الكتاب |
الوعدُ والوعيدُ في القرآن الكريم |
تأليف |
الشيخ عارف هنديجاني فرد |
إعداد ونشر |
جمعية القرآن الكريم |
الطبعة |
الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت |
موقع جمعية القرآن الكريم |
www.qurankarim.org |
بريد جمعية
القرآن
الكريم |
info@qurankarim.org |
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
خير خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
يقول سبحانه: ﴿ قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ
﴾
[1]
.
العلماء هم ورثة الأنبياء، وقد جلسوا مقعد
التعليم بعد الأنبياء وعلّموا الناس العلم
والمعرفة، ولذا فإنَّ مقامهم في نظر القرآن
شامخ وعظيم حتى قال عزّ اسمه: ﴿
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
﴾
[2]
. وأيضاً الأحاديث الشريفة تشيد
بالعلماء الصادقين والفقهاء العدول وتجعلهم في
أرفع درجة بالقياس إلى سائر فئات المجتمع،
لأنهم يقودون الناس إلى الفلاح والفوز
والتقدم، فعن النبي الكريم (صلى الله عليه
وآله وسلم): «إن فضل العالم على العابد
كفضل الشمس على الكواكب، وفَضل العابد على غير
العابد كفضل القمر على الكواكب». وعنه
(صلى الله عليه وآله وسلم) : «إذا كان يوم
القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء،
فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء».
فإلى عاشقي العلم وخصوصاً علوم القرآن الكريم
والمتعطشين إلى معارفه وعلومه ومفاهيمه.
إلى علمائنا العظماء وأساتذتنا ومشايخنا
الأجلاء والمنصفين من العلماء والمفكرين
والباحثين في الأخلاق والعقيدة والفلسفة وغير
ذلك.
إلى العالم الرباني والأخلاقي المرحوم آية
الله الحاج الشيخ عبد الكريم حق شناس الطهراني
رحمه الله.
إلى العالم الورع والمتقي المرحوم آية الله
الحاج الشيخ علي بناه الاشتهاردي رحمه الله.
إليكم جميعاً أيها الأحبة، أهدي هذا الجهد
المتواضع، راجياً من الله تعالى القبول، ومن
النبي وآله عليهم الصلاة والسلام الشفاعة لي
ولكم للفوز بالآخرة، «اللّهمَّ اسْتَجِبْ
لنا وتَقَبَّلْهُ بِكَرَمِكَ وَعِزَّتِكَ
وَبِرَحْمَتِكَ وَعافِيَتِكَ، يا أرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ».
عارف هنديجاني فرد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّ ما سلكنا طريقه من بحوث قرآنية حفّز
همّتنا على متابعة هذه البحوث على النحو الذي
يؤدّي بنا إلى استكشاف الكثير من المفاهيم
القرآنية، التي وإن سبق لكثير من العلماء
والباحثين أن تعرَّضوا لها، إلاّ أنّ هناك في
طيّات البحوث والمفاهيم ما يحتاج إلى مزيد من
التدبّر والعناية، عملاً بما حثّ عليه القرآن
من تدبّر، وقد سبق لنا أن قدّمنا في بحوثنا
التي صدرت تباعاً جملة من المفاهيم والدلالات
حول الحوار، والترف، وعلوم القرآن، وكان آخر
هذه البحوث الفوز والخسران في القرآن، حيث
تبيّن لنا بعدما عرضنا له أنّ هناك حقيقة، إن
لم نقل عقيدة، اختلف بشأنها العلماء وأهل
التفسير، وذهبوا فيها إلى آراء ومذاهب شتّى،
وعنينا بهذه الحقيقة، العقيدة، الوعد والوعيد
في القرآن الكريم، ولعلّ ما سندلي به من شرح
وتوضيح حولها، يكون جديداً في بابه، لكون
العلماء، وقبلهم الفرق والمذاهب الإسلامية قد
اختلفوا إلى حدّ التناقض بين قائل بأن الذي
يحسن هو إخلاف الوعيد، وليس الوعد، وبأنّ الله
تعالى يغفر الذنوب جميعاً، سواء أكانت كبيرة
أم صغيرة، إلاّ الشرك، فإنّ الله توعّد عليه،
كما قال تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾
[3]
. وبين قائل بأن الله تعالى لا يخلف في الوعد
والوعيد، لأنه أخبر به ولا بدّ من إنفاذه لأنّ
الربّ صادق لا يكذب: ﴿
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾
[4]
، وقد سمي المعتزلة بالوعيدية، في مقابل من
سمّي بأهل الوعد.. فآل الأمر إلى الإفراط
والتفريط، واستحال الرتق أبد السنين..!؟
كما اختلف العلماء وأهل التفسير أيضاً حول ما
يجب على الله تعالى، كما رأى المعتزلة، وما
يكون تفضلاً منه، إلى غير ذلك من المقولات
التي احتدم النقاش حولها بين الفِرق والمذاهب
الإسلامية التي تولّدت من رحم النزاعات
الدينية والفلسفية بعد وفاة رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، فكان الخوارج الذين
زعموا إنفاذ الوعيد، وتسمّوا بالوعيدية،
وتأوّلوا نصوص الوعد، فسلبوا عن الفاسق الملّي
مطلق الإيمان، وحكموا بخلوده في النار إذا لقي
الله على غير توبة
[5]
، ثم ظهرت المرجئة، الذين أثبتوا للفاسق
الملّي الإيمان المطلق، وجوّزوا تخلّف وعيد
الفساق كلهم، بل إنّ غلاتهم قطعوا بذلك!
وهكذا، كان الحال كلّما ظهرت من فرقة لعنت
أختها، وذهبت إلى خلاف قولها، بعيداً عمَّا
جاء به الإسلام وبيّنه رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)،
وقد وصف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حال
هذه الفرق فيما آلت إليه في دينها، بقوله: «فيا
عجباً! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على
اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبيّ،
ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا
يعفّون عن عيب، يعملون في الشبهات ويسيرون في
الشهوات المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر
عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى
أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم،
كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما
يرى بعرىً ثقات وأسباب محكمات...»
[6]
.
