، ولعلّ هذه
الأمة قد أصيبت مقاتلها حين آل أمرها إلى أن
تكون عرضة للرهبان والأحبار، ممَّن أحسنوا
ويحسنون صناعة الحديث ليطلبوا به الدنيا،
فباعوا اليقين بشكّهم، والعزيمة بوهنهم!؟.
وهكذا، فإنّ معنى أن تختم الأعمال وفق أمر
الله ونهيه أن يكون من نصبه الله إماماً
ليهتدي به الناس في سبل الحياة، ويستضيئوا
بنور علمه، وقد جاء في الرواية عن أبي عبد
الله (عليه السلام) : «بُني الإسلام على خمس،
الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية »
[278]
. فإذا كان الأمر كذلك، فلا معنى لأن يطلب
الدين من غير أهله الذين جعلهم الله تعالى
أولياءً للأمر، وأئمة يهدون إلى أمر الله
تعالى بما صبروا وكانوا يتّقون...
مما تقدّم، نستطيع القول: إنّ كلّ ما وُعد به
المتقون، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هو
إنما يأتي بلحاظ كون هؤلاء قد سمعوا عن الله
تعالى وعقلوا عنه، فسلكوا منازل الدنيا إلى
منازل الآخرة ليكونوا على فوز ورضوان من الله
أكبر، وكل الذين وعدوا بالعذاب الأليم، والذين
امتدت بهم المعاصي والكفر بما أنزل الله تعالى
من الحق، هم على صورتهم وسواد وجوههم واستغشاء
ثيابهم، لكونهم كرهوا ما أنزل الله، وحسدوا
الناس على ما آتاهم من فضله، فكان لهم ما
وُعدوا به في طيّ منازلهم من الدنيا إلى
الآخرة، وما الموت إلاّ منزلاً من منازل
هوانهم على الله تعالى ليروا أن وعد الله حقّ،
فلا يخف عنهم العذاب، ولا هم يُنصرون.
غاية القول: إنّ أحداً لا يمكنه أن يتوهّم أن
الخير أو الشر، أو الوعد والوعيد فيما يراه
الناس، أو فيما يتعبّدون به من عقائد وشرائع
تؤتى من غيرأبوابها، وتُطلب من غير أربابها،
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إنّ العبد ليعمل فيما يرى الناس عملَ أهل
الجنة، وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى
الناس عمل أهل النار، وهو من أهل الجنة،
وإنّما الأعمال بخواتيمها»
[279] . وعن الإمام
علي (عليه السلام)، قال: «صعد رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) المنبر فحمد الله وأثنى
عليه وقال: كتاب كتبه الله فيه أهل الجنة
بأسمائهم وأنسابهم مجمل عليهم لا يزاد فيه ولا
ينقص منهم إلى يوم القيامة، صاحب الجنة مختوم
بعمل أهل الجنة، وصاحب النار مختوم بعمل أهل
النار، وإن عمل أي عمل، وقد يسلك بأهل السعادة
طريق أهل الشقاء حتى يُقال: ما أشبهه بهم، بل
هو منهم، وتدركهم السعادة فتستنقذهم، وقد يسلك
بأهل الشقاء طريق السعادة حتى يُقال: ما أشبهه
بهم بل هو منهم، ويدركهم الشقاء. مَن كتبه
الله سعيداً في أم الكتاب لم يخرجه من الدنيا
حتى يستعمله بعمل يسعده قبل موته، ولو بفواق
ناقة، ثم قال: الأعمال بخواتيمها، الأعمال
بخواتيمها»، ثلاثاً...»
[280] .
هناك أحاديث كثيرة وروايات صحيحة المتن والسند
تتحدث عن مصائر الناس في طيّ منازل الوجود من
الدنيا إلى الآخرة، وتجعل ملاك العمل ما يأتيه
الإنسان بقلب سليم وفق أمر الله ونهيه، لأنه
ليس كل مَن صبر واتقى، وزهد في الدنيا، وتوكل
على الله تعالى، وهو ما عُدّد بالطرق والشرائط
للموت في الدنيا قبل الموت يكون آتياً به على
وجه الصحة. إن كل ذلك لا يأتي به الإنسان على
وجهه الصحيح إلاّ إذا أخذه من عيون الحياة،
وينابيع العلم، بل من مدينة علم الله تعالى،
ومن عنده علم الكتاب، وكثيرون هم الذين زهدوا
في الدنيا، وبَرَتهم العبادة وصيّرتهم إلى
البلى في أجسادهم وأموالهم، ولكنهم لم يهتدوا
إلى سبيل الحق، ويكفي مثالاً على ذلك الخوارج
الذين طلبوا الحق فأخطأوه، ولم يطلبوا الباطل
فأدركوه، وليس مَن طلب الحق فأخطأه كمن طلب
الباطل فأدركه، كما جاء عن أمير المؤمنين
(عليه السلام) .
إنّ أحداً لا يدخل الجنة جزافاً، لأنّ الجنّة
ليست جائزة لأحد، وإنما هي دار المتقين،
خلافاً لما زعمه «المناوي» من أن الدخول إلى
الجنة لا يكون إلاّ بالرحمة، لا بالعمل
[281]
، لأنه كلام مخالف لما جاء في كلام الرسول
(صلى
الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع بقوله:
«والذي بعثني بالحق نبياً لا يُنجي إلاّ عمل
مع رحمة»، فكيف يُقال: لا يدخل أحد الجنة
بعمله؟ فهذا كلام غير صائب لكونه يتجاهل الأمر
والنهي والتكليف، وطاعة الله والرسول في
الدنيا، وهذا فضلاً عن تجاوزه للوعد والوعيد
وكل ما يأتيه الإنسان من أعمال طلباً للثواب،
فهذا الكلام مؤدّاه إفساد الأمر والنهي، وجعل
العاقل وغير العاقل سواء
[282] !؟
إذا كان القرآن الكريم قد اشتمل على أسماء
وأحكام، مميزاً بين المؤمن والكافر والمنافق
وسائر أهل الضلال بما هم عليه من حالات
وتحولات دينية وإيمانية في الدنيا
[283] ،
فإنّ هذه المسمّيات لا تلبث أن تتغير مع حلول
الموت ودخول الإنسان إلى القبر الذي هو أول
منازل الآخرة، حيث نجد القرآن يتحدث عن أوصاف
وتقسيمات أخرى تليق بل تنسجم مع عالم الآخرة
فيما يؤول إليه الإنسان من تحولات وتبدلات في
عالم لا نعرف عنه شيئاً إلاّ ما سمّاه القرآن
وذكره في منازل الآخرة، كالبرزخ والحشر
والنشور والحساب والعرض والصراط والميزان،
وصولاً إلى منازل القيامة والجنّة والنار، تلك
المنازل التي أعدّت للإنسان بحسب ما يكون عليه
ويحق فيه من وعد ووعيد، وقد أقسم الله بيوم
القيامة، اليوم الذي يُؤتى فيه الإنسان أجره،
كما قال الله تعالى: ﴿
... وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ
﴾
[284] . وقال الله تعالى:
﴿ وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً
﴾
[285] .
لقد أعطى القرآن الكريم مواصفات أخرى للناس في
ذلك اليوم فجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
صنفاً، وجعل من المنافقين والكفار صنفاً آخر،
وقد سمّى الله تعالى الصنف الأول بأهل اليمين،
والصنف الثاني بأهل الشمال، وأعطى خصوصية
للسابقين، حيث قال الله تعالى: ﴿
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ ﴾
[286] . ولا شكّ في أنّ لهذا التقسيم
والتوصيف دلالاته في القرآن الكريم، وهي دلالة
تختلف في مضمونها عن دلالة قوله تعالى: ﴿
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ ﴾
[287] ، إذ في دلالته ما يشير إلى وجود
منزلين متقابلين، الأول يشتمل على فريق الجنة
على اختلاف درجاته ومنازله، والثاني يشتمل على
فريق السعير على اختلاف في المنازل أيضاً،
ومما روي في هذا المعنى هو ما جاء في الكافي
عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: «خطب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس ثم
رفع يده اليمنى قابضاً على كفّه، ثم قال:
أتدرون أيها الناس ما في كفّي؟ قالوا: الله
ورسوله أعلم، فقال: أسماء أهل الجنّة وأسماء
آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثم رفع يده
الشمال، فقال: أيها الناس أتدرون ما في كفّي؟
قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أسماء أهل
النار وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم
القيامة، ثم قال: حكم الله وعدل، حكم الله
وعدل، حكم الله وعدل، فريق في الجنة وفريق في
السعير»
[288].
ولا شك في أن تعقيب رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) في آخر كلامه جاء لإفادة عدم
التوهم في أن الناس قد حكم عليهم حكماً وقضاءً
لازماً، وقدراً حاتماً، إذ لو كان كذلك، كما
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : لبطل
الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد.. ﴿
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ
لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ
﴾
[289] .
لقد بيّن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
حكم الله عدل، وعدل الله حكم، وعدل فريق في
الجنة وفريق في السعير لكون الله تعالى في
علمه القديم، علم مآلات العباد، ولكن علمه
القديم شيء، وما كلّف الناس شيء آخر، كما قال
الله تعالى: ﴿
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
﴾
[290] ،
وقال الله تعالى: ﴿
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
﴾
[291] . إن
الله تعالى يمتحن عباده بالخير والشر فتنة،
كما قال تعالى: ﴿
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن
يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
﴾
[292] ،
فالآيات المباركة ناظرة ولاحظة لسنّة قديمة
جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن نتوقع
خلافها، وهذه السنن وما تقتضيه من أحداث
وتحولات هي التي تمحّص الناس، وتميز بينهم،
بحيث يظهر ويميز الذين صدقوا في الإيمان،
والذين كذبوا فيه بعد الإيمان دون أن يفتنوا
ويمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة
الإيمان، أو وصمة الكفر، وهو تعالى إنما
يحاسبهم لا على ما في علمه القديم، وإنّما بما
يظهر منهم، وكما يقول الطباطبائي (قده) :
«ويمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى
الفعلي الذي هو نفس الأمر الخارجي، فإن الأمور
الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، وأما
علمه تعالى الذاتي فلا يتوقف على الامتحان
البتة..»
[293] .
وهكذا، فإنّ ما عقّب به الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) بعد كلامه عما في كفيه، قد يكون
هادفاً إلى دفع ما قد يتوهم من جبرية وإكراه
على الفعل، وهذا ما كان مثار جدل ونزاع بين
الفقهاء والمتكلمين، ولسنا بصدد مناقشة
الآراء، وإنما نهدف إلى تبيان حقيقة ما صنّفه
القرآن، من جنّة وسعير، وشقي وسعيد، كما في
قوله تعالى: ﴿
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا
بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
﴾
[294] .
إنّ ما تجدر الإشارة إليه في سياق هذا المبحث،
هو ما عرض له القرآن من أوصاف وتقسيمات للناس
في الجنة والنار وما يكونون عليه من منازل
فيهما، أما في منازل ما قبل الجنة والنار، فلم
يلتفت كثير من الباحثين، كما نرى، إلى هذا
التقسيم، حيث نجد القرآن الكريم يُعطي
أوصافاً، ويقدم تقسيمات أخرى للناس بعد الموت
وفي أول منازل الآخرة، كما جاء في سورة
الواقعة من تقسيم الناس إلى مقرّبين، وأهل
يمين، ومكذبين ضالين، كما قال الله تعالى: ﴿
فَأَمَّا
إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا
إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)
فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
(91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ
الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ
(93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾
[295] .
فالآيات المباركة ناظرة إلى حالات الناس،
ومنازلهم ما بعد الموت وفي عالم البرزخ، وهذا
ما زلّت فيه أقدام، وتاهت فيه أقلام، حيث
رأينا أن الفقهاء يخلطون بين المنازل، ويضربون
المنادل في فقه الآيات ودلالاتها، فلم
يتدبّروا فيها ليعرفوا أنّ أوصاف الناس
وحالاتهم في عالم البرزخ هي على وعد ووعيد
أيضاً لما رآه المفسرون من أن الروح والريحان
هو روضة القبر، وجنة النعيم هي الجنة التي
يفوز ويخلد فيها الإنسان، وأن السلام من أهل
اليمين، فهو السلام بما يعنيه من أمن واستقرار
وطمأنينة في عالم القبر إلى أن تقوم القيامة،
وكذلك ما ذهبوا إليه في تفسير قوله تعالى: ﴿
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾ فقالوا هو القبر وما يكون عليه من نيران،
وتصلية جحيم، هي ما يؤول إليه من منزل أهل
التكذيب والضلال لكونهم أهل المشأمة، كما قي
سورة الواقعة. وهنا تبدو لنا مطالعة عجيبة
وفريدة في آن قدّمها الكاشاني في تفسيره
الصافي، مفادها أنه يُلحق عالم البرزخ بعالم
الدنيا، رغم أنه منزل مستقل بذاته، وهو أول
منزل كما أفاد الرسول من منازل الآخرة، ولم
يعد للإنسان، بعد الموت أي ارتباط به، وهو
ينقل قول القمي ويؤيده بأن آيات الشقاء
والسعادة والخلود في الجنة، ما دامت السماوات
والأرض، هي إنما تفيد نار الدنيا قبل يوم
القيامة، قال: ﴿
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا
﴾ يعني في جنان
الدنيا التي تنقل إليها أرواح المؤمنين: ﴿
مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا
مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
﴾ ، يعني غير مقطوع من نعيم
الآخرة في الجنة وهو متصل به، قال: «وهو
ردّ
على مَن أنكر عذاب القبر والثواب والعقاب في
الدنيا وفي البرزخ قبل يوم القيامة»
[296] .
فالعلاّمة يحاول إثبات العذاب في القبر من
خلال آيات الشقاء والسعادة الخاصة بالجنة
والنار، في حين أنه كان بإمكانه إثبات ذلك من
خلال سورة الواقعة المشار إليها أعلاه، هذا
أولاً.
ثانياً: إنّ ما أفاده كلام المفسر الكاشاني عن
جنان الدنيا واتصالها بنعيم الآخرة لا يُبقي
معنى ولا دلالة لقوله أن أرواح المؤمنين تنقل
إلى جنان الدنيا طالما عرفنا أن عالم البرزخ
ليس تابعاً لعالم الدنيا، ولا هو منزل من
منازله، وإنّما هو منزل، بل أول منزل من منازل
الآخرة. فإذا كان الأمر كذلك، فلا يكون معنى
للقول بجنة الدنيا، لأن الدنيا ليس فيها جنة،
وقد رأينا أن عالم البرزخ فيه وعد ووعيد، وروح
وريحان، ونزلٌ من حميم، وليس في الدنيا شيء من
ذلك. وإنّ مما يدلّ على هذا قوله تعالى: ﴿
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً
وَعَشِيّاً
﴾
[297] ، وهذا ما فسّره الإمام الصادق
(عليه السلام) : بأنه نار البرزخ قبل يوم
القيامة إذ لا غدوّ ولا عشيّ في القيامة، ثم
قال: ألم تسمع قول الله تعالى يوم تقوم
الساعة: ﴿
أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ
﴾
[298] .
نعم، للبرزخ منازله وناره وجنّته ووعده
ووعيده، ودليل ذلك هو آيات الواقعة، وما قسّم
إليه الناس من أقسام، ووصفوا به من أوصاف
تجعلهم على تواصل مع الجنة التي وعدها الله
تعالى المتقون، والنار التي وعدها الله تعالى
للمكذبين الضالين، وهذه الأوصاف والأصناف في
منازل الآخرة لا تحجب الكلام عمّا ذكره الشيخ
الكليني عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
«الناس على ست فرق، يَؤولون كلهم إلى ثلاث
فرق: الإيمان والكفر والضلال، وهم أهل الوعد
الذين وعدهم الله الجنة والنار، المؤمنون
والكافرون والمستضعفون والمرجون لأمر الله إما
يعذبهم وإمّا يتوب عليهم والمعترفون بذنوبهم
خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وأهل الأعراف»
[299] .
وهذا الكلام عن الإمام (عليه السلام) يعني،
كما يرى المحقق الغفاري، أن الناس ينقسمون
أولاً إلى ثلاث فرق بحسب الإيمان والكفر
والضلال، ثم أهل الضلال ينقسمون إلى أربع فرق
فيصير المجموع ست فرق:
الأولى: أهل الوعد بالجنة وهم المؤمنون الذين
أطاعوا الله والرسول بالقلب واللسان.
الثانية: أهل الوعيد بالنار وهم الكافرون،
وأريد بهم مَن كفر بالله ورسوله وبجميع ما جاء
به الرسول، أو خالف الله في شيء من كبائر
الفرائض استخفافاً.
الثالثة: المستضعفون وهم الذين لا يهتدون إلى
الإيمان سبيلاً لعدم استطاعتهم كالصبيان
والبله والمجانين ومَن لم تصل إليه الدعوة.
الرابعة: المرجون لأمر الله تعالى، المؤخر
حكمهم في يوم القيامة، ولم يأتِ لهم وعد ولا
وعيد في الدنيا وإنما أخَّر أمرهم إلى مشيئة
الله فيهم، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وهم
الذين تابوا من الكفر ودخلوا في الإسلام إلاّ
أنه لم يتقرّر في قلوبهم، وهذا التفسير
للمرجئين بحسب هذا التقسيم، يدلّ على أن أهل
الضلال كلهم مرجون لأمر الله تعالى.
الخامسة: فساق المؤمنين الذين خلطوا عملاً
صالحاً وآخر سيئاً ثم اعترفوا بذنوبهم فعسى أن
يتوب الله عليهم
[300] .
السادسة: أصحاب الأعراف وهم قوم استوت حسناتهم
وسيئاتهم، لا يرجح أحدهما على الأخرى ليدخلوا
الجنة أو النار فيكونون في الأعراف حتى يرجّح
الأمر بمشيئة الله تعالى. ومن هنا نلاحظ أن
هذا الشرح لحديث المعصوم جامع لما عرض له
القرآن عن أصناف الناس وأحوالهم، وقد سماهم
الإمام (عليه السلام) بأهل الوعدين، أي أهل
الوعد، وأهل الوعيد، ولكن السؤال الذي يطرح
هنا هو: هل في الحديث أو في شرحه ما يشير إلى
منازل هؤلاء جميعاً؟ وهل يمكن للمتدبّر في
دلالة الحديث أن يحصر الكلام في الوعد والوعيد
على النحو الذي يُفيد بوجود منزلين، هما الجنة
والنار دونما اعتبار لدلالة المفهوم بحيث
يقتصر في الكلام على منطوقه؟
وهناك سؤال ثالث يمكن طرحه أيضاً، وهو أن
الحديث يشير إلى أهل الضلال بغض النظر عن
تقسيماتهم باعتبارهم أهل وعيد، فهل للباحث أن
يتدخّل في مشيئة الله تعالى طالما عرفنا
مسبقاً لما أفاده الشريف الرضي في المشيئة
بأنه لا يستفاد من دلالات الآيات جزافية
المشيئة، وإنما هي خاضعة، كما يرى الطباطبائي
(قده)
، للحكمة والعدالة، فضلاً عن اعتبار المصلحة،
وهذا برأينا، فيما لو أخذنا به يحصر الكلام في
أهل الوعدين، وهنا تكمن إشكالية البحث باعتبار
أن اجتناب الكبائر هو شرط لتكفير السيئات
ودخول الجنة، كما قال الله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً
﴾
[301] .
وانطلاقاً من ذلك، سنعرض لما نراه بعد نظر
وتدبّر ونسأل العليّ الحكيم الهداية والتوفيق،
لعلنا فيما سنعرض له من رأي جديد يفيد
الباحثين والمفسرين، أو على الأقل يفتح
أبواباً للنقاش من خلال إثارة المزيد من
الأسئلة، فنقول: إنّ الآيات القرآنية المباركة
تتحدث عن أصناف الناس ومنازلهم في الآخرة،
باعتبار أن الهدف من التشريع، بل من الترهيب
والترغيب والتنبيه والتذكير والوعد والوعيد هو
نظم حياة الإنسان وتكميله لتحقيق الفوز له في
عالم الخلود والبقاء، وقد تحدث القرآن: ﴿
وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
﴾
[302] ،
وكما نلاحظ أن القرآن قدم أصحاب الميمنة
وأصحاب المشأمة على السابقين السابقين لكثرة
أولئك، وقلة هؤلاء
[303] وهذا إن دلّ على شيء،
فإنّه يدل على منازل ثلاثة يكون فيها للناس ما
يستحقونه من النعيم أو الجحيم، وهم أهل الوعد
والوعيد كما عرض القرآن لهم لا فقط في الدنيا،
وإنما في الآخرة أيضاً، لكون القرآن حديث الله
تعالى: ﴿
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً
﴾ . وعليه، فإنه لا معنى
للاستغراق فيما لا طائل منه من تقسيم الناس
إلى فرق، والفرق إلى منازل، بل يكفي الباحث أو
الفقيه أو المفسّر أن يلحظ سياق الآيات من
خلال ضمّ بعضها إلى بعض ليستنتج أن القرآن قدم
رؤية متكاملة عمّا يتحول فيه الإنسان من منازل
في الوجود قبل منازل الخلود، فقال الله تعالى
بعد أن عرض في السورة ذاتها ـ أي سورة الواقعة
ـ للأزواج الثلاثة لأحوال الناس وأصنافهم
وأوصافهم في أول منازل الآخرة الذي يأتي بعد
الموت مباشرة، حيث قال الله تعالى: ﴿
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا
تُبْصِرُونَ
﴾
[304] . فالآية ناظرة
إلى حقيقة الموت فيما تلقيه من حجة على من
يزعم أنه غير مدين، كما قال الله تعالى: ﴿
فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
﴾
[305] .
نحن نرى أن هدف القرآن من ذكر هذه الأزواج في
البداية، ثم الإتيان على ذكر حالات وأحوال
وأصناف الناس في أول منازل الآخرة، هو هداية
الإنسان إلى ما يكون له من منازل من يوم موته
إلى يوم القيامة والحساب، ولعل الهدف من عرضها
في سياق واحد، وفي سورة واحدة، هو لإبعاد
التوهم، وإظهار الدلالة الحقيقية لمعنى تحولات
الإنسان وتبدلاته، بحيث لا يلتبس عليه الأمر
فيما يكون له من تحول في منازل الآخرة بعد
الموت. كما أنه يمكن لمتدبّر عاقل أن يدرك
معنى قوله تعالى: ﴿
فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ
﴾
[306] ، وقوله
تعالى: ﴿
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ...
﴾
[307] ، له ذات الدلالة في
قوله تعالى: ﴿
وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
﴾
[308] ، وكذلك
الحال بالنسبة لقوله تعالى: ﴿
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ...
﴾
[309]
المفسّر بقوله تعالى: ﴿
وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ
الضَّالِّينَ
﴾
[310] .
وهذه حالات وأصناف، كما بينّا، تمتدّ بالإنسان
من عالم البرزخ إلى عالم الخلود في الجنة أو
في النار، ولكل من هذه الحالات وعده ووعيده في
القرآن يتبصّر به الإنسان ويستدلّ على حالته،
وحقيقة منزله من خلال آيات الوعد والوعيد،
وهنا نشير أيضاً إلى لطائف دقيقة لها
تجلّياتها فيما اختلفت فيه الآية من دلالات،
حيث يمكن للباحث أن يتدبّر في قوله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[311] ، ليجد أن المقرّب في عالم البرزخ،
والمقرّب في عالم الجنة ينطبق عليه هذا الوعد
لكونه رضوان من الله أكبر، وهي الآية الوحيدة
في القرآن التي يمكن أن يستدلّ من خلالها
الباحث على قوله تعالى: ﴿
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
﴾
[312] ،
فهذا منزل متواصل من الدنيا إلى أول منازل
الآخرة، إلى منازل الخلود حيث رضوان الله
أكبر، وأهّله لهم حقيقة الامتداد في الوجود
والخلود، وهم من القلة بحيث لا يجد الإنسان
المؤمن المتدبّر مزيد عناء للاهتداء إلى فرادة
حالهم، وحقيقة مساكنهم الطيبة المشار إليها في
الآية المباركة، ويكفي التدليل على ما نذهب
إليه أن نتدبّر في سياق قوله تعالى: ﴿
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً
﴾
[313] .
أما قوله تعالى: ﴿
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ
﴾
[314] ، فإن وعده
في القرآن، هو قوله تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ
حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً
﴾
[315] .
يبقى قوله تعالى: ﴿
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَشْأَمَةِ
﴾
[316] ، فإنّ
وعده بالقرآن، هو قوله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ
وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُّقِيمٌ
﴾
[317] . إنها أزواج
ثلاثة أعدت لها منازل في مراحل تحققاتها
وتبدّل أزمانها، وتحوّل حالاتها، كل حسب ما حق
له من القول والوعد الحق، ويمكن لأهل اللغة أن
يتأملوا جيداً في معنى الخلود في القرآن، فهو
في كل صيغه القرآنية جاء بصيغة اسم الفاعل،
ولم يأتِ بصيغة اسم المفعول إطلاقاً ما يدلّل
على أن ما يكون لهؤلاء، سواء لأهل الوعد أم
لأهل الوعيد إنما يكون لهم بفعلهم بما آمنوا
وعملوا الصالحات، أو بما نافقوا وكفروا، لأنّ
اسم الفاعل يُصاغ للدلالة على مَن فعل الفعل
أو قام به، خلافاً لاسم المفعول الذي يصاغ
للدلالة على مَن وقع عليه الفعل، وهذا أمر من
الأهمية والإعجاز بمكان، وسبحان الله العلي
العظيم.
فإن قيل بعد الذي تقدّم، ما هو مصير وحال
أولئك المرجون لأمر الله تعالى، أو الفساق، أو
أهل الأعراف، أو غيرهم ممن له وعد ووعيد، أو
ليس له شيء من ذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿
إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ
﴾
[318] ؟
قلنا: إنّ هؤلاء كلهم، كما بيّن المحقق
الغفاري في هامش أصول الكافي، مرجون لأمر الله
تعالى، فهو يعذّب من يشاء، ويغفر لمن يشاء،
وليس معنى المشيئة أن يأتي بالفعل جزافاً،
وإنما لحكمة وعدالة ومصلحة تعود على المكلّف،
فإذا كان هؤلاء ممن عاندوا واستخفوا وأتوا
بالكبائر إصراراً وعناداً وتصميماً، فإن
مصداقهم قوله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
﴾
[319] ، وبما أنهم لم يجتنبوا الكبائر عناداً
واستخفافاً بأمر الله ونهيه، بل بوعده ووعيده،
فمآلهم ـ والله أعلم ـ إلى منازل أصحاب
المشأمة فيما تكون عليه من درجات وأحوال،
وهناك آيات تبيّن حال هؤلاء، كما في قوله
تعالى: ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن
نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ
أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا
رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ
فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
﴾
[320] ﴿
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ
فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبَادِ
﴾
[321] .
فإن قيل، هذا حال ومآل المعاندين والمقصرين
والمستضعفين، فما هو مآل أولئك الضعفاء
والمساكين من الصبيان والقاصرين والبله
والمجانين؟
قلنا: إذا كان الله تعالى يقبل التوبة عن
عباده، وهذا ما أوجبه على نفسه بمقتضى وعده،
فكيف بالقاصرين، سواء الذين لم تصل الدعوة
إليهم أم الذين لا تكليف بحقهم؟ فإذا كان وعده
إنما يحقّ بحق الذين آمنوا، أو كفروا، أو
ضلّوا، فإنّ الله بمقتضى عدالته وحكمته يلطف
بهؤلاء، ويجعلهم تحت مشيئته
[322] ، ويلحقهم
بما أعدّه لهم من منازل طالما عرفنا أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خطب في
الناس سائلاً: أتدرون ما في كفّي؟ وكان جوابه
للناس أن أهل الجنة في كفّه اليمين، وأهل
النار في كفّه الشمال، خاتماً قوله (صلى الله
عليه وآله وسلم): حكم اللهُ وعدل، حكم الله
وعدل، فريق في الجنة، وفريق في السعير ...
عرفنا أن المائز اللغوي والاصطلاحي بين الوعد
والوعيد، هو أن الوعد، كما بيّن الراغب
الأصفهاني، إنما يكون في الخير والشر، أو هو
عبارة عن الإخبار بوصول نفع إلى الموعود له،
والوعيد الإخبار بوصول ضرر إليه، كما جاء في
الاقتصاد للشيخ الطوسي
[323] ، وقد تقدّم
الكلام تفصيلاً في المعنى اللغوي والاصطلاحي،
فلا طائل من تكرار الكلام، طالما أن بحثنا هذا
هو حصراً في الوعيد في القرآن، لكونه جاء
مخصوصاً ببعض الآيات التي تدعو إلى التدبّر
واستخلاص الموقف في ضوء ما رآه أهل الفقه
وعلماء التفسير، فضلاً عن علماء الكلام.
لذا، فإنّ ما ننشده في هذا المبحث، هو استخلاص
الموقف من خلال المناقشة في مقولات العلماء
لعلّنا نخلص إلى جديد في هذا الباب نظراً لما
آلت إليه أوضاع ومدارس الفرق والمذاهب قديماً
وحديثاً، حيث رأينا كيف أن الخوارج قد سمّوا
بالوعيدية، في مقابل ما تسمّى به المرجئة
والمعتزلة والأشاعرة، فهذه الفرق تراوح أمرها
بين وعد ووعيد، وكفّرت بعضها بعضاً، وقالت على
الله تعالى بغير علم، وهذا أيضاً ما سيكون
مثار بحث وجدل في الفصل الثاني من هذا الباب،
وسنكتفي في هذا المبحث بالتعرف إلى ما قدمه
القرآن في حقيقة الوعيد، لأن بعضاً من العلماء
طبعاً، قد سها عن حقيقة الوعيد بما هو وعد
أيضاً، باعتبار أن القرآن قد تحدث عن الوعيد
بما هو حق، حيث قال تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
﴾
[324]
، وقد رأى الثعالبي وغيره أنه يمكن الأخذ
بالكلمات والمصطلحات على أنها ذات دلالات
مختلفة، ولهذا فإن ما عليه الناس، هو أن الوعد
إذا أطلق كان في الخير، والوعيد لا يكون إلاّ
في الشرّ، والميعاد هو لهذا وذاك
[325] .
ومن هنا نرى أن من ذهب إلى هذا القول، فقد
أصاب حقيقة القول والمعنى، بدليل ما أكّده
القرآن على أن الوعد جاء بالشر كما في قوله
تعالى: ﴿
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن
يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ
﴾
[326] فهو وعد بالعذاب
ولا خلاف فيه، وحيث يتحقق هذا الوعد بتحقق
شروطه وانتفاء موانعه، فإنه كائن لا محالة
والنتيجة هي أن الوعد لم يأت في السياق
القرآني بمعنى الوعد بالخير فقط، بل جاء
بدلالات مختلفة تؤكّد على أن الله تعالى لا
يخلف الميعاد، سواء فيما أعدّه من ثواب أم
فيما أعدّه من عقاب. وبما أن الله تعالى لا
يخلف الميعاد، فعلى القائلين بالعفو والمغفرة
من دون توبة، أو الذين حصروا الوعيد بالكفار
أن يتدبّروا جيداً في دلالة السياق، فلا يقال،
لا تقريرٌ ولا تساؤلٌ، إنه لا معنى للقول
بحتمية الوعيد، تمهيداً لإثارة التساؤل عمّا
إذا كان ممكناً إلغاء الوعيد من قبل الله
تعالى أو للقول بأنه ترهيب رمزي أو تخييلي
هادف إلى زجر الإنسان عن المعاصي...؟ إلى غير
ذلك مما هو مُصرّح به في كتب الباحثين،
معلّلين ذلك برحمة الله تعالى الواسعة، وبأنه
يغفر الذنوب جميعاً، أو بأن الله ذو مغفرة
للناس على ظلمهم هذا فضلاً عما رآه بعض
الباحثين من شكوك حول الثواب والعقاب
[327]
رغم أن القرآن قد أعطى من آياته للوعد والوعيد
والمعاد أكثر مما أعطى التوحيد. وإن أدنى
تأمّل في آيات الله تعالى يكشف عن مدى اهتمام
القرآن بالمعاد وما يكون فيه للمطيعين
والعاصين من حساب وجزاء على الأعمال، ويكفي
هنا الإشارة إلى قوله تعالى الجامع للوعد
والوعيد، والمُدلّل في ظاهره على أن عالم
الثواب والعقاب هو أكثر حقيقة، بل أكثر قيمة
واعتباراً، قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
﴾
[328] أي الجزاء على أعمالهم، فهو قول جامع
بين الوعد والوعيد، ومعناه أن لا يهمّ الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر، فإن
عاندوه كان لهم مصير، وإن أطاعوه كان لهم مصير
آخر، ولا يمكن أن تستوي حالات هؤلاء الناس،
بدليل قوله تعالى: ﴿
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ
(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
﴾
[329] .
لقد حاول بعض العلماء، قديماً وحديثاً، أن
يؤسس لفقه جديد يقوم على اجتهاد مفاده أن نصوص
الوعيد الواردة في الكتاب والسنّة يجب القول
بموجبها على وجه الإطلاق والعموم لا التعيين،
فنقول هذا الذنب يقتضي هذا العذاب، من دون أن
نحمله على الشخص المعين لاحتمال وجود موانع
لحوق الوعيد بحقه وانتفاء شروطه
[330] ، وهذا
فقه، كما نعلم، يقوم على المصادرة على المطلوب
بلغة المناطقة، تماماً كما فعل بعض العلماء
فيما اجتهدوا فيه من فقه اللعن والسبّ؟ عجباً،
فهم بدلاً من أن يبيّنوا الموقف الشرعي أولاً
من اللعن في القرآن والسنّة، نراهم يلجأون إلى
الاجتهاد وتغليب الهوى بقولهم: إن اللعن ينبغي
أن يكون على الإطلاق والعموم! وكأن هؤلاء لا
يعرفون أن القرآن قد أسس وأعطى لِلَّعن
شرعيتَه، سواء في مجال الأجناس أم في مجال
الأنواع، فقال الله تعالى: ﴿
لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ
مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
﴾
[331] ، كما أنه لعن المنافقين الذين دلّت
أسباب النزول على أسمائهم، فكيف يُقال
بالإطلاق والعموم
[332] ؟ إنّ هذا كله يرتكز
إلى مسبقات ذهنية ودوافع سياسية حاول بعض
الفقهاء أخذ النصوص بالاتجاه الذي يخدم الموقف
السياسي لهذه الفرقة أو تلك. وهذا كله لا
مسوّغ له لا في الكتاب ولا في السنّة، باعتبار
أن الوعيد فيما جاء به من آيات قد لحظ التجربة
التاريخية، ودلّل على أشخاص بأعيانهم، وعلى
مجتمعات وقبائل وأقوام لحق بها الوعيد، وكما
نعلم أن المورد لا يخصص الوارد، والعبرة بعموم
اللفظ لا بخصوص السبب، فحيث تتحقق الشروط
والأسباب تكوّن النتائج، قال الله تعالى: ﴿
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً
﴾
[333]
.
يظهر لنا مما تقدم أن الوعيد في القرآن ليس
لغة رمزية، وإنّما هو حقيقة وحق، والدليل
العقلي قائم على ضرورة أن يُثاب الأخيار، وأن
يعاقب الأشرار، لأنه مقتضى العدالة الإلهية.
وإذا كنا قد اخترنا البحث في الوعيد، فذلك لأن
القرآن أعطاه حيّزاً مهماً في كثير من الآيات
القرآنية، سواء التي جاء فيها الوعد بمعنى
الوعيد أم التي جاءت بالوعيد، حيث قال الله
تعالى: ﴿
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً
وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
ذِكْراً
﴾
[334] .
وقال الله تعالى: ﴿
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ
الْوَعِيدِ
﴾
[335] .
وقال الله تعالى: ﴿
قَالَ لَا تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
﴾
[336] .
وهكذا، فإن مقتضى المنهج الموضوعي، التوحيدي،
أن تضم الآيات بعضها إلى بعض، وملاحظة دلالة
السياق، ومن ثم ملاحظة التجربة، وبذلك نكون قد
أخذنا بمنهج العلامة الطباطبائي (قده) الذي يقوم
على تفسير القرآن بالقرآن، وبمنهج العلامة
الصدر (رض) الذي يقوم على المنهج الموضوعي
التوحيدي فيما يؤسس عليه من علاقة جدلية بين
النص والتجربة، وقد سبق الكلام منّا في معنى
النص والتجربة فيما يتعلق بالوعد والوعيد،
والآن نبحث معنى الوعيد بما هو يوم لا بدّ بأن
الإنسان لاقيه، كما قال الله تعالى: ﴿
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
﴾
[337] ، وقوله تعالى: ﴿
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ
الْوَعِيدِ ﴾
[338] .
إنّ من العجب فعلاً أن يُخفف الإنسان، سواء
أكان باحثاً أم فقيهاً من حقيقة هذا الترهيب
القرآني، ويسهو عما كان للوعيد من أثر في
الحياة الدنيا، فإذا كان الوعيد قد لحق بالأمم
والشعوب في تاريخها، فلماذا يستبعد هذا الأمر
أو يُخفف منه، أو يقلّل من شأنه، أو أن يحاول
بعضهم ترميزه أو تخييله
[339] ، أو غير ذلك مما زعمه ابن عربي
الذي لم يستوعب معنى العذاب ودوامه، وادّعى
أنه لو كلّف أمر البشرية لرحمها، فكيف بربّ
العالمين...!؟
هناك مقالات كثيرة تخفف وطأة هذا الوعيد، كما
في مقالة البغدادي الذي سوّغ الموقف بأن
الوعيد لا يكون إلاّ للكافرين والمشركين، وما
تبقى من الناس فإنه ملحق بأهل اليمين
[340] .
نحن نرى أن من الوعيد ما لا ينقطع، بل هو
متواصل في الدنيا والآخرة، حتى في عالم
البرزخ، فإنّ الله تعالى قد بيّن أنه لا
ينقطع، كما قال الله تعالى: ﴿
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً
وَعَشِيّاً
﴾
[341] ، وبما أنه لا شمس، ولا زمان في جنة
الخلد، فقد بان أنَّ النار التي يعرض عليها
هؤلاء هي نار متواصلة من الدنيا إلى البرزخ
إلى يوم القيامة ليمكثوا فيها أبداً، كما قال
الله تعالى: ﴿
مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً
﴾
[342] . وعليه، فإنه لا
معنى لرأفة الباحثين والعلماء في وقت هم بأمسّ
الحاجة إلى أن يخففوا عن أنفسهم وطأة ما
ينتظرهم، لأنه لا نجاة إلا مع عمل ورحمة...؟
فإذا قيل، ما هو الدليل على تواصل الوعيد
والعذاب. قلنا: هو قوله تعالى: ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ
لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى
إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ
مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
﴾
[343] . فقوله تعالى ناظر إلى أن علّة الهلاك
هي الظلم والإفساد في الأرض، إذ لم يقل
لنُهلِكنّهم، إشارة إلى علّة الهلاك وهي
الظلم، كما أن قوله تعالى مُفيد الإنجاء
للمؤمنين والإهلاك للظالمين جزاءً: ﴿
لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ . أي الوقوف بين يدي الله يوم القيامة،
وخاف الوعيد على ألسنة الرسل بالعذاب لمن كفر
وأشرك في العبادة ومات من غير توبة، فالآية
ترشد إلى الهلاك أولاً، وهو وعيد تحقق في
الدنيا للظالمين، ومن أسكن الأرض لا يسعه إلا
أن يخاف مقام ربه ووعيده لئلا يلحقه ما لحق
الظالمين، وهذا دليل على أن تحقق الشروط سلباً
أو إيجاباً لا بدّ أن يكون له تحققاته في
التجربة، وقد بينّا كيف أن الوعيد قد لحق
بالمشركين في بدر، وفي خيبر، وفي أكثر من
تجربة إسلامية. وإذا كان الكفار قد استعجلوا
العذاب، فقد أخبر الله تعالى وبالتأبيد أنه لن
يُخلف وعده: ﴿
... وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن
مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ
الْمَصِيرُ
﴾
[344]
.