لقد بيّن الشهرستاني في الملل والنحل أنّ
النزاع الديني والسياسي لم يقتصر على الفرق
التي ولّدها اجتهاد الرأي، وإنّما امتدّ في
التاريخ الإسلامي ليأخذ إشكالاً في الصراع،
وخصوصاً في العصرين الأموي والعباسي، حيث ظهرت
فرق الاعتزال والأشعرية، والصفاتية، وغيرهم
كثير، وهذا ما أحصاه المؤلف في كتابه الملل
والنحل تحت عنوان الفرق الإسلامية الكبرى التي
تشعّبت لتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة
[7]
فكانت كل فرقة تجتهد باسم الإسلام دونما
اعتبار لما أمر به الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) في سنّته الجامعة غير المفرّقة، ودعا
إليها للاعتصام بحبل الله تعالى، كما جاء في
حديث الثقلين، وغيره من الأحاديث التي تدعو
المسلمين إلى الأخذ بأمر الله تعالى
والاستجابة لما دعى إليه الله تعالى ورسوله
(صلى الله عليه وآله وسلم).
لا شكّ في أنّ هذا التقديم يهدف إلى تضمين
كامل المطالب التي نروم بحثها في هذا الكتاب.
وتبقى الغاية منه هي توضيح جوهر المباحث وما
سيدور حوله الكلام والاعتراض والنقد فيما ولجت
إليه كل فرقة، وما آل إليه الحال في عصرنا
الحاضر من تداعيات في مجال الأصول والفروع،
باعتبار أن الوعد والوعيد هما من أركان هذا
الدين، وبهما تستقيم الحياة، وتتوازن حركات
الإنسان وسكناته فيما يسعى إلى تحقيقه من
أهداف دنيوية، ومصير أخروي، فإذا كانت هذه هي
غاية مباحث هذا الكتاب، فإنا نرى ضرورة
لاعتبار ما ذهبت إليه الفرق في بياناتها
العريضة، على أن نستوفي البحث حقه من خلال
الكتاب والسنّة في زمن نحن بأمسّ الحاجة فيه
إلى إعادة الاعتبار للرؤية القرآنية، وللموقف
الإسلامي في مجال الوعد والوعيد، وهذا ما
يحتّم علينا أن نعرض باختصار لأهم ما ذهبت
إليه الفرق واستقرّت عليه المذاهب قديماً
وحديثاً، يقول الشهرستاني: «وأما الوعد
والوعيد، فقد قال أهل العامَّة. الوعد والوعيد
كلامه الأزلي، وعد على ما أمر، وأوعد على ما
نهي، فكل من نجا واستوجب الثواب فبوعده، وكل
من هلك واستوجب العقاب فبوعيده، فلا يجب عليه
شيء من قضية العقل، وقال أهل العدل: لا كلام
في الأزل، وإنّما أمر ونهي، ووعد ووعيد بكلام
محدث، فمن نجا فبفعله استحق الثواب، ومن خسر
فبفعله استحق العقاب، والعقل من حيث الحكمة
يقتضي ذلك. وأما السمع والعقل، فقد قال أهل
العامَّة: الواجبات كلها بالسمع، والمعارف
كلها بالعقل، فالعقل لا يحسن ولا يقبح، ولا
يقتضي ولا يوجب، والسمع لا يعرّف، أي لا يوجد
المعرفة، بل يوجب. وقال أهل العدل: المعارف
كلها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل، وشكر
المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح
صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح»
[8]
.
يظهر لنا مما ذكره الشهرستاني عن أحوال الفرق
ومقالاتها، أن التناقض والتقابل في المقولات
قد استمرّ على هذا النحو قروناً من الزمن، وهو
لا يزال محتدماً، ولكن تحت عناوين مختلفة بعد
أن تحوّلت الفرق في تاريخها بفعل الصراعات
الفكرية والعقائدية والسياسية ليكون الكثير
منها مجرّد عناوين للبحوث ليس إلاّ، على
اعتبار أن الكثير من هذه الفرق قد اختفى عن
ساحة الفكر والعقيدة، كما هو حال الخوارج
والمرجئة، والمعتزلة، وغيرهم، إذ لم يبق منهم
إلاّ العناوين والأطروحات الفكرية، والمناظرات
العقائدية التي يتلهّى بها أهل الفكر في عصرنا
الحاضر. ولعلّنا نخطئ في تشخيصنا لحال هذه
الفرق ومآلاتها في التاريخ، باعتبار أن ما
يتظهّر لنا من أسماء جديدة وأحكام جديدة
يجعلنا نترحّم على المسمّيات والأحكام
القديمة، وإنّ اللبيب من الإشارة يفهم.
في جميع الأحوال، يمكن القول: إنّ الذي
نتداوله اليوم من أسماء وأحكام له قدمه في
تاريخ الإسلام والمسلمين ولا تزال أسماء
وأحكام أهل العدل...، وأهل الجبر، وغيرها من
الأسماء متداولة في مقابل أسماء اختلقها أهل
الوعظ والإرشاد لأهداف سياسية. والحق يُقال:
إنه يمكن استثناء بعض المذاهب التي أخذت
بالكتاب والسنّة وعملت بهما كالشيعة الإمامية،
وغيرهم ممن تابع خطى أهل البيت (عليهم
السلام)، واقتدوا بهم في الأصول والفروع، لأن
التشيّع في الحقيقة ليس مذهباً، وإنّما هو
الإسلام، فكونه يرتكز إلى الكتاب وسنّة أهل
البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيراً؛ فلا يُقال بأنّ طائفة
الإمامية هم فرقة إسلامية اجتهدت الرأي،
واختلقت المذاهب، وتسلّحت بالسلطة ليكون لها
تأثيرها الديني والسياسي كباقي الفرق
والمذاهب، وكما قال الشهرستاني، وهو قول صادق
ويصدقه التاريخ في حق كل الفرق، إلاّ الشيعة
الإمامية، الذين لاحقتهم السلطة، وقهرتهم
الصولات المذهبية، وهذا أمر يعرفه أهل التاريخ
جيّداً، ولا يتنكّر له إلاّ مَن اختمرته
المذهبية، واحتنكته الحميّة الجاهلية،
واستبدّت به العصبيّة، يقول الشهرستاني: «وهذا
التضاد بين كل فريق وفريق كان حاصلاً في كل
زمان، ولكل فرقة مقالة على حيالها، وكتب
صنّفوها ودولة عاونتهم، وصولة طاوعتهم.. وإن
كان لا يخفى على الأفهام الذكية في مدارج
الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل...»
[9]
.
إذاً، مباحث هذا الكتاب، كما سنرى، ستتوقّف
مليّاً عند تعبيرات الإسلام «الوعد والوعيد»،
وسنتعرّف على مقالات القوم، وما زعمته كل
طائفة في مقابل الطوائف الأخرى، على أن يكون
مرتكز هذا البحث آيات القرآن الكريم، وما ذهب
إليه أهل التفسير على اختلاف منازعهم
ومشاربهم، لكون بعض أهل التفسير قد وجّه
الآيات الخاصة بالوعد والوعيد لتكون موافقة
لمذهبه في الجبر، أو في الإرجاء، أو في
الاعتزال، أو الأشعرية، متسلّحين بالآيات
القرآنية لتسويغ ما يذهبون إليه، في حين أنّ
بحثنا هذا، مع ملاحظة ما تقدّم ذكره سيأخذ
بالمنهج الموضوعي من خلال ضمّ الآيات بعضها
إلى بعض، إضافة إلى ما بيّنته السنّة النبويّة
ومدرسة أهل البيت في مفهوم الوعد والوعيد
ومدلولاتهما وآثارهما في الدنيا والآخرة، وهذا
ما سنعرض له في كلمتنا عن المنهج، الذي
سنعتمده في مباحث هذا الكتاب. فإذا ما استطعنا
أن نبيّن حقيقة الوعد والوعيد في القرآن
والسنّة، فإنّ ذلك من شأنه أن يؤدّي إلى الكشف
عن كل الملابسات الدينية في مقولات الفرق، كما
إنه قد يُفضي إلى الحكم على الكثير مما ذهبت
إليه في حقيقة الوعد والوعيد، وذلك من منطلق
أن القرآن في الكثير من الآيات القرآنية، قد
قابل بين الوعد والوعيد، وهذا ما يمكن تلمّسه
من منهجية القرآن وعادته في ترغيب الإنسان
وترهيبه ليتحقق له التوازن المادي والروحي
فيما يسلكه من سبل، ويتخذه من خيارات في ضوء
الرؤية القرآنية، التي رأى العلماء والمفسرون
أنّ هذه الرؤية كاشفة عمّا يؤول إليه الإنسان
من مصير، سواء في الدنيا أم في الآخرة، تماماً
كما هي طريقة القرآن في عرض الرؤية حول القضاء
والقدر، والجبر والاختيار، وغير ذلك من
المسائل التي كانت ولا تزال موضع تأمّل وتدبّر
عند المسلمين.
لا شكّ في أنّ هذا الأمر لا يبعدنا كثيراً عن
علوم القرآن، وخاصة علم الناسخ والمنسوخ الذي
اشتبه أمره على كثير من المفسرين ما أدّى إلى
أن تكون الرؤية الإسلامية في كثير من المطالب
مشوّهة ومضطربة إلى الحدّ الذي يمكن القول
معه: إنّ آراء العلماء ومذاهبهم واختلاف
مناهجهم في علوم القرآن، قد انعكس على فهم
الكثير من المسائل العقيدية في تاريخ
المسلمين، وخاصة في مجال الأسماء والأحكام،
والكفر والإيمان، والوعد والوعيد، والقضاء
والقدر، وغير ذلك مما احتدم النزاع بشأنه بين
الفرق والمذاهب، وهو لا يزال موضع نزاع بينهم،
لكونهم لم يلجأوا إلى ركن وثيق فيما يذهبون
إليه من اعتقادات، كيف لا، وقد اختلفوا في ما
هو ناسخ ومنسوخ، ورأوا أن النسخ يطال الأخبار
أيضاً، كما يطال الأمر والنهي، وهذا ما أدّى
إلى أن تكون الأخبار في الوعد والوعيد موضع
نزاع، وقد ردّ العلاّمة شبّر في حق اليقين على
هؤلاء بقوله: «فلأنَّ الوعيد الذي يحسن
خلفه من قسم الإنشاء، ولكن الخلود في العذاب
قد دلّت عليه الآيات والروايات بطريق الأخبار،
وأخبار الله يمتنع فيها الكذب ضرورة»
[10]
.
نحن نزعم أنّ أحداً من الباحثين لم يتطرّق إلى
هذا المبحث، ونعني به مدى صحّة الموقف في علوم
القرآن، سواء في المحكم والمتشابه، أم في
العام والخاص، أم في الناسخ والمنسوخ، ليكون
لذلك الموقف انعكاسه الإيجابي على فهم سائر
المسائل العقائدية، وقد رأينا كيف أن الكثيرين
ممن ليس لهم باع في علم الأصول قد خلطوا بين
النسخ والتخصيص، ساهين عن أن الخاص لا ينسخ
العام، وإنما يخصصه ببعض أفراده، فإذا لم تكن
هذه المسألة من الوضوح والأهميّة بمكان، فكيف
يمكن لهؤلاء أن يفهموا معنى العفو والمغفرة
بتوبة، أو من دون توبة...؟
إنّ ما نذهب إليه في بحوثنا في هذا الكتاب قد
يكون جديداً في بابه نظراً لما نعتمده من
منهجيّة موضوعية في عرض الرؤية القرآنية بلحاظ
كون علوم القرآن تتداخل في سياق عرض هذه
الرؤية، بل هي مرتكز وأساس في الحكم على ما
ذهب إليه القوم من إفراط وتفريط في كثير من
الأصول الاعتقادية، ولسنا نبالغ في قولنا أن
الاضطراب في مفاهيم الآيات عند كثير من علماء
الكلام قد تسبّب بكثير من الأحداث والمساوئ،
سواء على مستوى النظرية أم على مستوى التطبيق،
بدليل أن القتل لأهل البيت (عليهم السلام) كان
يرتكز إلى آراء بعض الفرق، وخاصة الجبرية التي
لا ترى للإنسان أية مسؤولية عن فعله.
إن هذا التمهيد قاصر عن الإحاطة بجملة المباحث
التي سنعرض لها، ولكن الأفكار التي سنعالجها
تبدو واضحة فيما عرضنا له على أمل أن نقدّم
بعض الأفكار في مسوّغات البحث ودوافعه، لأنّ
البحث العلمي، كما بينّا في بحوثنا القرآنية
من ضرورياته أن نقدّم المسوّغات له، فضلاً عن
الأسباب التي دعت إليه... ولعلّ من أهمّ هذه
الأسباب هو اضطراب الباحثين قديماً وحديثاً في
تظهير حقيقة المفاهيم القرآنية من خلال رؤية
موضوعية، وهذا ما سنعرض له في إشكالية البحث
إن شاء الله تعالى.