نلاحظ أن دلالة السياق مفيدة جداً لمن تأمّل
وتدبّر، إذ نرى أنه في الوقت الذي يُستعجل فيه
العذاب، يخبر الله تعالى أنه لن يخلف وعده،
فلم يقل وعيده، ثم يأتي ذيل الآية المباركة
ليتحدّث عن اليوم الذي هو كألف سنة مما يعدّه
الإنسان، وفي آيات أخرى تتحدث عن أن موعدهم
الصبح، ثم إنّك إذا تأمّلت جيداً تجد أن من
الآيات ما يتحدّث عن الوعيد المتواصل لبعض
الأمم والشعوب، كما في قوله تعالى: ﴿
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن
يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ
رَّحِيمٌ
﴾
[345]
.
وهنا نسأل أليس في هذه الآيات ما يفيد أن يوم
الوعيد ليس وعداً في الآخرة كما يحاول بعض
الباحثين أن يتحدث عن خلف في الوعيد، والآيات
ترشد بالتأبيد إلى أن الله تعالى لن يخلف
وعده، سواء بالثواب أم في العقاب، سواء
للكافرين أم للظالمين، سواء للمعاندين أم
للمنافقين، كما قال الله تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا
مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾
[346] . سواء في الدنيا أم في الآخرة؟
فإن قلتم: إنّ هذا يتنافى مع ما روي عن الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم): «من وعده الله على
عمل ثواباً فهو منجز له وعده، ومن أوعده على
عمل عقاباً فهو فيه بالخيار...».
قلنا: ليس معنى أنه بالخيار من ذلك، أن خياره
ليس حكيماً، وليس عادلاً، وإنما هو في منتهى
الحكمة والعدالة، هذا فضلاً عن عدم خلوّ
الخيار عن المصلحة فيما يتعلق بالإنسان وما
يكون له من حالات وتحولات وشروط وموانع وغير
ذلك مما لا بدّ من لحاظه في إطلاق الأحكام، أو
في تقرير النتائج، طالما عرفنا أنه: حكم الله
وعدل، حكم الله وعدل، حكم الله وعدل، فريق في
الجنة، وفريق في السعير...
كما يمكن السؤال أيضاً، عن معنى لحوق العذاب
ببني إسرائيل في الدنيا، كما هو ظاهر الآية،
إلى يوم القيامة، أليس في ذلك ما يُفيد أن
الوعيد لا خلف فيه تماماً كما حدث لتلك
الأقوام التي شملها الوعيد في سورة ق، كما قال
الله تعالى: ﴿
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
﴾
[347] ؟
.
إن الوعيد الذي حقّ هنا، والذي جاء بالفاء بما
ترمز إليه من علّة كما يقول علماء الأصول، أي
لعلة كفرهم لحق بهم ما لحق من العذاب في
الدنيا قبل الآخرة، وعيد تتابع الكلام الإلهي
فيه من الدنيا إلى يوم الوعيد في الآخرة، كما
قال الله تعالى: ﴿
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ
ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ
الْوَعِيدِ ﴾
[348] . وهنا للكلام دلالاته، حيث نرى
أنه جاء بيوم الوعيد لا ليكون يوماً خاصاً
بالكفار والمنافقين ومن والاهم في الدنيا، بل
ليؤكد على أنه يوم وعد أيضاً للمؤمنين، بدليل
أن السورة المباركة تتابع فيها الكلام، لتقول:
﴿ أَلْقِيَا
فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
﴾
[349] ، ثم قال الله تعالى: ﴿
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَاْ
بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
﴾
[350] ، ثم قال تعالى: ﴿
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾
[351] ، وهذا السياق إن دلّ على شيء،
فإنّه يدلّ على أمرين، أحدهما: هو أن هذا
اليوم هو يوم وعد أيضاً
[352] ، كانت له مفرداته وتحققاته في
عالم الدنيا، ثم سلكه في عالم البرزخ بالإشارة
إلى سكرة الموت بما تفيده من عبور إلى أول
منازل الآخرة الذي هو القبر، وهكذا، نجد أن
الآيات تربط ربطاً محكماً بين عوالم الوجود
ومنازل الخلود لكل من المؤمنين والكافرين
والضالين بدءاً من الدنيا ومروراً بالموت
وانتهاءً بيوم القيامة، يوم النفخ في الصور،
وكشف الغطاء ليبصر الإنسان ما قدّمت يداه،
ويمنع من التخاصم، لا لأنه لا يُراد له ذلك،
وإنما لأن هذا الإنسان قد قدم إليه بالوعيد،
يوم قيل له في الدنيا: ﴿
ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
﴾ . اليوم
الذي استحق فيه أن يسكن الأرض ويعتبر بهلاك
الظالمين...
إنّنا نعجب ممن تستغرقهم الأقوال في شأن الوعد
والوعيد، تارة بالقول: إنّ الله تعالى قال: ﴿
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ
﴾
[353] وتارة بالقول: إن الله يحسن
منه خلف الوعيد، ولا يحسن منه خلف الوعد،
ويمثلون على ذلك بشعراء العرب، وغير ذلك مما
لا طائل منه، لأن المطلوب هو الاهتداء إلى أمر
الله تعالى ووعده في القرآن، وخاصة بعد أن
تسالم أهل التفسير وعلماء الدين على أن هذا
القسم من القرآن، قسم الوعد والوعيد، هو من
القصص والأخبار التي أخبرنا الله تعالى بها،
وهي ليست من الإنشاء في شيء، وإلا لو كانت من
الإنشاء، سواء أقلنا إنشاء جاء بصيغة الخبر أم
العكس، لما صحّ القول بأن القول لا يتبدّل
لديه، وما هو بظلاّم للعبيد، وهذا ما أفاد في
مجاله العلامة شبّر في حق القين، مبيّناً أنه
يمتنع النسخ في الأخبار، وعلى العلماء أن
يجيبوا على سؤالنا، ما هو القول الذي لا يتبدل
لديه؟ فهل هو قول تكويني، أو تشريعي، أو هو
خبر عمّا لحق بالأمم، وخصوصاً أن الآيات في
سورة (ق)، جاءت لتفيد الخبر عما آل إليه فرعون
والطواغيت، وكل تلك النفوس التي جاءت ومعها
سائق وشهيد لتُمنع من التخاصم ويكون لها حق
الوعيد، في مقابل ما كان للأبرار وما أزلف
إليهم من جنات النعيم!؟؟
أما الأمر الثاني التي ترشد إليه الآيات، فهو
الإتيان في الكلام عن الوعيد في سورة (ق)
وغيرها من السور، وخصوصاً سُور الحواميم لما
اشتملت عليه من وعد ووعيد الذي حقّ في جهنم،
وتمّ إنجازه، لأن ملاك الوعد إنجازه، سواء
أكان وعداً بالخير أم وعداً بالعذاب، وهذا
الاتصال بين من خاف الوعيد وقدم له، وبين ما
حق منه في الآخرة للكافرين والمؤمنين، هو دليل
على حقيقة الإنجاز لجهة أن الله تعالى هو أصدق
القائلين: ﴿
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾
[354] ، وهذا ما يحتّم
على الباحثين أن يتدبّروا فيه جيداً، لأن
النقاش ليس في أن خلف الوعيد هل هو أمر حسن أو
قبيح، وإنما فيما يريده الله تعالى للإنسان من
وراء استخلافه في الأرض وحمله للأمانة،
وتكليفه وهدايته. نعم، يمكن للباحث أن يتلهّى
بالكلام، فيقوم بمدح مَن يُخلف في وعيده، ويفي
بوعده، لكن هذا شيء، والوقوف على حقيقة المراد
شيء آخر، كيف لا وقد قال الله تعالى: ﴿
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً
وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
﴾
[355] ، واللام هنا للغاية،
وتصريف الآيات، سواء العقلية أم الشرعية في
الآفاق، أم في الأنفس، في التكوين أم في
التشريع، ليست الغاية منه إطلاقاً أن يتبدّل
القول لديه، وإنما أن يتّقي الإنسان المعاصي،
وأن يعمل بما جاءه به الأنبياء والرسل، وأن
يسلك سبيل الصالحين لتكون له مفازة من العذاب.
ومن هنا، نرى أنه يمكن للإنسان أن يبسّط
المسألة، فيقول: إن الوعيد حقه تعالى على
العباد... فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه،
وأولاهما بربّنا تبارك وتعالى العفو والكرم،
إنه غفور رحيم
[356] . وهذا الكلام وغيره نجده مثار جدل على
التلفزة بين العلماء، ومشكلة هؤلاء تكمن في
أنهم لم يهتدوا إلى منهجية القرآن فيما ترشد
إليه من مغفرة وعذاب في آن واحد، وهذا ما يؤدّ
ي بهم إلى تغليب الرحمة والمغفرة على العذاب،
تماماً كمن يغلب الأمن من مكر الله تعالى، أو
جانب الطمع على جانب الخوف، أو لا يكون بين
خوف ورجاء، وقد ألمحنا سابقاً إلى أدب القرآن
فيما أشار إليه من زيادة في الشكر في مقابل
قوله: ﴿
وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
﴾
[357] إذ لم يأتِ بالقسم في
العذاب، كما أتى به في قوله تعالى: ﴿
لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
﴾
[358] . فالله سبحانه ليس له عاطفة الإنسان
ومشاعر الإنسان لكي يقيس الإنسان ذلك على
نفسه، وهذا ما وقع فيه كثير من العلماء كابن
عربي، والغزالي، وغيرهم كثير، وإلاّ لو كان
هؤلاء يفهمون معنى العقوبة على اللواط مثلاً،
أو على الزنا، أو على السرقة، لما آل الأمر
بهم إلى أن يكون على هذا المستوى من
التدبّر..!؟
غاية القول: إن الوعيد في القرآن، ليس منفصلاً
عن الوعد وعن سائر الآيات التي اشتمل عليها
القرآن في معنى الترهيب والترغيب، والتنبيه
والتذكير، وقد بيّن العلامة اليزدي أن القرآن
ركّز على المعاد والآخرة أكثر مما ركّز على
شؤون الدنيا، ولعله خفي على العلامة اليزدي
وغيره من العلماء أن يلتفتوا إلى قوله تعالى:
﴿ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
﴾
[359] . فهو لم يقل: «فذكر
بالقرآن من يخاف غير الوعيد» مما يشتهيه
الإنسان ويشبع غريزته وشهواته وطيباته، بل
قال: ﴿ مَن
يَخَافُ وَعِيدِ
﴾ . وهذا يدلّل على أن القرآن هادف
إلى نظم حياة الإنسان من خلال القرآن كله
ليكون بمنجاة غداً، وخصوصاً إذا ما علمنا أن
الهدف من التشريع هو انتظام الحياة الإنسانية
لتحقيق الكمال والفوز بالرضوان، بمعنى أن
الهدف هو الآخرة وليس الدنيا، فكيف يمكن لباحث
أن يتجاوز ذلك، وأن يتوقف عند القشور ويسهى عن
اللباب طالما أن القرآن كله هو المجال الحقيقي
لاستيعاب حقيقة التحول في الآخرة.
وبحق نقول: إنّ آيات الوعيد هي التي تسري في
كل آياته لما لها من تأثير على تغيير الحياة
وتبديلها على النحو الذي يؤدي بالإنسان إلى
الخوف من المآلات الحقيقية. وهذا هو مفاد ضمّ
الآيات إلى بعضها وتفسيرها من خلال دلالة
السياق في ضوء التجربة وما لحق بالناس من وعيد
في الدنيا: ﴿
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
﴾ ، لا تعني تخصيص آيات
الوعيد بآيات الوعد كما ذهب البغدادي
[360]
وغيره، وإنما تعني لحاظ آيات الوعيد بما يؤدي
إلى الخوف من معصية الله تعالى، والاتعاظ بمن
سبق من الأمم، واستكشاف ملامح التحولات
البشرية، لعلّ الإنسان بذلك يهتدي إلى السلامة
في الدنيا والآخرة، لأن مؤدّى أن يتقي الإنسان
أن يكون على مستوى القرآن كل القرآن، وهذا ما
تفيده حقيقة التركيز لمن يخاف وعيد، لأنه إن
لم يحق الوعيد لن يكون للقرآن أي معنى في
حياته، كيف لا ونحن نرى بأم أعيننا الكثير من
الناس ممن يزعمون أنهم أهل القرآن، هم في
الحقيقة لا يخافون وعيد، فبالأحرى أن لا يكون
للقرآن أي معنى عند أولئك الذين لا يتذكّرون،
ولا يتفكّرون، ولا يخافون وعيداً، إن من يخاف
وعيداً كان القرآن أمامه، ومن لم يخف وعيداً
كان القرآن وراءه حتى ولو صلّى وصام وقام في
الليل والنهار.
بداية تجدر الإشارة إلى أن أصول الإيمان
اختلفت عند الفرق الإسلامية، وهي لا تزال
مختلفة عند سائر المذاهب الإسلامية، يقول
العلامة الحلي في كشف الفوائد: «إن الأصول عند
المعتزلة، خمسة: التوحيد والعدل والإقرار
بنبوّة الأنبياء، والوعد والوعيد، والقيام
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقالت
الشيعة: أصول الإيمان ثلاثة: التصديق بوحدانية
الله تعالى في ذاته، والعدل في أفعاله،
والتصديق بنبوّة الأنبياء، والتصديق بإمامة
الأئمة المعصومين (عليهم السلام)»
[361]
.
ولا شكّ في أنّ هناك الكثير من المبادئ التي
لم يلتقِ فيها الشيعة مع المعتزلة، وإن كان
عليهما معاً أطلق ما اصطلح عليه بالعدلية، ومن
أبرز ما التقيا فيه: القول بالتحسين والتقبيح
العقليين، ومن أبرز ما اختلفا فيه، أن
الإمامية يقولون بلزوم نصب الإمام نصّاً من
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعتزلة
تنكره، والإمامية تنفي الجبر والتفويض، وتقول
أمر بين أمرين، والمعتزلة تقول بالتفويض،
والإمامية تقول بأن المؤمن لا يخرج بالفسق عن
الإيمان، والمعتزلة تقول لا مؤمن ولا كافر بل
منزلة بين منزلتين، هذا هو ملخّص القول في ما
ذهبت إليه فرق المعتزلة والإمامية، وإذا كان
هناك من نقاط التقاء في بعض المبادئ والأصول
بينهما، فإنّ الأمر ليس كذلك بين الإمامية
وسائر الفرق، لما بين هذه الفرق من تناقضات
جوهرية في الأصول والفروع معاً، ونحن إنّما
عرضنا لهذا الملخّص لما يشكله هذا المبحث في
العدل، وفي مبدأ التحسين والتقبيح من اعتبار
لآراء الفرق القائلة بالعدل الإلهي كأصل من
أصول الإيمان، ومن شأن تبيان هذا الموقف أن
يوضح الكثير من المطالب بمعزل عن الدخول في
تفاصيل البحث، بل يكفي أن يعلم الباحث أن هذا
المبدأ هو مما يلتقي فيه الإمامية مع المعتزلة
دون غيرهم.
إنّ ملخّص الكلام في ما ذهب إليه أهل العدل،
هو أن هناك أفعالاً يدرك العقل من صميم ذاته
ومن دون استعانة من الشرع أنها حسنة وأفعالاً
أخرى يدرك أنها قبيحة كذلك، مثل الصدق حسن،
والكذب قبيح، أو العدل حسن، والظلم قبيح، وهذا
ما يدركه العقل البشري إذا ترك وإدراكه
البديهي، وقد أشرنا سابقاً إلى أنه لو كان في
العقل إنكار الرسل لما بعث الله تعالى نبياً
قط، كما جاء في كتاب كمال الدين وتمام النعمة
[362] .
يقول الشهيد مطهري
(قده) :
«فالمتكلمون انقسموا في مسألة العدل إلى
فئتين: الأولى: الأشاعرة وهي تقول: إنّ صفة
العدل منتزعة من فعل الله من حيث هو فعل الله
تعالى، ومن رأيهم أن أي فعل بذاته ليس عدلاً
ولا ظلماً، وكل فعل يصبح عدلاً حين يكون فعل
الله، وبالإضافة إلى أنه لا يوجد فاعل غير
الله... وهؤلاء لا يعرفون علامة للعدل غير أنه
فعل الله ، فكل فعل هو فعل الله فهو إذن عدل،
وليس كل ما هو عدل هو فعل الله...، فمثلاً لا
نستطيع اعتماداً على أصل العدل أن ندّعي أن
الله قطعاً سيثيب الفاعل للخير ويعاقب الفاعل
للشر...، بل إذا أثاب الله فاعل الخير وعاقب
فاعل الشر كان ذلك عدداً، وإن تصرف بعكس ذلك
فعاقب فاعلي الشر فإنه يكون عدداً أيضاً...
فالعدل هو ما يفعله الله»
[363] ، وهذا الكلام
يمكن تلمّس شروحات كافية له عند المتكليمن
القدامى والمحدثين، وخلاصته كما بيّنها
الشهرستاني في الملل والنحل
[364] ، أن الوعد
والوعيد كلامه الأزلي، وعد على ما أمر، وأوعد
على ما نهى، فكل مَن نجا واستوجب الثواب
فبوعده، وكل من هلك واستوجب العقاب فبوعيده،
فلا يجب عليه شيء من قضية العقل، وهذا الكلام،
كما عرفنا، ساقط بأدنى تأمّل، إذ كيف يمكن أن
نقصي العقل عن أحكامه، وأن ندّعي أن كل شيء
بالسمع، أو أزلي أو ما إلى ذلك مما لا يمكن
تصديقه، لما أشرنا إليه من أن الله أوّل ما
خاطب العقل، فقال له أقبِل فأقبل... فلو لم
يكن للعقل حكمه وتحسينه وتقبيحه لما قبل شيء
إطلاقاً، وهذا ما عرض له علماء الأصول بقولهم،
إن السمعيات أي الأحكام الشرعية، ألطاف في
العقليات، وإذا سأل سائل، كيف يكون للعقل
البشري الممكن أن يحكم على الواجب بحكم،
ويُلزم الله تعالى بالاتصاف بصفة ما، والله
تعالى قادر على ما يشاء ويفعل ما يريد؟
قلنا: في الواقع، إن العقل بحكمه هذا، إنما
يقوم بالكشف عن واقعية موجودة في ذاته تعالى،
ويتصف بها واجب الوجود الصانع لهذا الكون،
وليس هذا الحكم إلاّ كسائر الأحكام التي
يصدرها العقل بداهة على الأشياء التكوينية،
كقولنا: «إنّ الأربعة زوج» فليس هو في حكمه
هذا يُعطي الزوجية للأربعة، أو يلزم الأربعة
أن تكون زوجاً لا فرداً، وإنما هو يكشف عن أمر
موجود واقع في الخارج، وهكذا سائر الأحكام
العقلية التي لو لم تكن موجودة والعقل قادر
على اكتشافها لما اهتدى إلى شيء إطلاقاً. ومن
هنا، فإنّ ما ذهب إليه الأشاعرة وسواهم من قول
بما حسّنه الشارع وما قبّحه، هو الذي أسس لهذا
النزاع رغم أن الله تعالى خاطب العقل، ولم يكن
دور النبوة سوى إثارة دفائن العقول كما قال
أمير المؤمنين (عليه السلام) . وهذا ما توقفنا
عنده مليّاً في البحوث السالفة
[365] .
نعم، يمكن القول: إنّ الأشاعرة لم ينكروا
العدل، ولكنهم بتفسيرهم للعدل رفعوا العقل
والعدل معاً، ما أدّى بهم إلى القول بأن
الواجبات كلها بالسمع، وبأن العقل لا يحسن ولا
يقبح، ولا يقتضي ولا يوجب، إلى ما هنالك من
مقولات جعلتهم على طرفي نقيض مع العدلية، ولو
أن الأشاعرة التفتوا إلى ما أسست له الفلسفة
الإسلامية لما ذهبوا هذا المذهب في إنكار
مضمون العدل، ولا نقول العدل، ويكفي للتدليل
على سقوط مقولتهم أن يعرف الإنسان أنه قادر
على أن يتعيش ضرورياً من دون النبوة، باعتبار
أن هذه الأخيرة جاءت لهداية الإنسان إلى تحقيق
كمالاته المادية والمعنوية، وهذا ما ذهب إليه
ابن سينا في الإشارات والتنبيهات وشرحه الطوسي
(قده)
[366] ، مبيّناً أن التعيش الضروري لا
يخلو من إعمال العقل، ومن الأحكام العقلية
التي يؤسس عليها الإنسان في كثير من تصرفاته،
سواء في الاجتماع أم في السياسة أم في
التدبير، ويمكن لنا أيضاً أن نستدل على هذا
المعنى بقيام المجتمعات قديماً وحديثاً في
كثير من أمورها على أحكام العقل ومقدماته،
والدليل على ذلك تعيش سكان المعمورة بالسياسات
الضرورية، وخاصة عصرنا الحديث الذي يكاد يخلو
من أي أثر للشرع في تدبير شؤونه، سواء الخاصة
أم العامة
[367] . إنّ النبوّة جاءت لإثارة
العقول، وإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور،
ومن الفطرة إلى البراهين العقلية التي اهتدت
بالنبوة، لكون العقل فيما هو غير بديهي يحتاج
إلى مؤازرة الشرع لتكميل الحياة وتحقيق
السعادة..
وعليه، فإنّ ما نروم بيانه في هذا المبحث
بعدما تقدم من تأكيد على أن العدل هو أصل من
الأصول التي يرتكز عليها في فهم المراد من
الوعد والوعيد، وما أمر الله به ونهى عنه، إلى
غير ذلك مما يقتضيه العدل الإلهي من حساب
وعقاب وجزاء، حيث رأينا في ما تقدّم من بحوث
أن العقل يستقل بالحكم على ضرورة أن يثاب
المحسن، ويعاقب المسيء، لأن المساواة بينهما
بصورها المختلفة هي خلاف العدل، باعتبار أنه
إما أن يُثاب الجميع، أو يعاقب الجميع، وإما
يترك الجميع من دون أن يحاسبوا أو يحشروا،
وهذا ما يستقلّ العقل بالحكم بوجوب التفريق
بينهما من حيث الثواب والعقاب، يقول السبحاني:
«وبما أن هذا غير متحقق في النشأة الدنيوية،
فيجب أن يكون هناك نشأة أخرى يتحقق فيها ذلك
التفريق. وإلى هذا البيان يشير المحقق
البحراني بقوله: إنا نرى المطيع والعاصي
يدركهما الموت من غير أن يصل إلى أحد منهما ما
يستحقه من ثواب أو عقاب، فإن لم يحشروا ليوصل
إليهما ذلك المستحق لزم بطلانه أصلاً. وإلى
هذا الدليل العقل يشير قوله تعالى: ﴿
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
﴾
[368]
، وهناك الكثير من
الأحكام العقلية التي يستقل العقل بها وجاء
الشرع ليؤكّد عليها»
[369] ، فهل لو أن الشرع
لم يأت لكان الأمر يختلط على العقل في التمييز
بين الصدق والكذب، والظلم والعدل؟ أم أنه كان
سيتيه عن اكتشاف زوجية الأربعة؟ إن العقل لو
لم يكن له هذا المعنى، وهذا الاستقرار في كثير
من الأمور لما قال الله تعالى: ﴿
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُّ
﴾
[370] .
لقد أجمع العلماء على أن المعاد هو مقتضى
العدل الإلهي، لأنه في ذاك العالم تكون تجليات
وتحققات الوعد والوعيد، بعد أن بيّن القرآن في
كثير من الآيات عن بعض هذه التحققات في الحياة
الدنيا، ولكن بما أن الدنيا ليست مجالاً
للثواب والعقاب بالشكل الذي يؤدّي إلى أن تكون
الدنيا هي مجال تحقق العدالة بالشكل الكامل،
فإن العقل يحكم بضرورة وجود النشأة الآخرة.
وهذا العقل إن لم يكن باستطاعته أن يقف على
كامل مقدمات تحققات هذه النشأة، فقد جاءت
الرسالات السماوية بالكشف عن حقيقة هذه النشأة
وما يكون فيها من وعد ووعيد، وهذا ما توقّف
عنده اليزدي في العقائد
[371] ، والطباطبائي
(قده) في الميزان
[372] ، والسبحاني في
الإلهيات
[373] ، حيث رأوا جميعاً أن اهتمام
القرآن بالمعاد فاق اهتمامه بأي شيء آخر، حتى
إنه خص بالآيات التي اشتملت عليه بما يزيد عن
آيات التوحيد، وهذا يعرب لنا عن شدّة اهتمام
القرآن به. ويمكن لمتأمل بصير أن يُحصي عدد
الآيات القرآنية التي اشتملت على ذكر الوعد
والوعيد والميعاد، ليدرك معنى أن يكون المعاد
تجلياً حقيقياً للوعد والوعيد، كما في قوله
تعالى: ﴿
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ
لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ
﴾
[374] ،
وبما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين
بالاستخلاف والنصر والتمكين، وأوعد وتوعّد
الكافرين بالعذاب الأليم والخلود في جهنم
جاثمين، وبما أن هذا الأمر قد تظهرت له تجليات
كثيرة في عالم الدنيا للاعتبار والتصديق،
وللتنبيه والتذكير، فإن هناك الكثير من الوعد
الذي أطلقه القرآن سواء للمؤمنين أم للكافرين،
ولم تظهر تجلياته بعد، بدليل أن هذا العالم
الدنيوي قد فاته الكثير من الظلمة والطواغيت
الذين يحكم العقل باستحقاقهم للعقاب، ولا بدّ
أن يحاسب هؤلاء ويُقتصّ منهم لما وعد الله
تعالى به من ذلك، وهو صادق الوعد، والتخلف عنه
قبيح، فتكون النشأة الأخرى هي مجال تحقق هذا
الوعد والوفاء به، وهذا ما عبّر عنه المحقق
الطوسي (رض) بقوله: «ووجوب إيفاء الوعد
والحكمة يقتضي وجوب البعث...»
[375] .
يقول الشهيد مطهري (قده) : «إنّ العدل بمفهومه
الاجتماعي هدف للنبوة، وبمفهومه الفلسفي أساس
للمعاد، وهذا ما بيّنه القرآن، ففي هدف النبوة
قال تعالى: ﴿
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
﴾
[376]
،
وفي موضوع المعاد والمحاسبة، قال الله تعالى:
﴿
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ
أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ
﴾
[377] ، ومن هنا يمكن الاستنتاج والكلام
لمطهّري، أن العدل الإلهي حقيقة ثابتة، وأن
العدالة من الصفات التي لا بدّ أن يتصف بها
ذات العلي العظيم»
[378] .
وبناءً على ما تقدم، فإننا نرى أنه لا نقاش
فيما زعمه أهل الحديث والأشاعرة وغيرهم ممن لم
يرَ مفهوماً حقيقياً للعدل، وقال بأن الوعد هو
ما أمر به، والوعيد هو ما نهى عنه، لأن
الارتكاز إلى هذا القول يعطل العقل ويرفع
أحكامه، ويؤدي إلى أن تكون الأمور خلاف ما أمر
الله به ونهى عنه. ولعلّ تاريخنا الإسلامي
شاهد على ما تسبّب به هذا المفهوم عن العدل،
كما ألمح إلى ذلك الشهيد المطهري (قده) بقوله: «إنّ
حماية بعض الظالمين من أمثال المتوكل العباسي
للأشاعرة كانت تهدف إلى الاستفادة من هذه
النتيجة التي انتهوا إليها والتي تفسد حكمهم
وتضفي عليه صفة الشرعية»
[379] ، وبحق نقول:
إن تاريخ الفرق الإسلامية، هو في الحقيقة،
تاريخ الصراع السياسي، وليس الفكري، أو
العقائدي. وليس أدلّ على ذلك من كلام حق قاله
الدكتور نيبرج محقق كتاب الانتصار للخياط
المعتزلي، يقول: من المعروف أن الأشعري كان
تلميذاً للجبائي قبل ظهور مذهبه، ولو لم تكن
المعتزلة مهّدت الطريق لما كان لأهل السنة
تقدّم في هذا الفن، فالصراع كان على أشدّه بين
أصحاب المدرسة الواحدة، وبالجملة فللعدو تأثير
في تكوين الأفكار ليس بأقل من تأثير الحليف
فيه حتى أن بعض الحنابلة قد شك أن أصحابه
انقطعوا إلى الرد على الملحدين انقطاعاً أداهم
إلى الإلحاد، وهذا الكلام لا نراه تحريفاً
فيما لو علمنا أن الصراع بين المعتزلة
والأشاعرة وأهل الحديث وصل بهم إلى حدّ
استخدام السلطة، كما فعل المعتزلة في زمن
المأمون، وكما فعل الأشاعرة في زمن المتوكل،
وقد أشار مطهري إلى هذه الحقيقة.
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن صراع الفرق لم يكن
صراعاً إسلامياً بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما
كان صراعاً سياسياً تقوّيه أو تضعفه السلطة
الحاكمة، وإلاّ كيف يمكن لعاقل أن يتصوّر هذه
الهجرة للعقل في مدرسة الأشاعرة، غير أن يكون
السبب هو تركيز المعتزلة على العقل، فأراد
الأشاعرة أن يكونوا على النقيض تماماً، لما
تقدم الكلام فيه بأن الأشعري كان تلميذاً في
مدرسة الاعتزال، وبما أن هذه المدرسة تقول
بالعدل والعقل والمنزلة بين منزلتين، فقد
اختار الأشعري أن يكون ضد العقل، وأنه لا يجب
على الله شيء، إضافة إلى القول بأن الوعد
والوعيد هما كلام الله الأزلي، إلى غير ذلك
مما خالف فيه واعتمده من كسب وجبر، وهذا ما
علّق عليه النشار بقوله: «إننا نرى بين
التصورين خلافاً كبيراً، إنّ الله عند أهل
السنة والجماعة يثيب مَن يثيب، ويعاقب مَن
يعاقب طبقاً لكلامه الأزلي، هنا تنعدم القدرة
الإنسانية ذائبة في قدرة الله، ولا تبقى إلاّ
القدرة الإلهية التي قدّرت في الأزل الثواب
والعقاب بينما ينصب العقاب والثواب عند
المعتزلة على أفعال الإنسان التي يقتضيها
العقل في سياقه، إذ إنه لا كلام في الأزل...
[380] .
فالأشعري كان يعي تماماً أن المعتزلة قد
تقدموا كثيراً على مستوى إبراز العقل، وهو كان
بين ظهرانيهم واختلف معهم، ولم يكن بوسعه أن
يتابع الخطى في مدرسة العقل، فاختار أن يكون
النقيض لهم، فبدل أن يقول بالكلام المحدَث،
قال بالكلام القديم والأزلي، وبدل التفويض
اختار الجبر والكسب، على غير ذلك مما ذهب إليه
من مقولات في تهفيت العقل، وتدعو إلى العدل
الذي لا مضمون له، لا في التكوين، ولا في
التشريع، ولا في الجزاء، فأنت تراه، كما يبيّن
الدكتور النشار يذهب إلى تصورات منافية تماماً
لإرادة الإنسان واختياره، فأذاب قدرة الإنسان
في قدرة الله تعالى التي قدرت في الأزل الثواب
والعقاب... ومن هنا نلاحظ أن هذا المذهب في
الجبر قد قطع نهائياً مع النصوص الشرعية التي
تثبت للإنسان إرادته واختياره، تماماً كما فعل
المعتزلة والمرجئة، حيث نرى هذه الفرق لم
تهتدِ إلى حقيقة إثارة دفائن العقول، وما
تنطوي عليه هذه العقول من مبادئ وقوانين
وأحكام عقلية ارتكز إليها الأنبياء (عليهم
السلام) في دعوتهم إلى الله تعالى، ولو لم يكن
في مرتكز العقل قبولها لما كان معنى لما جاء
به الأنبياء من أحكام شرعية، لما ذهب إليه
الطوسي (قده) بأن: «العقليات هي ما استقل العقل
بالعلم به، من قبح الظلم والكذب، وحسن الصدق
والعدل، إضافة إلى الواجبات كالعلم بوجوب ردّ
الوديعة، والإنصاف، وقضاء الدين، والعلم بحسن
الإحسان وغير ذلك، وأما ما يُعلم بالشرع فكل
ما لا يمكن معرفته بالعقل كالعبادات
الشرعية...»
[381] .
ومثلما أن الأشاعرة لم يلتفتوا إلى إثارة
دفائن العقول بالدعوة النبوية، فهم كذلك لم
يلتفتوا إلى ما أسست له هذه الدعوى في معاني
القضاء والقدر، والجبر والاختيار، وقبل ذلك
كله في العقل الذي هو أساس ومنطلق لفهم قيام
السماوات والأرض حيث قال الله تعالى: ﴿
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾
[382] ، فكل شيء قائم بالعدل، والعقل هو
الذي يكشف عن اتصاف فعل الله تعالى بالعدل،
بالنظر إلى حسن العدل الذاتي، وتنزهه عن الظلم
بالنظر إلى القبح الذاتي، أما ما تراه
الأشاعرة في معنى العدل فيما ذهبوا إليه من
تجويز فعل القبيح، وأن الحسن هو ما حسنه الشرع
والقبيح ما قبّحه الشرع، فيجوز، بنظرهم، أن
يعاقب المطيعين ويدخل الجنة العاصين بل
الكافرين، أو أن يكلف العباد فوق طاقتهم، فهذا
كله مما لا يستقيم لا في أحكام العقل، ولا في
أحكام الشرع، هذا فضلاً عمّا يكون لهذه
المذاهب في القول على الله بغير علم من مؤديات
في حقيقة الوعد والوعيد، لكون العدل الجزائي
لا يساوي بين المؤمن والكافر في مقام الجزاء،
بل هو يجزي المحسن بالإحسان والثواب، والمسيء
بالعقاب، كما أنه لا يُعذّب عبداً على مخالفة
التكاليف إلاّ بعد البيان
[383] ، فالعقل حاكم
بذلك، وأكده الشرع بقوله تعالى: ﴿
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ
﴾
[384]
.
ثم إنه ما معنى أن يكون الإنسان مجبوراً على
فعله، ونسبة الفعل إلى الله سبحانه، وفي الوقت
عينه يأتي الوعد والوعيد ليفي للإنسان بما لا
يستحقه، أو ليعاقب الإنسان على ما لا يستحقه،
لكون الجبر معناه أن يعاقب العاصي من غير
استحقاق
[385] ؟ فهل يستقيم هذا الكلام في ضوء
حقيقة الوعد والوعيد؟ وهل من العدل في شيء أن
يجوز على الله فعل القبيح، وقد شهد الأنبياء
والأولياء أن الله عَدْلُ عَدَلَ، كما جاء عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) ؟ فإذا كان الله
تعالى يأمر بالعدل والإحسان: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ والعدل هو ما يفعله الله تعالى، فما يكون
معنى أن يأمر بالعدل. غير أن يكون العقل
القطعي البديهي قد حكم بعدالة الله تعالى في
التكوين والتشريع والجزاء. ومن هنا، نرى أنه
لا منافاة بين قول العقل ـ يجب أن يكون الله
تعالى عادلاً ـ وبين سعة قدرته ومشيئته لما
يريد، إنه عادل لا يجور ولا يظلم
[386] .
يحدّد القاضي عبد الجبار في شرح الأصول
للمعتزلة كلاً من الوعد والوعيد بالآتي:
«أما الوعد، فهو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى
غيره، أو دفع ضرر عنه في المستقبل، ولا فرق
بين أن يكون حسناً مستحقاً، وبين أن لا يكون
كذلك، ألا ترى أنه كما يُقال وعدهم بالتفضل،
مع أنه غير مستحق؟ وأما الوعيد فهو كل خبر
يتضمن إيصال ضرر إلى غيره أو تفويت نفع عنه في
المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسناً مستحقاً،
وبين ألاّ يكون كذلك، ألا ترى أنه كما يقال:
إن الله تعالى توعّد العصاة بالعقاب قد يُقال
توعّد السلطان غيره بإتلاف نفسه وهتك حرمه
ونهب أمواله، مع أنه لا يستحق ولا يحسن؟»
وينتهي القاضي عبد الجبار إلى أنه تعالى وعد
المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب،
وأنه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة ولا
يجوز عليه الخلف والكذب
[387] .
إن خاتمة كلام القاضي هي التي تعنينا في
مبحثنا هذا طالما أنه لا خلاف على أن الله
تعالى منجز ما وعد به عباده، وقد بيّن الواسطي
[388] ، أن ملاك الوعد إنجازه، فالوعد كما
بيّن العلماء حق العباد على الله تعالى، فإذا
وعدهم كان لهم الوفاء ومَن أولى بالوفاء من
الله تعالى، أما الوعيد فهو حقه على العباد،
فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه.
يقول الطوسي (رض) : «فقد ثبت أن العقاب حق لله
تعالى إليه قبضه واستيفاؤه،.. وإنما قلنا حق
الله لئلا يلزم حق عليه من الثواب والعوض،
وقلنا «إليه قبضه واستيفاؤه» لأن كل حق ليس
لصاحبه قبضه ليس له إسقاطه كالطفل والمجنون
لما لم يكن لهما استيفاؤه لم يكن لهما
إسقاطه.. فالإسقاط تابع للاستيفاء، فمن لم
يملك أحدهما لم يملك الآخر»
[389] .
وعوداً على بدء، فإن الخوارج ومن لحق بهم من
الفرق أو تفرّع عنهم ذهبوا إلى القول: «إنّ
الله تعالى صادق، ولا يُخلف في وعده أو
وعيده»، وإلاّ جاز عليه القول بأنه يقول شيئاً
ثم يبدو له أن المصلحة في خلافه فيترك الأول،
وهذا مستحيل، إذ كيف يكون ذلك، وهو القائل: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
﴾ ، ومنهم مَن قال: إنّ الله لا يخلف
وعده، ولا يبطل وعيده، وبمعزل عن اختلاف
العبارات عندهم، فهم أجمعوا على أنه لا يجوز
خلف الوعد، وكذلك لا يجوز خلف الوعيد. أما
سائر المسلمين، باستثناء الوعيدية منهم، سواء
أكانوا من الإمامية، أم من المعتزلة، فهم
أخذوا بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): «من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجز
له وعده، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه
بالخيار».
ولا أدري ما إذا كان يفهم من الخيار في كلام
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يفيد
إسقاط العقاب جزافاً، طالما عرفنا أن الله
حكيم، وأن العدل هو الحكمة الإلهية
[390] ،
وأن الله تعالى لا يصدر عنه ظلم ولا لغو ولا
عبث، بل مقتضى الحكمة والعدالة الإلهية، وحكم
العقل قبل ذلك أن يثاب المحسن، وأن يعاقب
المسيئ، فإذا كان لا بدّ من إسقاط العقاب، فلا
بدّ أن يكون مقتضى الحكمة ذلك، وإلاّ فسد
الأمر والنهي، واستحال الأمر إلى خلاف
المصلحة، فلا يكفي أن يُقال بأن الوعيد في حق
عصاة المؤمنين، هو تحت مشيئة الله تعالى، فقد
يقع هذا الوعيد جزاءً وعدلاً، وقد يتخلف هذا
الوعيد في حق بعض العصاة لانتفاء شرط أو وجود
مانع، وكما جاء في بحار الأنوار عن المجلسي أن
المحققين على خلاف في هذا الأمر، باعتبار أن
القول بخلف الوعيد، هو تبديل للقول، وقد قال
الله تعالى: ﴿
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ
﴾
[391] ، وهذا ما
تساءلنا حوله في بحثنا السابق، وقلنا: إنه على
العلماء أن يجيبوا على سؤال: ما هو القول الذي
لا يتبدّل؟ هل هو في التكوين أو في التشريع،
أو في الإخبار، أو في غير ذلك؟
لقد أوضح السدوسي قبل مئات السنين، أن النسخ
لا يقع إلاّ في لفظ الأمر والنهي، ولو بلفظ
الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب، فلا
يدخله النسخ ومنه الوعد والوعيد
[392] ،
وطالما أنه لا نسخ في الإخبار، فما يكون معنى
القول بأن الله يخلف في وعيده؟ وهذا ما أوضحه
صريحاً العلامة شبّر في حق اليقين، حيث قال:
«إنّ ما ذكروه من حسن خلف الوعيد، كما قال
الله تعالى: ﴿
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ
﴾ ، إذ لم يقل
وعيده، بل قال: ﴿
وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ ﴾
[393]
، قال شبّر: هذا
فاسد من وجوه:
أولاً: إنّ الآية تفيد أنه لا وعيد بالنسبة
إلى الرسل والأنبياء، وإثبات الشيء لا يدل على
نفي ما عداه.