كان ولا يزال موضوع الوعد والوعيد من أهم
المواضيع القرآنية التي عرض لها العلماء
والمفسرون، وقد أدلى العلماء بكثير من الآراء
فيما يعود إلى ما هو واجب بالسمع، وما هو واجب
بالعقل، ونحن إزاء ما رأينا من تناقض في
طروحات القوم، كان لا بدّ أن نستوفي البحث حقه
من خلال القرآن الكريم بهدف ملاحظة آرائهم
ومناقشة مبانيهم، وقد بان لنا أن أكثر
الباحثين قد وجهوا نصوص الوعد ونصوص الوعيد
بما يخدم رؤيتهم ومصالحهم الدينية والسياسية،
ووفاقاً لاختيارات خاصة في تفسير كتاب الله
تعالى، وغالباً ما كان الرأي هو الحاكم على
هذه الرؤية، أو تلك بعيداً عمّا دعا الله
تعالى ورسوله إليه في أن يكون الحاكم هو كتاب
الله تعالى، وبما أن هذا الأمر لم يحصل، وجاءت
النتائج بخلاف ما أمر الله تعالى به ودعا
إليه، فكان لا بدّ من عرض الرؤية في ضوء مدرسة
أهل البيت (عليهم السلام) الذين أمر الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا نتقدّم
عليهم، ولا نتأخر عنهم، لكونهم النمرقة
الوسطى، والباب الذي يؤتى منه لفهم أسرار
وغوامض الشريعة الإسلامية الغرّاء. وهذا مسوّغ
كافٍ بذاته لأن نعيد طرح الرؤى لاستكشاف
الملامح، واستكناه الغوامض في مزاعم القوم وما
اعتمدوه من مناهج لبلورة الرؤية الخاصة لكل
فرقة ومذهب ومدرسة في تاريخ المسلمين. وقد لفت
نظرنا في سياق بحوثنا أنّ هذه الفرق على
اختلافها ومن تزعمها من فقهاء وعلماء كلام لم
تكن جاهلة بما أجاب الإمام علي (عليه السلام)
عنه من أسئلة في الوعد والوعيد، والقضاء
والقدر، بل كانت على علم بذلك، ولكنها كانت
تختار خلافه رغم علمها بأن الإمام (عليه
السلام) هو باب مدينة العلم الإلهي، والسبب في
ذلك هو الاعتداد بالرأي، والتسمّي بالعلم،
وغير ذلك مما كان يدفع بزعماء الفرق الإسلامية
إلى تجاهل النصوص، واختيار المصالح الدنيوية
على حساب الدين، كما بيّن الشهرستاني في كلامه
المتقدّم في التمهيد أنّه كانت لكل فرقة صولة
ودولة وغير ذلك مما كانت ترتكز إليه في تسويغ
ذاتها، ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى
استخدام المعتزلة للسلطة في زمن المأمون
العباسي، واستخدام أهل الحديث للسلطة في زمن
المتوكل، فلم تكن هذه الفرق تقوى بذاتها على
تسويغ معتقداتها، وإنّما كانت تستخدم السلطة
لفرض رأيها، وتغليب منطقها مستخدمة العنوان
الإسلامي والقرآني فيما كانت تلجأ إليه من
أساليب ووسائل لجعل معتقدها ديناً للسلطة
والأمة معاً.
إنّ من مسوّغات هذا البحث أيضاً، بل من
الدوافع إليه، هو تجاهل الكثير من العلماء
لسياق الآيات القرآنية في عرض مسألة الوعد
والوعيد، حيث رأينا بعض العلماء يتجاهل ما هو
عام وما هو خاص في القرآن، ويذهب إلى القول
بنسخ الأخبار، ويحتم على الله تعالى ما لم
ينزل به سلطاناً، ويؤوّل الآيات وفاق منهجه في
فهم علوم القرآن، هذا فضلاً عمّا زعمه قوم من
خلود لعصاة المسلمين في النار، وآخرون من خلود
مرتكب الكبيرة في النار، إلى غير ذلك من
المقولات المذهبية التي تجاهلت العفو الإلهي،
والشفاعة وكل موانع إنفاذ الوعيد. وهذا كافٍ
بذاته لأن يكون مسوّغاً أساسياً للبحث على
اعتبار أن آيات الوعد والوعيد جاءت في كثير من
الآيات في سياق واحد، ومن شأن المنهج الموضوعي
فيما لو اعتمد أن يكشف عن كثير من الحقائق
القرآنية، باعتبار أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً
ويصدق بعضه بعضاً، ويشهد بعضه على بعض، وقد
هالنا فعلاً ما رأيناه من تناقض للمفسرين فيما
ذهبوا إليه من تأويل في آيات التوبة، وخاصة في
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾
[11]
، فنراهم يتجاهلون أنَّ الآية مجملة ويأخذونها
مستقلة برأسها لفهم معنى التوبة والعفو، ساهين
تماماً عن الآيات التي تبيّن معنى الآية في
قوله تعالى: ﴿ إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ...
﴾
[12]
. هذا فضلاً عن آيات التوبة الكثيرة، وهذا ما
رأينا الزمخشري يوجهه إلى ما يلائم نظرية
الاعتزال
[13]
، هذا فضلاً عمّا نراه عند مفسرين آخرين من
قول باشتراط التوبة سواء في الشرك أم في
الكبائر، دونما اعتبار للحكمة الإلهية فيما
أمرت به ونهت عنه...
وهكذا، فإنَّ مسوّغ البحث ليس مجرّد عرض للرؤى
والنظريات الكلامية والفلسفية، وإنّما
المناقشة والملاحظة في ضوء السياق القرآني
العام، لأنه لا يُعقل أن يكون عصاة المسلمين
خالدين في جهنم كما يقول المعتزلة، كما لا
يُعقل أيضاً تجاهل الشفاعة ومشيئة الله تعالى
بحق من لم يتب عن الكبيرة وكان جاهلاً بما
يقتضيه أمر الله ونهيه، وقد قال الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) «ادّخرت شفاعتي لأهل
الكبائر من أمّتي»، وهنا تبدو لنا ملحوظة
مهمة جداً، وهي أن أهل الكبائر من الأمة الذين
ينالون الشفاعة لا يمكن أن يكونوا أولئك
المعاندين، أو المستخفين، أو الذين أصرّوا على
الكبيرة، وإنما هي لأولئك الذين ماتوا وكانت
منهم الكبائر قصوراً في المعرفة والعلم بعواقب
ما أتوا به من أعمال وذنوب، وقد قال تعالى: ﴿
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا
حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
[14]
.
إذاً، المسوغات كثيرة لإعادة طرح هذا الموضوع
من خلال القرآن الكريم، الذي نرى أن هناك
التباسات كثيرة قد تتسبّب بالخروج عن السياق
القرآني في معالجة مسألة الوعد والوعيد، ويكفي
في هذا السياق أن نشير إلى أن التدبر في
القرآن من شأنه أن يؤدّي إلى ملامسة بعض
اللطائف القرآنية التي تسهم في تجاوز حدود
الإفراط والتفريط في حقيقة الوعد والوعيد، بما
يؤدي إلى اكتشاف حقيقة الموقف الرسالي في
مسألة كانت ولا تزال تثير الكثير من الأسئلة
في حياة الإنسان المسلم، فضلاً عن آخرته، لأنّ
القرآن فيه تبيان لكل شيء، ويمكن للمتدبّر من
خلال الرؤية الموضوعية أن يستوعب هذا الموقف
ويحصيه على النحو الذي يمنع من القول بغير
علم، وهذه الإمكانية يمكن أن تتبدّى لنا في
ضوء عرض الأخبار في القرآن الكريم، باعتبار أن
ما يخبر عنه القرآن فهو كائن لا محالة، هذا
فضلاً عن استحالة تناقض الأخبار، لقوله تعالى:
﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ
اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾
[15]
.