ثانياً: إن الوعيد الذي يحسن خلفه من قسم
الإنشاء، ولكن الخلود في العذاب قد دلّت عليه
الآيات والروايات بطريق الإخبار، وإخبار الله
تعالى يمتنع فيها الكذب ضرورة.
ثالثاً: إن الله تعالى قد وعد أنبياءه ورسله
بالانتقام من أعدائهم وخلودهم في العذاب
الدائم، وعد من الله لأنبيائه يمتنع خلفه،
فتكون الآية رداً على مَن زعم ذلك
[394] .
نحن نزعم أن الوعيدية ليست فقط عند الخوارج
وما تلاشوا إليه من فرق، بل هناك وعيدية أيضاً
عند المعتزلة، وعند الشيعة أيضاً، وهذا لا
يضير أن يقول الإنسان: إن الله تعالى لا يخلف
لا في وعده ولا في وعيده، وذلك من حيث العلم
اليقيني بأن الوعيد بحقّ الكفار والمشركين
والمنافقين يتحقق لا محالة، وما على المتدبّر
الفطن إلاّ أن يُحصي آيات الخلود في جهنم التي
تكاد تبلغ العشرات، وهي تفيد الخلود في العذاب
لمن حارب الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وصدّ
عن السبيل ومنع من الإنفاق في سبيل الله
تعالى، أو لمن ابتغى الدين عوجاً، أو لمن
شقوا، حتى لا يقال بأن أساس الخلود في العذاب
محصورة فقط بالكافرين كما قال البغدادي مكفراً
المعتزلة والخوارج لأنهم ذهبوا إلى القول
بتأبيد العذاب لمن أشرك بالله وارتكب الكبائر،
يقول البغدادي: «قال أصحابنا إن تأبيد العذاب
إنما يكون لمن مات على الكفر، أو على البدعة
التي يكفر بها صاحبها كالقدرية والخوارج وغلاة
الروافض، ومن جرى مجراهم...»
[395] ، وكأنه
يريد القول: إن ما عدا هؤلاء لا يخلدون في
العذاب حتى ولو انقلبوا على الأعقاب، وقتلوا
ذراري الأنبياء، وصدّوا عن السبيل، وتقوّلوا
الأقاويل..!؟
هناك تأويلات كثيرة عند العلماء، إذ قد يُقال:
إن حمل آيات الوعيد على إنشاء التهديد فلا خلف
فيه، لأنه حينئذٍ ليس خبراً بحسب المعنى، وإن
حمل على الإخبار، كما هو الظاهر، فيمكن أن
يُقال بتخصيص الذنب المغفور عن عمومات الوعيد
بالدلائل المنفصلة
[396] ، ولا خلف على هذا
التقدير أيضاً فلا يلزم منه الخلف، ولا تبدل
القول لديه... إلا أن يحمل آيات الوعيد على
استحقاق ما أوعد به، لا على وقوعه بالفعل، وفي
قوله تعالى: ﴿
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
﴾ ، إشارة إلى ذلك...
وإذا كان قد حصل التوعد، فإنه يكون قد حصل
بشرط يخرجه من الخلف في وعيده، لأنه حكيم لا
يعبث...
[397] .
نلاحظ أن كلام المجلسي يدور حول ما هو إنشاء
وما هو خبر، رغم أن الآيات والأحاديث التي
تخبر عن الوعيد والعقاب للعصاة وأصحاب الكبائر
لا تعدّ ولا تحصى، وهي ليست من الإنشاء في
شيء، ولا يمكن أن يطالها النسخ، وقد حصل أن
ذهب بعض المسلمين إلى القول بنسخ الأخبار، هذا
فضلاً عما انتهوا إليه من قول بنسخ الخاص
للعام، جاهلين تماماً معنى التخصيص، سواء
التخصيص المعنوي أم التخصيص الحقيقي
[398] ،
وهذا أدّى إلى أن يكون القرآن كله منسوخاً،
رغم أن الأصل هو عدم النسخ كما أفاد أهل العلم
والتحقيق، ويكفي أن نذكر استطراداً على ذلك ما
زعموه من نسخ لآيات الصفح والعفو بآية السيف،
جهلاً منهم بالمطلق والمقيّد، فإذا كان الجهل
قائماً في علوم القرآن، فماذا يبقى للوعد
والوعيد أو للقول فيهما، وقد حصل في التاريخ
الإسلامي، وخاصة بعد وفاة رسول الله(صلى الله
عليه وآله وسلم) أن تحول الأمر نهائياً باتجاه
الوعد الإلهي ورحمته الواسعة، وكأن القرآن
يخلو من آيات الوعيد، وقد سلف القول منا أن كل
آية في الوعيد بإزائها نظيرها في الوعد، فإن
قوله تعالى: ﴿
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
﴾
[399] ، بإزائه: ﴿
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
﴾ بإزائه: ﴿
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
﴾ ،
فإذا كان الأمر كذلك، فلمَا يتم تغليب جانب
على جانب بحسب الرأي والهوى، حتى إن ما جاء في
البحار يمكن المناقشة فيه، ونعني به تخصيص
الذنب المغفور عن عمومات الوعيد بالدلائل
المنفصلة، إذ كيف يكون ذلك، وقد علمنا أن
الخبر على عمومه لا ينسخ وقد يخصص، وكانت له
مصاديق كثيرة في عالم الدنيا، في الأفراد
والجماعات وعموم الآيات، سواء للفجار أم
للأبرار، كاشف عن هذا، فلا داعي للتخصيص إلا
أن يُقال بالتعارض بين الوعد والوعيد!؟
كما يمكن القول أيضاً، إن ما جاءت به الآيات
من تقابل هو الذي يوضح معنى أن يكون الإنسان
على وعد أو وعيد، فإن كان الإنسان مؤمناً
وعاملاً للصالحات كان له وعده، وإن كان كافراً
أو منافقاً أو فاسقاً كان له وعيده، فمن أين
جاء البغدادي وغيره بالتعارض بين آيات الوعد
والوعيد لكي يقول إذا تعارضت الآيات خصصنا
آيات الوعيد بآيات الوعد أو جمعنا بينهما
[400] ؟ وماذا لو لم يتحصّل الجمع ولم يبن
الاستثناء للعصاة كما زعمت المرجئة بأن الوعد
ليس فيه استثناء، وأن الوعيد فيه استثناء مضمر
[401] ؟ ثم إنه ما معنى التعارض ما دامت
الآيات تلحظ تحققاتها الواقعية فيما يكون عليه
الإنسان من أسماء لها أحكامها؟ فإن كان
الإنسان كافراً فحكمه معروف، وإن لم يكن كذلك
فإنه يمكن إدخاله تحت المشيئة شرط أن يكون
قاصراً أو جاهلاً، وأما إن كان مستخفاً،
وموالياً لأعداء الله تعالى، ومحارباً
لأوليائه، ومعانداً في الباطل، فهل من الحكمة
والعدالة الإلهية أن تشمله المشيئة ليكون في
عداد مَن يُغفر عنهم تفضلاً؟! أو أن مقتضى
الحكمة والعدالة أن يكون مشمولاً لمن أعدّ
الله تعالى لهم العذاب الأليم، لأنّ الآية لم
تفرق بين من يعمل السيئات ولم يتب من قريب،
وبين الذين ماتوا وهم كفار
[402] ، فما يكون
معنى التعارض أو التخصيص طالما أن الخبر
الإلهي صادق ويُفيد مآلات التحقق لهذا الإنسان
سواء في الجنة أم في الجحيم، وسنرى في البحث
اللاحق معنى أن يكون الإنسان مشمولاً للمشيئة
إن شاء الله تعالى
[403] .
إنّ أحداً لا يحتم على الله تعالى، فله الحكم
وله الأمر ولا معقب لحكمه، وهو بالغ أمره،
يفعل ما يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء
قدير، ولكن الله تعالى أراد لعباده أن يعقلوا
عنه، وأن يكونوا حيث أمرهم، فإن كانوا هناك
كان لهم الوعد الحق فيما أعدّ لهم من نصر
وتمكين واستخلاف في الدنيا، وجنة نعيم في
الآخرة، وأما إن كانوا حيث نهاهم، فإنه سيكون
لهم ما وعدهم به أيضاً من الهزيمة في الدنيا،
والنار التي وعدها لمن كفر وعصى وكذّب وتولّى،
ذلك هو معنى الوعد والوعيد، وهنا يمكن أن
نستعرض أهم مقولات الفرق في الوعد والوعيد،
كما أوجزها الأشعري في مقالات الإسلاميين،
والتي تراوح أمرها بين الإفراط والتفريط، إذ
لم تهتدِ إلى باب علم الله تعالى، فقالت
برأيها، وغربت عن حقها، وانقلبت على أعقابها،
وقد تجلّى هذا الأمر فيما أجمعت عليه المعتزلة
بأن مَن أدخله الله النار خلّده فيها
[404] ،
وقالت المرجئة: إنه ليس في أهل الصلاة وعيد،
وإنما هو في المشركين
[405] ، وقد امتاز
الخوارج عن المعتزلة، بقولهم: إن مرتكبي
الكبائر ممن ينتحل الإسلام يعذّبُون عذاب
الكافرين، والمعتزلة يقولون: إن عذابهم ليس
كعذاب الكافرين
[406] إلى غير ذلك مما نسبه
الأشعري إلى الروافض الذين ذهبوا إلى إثبات
الوعيد، منقسمين إلى فرقتين، فرقة تثبته
للمخالفين، ويرون لهم العذاب، دون من قال
بقولهم، وفرقه تثبت الوعيد لمرتكب الكبيرة،
سواء أكان من أهل مقالتهم أم لم يكن، وهم
مخلدون في النار
[407] ، وهذا ما نقله
المسعودي أيضاً في مروج الذهب عن المعتزلة
بأنهم يرون العذاب والخلود لمرتكب الكبيرة إلا
أن يتوب، فإن خرج من الدنيا على طاعة وتوبة
استحق الثواب والعوض والتفضل معنى آخر، وراء
الثواب، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة
ارتكبها استحق الخلود في النار، ولكن يكون
عقابه أخف من عقاب الكفار
[408] .
هذه هي جملة المواقف والآراء التي تصارعت
حولها الفرق إلى حدّ الفناء، والتي استحال
معها التوفيق والهداية نظراً لما شاب صراعاتهم
من ميول سياسية وأهداف دنيوية، حالت دون
الاهتداء إلى الحق إلى آيات الله تعالى، وقد
لا يكون من الذاتية أبداً ولا من العصبية أن
تميل إلى رأي المعتزلة فيما رأوه لصاحب
الكبيرة إذ لم يتب، لأن القرآن أوضح هذا
المعنى وأرشد إليه بخصوص عصاة المسلمين الذين
يفسقون عن أمر ربهم ولا يتوبون من قريب، وهم
فيما أعدّ لهم من العذاب الأليم، كما هو ظاهر
آيات سورة النساء التي جمعت بين الذين يعملون
السيئات، والذين ماتوا وهم كفار في سياق واحد،
فلا يستوون في العذاب مع الكفار، بل يكون لهم
درجات من العذاب، على اعتبار أن الجنة والنار
تتفاوت فيهما المنازل والدرجات، وقد سبق لنا
أن بينّا هذه المنازل، سواء في عالم البرزخ أم
في عالم جنة الخلد، وهي منازل ثلاثة، كما قال
الله تعالى: ﴿
وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
﴾
[409] .
فكل الناس تجتمع في هذه المنازل بحسب ما يكون
لهم من درجات، ولا يمكن أن يستوي المؤمن
العامل للصالحات، مع الفاسق الذي مات من دون
توبة، إذ مقتضى العدل الجزائي أن لا يستوي
صاحب الحسنة وصاحب السيئة، ولا المحسن
والمسيء، والناس ملحقون بهذه المنازل، فمنهم
من يدخل النار ويخرج منها بعد العذاب وهذا ما
يحتاج إلى مناقشة، كما سنرى في البحوث المقبلة
إن شاء الله تعالى. ومنهم من يخلد فيها،
خلافاً لما زعمه بعض المتكلمين، وخصوصاً
المرجئة من أنه لا وعيد لأهل الصلاة، وهل هي
الصلاة بذاتها، والزكاة، والحج، هي التي
تستوجب الوعيد، أو أن الوفاء بالعهد والميثاق
هو المستلزم لذلك؟ لا شك في أن حديث
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من أنه لا
تنفع صلاة ولا زكاة، ولا حجّ، إلا أن تكون
آتية في سياقاتها، ومأخوذة عن أهلها الذين
جعلهم الله تعالى أدلة عليها ومفاتيح لها. وقد
سبق الكلام في هذا المعنى ولا طائل من تكراره،
لكن الذي يعنينا في هذا السياق هو ما ذكره
المفيد في المقالات عن رأي طائفة الإمامية وما
يرونه من خلود الكفار فقط، أو أن من عمل
عملاً، أو أتي بقربة، منزله في جنات النعيم،
فهذا الرأي، كما نرى، لا يستجمع الآراء، بل
إنه يحتاج إلى مناقشة مستفيضة طالما أن هناك
من الشيعة من قال بالوعيد مع المعتزلة
[410] ،
لما تقدم القول فيه من أن التوجه إلى القبلة
ليس هو الشرط الوحيد لعدم الخلود في العذاب،
وإنما هناك شروط أخرى لا بدّ من توفرها لعدم
انطباق الوصف أو الاسم، لأن الأحكام تابعة
للأسماء، والأسماء تابعة للفعل، كما بيّن
الخياط في الانتصار
[411] .
نعم، لقد شهدت طائفة الإمامية تحولات في مذاهب
الوعد والوعيد، وكان منهم الوعيدية، ومنهم
التفضيلية الذين يقولون بالتفضل الإلهي، وأن
الله تعالى يثيب تفضلاً، وهذا إن دلّ على شيء،
فإنه يدل على اضطراب الموقف رغم أن الآيات
القرآنية واضحة الدلالة فيما نصّت عليه من
أسماء وأحكام، سواء بالنسبة للمشركين أم
للكافرين والمنافقين، أم لعصاة المسلمين الذين
ارتكبوا الكبائر، كما قال الله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً
﴾
[412] ، فظاهر الآية واضح
الدلالة أنه لا تكفير للسيئات ما لم يتب
الإنسان عنها، وإذا مات من دون توبة مستخفاً
أو معانداً لم تكن له الشفاعة، لأن هذه لا
تكون كيفما اتفق، وإنما لها شرائط أيضاً أن لا
يموت كافراً أو مشركاً أو منافقاً، أو فاسقاً
مستخفاً، أو معانداً، وهذا هو معنى «ادّخرت
شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي»، كما قال الله
تعالى: ﴿
يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ
قَوْلاً
﴾ إذ لا شفاعة
إلاّ لمن رضي له الرحمن قولاً
....
مما تقدّم، يمكن لنا أن نعرض لما نسبه بعض
الجاهلين من آراء للطائفة الإمامية فيما تراه
من وعد ووعيد، فهناك مَن نسب لها من المقولات،
وتقوّل عليها الأقاويل ظلماً وبهتاناً، وليس
صحيحاً أن ننسب للإمامية ما ذكره الأشعري في
المقالات عن بعض الفرق، وأنهم يرون العذاب لمن
يخالفهم الرأي ولا يقول بمقالتهم، وهذا ما
نطالعه على وسائل الإعلام، وترد حوله مناقشات،
وحتى على صفحات الإنترنت نشاهد الكثير من
الافتراءات التي كتبتها أقلام مأجورة، حيث نسب
إلى الشيعة الإمامية أنهم يتوسعون في مفهوم
الوعد وكأن هذا المفهوم يحتمل من التوسعة أكثر
مما وسّع في القرآن والسنّة، ويكفي تدليلاً
على ذلك قوله تعالى: ﴿
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى
﴾
[413] ، فهذا وعد إلهي بالعفو والمغفرة لا لمن
تاب وآمن وعمل صالحاً فقط، بل لمن اهتدى
أيضاً، وما على هؤلاء المفترين إلا أن
يستوعبوا معنى ومفهوم الهداية في الآية
المباركة من خلال هذا التراخي بـ «ثم». هذا
أولاً.
ثانياً: قالوا بأن الإمامية يرون الوعد
بالثواب عن أعمال ما أنزل الله بها من
سلطان... قلنا: إذا كنتم تقصدون بذلك تسويغ
اللعن للكافرين والمنافقين، فإنّ ذلك مما
دعانا إليه القرآن وأمرنا به، وقد سبق إليه
الرسل والأنبياء، سواء بلعن الأجناس أم بلعن
الأنواع، أم بلعن الأشخاص، وعليكم أنتم أن
توضّحوا ما إذا كان اللعن مشروعاً في الكتاب
والسنّة أم لا، قبل أن تتبجّحوا بالقول: إنّ
ذكر الله تعالى أولى من اللعن، وفيه طاعة لله
ورسوله، وهذا أمر التبس عليكم الأمر فيه، كما
إنكم لم تميّزوا بين اللعن والسب، وقد بينّا
آنفاً أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
يقل إنّي أكره لكم أن تكونوا لاعنين، وإنما
قال: إنّي أكره لكم أن تكونوا لعّانين، أي بأن
يكون اللعن مهنة وسليقة، أما السب، فإنّ
الإمام علي (عليه السلام) هو القائل: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين...».
ثالثاً: زعم هؤلاء أن الشيعة يرون من كمال
الوعد والثواب زيارة الأضرحة والتوسّل
بالأئمة، وهذا ما لم ينزل الله تعالى به
سلطاناً.!؟
قلنا: إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: «زوروا قبور موتاكم، وسلّموا عليهم، فإن
لكم فيهم عبرة»، وقال (صلى الله عليه وآله
وسلم): «إنَّ القبر أوّل منازل الآخرة، فإن
نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه
فما بعده شرّ منه ».
وقد سبقنا إلى ذلك رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) بزيارة البقيع، والإمام علي (عليه
السلام) إلى الاتعاظ بأهل الديار الموحشة،
والمحال المقفرة، حتى يعلم الإنسان أن من مات
هو فرط سابق، ونحن له تبع لاحق.
رابعاً: لقد زعم هؤلاء أن الشيعة يوزعون صكوك
الغفران والحرمان، والملكوت، ويملكون مفاتيح
خزائن الرحمن، إلى غير ذلك مما نسبوه إليهم من
تدبير لشيعتهم مع الله تعالى.!؟
قلنا: إن هؤلاء، فيما يزعمونه، قد خلطوا بين
ما تقوله الإمامية، وما ينسب إلى الغلاة الذين
حاربهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد سهى
هؤلاء عما يذهبون إليه من تكفير لكثير من
الفرق الإسلامية، وهذا ما ينسبه البغدادي إلى
أصحابه بتكفير المعتزلة وأهل البدع. نعم
الشيعة يلتزمون خط أهل البيت (عليهم السلام)
الذين أخذت عنهم كل الفرق، ولم يعرف عن إمام
من أئمة الشيعة أنه غالى في قول أو فعل، بل
كانوا دائماً أبواب العلم والهداية، وهؤلاء
الزاعمون ينقلون في كتبهم مقالة الشيخ المفيد
فيما يراه من وعد ووعيد، ويرون أنه موافق لأهل
السنّة فيما يرونه من نجاة لأهل القبلة...
إنّ ما يؤسف منه ويُعجب له أن يأخذ هؤلاء بما
نقله الأشعري عن بعض الفرق، ولا يتكلفون عناء
البحث والتحقيق، كما فعلوا في نقل مقالة الشيخ
المفيد، ليعرفوا أن الشيعة ليسوا مذهباً، ولا
فرقة، وإنما هم يحملون فكر وعقيدة أهل البيت
(عليهم السلام) الذين كان ولا يزال لهم الفضل
الكبير في حماية الدين من سوء التأويل
والتحريف. فأهل البيت (عليهم السلام) هم
الإسلام ومَن ينتسب إليهم بأخذ العلم من
مَعينه، وقد أمر الإنسان أن ينظر إلى
طعامه...!؟
أما قولهم بأن الشيعة يقولون بكفر من حارب
أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) ، فهذا
مما لا يستحي به الشيعة، ولو أن هؤلاء يعرفون
معنى الكفر جيداً لما تأوّلوا الكلام على
النحو الذي يفهم منه التكفير الملازم للشرك
والكفر، باعتبارهم لم يميزوا بين كفر الردّة
وكفر الملّة، وقد تسالم المسلمون جميعاً على
أن الذين قاتلوا الإمام (عليه السلام) بغوا في
الأرض ولهم أحكام البغاة، وقد قال الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) لعمّار بن ياسر رضوان
الله عليه، تقتلك الفئة الباغية، وهذا أمر
معلوم لمن أبصر وتدبّر.
يبقى أن نقول في ختام هذا المبحث، إن الفرق
الإسلامية فيما زعمته لنفسها من حق في مقابل
بعضها بعضاً، هي لم تأخذ بالقرآن والسنّة لكي
تهتدي إلى الحق والصواب، بل أخذت برأيها فيما
اجتهدت فيه، ويكفي تدليلاً على ذلك ما أرشد
إليه الإمام (عليه السلام) في حقيقة هذه الفرق
في أنها لم تلجأ إلى ركن وثيق. وإذا كان الوعد
والوعيد هما من المسائل التي تنازع القوم
فيهما، فذلك إنما كان ناشئاً عن عدم استيعاب
الرؤية القرآنية، وجهل هذه الفرق بالعام
والخاص والمطلق والمقيّد، والناسخ والمنسوخ،
وسائر علوم القرآن، وهذا ما لحظه الأشعري فيما
رواه عن مقالات الفرق عن العام والخاص، إضافة
إلى اختلاف الفرق في نسخ الإخبار وعدمه، بين
قائل بالنسخ للأخبار، وبين مانع لذلك، إلى غير
ذلك مما زعموه من نسخ الخاص للعام، فلم تكن
مسألة الوعد والوعيد هي وحدها مثار الجدل
والصراع، بل تجاوز الأمر ذلك كله إلى التأويل
والاجتهاد بحسب الميول والأهواء لإرضاء
الحكومات، وهذا ما أدّى إلى أن تكون الفرق
سبباً في انهيار منظومة القيم الإسلامية،
بدلاً من أن تكون سبباً في حياتها. ولو أن هذه
الفرق سمعت لرسول الله
(صلى الله عليه وآله
وسلم) فيما أمرها به ودعاها إليه من التزام
بالثقلين لما آل الأمر بها إلى هذا الضياع في
العقيدة والشريعة، فضلاً عن النظام السياسي
الذي استبدّ إلى حدّ التحوّل عن الإسلام
نهائياً لصالح الفرعونية والجاهلية، ولولا أن
الله تعالى قد جعل لهذا الدين مَن يذبّ عنه من
أهل الدين في كل زمان، لما كنّا ننعم اليوم
ببركات الإسلام الأصيل، الذي يستبطن حكماً
معنى وحياة الإسلام إلى يوم القيامة.
أجمع المسلمون على تأبيد العذاب والخلود في
النار لمن مات على الكفر أو الشرك، وخالف
الأشاعرة ومن والاهم في القول بتأبيد العذاب
لأهل البدع، وهم برأيهم، القدرية والخوارج
والغلاة في الدين ومن جرى مجراهم فيما ذكر
البغدادي في أصول الدين
[414] ، ولهذا، فإنه
لا طائل من تكرار القول بأن الفرق الإسلامية
في تاريخها لم تتورّع عن القول بتأبيد العذاب
لمن خالف في الرأي، فكانت كل فرقة تلعن أختها
حتى ولو كانت تشهد الشهادتين وتؤمن بالمعاد.
وهكذا توالت المزاعم، فقالت الخوارج أن
مخالفيهم كفرة مخلّدون في النار، وزعمت
القدرية أن مخالفيهم كفرة، وأن أهل الذنوب من
موافقيهم يخلدون في النار، إلاّ ابن شبيب
والخالدي منهم
[415] ، فإنهما أجازا المغفرة
لأهل الكبائر من موافقيهم، وزعم أهل السنّة
والجماعة، ومعهم أهل الحديث، أن أصحاب الوعيد
من الخوارج والقدرية يخلدون في النار لا
محالة، وهم يسألون كيف يغفر الله تعالى لمن
يقول ليس لله أن يغفر له ويزعم أن عفو الله عن
صاحب الكبيرة سفه وخروج عن الحكمة..!؟
هذا هو الحال الذي استقرت عليه الفرق في
تاريخها، وقد تولد عن ذلك نزاعات كبيرة جداً
أدّت بالمسلمين إلى أن يكونوا خارج التاريخ
والحضارة بما آل إليه وضعهم الديني
والسياسي..!؟
وبما أن موضوع بحثنا هو الكفر والكبائر ومن
يستحق الخلود في العذاب، ومن يخرج من العذاب،
أو من هو من أهل اليمين، أو من أهل الشمال،
فقد سبق لنا أن تحدّثنا عن منازل الإنسان
وأوصافه في عالم البرزخ وفي جنّات النعيم،
وهنا في هذا المبحث نعرض لأهم أقوال واتجاهات
الفرق في موضوع الشرك والكفر وأصحاب الكبائر
لنرى ما إذا كان ثمة تمايزات بينهم في ضوء
آيات الله تعالى، لأن القرآن، كما أجمع علماء
التفسير، لم يهمل هذا التوصيف لحالات الناس،
سواء في الدنيا، أم في الآخرة، وقد تجلّت حكمة
الله تعالى، كما يقول الطباطبائي (قده)
[416]
، في أنه جاء بعموم الأوصاف بعيداً عن الأشخاص
لعلمه تعالى بمآلات الناس وتحولاتهم، باعتبار
أن الأعمال إنما تكون مقبولة أو غير مقبولة
بخواتيمها، وهذا ما عرضنا له في المباحث
السابقة.
وقبل الدخول في جوهر الموضوع لا بدّ من
تعريفات لما نودّ الحديث عنه، ونعني بذلك
الكفر أو الشرك، أو الكبائر، وقد أوعد الله
تعالى هؤلاء بما يستحقونه يوم لا ظلّ إلا
ظلّه. فنقول: إنّ الكفر، كما بيّن أهل اللغة
والاصطلاح، يأتي بمعانٍ عدّة، فتارة يعني
الجحود، وطوراً يعني الكفر بالألوهية، وثالثة
الكفر بالوحدانية، كأن يعتقد الإنسان أن الله
تعالى ليس بواحد، وهذا هو الشرك، ورابعة: يأتي
الكفر بمعنى إنكار النبوّة والمعاد، وخامسة
يعني الكفر بكل ضرورة يؤدي الإنكار بها إلى
إنكار رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
والضرورات: هي التشريعات البديهية التي لا
تقبل الشكّ كالصلاة والزكاة والصيام والحج
وغير ذلك، ومن الكفر أيضاً الشكّ في هذه
الأمور المتقدّمة، ويأتي الكفر أيضاً بمعنى
الارتداد، والمرتدّ هو المسلم المنكر لله
والرسول، أو لضروري من ضروريات الدين الذي
يرجع إلى إنكار الله والرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم)، وقد قسّم المرتدّ إلى قسمين،
المرتدّ الفطري
[417] ، والمرتدّ الملّي
[418]
، ومن الكفر أيضاً، كفر النعمة وعدم الشكر
عليها، كما قال تعالى: ﴿
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
﴾
[419] .
وأخيراً يأتي الكفر بمعنى البراءة، كقوله
تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) : ﴿
كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ
﴾
[420] ، كفرنا بكم أي تبرّأنا
منكم...
هذه هي معاني الكفر التي عرض لها أهل اللغة
والاصطلاح، ولكل تعريف من هذه التعريفات
دلالاته وسياقاته في القرآن والسنّة، فليس كل
كفر يوجب لمن اتصف به أن يكون مخلداً في
العذاب، إلاّ أن يكون هذا الكفر مما توعد عليه
الله تعالى بالعذاب والخلود في جهنم، ككفر
الجحود، أو الألوهية، أو الوحدانية، أو كفر
التكذيب لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولعلّ مضامين هذه التعريفات بأجمعها تؤدّي إلى
ما لا تحمد عقباه، سواء في الدنيا أم في
الآخرة، ونظراً لخطورة إطلاق الأحكام، فإنّنا
سنأتي على جملة من الآيات التي توعّد الله
تعالى فيها أهل الكفر والنفاق بالعذاب.
لنتعرّف إلى الأسماء والأحكام معاً، طالما أن
الأحكام تابعة للأسماء، والأسماء تابعة
للأفعال، إضافة إلى التدبّر في دلالات السياق
القرآني لتبيان حقيقة الموقف من أهل الكفر
والنفاق ومرتكب الكبيرة، وما أعدّ لهؤلاء من
منازل في ضوء ما ذهب إليه العلماء وأهل
التفسير...
إنّ ما هو مرتكز في حقيقة الاعتقاد، هو أن
المسلم من شهد بالشهادتين، فإن كان منه ذلك،
فقد حرم ماله ودمه وعرضه، يقول السيد الخوئي﴾
في البيان: «إذا نهي عن خضوع خاص لغير الله
تعالى كالسجود، أو عن عبادة خاصة كصوم
العيدين، وصلاة الحائض، والحجّ في غير الأشهر
الحرم كان الآتي به مرتكباً للحرام، ومستحقاً
للعقاب، إلاّ أنه لا يكون بذلك الفعل مشركاً
ولا كافراً، فليس كل فعل محرّم يقتضي شرك
مرتكبه أو كفره، ذلك أن الشرك إنما هو الخضوع
لغير الله بما أن الخاضع عبد والمخضوع له ربّ،
فمن تعمّد السجود لغير الله بغير قصد العبودية
لم يخرج بعمله هذا المحرّم عن زمرة المسلمين،
فإنّ الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتين،
وبذلك يحرم ماله ودمه...»
[421] .
لقد أورد السيد الخوئي (قده) روايات كثيرة
يُجمع عليها المسلمون في بيان معنى الإسلام لا
بما هو إيمان واقعي، وإنّما بما هو إيمان
ظاهري يخرج الإنسان من دائرة الكفر والشرك إلى
دائرة الإسلام، وهناك روايات كثيرة تجعل
الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق
الإيمان بدرجة، وهذا ما لا يحتاج إلى التفصيل
فيه، كون المطلوب هو بحث الكفر والكبائر التي
يأتي بها الإنسان المسلم وتجعله مستحقاً
للعقاب، كما بيّن السيد الخوئي (قده) ، فيما
لو نهى الإنسان وخالف، أو أتى بسجود لغير الله
تعالى، أو بطاعة منهيّ عنها، كإطاعة الشيطان،
وإطاعة كل مَن يأمر بمعصية الله تعالى، إذ لا
شكّ في حرمة هذا القسم شرعاً، وهو قبيح عقلاً،
بل قد يكون كفراً، أو شركاً ـ كما إذا أمر
بالشرك أو الكفر
[422] .
وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أن الكفر قد يكون
شركاً بالله تعالى، وقد يكون فسقاً، كما إذا
سوّف الحج، أو كفر بالنعمة، كما قال الله
تعالى: ﴿
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ
نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ
﴾
[423] ،
وقوله تعالى: ﴿
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن
كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ ﴾
[424] ، فإذا تجاوز الأمر إلى حدّ تكذيب
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أتى به،
فإن ذلك يدخل في دائرة الكفر لكونه تكذيباً
لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما
جاء به من تكاليف وأحكام، فهو إن كان ملتفتاً
إلى ذلك أو قاصداً له وعازماً عليه، فإنه يكون
كافراً ومستحقاً للعقاب والخلود في النار، كما
سنرى لاحقاً إن شاء الله تعالى. بيد أن الذي
يعنينا، كما سلف منّا القول، هو مباحث العلماء
فيما انتهوا إليه من تأويل وتفسير لجملة من
الآيات، إذ حاول بعضهم ـ من العلماء طبعاً ـ
التركيز على مقولة أن من المسلمين من يغفر له
قبل تعذيب أهل العذاب، ومنهم من رأى أن التوبة
هي من موانع إنفاذ الوعيد، ومنهم من رأى أن
أهل الكبائر يغفر لهم دون تحديد، كما هو ظاهر
آية: ﴿
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
﴾
[425] ، وهذا ما يدعونا إلى
مزيد من التأمل لكون القرآن لم يتحدث عن تكفير
السيئات إلا إذا تمّ اجتناب الكبائر، وحتى لا
يلتبس الأمر على أحد في معنى الكبيرة نقول في
معناها: إنها كل ذنب يأتي به الإنسان سواء في
جوانحه أم في جوارحه، أو كما عبّر الفقهاء في
أن كل ما توعّد الله تعالى عليه بالعذاب، هو
كبيرة مع تميزهم في الصغيرة والكبيرة بالقياس
إلى بعضها بعضاً، أما في حقيقة الأمر، فإنّ
معناها هو ما توعّد الله عليه بالعذاب والخلود
في جهنّم، وقد قيل في مدرسة علم الكلام القول
المشهور: «إنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة
مع الاستغفار»
[426] .
لقد توضّح لنا معنى الكفر والشرك والكبيرة في
ملخّص عام بما يساعدنا على إكمال البحث في
مآلات الأمور على النحو الذي يؤدي بنا إلى
استكشاف ملامح الرؤية القرآنية، لنرى ما إذا
كان ممكناً القول بأن تأييد العذاب هو فقط لمن
مات على الكفر، أو أنه يمكن أن يكون لمن مات
على البدعة أو الفسق وارتكاب الكبائر، فهذا
مما يحتاج إلى المزيد من التدبّر لئلا ننزلق
في متاهات الضلال، فنقول على الله تعالى بغير
علم. وبالله التوفيق ومنه السداد.
يقول الشيخ الطوسي (رض) : «والمعاصي على
ضربين: كفر وغير كفر. فالكفر يستحق به العقاب
الدائم إجماعاً لا خلاف بين الأمة فيه، وما
ليس بكفر ليس على دوامه دليل، بل دلّ الدليل
على انقطاعه..»
[427] .
فإذا كان الإجماع قائماً على العقاب الدائم
لمن كفر بالله تعالى، فإنّ هذا الإجماع مرتكزه
قول الله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾
[428] ، إذ إنّ هذه الآية ناظرة إلى أن الله
تعالى لا يغفر الشرك من دون توبة للإجماع على
غفرانه بها، أما ما سوى ذلك من الذنوب، فهو
مغفور من دون توبة تفضّلاً، ومقتضاه، كما يقول
شبّر: «الوقوف بين الخوف والرجاء»
[429] .
فهذا ما تسالم عليه أكثر الفقهاء من الإمامية
وغيرهم، ولكن ما احتدم فيه النقاش إلى حدّ
الاضطراب هو تحيّر العلماء فيمن يدخل تحت
المشيئة، وكان السؤال دائماً هل كل أهل الضلال
يدخلون تحت المشيئة، سواء أكانوا مرجون لأمر
الله أم مستضعفين أم أهل الأعراف؟ هل يدخل تحت
المشيئة مَن استخفّ بأمر الله تعالى؟
لقد أوضح العلماء، وخاصة علماء التفسير،
الزمخشري في الكشاف
[430] ، والطباطبائي في
الميزان
[431] ، وابن شهر آشوب في متشابه
القرآن
[432] ، والرازي في أصول الدين
[433] ،
وشبّر في تفسيره، فضلاً عن الطبرسي، والطوسي،
وابن كثير، والقرطبي، والثعالبي، فهؤلاء
جميعاً رأوا غفران الذنوب تفضلاً، إلاّ
الزمخشري، والشريف الرضي في حقائق التأويل،
ومغنية في تفسير الكاشف، فهم تدبّروا في الآية
ولم يروا ما رآه كثير في التفضّل كيفما اتفق،
لأن غفران الذنوب والنجاة من العذاب لا يكون
جزافاً، بل لحكمة، لكون مقتضى العدالة أن تلحظ
الذنوب وفق خواتيمها، بمعنى آخر نسأل: هل
الإنسان إذا لم يتب من قريب وكان عاملاً
للسيئات، يقبل الله تعالى توبته؟ وقد بيّنت
سورة النساء هذا المعنى، حيث قال تعالى: ﴿
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا
حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
[434] .
وهنا السؤال: أين يمكن التفضّل هنا؟ فهل يكون
لمن أصرّ على ذنبه ومات مستخفّاً بأمر الله
ونهيه؟
لقد أجاب الشريف الرضي، ولعل ما أفاده
العلاّمة مغنية يؤدي المعنى فيما أجراه من
مقارنة بين ثلاث آيات توضح نتيجة المراد من
قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ...
﴾
[435] ، حيث
رأى الرضي أن لفظ الآية خاص ويمكن أن يفهم
المراد من قوله تعالى: ﴿
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ ﴾
[436] ، ولفظ هذه عام
ومعناه واضح، وهو أن الله يغفر كل ذنب، حتى
الشرك، ولكن آية: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ...
﴾، لفظها
خاص، ومعناها واضح، وهو أن الله لا يغفر
الشرك، فوجب استثناء المشرك من آية الزمر
جمعاً بين الآيتين، ثم جاءت آية ثالثة تقول:
﴿
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى
﴾
[437] ، فهذه الآية أخرجت
التائب من آية: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ...
﴾، تماماً
كما أخرجت هي المشرك من آية الزمر
[438] .
لذا، فإنّ ما جاء به العلاّمة مغنية من جمع
بين الآيات لا يوافق ما ذهب إليه البغدادي في
أصول الدين لجهة قوله: «إذا تعارضت الآيات في
الوعد والوعيد خصصنا آيات الوعيد بآيات الوعد
أو جمعنا بينهما»، وكما لاحظنا أن آية الزمر،
هي آية الوعد بغفران الذنوب، ثم جاءت الآيات
الأخرى، لتدلّل على أن الجمع يؤكّد على
التخصيص، فخرج المشرك وقاتل العمد وكل ما دلّ
الدليل على تخصيصه من الكفر. ورأينا الخاص، هو
أنه لكي تظهر الدلالة الحقيقية من جمع الآيات
لا بدّ من التدبّر بقوله تعالى: ﴿
ثُمَّ اهْتَدَى
﴾ ، التي
تفسّر معنى أن يكون الله تعالى غفاراً لمن تاب
وآمن وعمل صالحاً، فإذا كان الفقهاء قد
اختلفوا في تفسير قوله تعالى: ﴿
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾
، بأن رأى بعضهم أن الإنسان قد يغفر الله
تعالى له قبل التوبة، لأن غفران الذنب مع
التوبة ثابت بنصّ الكتاب والسنّة، وبتخصيص
قوله تعالى: «يغفر» بالمؤمن غير التائب، ورأى
بعض آخر أن الأمر متروك لمشيئة الله تعالى إن
شاء عفا وغفر، وإن شاء عذّب وقهر، وهنا يبدو
السؤال ملحاً: كيف يُقال إن الإنسان المؤمن
مات من غير توبة؟ فهل هو مؤمن ولم يتب من قريب
مثلاً
[439] ؟ فهل للفقهاء أن يفسروا لنا معنى
قوله تعالى: ﴿
ثُمَّ اهْتَدَى
﴾ ، لكون هذا التراخي بـ ثمّ،
له دلالته، باعتبار أن المؤمن لا يكتمل إيمانه
إلاّ بالهدى وليس مجرّد الهدى، وإنّما بالتزام
الميثاق والوفاء به من توحيد ونبوّة وإمامة،
كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
«ولا يغرنكم صلاتكم وصيامكم وعبادتكم
السالفة، إنها لا تنفعكم إن خالفتم العهد
والميثاق...»