كما أنّ المسوّغ الذي يدعو الباحث إلى مزيد من
التدبر، هو أن الوعد والوعيد في القرآن اقتصر
البحث فيه على الوعد والوعيد الأخروي وما يكون
فيه للكفار، أو للعصاة، أو للمؤمنين من منازل،
سواء في الجنة أم في النار، في حين نرى أن
الوعد والوعيد له تداعياته وتحققاته في الدنيا
أيضاً، وهذا ما يمكن التفصيل فيه في مباحث
الكتاب أيضاً، بحيث يتظهّر لنا معنى ومفهوم
الوعد والوعيد في الدنيا وما يكون للإنسان من
ذلك في ضوء أعماله والتزاماته، بل في ضوء
إيمانه وعمله الصالح، إذ ترى الكثير من الأمم
والشعوب قد تحقق لها الوعد والوعيد في الدنيا
رغم رحمة الله تعالى الواسعة، فالعجب كل العجب
ممن يقول بالحبوط، أو في انقطاع العذاب لمن هو
مخلّد في النار كما زعم كثيرون، وقد بيّن
القرآن هذه الحقائق، مبشراً ونذيراً، واعداً
ومتوعّداً، مبيّناً أن الله تعالى إن شاء عفا
وغفر، وإن شاء عذّب في سقر، كما جاء في دعاء
الجوشن: «يا من عُبد فشكر، ويا من عُصي
فغفر». فهو أهل المغفرة، وأهل التقوى،
وكما قال مولى الموحدين أمير المؤمنين (عليه
السلام): «فباليقين أقطع لولا ما حكمت به
من تعذيب جاحديك، وقضيت به عن إخلاد معانديك،
لجعلت النار كلها برداً وسلاماً..»
[16]
إلى غيرها من الأحاديث التي تفسّر كلمات الله
تعالى وتبيّن معنى الوعد والوعيد فيما ينطويان
عليه من معرفة ودلالة، وقد روى البرقي في
المحاسن عن عبد الله بن القاسم الجعفري عن أبي
عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم
السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): «من وعده الله على عمل ثواباً
فهو منجزه له وعده، ومن أوعده على عمل عقاباً
فهو فيه بالخيار...»
[17]
.
تبيّن لنا فيما مهّدنا له عن مذاهب الفرق
الإسلامية أن اجتهاد الرأي، والقول بغير علم
على الله تعالى، كان السبب الرئيسي فيما آل
إليه حال المسلمين من اضطراب في تاريخهم
الديني والسياسي، كما أنّ مسوّغات البحث
ودوافعه أضاءت على جوانب من بحثنا هذا على نحو
يستطيع الباحث معه أن يؤسّس لطرح إشكاليات
علمية سبق لعلماء الكلام، وعلماء العقائد،
وأهل التفسير أن عرضوا لها وأجابوا عليها،
وكانت النتائج دائماً مزيداً من الإشكاليات
نظراً لتباعد الفرق عن القواعد الرئيسية التي
أرساها الإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) لهداية
المسلمين إلى الصراط المستقيم. وإذا كنّا في
تمهيدنا لهذا البحث قد بينّا بعض الأسباب التي
أدّت بالمسلمين إلى أن يكونوا حيارى في زلزال
من الأمر، وفي بلاء من الشكّ بما اعتمدوه من
وسائل للدفاع عن العقائد الإيمانية بالحجج
العقلية، فإنّ إضاءتنا على إشكاليات قديمة
حديثة من شأنه أن يضيء الطريق للباحثين
ليتعرفوا إلى مزيد من الأسباب التي حالت دون
عزّة المسلمين في الدين والسياسة معاً. ذلك
أنّ كل مشكلة على مستوى العقيدة كانت تواجه
بمشكلة جديدة، لأنّ الحلول، كما سنرى، هي في
القرآن والسنّة، ولعلّه هنا من المناسب القول،
بل التساؤل عمّا إذا كان تاريخ المسلمين قد
ارتكز فعلاً إلى تاريخ الإسلام وتجاربه؟ رغم
أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أبان
عن كل شيء، وأجاب عن أسئلة المسلمين بما لا
يحوجهم إلى الأخذ بأسباب العزّة في الدين
والسياسة لغيرهم. هذا فضلاً عن خطاب الله
تعالى لهم بأن يأخذوا بأسباب الحياة التي
دلّهم عليها وأرشدهم إليها في قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
[18]
والحياة في الآية المباركة ليست مجرّد حياة
بيولوجية، وإنما هي حياة في الروح والعقيدة
وفي كل ميادين الحياة الروحية والمادية، ذلك
أن الله تعالى الذي خلق الإنسان من تراب تكفل
له بالهداية للخروج به من الظلمات إلى النور،
كما قال تعالى: ﴿
أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ
لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ... ﴾
[19]
.
إذاً، إشكالية البحث ليست مجرّد أسئلة يطرحها
الباحث لمناقشتها، أو نقدها، أو الإتيان بشيء
جديد بشأنها، وإنّما هي بالإضافة إلى ذلك،
إجابة على أسئلة كبرى سبق للمسلمين أن عاشوها
وتفاعلوا معها، من قبيل ما عرضت له الفرق
والمذاهب واعتقدته، إذ في الوقت الذي رأت فيه
المرجئة أن الكفر لا تنفع معه طاعة، وأن
الإيمان لا تضرّ معه معصية، فضلاً عمّا أثبتوه
للفاسق الملي من إيمان مطلق، آخذين بالوعد
الإلهي على أنه أساس كل فوز عظيم، ومستقلين به
عن الوعيد، كان الخوارج والمعتزلة في الجانب
الآخر يرون خلاف ذلك، ويأخذون بالوعيد على أنه
أساس ومرتكز لكل تحوّل إنساني في الدنيا
والآخرة، وقد سمّوا بالوعيدية لما تأوّلوه من
نصوص تسلب عن الفاسق الملي مطلق الإيمان،
وتحكم بخلوده في النار إذا لقي الله تعالى من
غير توبة، وبين هذه الفرقة وتلك، كان آخرون
يتوسطون هؤلاء، فيأخذون بالوعد والوعيد،
ويتأوّلون النصوص على النحو الذي يفهم منه
النجاة للعصاة وأهل النفاق، بلغت بهم الأهواء
والمعاصي حدّ ارتكاب الكبائر، هذا فضلاً عمّا
زعموه من مصطلحات في الوعيد بالعموم والإطلاق
دون المعيّن، وقد زعم هؤلاء أنهم يتوسطون حال
الفرق ويمثلون الرؤية الدينية الصحيحة، آخذين
من قوله تعالى حجة ودليلاً على أن كل من تاب
ولحقت به موانع إنفاذ الوعيد حقّت له المغفرة،
على قاعدة قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
﴾
[20]
وقد بلغ بهم التعلق بالمشيئة أن جعلوا كل فاسق
ومنافق وقاتل مشمولاً لها على النحو الذي يفهم
منه تلميحاً وتصريحاً أن الفساق في جميع
حالاتهم يمكن أن لا يكونوا خالدين في العذاب،
ساهين عن قوله تعالى: ﴿
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا
حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾
[21]
.
كما أنهم تجاوزوا قول الله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ...
﴾
[22]
إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو الحكمة
والعدالة إلى أن يكونوا في العذاب فيما لو
تساهلوا واستكبروا وعصوا الله تعالى فيما أمر
به ونهى عنه، على اعتبار أن المتكبّر
والمتساهل، ولا نقول الجاهل والقاصر، ليس من
الحكمة أن تشمله المشيئة، وقد بيّن علماء
التفسير، كالطباطبائي (قده) ، والرضي (قده) ،
والطبرسي(قده) ، والطوسي (قده) ، والزمخشري
(رحمه الله) ، وابن كثير، وغيرهم كثير أنّه
ليس دائماً يمكن اللحوق بالمشيئة فيما لو
تجاوز الإنسان الحق إلى الباطل معانداً. وهذا
ما سيكون موضوع بحث وتأمّل إن شاء الله تعالى.
نعم، إنّ الإشكالية الكبرى تكمن هنا، ولا زلنا
نتعايش ونتفاعل مع هذه الإشكاليات، لكونها تقع
في صلب اعتقادنا وإيماننا، ولكون القرآن لا
يزال حيّاً فينا، ويدعونا إلى التدبّر
والإيمان والعمل الصالح، ويمكن للباحث مجدّداً
تناول هذه الإشكاليات طالما أن الإنسان مدعوّ
من ربّ العالمين إلى التدبّر ليتبيّن له: ﴿
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ... ﴾
.
كما أنه لم يقتصر الأمر على تصادم الكثير من
الفرق، بل ظهرت معتقدات كثيرة تصارع أهلها إلى
حدّ الفناء، وخاصة بين الأشاعرة وأهل الحديث،
والمعتزلة، لما كانت تراه كل فرقة من حقّ دون
غيرها. ولا شكّ في أنه مقابل هذا كلّه، ظهرت
عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) في وسط هذا
الصراع المحتدم لتجيب على كلّ الأسئلة
المعروضة، ونحن نزعم أن هذه العقيدة ساهمت إلى
حدّ كبير في حماية الإسلام عقيدة وشريعة من
سوء التأويل والتحريف، ولولاها لما اهتدى
المسلمون إلى نظريّة الأمر بين أمرين بعد
احتدام الصراع المادي والمعنوي بين القائلين
بالجبر والقائلين بالاختيار، وبين القدرية من
جهة، والأشاعرة وأهل الكسب من جهة أخرى.
لقد حسم أهل البيت (عليهم السلام) الجدل في
كثير من العناوين، في القضاء والقدر، وفي
الوعد والوعيد، وفي الشفاعة، والرجعة، بل في
أكثر من ذلك فيما يعود إلى صميم عقيدة
التوحيد، في الصفات والأسماء والأفعال،
وأجابوا على أسئلة كل الفرق، ولكن السياسة
كانت دائماً تحول بين هذه العقيدة وبين أن
يكون لها تأثيرها وامتدادها في أوساط المسلمين
ليشكّلوا من خلالها ثقافة جديدة تساعدهم على
الخروج من نفقهم المظلم في الدين والسياسة إلى
نور الإسلام والعقيدة السمحاء.
إنّ ما يعجب منه أن يدّعي البعض أنه يتوسط بين
المرجئة وبين الخوارج والمعتزلة، زاعماً أنه
يمثّل الوسطية دون إفراط أو تفريط، وكأن
المسألة في العقائد مرتبطة بالإجابة على أسئلة
مطروحة، أو بالتساؤل حول عقائد متداولة يراد
تصويبها في ضوء الرؤى واجتهاد الرأي، أو من
خلال المماحكة النظرية بين الفرق، وقد سهى
بعضهم عن أنّ المطلوب هو الارتكاز إلى القرآن
والسنّة وإلى أئمة المسلمين الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لأنّ هؤلاء
الأئمة هم المعنيّون بهذه الأسئلة، والإجابة
عليها، وليس أي إنسان كيفما اتفق، وهذا ما
خالفته الفرق حينما ادّعت لنفسها حق التمثيل
والتعبير والتقويم، فأخرجت نفسها عن كونها
تابعة لتكون متبوعة. وهذا ما عبّر عنه الأئمة
(عليهم السلام) بالقول: «كأن كل امرئ منهم
إمام نفسه...».
مما تقدّم، نرى إمكانية ملحّة لصياغة
الإشكاليات من خلال جملة من الأسئلة التي تمثل
جوهر ما سيتمّ معالجته في هذا الكتاب. ولعلّه
من أهم هذه الأسئلة ما طرحه بعض العلماء عن أن
خلف الوعيد إنّما يكون في الإنشاء، وليس في
الأخبار، وهنا يبرز السؤال الأساسي، هل يمكن
الجمع بين القول بخلف الوعيد، وقوله تعالى: ﴿
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
﴾
[23]
؟ وما هي أسباب وموانع إسقاط الوعيد، وهل
توعّد الله تعالى غير الكافرين بالخلود في
النار؟ وهل يخلف الله الوعيد؟ وهل يخفف
العذاب؟ وهل يجوّز النسخ في الأخبار؟ وهناك
أسئلة أخرى تتعلّق بالمخلّدين في النار، ومن
هم؟.