[440] . فلكي يصحّ الجمع بين
الآيات، فإنه لا يسع المفسر إلا الإجابة بل
وتفسير قوله تعالى: ﴿
ثُمَّ اهْتَدَى
﴾ ، إلى ماذا؟ فما
بالكم تتحدثون عن توبة وتفضّل ومشيئة، وأنتم
عازفون تماماً عن مقتضيات هذه الهداية؟؟
وإذا كان ثمة رأي لنا، فإننا نقول: نعم إن
الله يغفر الذنوب جميعاً، وهو يصفح عن
المؤمنين دون أن يتوبوا، لأن العقاب حقه على
العباد وله أن يسقط هذا العقاب تفضلاً منه على
عباده، حتى فيما قد يظنه الإنسان ثواباً له هو
تفضّل لما بيّنه فقهاء الإمامية من أن الله
تعالى لو لم يُثِب الإنسان على ما أتى به من
عمل لما كان له ظالماً، فلذلك كان ثوابه لهم
تفضلاً، وأما كونه ثواباً فلأنّ أعمالهم أوجبت
في جود الله تعالى وكرمه تنعيمهم وأعقبتهم
الثواب وأثمرته لهم فصار ثواباً من هذه الجهة،
وإن كان تفضّلاً من جهة ما ذكرنا
[441] .
فإذا كان الأمر كذلك في جود الله وكرمه، فما
يكون الجواب على سؤالنا في معنى الهداية؟ وهل
يمكن لنا أن ندّعي أن المغفرة ليست فقط مشروطة
بالتوبة وحسب، لقوله تعالى: ﴿
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ...
﴾
[442] ، بل هي مشروطة أيضاً بالهداية بـ: ﴿
ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ ، لأن جمع الآيات يؤول بنا إلى هذه
النتيجة، ولهذا نجد أن المسلمين، وكل الفرق
الإسلامية قديماً وحديثاً اختلفوا في المسلم
المذنب إذا مات بلا توبة، ولا ندري لماذا
اختلفوا، وآية النساء: ﴿
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ...
﴾
[443] موضحة
تماماً للمراد
[444] ، إذ هي تجمع الذين
يعملون السيئات والذين ماتوا وهم كفار في سياق
واحد وتأتي بإسم الإشارة «أولئك» لتفيد العذاب
الأليم لهم جميعاً..
وليس بعيداً عن هذا إطلاقاً ما لجأ إليه
الزمخشري من تأويل للآية بما يخدم التوجه
الكلامي لديه، ونعني المدرسة الاعتزالية، فهو
يرى في تأويل الآية أن الوجه فيها أن يكون
الفعل المنفي والمثبت متوجهين إلى قوله تعالى:
﴿
لِمَن يَشَاءُ
﴾ كأنه قيل إن الله لا يغفر لمن شاء
الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن
المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب،
ونظيره قولك: إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل
القنطار لمن يشاء، نريد: لا يبذل الدينار لمن
لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله
[445]
. وهذا ما ردّ عليه العلاّمة السبحاني بعنف
متهماً الزمخشري بتحوير الكلام لتسويغ المدرسة
الكلامية التي ينتمي إليها
[446] ، ونحن
بدورنا نرى أن السبحاني يتابع للمشهور في
تفسير الآية ولا يجيب على أي سؤال من الأسئة
المطروحة، ولعل ذلك يعود سببه إلى حاكمية
المنحى الكلامي للشيخ الطوسي (قده) الذي رأى
أن عذاب صاحب الكبيرة ينقطع لاستحقاقه الثواب
بإيمانه ولقبحه عند العقلاء
[447] ، وهذا أدّى
إلى استقرار التفسير للآية: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
... ﴾
[448] ، عند القول بأن الشرك مغفور
بالتوبة، وأن الآية واردة في حق غير التائب،
فتكون نتيجة ذلك عدم جواز الحكم القطعي بخلود
مرتكب الكبائر في النار
[449] .
وقد يكون الحكم الفيصل، والكلام الأخير للشريف
الرضي (قده) الذي توقف ملياً عند المشيئة
وأصحاب الكبائر، وقد رأى أنه لا يستفاد من
المشيئة في الآية أن تكون المغفرة حاصلة من
دون توبة، يقول: «روي أن الحسن بن أبي الحسن
سأله رجل فقال: ما تقول فيمن قتل مؤمناً
متعمداً؟ قال: أقول فيه ما قال الله تعالى ثم
لا أقول بخلافة حتى ألقى الله: ﴿
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ﴾
[450] .
قال السائل: فأين قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾
[451] .
فقال الحسن:
أوما بيّن تعالى مشيئته حيث يقول: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً
﴾
[452] ». يقول الرضي: «وأقول:
إنّه من الحكمة العجيبة واللطائف الشريفة
إجراء هذه الآية مع الآية التي قبلها في مضمار
واحد، وذلك أن الآيتين إحداهما مبهمة وهي
الأولى والأخرى مبيّنة وهي الثانية، جمعا في
هذه السورة؛ وإنما فعل تعالى ذلك ـ والله أعلم
ـ لئلا تبعد المسافة بين القول المبهم والقول
الموضح، والكلام المجمل والكلام المبين، ولا
يخرج التالي من هذه السورة إلاّ وقد نقعت غلته
وأزاحت علته،فكانت هي المبهمة وهي المبينة وهي
المجملة وهي المفصلة، ولم يجعل تعالى هذه
الآية التي هي بيان الآية الأخرى في غير هذه
السورة، فيتطوّح (أي يتعدَّ ويتيه) طلب
الطالب، ويتوانى كدح المرتاد الباحث..
[453]
».
وإذا كان الشيخ السبحاني قد رأى بأن الآية
واردة في حق غير التائب، لأن الشرك مغفور
بالتوبة، وناقش الزمخشري في أنه يخالف في
تفسيره ظاهر الآية، فهذا الشريف رضوان الله
عليه، يرى بأن هذه الآية مجملة غير مبيّنة،
ومبهمة غير ملخصة، لأنه تعالى علقه بالمشيئة
على وجه يقتضي ظاهره أنه لا يغفر كل ما دون
ذلك، وإنّما يغفر بعضه دون بعض، لأن الظاهر
يقتضي ما أومأنا إليه، وهو في الأساس، كما يرى
الطوسي (قده) ، مبنيّ على أدلة العقول، فصار
الكلام من هذا الوجه في حكم المجمل، لأنه لا
يدل على أمر بعينه، ولأنه لا معصية دون الكفر
إلاّ ويجوز أن تكون مما يشاء غفرانه، ويجوز أن
تكون مما لا يشاء غفرانه، وكما يحتمل أن يكون
المراد بذلك الكبائر يحتمل أن يراد به
الصغائر، أو بعض كل واحد منهما... إن منزلة
هذا الكلام منزلة ما تقرّر في العقول قبل
الشرع: من أن هذه المعاصي يجوز من الله تعالى
غفران بعضها دون بعض، وعلى هذا الوجه أجاب
الحسن من سأله عن هذه الآية.. فبنى تلك الآية
لإجمالها على هذه الآية لبيانها، وجعل الآيتين
كأنّ إحداهما موصولة بالأخرى، فكأنه قال
تعالى: ويغفر ما دون ذلك من السيئات لمن اجتنب
الكبائر...!
إنه كلام في غاية الأهمية، ويردّ على ما تسالم
عليه العلماء في تفسير الآية، بل إنه يُهفِّت
الآراء، ويؤكد على أن اجتناب الكبائر شرط
للمغفرة، ويجب أن تؤوّل الآيات بعد ضمّها إلى
بعضها وفقاً لهذه الرؤية، لأن الله تعالى حكيم
وعدْل عَدَل، ومقتضى الحكمة الإلهية أن يُثاب
المحسن ويعاقب العاصي، فلا يقال: إنّ الإنسان
بإيمانه وفسقه يجوز العفو عنه تفضلاً
[454]
... وليس من العقلانية في شيء أن يتساوى
الكافر والمشرك فيما يكون لهما من العقاب مع
المؤمن العاصي، فهذا أمر لا جدال فيه، ولكن
القول الحاسم والفيصل هو ما يريده الله تعالى
فيما أمر به ونهى عنه وأخبر عباده فيما يكون
لهم من ثواب وعقاب، فإذا لم يجتنبوا الكبائر
فلا تكفّر سيئاتهم، أما أن العذاب ينقطع عنهم،
فذلك أمره إلى الله تعالى، ولكن ليس معنى هذا
أن يكونوا في الجنة مع المؤمنين والمطيعين،
لأنه مثلما أنه لا يتساوى المشرك والعاصي،
فكذلك لا يمكن أن يتساوى مَن أطاع الله تعالى
ومَن عصاه بحيث تكون لهما الجنة والثواب.
ولعل
ما أُعدّ من منازل في سورة الواقعة، من أهل
الميمنة، وأهل المشأمة، والسابقون السابقون،
كاشف عن حقيقة المآلات، ونهاية التحولات، بحيث
يلحق كل إنسان بعمله وصورته ومنزله... كما أنه
لا يمكن أن يتساوى مَن اهتدى، مع من لم يهتدِ
وكان منه أن تاب وآمن وعمل الصالحات، فلكل
منهما منزله وصورته المجسدة لأعماله. ولا شكّ
في أن ما تقدّم لا يتنافى إطلاقاً مع إجماع
الإمامية بأن مَن استحق بمعصيته عقاباً يجوز
أن يُعفى عنه، ولكن ذلك إنما يتمّ وفقاً
للحكمة والعدالة والمصلحة وليس جزافاً، كما
قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «حكم
الله وعدل، حكم الله وعدل فريق في الجنة وفريق
في السعير»، بعدما تقدم، قد لا يكون من الحكمة
تسفيه رأي المعتزلة فيما ذهبوا إليه من قطع
بعقاب صاحب الكبيرة فيما لو استخف أو عاند ولم
يتب من قريب، فتكون النتيجة جواز الحكم القطعي
بخلود مرتكب الكبيرة في النار، وخاصة إذا لم
يهتدِ، ولعل الهداية بقوله تعالى: ﴿
ثُمَّ اهْتَدَى
﴾ ،
ناظرة إلى حقيقة التلازم بين النبوة والإمامة،
فمن آمن بهما واقتدى بهما كانت له الهداية،
أما مَن لم يهتدِ بهما وكذّب وتولّى، فإنه لن
ينجو من كبيرته، وسيكون مآله إلى ما توعّده
الله تعالى به من العذاب الأليم، ولهذا قال
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) :
«المتقدم لهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق،
واللازم لهم لاحق».
خلاصة القول: إنّ الشرك يُغفر بالتوبة، وكذلك
الكبائر، وليس من الحكمة، ولا من التدبّر في
القرآن، القول بأن آية: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
﴾
واردة لإفادة العفو والغفران كيفما اتفق،
طالما عرفنا أن هذه الآية مبيّنة بآية: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
﴾ . والحق يُقال: إن مَن يذهب إلى
القول بجواز غفران الكبيرة من دون توبة يجعل
من هذه الآية غير ذات فائدة، إن لم نقل ذات
جدوى، تعالى الله عن ذلك، فالآيات تفسّر بعضها
بعضاً، ويصدّق بعضها بعضاً، وهنا تجدر الإشارة
إلى أن إجماع الفقهاء على أن المعاصي كلها
كبيرة، لكن بعضها أكبر من بعض، وليس في الذنوب
صغيرة هادفة إلى تبيان حقيقة أنه لا بدّ من
التوبة والاستغفار. وكما قال الطوسي،
والطبرسي، وابن إدريس، وغيرهم من الفقهاء
نقلاً عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)
والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، أن كل ما نهى
الله عنه فهو كبيرة، وعن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): «لا تنظروا إلى صغر الذنب،
ولكن انظروا إلى مَن اجترأتم»
[455] . وعن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ولا
تنظر إلى صغر الخطيئة، وانظر إلى مَن عصيت»
[456] .
وإذا كان الفقهاء قد اختلفوا في عدد الكبائر،
فمنهم من قال إنها سبع، ومنهم من قال إنها
سبعون، فالحاسم لهذا العدد هو القرآن وما
توعّد عليه ونهى عنه، وليس من ثمار الجرأة على
الله تعالى في أي ذنب يصرّ عليه الإنسان، سواء
أكان كبيراً، وكله كبير، أم صغيراً، أن يُحكم
له بالمفازة والغفران، فهذا حكم العقل أيضاً.
وبما أن النقاش والكلام هو في خلود مرتكب
الكبيرة في النار وما يحكم به العقل من
العذاب، فإننا نقول بأن الذي دلّ عليه الكتاب
والسنّة هو العذاب الأليم، وقد روي عن الإمام
الصادق (عليه السلام) : «الذنوب كلها شديدة،
وأشدّها ما نبت عليه اللحم والدم، لأنه إما
مرحوم وإمّا معذّب والجنّة لا يدخلها إلا
طيّب»
[457] .
وعليه فإنه لا معنى للقول بعقابه ثم دخوله
الجنة، كما قال البغدادي بأن العاصي يعذّب
مدّة ثم يغفر له ويدخل الجنّة لأجل الثواب بعد
أن استوفى حظّه من العذاب، إذ لا يجوز أن
يُثاب في الجنة ثم يردّ إلى النار
[458] ،
فهذا إن جاز في رحمة الله وعدالته، فإنه يجوز
لمن علم الله تعالى أنه لم يكن مستخفاً، ولا
معانداً، ولا مستضعفاً موالياً للمستكبرين،
أما من كان كذلك، فإن عذاب جهنّم لن يجعله
طيّباً بحيث يدخل الجنة، وهنا تكمن حقيقة
التوبة والاستغفار قبل الموت، ومن قريب..؟
ثم إنّ أصول مذهبنا، كما يرى الإمامية، ترفض
إمكان وجود سيئة مغفورة من غير توبة ولا
استغفار، إنّ كل محاولة في تفسير قوله تعالى:
﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
﴾ بذلك، هي محاولة فاشلة
ومتنافية مع حكمته في التكليف، فلو صحّ أن
هناك سيئة مغفورة من غير توبة، لصحّ القول
أيضاً الدخول في المشيئة ورفع العقاب، رغم أن
ظاهر الآية، كما أفاد الشريف الرضي
(قده) ، لا
يُفيد المغفرة ضمناً في حق غير التائب.
وإذا كان الطوسي (قده) قد رأى أن ما ليس بكفر
ليس على دوامه دليل، فقد سبق القول منا أنه
ليس كالمشرك فيما يكون له من عذاب ودرجات
ومنازل، لكنه حتماً لن يكون من أصحاب اليمين،
فإذا لم تصحّ التسوية مع المشرك والكافر، فهي
لا تصحّ أيضاً مع المؤمن وأهل اليمين لكونه
مات من دون توبة ولا استغفار، لقوله تعالى: ﴿
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ
رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ
﴾
[459] . وقال الله
تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ
يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ
﴾
[460] ، فإذا جمعنا بين الآيات
يظهر لنا المراد من أن المطلوب هي التوبة
والاستغفار وعدم الإصرار، وإلا استحق العذاب
والخلود، بحيث ينطبق عليه إطلاق الآيات
الواردة في الخلود، لأن الله تعالى بيّن
مشيئته في ذلك، بأنه يغفر الذنوب إذا اجتنب
الكبائر
[461] .
سبق الكلام في أن الوعد بالخلود في النار
يتوجه على الكفار خاصة، دون مرتكبي الذنوب من
أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من
أهل الصلاة، كما اتفقوا أيضاً، كما يقول
المرتضى (رض) ، على أن من عذّب بذنبه من هؤلاء
لا يخلد في العذاب، وأجمعت المعتزلة على خلاف
ذلك
[462] ، وهو ما يعرف عندهم بالوعيد،
واتفقت الإمامية على أن مرتكز الكبائر من أهل
المعرفة والإقرار لا يخرج بذلك عن الإسلام،
كما بيّن السيد الخوئي (قده)
[463] ، وأجمعت
المعتزلة على خلاف ذلك: وقالت بالمنزلة بين
المنزلتين، أي ليس بمؤمن ولا بكافر... يقول
المرتضى في الانتصار: «والإمامية يختلفون مع
المعتزلة في مسائل أخر ويتفقون معهم في مسائل
أُخر غيرها، من قولهم بخلق القرآن، وإنه كلام
الله تعالى محدث وليس بقديم
[464]
، وقولهم
إنّ الله تعالى لا يُرى لا في الدنيا ولا في
الآخرة»، ومن المسائل الخلافية بين الإمامية
والمعتزلة ما يتعلق بنصب الإمام
[465] ، وهذا
ما عرضنا له في بحوثنا السابقة.
وهنا يمكن لنا أن نعرض لأهم التمايزات، فنقول:
إنّ المعتزلة جعلوا الوعد والوعيد من أصول
الدين، وقالوا بأن الإنسان يستحق على طاعته
الثواب وعلى معصيته العقاب، ولا يجوز العفو عن
الذنوب والمعاصي، إلاّ الصغائر، إن لم تقترن
بتوبة خالصة ولا تبعد أهل الكبائر عن النار
شفاعة، كما لا ينفعهم بعد موتهم استغفار ذويهم
وأهلهم، وهم يستدلّون على ذلك بقوله تعالى: ﴿
وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى
﴾
[466] . فلا تنفع العاصي إلاّ
التوبة، ومنعاً للإطناب في مجال عرض الآراء
والمقولات، فقد ردّ العلامة الحلّي قائلاً:
إنّ أهل العدل اختلفوا فيما بينهم في الوعيد،
فذهب المعتزلة والزيدية إلى أن العلم به عقلي،
وقالت المرجئة ومن وافقها من علماء الإمامية:
إن العلم به سمعي
[467] .
لقد أفرط المعتزلة فيما أعطوه من دور للعقل،
ولو صحّ قولهم أن العلم بالوعيد عقلي لما كان
هناك حاجة لكثير مما جاء به القرآن من تنبيه
وتذكير، ووعد ووعيد، وهو ما يبلغ ربع القرآن
تقريباً، هذا فضلاً عمّا يمكن أن يزعمه قائل
بأن العلم بالوعيد سمعي لا دور للعقل فيه
ولولا السمع لما اهتدينا إلى شيء من الوعيد،
خلافاً لمن يرى أن السمعيات ألطاف في
العقليات!؟ وهناك مزاعم كثيرة نجد لها مكان في
المدرسة الاعتزالية، وقد يكون من المناسب
القول هنا: إنّ أقصى ما يعلمه العقل هو وجوب
إثابة المحسن وعقاب المسيء، لأنّ الإحسان حسن
ولا يمكن أن يستوي المؤمن والكافر، والعالم
والجاهل، والمطيع والعاصي، وهذا ما جاء به
الشرع، ونحن نعلم بالعقل أن هناك أشخاصاً،
وشعوباً تمارس الظلم ولا يكون لها الجزاء عليه
في الدنيا، فيحكم العقل بوجوب أن يحاسب هؤلاء
في غير هذا العالم، وهو عالم الآخرة، حتى إن
الإنسان لم يعرف التوبة ترفع العقاب إلاّ
بالسمع
[468] ، فكيف يُقال: إن العلم بالوعيد
عقلي؟ فهذا مما لا سبيل إلى القول به، لأنّ
الإنسان لا يعلم ما أُعدّ له من عذاب وثواب
ومنازل في الآخرة، ولهذا نرى أن المعتزلة
أعطوا للعقل دوراً يتجاوزه، فاستحال على
الإمامية القول به...
ومما ذهب إليه المعتزلة أيضاً، قولهم في عقاب
الفاسق الدائم، وقال الإمامية بانقطاعه، ونحن
في المبحث السابق كان لنا موقف مما ذهب إليه
الإمامية، حيث تساءلنا عن معنى انقطاعه وضمن
أية شروط، لأنه لا يكون إلاّ عن حكمة وعدالة،
إذ إنّ الله تعالى لا يعفو جزافاً وإن كان ذلك
حقاً له يمكن إسقاطه، وقد ساق الإمامية بعض
الأدلة العقلية، والنقلية التي تثبت انقطاع
العذاب، وهذه الأدلة هي:
أولاً: إن القول بخلود الفاسق ظلم، وهو مستحيل
عليه، لكونه يستحق الثواب على إيمانه، ولا
يمكن إحباط إيمانه بمعصية أتى بها، وقالوا إنه
لا يجوز أن يكون هذا الاستحقاق قبل العقاب
وإنما بعده وهذا ما ذهب إليه البغدادي في أصول
الدين عن أصحابه من أهل السنّة والجماعة
[469]
.
ثانياً: إن القول بخلود الفاسق محال، لأنه
يؤدي إلى مساواته بالكافر مع الفارق بينهما،
وقد عالجنا هذا الموقف في البحث السابق
مقدّمين رؤية حول هذا الموضوع، حيث قلنا: إنه
إذا استحال مساواته مع الكافر، فإنه يستحيل
أيضاً مساواته مع المؤمن، فإذا كان له عقاب
أخف من الكافر، فذلك لا يعني أنه لا يخلد في
العذاب في منزله في ديار أهل الشمال، لكونه لم
يستغفر، ومات دون توبة من قريب، فهو إن استوى
مع المؤمن في عقيدتة، فإنه يشبه الكافر في
عمله، يقول الإسفراييني في ما نسبه إلى
المعتزلة مكفراً لهم: «أي أن مرتكب الكبيرة
بكونه يشبه المؤمن في عقده ولا يشبهه في عمله،
ويشبه الكافر في عمله ولا يشبهه في عقده، أصبح
وسطاً بين الاثنين، (أي بين نقيضين)، وتبعاً
لهذا يكون عذابه أقل من عذاب الكافر...»
[470]
.
ثالثاً: يرى الإمامية أنه تقبح من الحكيم أن
يطيعه الإنسان زمناً طويلاً، ثم يُعصيه مرة
فيحبط له تلك الطاعات، وقد استوفينا الكلام في
هذه المسألة في مبحث خواتيم الأعمال، ورأينا
أن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة،
ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، أي يعمل عمل
أهل النار في آخر عمره، وإن الرجل ليعمل الزمن
الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل
الجنة. فالأعمال بخواتيمها.
أما ما ساقه الإمامية من أدلّة نقلية في الرد
على المعتزلة، فقوله تعالى: ﴿
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرّاً يَرَهُ
﴾
[471] ، وقوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾
[472] . وهذه إحدى الأمور
المميزة للإمامية، ولكننا استعرضنا في بحثنا
السابق جملة من المواقف نرى أنها قد أجابت على
ما تعنيه هذه الآية فيما لو جمعت مع آية الزمر
[473] ، وآية طه
[474] ، باعتبار أن القرآن
يفسّر بعضه بعضاً. ويكفي في هذا السياق ما
عرضنا له من كلام الشريف الرضي الذي نفى أن
تكون المشيئة في الآية مانعة من العذاب، لكون
آية اجتناب الكبائر، وكل الآيات التي تلحظ
حقيقة الاستغفار تشدّد على أنه ما لم يُصرّ
الإنسان على ذنبه، سواء أكان صغيراً أم
كبيراً، وكلّه كبير، فلن يغفر له، وهذا ما
لحظته آية التوبة في النساء: ﴿
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ...
﴾
[475] .
لقد ركّز الإمامية على أن العقاب يسقط بأمور
ثلاثة: العفو والتوبة، والشفاعة، وهذه الأمور
كلها ملحوظة في سياق الآيات القرآنية التي
تتحدث عن غفران الذنوب والتجاوز عن السيئات،
إلاّ أن الذي يمكن النقاش فيه هو أن الإمامية
دائماً يتوقفون عند دليل العقل بأن العفو
إحسان، والإحسان حسن، والعقاب هو حق لله تعالى
فيجوز له إسقاطه، وهذا ما لا نقاش فيه لكون
رحمته سبقت عدله، وهو أرحم الراحمين، وهذا
أوقع الرازي وكثير من الفلاسفة في الاشتباه في
أنهم لو تولّوا شؤون الناس لرفعوا العذاب عن
العالم، فكيف بأرحم الراحمين؟ فقاسوا رحمتهم
على رحمة الله تعالى، ساهين عن أن الله تعالى
يعمل بمقاييسه، والإنسان يعمل بتكاليفه. فإذا
صدرت عنه المعصية أو الذنب وتاب، كان كمن لا
ذنب له، لكن ماذا يكون الحال لو أصرّ على
ذنبه، وتجرّأ على الله تعالى في معصيته، فهل
يكون له العفو جزافاً؟ وما هو مقتضى الحكمة
والعدالة الإلهية في هذا الشأن؟ يقول
الطباطبائي (قده): «على أنَّ العصاة من
المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا
يدخلهم النار من رأس، لا يعفى عنهم جزافاً،
وإنّما يُعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة
فيصيرون بذلك سعداء...»
[476] .
وقد أعلم الله تعالى أنه يغفر الذنوب جميعاً،
لكن هذه المغفرة تحتاج إلى سبب مخصص ولا تكون
جزافاً، والذي عده، كما يقول الطباطبائي (قده)
، سبباً للمغفرة أمران: الشفاعة والتوبة، لكن
ليس المراد في قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾
المغفرة الحاصلة بالشفاعة، لأن الشفاعة لا
تنال الشرك بنصّ القرآن، وقد مرَّ أيضاً أن
قوله تعالى في غفران الذنوب، ناظر إلى
الشفاعة، باعتبار أن آية غفران الذنوب موردها
الشرك وسائر الذنوب، فلا يبقى إلاّ أن يكون
المراد بالمغفرة الحاصلة بالتوبة، كلامه صريح
في مغفرة الذنوب جميعاً حتى الشرك بالتوبة
[477] .
إذاً، الإمامية، يرون أن العفو من الله تعالى
هو تأكيد لقدرته المطلقة، وإسقاط العقاب هو من
مستلزمات الاعتقاد الحق، وهذا ما كان مثار
نزاع بين الفرق الكلامية، وقد أورده السبزواري
في شرح الأسماء، والعلامة الحلّي في كشف
الفوائد في الردّ على المعتزلة الذين لم
يستوعبوا تماماً معنى الحكمة الإلهية، فأخذوا
بنصوص العذاب والوعيد على إطلاقها ولم ينظروا
إلى مخصصاتها من عفو وشفاعة ما أدّى بهم إلى
الاجتراء على الله تعالى، وهنا يبدو لنا فارق
أساسي بين الإمامية والمعتزلة، فالأولى لم ترَ
الفعل الجزافي في عدل الله تعالى لا في
التكوين ولا في التشريع، ولا في الجزاء، في
حين أن المعتزلة ذهبوا مذاهب شتّى، وتأوّلوا
على الله تعالى الذي لم يقفل على عبده أبواب
نجاته وفوزه في الجنان، وقالوا إنه لا يمكن
العفو عن العصاة عقلاً
[478] . مستدلين على
ذلك بوجهين: الأول: إنّ المكلّف متى علم أنه
يُفعل به ما يستحقه من العقوبة على كل وجه،
كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر،
وهنا وقعوا في المحذور لكونهم لم يفهموا معنى
الترغيب والترهيب فيما جاء به الأنبياء (عليهم
السلام)، وأن الله تعالى جعل «قلب المؤمن
بين
طمع ورجاء»، وهذا الحكم العقلي عند المعتزلة
لم يركن إلى ما جاء به السمع من توبة، التي
لولا السمع ما عرفنا بها، وإن كنا نعلم بالعقل
الثواب على الطاعة فيها، لكون العقل يحكم
بوجوب الثواب على الطاعة، وبما أن التوبة
طاعة، فإن العقل يحكم بالثواب عليها.
هذا وقد أخطأ المعتزلة أيضاً فيما زعموه من أن
الله تعالى أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب، فلو
لم يُعاقب، للزم الخلف في وعيده والكذب في
خبره، وهما محالان، وهذا المذهب يتوقف على كون
الوعيد خبراً، فإن لم يكن كذلك، وكان إنشاءً
فلا يكون عرضة للخلف والكذب، ولكن ماذا لو كان
الوعيد من قسم الأخبار التي لا يمكن نسخها،
وإن جاز تخصيصها؟ فهل نقول بإقفال أبواب
الرحمة والعفو والمغفرة، وتحقق العقاب؟ أو أن
التوبة فيما لو جاءت وفق شروطها ترفع العقاب،
وكذلك الشفاعة؟ وقد بيّن الشيخ المفيد في
الفصول أن الله تعالى توعّد بشرط يخرجه من
الخلف في وعيده، لأنه حكيم لا يعبث
[479] .
إننا نزعم أن العلامة السبحاني قد أخطأ فيما
اعتبره من إسقاط لحقّ الله تعالى في الوعيد،
إذ هو يرى أن الوعيد حق لمن يَعِد فقط وله
إسقاطه، والصدق والكذب من أحكام الأخبار دون
الإنشاء، والوعيد إنشاء ليس بأخبار فلا يعرضه
للكذب
[480] ، وهنا
يقف على طرفي نقيض مع شبّر في حق اليقين
[481] الذي رأى أن الوعيد بالخلود
والعذاب هو من قسم الأخبار، فلا خلف فيه،
بدليل أن الله تعالى توعّد أعداء الأنبياء
والأولياء (عليهم السلام) بالعذاب الأليم، وقد
دلّت على ذلك الآيات والأخبار المتواترة، فهل
للسيد السبحاني أن يوضّح هذا الأمر أو نلوذ
بالسيد الخميني (رض) لتبيان الخيط الأبيض من
الخيط الأسود في هذا الموضوع الشائك؟ وقد سبق
لنا أن عرضنا لكلامه في مبحث سابق، يقول السيد
(رض) في المكاسب المحرمة: «إنّ حقيقة الوعد
والوعيد ليس إخباراً عن واقع يطابقه أو لا
يطابقه، بل تعهّد وتهديد، وإن كانا على نحو
الإخبار وإلقاء الجملة الخبرية نظير الجعل
بنحو الإخبار في باب الجعالة، فإذا قال: مَن
ردّ ضالتي أعطيته كذا، فهذا ليس إخباراً بل
إنشاء بصورة الإخبار، أو إخبار بداعي الإنشاء،
فقوله: إني أعطيك غداً كذا، ليس إخباراً بل
إنشاء قرار وعهد، وله إنجاز وخلف، لا صدق ولا
كذب...، فيُستفاد منها أن كل ما كان له نحو
كشف عن الواقع، ولو كان من قبيل الإنشاءات
داخل في الكذب حكماً...»
[482] .
وهذا الكلام، كما نرى، وبحسب فهمنا القاصر، هو
ما تذهب إليه المعتزلة من أن الوعيد للعصاة
وغيرهم كاشف عن واقع أخبر عنه السمع بلغة
الماضي لتحققه، كما في قوله تعالى: ﴿
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً
﴾
[483] ، فهو إن كان إنشاءً أم إخباراً كاشفٌ
عن حقيقة وواقع هؤلاء، كما قال الله تعالى: ﴿
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي
دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ
غَيْرُ مَكْذُوبٍ
﴾
[484] ، فهذا إنما كان
في الدنيا فكيف بوعد في الآخرة؟ فإذا لم يتحقق
هذا كان خلفاً في الوعيد، وهذا ما يراه
المعتزلة كذباً، ويراه كثير من الإمامية
خلفاً، وقد أجمع المسلمون على أن الله تعالى
لا يخلف الوعد ويُخلف الوعيد، لكونه حقاً له
يحسن من الله تعالى إسقاطه في ظروف خاصة وليس
جزافاً، كما تقدم الكلام، ورغم هذا كله، فإن
الإشكالية تبقى قائمة، وهي أنه لا يمكن قياس
رحمة الله وعدله وحكمته وعفوه بما عند الإنسان
من ذلك، فإذا كان الإنسان يخلف في وعده
ووعيده، فليس معنى ذلك أن الله يُقاس بالإنسان
في ذلك، إلاّ أن يقال أن ما جاء من الوعيد ما
هو إلاّ تخييل وترهيب وترغيب وليس بحقيقة
قائمة ومحققة، وهذا ما بينّا عدم صحته لكون
الوعيد تحقق في حياة الإنسان في كثير من
الأحداث والتحولات التاريخية فيما جرى على
الأمم السابقة فيما حقّ لها في العذاب، ومثلما
أن الوعيد حقيقة قائمة ومحقّقة بحقّ الكفار،
فلا مانع أن يكون لها ذات التحقق بحق أصحاب
الكبائر، حيث قال الله تعالى: ﴿
فَحَقَّ وَعِيدِ
﴾ ، ﴿
ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
﴾
، ﴿ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
﴾ . وبما أن السمع قد لحظ أبواب
الفوز والخسران من خلال التوبة والاستغفار،
فلا يسع الإنسان إلاّ أن يتأمل جيداً فيما
زعمته المعتزلة من الخلود في العذاب فيما لو
لم يأتِ الإنسان من الأبواب التي جعلها الله
تعالى سبباً للنجاة في الدنيا والآخرة.
إنّ مما يؤكّد لنا حقيقة الموقف الاعتزالي
والإمامي معاً، هو ما جاء من شروط للتوبة
والتي يكاد المرء يذهل منها على نحو ما بيّن
الإمام علي (عليه السلام) في حقيقة الاستغفار
والندم والعزم، وهي شروط تصل إلى حدّ إذابة
اللحم الذي ينبت بالسحت... فإذا لم تتحقق على
وجهها، فما يكون معنى العفو والمغفرة بمعزل عن
الشروط والأسباب، وقد قال تعالى: ﴿
تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً
﴾
[485] ، ﴿
وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ
﴾
[486] ، وغير ذلك من الآيات
التي تحثّ على التوبة والاستغفار، فهل هذا كله
لأجل أن يكون العفو والغفران جزافاً؟ أو أن
المطلوب من الإنسان أن يأخذ بأسباب النجاة؟
ولعلّ المعتزلة فيما توقفوا عنده من أحكام
عقلية لم يكن ذلك منهم بتوجه أو بوعي لتقييد
الإرادة الإلهية، وإن كان الكثير مما ذهبوا
إليه قد آل إلى هذه النتيجة، فهم حتّموا على
الله تعالى ما يجوز وما لا يجوز، وهذا أدّى
بهم إلى أن يكونوا متميزين في مقولاتهم وخاصة
في الوعد والوعيد وأصحاب الكبائر، ولو أنهم
تدبّروا جيّداً في الكتاب والسنّة، وأخذوا
بتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) لما وقعوا
في مصائد الضيق والتأويل، وقالوا بغير علم.
فإذا كان الله تعالى يفتح أبواب الرحمة
والمغفرة، ويقول: ﴿
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾
[487] ، فما معنى أن يتحجّر العقل عند
العقاب، ويقفل أبواب العفو والرحمة والتوبة
فيما لو أتى بها الإنسان من قريب، واهتدى إلى
ولاية الأولياء والصالحين والصادقين؟
إن الوعيد حق، كما قال الله تعالى: ﴿
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن
يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ... ﴾، وهو لا بدّ أنه متحقق وفق موازين
أعدها الله تعالى لعباده، سواء الذين شقوا أم
الذين سُعِدُوا، فقال الله تعالى في خلود أهل
النار ما دامت السموات والأرض: ﴿
إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ ، وقال الله تعالى في خلود أهل الجنّة:
﴿ إِلَّا مَا
شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
﴾ . ومن هنا نقول: إنّ كل ما
تقدّم من آراء الاعتزال وعند الإمامية يمكن
التدبّر فيه وتوجيهه والتوقف عنده، لكن كيف
للإنسان المؤمن أو الكافر أن يفهم ما مال إليه
الأشاعرة من رفض للوعد والوعيد فيما ذهبوا
إليه من قول بإمكانية أن يقع العقاب على
المطيع، وأن يقع الثواب على العاصي، باعتبار
أن ذلك كله عدل؟ وإذا كان ذلك كذلك، فما ندري
ما يكون معنى ما أتى به السمع من أمر بالعدل
فيما لو كان ما يفعله الله هو عدل، كما قال
الله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ...
﴾ فهذا ما لا
يمكن التدبّر فيه، ولا التوجيه له لما ينطوي
عليه من إلغاء لإرادة الإنسان وإذابتها في
إرادة الله تعالى، بحيث تكون النتيجة أن
الإنسان مجبر في أفعاله، والمجبر كما بيّن
السيد الخوئي (قده) إذا استحق العقاب على
ذنبه، يكون ظلماً له.
خلاصة القول: إنَّ حقيقة الوعد والوعيد هي أن
نعلم بأن الله تعالى وعد المطيعين بالثواب،
وتوعّد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به
وتوعّد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف
والكذب. وبالله التوفيق.
يبدو أن موضوع الوعيد على المستوى الفقهي قد
أخذ حقه تماماً فيما يعود إلى إعلام الملكف
بما ينبغي عليه القيام به من واجبات وأحكام،
ولم تظهر في هذا المجال، وأعني الفقهي،
إشكاليات ذات أبعاد مستعصية، نظراً لكون هذا
الجانب قد نظر إلى الوعد والوعيد بما هما
ترغيب وترهيب للمكلف لأجل أن يكون حيث أمره
الله تعالى، ولا يكون حيث نهاه، وهو ما عبّر
عنه الفقهاء بالتقوى. ولعل مشكلة المشاكل في
هذا الموضوع، ونعني الوعيد، قد أُثيرت كمسألة
كلامية تولّد عنها الصراع المميت بين الفرق
لما حشد في هذا الصراع من أدلة عقلية ونقلية
كادت أن تخرج الوعد والوعيد عن كونهما حقاً
لتجعل منهما باطلاً، وهذا ما سنتوقف عنده
جلياً، وقد أسمينا العنوان بالموانع لكونه أخذ
بالوعيد إلى مجالات أخرى تبدأ بعالم البرزخ
وتنتهي بعالم الآخرة دونما اعتبار للدنيا وما
تحقق فيها من الوعد والوعيد للإنسانية في
تاريخها، منذ النبي آدم (عليه السلام) إلى عصر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن هنا نقول: إنه إن كان الكثير من الفقهاء
قد استوعب موضوع الوعيد في مجاله، وأعطاه بعده
الحياتي والإنساني في الدنيا، فقد ظهر بعض
الفقهاء والباحثين في العصور المتأخرة، أمثال
ابن تيمية، وابن عربي، والرازي، وابن كثير،
وغيرهم كثير، في كثير من الآراء والاجتهادات
التي تدعو إلى اعتبار نصوص الوعيد نصوصاً
مطلقة وعامة، داعين إلى التركيز على هذا
المعنى في الخطاب الديني والسياسي والإنساني،
وإلى أن الإنسان مرحوم دائماً، ومن غير الممكن
أن يلحق به الوعيد لكون الله تعالى كتب على
نفسه الرحمة، وأنه لا يخلف في وعده ويُخلف في
وعيده، لا في العصاة فقط، بل في كل العباد،
كما زعم ابن كثير
[488] ، فضلاً عما زعمه
آخرون في تأويل قوله تعالى: ﴿
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
﴾
[489] ، فرأوا أنها تفيد «إن جُوزِي..!؟»،
وأغرب من ذلك من زعم بأن قوله تعالى: ﴿
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾
[490] ناسخ لغيره من آيات المغفرة!؟
نعم، لقد جُعل القرآن شريعة لكل وارد، فصدر
عنه الناس كل بحسب ما يرى من تأويل، أو تفسير،
حتى إنك لا تكاد تجد عالماً أو فقيهاً تركن
إليه، سواء في مزاعم الفرق أم في مزاعم مَن
لحق بها وأخذ عنها وانتمى إليها!؟ ولو أن
هؤلاء سمعوا عن الله تعالى وعقلوا عنه لما آلت
بهم الأمور إلى أن يكونوا على هذا التناقض من
القول والفعل، ويكفي أن نعلم هنا أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب المسلمين
في حجة الوداع بالقول: «إني تارك فيكم الثقلين
كتاب الله وأهل بيتي... فلا تقدموهم فتهلكوا،
ولا تقصّروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم
أعلم منكم...»
[491] .
تأسيساً على ما تقدّم، نرى أن الوعد والوعيد
في القرآن جاء في سياق منظومة متكاملة للحياة
الإنسانية سواء في الدنيا أم في الآخرة،
فالقرآن، سواء قلنا بالأقسام كما ذهب الثعالبي
[492] أم قلنا بالأرباع كما جاء في رواية عن
الإمام علي (عليه السلام) بأن القرآن نزل على
أربعة أرباع، ربع حلال وربع حرام، وربع مواعظ
وأمثال، وربع قصص وأخبار
[493] . هو كتاب الله
تعالى لهداية الإنسان إلى تحقيق كمالاته من
خلال إخراجه من الظلمات إلى النور، ومن
الخرافة والأوهام إلى نور العلم والعقل. وإذا
كان هذا القرآن قد اشتمل على الوعد والوعيد،
فذلك إنما كان بهدف أن يعرف الإنسان أن له ذلك
في دنياه قبل آخرته، له من الوعد ما وُعد به،
وله من الوعيد ما أُوعد عليه، فلا ترميز ولا
تخييل في الآيات، ولا خلف أيضاً لأن إخبار
الله تعالى صادق، ومن أصدق من الله قيلاً أو
حديثاً.
ولهذا، فإن ما رآه بعضهم من رحمة وعفو ومغفرة
تطال الإنسان، سواء الفاسق أم المؤمن، هو ليس
موضع جدل ونقاش، وإنما الذي ينبغي التوقف
عنده، هو أن القرآن هادف إلى انتظام هذا
العالم الذي يعيشه الإنسان، باعتبار أن الغاية
من التشريع، بل من الإسلام، عقيدة وشريعة
ونظام حكم، هو تمكين الإنسان من نظم حياته وفق
أمر الله ونهيه، والوعد والوعيد ملازم للأمر
والنهي ولمنظومة القيم الإسلامية كلها. وهذا
ما نرى فيه أساساً لكل بحث إسلامي وفقاً لرؤية
إسلامية (قرآنية) متكاملة لا تأخذ بنصوص الوعد
دون الوعيد، كما فعل المرجئة، ولا بنصوص
الوعيد دون نصوص الوعد، كما فعل الخوارج
والمعتزلة، كما إنه لا ينبغي أن نجمع بين
النصوص كلها لنخلص إلى نتيجة أن أحداً لا
يعذّب في جهنم، وأن صاحب الكبيرة لا يخلد في
العذاب كما رأت طائفة من المسلمين، وليس
بعيداً عن هذا ما ذهب إليه بعض الإمامية، أو
من سمّوا بالتفضيلية لجهة القول بأن من تقرّب
إلى الله تعالى بعمل أو وصل بقربة لا بدّ أن
يدخل جنات النعيم، كما رأى الشيخ المفيد
[494]
. هناك مقولات كثيرة تكاد لا تجد لها مسوّغاً
ولا قاعدة ترتكز إليها في معنى الوعيد
باستثناء تلك التي ارتكز إليها ابن عربي، أو
الرازي بأن الله تعالى قال: إنه لا يخلف وعده
ولم يقل إنه لا يخلف وعيده، ساهين عن كثير من
الآيات التي قال فيها الرحمن: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
﴾
[495] ، سواء لوعده أم لوعيده؟؟
[496] .
إنّ غايتنا من هذا المبحث، هي مناقشة ما ذهب
إليه القوم في معنى موانع إنفاذ الوعيد، أو ما
سمّوه بالأسباب التي تندفع بها العقوبة،
اعتقاداً منهم بأن الله تعالى جعل أسباباً
وطرقاً تخلف الوعيد عن خلقه الذين معهم أصل
التوحيد، لأنه مع الشرك والكفر والنفاق لا
تندفع عقوبة، ولا يخلف في وعيد، وهذا ما يجمع
عليه المسلمون قاطبة، باستثناء مجموعة معدومة
العقل زعمت أن الله تعالى يدفع العقوبة عن
الكفار في الآخرة زعماً منها أن مفاد قوله
تعالى: ﴿
لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً
﴾ هو هذا
[497] ؟
ولا شكّ في أن هذا الإجماع مرتكزه وقوامه قول
الله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾ ،
وقوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾ ، وقوله تعالى: ﴿
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ
﴾
[498] . وطالما أن أهل السنّة
والجماعة ومعهم بعض الإمامية أيضاً قد قالوا
بضرورة ضم النصوص بعضها إلى بعض لفهم مؤداها،
واستخلاص الموقف منها، فقد تبيّن لنا في
البحوث السابقة، أن ضمّ الآيات كما زعموا لا
يؤدّي إلى القول بخلف الوعيد بالمعنى الذي
ذهبوا إليه، لأنه مع إيماننا بأن الشرك يغفر
بالتوبة، وما دونه يغفر من دونها، فإذا سلّمنا
جدلاً بذلك، فهذا ليس مؤداه أنَّ صاحب الكبيرة
إذا لم يتب يغفر له لما أفاده الشريف الرضي في
جواب مَن سأل ابن الحسن عن حكم من يقتل مؤمناً
متعمداً، فأجابه ما حكم به الله تعالى: ﴿
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ ، فقال له: أين قوله تعالى: ﴿
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ ، فقال له: إنّ الله تعالى قد بيّن
المشيئة في قوله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ... ﴾، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الجمع
للآيات له المؤدّى ذاته في جمع آيات أخرى،
ولكن بنتيجة أخرى، على نحو ما بينّا عن
العلامة مغنية في جمعه لآيات غفران الذنوب
جميعها، ولا بأس أن نعيد كلامه رضوان الله
عليه، إذ هو يقول: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾ ، فيُستفاد
منها الشرك أيضاً، ولكن قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ... ﴾، يخرج الشرك من الآية، ثم قال
تعالى: ﴿
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى
﴾ ، الذي يخرج أيضاً
المؤمن غير التائب، لأن ظاهر الآية، وهو مبني
على دليل العقل، يُفيد بأن شرط المغفرة هو
التوبة والإيمان والعمل الصالح، ثم الهداية
التي تعني ما تعنيه، ومن هنا نقول: إنه لا يحق
للفقيه أو الباحث أن يتجاهل هذا الجمع للآيات
فيما تؤدّي إليه من معنى في سياق فهم نصوص
الوعد والوعيد...
ثم، إنه إذا صحّ القول بإجماع المسلمين على
تعذيب الفساق والعصاة في النار ليُعذبوا
بمعاصيهم، بحيث يخرجون بعد ذلك إلى الجنة، لما
أفاده الطوسي في الاقتصاد، والبغدادي في أصول
الدين، بأن مَن دخل الجنة، لا يخرج منها، فإذا
صحّ ذلك، فهل يصحّ القول: إن النار تطهّر
الكفار والعصاة من كفرهم وتعيدهم إلى فطرتهم
الموحّدة ليدخلوا الجنّة، طالما أن الجنة لا
يدخلها إلا الطيب، كما جاء عن صادق آل محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وإذا كان كل الناس
يولدون على الفطرة، فلماذا لم تطهّر النار
أولئك الذين زعموا أنهم لو خرجوا من النار
لعملوا صالحا، وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿
وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ
عَنْهُ
﴾ ، فلماذا لم تطهرهم النار من خبث
كفرهم وكبائرهم ليصدق القول فيهم أن النار
تفنى عنهم كما زعم ابن تيمية!؟
[499] .
وهنا نعود للسؤال، هل تصح التوبة في العذاب،
وقد بيّن تعالى مخبراً أن التوبة ليست للذين
يعملون السيئات، ولا الذين يموتون وهم كفار،
إلى كثير من الآيات التي تدعو إلى التوبة
والإنابة، بل التوبة النصوح؟ وماذا لو علمنا
أن هؤلاء الذين يعذبون في النار هم ممن عاند
واستكبر، أو قصّر، أو استضعف، أو كذّب، أو
تولّى، أو لم يهتدِ كما هو مفاد: ﴿
ثُمَّ اهْتَدَى
﴾ . إنها
أسئلة لا بدّ أن يُجاب عليها ممن يدّعي فقهاً
وعلماً، وإلاّ كان ما يزعمه هؤلاء شبيهاً بما
سبق لإبليس أن زعمه، سواء في الجنة، أم في
الأرض...!؟
لا شك في أن الإنسان إذا وفى بالتزامه، وفى
الله تعالى معه، بدءاً من الميثاق الذي أخذ
منه، وانتهاءً بسائر الفروض والواجبات التي
كلّف بها، ومن شأن ارتكاب الكبائر أن يؤدّي
إلى المعصية الكبرى التي فاز بها إبليس لعنه
الله، ونعني بها الكفر والفسوق عن أمر ربه،
وقد قيل إن المعاصي بريد الكفر، وإذا كان الله
تعالى قد جعل أسباباً وطرقاً لنجاة العباد،
فإن أول هذه الطرق هو التوبة من قريب، التوبة
النصوح، التوبة الخالصة لله تعالى، والصائبة
للسنة، وإلاّ كانت عملاً يقصد به غير وجه الله
تعالى، وما كان لغير الله تعالى لا ينمو، هذا
إذا لم يكن رياءً يصل بالإنسان إلى حدّ الكفر
أيضاً...
وكيف كان، فإن معنى جعل الطرق والأسباب أن
يهتدي الإنسان إليها ليكون ناجياً من الوعيد،
وقد قال الله تعالى: ﴿
وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
﴾
[500] ، ولهذا،
فإنه لا معنى لحصر العذاب بالكفر والشرك فقط،
بل قد تكون الكبيرة أيضاً سبيلاً إلى ذلك بحيث
يمتنع معها الخلف في الوعيد، ويكفي هنا تعجباً
أن نقرأ في صحيح مسلم، وفي مقالات كثيرة، أن
الله تعالى يحب من عبده الذنب حتى يستغفر،
فقالوا: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء
بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم..»
[501] . هذه هي تجلّيات الفقه القديم الجديد،
وكوننا نعلم أن الله تعالى أمر بالنفور
والجهاد والتقوى، كما قال الله تعالى: ﴿
وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ
أَمْثَالَكُمْ
﴾ ، فلم نعلم لا من قرآن ولا من
سنّة أن الذنب هو علّة البقاء وعدم الاستبدال،
أو أن النجاة تكون بالذنب!؟ وهنا نسأل: ماذا
لو أذنب الإنسان ثم استغفر واستمر على هذه
الحالة إلى لحظة لم يتسنَّ له الاستغفار
والتحق بما أعدّ له، فهل تكون له نجاة؟ وما هو
الداعي إذاً، لجعل الأسباب والطرق للنجاة،
طالما أن الذنب هو شرط النجاة والبقاء وعدم
الاستبدال؟؟
نعم، لا توجد سنّة تستطيع محو الشرك إلا حسنة
التوحيد والإيمان، وقد يصح القول أيضاً، إنّ
الحسنات التي تزيل لحوق الوعيد بصاحب الكبيرة
كثيرة ومتعددة، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾
[502] ، ويعفو عن كثير، فضلاً منه
وتكرّماً، لكن هذا شيء، والكلام عن المعاصي
والكبائر وعدم التوبة شيء آخر، لأنا لا نسلّم
أن عفو الله تعالى ومغفرته تكون جزافاً أو
كيفما اتفق، فالله عدْل عَدَلَ، ومقتضى الحكمة
والعدالة الإلهية أن يُثاب المحسن، ويُعاقب
المسيئ، وقد جاء السمع بالتوبة ليتعرّف
الإنسان إلى سبيل نجاته، لأنه ما كان ليهتدي
إلى أسباب نجاته لولا أن الله تعالى دعاه إلى
التوبة من خلال الرسل والرسالات، وهذا كله
مؤدّاه أنه يجب على الإنسان أن يسمع ويعقل وأن
لا يفهم بشكل ملتبس، أو جاهل أنه داخل في
المشيئة، سواء ارتكب الكبيرة ولم يتب منها أم
تاب منها ارتكازاً منه على اجتهاد مؤدّاه أن
الله يغفر لمن يشاء
[503] ، فهو تعالى كذلك،
ولكنه سبحانه بيّن المشيئة، ودعا إلى التوبة
وإلاّ استحالت الكبيرة إلى كفر وشرك والعياذ
بالله، وهذا منتهى ما نراه بعقلنا القاصر
باعتبار أن صاحب الكبيرة فيما لو تجاوز الطرق
والأسباب، ولم يهتدِ إليها عناداً واستخفافاً،
وتأويلاً بغير حق، كانت حالته كحالة الإنسان
الكافر أو المشرك، أو على حدّ ذلك، فلا يُقال
بأن إيمانه يستحق عليه الثواب، ولا يمكن
تسويته بعذاب المشرك أو الكافر، كما رأى
الطوسي (قده) وسائر علماء المسلمين، وقد لفتنا
فعلاً ما ذهب إليه السيد الخوئي (قده) في
البيان أن مَن ارتكب محرّماً لا يكون كافراً
ولا مشركاً، وهو بالتأكيد لا يقصد ارتكاب
المحرّم عن عناد واستخفاف واستكبار وجرأة على
الله تعالى، لأن الجرأة على الله تعالى تحبط
الإيمان وتجعل صاحبها موضوعاً للعنة الإلهية
في الأرض والسماء. وهنا مبحث آخر في الإيمان
والإسلام نستوفيه في بحوث أخرى إن شاء الله
تعالى.
ليست التوبة شعاراً أو عنواناً مجرداً، وإنما
هي فعل والتزام وعزم واستغفار، ومن يأتي بفعل
الكبائر، لا يسعه إلاّ أن يتوب ويستغفر من
فوره، بحيث يأتي بالفرائض ويتوب من الكبائر،
وهنا يكون معنى الحسنات الماحية التي تذهب
بالسيئات، أما أن يكون الإنسان عاصياً لله
تعالى، ولا يأتي بالتوبة على وجهها، فإنه لن
يكون معنى لحسناته إطلاقاً في الآخرة، لقول
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله
تعالى لا يظلم المؤمن حسنة، يُعطى بها في
الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر
فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى
إذا قضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها»
[504] ، ويأتي في هذا المعنى قوله تعالى: ﴿
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
﴾
[505] ، وهنا سؤال آخر لأهل الفقه الغريب، هل
أن حرمان الإنسان العاصي من حسناته في الآخرة
يجعله مستحقاً للجنة، أو متفضلاً عليه به؟ لا
شكّ في أن الله تعالى في الخيار من ذلك إن شاء
عذّبه، وإن شاء رحمه، لكن لا يعني هذا الخيار
إطلاقاً وفق عدل الله ورحمته أن الله تعالى
يشاء جزافاً، وإنما لحكمة، وهو قادر على ما
يشاء وفعّال لما يريد، وما يريد ظلماً للعباد.
وإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد
نهى عن لعن أهل الكبائر، فهو
(صلى الله عليه
وآله وسلم) بيّن أنه لا يوجب اللعن لأحد من
أهل الدين بالنار، كونهم من أهل الدين ويأتون
الأبواب التي أمروا بدخولها، وإلا لا معنى
لكونهم أهل الدين إلاّ من حيث هم يذنبون
ويتوبون، ولا يعاندون، ولا يستخفون، ولا
يستكبرون، وانطلاقاً من ذلك نرى أن الأمة
الإسلامية في عصرنا الحاضر هي مما ينطبق عليها
توصيف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنها
أهل الدين، ولكن هل من الحق والعدل والإنصاف
تعميم هذا الوصف ليطال كل هذه الأمة بما هي
عليه من أحوال في ذات نفسها وفي واقعها
[506] ؟
ولعلنا لا نخطئ القول، أن ما زعمه بعض الفقهاء
من أن نصوص الوعيد الواردة في الكتاب والسنّة،
يجب القول بموجبها على وجه الإطلاق والعموم لا
التعيين، فنقول هذا الذنب يقتضي هذا العذاب من
دون أن نحمله على الشخص المعيّن لاحتمال وجود
موانع لحوق الوعيد بحقه وانتفاء شروطه ـ زعم
مفاده بخلفية هؤلاء ـ أن لا نخص أحداً بالعذاب
ولا باللعن، ولا بشيء مما شرّعه القرآن ودعا
إليه، وقد تقدّم الكلام إشارة إلى معنى اللعن
وشرعيته في الكتاب والسنّة، ثم إن هؤلاء
يعترفون في كثير من النصوص أن من الوعيد ما لا
يخلف فيه وهو المتعلق بحقوق العباد وما يقع
بينهم من مظالم واعتداءات، حيث إن الوعيد هنا
على الظالم المعتدي لا محالة، ولا بدّ أن
يستردّ المظلوم حقه من الظالم، وهذا ما جاء في
الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): أنه قال: «الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره
الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه»، وهذا
الأخير هو ظلم العباد بعضهم بعضاً..
وهكذا، فإنّ ما نذهب إليه في هذا المبحث هو أن
موانع إنفاذ الوعيد، أو ما سمّي فيه بأسباب
دفع العقوبة، لا بدّ أن تتحقّق في الدنيا قبل
الآخرة، إذ لا يكفي الرهان على عفو الله
ورحمته في دفع هذه العقوبة، وكما سلف القول من
أن زعمنا هذا مرتكز إلى أن الموت على الكبائر
وتحقق العذاب بالشكل الذي يؤدي إلى الخلود في
النار بلحاظ كونه متعمّد الكبيرة، له ما
يسوّغه في القرآن والسنّة استناداً إلى منازل
البرزخ ومنازل الآخرة في سورة الواقعة التي
تحدّثنا عنها آنفاً، وإذا كان الحلّي (قده) ،
والطوسي (قده) ، وغيرهم كثير من القدامى
والمحدثين قد رأوا أن عاقبة الفاسق هي الدخول
إلى الجنة تأسيساً على ما يستحقه من ثواب على
إيمانه، ولاستحالة تسوية حاله بحال الكافر
والمشرك، فإنّ هذا الرأي ينسجم مع ما رأوه من
معنى آية غفران الذنوب التي دون الشرك بتوبة
أو حتى دون توبة، ولكنه غرب عن بال الكثيرين
من العلماء أن هذه التسوية إنما تكون غير
ممكنة فيما لو تحققت موانع إنفاذ الوعيد في
الدنيا وقبل الموت، بحيث يتوب الإنسان عمّا
ارتكبه من كبائر، أما إذا استوى على كبائره،
ولم يهتدِ إلى أسباب وجوده، فلا يمكن القول
إنه تحت المشيئة جزافاً، وقد بيّن الرضي في
حقائق التأويل، أن هذه المشيئة قد عملت
بالكثيرين عذاباً أليماً
[507] ، وهذا قول لا
نتفرّد به، لما ذكره العلاّمة الحلّي (قده) في
شرح العقائد للطوسي (قده) ، حيث رأى أن المؤمن
عند المعتزلة وعند الوعيدية من الإمامية، لا
يكون فاسقاً، والفاسق الذي لا يكون كافراً،
منزلة بين منزلتين هما الكفر والإيمان، ويُخلد
في النار لقوله تعالى: ﴿
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
﴾
[508] ، خلافاً لما ذهب إليه الأشاعرة وأهل
التفضيلية من إدخال الفاسق تحت المؤمن،
وبإبطال الخلود في العذاب له بكونه داخلاً تحت
المشيئة، ومغفوراً للذنب على ظلمه
[509] .
مما تقدّم، نخلص إلى القول بأن الفقه الغريب
الذي ترأسه بعض المفسرين من أمثال الرازي،
وابن كثير، والألوسي، وغيرهم ممن لا عدَّ ولا
إحصاء لهم، حاولوا أن يطرقوا باب الوعيد من
خلال التكاليف والفروع، ساهين عن أن المسألة
لها أبعاد أصولية وولائية، قبل أن تكون مجرّد
تكاليف، وتوبة واستغفار وما إلى ذلك، وهم فيما
عرضوه من تفسير للآيات المؤكدة على الخلود،
جهدوا من أجل تأكيد الخلف في الوعيد وانقطاع
العذاب، زاعمين أن قوله تعالى: ﴿
إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾
[510] الذي أعقب آية: ﴿
... الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ
فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ
فِيهَا
﴾
[511] ، إنما يفيد انقطاع العذاب،
وحاكمية المشيئة بأن يخرج أهل العذاب من
النار، وعقبوا على ذلك بالقول إن هذه الآية
فيما تذيّلت به تأتي على كل آيات الوعيد، ولم
يرق لهم أن يجمعوا هنا بين النصوص لاستخلاص
المواقف وتبيان حقيقة المراد من قوله تعالى،
فهم يأخذون بالآيات إلى مبانيهم الكلامية، ولو
أنهم قصدوا غير ذلك لوصلوا إلى اليقين، ولكنهم
باعوا اليقين بالشك والعزيمة بالوهن، فاستحال
أمرهم إلى القول بغير علم، وقد قال الله
تعالى: ﴿
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
﴾
[512] .
إن الكلام في الأصول والولاية والإمامة، بل في
الإيمان والكفر، بل في الولاء والتبرّي، يجب
أن يسبق الكلام عما تزول به الذنوب عن العباد،
لأن الله تعالى أمر ونهى ووعد وتوعّد ووعظ
وأرشد، وقضى وقدّر، وكل ذلك مسطور في الكتاب،
ولكن السؤال يبقى دائماً، من أين تهتدي إلى
هذا الأمر والنهي، وإلى هذا الوعد والوعيد؟
فهل جعل الله كل إنسان إمام نفسه؟ أو أنه جعل
لهذا الدين أبواباً، وللناس أسباباً، من
خلالها نتعرّف إلى معنى التوبة وكيف تكون،
وإلى الحسنات الماحية؟ وهل كان لأحد من هؤلاء
العلماء الذين تسمّوا بالعلم وليسوا به، أن
يبيّنوا معنى الاستغفار بما عرّفهم به الإمام
علي (عليه السلام) ؟ وهل كان لأحد منهم أن
يعرف الإيمان على أنه أربع شعب؟ أم كان لأحد
منهم أن يعرف الإسلام كما عرفه أمير المؤمنين
(عليه السلام)
[513] .
قالوا في الأسباب والطرق إنها كثيرة تبدأ
بالتوبة والاستغفار وتنتهي برحمة الله وعفوه،
وبعضهم قسّم هذه الأسباب التي تزول بها الذنوب
إلى ثلاثة أقسام:
الأول: موانع من المذنب نفسه، وهي التوبة
والاستغفار والحسنات الماحية..
الثاني: موانع من أخوة الإنسان المؤمنين الذين
يدعون له.
والثالث: موانع من الله تعالى وهي البلايا
والمصائب المكفّرة.
وهذه الأقسام إذا ما تحققت للمؤمن في الدنيا
من قبل نفسه ومن قبل غيره، فإنّ الله تعالى هو
أرحم الراحمين، ولا جدال ولا نقاش في أن قيام
الإنسان بهذه الأسباب لا بدّ أن يؤول به إلى
ما يجعله من أهل الوعد بالثواب لا من أهل
الوعيد، أما إذا مات الإنسان وهو على كبائره،
كما تقدّم الكلام، فليس معلوماً ما إذا كان
داخلاً تحت المشيئة على النحو الذي يؤدّي به
إلى النجاة من العذاب، أو أن يدخل الجنة بعد
عذابه، وهذه نقطة خلافية مع كثير من الفقهاء،
لما ذهبنا إليه من أن جمع الآيات وضمّ بعضها
إلى بعض لا يؤدّي إلى القول بأن الله تعالى
يخلف في وعيده، طالما أن هذا الإنسان لم يؤدِّ
بنفسه الحقوق والواجبات، سواء أكانت هذه
الحقوق لله تعالى أم للناس، إذ هو في جميع
الأحوال رهن عمله، ويمكن أن يلحق به العفو
فيما لو كان قاصراً أو جاهلاً، وقد زعم بعضهم
أن كل مانع من موانع التكفير مانع من موانع
لحوق الوعيد بالمعيّن، وليس كل مانع من موانع
لحوق الوعيد بالمعيّن مانعاً من موانع التكفير
[514] ، وهو في كلامه هذا يؤسس لدعوى أن الفهم
الخاطئ، أو التأويل الخاطئ يمنع لحوق الكفر
وبالتالي الوعيد بالإنسان. وكما قلنا: إنها
مقولة لا تستساغ في ضوء ما تدعو إليه النصوص،
لأن التأويل الخاطئ، أو الجهل، أو الإكراه، أو
الخطأ المنافي للقصد، كل ذلك ناشئ من كون
الإنسان لم يهتدِ إلى أمر الله تعالى، وإلى
الأخذ بالكتاب والسنّة وفق ما أمر به الله
ورسوله. فهذا كله كلام في التفصيل والقشور،
أما اللباب، فهي في ما ينبغي أن يكون عليه
الإنسان من علم من مصادر وأبواب العلم، وليس
في القول على الله تعالى ما لم يأتِ في كتاب
أو سنّة؟؟
وعليه، فإنه لا مندوحة عن الكلام بأن التوبة
أو الاستغفار، أو الحسنات، أو دعاء المؤمنين
أو أعمال البرّ للحيّ والميت، أو الشفاعة، أو
المصائب التي تكفّر بها الخطايا والذنوب، أو
ما يجري للإنسان في القبر، أو في أهوال يوم
القيامة، فهذه وإن كانت جميعها تسمّى بأسباب
زوال العذاب وانقطاعه، تبقى رهينة الإجابة
عليها وفق نصوص الوعيد في القرآن التي إن لم
تفهم على وجهها، فإنّ أعمال الإنسان تكون
هباءً منثوراً، فإذا ما تحققت هذه الأسباب
وقام بها الإنسان على وجهها، فإنها كافية
بذاتها لتشكل سبباً لارتفاع العذاب، بحيث يكون
من أهل الجنة، وذلك كله، كما بينّا، يبقى
مشروطاً بالهداية، أما إذا مات الإنسان وكانت
حالته على خلاف ذلك، فهو بالتأكيد له مسمّيات
الفاسق، أو المؤمن، أو غير ذلك، ولا بدّ أن
تلحق به أحكام الله تعالى، بحيث يكون له
العذاب والخلود فيه، لما أكدنا عليه قبل قليل
أن شرط التوبة والاستغفار والهداية، وإن لم
يقل به كثير من العلماء فيما دون الشرك، يبقى
قائماً بدلالة آيات التوبة والإنابة، ومثلما
أن الآيات تدرّجت من غفران الذنوب جميعاً إلى
إخراج الشرك، إلى إخراج المؤمن غير التائب،
فكذلك هي تدرّجت في الكلام عن التوبة من
التوبة غير المقبولة لمن عمل السيئات ومات
كافراً، إلى التوبة من قريب، إلى التوبة
النصوح، فكيف يُقال بعد هذا كله إنّ الله يغفر
الذنوب ما دون الشرك، من دون توبة، أو إنه
مرتكب الكبيرة يخرج من العذاب بعفو الله
ورحمته، إلاّ أن تكون الأخبار في القرآن
والسنّة لا تفيد ذلك، وقد سلف منّا القول أن
الخبر الإلهي لا ينسخ بل يخصص، ولا يتناقض مع
خبر آخر، خلافاً لما زعمه بعضهم من قول بنسخ
الأخبار، أو أن الوعيد هو من قسم الإنشاء.
وختاماً نقول: إن وعيد الله حق كوعده، ولذلك
لا يجوز تأويله ولا تبديله، ولا بدّ من جمع
النصوص وفق رؤية متكاملة، لا لنصوص الوعد
والوعيد وحسب، وإنما لكل ما في القرآن من آيات
وأحكام وحلال وحرام، وقصص وأخبار، في التكوين
والتشريع، والعدل. فهذا من شأنه أن يكشف
لمتدبّر بصير معنى أن يكون الوعد والوعيد حقاً
لا خلف فيه، إنّ الله لا يخلف الميعاد، وبالله
التوفيق.
اختلف العلماء فيما بينهم، بين قائل بخلق
الجنة والنار، وهو قول الجمهور، وبين قائل
بخلاف ذلك، كالمعتزلة والخوارج وطائفة من
الزيدية، وقد نسب إلى الشريف الرضي (قده) القول
بخلاف ما ذهب إليه الجمهور
[515] . وبما أن
البحث في هذا الموضوع في غاية الأهمية لما له
في واقع الإنسان وعلى عمله في الدنيا لجهة ما
وعد به وأوعد عليه، فإن هذا المبحث لن يستغرق
في كلام العلماء حول خلق الجنة والنار، وإنما
سنتحدّث فيما يعنيه الخلود فيهما، على اعتبار
أن السمع قد جاء بما يؤكّد الخلود لأهل
النعيم، وكذلك الخلود لأهل الشقاء والكفار
والمنافقين في الجحيم.
وهنا يجدر القول بأن أكثرية العلماء طرحوا
سؤالاً: مَن هو المخلّد في النار؟ وهل يخرج
بعض الناس من النار فعلاً؟ وهل ينقطع العذاب
عن أهل النار بعد أن يألفوها؟ هناك أسئلة
كثيرة تحتاج الإجابة عليها إلى مزيد من
التدبّر، لكون القرآن قد لحظ هذه المسألة
وتحدّث عنها بمئات الآيات، وكما قلنا سابقاً،
إنّ القرآن هادف من وراء الحديث عن الجنة
والنار، والوعد والوعيد، والخلود إلى تبيان
حقائق جمّة يفترض أن تكون موضع تأمّل وتدبّر
لتكون مثار عبرة وعمل، لا مثار جدل وتخييل كما
فعل أكثر المتكلمين والباحثين.
لقد انتهينا في بحوثنا السابقة إلى تلخيص ما
استقرت عليه الآراء في مباحث العلماء عن الكفر
والشرك وأصحاب المعاصي وما يؤول إليه حالهم،
سواء في الدنيا أم في الآخرة، في مقابل ما
يكون لأهل الإيمان والتقوى من وعد بالجنة
والخلود فيها، وقد يحسن هنا لتوجيه المبحث أن
نشير إلى مختصر مفيد في أحوال الناس ومآلاتهم
في الآخرة، أوجزه المحقق البحراني فقال:
«المكلّف العاصي، إما أن يكون كافراً أو ليس
بكافر، أما الكافر فأكثر الأمة على أنه مخلّد
في النار، وأما من ليس بكافر، فإن كانت معصيته
كبيرة فمن الأمة من قطع بعدم عقابه وهم
المرجئة الخالصة، ومنهم مَن قطع بعقابه وهم
المعتزلة والخوارج، ومنهم مَن لم يقطع بعقابه،
إما لأن معصيته لم يستحق بها العقاب وهو قول
الأشعرية، وإما لأنه يستحق بها عقاباً إلا أن
الله تعالى يجوز أن يعفو عنه، وهذا هو
المختار..»
[516] .
نعم، نحن فصّلنا في الكلام بما لا حاجة إلى
المزيد فيه، ولكن هذا الملخّص لمقالات الفرق
يجيب على تساؤلات قديمة حديثة عن سؤال المخلد
في النار والمستحق للعقاب، وقد بيّن العلماء
أن المعوَّل عليه هو جواز العفو، كما قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «هو في
الخيار من ذلك» بمعنى أنه إن شاء غفر، وإن شاء
عذّب...
إنّ جدوى مبحثنا هذا لا تهدف إلى استجماع آراء
العلماء وحسب، وإنما المناقشة فيها بالشكل
الذي يسمح باستخلاص موقف من مقولات العلماء،
نظراً لما شابها من تناقض في التأويل
والتفسير، حيث نرى أن كل فرقة جعلت من رأيها
مذهباً واعتقاداً، فاستحال أمر المسلمين
قديماً وحديثاً إلى مناقشات لا جدوى منها،
لأنها في الأساس لم ترتكز إلى ما جاء به
القرآن والسنّة وأهل البيت (عليهم السلام)
إلاّ فيما ندر من الأقوال التي لم تنجح في
بلورة رؤية واضحة بسبب التحريف وسوء التأويل،
وكان دور الإمامة في تاريخها هو حفظ هذا الدين
للحيلولة دون أن يتحوّل إلى طقس من الطقوس
تعبّر عنه آراء الرجال بحسب الميول والمصالح
والأهداف. ولولا أن هذه الإمامة حفظت هذا
الدين بالعلم والجهاد والدم لما كنا اليوم
ننعم ببركة هذا الدين، وهذا الإسلام العظيم
الذي تجلّى في العصر الحديث بالجمهورية
الإسلامية في إيران..
[517] .
لقد اختلف العلماء بشأن العصاة وفسّاق
المسلمين وأصحاب الكبائر، بعد أن اتفقوا
بالإجماع على أن الكافر والمشرك والمنافق ليس
له إلاّ الخلود في جهنم. أما العاصي غير
الكافر فلم يدلّ الدليل على دوام العقاب له،
كما أفاد الحلّي (قده) في كشف الفوائد،
والطوسي (قده) في الاقتصاد، والبغدادي في أصول
الدين، وقد استجمع الأشعري هذا الرأي والاتفاق
عليه في كتابه مقالات الإسلاميين، فليراجع
الكلام في مظانه.
وقد لفت نظرنا فعلاً ما ذهب إليه بعض العلماء،
من أمثال ابن عربي، وبعض المتصوّفة
والمتفلسفة، من قول بأن الكفار، وإن كانوا
مخلّدين في النار إلى ما لا نهاية له إلاّ أن
عذابهم لا بدّ له من انقطاع وزوال فتكون النار
عليهم برداً وسلاماً بعد ذلك، وكما نقل
شبّر(رض) عن ابن عربي أنه قال: إنّ نعيم أهل
النار بعد استيفاء الحقوق هو نعيم خليل الله
إبراهيم حين ألقي في النار..
[518] .
يبدو أن المسألة عند كثير من العلماء
والباحثين قد تجاوزت مسألة العاصي والفاسق
وصاحب الكبيرة، لتبحث عن نجاة للكفار
والمشركين والمنافقين، فأدخلوا أنفسهم في
دائرة المجادلة بغير علم، وقالوا على الله
تعالى ما لم يأتِ في كتاب أو سنّة، وإذا كان
للكفّار هذا المصير في النهاية، فما يكون مصير
العصاة إذن غير أن يكونوا في الجنة وعلى فوز
عظيم، بل على رضوان من الله أكبر! هذا فضلاً
عمّا يعنيه القول من انقطاع العذاب وزواله من
تأكيد بأن أحداً من العصاة والفسّاد لا يخلد
في النار حتى ولو كان قاتلاً، أو كاذباً، أو
شيطاناً، طالما أن الكفار ينقطع عنهم العذاب
وتنتفي عنهم النار
[519] .
وبما أن هذه الشبهة لا تستحق التوقف عندها،
فقد اخترنا أن نبحث فيما يعنيه الخلود في
الجنة أو في النار، كما ورد في القرآن الكريم،
فنقول: إن تعبيرات ومفردات القرآن عن العذاب
والخلود جاءت مختلفة، فمنها ما جاء بصيغة
الخلود
[520] ، ومنها ما جاء بصيغة أشدّ
العذاب
[521] ومنها ما جاء بصيغة اللبث
[522]
، وهي في جميع معانيها جاءت لتفيد ما يؤول
إليه الكفار والعصاة من مصير، وكذلك الخلود
لمن كفر وكذّب وقتل عمداً، وهناك من العلماء
والباحثين من حاول توجيه الآيات وتأويلها ليصل
إلى نتيجة مفادها أنه لا بدّ من انتهاء العذاب
وفناء النار عن أهلها، أو لتأكيد مقولة أن مَن
ألِفَ موطناً كان مسروراً به، لأنّ الله تعالى
خلقهم على نشأة تألف هذا العذاب، وبذلك تعمر
الديار، سواء في الجنة أم في النار، بحيث تسبق
الرحمة الغضب
[523] ...
يتظهّر لنا مما تقدّم، وكما سنرى لاحقاً، أن
مبحث الخلود في القرآن تعرّض لتشوهات كثيرة
وتحريفات لا تسويغ لها إلا بأن يُقال عنها قول
بالرأي، وتأويل ما أنزل الله تعالى به من
سلطان، وليس خافياً على الباحثين ما اضطرب فيه
القوم في تفسير قوله تعالى: ﴿
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ
رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
﴾
[524] ، فكان
الخلود مداراً لحديثهم حول حقيقة الاستثناء في
الآيات، فهل هو مفيد لانقطاع العذاب والخروج
من جهنّم؟
لقد رأى بعضهم أن الاستثناء في الآية الأولى
متشابه، وفي الثانية محكم، ولا بدّ من ردّ
المتشابه إلى المحكم، وقال آخرون: لو كان
المقصود بدوام السماوات والأرض في الدنيا لقال
تعالى: وكانت السماوات والأرض، وقد ذهب
الطبرسي، والطوسي، والكاشاني، والطباطبائي،
والزمخشري، مذاهب شتّى في تأويل الآيات وما
تفيده من خلود، فرأى الكاشاني أنها تعني نار
الدنيا قبل القيامة، وجنان الدنيا التي تنقل
إليها أرواح المؤمنين، وأن نعيم هؤلاء متصل
بالآخرة، وهي دليل على مَن أنكر عذاب القبر
والثواب والعقاب في الدنيا والبرزخ يوم
القيامة
[525] ، وقال الطوسي: إنها تفيد
الخلود أبداً والدوام البقاء أبداً، ولهذا
يُوصف الله تعالى بأنه دائم، ولا يُوصف بأنه
خالد، وأضاف إلى ذلك أن الله استثنى من أراد
من فسّاق أهل الصلاة إذا أراد التفضّل بإسقاط
عقابه، أو من يشفع فيه النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم)، وكأنه قال تعالى: إلا ما شاء ربك
فلا يدخله النار
[526] ، ويكفي أن نشير هنا
إلى كلام الطبرسي، الذي أشار فيه إلى حقيقة
المشكلة، بقوله: «اختلف العلماء في تأويل
الآيات، وهما من المواقع المشكلة في القرآن
والإشكال فيه من وجهين: أحدهما: تحديد الخلود
بمدة دوام السماوات والأرض، والثاني: معنى
الاستثناء بقوله: ﴿
إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ...
﴾، والأول فيه
أقوال، والثاني فيه»
[527] ، وقد أجاب
الطباطبائي بكلام طويل ومفيد عن هذه المشكلة،
مبيناً أن الآيات ناصّة على أن السماوات
والأرض لا تدوم دوام الأبد، وهي مع ذلك ناصّة
على بقاء الجنة والنار بقاء لا إلى فناء
وزوال، وهو يحسم إشكال الطبرسي بأن في الآخرة
أرضاً وسماوات وإن كانت غير ما في الدنيا
بوجه، كما قال تعالى: ﴿
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
﴾
[528] ، وقال الطباطبائي في معنى الاستثناء:
«إنه مسوق لإثبات قدرة الله المطلقة، وهي لا
تنقطع عنهم بإدخالهم الجنّة... فله تعالى: أن
يخرجهم من الجنة وإن وعد لهم البقاء فيها
دائماً لكنه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده...
فأهل الخلود في النار، كأهل الخلود في الجنة
لا يخرجون منها أبداً إلا أن يشاء الله تعالى،
ذلك لأنه على كل شيء قدير، ولا يوجب فعل من
الأفعال، إعطاء أو منع بسلب قدرته على خلافه
أو خروج الأمر من يده، لأن قدرته مطلقة غير
مقيّدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر»
[529] ....
إذاً، لا يستفاد من أقوال العلماء أن الخلود
لأهل الجنة ينقطع، إذ كيف يكون ذلك وقال الله
تعالى: ﴿
عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
﴾ ، وكذلك الحال بالنسبة للكفار
والمنافقين، فهو لا ينقطع أيضاً لما جاء به
الخبر بكونهم خالدين في جهنم، والاستثناء في
الآية حتى وإن كان متشابهاً، فإنّ إحكام آية
الذين سُعدوا يفسّره، ولكنه غير متشابه، وإنما
هو يؤكّد على قدرة الله تعالى المطلقة، وهو إن
شاء أخرجهم من جهنم، وهم غير مخرجين لكونهم
أوعدوا بالعذاب وهو حق، يبقى مصير عصاة
المؤمنين، فهل يدخلون النار ثم يخرجون منها
إلى الجنة، أم يبقون فيها؟ وهذا ما أجاب عليه
العلاّمة الطباطبائي (قده) بقوله: «العصاة
من
المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا
يدخلهم في النار من رأس، لا يعفى عنهم جزافاً،
وإنما يعفى لصالح عمل عملوه، أو لشفاعة،
فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في آية: ﴿
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ ... ﴾
من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثم
يستثنوا لعدم دخولهم النار، وبالجملة هم ليسوا
أشقياء حتى يستثنوا، بل سعداء داخلون في الجنة
من أول...»