ولعلّ السؤال الأبرز يكمن فيما اختلف حوله
العلماء والفقهاء، وهو: هل الغفران مشروط
بالتوبة، سواء لأهل الكفر أم لأهل الكبائر؟
وهل معنى الدخول تحت مشيئة الحكم مطلقاً
بالعفو والمغفرة، ولماذا حقّ العذاب للكثيرين،
كما جاء في القرآن، وخاصة بحق اليهود والنصارى
رغم أن هناك آيات قرآنية أدخلتهم في المشيئة؟
إنّ قيمة هذه الإشكاليات وما تختزنها من أسئلة
تكمن في كونها لا تزال معاشة، وهذا ما سنعيد
طرحه مجدداً في ضوء القرآن والسنّة لنبيّن
أنَّ التوبة مطلوبة من قريب وأن تكون توبة
نصوحاً، وإن من لم يتب توعّده الله تعالى
بالعذاب الأليم لكون مقتضى الحكمة الإلهية أن
لا يكون العفو جزافاً، وإلاّ استحال الأمر
والنهي، وفسد التشريع، إلى غير ذلك مما أجمع
عليه الشيعة الإمامية، وخاصة العلاّمة
الطباطبائي والرضي (قدّس سرّهما) في كتابيهما،
الميزان، وحقائق التأويل، اللذين أسهبا في
الكلام عن الوعد والوعيد من خلال رؤية
موضوعية، ومناقشة مستفيضة للفرق والمذاهب من
خلال القرآن والسنّة، إضافة إلى البحوث
الروائية التي استند إليها كل فريق في الدفاع
عن عقيدته. كما بيّن هؤلاء العلماء حقيقة
الخطأ المنهجي الذي وقع فيه الكثيرون من علماء
الفرق، والذي أدّى إلى أن تكون الإشكاليات
أكثر بروزاً وتصادماً في تاريخ المسلمين.
ومن هنا، نرى الفائدة في عرض رؤيتنا لطبيعة
المنهج الذي سنعتمده في هذا المبحث، لأن الذي
يبين جوهر الموضوع وجدّية البحث فيه، هو ما
يمكن اختياره من إشكالية ومنهج على نحو يؤدّي
بالباحث إلى استكشاف ملامح جديدة في إطار
البحث، وخاصة في مبحث وإن لم يتخذ كأصل من
الأصول عند كثير من الفرق، إلاّ أنه موضوع
جدير بالمتابعة في سياق عقيدة المسلمين، على
اعتبار أن المعتزلة قد جعلوا من الوعد والوعيد
أصلاً عقائدياً تمايزوا به عن سائر المذاهب
والفرق الإسلامية. وطالما أن المنهج هو الذي
يحدّد طبيعة المبحث وما يؤول إليه من نتائج،
فهذا يقتضي منّا أن تكون لنا كلمة في المنهج
لتوضيح الرؤية وتحديد الأفق الذي نروم الوصول
إليه، باعتبار أنّ موضوع الوعد والوعيد هو من
أكثر المواضيع القرآنية التي برّزها العلماء،
وجعلوها مجالاً لنزاعاتهم الكلامية والفقهية
والفلسفية، ما يعني ضرورة إعادة النظر في
الرؤية الشاملة لما استقرّ عليه الرأي
والاجتهاد، لأنّه كما سبق وقلنا: إن الذي
احتكم إليه كثير من العلماء في إطار
المناقشات، هو الرأي والاجتهاد، كونهم لم
يلجأوا إلى ركن وثيق في تحرير مقالاتهم، بل
اختاروا أن يكون القرآن والسنّة ساحة وملاذاً
لتسويغ أطروحاتهم الكلامية، بدل أن يكون
القرآن هو الحاكم والحكم فيما اعتمدوا عليه
واختاروه من عقائد لم يثبت بالدليل والبرهان
أنها تعبّر عن حقيقة النظرية القرآنية في مجال
له علاقة وثيقة بسائر مسائل العقيدة
الإسلامية، التي كانت ولا تزال وستبقى الإطار
الحقيقي لكل فوز عظيم في دنيا الإنسان وآخرته،
وكما بيّن القرآن أنّ هذه العقيدة مثلما هي
مثار حقّ وهداية للذين آمنوا، فكذلك هي مثار
خسران للظالمين والفاسقين، كما قال تعالى: ﴿
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ﴾
[24]
.
اعتاد الباحثون في بحوثهم الإسلامية والقرآنية
على تحديد ملامح المنهج بما هو طريقة للبحث
يحددها الباحث وفاق رؤية وقواعد ينطلق منها في
التأسيس لما يريد تبيانه. وغالباً ما يسمّي
الباحث منهجه مسبقاً، فيقول: إنّ المنهج
التاريخي، أو الاستقرائي، أو التحليلي، أو
الاستدلالي، أو الإحصائي، هو الملائم لمعالجة
موضوع البحث والخلوص إلى نتائج بشأنه، وهذه
طريقة في البحث، وإن كنّا نرى لها وجهاً في
المنهجية العلمية، إلاّ أننا لا نرى أن تسمية
المنهج، أو تعريفه، هو السبيل الأنجع لوسم
البحث بالعلمية، بل لا بدّ، بالإضافة إلى ذلك،
من التعريف بالمنهج وفاق رؤية شاملة لموضوع
البحث، بحيث يقدم الباحث تعريفه من خلال
التأكيد على الخطأ المنهجي الذي سبق لباحثين
قبله أن وقعوا فيه، وللتمثيل على ذلك، نرى أن
أكثر الباحثين قد عالجوا موضوع الحكم والسياسة
في الإسلام من خلال آيات تعني مفهوماً
ومنطوقاً بالشأن السياسي، أو الاجتماعي، وقد
أدّت بهم هذه المنهجية إلى الحكم على الإسلام
بأنه يخلو من نظرية في الدولة، أو في السياسة،
وهذا الحكم جاء نتيجة للمنهج الذي اقتصر به
بعض الباحثين على آيات محددة من القرآن لم
يروا فيها رؤية أو نظرية متكاملة حول الدولة
في الإسلام، ولو أن منهجهم ارتكز أساساً على
أن الإسلام لا يقدم نظريته في الدولة من خلال
نصوص مستقلّة، وإنّما يسري ليلامس العقيدة
والشريعة وكل الآيات ذات الصلة بالإنسان روحاً
ومادة، ومن هنا نرى أن المنهج الموضوعي بما هو
منهج جدلي يمكن أن يكشف عن حقيقة هذه الملامسة
والممازجة بين النصوص، بحيث يتبدّى لكل باحث
بصير أن الإسلام فيما عرض له من نظريات لم
يأتِ بها في سياق جزئيات مستقلة، باعتبار أن
الإسلام كلٌّ واحد لا يتجزّأ، والسياسة فيه
ليست شأناً مستقلاً يمكن لأي باحث أن يظهّرها
وفاق فهمه وحكمه المسبق عن الإسلام، لأنه بذلك
يكون قد جافى الحقيقة تماماً.