[530] .
إنه كلام حاكم ومسؤول وعلمي يلحظ تماماً أجواء
الخلود في القرآن، سواء لأهل الجنة أم لأهل
النار، فإذا صحّ أن أهل الكبائر يدخلون النار،
فكيف يمكن أن يخرجوا منها؟ أو أن يقال: «إن
النار تطهّرهم وتذيبهم كما يذاب الذهب والفضة
لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المقدّرة»
[531] .
وماذا لو علم ابن عربي وغيره ممن ذهب إلى
انقطاع العذاب أن منازل العباد، كما جاء في
سورة الواقعة، هي ثلاثة منازل، كما قال تعالى:
﴿ وَكُنتُمْ
أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً
﴾ . وهذه المنازل بدأت لهم من عالم
البرزخ ومن القبر تحديداً، فهم إمّا مقرّبون،
وإمّا من أهل اليمين، وإمّا من المكذبين
الضّالين، ومن هذا العالم البرزخي تمدّ بهم
المنازل إلى الخلود، إما في الجنة وإما في
النار؟
لقد اشتبه بعض العلماء في أن دوام السماوات
والأرض في الآيات متصل بعالم الدنيا، معتبراً
البرزخ متصلاً في عالم الآخرة، ثم نراه يقول
بأن الآيات: الذين شقوا والذين سعدوا، تلحظ
نار الدنيا قبل يوم القيامة، وجنّة الدنيا
التي تنقل إليها أرواح المؤمنين، كما أورد
الكاشاني عن القمي
[532] ، وهذا اشتباه ناشئ
عن اعتبار جنة النبي آدم (عليه السلام) جنة
أرضية تطلع فيها الشمس، ولو كانت غير ذلك، أي
جنّة خلد، لما خرج منها النبي آدم (عليه
السلام) ، ولو أنه انتبه إلى قوله تعالى: ﴿
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ ...
﴾، لوفّر على نفسه عناء التأويل
الذي استند فيه إلى قوله تعالى: ﴿
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً
وَعَشِيّاً
﴾
، وبما أنه لا غدو ولا عشي في جنة الخلد ويوم
القيامة، فأخذ الكلام باتجاه نار الدنيا وجنة
الدنيا، لقول الصادق « ألم تسمع قول الله
تعالى يوم تقوم الساعة: ﴿
أَدْخِلُواْ آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ ، الذي
يفيد أنه لا عرض على النار، وإنما دخول دائم
وتواصل لا شمس فيه ولا زمهرير»، ومما تجدر
الإشارة إليه هنا، هو أنه ليس الاشتباه الوحيد
الذي يقع فيه العلماء، بل هناك الكثير من ذلك
في مذاهب العلماء، إذ في الوقت الذي يذكر فيه
الصدوق في العقائد أن جنّة النبي آدم (عليه
السلام) هي جنّة من جنان الدنيا تطلع فيها
الشمس وتغيب وليس بجنة خلد، إذ لو كانت كذلك
ما خرج منها النبي آدم (عليه السلام) أبداً،
نجد من العلماء من يقول بخلاف ذلك من قبيل ما
ذكره عبد الله شبّر في حق اليقين بأن أكثر
المتكلمين والمفسرين هم على قول أن جنّة النبي
آدم (عليه السلام) التي ذكرها الله تعالى في
القرآن كانت جنة الخلد
[533] ، فأيهما نصدّق،
وبأيهما نأخذ للارتكاز إليه والتدليل عليه ما
دام العلماء على اضطراب في هذه المسألة، وكيف
يمكن لنا أن نفهم آيات الخلود في القرآن
وخصوصاً الآيات التي تعرض لدوام السماوات
والأرض؟ وإن كنا نرى أن ما ذهب إليه العلامة
الطباطبائي (قده) هو الموافق لأدلة العقول من
خلال ظواهر الآيات، لأنّ الله تعالى قال بأن
الأرض تتبدّل وكذلك السماوات، أما كيف يكون
ذلك، فلا نعلم إلاّ ما جاء به السمع من ذلك.
ولذا، نرى أن العلماء قد خلطوا كثيراً في
بحوثهم بين القرآن وبين ما جاء من روايات قد
لا تكون صحيحة لا في المتن ولا في السند إلا
أن تكون متواترة لا يبحث فيها عن شيء من ذلك،
لأن التواتر كما يقول الوحيد الخراساني لا
يحتاج إلى بحث في سنده لا عند العلماء ولا حتى
عند الجهلاء، وعلى مبنى علماء الأصول قوة
المتن قد تكون دليلاً على صحة السند
[534] ..
إنّ ما تقدّم من كلام لا يعفينا من الإجابة عن
سؤال أولئك العصاة أصحاب الكبائر الذين دخلوا
في جهنم، فهل يخلدون فيها أو يخرجون منها
طالما أن هناك من العصاة مَن لا يدخلون الجنة
بل يُعفى عنهم بعمل أو بشفاعة؟ وهنا لا ينبغي
لأحد أن يسيء الفهم ليقول بأننا نحسم الجدل
الذي استغرق العلماء فيه قروناً من الزمن،
فيما عرضوا له بشأن العصاة وأصحاب الكبائر،
فنحن لا نرى أن العذاب ينقطع عنهم لما سبق
ذكره من كلام في الواقعة عن المنازل، فلا نقول
قول المرجئة، ولا قول المعتزلة والخوارج، ولا
قول الأشاعرة، بل نقول إن خط السير لهؤلاء
العصاة يبدأ لهم من البرزخ، فإما أن يكونوا من
المقربين، وإما أن يكونوا من أهل اليمين، وإما
أن يكونوا من المكذبين الضالين، فإن كان هؤلاء
العصاة من المكذبين الضالين، فلهم.. حتماً،
نزل من حميم وتصلية جحيم، ولعل تقديم المكذبين
على الضالين، ناظر إلى إفادة التكذيب الذي
عاقبته الجحيم، وإلاّ فإنّ الإنسان قد يكون
ضالاً، غير مكذب، فلا يستحق هذه المنزلة، ما
يعني أن المكذبين لهم هذا النزل، وهذه
التصلية، وهم خالدون فيها، باعتبار أن المكذّب
قد يكون مشركاً أو كافراً، أو فاسقاً، أو
منافقاً، أو غير ذلك، إذ لا حصر للتكذيب في
دائرة الكفر والشرك والنفاق كما يحاول بعضهم
أن يفسّر الكلام وفق الهوى والرأي، وإذا صحَّ
أن أصحاب الكبائر هم من المكذبين، فلا بدّ أن
يخلدوا بالعذاب في جهنم، وأما إن لم يكونوا
كذلك وكانوا عصاة فيتجاوز الله تعالى عن
سيئاتهم ولا يدخلهم النار من أول، بل يدخلون
في ضمن أهل السعادة بما يكون لهم من عمل، أو
شفاعة، أو غير ذلك مما يجعلهم من أهل السعادة.
وهذا، برأينا، ما لم يلتفت إليه أحد من
العلماء والمفسرين، وندّعي أنه فهم جديد لمعنى
الخلود في جهنّم من خلال سورة الواقعة، وهذا
ما لا نقرّ به لانفسنا وإنما هو بتوفيق الله
تعالى بعد أن تأملنا جيداً في منازعات الفرق،
وفيما يعنيه الخلود والعذاب، وخاصة لأهل
الكبائر ممن كذّبوا وضلّوا وادّعوا الشهادتين
في الوقت الذي لم يأتوا بشيء فيه من الالتزام
بمقتضى هذه الشهادة عملياً، وكل مَن كان في
قلبه ذرّة من الإيمان لا يدخل جهنّم، لأنّ هذا
الإيمان رادع له عن الإتيان بالكبائر التي
توجب له الخلود في العذاب، وهو إن أتى بشيء من
ذلك، فلا يكون عن عناد، أو تكذيب، أو استخفاف،
وهذا ما لم يفصّل فيه الكلام عند العلماء.
كما أنه لا ينبغي أن يفوتنا الكلام عمّن خلقوا
لجهنم بلام العاقبة، كما قال تعالى: ﴿
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
﴾
[535] ، فالآية لا تفيد أنهم خلقوا
لذلك على نحو يُستفاد منه الجبر أو الإكراه،
بل هي ناظرة إلى أن هؤلاء أدى بهم اختيارهم
إلى هذا المصير، وقد بيّن العلماء معنى أن
تكون اللام داخلة على الاسم والفعل، فهي هنا
لام العاقبة لكونها دخلت على الاسم بخلاف قوله
تعالى: ﴿
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ
﴾
[536] ، فاللام هنا لام
الغاية، وهذا منطلق أساسي لفهم معنى أن يخلقوا
لجهنم، وقد ذكر هذا المعنى بشكل واضح ابن
شهرآشوب في متشابه القرآن
[537] ، والشيرازي
في تفسيره الأمثل
[538] ، فرأوا أن هذا الكثير
ممن خلق لجهنّم ليس خاصاً بأهل الكفر والنفاق،
وإنما يطال العصاة الذين كذّبوا وأتوا الكبائر
ولم يتوبوا عنها من قريب، إذ لا معنى لتخصيص
هذه الآية بالكفار على قاعدة من قال: «إن مَن
خلقه الله لجهنّم، لم يخلقه ليتّقي، كما أفاد
القرطبي
[539]
، أو أن الله خلق للنار أهلاً
بعدله»
[540] ، لأن الله تعالى قد بيّن الواجب
من الخلق، فقال: ﴿
لِيَعْبُدُونِ
﴾ ، لا ليكونوا في جهنم،
فهو هدى لجميع العباد، وخلقهم على الفطرة ولا
يجوز أن يضلّ أحداً. أما ما ذهب إليه القرطبي
حول الفطرة، فإنّ الله تعالى فطر الناس عليها،
وأنها لا تعني العموم، وإنما المراد بالناس
المؤمنون، إذ لو فطر الجميع على الإسلام لما
كفر أحد، فهذا قول لا يستقيم مع قوله تعالى:
﴿
لِيَعْبُدُونِ
﴾ كونه شاملاً لعموم الجنّ والإنس، فهل
يعقل أن يكونوا قد خلقوا للعبادة، وهم في
الأساس أو بعضهم مفطورون على الكفر، كما في
تأويلهم للكلام في الذي قتله الخضر، وقالوا:
إنه طبع يوم طبع كافراً. فإذا كان الأمر كذلك،
فما يكون معنى أن يكلف جميع الناس أن يخلقوا
للعبادة إذا كان بعضهم قد طبع على الكفر، وعلم
الله تعالى أنه لن يؤمن ثم يدعوه إلى الإيمان؟
إن الخلق لجهنم تفسيره أن هناك من الناس من لا
يهتدي إلى ما أمر الله تعالى..، ومنهم من
يؤمن، وكل ذلك بعلم الله تعالى، وهذا ما تفيده
لام الغاية، إذ نجد الكثير من الناس ليسوا
بمؤمنين، ولو كان الأمر خلاف ذلك لما صحّ
الكلام، لأن الواقع بخلاف ذلك. وعليه، فإنّ ما
يزعمه بعضهم في صرف الآيات عن ظاهرها لتخدم
منطلقه ومبانيه الكلامية والفكرية، لا يوافق
القرآن والسنّة، ومؤدّاه أن يقولوا بأن أحداً
لا يخلد في جهنم من العصاة والمكذبين وأصحاب
الكبائر، وهذا المسلك سلكه بعض الباحثين في
تلاعبه على ألفاظ الخلود والمكث واللبث في
القرآن بتأويل الآيات على النحو الذي يؤدي إلى
القول بفناء النار وعدم الخلود فيها للعصاة
وأهل الكبائر من قبيل القول بأن صفة الغضب
الإلهي واللعن صفة عارضة غير مستمرة وذلك
يقتضي تحديد العقاب وفناء النار وخروج أهلها
برحمة الله الواسعة إلى الجنّة في نهاية
المطاف، وهذا كلام لا ينسجم أبداً مع ما زعمه
أصحاب هذه المدرسة من ذرأ خلق كثير لجهنم، أو
قولهم بالطبع على الكفر، بل هو مناقض لقولهم
بالخلق لجهنم لأن من يخلق لجهنّم لا يكون له
الفناء عنها، هذا أولاً.
ثانياً: ليس في كلام هؤلاء ما يوافق القرآن
إطلاقاً، لأنه استعمل الخلود بصيغة اسم الفاعل
التي تفيد الحال والاستقبال وبأن الناس هم
أصحاب الفعل ولم يقع عليهم من خارج كما هي
إفادة صيغة اسم المفعول، فالمسألة ليست
إطلاقاً أن هناك حقوقاً لله تعالى وللناس أو
وعيداً لا بدّ أن يتحقق ثم تنتهي أمور الآخرة
على هذا النحو، فهذا تأويل على الله تعالى
وتكذيب له فيما أخبر به من خلود لأهل الجنة
ولأهل النار بصيغة التأبيد تارة، وبصيغة
الفاء، كما في قوله تعالى: ﴿
فَحَقَّ وَعِيدِ
﴾ ، وهي فاء
مفيدة للعلة، كما يرى علماء الأصول، أي بعلة
كفرهم حق الوعيد لهم والخلود في جهنم، فكيف
يزعم هؤلاء أن كل شيء في العذاب إلى انقطاع
تعويلاً على رحمة الله الواسعة وأين العدالة
الإلهية، والحكمة الإلهية؟ وهل يحق لهؤلاء أن
يتحدثوا عن الغضب واللعن كأنه غضب إنساني ولعن
إنساني نجد له تسويات ومصالحات. إن هذه
المزاعم هي خلاف النص وتؤدّي إلى التكذيب
المفضي إلى الكفر واللعن بحق مَن يزعم ذلك أو
يؤمن به...
[541] !؟
ثم إنه فيما زعموه أيضاً من تأويل بأن العدل
الإلهي يقتضي أن يكون العقاب مناسباً للعمل
وليس أكبر أو أكثر منه، زاعمين أنه مهما كان
العمل الإجرامي كبيراً فهو لا شكّ محدود في
النهاية، وبالتالي لا بدّ من محدودية وانتهاء
مدة العقاب! وهنا يكفي القول: إنّ هؤلاء
يضمنون لفرعون وهامان وقارون ولكل الطغاة في
التاريخ أن يكونوا على موعد مع الجنة غداً!!!
فالعجب العجب من باحثين وعلماء تذهب بهم
المذاهب إلى تقدير خلق الله وأسمائه وصفاته
وأفعاله بما يكون للإنسان من ذلك، وقد قال
الإمام علي (عليه السلام) بمضمون كلامه: «لا
تقدِّروا الله على قدر عقولكم فتكونوا من
الهالكين».
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العلامة شبّر قد ردّ
على مزاعم هؤلاء مفنّداً آرائهم، ومبيّناً
لخلط هؤلاء بين فهمهم للعقوبة في الدنيا
والآخرة وكأن خصائص الدنيا والآخرة واحدة،
وهذا كله ناشئٌ عن كونهم يخلطون بين أحكامهم
وأحكام الله تعالى
[542] . وهم يعلمون من
أنفسهم أنه لو كشف الغطاء وكان البصر حديداً
لما تحدثوا في العيان، كما يتحدثون في الكلام،
ولبان لهم معنى أن يكون البصر والبصيرة
حديداً. وهذا ما أجاب عليه العلامة السبحاني،
بقوله: «إنّ من السنن العقلية المقررة رعاية
المعادلة بين الجرم والعقوبة، وهذه المعادلة
منتفية في العذاب المخلّد، والمسألة ليست
كميّة وزمانيّة كما يفهم هؤلاء، رغم أنهم يرون
في حياتهم الاجتماعية وقوانينهم الحاكمة كيف
أن الجرم يقع في زمان محدود وقليل ثم تكون
العقوبة عليه بالإعدام والحبس المؤبّد...»
[543] .
لقد أتى الشهيد مطهري بتعليلات كثيرة حول
مزاعم هؤلاء، وما تتميز به الآخرة عن الدنيا
من خصائص. ولا يمكن مقايسة أفعال الله تعالى
وعدله، بأعمال وأفعال العباد، فلا يُقال بأن
المكوث في الجنة أو النار جاء بصيغة زمنيّة
محدّدة ظنّاً منهم أن قوله تعالى: ﴿
لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً
﴾
مفيد للنهاية في العذاب، أو أن: ﴿
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
﴾ ،
مقيد لذلك
[544] ، رغم أن النص واضح في الذين
فسقوا، بقوله تعالى: ﴿
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ
مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ
ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم
بِهِ تُكَذِّبُونَ
﴾
[545] . وكذلك قوله
تعالى: ﴿
وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ
عَنْهُ ...
﴾
[546] ، فهذه الآيات
ناظرة إلى أن هؤلاء لا يخفف عنهم العذاب لعلم
الله القديم بهم، وكما قال الطباطبائي: «إن
علم الله الذاتي لا يحتاج إلى امتحان، وأما
العلم الخارجي، فهو الذي يتحقق بما يكون من
هؤلاء لجعلهم مستحقين لما يؤلون إليه من ثواب
أو عقاب، ذلك أن الله تعالى لا يحاسب على علمه
القديم، وإنما بما يظهر من الأعمال»
[547] ،
لذا، فإنّ ما يزعمه هؤلاء من تأويل للآيات
لتخليص الكفار، هم إنما يزعمون جهلاً، لأن
القرآن في كثير من الآيات يتحدث عن الخلود
بقوله: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
﴾ ، سواء فيما وعد به أم في
ما أوعد عليه، فإذا قلنا بانقطاع العذاب
وانتهائه، فإن مآل الأمر إلى أن يكون الخلود
منقطعاً، سواء لأهل الجنة أم لأهل النار، فإن
قيل بل هو لأهل النار. قلنا: إنه ترجيح من غير
مرجّح، طالما أن مرتكزكم في ذلك هو اعتقادكم
بالزمن المحدود. فلما يكون هذا الزمن لأهل
النار دون أهل الجنّة؟
وهكذا فقد خلط هؤلاء بين رغبتهم وعقولهم
القاصرة، وبين قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه،
فأوّلوا الآيات وفق المشتهى، قناعة منهم بأنهم
يؤمنون برحمة الله الواسعة، وقد قلنا في
بحوثنا الآنفة، إن الله تعالى يريد لك أن تسمع
وتعقل عنه، لا أن يكون لك رأيك فيما تراه سواء
في الجنة أم في النار، فقط أنت مسؤول فيما
كُلّفت به، وأقدرت عليه أن تكون حيث أمرت، وأن
تؤمن بأن لله تعالى من القدرة والحكمة والرحمة
ما لا يتّسع له هذا العالم، وقد علمنا أن
الناس يتعايشون برحمة من مئة رحمة، وفي الآخرة
يتعايشون بمئة رحمة، فأين أنت مما تقوله على
الله تعالى من رأي، وقد نهى الله تعالى عن ذلك
متوعداً بالعذاب الأليم لمن يقول في القرآن
برأيه، أو يحرّف الكلم عن مواضعه. ولعلّ أكثر
ما يدلّ على ذلك، هو أن الله تعالى خاطبنا
بالخلود وبسائر المفردات التي نستطيع من
خلالها تحسّس الحقائق بهدف تعقّلها. أما هي في
ذاتها في أصل وضعها لا تحتمل حقائق العلوم
الإلهية والأسماء الإلهية، كيف لا، وقد قال
تعالى: ﴿
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
﴾
[548] .
إنّ الذي يتبادر إلى أذهان الناس من ظواهر
الآيات، هو أن الخلود في الجنة أو في النار
ليس خلوداً منقطعاً، لأن الله لا يتحدث إليك
عن الآخرة باعتبارها تعيش الزمان والمكان
والتاريخ وحركة الأفلاك، فهناك توجد كلمات
أخرى غير الأرض والسماء، وغير الزمان
والتاريخ، إلاّ أنت أيها الإنسان تبعث في
النشأة الأخرى كما بعثت في النشأة الأولى،
وأكثر ما يدلّ على ذلك، هو أن الله تعالى قال:
﴿ يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ
﴾
[549] ، فلم يقل عن البديل ما
هو؟ والبديل لا يعني أنك لست مخلداً في العذاب
إذا كنت ممن يكفرون بالله تعالى، أو يقولون
بما لا يعلمون في القرآن والسنّة فما أحرانا
أن نؤمن بما أنزل الله تعالى، وأن نسلّم
بالآيات كما جاءت، قبل أن نعي تماماً معنى
قوله تعالى: ﴿
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ...
﴾
[550] ، أو قوله
تعالى: ﴿
سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا
﴾
[551] ، لكن لا بالكلمات،
وإنما بالحقائق والعيان، يوم يكون البصر
حديداً والإنسان جديراً فيما أعدّ له من ثواب
وعقاب... تلك هي خاتمة المطاف.
قد يُقال: إن ما عرضتم له من بحوث في الوعد
والوعيد لم يأتِ على ذكر الشفاعة بما لها من
علاقة وطيدة ووثيقة مع الوعيد، لكونه لو لم
يكن هناك وعيد لما كان هناك شفاعة، فالوعيد
يحتّم أن تكون للإنسان شفاعة كما بيّن القرآن
الكريم، حيث نجد أن الكتاب العزيز قد نصّ على
مَن تكون له ومن لا تكون له شفاعة كالظالمين
والكفار والمنافقين والفاسقين أيضاً الذين
قطعوا علاقتهم الإيمانية بالله تعالى
[552] .
ولعل أحداً قبلنا لم يعرض للبحث في سياق رؤية
متكاملة في الوعد والوعيد والتوبة والشفاعة
والعفو وغير ذلك مما تداخل في البحث على نحو
غير مسبوق عند الباحثين، وبحق نقول في الإجابة
على مَن يتساءل: إننا لم نغفل الشفاعة في
بحوثنا، وإنّما أتينا بها في سياق ما عرضنا له
عن موانع لحوق الوعيد في القرآن، إذ تبيّن لنا
أن الشفاعة لا تكون لأهل الكبائر الذين كذّبوا
وظلموا باعتبار أن سورة الواقعة قد رسمت الخط
البياني العريض لفهم مآلات تحول الإنسان في
البرزخ والآخرة معاً، ولعل مرتكز البحث هنا هو
ما تعرفنا إليه من أن عصاة المسلمين لا يدخلون
النار، وإنما يُعفى عنهم في الطريق إلى حيث
يستحقونه من ثواب، وقلنا إن هذا العفو لا يكون
جزافاً، بل يكون بعمل أو شفاعة تدخلهم إلى
الجنة من الأول وليس بعد دخولهم النار، لأن
المؤمن حقاً لا يدخل النار حتى ولو أتى باللمم
من الذنوب
[553] .
وانطلاقاً من ذلك، نرى أنه إذا كانت الشفاعة
لا تلحق أو لا تكون لمن تاب عن ذنبه واستغفر
ربه
[554] ، فإنها لا تكون للمشركين والكافرين
والمنافقين، والشاكين والظالمين، كما أنها لن
تكون للمكذبين الذين استخفّوا بالدين والإيمان
[555] ، واستكبروا في الأرض وأفسدوا فيها،
وقتلوا الأولياء الصالحين، لقوله (صلى الله
عليه وآله وسلم): «إذا قمت المقام المحمود
تشفّعت في أصحاب الكبائر من أمتي، فيشفعني
الله فيهم، والله لا تشفّعت فيمن آذى ذرّيتي»
[556] ، هذا وقد استفاض الكلام في بحوث هذا
الكتاب، الكلام في معنى تحقق المغفرة والتوبة
فيما لو توفر الإنسان على شروط ذلك، كما في
قوله تعالى: ﴿
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى
﴾ ، فهذه الآية
ناظرة كما بينّا في بحوثنا إلى أن تحقق
المغفرة إنما يكون بالإتيان بكامل الشروط التي
بيّنتها الآية من توبة وإيمان وعمل صالح
وهداية، وبما أن الناس في تاريخ الأمم قد
انقسموا بين مَن هو مؤمن وعامل للصالحات
ومهتدٍ إلى سبيل ربّه بتولّي الصالحين، وبين
مَن هو مؤمن وعامل للصالحات دون أن تكتمل
عناصر الهداية لديه، وقد قال الله تعالى: ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً
﴾
[557] . فإذا لم نعلم ما
مفاد الآية وما تعنيه من إكمال للدين وإتمام
للنعمة، وتولّي لله ورسوله وللذين آمنوا، فلن
نكون مهتدين إلى حقيقة ما أمر الله به ونهى
عنه. وهنا السؤال: هل يشفع لمن لم يهتدِ؟ وإلى
مَن لا يعرف إمام زمانه الذي به إكمال الدين
وتمام النعمة؟
نحن نرى أن الاهتداء إلى هذا الباب والدليل
المشار إليه بقول المعصوم بُني الإسلام على
خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية
[558] . فإذا لم نهتدِ إلى هذا الدليل بما هو
مفتاح لصحة كل إيمان وكل عمل وكل هداية، فإنه
لن تكون هناك شفاعة.لأنّ الشفاعة والمغفرة
إنما تتحقق لمن اهتدى أيضاً. وقد سألنا في
بحوثنا، لما هذا التراخي في العطف في: ﴿
ثُمَّ اهْتَدَى
﴾
إلاَمَ يُشير؟
نعم، قلنا هذه الشفاعة لن تكون ممكنة لا من
الرسول ولا من غيره وخاصة إذا كان عدم
الاهتداء ناشئاً عن استكبار وتكذيب واستخفاف
وتقصير وعناد، بل وأكثر من ذلك، إذا كان السبب
هو الجرأة على الله تعالى وعدم السمع والعقل
عنه عزّوجلّ فلا يُقال: إنّ مَن شهد
الشهادتين، وصلّى إلى القبلتين، وآمن
بالنشأتين، تكون له الشفاعة، لقول رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): «ولا يغرّنكم
صلاتكم وصيامكم وعبادتكم السالفة، إنّما
تنفعكم إن وافيتم العهد والميثاق»، والميثاق
هو التوحيد والنبوة والولاية، وليس أي ولاية،
وإنّما ولاية الإمام علي (عليه السلام)
والأئمة المعصومين (عليهم السلام) من بعده،
وكيف لا يكون هذا الأمر صحيحاً، وقد جاء
الحديث متواتراً عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) أنه قال: «مَن لم يؤمن بحوضي فلا
أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا
أناله الله شفاعتي». وهل ندري ما هو الحوض
هنا؟ إنه ما أشار إليه في حجة الوداع بقوله:
«أيها الناس: إني فَرَطَكم وأنتم واردون عليَّ
الحوض، ألا إني سائلكم عن الثقلين... كتاب
الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا،
ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم
أعلم منكم...»
[559] ، وهنا نسأل: أفكَّر
البصير العاقل أن الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) يشفع لمن سبق وقصّر وادعى العلم عناداً
وتكبّراً واستخفافاً، أم أن الشفاعة تكون لمن
اهتدى بهم وأخذ عنهم وجاء بالكبيرة جهلاً
وقصوراً؟ وهذا إن دلَّ على شيء فإنّه يدلّ على
أن ملاك الشفاعة هو أن يكون الإنسان متحققاً
بالإيمان بالله والنبوة والولاية، حتى إذا
صدرت منه بعض الذنوب والمعاصي تأتيه الشفاعة
لتلحقه بالصالحين والمؤمنين في الجنة، وإلاّ
فإنّ مَن يدخل النار ويكون جهنّمياً كيف يصحّ
القول فيه أنه يدخل الجنة، وهل يدخل الجنة إلا
الطيب كما جاء عن صادق آل محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم)؟
وهل للشفاعة دور ووظيفة أن تخرج الناس من
النار إلى الجنّة؟
ألسنا نعلم أن النبوة في أصل بعثتها إنما جاءت
للاحتجاج بالتبليغ ولإثارة دفائن العقول، فما
يكون معنى القول: إنّ الشفاعة منوط بها أن
تأخذ بأهل الكبائر من النار إلى الجنة، وأهل
النار في الأساس لم يهتدوا بها ولم يأخذوا
عنها، هذا فضلاً عمّا ادّعوه من هذيان بحقها!؟
لقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) : «إنّما
شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون
فما عليهم من سبيل»
[560] ما يفيد بأن الكبائر
قد تكون من عصاة المسلمين، ولكنها غير قائمة
على التكذيب وعدم الاهتداء فتأتي الشفاعة
لترفع الضرر عن هؤلاء لا لتزيد في درجاتهم
[561] ، إذ إنّ ملاك المنفعة هو الأعمال وليس
الشفاعة كما ذهب المعتزلة وغيرهم إلى نفي
الشفاعة في دائرة الضرر، إن ما عرض له
السبحاني في شروط الشفاعة، وما عرض له الفيض
الكاشاني في معناها أيضاً، إضافة إلى عبد الله
شبّر، وقبلهم الطوسي، والطبرسي، والمفيد، وكل
من له باع في علم الكلام، هم طرقوا موضوع
الشفاعة في إطار كلامي للمجادلة والمخاصمة،
وذهبوا مذاهب شتّى فيما زعموه بالجمع بين
الآيات، ليُستفاد منها أن الشفاعة لا تنال
الشرك والكفر والظلم، ولكنهم سهوا عن أن مناط
البحث إنما يكمن في موضوع الهداية وارتضاء
الدين، إذ إن هناك من آمن وعمل صالحاً وارتكب
الكبيرة، وهناك مَن آمن وعمل صالحاً واهتدى
وارتكب الكبيرة، فلا يظنّن أحد أن الشفاعة
تكون في مجال الإيمان والعمل الصالح دون
الهداية، وإنما هي تكون لمن جاء باللمم من
الذنوب، فتأتيهم الشفاعة في الطريق إلى الجنة،
وليس من عجيب أبداً أن يُقال: إن الشفاعة تلحق
الإنسان من أول منازل الآخرة الذي هو القبر ثم
في طريق البرزخ وإنّ الناس في هذا العالم لا
بدّ أن يكونوا على ثلاث حالات. فهم إما
مقرّبون، وإمّا أهل اليمين، وإمّا أهل الشمال،
وهم في هذه المنازل يسيرون باتجاه الآخرة
لمنازل سمّاها القرآن بقوله تعالى: ﴿
وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً
﴾ ،
وهذا يدلّ على أن الشفاعة تلحق الإنسان المؤمن
المرتكب للكبيرة في أول منازل القبر لأنّ
القرآن لم يتحدّث عن منازل أخرى غيرها، فإذا
ما كان هذا الإنسان من أهل اليمين فيقال له:
﴿ فَسَلَامٌ
لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
﴾ ، وأما إن يكون من المقرّبين،
فيقال له: ﴿
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
﴾ ، وأما إن كان من
المكذبين الضالين، فيُقال له: ﴿
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ ﴾
، وهذا يؤكد لكل ذي لبّ أن يوم القيامة سيكون
يوماً مشهوداً لهؤلاء جميعاً، فلا يُقال بأن
أهل الكبائر الذين كذّبوا وضلّوا وشقوا
وقصّروا واستخفّوا هم خارج دائرة أهل الشمال
أو أهل المشئمة، وبهذا يتحتّم القول إن
الشفاعة قد تتحقق في الطريق إلى القيامة، ما
يؤكّد قول العلامة الكبير الطباطبائي في أن
عصاة المسلمين لا يدخلون النار، بل هم أهل
سعادة ومنزلهم الجنة التي وعدهم الله تعالى،
ويكفي للتأكيد على هذا المعنى في موضوع
الهداية، قول الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم): «والله لا تشفعت فيمن آذى ذريتي»
[562]
، وليس لأحد أن يدّعي أن هؤلاء إن كانوا من
أهل الكبائر يُعفى عنهم لكونهم شهدوا
الشهادتين، وأدّوا فرائض الإجلال لله تعالى
لما ذهب إليه القرآن بقوله تعالى: ﴿
لَّا
يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ
اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ﴾
[563] . والعهد هو ما قاله رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعا إلى
الوفاء به قولاً وفعلاً. فإذا كان بعضهم يرى
صحّة لفروضه وإيمانه، ﴿
فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
﴾ ، ويسأل: هل
هو من أهل المعين والتقوى، أم أنه من عقول
الرجال ومدارس الفرق؟ فالعبرة ليست بما يؤديه
الإنسان من عمل والتزام في فروع دينه كيفما
اتفق، وإنّما لا بدّ أن يأتي بالأعمال، ويحقق
الإيمان الذي يرضى الله عنه، فإذا لم تصح
الأصول عند الإنسان فيما يلتزم به من عهد
وميثاق، فكيف يمكن أن يطمئن إلى صحة فروعه في
الدين وما يأتيه من صوم وصلاة وحجّ وزكاة، وهو
جاهل بمن جعله الله تعالى باباً إليه وسبباً
في الوجود والعلم والهداية في الدنيا والآخرة؟
إذ من دون ذلك لا يمكن للإنسان أن يعلم حقيقة
التنبيه والتذكير والوعد والوعيد وقد رأينا
كيف أن أهل البيت (عليهم السلام) قد صححوا في الدين والعقيدة
والشريعة والسياسة، ما أدّى إلى ضمان تحوّل
الإسلام المحمدي الأصيل، وكلنا يعلم كيف أن
كربلاء قد أدّت بهذا الدين إلى أن يكون قائماً
في كل زمان ومكان رغم جولات الباطل وجولات
المبطلين!؟ ذلكم هو معنى الشفاعة، وأن تكون
لأهل الكبائر من أمة الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم)، الذي قال عنها الإمام الصادق
(عليه السلام) : ولو أن ناصباً شفع له كل نبي
مرسل وملك مقرّب ما شفعوا
[564] ، وغداً يقول
هؤلاء، فما لنا من شافعين، لأنهم كذّبوا وشكوا
وفسقوا ولم يهتدوا إلى أمر الله ونهيه، وإلى
ما تكون به الحياة في الدين والدنيا.
ختاماً، نرى أنّ آيات الشفاعة في القرآن واضحة
وصريحة في أنها لا تكون إلاَّ لمن تاب عن
ذنبه، وهذه التوبة لا تكون في الآخرة، ولا في
البرزخ، بل في الدنيا. وإذا كنّا قد تحدّثنا
عن المشيئة، والعفو، والتوبة، والمغفرة وغير
ذلك، فإن هذا كله لا يعني أن شيئاً من ذلك
يحصل جزافاً وإنّما لحكمة وفق العدل الجزائي
لله تعالى. وهذا حكم العقل والشرع وكل مَن
يزعم أن الشفاعة تكون للفساق والعصاة ولأهل
الكبائر كيفما اتفق فهؤلاء لم يتدبّروا القرآن
جيداً، ولا عقلوا كلمات الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) بما يؤدّي بهم الى الصواب والسداد،
بل هم في غفلة عن هذا وغداً يبصرون، وأنّى لهم
ذلك؟ يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على
الظالمين، الذين فتنوا المسلمين وقتلوهم لا
لشيء إلا طمعاً بالدنيا وزخرفها. فالشفاعة لمن
ارتضى، ولا تكون إلاّ بإذن الله تعالى، وهي لا
تكون إلاّ لمن ارتضى دينه وإيمانه، فإذا مات
الإنسان عن توبة، فإنه يكون رهين توبته ولا
يكون من أهل الكبائر، لأن مَن تاب لا تبقى له
كبيرة، تماماً كمن تاب من كفره فلا يُقال له
كافر. وعليه، فإنّه لا مندوحة من التسليم بأن
الكفار والمشركين والمنافقين والظالمين
والمكذبين لا تلحق بهم شفاعة، ولا يكون لهم
عفو، لما أكّده القرآن من وعد ووعيد. ولن يخلف
الله وعده، سواء في الجنة أم في النار، إنّ
الله تعالى لا يخلف الميعاد والحمد لله ربّ
العالمين، وسلام على المرسلين، إنه وليّ
التوفيق.
1 ـ القرآن الكريم.
2 ـ نهج البلاغة.
3 ـ عبد الباقي، محمد فؤاد، المعجم المفهرس
لألفاظ القرآن الكريم، دار المعرفة، بيروت،
1991م.
4 ـ كاظم محمدي، محمد دشتي، المعجم المفهرس
لألفاظ نهج البلاغة، دار الأضواء، بيروت،
1986م.
5 ـ ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، مؤسسة
النعمان، بيروت، 1412هـ.
6 ـ ابن شهرآشوب، محمد بن علي المازندراني،
متشابه القرآن ومختلفه، انتشارات بيدار، قم،
1410هـ.
7 ـ ابن كثير، أبي الفداء إسماعيل، البداية
والنهاية، دار إحياء التراث العربي، بيروت،
1408هـ.
8 ـ ابن كثير، أبي الفداء إسماعيل، تفسير
القرآن العظيم، دار المعرفة، 1408هـ.
9 ـ ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار
إحياء التراث، بيروت، 1404هـ.
10 ـ ابن هشام، السيرة النبوية، مؤسسة
الرسالة، الكويت، 1984 م.
11 ـ ابن عربي، الفتوحات المكية، دار الشروق،
(لا ـ ت).
12 ـ أبو المظفر الإسفراييني، التبصير في
الدين، عالم الكتب، بيروت، 1983م.
13 ـ أحمد الشربيني، شمس الدين، الإقناع، دار
المعرفة، بيروت، (لا ـ ت).
14 ـ الأشعري، أبو الحسن، علي بن اسماعيل،
مقالات الإسلاميين، دار المعارف، 1985م.
15 ـ البحراني، يوسف، الحدائق الناظرة، قم،
1415هـ.
16 ـ البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري،
دار الفكر، تركيا، 1351هـ.
17 ـ البغدادي، عبد القاهر، أصول الدين، دار
الكتب العلمية، بيروت، 1980م.
18 ـ الثعالبي، عبد الرحمن، الجواهر الحسان في
تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي،
بيروت، 1418هـ.
19 ـ الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة،
دار العلم للملايين، بيروت، 1407هـ.
20 ـ حسن مكي، نظرية المعرفة، الدار
الإسلامية، بيروت، 1992م.
21 ـ الحلي، أحمد بن فهد، المهذب
البارع، قم، 1407هـ.
22 ـ الحويزي، عبد علي بن جمعة، تفسير نور
الثقلين، مؤسسة إسماعيليان، قم، 1414هـ.
23 ـ الخراساني، الوحيد، الحق المبين، دار
المحجة البيضاء، بيروت، 2004 م.
24 ـ الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير
القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1974م.
25 ـ الخياط، أبي الحسين محمد بن عثمان، كتاب
الانتصار، دار قابس، بيروت، 1986م.
26 ـ الرازي، فخر الدين، معالم أصول الدين،
دار الفكر اللبناني، بيروت، 1992م.
27 ـ الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ
القرآن الكريم، بيروت، (لا ـ ت).
28 ـ روح الله الخميني
(قده)، المكاسب المحرّمة،
مؤسسة إسماعيليان، قم، 1381هـ.
29 ـ الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس، بيروت،
مكتبة الحياة، (لا ـ ت).
30 ـ الزركشي، بدر الدين، البرهان في علوم
القرآن، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة،
1376هـ.
31 ـ زكريا بن محمد الأنصاري، فتح الوهاب، دار
الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ.
32 ـ زيد بن علي، مسند زيد بن علي، دار
الحياة، بيروت، (لا ـ ت).
33 ـ زين الدين بن محمد،المعروف بالشهيد
الثاني، روض الجنان، مؤسسة آل البيت لإحياء
التراث، 1404هـ.
34 ـ سبحاني، جعفر، الإلهيات، بيروت، دار
الجواد، بيروت، 2010م.
35 ـ سبحاني، جعفر، سيد المرسلين، دار البيان
العربي، بيروت، 1992م.
36 ـ سبحاني، جعفر، المفاهيم التفسيرية في
علوم القرآن، بيروت، دار الولاء، 2013م.
37 ـ السوسني، قتادة، مبادئ عامة، بغداد،
1409هـ.
38 ـ السيوطي، الحافظ، جلال الدين، الدر
المنثور، دار المعرفة، 1365هـ.
39 ـ الشريف الرضي، حقائق التأويل في متشابه
التنزيل، دار المهاجر، بيروت، 1406هـ.
40 ـ الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، دار
القرآن، قم، 1405هـ.
41 ـ الشريف المرتضى، علم الهدى، الانتصار،
مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1415هـ.
42 ـ شمس الدين، محمد جعفر، في ظلال سورة
الأنفال، دار التعارف، بيروت، 1982م.
43 ـ الشهرستاني، أبي الفتح محمد بن عبد
الكريم، الملل والنحل، دار صعب، بيروت، 1986م.
44 ـ الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الفصول
المختارة، دار المفيد، بيروت، 1993م.
45 ـ الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في
كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت،
2007م.
46 ـ صالح عضيمة، مصطلحات قرآنية، الجامعة
العالمية للعلوم الإسلامية، دار النصر، بيروت،
1994م.
47 ـ الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة،
دار التعارف، بيروت، 1990م.
48 ـ الصدر، محمد باقر، السنن التاريخية في
القرآن، دار التعارف، بيروت، 1983م.
49 ـ الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، كمال
الدين وتمام النعمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت،
1991م.
50 ـ الصفار، بصائر الدرجات الكبرى، مطبعة
الأحمدي، طهران، 1404هـ.
51 ـ الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1991م.
52 ـ الطبراني، سليمان بن أحمد، دار الحرمين،
(لا ـ ت).
53 ـ الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في
تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1415هـ.
54 ـ الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن
تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت، 1415هـ.
55 ـ الطريحي، فخر الدين، تفسير غريب القرآن
الكريم، قم، (لا ـ ت).
56 ـ الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين،
بيروت، 1408هـ.
57 ـ الطوسي، محمد بن الحسن، الاقتصاد فيما
يتعلق بالاعتقاد، دار الأضواء، بيروت، 1986م.
58 ـ الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير
القرآن، مكتبة الإعلام الإسلامي، قم، 1409هـ.
59 ـ عارف، هنديجاني فرد، حوار الأديان في
القرآن، جمعية القرآن الكريم، بيروت 2014م.
60 ـ عارف، هنديجاني فرد، علوم القرآن عند
العلامة الطباطبائي، جمعية القرآن الكريم،
بيروت 2013م.
61 ـ عارف، هنديجاني فرد، الفوز العظيم
والخسران المبين، جمعية القرآن الكريم، بيروت
2013م.
62 ـ عارف، هنديجاني فرد، المترفون وصناعة
الفساد، جمعية القرآن الكريم، بيروت 2014م.
63 ـ عبد الجبار، القاضي، شرح الأصول الخمسة،
بيروت، (لا ـ ت).
64 ـ عبد الله شبّر، تفسير القرآن، مؤسسة
الاعلمي، بيروت، 2009م.
65 ـ عبد الله
شبّر، حق اليقين في معرفة أصول الدين، مكتبة
الآداب الشرقية، بيروت، (لا ـ ت).
66 ـ العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري في شرح
البخاري، دار المعرفة، بيروت، (لا ـ ت).
67 ـ العسكري، أبو هلال، معجم الفروق اللغوية،
مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1412هـ.
68 ـ العظيم آبادي، محمد شمس الحق، عون
المعبود في شرح سنن أبي داود، دار الكتب
العلمية، بيروت، 1415هـ.
69 ـ العياشي، مسعود بن عياش، تفسير العياشي،
طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، (لا ـ ت).
70 ـ الغديري، عبد الله إبراهيم، القاموس
الجامع للمصطلحات الفقهية، دار المحجة
البيضاء، 1998م.
71 ـ الفاضل الهندي، بهاء الدين الأصفهاني،
كشف اللثام، قم، 1425هـ.
72 ـ الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين،
مؤسسة الهجرة، 1409هـ.
73 ـ الفضلي، عبد الهادي، موقف الإمامية من
الفرق الإسلامية، مؤسسة دار المعارف
الإسلامية، بيروت، 2005م.
74 ـ الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، تحقيق
الأعلمي، مؤسسة الهادي، قم، 1416هـ.
75 ـ الفيض الكاشاني، عالم ما بعد الموت، دار
المحجة البيضاء، بيروت، 2003م.
76 ـ القرطبي، أبو عبد الله الأنصاري، الجامع
لأحكام القرآن، دار إحياء التراث، بيروت،
1405هـ.
77 ـ قطب، محمد، كيف نكتب التاريخ، دار
الشروق، القاهرة، 1992م.
78 ـ الكتاب المقدس، دار المشرق، بيروت،
1988م.
79 ـ الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي،
مطبعة الحيدري، 1365هـ.
80 ـ المتقي الهندي، كنز العمال، مؤسسة
الرسالة، بيروت، (لا ـ ت).
81 ـ المجلسي محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة
الوفاء، بيروت، 1983م.
82 ـ محمد سعيد الحكيم، مصباح المنهاج،
التقليد، قم المقدسة، 1415هـ.
83 ـ محمد بن إسماعيل الصنعاني، رفع الأستار
لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، المكتب
الإسلامي، بيروت، 1405هـ.
84 ـ الشيخ الصدوق، محمد بن علي، تحقيق قسم
الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، قم
المقدسة،ط1، 1417 هـ.
85 ـ مسلم بن حجاج النيسابوري، صحيح مسلم، دار
الفكر، بيروت، (لا ـ ت).
86 ـ المشهدي القمي، محمد رضا، تفسير كنز
الدقائق وبحر الغرائب، قم المقدسة، 1407هـ.
87 ـ مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، الدار
الإسلامية، بيروت، 1985م.
88 ـ المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، مؤسسة
الأعلمي، بيروت، 1990م.
89 ـ المظفر، محمد رضا، علم المنطق، دار
التعارف، بيروت، 1995م.
90 ـ معرفة، محمد، تلخيص التمهيد، دارالميزان،
بيروت، 1991م.
91 ـ مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار
العلم للملايين، بيروت، 1981م.
92 ـ مغنية، محمد جواد،علم أصول الفقه في ثوبه
الجديد، دار التيار الجديد، بيروت، 1992م.
93 ـ المفيد، محمد بن نعمان، الإرشاد، مؤسسة
الأعلمي، بيروت، 1979م.
94 ـ المفيد، محمد بن النعمان، أوائل
المقالات، دار الكتاب الاسلامي، بيروت، 1983م.
95 ـ المناوي، محمد عبد الرؤوف، فتح القدير،
دار الكتب العلمية، بيروت، 1425هـ.
96 ـ نصير الدين الطوسي، كشف الفوائد، دار
الصفوة، بيروت، 1993م.
97 ـ النشار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي في
الإسلام، دار المعارف، القاهرة، (لا ـ ت).
98 ـ النيسابوري فتال، محمد بن أحمد، روضة
الواعظين وبصيرة المتعظين، منشورات الرضا، قم،
(لا ـ ت).
99 ـ الهيثمي، نور الدين، بغية الباحث عن
زوائد مسند الحارث، دار الطلائع، بيروت، (لا ـ
ت).
100 ـ الهيثمي، نور الدين، مجمع الزوائد ومنبع
الفوائد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988م.
101 ـ الهمداني، أحمد الرحمان، الإمام علي،
طهران، 1417هـ.
102 ـ الواسطي، علي بن محمد الهيثمي، عيون
الحكم والمواعظ، دار الحديث، 1376هـ.
103 ـ اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف
القرآن، الدار الإسلامية، بيروت، 1989م.
104 ـ اليزدي، محمد تقي المصباح، العقيدة
الإسلامية، دار الحق، بيروت، 1993م.
105 ـ تفسير الإمام العسكري، تحقيق ونشر مدرسة
الإمام المهدي (عج)، ط 1، قم 1409هـ.
[252] سورة البقرة، الآية: 38.
[253] سورة الأنفال، الآية: 37.
[254] سورة النمل، الآية: 40.
[255] سورة الطلاق، الآية: 3.
[256] سورة القصص، الآية: 61.
[257] را: النيسابوري، محمد بن فتال، روضة
الواعظين، (ت 508هـ)، تحقيق محمد الخسران،
منشورات الرضا، قم، (لا ـ ت).
[258] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج
البلاغة، م. س، قصار الحكم: 130.
[259] سورة الملك، الآية: 2.
[260] سورة العنكبوت، الآية: 57.
[261] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج
البلاغة.
[262] الشيخ المفيد، الإرشاد، مؤسسة آل البيت
(عليهم السلام)،ط 1995،ج1, ص182.
[263] م. ع، ص180.
[264] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج
البلاغة، م. س، الخطبة: 138.
[265] سورة الأنفال، الآية: 24.
[266] سورة الشورى، الآية: 23.
[267] سورة الأنعام، الآيتان: 27 ـ 28.
[268] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، دار
الوفاء، بيروت، 1983، ج9، ص330.
[269] سورة الرعد الآية: 25.
[270] سورة البقرة، الآية: 40.
[271] سورة النساء، الآية: 59.
[272] سورة القصص، الآية: 77.
[273] انظر: الهيثمي، نور الدين، بغية الباحث
عن زوائد مسند الحارث (ت807هـ)، تحقيق محمد
السعدني، دار الطلائع، ص224.
[274] النيسابوري، محمد بن فتال، روضة
الواعظين (ت 508هـ) تحقيق الخرسان، منشورات
الرضا، قم، ص103.
[275] سورة الرعد، الآية: 7.
[276] سورة الزلزلة الآيتان: 7 ـ 8.
[277] المتقي الهندي، كنز العمال، (ت 975هـ)
مؤسسة الرسالة، بيروت، ج15، ص936.
[278] الحلي، ابن فهد، المهذّب البارع، (ت
841هـ) تحقيق مجتبى العراقي، قم، 1407هـ، ج1،
ص277.
[279] صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل، م. س،
ج7، ص188.
[280] الهيثمي، نور الدين، مجمع الزوائد ومنبع
الفوائد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، ج7،
ص213. وقا: مع الطبراني، سليمان بن أحمد، (ت
360هـ)، دار الحرمين، ج5، ص247.
[281] من مزاعم المناوي أيضاً في فيض القدير
عن خاتمة الأعمال، قوله: «فعلى الخاتمة سعادة
الآخرة وشقاوتها، وقيل هذه لا تتكشف إلا بدخول
الجنة، وقيل بل تستبين في أول منازل الآخرة،
فهو يذكر الكلام ولا يعقب عليه، هذا فضلاً عن
أنه لا يهتدي بالقرآن للحكم على الأقوال، ولو
أنه تدبّر في سورة الواقعة وما جاء فيها عن
منازل المقربين وأهل اليمين، والمكذبين
الضالين، لعلم أن هذا الأمر يستبين في أول
منازل الآخرة الذي هو القبر، وهذا ما ترشد
إليه السنة أيضاً فيما قال الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) عن أن القبر إن نجا منه فما
بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده شرّ
منه. را: كلام المناوي، فيض القدير، تحقيق عبد
السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، ص419.
[282] إنّ دخول الجنة بالرحمة لا بالعمل لا
ينافي مشيئة الله تعالى فيما يفعله بعباده،
ولكن، كما يقول الطباطبائي (قده) ، هذه المشيئة لا
تعني وقوع الفعل منه جزافاً تعالى عن ذلك بل
المراد عدم كونه مجبوراً في فعله ملزماً عليه،
فهو سبحانه يفعل ما يفعل بمشيئته المطلقة من
غير أن يجبره أحد أو يُكرهه، وإن جرى فعله على
المصلحة دائماً، فإذا كان دخول الجنة يتمّ
بالرحمة دون العمل، فهو وإن كان قادراً على
ذلك، إلاّ أنه قد أمر تكليفاً ونهى تحذيراً،
ولو أنه لم يُدخل أحداً إلى الجنة لما كان
ظالماً لهم، وأفعاله لا بدّ أن تلحظ بميزان
الحكمة والعدالة التي تأبى أن يكون المصلح
والمفسد سواء. هذا فضلاً عما وعد به وأوعد
عليه، وهو لا يخلف الميعاد... را: الطباطبائي
(قده) الميزان، م. س، ج3، ص131.
[283] لم نرد في هذا المبحث الدخول في منازعات
الفرق الإسلامية حول الأسماء والأحكام، بل
رمنا فقط الإشارة إلى أصناف الناس وأسمائهم
بشكل عام في القرآن، إلاّ أن ذلك لا يمنع من
الكلام باختصار عن جوهر النقاش بين الفرق وجهل
أكثرها بكتاب الله تعالى، فهذه الفرق احتدم
النقاش بينها حول الأسماء والأحكام، فهم عرفوا
الأسماء، وذهلوا عن الأحكام وعن موضوع الأحكام
والأسماء معاً، الذي هو الإنسان، فهم بدل أن
يهتموا بالإنسان الخليفة الذي كرّمه الله
تعالى، نراهم يذهبون مذاهب شتّى في تكفيره
وتفسيقه وتخليده في النار، تماماً كما فعلوا
في عبادتهم لله تعالى، حيث إنهم لم يفرقوا بين
الاسم والمسمى، وعبدوا الاسم المحدود، وقد حرص
الإسلام، كما نعلم، على التمييز بين الوجود
الذهني وما بين الله تعالى الذي هو المثل
الأعلى. فالعبادة تكون للمسمى، لأنه مطلق، في
حين أن الاسم ليس إلاّ واجهة ذهنية لله تعالى،
وهي واجهة مرحلية محدودة، ولعل الفرق في
نقاشها ونزاعاتها لم تتجاوز هذه المرحلية إلى
حقيقة الله تعالى والإنسان، وقالت على الله
تعالى بغير علم، وتفسير هذا، كما يرى الخياط
المعتزلي، أن الخوارج والمرجئة كلهم مجمعون
على أن صاحب الكبيرة فاسق فاجر، ثم تفرّدت
الخوارج وحدها فقالت: هو مع فسقه كافر، وقالت
المرجئة وحدها: هو مع فسقه وفجوره مؤمن، وقال
الحسن ومن تابعه: هو مع فسقه منافق، فقال لهم
واصل أستاذ الحسن: قد أجمعتم أن سميتم صاحب
الكبيرة بالفسق والفجور، فهو اسم له صحيح
بإجماعكم وقد نطق القرآن به في آية القاذف
وغيرها من القرآن، فوجب تسميته به... ثم قال
واصل للخوارج: وجدت أحكام الكفار المجمع عليها
المنصوصة في القرآن كلها زائلة عن صاحب
الكبيرة، فواجب زوال اسم الكفر عنه، بزوال
حكمه، لأن الحكم يتبع الاسم، كما أن الاسم
يتبع الفعل، وأحكام الكفر المجمع عليها
المنصوصة في القرآن واضحة في بعض أهل الكتاب،
وفي مشركي العرب، وكل هذا زائل عن صاحب
الكبيرة،... والكلام طويل، إلاّ أن الذي
يعنينا من هذا كله، هو أن الفرق الإسلامية،
قديماً وحديثاً، لا تزال تعيش هاجس التكفير
للإنسان، وتخلط بين الاسم والمسمى، وتجهل
الأحكام، وكأن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ترك ديناً ناقصاً وطلب إليهم أن
يُكملوه...! وكانت النتيجة أنه بين الأسماء
والأحكام ضاع الدين وقتل الإنسان، والحديث ذو
شجون. را: الصدر، محمد باقر، السنن التاريخية،
دار التعارف، بيروت، 1989، ص123. وقا: مع
الخياط المعتزلي، أبي الحسين عبد الرحيم بن
محمد بن عثمان، كتاب الانتصار والرد على ابن
الراوندي، دار قابس، بيروت، 1986، ص166.
[284] سورة آل عمران، الآية: 185.
[285] سورة النساء. الآية: 87.
[286] سورة الواقعة: الآيات: 10 ـ 12.
[287] سورة الشورى، الآية: 7.
[288] الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات
الكبرى (ت 290هـ)، مطبعة الأحمدي، طهران،
1404هـ، ص212.
[289] سورة ص، الآية: 27.
[290] سورة العنكبوت، الآية: 3.
[291] سورة العنكبوت، الآية: 11.
[292] سورة العنكبوت، الآية: 2.
[293] الطباطبائي
(قده) ، الميزان،
م. س، ج16، ص100.
[294] سورة هود، الآية: 105، جاء في التوحيد
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فمنهم شقي
وجبت له النار، بمقتضى الوعيد، وسعيد وجبت له
الجنة بمقتضى الوعد.
[295] سورة الواقعة، الآيات: 88 ـ 94.
[296] الكاشاني، تفسير الصافي، م. س، ج2،
ص473.
[297] سورة غافر، الآية: 46.
[298] م. ع، ص483. قد يُقال: إنّ جنّة آدم
وحوّاء كانت من جنان الدنيا، ويمكن أن تكون
الجنة التي تنقل إليها أرواح المؤمنين، جنة
دنيوية متصلة بنعيم الآخرة، لما نعرفه عن جنة
آدم أنها كانت تطلع فيها الشمس والقمر، ولو
كانت من جنات الخلد لما خرج منها أبداً، كما
جاء في الكافي عن الصادق ، وهنا السؤال: فما
المانع إذن أن تكون جنة المؤمنين في البرزخ
شبيهة بهذه الجنة؟
إن الجواب، كما نرى بسيط للغاية، وهو أن عالم
البرزخ عالم متصل بالنعيم أو بالجحيم في الجنة
أو في النار، ولا ندري ما إذا كان له أو فيه
زمان ومكان، وسماوات وأرض، وما المانع أن
يلحقه التبديل بنحوٍ ما، كما قال الله تعالى:
﴿ يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ
﴾ ؟ وما الدليل على أنه عالم
متصل بالدنيا، بل إن الدليل قائم على خلافه
بأنّه أول منازل الآخرة، هذا فضلاً عما خصّ به
عالم البرزخ من أزواج وحالات للمؤمنين
والكافرين والمكذبين، كما جاء في سورة
الواقعة، ولطالما أن هذا العالم يتحقق
بأزواجه، ومتصل بالنعيم أو بالجحيم، فذلك من
شأنه أن يقرب المعنى بحيث يقال: إنّ صفاته
ومنازله وتحولاته هي أقرب للآخرة منها إلى
عالم الدنيا إلا أن يقوم الدليل بإثبات خلاف
ذلك على نحو ما دلّ الدليل على عذاب القبر
والثواب والعقاب والبرزخ قبل يوم القيامة
والله أعلم بحقائق الأمور.
[299] الشيخ الكليني، أصول الكافي، (ت 329هـ)
تحقيق علي غفاري، مطبعة الحيدري، 1365هـ، ج2،
ص381.
[300] م. ع، ص382.
[301] سورة النساء، الآية: 31.
[302] سورة الواقعة، الآيات: 7 ـ 11.
[303] هناك أوجه أخرى لمعنى التقديم والتقدير،
وهو مألوف في القرآن، ولا يكون إلا لحكمة
ومعنى، ويمكن أن تكون آيات الواقعة والأزواج
الثلاثة مفسرة بقوله تعالى: ﴿
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
﴾ (فاطر: 32).
فالسابق بالخيرات هم السابقون السابقون
المقربون، وكما نلاحظ أن السابق تقدمه الظالم
لنفسه، ولعله تقديم للأكثر، لأن أكثر الناس
ظالم لنفسه، وهناك وجه آخر ذكره الطبري، أنه
قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته، وآخر السابق
لئلا يعجب بعلمه، هذا وجه قد لا يعبأ به، لأن
الآية في مقام إظهار حقيقة الاصطفاء لمن
أورثوا الكتاب وهم أهل البيت (عليهم السلام)،
فلا وجه للقول بأن التأخير غايته ألاّ يعجب
السابق بعلمه، والأقرب للفهم في سياق ما جاءت
به الآيات، هو كثرة الظلم لنفسه، وقلة
المقربين، بدليل قوله تعالى في الواقعة الذي
أعقب الكلام عن الأزواج الثلاثة: ﴿
ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ
مِّنَ الْآخِرِينَ ﴾ (الواقعة: 13 ـ 14).
وتأسيساً على ما تقدم، فإنه يمكن القول، على
قاعدة أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، ويشهد بعضه
على بعض، ويصدّق بعضه بعضاً، فإنّ الظالم
لنفسه هم أصحاب المشأمة، والمقتصد هم أصحاب
الميمنة، والسابق في القرآن هم السابقون
المقربون من الناس كلهم، بلحاظ كون الترتيب
هادف إلى معنى وليس مجرد سياق كلامي. حاشا لله
تعالى أن يكون كلامه ككلام البشر، والله
أعلم..
[304] سورة الواقعة، الآيات: 83 ـ 85.
[305] سورة الواقعة، الآيتان: 86 ـ 87.
[306] سورة الواقعة، الآية: 88.
[307] سورة الواقعة، الآية: 8.
[308] سورة الواقعة، الآية: 90.
[309] سورة الواقعة، الآية: 9.
[310] سورة الواقعة، الآية: 92.
[311] سورة التوبة، الآية: 72.
[312] سورة الواقعة، الآيتان: 10 ـ 11.
[313] سورة النساء، الآية: 69.
[314] سورة الواقعة، الآية: 8.
[315] سورة النساء، الآية: 122.
[316] سورة الواقعة، الآية: 9.
[317] سورة التوبة، الآية: 68.
[318] سورة التوبة، الآية: 106.
[319] سورة النساء، الآية: 31.
[320] سورة سبأ، الآية: 33.
[321] سورة غافر، الآية: 48.
[322] يقول الشيخ المفيد في المقالات: إنّ
نعيم أهل الجنة على ضربين: فضرب منه تفضّل محض
لا يتضمن شيئاً من الثواب، والضرب الأخير
تفضّل من جهة وثواب في أخرى، وليس في نعيم أهل
الجنة ثواب، وليس بتفضّل على شيء من الوجوه.
فأما التفضل منه المحض فهو يتنعّم به الأطفال
والبله والبهائم إذ ليس لهؤلاء أعمال كلّفوها
فوجب في الحكمة إثابتهم عليها.. را: أوائل
المقالات، الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، (ت
413هـ) دار الكتاب الإسلامي، بيروت، ط1، 1983،
ص131.
[323] الطوسي، محمد بن الحسن، الاقتصاد فيما
يتعلق بالاعتقاد، (ت 460هـ)، دار الأضواء،
بيروت، ط3، 1986، ص180.
[324] سورة آل عمران، الآية: 9.
[325] الثعالبي، عبد الرحمن بن محمد، التفسير
المسمى بالجواهر الحسان، م. س، ج4، ص375.
[326] لقد تسامح الشيخ المفيد إلى أقصى
الدرجات فيما زعمه من قول: إن من عمل لله
عملاً وتقرّب إلى الله بقربه أثابه على ذلك
بالنعيم المقيم في جنات الخلد، بعد أن نفي
الخلود في النار لمرتكبي الكبائر من أهل
المعرفة بالله تعالى، حيث أكّد على أن الوعيد
بالخلود متوجه إلى الكفار خاصة، وهذا الكلام
يمكن المناقشة فيه لكونه يقرب مما زعمه
المرجئة وأهل الحديث الذين قالوا بالعذاب
والخلود لمن مات على الكفر والشرك، رغم أن
الله تعالى قد بيّن أن التوبة ليست للذين
يعملون السيئات، ولا للذين ماتوا وهم كفار.
وهنا يكمن موضع النقاش فضلاً عن أن النقاش في
مرتكب الكبيرة لم يُحسم فيما لو أتى بها
معانداً أو مستخفاً، أو مكذّباً، فهل يكون في
النعيم؟ وماذا نقول فيمن أتى بعمل ما قربة ثم
كذب، أو أعرض وتولى الظالمين؟ أليس في اشتراط
التوبة من قريب لقبوله ما يُفيد أن الشرط هو
علة لتحقق المشروط؟ وما المانع أن تكون
القربات قد تحققت لغاية دنيوية لا بدافع الفوز
والرضوان والامتثال لأمر الله تعالى. وكثيرون
هم الذين اشتبه عليهم الأمر وكانوا من الصحابة
والتابعين وأهل العلم، فأتوا بالتوبة والأعمال
الصالحة ظنّاً منهم أنهم يطيعون الله تعالى!
فهؤلاء ألا ينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
﴾
(الشورى: 20) .
لا شك في أن هذا الحوار كان قائماً في زمن
المفيد رضوان الله عليه، ولهذا هو يرد ما زعمه
«بنو نوبخت» الذين قالوا: إنّ كثيراً من
المطيعين لله تعالى يثابون على طاعتهم في دار
الدنيا وليس لهم في الآخرة من نصيب.
انظر: الشيخ المفيد، أوائل المقالات، م. س،
ص49 ـ 53.
[327] هناك من الشيعة والمعتزلة من رأى الخلود
في النار للفاسق، مستدلين على ذلك بقوله
تعالى: ﴿
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
﴾ ، وقالت الوعيدية من المعتزلة: إن
صاحب الكبيرة إن لم يتب كان في النار خالداً.
وقالت التفضيلية وغيرهم، ولعل بعض الإمامية
منهم أيضاً، عسى الله أن يعفو عنهم برحمته، أو
بشفاعة النبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وإلاّ فيدخله جهنم ويعذبه عذاباً منقطعاً، ثم
يرده إلى الجنة ويخلد فيها لكونه مؤمناً،
وقالت التفضيلية: أي الذين يقولون بالعفو
والمغفرة تفضّلاً، ومنهم إمامية وأشاعرة، أن
الفاسق داخل تحت المؤمن، وهو بإيمانه يستحق
الثواب الدائم، والخلود يطلق على اللبث
الطويل، ولأنه تعالى يغفر له، لقوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾ ، وقوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ
﴾
. يقول الطوسي في قواعد العقايد: «ولا يجوز
تخليد المؤمن بأية معصية فعل سوى الكفر، لأنه
يستحق بإيمانه الثواب، وبمعصيته العقاب، ولا
يمكن سبقُ الأول لدوامه فيتعيّن الثاني،
والعاقبة دخول الجنة». انظر: كشف الفوائد في
شرح قواعد العقائد، المحقق الطوسي
(قده) ، والعلامة الحلي (قده) ، المعروف
بالخواجة نصير الدين الطوسي، الفيلسوف،
والعلامة الحلي، المعروف بالحسن بن يوسف بن
المطهّر الحلي، دار الصفوة، بيروت، تحقيق حسن
مكي العاملي، ط، 1993، ص329.
[328] سورة الغاشية، الآيتان: 25 ـ 26.
[329] سورة القلم، الآيتان: 35 ـ 36.
[330] انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في
شرح صحيح البخاري، (ت 852) دار المعرفة،
بيروت، ج1، ص346.
[331] سورة النساء، الآية: 118.
[332] نعم، الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
نهى عن اللعن، بقوله: «لا تكونوا لعّانين»،
بمعنى لعّان على وزن فعّال، بمعنى المبالغة،
كما نقول قصّاب، نجّار، لمن كانت مهنته كذلك،
فهو لم يقل سلام الله عليه لا تكونوا لاعنين،
لأن القرآن لا يؤسس لفقه اللعن والسبّ، وإنّما
للوعظ والإرشاد، والمجادلة بالتي هي أحسن،
ولكن هذا لا يعني عدم مشروعية اللعن في القرآن
والسنّة، إذ كيف يكون ذلك، وقد لعن الشيطان،
والمنافق، وغيرهم ممن نزلت فيهم الآيات
الكثيرة. فهل يريد من يذهب إلى ذلك أخذ نصوص
الوعيد إلى حيث أخذ نصوص اللعن، بحيث تكون
النتيجة خلاف الوعيد أو القول فيه أنه مجرّد
ترهيب رمزي لا تحقق خارجي له في الآخرة؟.
[333] سورة الفتح، الآية: 23.
[334] سورة طه، الآية: 113.
[335] سورة ق، الآية: 20.
[336] سورة ق، الآية: 28.
[337] سورة ق، الآية: 14.
[338] سورة ق، الآية: 20.
[339] نلاحظ أنه في الجواب القرآني على ما
طلبه بعض المؤمنين من آيات لاستئصال المشركين،
أن الله تعالى أخبرهم، كما جاء في سورة الرعد،
أن لله الأمر جميعاً يهدي من يشاء، ويضل من
يشاء، وهو يعلمهم أنه لو جاءهم بالآيات لما
آمنوا ولاستحقوا الإبادة كالأمم السابقة، وكان
من المؤمنين مَن يَودّ ذلك، ولكن الله تعالى
أجابهم بقوله: ﴿
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ
﴾ ، أي يعلموا أنه لو
شاء لهدى الناس جميعاً، ولهذا، نرى بأن سياق
الآيات يرشد إلى أن تفاعل النص مع التجربة،
وفقاً للمنهج الموضوعي، قد أجاب على حقيقة ما
ينتظر هؤلاء من مصائب قارعة، تقرع قلوبهم
بالخوف والحزن وأنواع البلايا، وهذه الآية
تؤسس لسنّة من سنن الله تعالى في خلقه، حيث
إنها ترشد إلى أن الله تعالى: لا يخلف
الميعاد، سواء بحق المؤمنين وما وُعدوا به، أم
بحق المشركين وما وُعدوا به أيضاً.
وهكذا، فإن الآية المباركة تؤسس لسنّة تاريخية
تنتظم وفقاً لها حركة الإنسان في الحياة
والأحداث، وتبيّن أن وعد الله تعالى لا بدّ أن
ينجز بحق المؤمنين والمشركين والكافرين وسائر
من توعّدهم الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة،
وهنا تكمن أهمية المنهج الموضوعي لجهة
الاستفادة من التجربة في استكشاف القوانين
الحاكمة في التاريخ، إذ في الوقت الذي تحقق
الوعد للمؤمنين بالنصر بدخول مكة، نجد تحقق
الوعد أيضاً بحق المشركين بأن حلّت القارعة
بهم بما صنعوا، وبما أدّى إليه نصر المؤمنين
بحلول المسلمين قريباً من دارهم ليدخلوا في
دين الله أو يهلكوا. إن فائدة هذا الكلام،
فضلاً عن أهمية تفاعل النص مع التجربة، هي
التيقّن من أن الله تعالى لا يخلف الميعاد،
وطالما أن هذا الوعد محقق، فلا يبقى ثمة مجال
لترميز الوعد والوعيد، أو القول بالتخييل فيما
يهدد الله تعالى به عباده العاصين.
[340] البغدادي، عبد القاهر بن طاهر، أصول
الدين، م. س، ص243.
[341] سورة غافر، الآية: 46.
[342] سورة الكهف، الآية: 3.
[343] سورة إبراهيم، الآيتان: 13-14.
[344] سورة الحج، الآيتان: 47 ـ 48.
[345] سورة الأعراف، الآية: 167.
[346] سورة الحج، الآية: 51.
[347] سورة ق، الآيتان: 13 ـ 14.
[348] سورة ق، الآيتان: 19 ـ 20.
[349] سورة ق، الآية: 24.
[350] سورة ق، الآية: 29.
[351] سورة ق، الآية: 31.
[352] يقول الشوكاني: «النفخ في الصور هو يوم
الوعيد الذي أوعد الكفار به، وهو يوم العذاب
في الآخرة، وقد خصص الوعيد مع كون اليوم هو
يوم الوعد والوعيد جميعاً لتهويله...». انظر:
فتح القدير، م. س، ج5، ص76.
[353] سورة إبراهيم، الآية: 47.
[354] سورة النساء، الآية: 122.
[355] سورة طه، الآية: 113.
[356] يقول ابن عربي: «وقد وجدنا من أنفسنا
أنه لو حكّمنا الله في خلقه لأزلنا صفة العذاب
عن العالم، والله قد أعطى الإنسان هذه الصفة،
ومُعطى الكمال أحق به، ومن هو أرحم الراحمين
لا يعذب أحداً عذاباً أبدياً، وليس ذلك
المقدار من العذاب إلا لأجل إيصالهم إلى
كمالاتهم، كما يذاب الذهب والفضة بالنار لأجل
الخلاص» فهل هذا هو معنى التدبّر؟ ومَن قال
لابن عربي أنه لو حكم بالعالم لأزال العذاب،
ولماذا لا يكون الأمر بخلاف ذلك؟ إنها مقايسة
لا تصح، ولو أن ابن عربي وغيره خلي ونفسه لما
أقام الحدّ على الزاني وغيره ممن يستحقّون
إقامة الحدّ، إنّه قياس مع الفارق، إذ الفرق
واضح بين الإيلام بطريق الإصلاح، وبين العقوبة
بطريق الاستحقاق والامتهان، وكما يقول شبّر في
ردّه على ابن عربي: ألا ترى أن أنواع الأمراض
والبلاء التي ابتلى الله تعالى به خلقه لحكم
ومصالح هو أعلم بها منا، لو فوّضت إلى أقسى
العباد قلباً لرفعها عن العباد ولم يرض بها...
فكيف يقاس فعل رب العالمين بحال الجاهل
المسكين... انظر: ابن عربي، محي الدين،
الفتوحات المكية، دار الشروق، الباب 350، ج3،
ص25. وقا: مع الكاشاني، فيض، عالم ما بعد
الموت، الإنسان في منازل خلقه وموته وبعثه،
دار المحجة البيضاء، ط1، 2003، ص322. وقا مع:
شبّر، عبد الله، حق اليقين، م. س، ص469.
[357] سورة إبراهيم، الآية: 7.
[358] سورة إبراهيم، الآية: 7.
[359] سورة ق، الآية: 45.
[360] البغدادي، أصول الدين، م. س، ص243.
[361] العلامة الحلي، كشف الفوائد في شرح
العقائد، م. س، ص345.
[362] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة،
م. س، ص16.
[363] مطهري
(قده) ، مرتضى، العدل الإلهي، ترجمة
الخاقاني، الدار الإسلامية، بيروت، ط2، 1985،
ص62.
[364] الشهرستاني، الملل والنحل، م. س، ج1،
ص42.
[365] لا يخفى ارتباط هذا المعنى بنظرية اللطف
التي قال بها المعتزلة، ورأوا أن تتابع الرسل
هو لإثبات ما وصل إليه العقل...
[366] انظر: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات مع
شرح الطوسي، نصير الدين، مؤسسة النعمان،
بيروت، ط2، 1993، ج4، ص68.
[367] إنّ النبوة هي شرط في الكمال، وليست
شرطاً في العقل، لأن العقل هو خلق الله تعالى
الذي هداه النجدين إمّا شاكراً وإما كفوراً،
فالمجتمع الإنساني يمكن أن يعيش بالعقل، وأن
يهتدي إلى أحكام كثيرة في تدبير شؤون الحياة،
ولكنه ليس قادراً على تحقيق الكمال فيما لو
استقل عن النبوة التي جاءت لإثارة العقل ودفعه
باتجاه الكمال، سواء في مجال المادة أم في
مجال الروح، وهذا ما لم تلتفت إليه الفرق
الإسلامية التي لم ترَ للعقل أي دور أو معنى
إلاّ في المعرفة... وقد ضرب العلامة الحلي في
نهج الحق وكشف الصدق مثالاً، وهو أنه لو خيّر
العاقل الذي لم يسمع بالشرائع ولا علم شيئاً
من الأحكام، ونشأ خالي الذهن من العقائد كلها،
لو خيّر بين أن يصدُق فيعطى ديناراً، أو يكذب
فيُعطى ديناراً، ولا ضرر عليه فيهما، فإنّه
يرجّح الصدق دائماً، وهذا دليل قاطع على أن
هذه الأحكام مركوزة في جبلّة الإنسان، ولم تأت
النبوّة إلاّ لإثارتها وهدايتها إلى ما تحقق
به كمالاتها.
انظر: حسن مكي العاملي، نظرية المعرفة، الدار
الإسلامية، بيروت، ط1، 1992م، ص140.
[368] سورة ص، الآية: 28.
[369] انظر: سبحاني، جعفر، محاضرات في
الإلهيات، دار جواد، بيروت، ط1، 2010، ص399.
[370] سورة فصلت، الآية: 53.
[371] يقول اليزدي: إنّ العدل هو الحكمة
الإلهية نفسها، وبطبيعة الحال يكون الدليل
لإثبات العدل هو الدليل نفسه الذي تُثبت به
الحكمة الإلهية، والدليل على العدل بمعانيه
الصحيحة وفي جميع مظاهره، هو: أن صفات الله
الذاتية تقتضي أن تكون أفعاله تعالى حكيمة
وعادلة، ولا توجد في الله تعالى أيه صفة تقتضي
الظلم أو الجور، أو اللغو والعبث... را:
اليزدي، محمد تقي المصباح، العقيدة الإسلامية،
دار الحق، بيروت، 1993، ج1، ص194.
[372] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج9، ص140.
[373] السبحاني، جعفر، الإلهيات، م. س، ص399.
[374] سورة آل عمران، الآية: 9.
[375] الطوسي، العقائد، م. س، ص62.
[376] سورة الحديد، الآية: 25.
[377] سورة الأنبياء، الآية: 47.
[378] مطهري، مرتضى، العدل الإلهي، م. س، 63 ـ
64.
[379] م. ع، ص62.
[380] يضيف النشار إلى تصورات المعتزلة، أن
العقل عندهم هو الذي يقتضي الفعل، ويميز بين
الخير والشر، فكل شيء عندهم معروف بالعقل قبل
ورود السمع، أحوال المعرفة، وشكر النعم،
والحسن والقبح، كل ذلك واجب قبل ورود السمع،
وما ورود التكاليف ليس سوى ألطاف الله أرسلها
إلى العباد بتوسط الأنبياء ليهلك من هلك عن
بيّنة، ويحيا من حي عن بيّنة... كما يقدم
المعتزلة نظرية اللطف الإلهي، وهي تشبه
العناية الإلهية التي لا تجيز العقاب من دون
دعوة الرسل، فتتابع الرسل والأنبياء لإثبات ما
وصل إليه العقل من حسن وقبح في الأشياء،
ولعلهم فيما ذهبوا إليه من ذلك يؤكدون كلام
أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الأنبياء
جاؤوا لإثارة دفائن العقول، والاحتجاج
بالتبليغ، وهذا ما سهى عنه النشار». را:
النشار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي في
الإسلام، دار المعارف، القاهرة، (لا ت)، ج1،
ص437.
[381] الطوسي، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد،
م. س، ص87.
[382] سورة الرحمن، الآية: 7.
[383] الخوئي
(قده) ، البيان في تفسير القرآن، م.
س، ص475.
[384] سورة القلم، الآية: 35.
[385] السيد الخوئي
(قده) ، تفسير البيان، م. س،
ص475.
[386] يقول المظفر في عقائد الإمامية: فلو كان
الله تعالى يفعل الظلم، تعالى عن ذلك، فإن
الأمر لا يخلو عن أربع صور:
أولاً: أن يكون جاهلاً بالأمر، فلا يدري أنه
قبيح.
ثانياً: أن يكون عالماً به، ولكنه مجبور على
فعله وعاجز عن تركه.
ثالثاً: أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه،
ولكنه يحتاج إلى فعله.
رابعاً: أن يكون عالماً به وغير مجبور عليه
ولا يحتاج إليه، فينحصر في أن يكون فعله له
تشهياً وعبثاً ولهواً.وكل هذه الصور محال على
الله تعالى: وتستلزم النقص فيه، وهو محض
الكمال، إذن هو منزّه عن الظلم وفعل ما هو
قبيح. انظر: المظفر، محمد رضا، عقائد
الإمامية، الدار الإسلامية، بيروت، 1988، ص65.
[387] انظر: القاضي عبد الجبار، شرح الأصول
الخمسة، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان،
1965، وهو كتاب من أهم كتب المعتزلة، ص124 ـ
136. وقا: مع النشار، علي سامي، نشأة الفكر
الفلسفي في الإسلام، م. س، ص436.
[388] الواسطي، علي بن محمد الليثي، عيون
الحكم والمواعظ، توفي قي القرن السادس للهجرة،
تحقيق حسين الميثي، دار الحديث، ط1، 1376هـ،
ص486.
[389] الطوسي، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد،
م. س، ص203.
[390] إن الحكمة الفعلية والعدل متلازمان، فإن
لازم إتقان الفعل وإحكامه كونه واقعاً في
موضعه اللائق به، كما أن لازم كون الفعل
واقعياً في موضعه المناسب كونه محكماً
ومتقناً، ومن هنا نرى المتكلمين دائماً يردفون
العدل بالحكمة في بحوثهم الكلامية.انظر:
السبحاني، جعفر، الإلهيات، م. س، ص160.
[391] سورة ق، الآية: 29.
[392] السدوسي، قتادة بن دعامة، (ت 117هـ)،
تحقيق صالح الضامن، بغداد، ط2، 1409، ص6.
[393] سورة الأحقاف، الآية: 16.
[394] شبّر، عبد الله، حق اليقين، م. س، 469.
[395] البغدادي، عبد القاهر بن طاهر، أصول
الدين، م. س، ص24.
[396] لقد أجمعت المعتزلة، وخاصة القائلين
بالوعيد على أنه إذا جاءت الأخبار من عند الله
ومخرجها عام، كقوله تعالى: ﴿
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
﴾ ، فليس
بجائز إلا أن تكون عامة في جميع أهل الصنف
الذي جاء فيهم الخبر.. وزعموا جميعاً أنه لا
يجوز أن يكون الخبر خاصاً أو مستثنى منه
والخبر ظاهر الإخبار والاستثناء والخصوصية
ليسا ظاهرين. انظر: الأشعري، أبو الحسن،
مقالات الإسلاميين، تحقيق محي الدين عبد
المجيد، دمشق، ط2، 1985، ج1، ص309. وهناك مَن
اجتهد فقال: إن الوعيد متوجهاً إليهم لو لم
يؤمن منهم أحد، فلما آمن جماعة رفع عن
الباقين، أو أن الوعيد يقع بهم في الآخرة، ولا
شك في أن هذا الاضطراب ناشء عن قلة باع أهل
الفرق في علوم القرآن، ويكفي للتدليل على ذلك
التعرف إلى مقالات الفرق في العموم والخصوص،
حيث زعمت بعض الفرق أن القرآن على الخصوص إلا
ما أجمعوا على عمومه، وكذلك الأمر والنهي،
واختلفت المرجئة في ذلك على مقالات. را:
الأشعري، م. س، ج1، ص210.
[397] يرى السيد الخميني (رض) في المكاسب
المحرمة: أن حقيقة الوعد والوعيد ليست إخباراً
عن واقع يطابقه أو لا يطابقه، بل تعهد وتهديد
إن كان على نحو الإخبار وإلقاء الجملة
الخبرية، نظير الجعل بنحو الإخبار في باب
الجعالة، فإذا قال مَن ردّ عليَّ ضالتي أعطيته
كذا، فليس ذلك إخباراً، بل إنشاء بصورة
الإخبار، وإخبار بداعي الإنشاء، فقوله: إني
أعطيك غداً كذا ليس إخباراً بل إنشاء قرار
وعهد وله إنجاز وخلف لا صدق وكذب، ويستفاد من
ذلك أن كل ما كان له نحو كشف عن واقع، ولو كان
من قبيل الإنشاءات داخل في الكذب حكماً، وهو
محرّم. وهذا كلام حكم فصل. را: الإمام
الخميني، المكاسب المحرمة، مؤسسة إسماعيليان،
قم، 1381هـ، ج2، ص44.
[398] إن إيراد بعض المصطلحات يقتضي التعريف
بها. إن التخصيص لا يرد إلا على الألفاظ
العامة، إذ إن العموم والخصوص من عوارض
الألفاظ، ومعنى التخصيص يرد على ما علم عمومه
باللفظ، كون التخصيص عبارة على ما دلّ أن
المراد بالعام بعضه، فإن كان العموم مستفاداً
لا من منطوقه كان التخصيص معنوياً، ومثاله:
إننا نستدل بحل الوطء في أم الولد على بقاء
الملك، وبثبوت الملك على تحقق توابعه من بيع
ووقف وغيره، فإذا ورد المنع من البيع في بعض
الصور كان ذلك في معنى التخصيص فيها، فهذا
يُخصص معنى التخصيص. انظر: المحقق الحلي،
الرسائل التسع، تحقيق رضا الأستادي، قم، ط1،
1413هـ، ص189.
وقا مع: محمد معرفة، تلخيص التمهيد، دار
الجواد، بيروت، ط2، 1999، ج1، ص193. فهو يُسفه
القائلين بنسخ الخاص للعام، ويرى أن الجهل
بعلم الأصول أودى بهؤلاء إلى أن يقولوا بأن
الخاص ينسخ العام، والحق هو أن الخاص لا ينسخ
بل يخصص العام ببعض أفراده.
[399] سورة الانفطار، الآية: 14.
[400] البغدادي، أصول الدين، م. س، ص242.
[401] الأشعري، مقالات الإسلاميين، م. س، ج1،
ص208.
[402] قال تعالى: ﴿
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا
حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
﴾
(النساء: 18).
[403] نلاحظ أن الفرق الإسلامية استعملت اسم
العصاة، الفساق، أهل القبلة، ورأت هذه الفرق
الخروج لهم من العذاب، رغم أن علماء هذه الفرق
لم يتبيّنوا معنى الفسق ومؤدياته وبواعثه،
ونحن نرى أنهم بذلك يحاولون تسويغ الأفعال
مهما كانت وكأنّ الجنّة بأيديهم، رغم أن
العصاة أو الفساق ليس معلوماً ما إذا كانت
المشيئة تشملهم لما أتوا به من أعمال، فإن قيل
هذا موكول إلى عفو الله ورحمته، قلنا: إن
المحسن والمسيئ ليسا سواء عند الله تعالى،
وهذا مقتضى عدله الجزائي الذي يتناسب تماماً
مع عدله التكويني، وعدله التشريعي، فلا معنى
لأن تحشر المغفرة دائماً كغظاء للأفعال، أو
لتبرئة الفساق، وأهل القبلة يعلمون جميعاً أن
من الفساق والعصاة مَن أتى بأفعال وأقوال تفوق
مقالات وأفعال الفراعنة، بدليل أن فرعون سمع
بمشورة وزرائه وأرجأ موسى وأخاه، أما غير
فرعون ممن ادّعى الإسلام وصلّى وصام، فلم يسمع
لمقالة بعدل، ولا لمشورة في حق، وأقصى
الأولياء عن مراتبهم التي رتبهم الله تعالى
عليها، قتلاً وتشريداً وتنكيلاً والحديث ذو
شجون.
[404] الأشعري، مقالات الإسلاميين، م، سـ ج1،
ص309.
[405] م. ع، ج1، ص208 ـ 209.
[406] م. ع، ج2، ص311.
[407] م. ع، ج1، ص120.
[408] م. ع، ج1، ص309.
[409] سورة الواقعة، الآيات: 7 ـ 11.
[410] الشيخ المفيد، أوائل المقالات، م. س،
ص93.
[411] الخياط، أبي الحسين عبد الرحيم، كتاب
الانتصار، م. س، ص166.
[412] سورة النساء، الآية: 31.
[413] سورة طه، الآية: 82.
[414] البغدادي، عبد القاهر، أصول الدين، م.
س، ص242.
[415] م. ع، ص243. وقا: مع المفيد، أوائل
المقالات، م. س، ص49 ـ 53.
[416] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج9، ص61.
[417] المرتدّ الفطري: هو الذي يولد من أب أو
أم، أو أبوين مسلمين، ويكون مسلماً ثم يكفر.
[418] المرتدّ الملّي: هو الذي يولد من أب وأم
غير مسلمين ثم يظهر كفره ثم يسلم ثم يكفر.
انظر: الغديري، عبد الله عيسى، القاموس الجامع
للمصطلحات الفقهية، دار المحجة البيضاء،
بيروت، ط1، 1998، ص482.
[419] سورة النمل، الآية: 40.
[420] سورة الممتحنة، الآية: 4.
[421] السيد الخوئي، أبو القاسم، تفسير
البيان، م. س، ص475.
[422] الخوئي، البيان، م. س، ص467.
[423] سورة إبراهيم، الآية: 28.
[424] سورة آل عمران، الآية: 97.
[425] سورة النساء، الآية: 48.
[426] انظر: الفاضل الهندي، بهاء الدين
الاصفهاني، كشف اللثام، (ت 1137هـ)، قم، ط
1405، ج2، ص771.
[427] الطوسي، محمد بن الحسن، الاقتصاد، م. س،
ص192.
[428] سورة النساء، الآية: 48.
[429] شبّر، عبد الله، تفسير القرآن، مؤسسة
الأعلمي، بيروت، ط1، 2009، ص130.
[430] الزمخشري، تفسير الكشاف، م. س، ج1،
ص509.
[431] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج5،
ص40. فالعلامة يتحدّث عن تقييد لآية غفران
الذنوب: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾ ، وهذا التقييد جاء في
آية: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ
﴾ ، ﴿
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
﴾ ،
ولكن الطباطبائي عاد ليقول بغرابة ملفتة، إن
الآية التي توعد بالنار الخالدة ليست صريحة في
الحتم فيمكن العفو بتوبة أو بشفاعة، ونحن لا
ندري كيف يكون الكلام صريحاً؟ ونحن نرى بدورنا
أن الذنوب، بل الكبائر العمدية إذا طالها
العفو بالتوبة أو بالشفاعة، فقد يصحّ القول إن
جهنم ليس فيها إلا الكفار، أما عصاة أهل
الكبائر، سواء أكانوا متعمدين أم غير متعمدين،
فيخرجون من النار، ونحن نقول يكفي في صراحة
الآية أنها لم تأتِ على التوبة في سياق الآية
مما يدلّ على أن الحتم قائم، والعاصي بالعمد
في جهنم خالد، وإلاّ تاهت الأسماء والأحكام.
والله أعلم.
[432] المازندراني، محمد بن شهرآشوب، متشابه
القرآن ومختلفه (ت588هـ) انتشارات بيدار، قم،
ط3، 1310هـ، ج1، ص84. فالعلامة بعد التزامه
بما تفيده الآية من غفران الشرك بالتوبة، وما
دون الشرك بالمشيئة، يقطع في كلامه بما يؤيد
وجهة النظر القائلة بأن هناك أدلة تخصص هذه
الآية: يقول: «إن في الآية، ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾ ،
قطع على غفران الذنوب إلاّ ما دلّ الدليل على
تخصيصه من الكفر»، ولهذا نجده لا يوضح الكفر
بأي معنى، هل الكفر بما هو شرك أو بما هو
كبائر الذنوب، كما أنه لم يتحدث لا عن عفو ولا
عن شفاعة ولا توبة، وهنا تكمن صراحة فيما يروم
بيانه في معنى الكفر.
[433] الرازي، فخر الدين، معالم أصول الدين،
دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1992، ص94.
[434] سورة النساء، الآية: 18.
[435] سورة النساء، الآية: 48.
[436] سورة الزمر، الآية: 53.
[437] سورة طه، الآية: 82.
[438] يقول مغنية: يتحصّل معنا من مقارنة
الآيات، وعطف بعضها على بعض أن مَن تاب من
الشرك غفر الله له، وأن من مات على الشرك فلا
نجاة له، ولأن الصفح عنه إغراء بالشرك والخضوع
لغير الحق.. أما في غير الشرك فإن ظاهر الآية
يشعر بأن من ارتكب الذنب، غير الشرك، يجوز أن
يغفر له الله قبل التوبة، لأن غفران الذنب مع
التوبة ثابت بنصّ الكتاب والسنّة، فيختصّ
قوله: «يغفر»، بالمؤمن المذنب غير التائب...
وقد يصفح الله عن ذنوب المؤمنين دون أن
يتوبوا.. وهنا نعقّب فنقول: إنّ ما افترضه
العلامة من إغراء فيما لو غفر الله الشرك،
يمكن افتراضه في غير المشركين، لأنه يؤدي إلى
الإغراء أيضاً في ارتكاب الذنوب، وتجارب
المسلمين ماثلة أمامنا فيما أدّت إليه من
إغراءات في المعاصي.
انظر: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار
العلم للملايين، بيروت، ط3، 1981، ج2، ص344.
[439] إن المؤمن لا يكون فاسقاً، فهو اسمه صاحب
الكبيرة، وإذا لم يكن كافراً، فهو بين
منزلتين، هما الكفر والإيمان، وهذا ما يذهب
إليه الوعيدية من المعتزلة وبعض الإمامية،
ودليلهم على هذا هو خلود قاتل المؤمن عمداً في
جهنم خالداً فيها، فكيف يصحّ القول فيه إنه
مؤمن من غير توبة. فهناك من المعاصي ما يبلغ
بالكبيرة حدّ الكفر بالله تعالى. فلا عجب ممن
يذهب إلى هذا القول. والله أعلم.
[440] تفسير الإمام العسكري، تحقيق ونشر مدرسة
الإمام المهدي (عج)، ط 1، قم 1409هـ.
[441] الشيخ المفيد، أوائل المقالات، م. س،
ص132.
[442] سورة طه، الآية: 82.
[443] سورة النساء، الآية: 18.
[444] نعم، هناك من يستدلّ على غفران الكبائر
بقوله تعالى: ﴿
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ
عَلَى ظُلْمِهِمْ ...
﴾
(الرعد: 6)
. وهنا مسألة ينبغي الالتفات إليها جيداً، وهي
أن من يقول بجواز الغفران على الكبائر من دون
توبة، عليه أن يجيب على سؤال، هل هو عفو الله
تعالى من دون توبة يكون جزافاً أم لحكمة.
بالتأكيد هو يحصل لحكمة، لأن مقتضى العدالة
الإلهية أن يتم الأمر وفاق عدله الجزائي.
فالله تعالى قادر على كل شيء فلا يُسأل عمّا
يفعل، ولكن هل ظاهر الآية يفيد مغفرة كل ظلم،
ونحن نعلم أن من الظلم ما هو شرك، وهذا لا
يغفر، ومنه ما هو ظلم للنفس، ومنه ما هو ظلم
لغيره وهذا الأخير لا يترك وتوعّد عليه الله
تعالى، ولا ينجو إنسان إلاّ بعد تأدية حق
غيره. نعم، هناك قول للرضا (عليه السلام) يُفيد
الاعتراض على المعتزلة فيما ذهبوا إليه من
اشتراط التوبة للعفو، فقال الإمام (عليه
السلام) : إن القرآن نزل بخلاف قول المعتزلة،
ولا شكّ في كلام الإمام (عليه السلام) كونه
الإمام الحق، ولكن كلامه جاء في مقام الرد على
المعتزلة، وليس لتسويغ الظلم أو للإغراء بعدم
التوبة: أما في عفو الله تعالى، فلا كلام...
[445] الزمخشري، تفسير الكشاف، م. س، ج1،
ص476.
[446] إن اعتراض العلامة السبحاني على كلام
صاحب الكشاف قائم على عدم جواز الاحتمال
المخالف لظاهر الآية، الذي يُفيد عدم جواز
الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبيرة في النار
إذا مات من دون توبة، وقد أشرنا آنفاً إلى أنه
ينبغي معرفة الظلم أولاً. فهل هو بمعنى الشرك؟
أم بمعنى القتل العمد، أم بمعنى الظلم النفسي،
أو الظلم لغيره؟ والجواب ما قاله ابن شهرآشوب
بأن غفران الذنوب قطعي إلاّ ما دلّ الدليل على
تخصيصه من الكفر، وهذا الأخير كما مرّ معنا له
مصاديق كثيرة تبدأ بالجحود، وتنتهي بكفر
النعمة. فإذا كان الظالم مكذباً ضالاً فإنّ
مقتضى العدل أن يكون مكانه نزل من حميم وتصلية
جحيم، وهذا ما دلّ عليه الدليل، وأنبأ به
العليم الخبير في سورة الواقعة. وما ذهب إليه
الشيخ الطوسي بقوله: والتوبة ليس لها ذكر في
الآية فمن شرطها فقد ترك الظاهر، ونعني
بالآية: ﴿
عَلَى ظُلْمِهِمْ
﴾ ، نرى أن السنّة قد بيّنت
معنى أن يغفر للناس على ظلمهم، بدليل أن آية:
﴿ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾ لا تقطع بأنه تعالى يغفر لكل
أحد بل ذلك مُتعلّق بالمشيئة، وهذا ما نقول أن
ميزانه العدل الجزائي فلا يكون الأمر جزافاً،
وقد صرّح علماء الأصول أن الظاهر مبنيّ دائماً
على أدلة العقول...
را: السبحاني، جعفر، المناهج التفسيرية في
علوم القرآن، م. س، ص23، وقا: مع الطوسي،
الاقتصاد، م. س، ص214.
[447] السبحاني، جعفر، الإلهيات، م. س، ص372.
[448] سورة النساء، الآية: 48.
[449] م. ع، ص473.
[450] سورة النساء، الآية: 93.
[451] سورة النساء، الآية: 48.
[452] سورة النساء، الآية: 31.
[453] الشريف الرضي، حقائق التأويل، م. س،
ص488.
[454] يقول الطوسي: فأما من جمع بين الإيمان
والفسق، فإنا لا نقطع على عقابه، بل يجوز
العفو عنه، وأن يسقط الله عقابه تفضّلاً،
وإنما قلنا ذلك لأنّا دلّلنا على حسن العفو
عنه من حيث عدمنا الدليل المانع منه وليس في
السمع ما يمنع منه، لأن سبرنا أدلة السمع فلم
نجد فيها ما يمنع منه؛ فيجب أن يكون التجويز
باقياً على ما علمناه بالعقل».انظر: الطوسي،
الاقتصاد، م. س، ص206.
[455] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، دار
الوفاء، بيروت 1983، ج74، ص 170، قا: السيد
الحكيم، محمد سعيد، مصباح المناهج، التقليد،
مؤسسة المنار، ط1، قم 1415 هـ، ص 240 (مضمون
الكلام).
[456] الفاضل الهندي، الأصفهاني بهاء الدين،
م. س، ج11، ص527.
[457] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، دار
الوفاء، بيروت 1983، ج73، ص 317 ح5. وقا عن
الشيخ الكليني، أصول الكافي، (ت 329هـ) تحقيق
علي غفاري، مطبعة الحيدري، 1365هـ، ج2، ص275.
[458] البغدادي، عبد القاهر، أصول الدين، م.
س، ص242.
[459] سورة النجم، الآية: 32.
[460] سورة آل عمران، الآية: 135.
[461] لا شكّ أن البحث عن الكبائر، واختلاف
الفقهاء بين قائل بالخلود وعدمه، كان ولا يزال
موضع أخذ وردّ بين المتكلمين من أصحاب الفرق،
قبل أن يتحول إلى مادة سجال لا طائل منها عند
الفقهاء والمفسرين، وهذا ما لحظه المحقق ضياء
الدين العراقي في شرح تبصرة المتعلمين، كتاب
القضاء، حيث قال: اختلف المتكلمون في وجود
صغائر متميزة عن الكبائر، وهل يحسن في التكليف
الزجر عن سيئات لا عقاب عليها؟ حسبما يرى بعض
العلماء بوجود صغائر مغفورة استناداً إلى ظاهر
قوله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ ...
﴾، فإذا صحّ ذلك،
لمَ لا يكون ذلك إغراءً بارتكاب المحرمات التي
نهى الله عنها، وهنا السؤال: فما موقع النهي؟
وما فائدة التحريم. يجيب المحقق: «إذ لولا
كونها سيئة في ذاتها، ومشتملة على قبح واقعي
ثابت لما نهى الله عنها ولا حرّمها، فكيف يعلق
تحريمها على ارتكاب الكبائر. إنها على هذا
التقدير غير محرّمة، فلا مانع من ارتكابها في
هذا الظرف، وإنما المانع يختص بصورة ارتكاب
الكبائر أيضاً، وهذا غير معقول على أصول
مذهبنا في وجود مصالح ومفاسد واقعية ثابتة
كامنة وراء الأوامر والنواهي الشرعية. وأما لو
فرضنا بقاءَها على مفاسدها في هذا الظرف
أيضاً، ومع ذلك رخّص الشارع في فعلها، ورفع
العقاب عن مرتكبها تفضّلاً، فهذا إغراء بفعل
القبيح الواقعي من غير سبب معقول.
[462] الشريف المرتضى علم الهدى، الانتصار،
مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1415، ص205.
[463] السيد الخوئي، البيان، م. س، ص476.
[464] الشريف المرتضى علم الهدى، الانتصار،
مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1415، ص26.
[465] الشيعة يقولون بالنص الجلي على الأئمة
الاثني عشر (عليهم السلام) والمعتزلة لا ترى ذلك.
[466] سورة النجم، الآية: 39.
[467] العلامة الحلي، كشف الفوائد، م. س، ص66.
[468] يقول الطوسي: «أما التوبة، فإنها تسقط
العقاب تفضّلاً من الله تعالى، وأجمع المسلمون
على سقوط العقاب عند التوبة. را: الطوسي،
الاقتصاد، م.س، ص204.
[469] البغدادي، عبد القاهر، أصول الدين، م.
س، ص244.
[470] الإسفراييني، أبي المظفر، التبصير في
الدين (ت 471هـ)، تحقيق كمال الحوت، عالم
الكتب، بيروت، ط1، 1983، ص68.
[471] سورة الزلزلة، الآيتان: 7 ـ 8.
[472] سورة النساء، الآية: 48.
[473] قال تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾.
[474] قال تعالى: ﴿
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى
﴾.
[475] سورة النساء، الآية: 18.
[476] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج11، ص34.
[477] يقول الطباطبائي
(قده): إن قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
﴾ من معارك الآراء بين العلماء، فقد ذهب
قوم إلى تقييد عموم المغفرة فيها بالشرك وسائر
الكبائر التي وعد الله معها النار، مع عدم
تقييد العموم بالتوبة، فالمغفرة لا تنال إلا
الصغائر من الذنوب، وذهب آخرون إلى إطلاق
المغفرة وعدم تقييدها بالتوبة، ولا بسبب آخر
من أسباب المغفرة، غير أنهم قيّدوها بالشرك
لصراحة قوله: ﴿
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ...
﴾ الآية،
فاستنتجوا عموم المغفرة وإن لم يكن هناك سبب
مخصص يرجّح المذنب المغفور له على غيره في
مغفرته كالتوبة والشفاعة وهي المغفرة
الجزافية... انظر: الميزان، ج7، ص38.
[478] سبحاني، جعفر، الإلهيات، م. س، ص457.
[479] الشيخ المفيد، الفصول المختارة، دار
المفيد، بيروت، ط2، 1993، ص68. يقول: نحن إذا
قلنا: إنّ الله تعالى يعفو مع الوعيد، فإنما
نقول بأنه توعّد بشرط يخرجه عن الخلف في
وعيده...».
[480] سبحاني، جعفر، الإلهيات، م. س، ص458.
[481] بالتأكيد ليس كل وعيد إنشاء، ويحسن
الخلف في قسم الإنشاء، ولكن السؤال: هل الخلود
في العذاب هو إخبار أم إنشاء؟ را: عبد الله
شبّر، حق اليقين، م. س، ص468.
[482] الإمام الخميني
(قده) ، المكاسب المحرمة، م.
س، ج2، ص42.
[483] سورة إبراهيم، الآية: 21.
[484] سورة هود، الآية: 65.
[485] سورة التحريم، الآية: 8.
[486] سورة الزمر، الآية: 54.
[487] سورة الزمر، الآية: 53.
[488] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، م. س،
ج1، ص55. فهو ينقل عن أبي هريرة وجماعة من
السلف هذا جزاؤه إن جازاه...». وهذا الكلام
جاء في سياق تفسير قولهه تعالى: ﴿
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
﴾
، ليس علينا بعد كلامه هذا إلاّ أن نقتل ثم
نتوب طالما جاء في الخبر أن أحدهم قتل مائة
نفس ثم تاب، فقُبلت توبته... إنها غرابة
فعلاً.
[489] سورة النساء، الآية: 93.
[490] سورة النساء، الآية: 48.
[491] المرعشي النجفي، شهاب الدين الحسيني،
شرح إحقاق الحق، ج24، ص427.
[492] الثعالبي، عبد الرحمن بن مخلوف، تفسير
القرآن، م. س، ج2، ص300.
[493] زيد بن علي، مسند زيد بن علي، (ت132هـ)،
دار الحياة، بيروت، ص285.
[494] الشيخ المفيد، أوائل المقالات، م. س،
ص193.
[495] سورة آل عمران، الآية: 9.
[496] انظر: عبد الله شبّر، حق اليقين، م. س،
ص468.
[497] را: ابن كثير، الحافظ أبي الفداء
إسماعيل، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري،
دار إحياء التراث، ط1، 1408، بيروت، ج12،
ص113.
[498] سورة الرعد، الآية: 6.
[499] لقد زعم ابن تيمية، أن النار إذا أخذت
مأخذها من أهلها وحصلت الحكمة المطلوبة من
عذابهم، فإن العذاب لم يكن سداً، وإنما كان
لحكمة مطلوبة، فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في
التعذيب أمر يطلب. را: الصنعاني، محمد بن
إسماعيل، رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين
بفناء النار (ت 1118هـ)، المكتب الإسلامي،
بيروت، ط1، 1405، ص127.
[500] سورة ق، الآية: 28.
[501] النيسابوري، مسلم ابن الحجاج، (ت
261هـ)، صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، ج8،
ص94.
[502] سورة هود، الآية: 114.
[503] قال تعالى: ﴿
وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ
﴾
(المُلك: 10).
[504] قال تعالى: ﴿
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا
يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ
﴾ (هود:
15 ـ 16).
[505] سورة الشورى، الآية: 20.
[506] ماذا نقول عن أمة تحولت معها الخرافات
إلى حقائق، والحقائق إلى خرافات وأوهام وهل
الأمة موالية فعلاً لله تعالى ورسوله...؟.
[507] يقول الشريف الرضي: بيّن الله تعالى أنه
يفعل أشياء إن شاء، ثم بيّن لنا أنها مما يشاء
أن يفعله... وإن كان قد شرط المشيئة فيها، من
ذلك قوله تعالى: ﴿
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ
أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ
مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ
﴾
(المائدة: 18) ، ومنه
قوله تعالى: ﴿
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
﴾
(الأحزاب: 24) ،
فلم يجب، لمكان اشتراط المشيئة في عذاب اليهود
والنصارى والمنافقين... أن نشكّ في عذابهم لما
قال تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيراً
﴾
(الأحزاب: 64) ،
وقال سبحانه: ﴿
إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ
﴾
(المائدة: 72) ، فعلمنا بذلك أنهم لو كانوا
ممن يشاء أن يغفر لهم باشتراط المشيئة لما
أخبر تعالى بتعذيبهم في المواقع الأخر قطعاً،
بإلغاء ذكر المشيئة، ثم أخبر تعالى أنه يعذّب
قاتل المؤمن والزاني وأكل الربا وقاذف
المحصنات وغيرهم من أهل الكبائر، فعلمنا أن
جميع هؤلاء ليس ممن يشاء أن يغفر لهم ما ذكره
تعالى أنه يعذبهم عليه من هذه الذنوب التي دون
الشرك. إذا كان تعالى قد أعلمنا أنه يعذبهم
كما أعلمنا أنه يعذب الكفار.. فكان من يغفر
لهم ما دون ذلك هم أهل الصغائر، الذين وعدهم
غفرانها باجتناب الكبائر في قوله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ ... ﴾. فلم يجب ولا يشترط لمشيئة الغفران
لما دون الشرك أن نشكّ في غفران الصغائر
لمجتني الكبائر، كما لم يجب أن نشك في تعذيب
أهل الكبائر التي دون الشرك لاشتراط المشيئة
في الغفران لهم...» را: حقائق التأويل، م. س،
ص494 ـ 495.
[508] سورة النساء، الآية: 93.
[509] العلامة الحلي، كشف الفوائد، م. س،
ص349.
[510] سورة هود، الآية: 107.
[511] سورة هود، الآيتان: 106 ـ 107.
[512] سورة الإسراء، الآية: 36.
[513] را: كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
في معنى الإيمان، وفي معنى الاستغفار والتوبة،
وفي معنى الإسلام، فهو في تعريفه للأصول
والفروع رسم خطوطاً بيانية عامة تارة وتفصيلية
طوراً آخر لأجل أن يهتدي الناس إلى سبل
السلامة في الدين والدنيا، ولكنهم، كما قال
(عليه السلام) ، لم يلجأوا إلى ركن وثيق، ولم
يأخذوا بعرى ثقات، ولا بأسباب محكمات فآل
أمرهم إلى التشتت والضياع، بل إلى الفتن
والصراعات المذهبية التي لا تزال الأمة ترزح
تحتها إلى عصرنا الحاضر، وستبقى كذلك إلى أن
يمنّ الله تعالى على هذه الأمة بما يخرجها
مجدداً من الظلمات إلى النور، بحيث تثار دفائن
عقولها وتهتدي إلى سبيل ربها.. والحديث ذو
شجون.
[514] را: المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض
الغدير، م. س، ج6، ص383.
[515] انظر: كلام الشريف الرضي في خلق الجنة
والنار في حقائق التأويل، فهو يرى أن الجنة
والنار لم تُخلقا، وقد احتمل أن يكون التعبير
بالماضي لقطعية وقوعه، فكأنه قد كان. انظر:
حقائق التأويل، م. س، ص366.
[516] را: السبحاني، جعفر، الإلهيات، م. س،
ص459.
[517] انظر: السيد الصدر، محمد باقر، الإسلام
يقود الحياة، دار التعارف، بيروت، ط1، 1996،
ص73.
[518] عبد الله شبّر، حق اليقين، م. س، ص462.
[519] م. ع، ص468.
[520] قال تعالى: ﴿
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
﴾
(النساء:
93) . وقال تعالى: ﴿
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
خَالِدِينَ فِيهَا
... ﴾ (هود: 106 ـ 107).
[521] قال تعالى: ﴿
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ
﴾
(غافر:
46).
[522] قال تعالى: ﴿
لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً
﴾
(النبأ: 23) . يقول
ابن شهرآشوب: قوله هذا لا يناقضه قوله تعالى:
﴿ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَداً
﴾ ، لأن الأحقاب جمع والجمع لا غاية
له وليس فيه أن لا يلبثوا أكثر من ذلك. را:
ابن شهرآشوب: متشابه القرآن، م. س، ج2، ص114.
[523] عبد الله شبّر، حق اليقين، م. س، ص468 ـ
469.
[524] سورة هود، الآيات: 106 ـ 108.
[525] الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، (ت
1091هـ)، مؤسسة الهدى، قم، ط2، 1416، ج2،
ص473.
[526] الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، م. س،
ج2، ص68.
[527] أقوال الطبرسي، مجمع البيان، م. س، ج5،
ص373.
[528] سورة إبراهيم، الآية: 48.
[529] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج11، ص29.
[530] م. ع، ص34.
[531] ابن عربي، الفتوحات المكية، م. س، ج3،
ص25. وقا: الفيض الكاشاني، عالم ما بعد الموت،
م. س، ص322.
[532] الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، م. س،
ج2، ص473.
[533] عبد الله شبّر، حق اليقين، م. س، ص465.
[534] الخراساني، الوحيد، الحق المبين، بقلم
علي العاملي، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط1،
2004، ص131، وص323.
[535] سورة الأعراف، الآية: 179.
[536] سورة الذاريات، الآية: 56.
[537] يقول: اللام لام العاقبة، والمعنى أنه
خلق الخلق كلهم، وتصير عاقبة كثير منهم إلى
جهنم بسبب اختيارهم من الكفر بالله وارتكاب
معاصيه. را: ابن شهرآشوب، المازندراني، متشابه
القرآن، م. س، ج1، ص191.
[538] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير
كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1،
2007، ج4، ص576. يقول: حاول بعض المفسرين
كالرازي مثلاً أن يشمّ منها رائحة الجبر في
الخلق، لكن الموضوعية تقتضي القول بأن هناك
أهدافاً للخلق، منها هدف أصلي، وآخر تبعي،
ومثال على ذلك، يقول النجّار: إنّ قسماً
كبيراً من هذا الخشب قد هيّأته لكي أصنع منه
أبواباً جميلة، والقسم الآخر هو للإحراق
والإضرام.. فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب،
إلاّ أنه حين يجد أن بعض الخشب لا ينفعه
شيئاً، فسيكون مضطراً إلى نبذه ليكون حطباً
للحرق، فهذا هدف تبعي لا أصلي، يستفاد من هذا
الكلام إن الهدف الأصلي من الخلق هو العبادة
وأن يكون الناس جميعاً في السعادة، ولكن منهم
من يختار بأعماله أن يكون له الشقاء... فيكون
المآل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير فآية
الذرء لجهنم ليست مناقضة لآية الخلق في
العبادة كما يزعم القرطبي والرازي وغيرهم لنفي
طهارة الخلق...!؟.
[539] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن. م. س،
ج1، ص226.
[540] م. ع، ج1، ص227.
[541] انظر: مزاعم ابن عربي وغيره من المتصوفة
فيما عرض له الكاشاني في كتابه: «عالم ما بعد
الموت»، م. س، ص322.
[542] عبد الله شبّر، حق اليقين، م. س، ص426.
[543] السبحاني، جعفر، الإلهيات، م. س، ص476
(بتصرف).
[544] وهذا ما أفاده العلماء بأن: ﴿
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
﴾ ،
لا يناقض قوله: ﴿
لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً
﴾ . وهذا ما أشار إليه
ابن شهرآشوب في متشابه القرآن. للأسف إن هؤلاء
العلماء لم يدركوا معنى قوله تعالى: ﴿
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً
﴾.
[545] سورة السجدة، الآية: 20.
[546] سورة الأنعام، الآية: 28.
[547] يقول الطباطبائي: ليس علم الله تعالى
علماً كلياً على نحو ما قد يتصوّر بعض الجهلاء
بأن العلم هو الصور الذهنية، كباني دار يتصور
للدار صور، وهيئة قبل بنائه، ثم يبنيها على ما
تصوّر، فتنطبق الصورة الذهنية على البناء
الخارجي، ثم تنهدم الدار والصورة الذهنية على
حالها، وهذا هو المسمى بالعلم الكلي وهو
مستحيل عليه تعالى بل ذاته تعالى عين العلم
بمعلومه ثم المعلوم إذا تحقق في الخارج كان
ذات المعلوم عين علمه تعالى به، ويسمى الأول
العلم الذاتي، والثاني العلم الفعلي، وهو ما
أشار إليه مولى الموحدين، وأمير المؤمنين علي
(عليه السلام) : وعلمها لا بأداة لا يكون
العلم إلا بها، ليست بينه وبين معلومه علم
غيره. انظر: الطباطبائي، الميزان، م. س، ج19،
ص149.
وهنا تبدو لنا ملحوظة في ضوء ما ذكر، وهي أن
بعضاً من العلماء والباحثين يستعمل مصطلح أن
الله هو مهندس العالم، ويتصورون صورة الذهن
وتحققاتها الخارجية، ونحن نرى أن هذا المصطلح
في استعماله على هذا النحو يخالف منطوق الكتاب
والسنّة!؟
[548] سورة الزخرف، الآية: 4.
[549] سورة إبراهيم، الآية: 48.
[550] سورة النحل، الآية: 1.
[551] سورة النمل، الآية: 93.
[552] يقول السبحاني: إنّ بعض الذنوب تقطع
العلائق الإيمانية بالله تعالى، كما تقطع
الأواصر الروحية بالشفيع، فأمثال هؤلاء العصاة
محرومون من الشفاعة، وقد وردت روايات كثيرة
تبيّن حرمان طوائف منها. را: علوم القرآن، م.
س، ص72.
[553] قال تعالى: ﴿
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ
رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ
بِكُمْ ... ﴾ (النجم: 32).
[554] أجمع المسلمون على أن الشفاعة لا تكون
لأهل الشك والشرك ولا لأهل الكفر والجحود، بل
تكون للمؤمنين من أهل التوحيد، ونظراً لكون
أهل الإيمان ليسوا أولئك الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وحسب، بل الذين آمنوا واهتدوا
وأحسنوا، على اعتبار أن الإحسان هو الذي يُخرج
الإنسان عن كونه مشفوعاً له ليكون شافعاً، كما
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما
المحسنون فما عليهم من سبيل»، ولهذا، نرى بأن
حديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يخصص
حديث المؤمنين بالمحسنين، وهؤلاء ليسوا مجرد
أشخاص آمنوا بالله ورسوله، بل أحسنوا،
والإحسان كما عرّفه القرآن، هو أن تعبد الله
كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، حيث
قال تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
﴾ (العنكبوت:
69)، وقد جاء في معنى هذه الآية أن المحسنين
هم الذين جاهدوا وصبروا مع رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم). وعن الباقر (عليه
السلام) هذه الآية لآل محمد صلوات الله وسلامه
عليهم وأشياعهم، وفي المعاني عن الإمام علي
(عليه السلام) قال: «ألا وأني مخصوص في القرآن
بأسماء احذروا أن تُغلبوا عليها فتضلّوا في
دينكم، أنا المحسن يقول الله عز وجل: ﴿
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ . انظر: الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، م.
س، ج2، ص177، ومن هذا كله يتبيّن لنا معنى أن
لا يكون على المحسنين سبيل لكونهم أهل شفاعة،
أما الذين يُشفع لهم، فهم أولئك الذين أتوا
باللمم من الذنوب وتلحق بهم الشفاعة في الطريق
إلى منازل الآخرة، بدءاً من الدنيا وما
يُصابون بها من غموم وهموم ومصائب، مروراً
بعالم القبر والمساءلة فيه، وانتهاءً بعالم
الآخرة، وعن الصادق (عليه السلام) قال: مَن
أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا، المعراج،
والمساءلة في القبر، والشفاعة. را: عبد الله
شبّر، حق اليقين، م. س، ص422 ـ 423.
[555] روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) : «إنه من
استخفّ بالصلاة لا ينال الشفاعة». عيون أخبار
الرضا (عليه السلام) ، م. س، ج2، ص66.
[556] الشيخ المفيد، الإرشاد، م. س، ص72.
[557] سورة المائدة، الآية: 3.
[558] روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال:
بُني الإسلام على خمس: إقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، وحجّ البيت، وصوم شهر رمضان ،
والولاية لنا أهل البيت (عليهم السلام)....
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا
تزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله
تعالى حتى يُسأل عن أربع خصال: عمرك فيما
أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين
اكتسبته وأين وضعته، وعن حبّنا أهل البيت
(عليهم السلام)، فقال رجل من القوم: وما علامة
حبكم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فقال: محبته هذا- ووضع يده على رأس علي بن أبي
طالب (عليه السلام) -، وقد روى الكليني في
أحاديث كثيرة في هذا الباب، منها عن زرارة
قال: فقلت: وأيّ شيء من ذلك (أي مما بني عليه
الإسلام من دعائم)، أفضل؟ فقال: الولاية أفضل،
لأنها مفتاحهنّ، والوالي هو الدليل عليهنّ.
انظر: الشيخ المفيد، الأمالي، تحقيق علي أكبر
غفاري، جماعة المدرسين، قم، ص353.
[559] الشيخ المفيد، الإرشاد، م. س، ص71.
[560] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج8،
ص 34.
[561] يقول الشيخ الطوسي في الاقتصاد، أن
الشفاعة لا تكون إلاّ لرفع الضرر لا لزيادة
الثواب، ولو سلّمنا أنها في حقيقة الأمرين،
فخصصناها لإسقاط المضار، إذ لا خلاف أنها
حقيقة في ذلك، لقوله (صلى الله عليه وآله
وسلم): «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
الشيخ الطوسي، الاقتصاد، م. س، ص127.
[562] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 370.
[563] سورة مريم، الآية: 87.
[564] قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إن
المؤمن ليشفع لحميمه إلا أن يكون ناصباً، ولو
أن ناصباً شفع له كل نبي مرسل وملك مقرّب ما
شفعوا... انظر: عبد الله شبّر، حق اليقين، م.
س، ص 455.