وهكذا الحال بالنسبة لموضوع الوعد والوعيد في
القرآن، فإذا لم نأخذ بالمنهج الموضوعي،
فإنّنا لن نستطيع الإتيان على موضوع ما من
جميع جوانبه، وقد تبيّن لنا في التمهيد
والإشكالية أن علماء الفرق، سواء في الكلام أم
في الفلسفة، منهم من لاذ بنصوص الوعد، ومنهم
من لاذ بنصوص الوعيد، ومنهم من زعم التوسط
ساهين عن أن القرآن في جميع آياته يستبطن
الحقيقة في هذا الموضوع، وما على العلماء
والفقهاء إلاّ أن يكشفوا عنها، لا أن ينتجوها،
تماماً كما هو شأن العلماء في مجال
اختصاصاتهم، سواء في عالم الحيوان أم في عالم
النبات أم في عالم الإنسان، فضلاً عن عالم
الطبيعة.
إنّ المنهجية المطلوبة في سياق هذا المبحث، هي
اعتماد الرؤية القرآنية كاملة من خلال الجمع
بين نصوص الوعد والوعيد، وضمّها بعضها إلى
بعض، لأنه مقابل كل آية وعيد نجد آية الوعد،
كما قال تعالى: ﴿
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
﴾
[25]
، وقوله تعالى: ﴿
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾
[26]
، فهذان نصّان من القرآن، فلا يجدر بالعلماء
أن يأخذوا بأحدهما ليكونوا من الوعيديّة، كما
أنه لا يجدر بعلماء آخرين أن يأخذوا بنصّ
الوعد ليكونوا من أهل الوعد. وهكذا في جميع ما
نرى أنه قابل للبحث في ضوء المنهجية
الموضوعية، التي نرى أنها متكاملة تماماً مع
المنهج المقارن، الذي يؤدّي بالباحث إلى
استكشاف حقيقة النظرية في القرآن الكريم،
واستخلاص الموقف الرسالي اتجاه أيّة قضيّة.
إنّها منهجية جديرة بالاهتمام، وخاصة إذا ما
علمنا أن نصوص الوعد والوعيد ليست منفصلة عن
علم القضاء والقدر في القرآن، ذلك أنّ أي سوء
فهم للقضاء والقدر لا بدّ أن ينعكس على حقيقة
الوعد والوعيد، وهذا ما أشار إليه أمير
المؤمنين ومولى الموحدين الإمام علي (عليه
السلام) بقوله في جواب مَن سأله: «أكان
مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره؟ فقال
الإمام (عليه السلام): ويحك لعلّك ظننت قضاءً
لازماً وقدراً حاتماً، ولو كان ذلك كذلك لبطُل
الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد...»
[27]
.
هناك الكثير من النصوص، بل النظريات التي يمكن
الإجابة على ما يثار حولها من أسئلة من دون
لحاظ كامل الرؤية في القرآن والسنّة، ولهذا،
نرى أنه لشدّة اشتباه الأمر على المعتزلة
جعلوا منها أصلاً من أصولهم الخمسة، ما يدلّ
على أن مسألة الوعد والوعيد ليست منفصلة عن
نصوص التوحيد والعدل والنبوة والإمامة
والمعاد، وخاصة عن المعاد، الذي رأى المحقق
الطوسي (قده)، أنَّ وجوب إيفاء الوعيد، يقتضي
وجوب البعث، إلى غير ذلك مما لحظه علماء
الإسلام، وخاصة الإمامية، الذين لم يفصلوا بين
الأصول الاعتقادية، باعتبارها نصوصاً ممازجة
لبعضها بعضاً، وتتولّد بعضها من بعض، فإذا لم
يصحّ الكلام في القضاء والقدر، فلا يصحّ
الكلام في الوعد والوعيد، وهذا ما ينبغي على
الباحثين اعتماده في منهجيّة البحث الإسلامي،
وخاصة القرآني.
كما تجدر الإشارة إلى أن منهج هذا البحث لن
يقتصر الأمر فيه على نفي الجزئية عن قضايا
ومسائل الوعد والوعيد، وإنّما يهدف أيضاً إلى
تبيان معنى الوعد والوعيد في سياق رؤية
العلماء ونظرياتهم حول الكلام في الأزل،
والكلام المحدث، إضافة إلى مسألة التحسين
والتقبيح العقليين، الذي ارتكز إليهما أهل
العدل في توضيح وبيان المطالب في مجال الوعد
والوعيد، وقد أظهرت الأشعرية المتولّدة من رحم
الاعتدال عناداً مشهوداً أفضى بهم إلى أن
اتهموا الله تعالى في عدله، نافين دور العقل
في التحسين والتقبيح، هذا فضلاً عن قولهم بأنّ
الله لا يجب عليه شيء من قضية العقل، كما أفاد
الشهرستاني
[28]
، وكأن هؤلاء فيما عبروا عنه من اعتقاد
وارتكاز على السمع، قد غرب عن بالهم أن السمع
إنّما جاء لإثارة دفائن العقل، ولو لم يكن
مركوزاً في العقل سرّ الوحي لما بعث الله
تعالى نبيّاً قطّ كما أفاد الشيخ الصدوق في
كمال الدين وتمام النعمة
[29]
.
مما تقدّم، نستطيع القول: إنّ كلمتنا في
المنهج ليست مجرّد اعتماد الرؤية الموضوعية
والمنهجية المقارنة، وإنما هي لاحظة لما سبق
للعلماء أن اعتمدوه من منهج في تجزئة البحث في
الأحكام والمسائل الاعتقادية، ما جعلهم أمام
جزئيات لا تحصى اضطرب القول فيها إلى حدّ
الاتهام بالتكفير لكثير من الفرق، كما أفاد
البغدادي في أصول الدين
[30]
، هذا فضلاً عن أن منهجيتنا في هذه الدراسة
ستأخذ بعين الاعتبار جوهر الإشكالية المعالجة
في هذا المبحث بعد استجماع الرأي فيها بما لا
يؤدّي إلى الاستغراق في التاريخ، أو في
الصراعات المذهبية، طالما أن الغاية هي
الارتقاء بخلاصة الموقف لهذه الفرقة، أو تلك
بالشكل الذي يحول دون الاستغراق في التناقضات
والصراعات المذهبية، إذ يكفي في هذا السياق أن
نؤكّد أنّ حال الفرق فيما آلت إليه كافٍ بذاته
لأن يشكّل إشكالية قابلة للبحث في كل زمان
فيما لو أراد الباحث أن يتجاوز الماضي إلى
الحاضر والمستقبل على أن يكون القرآن والسنّة
هو مرتكز البحث ودليله، لأن حال الفرق
والمذاهب الإسلامية في التاريخ كحال المريض
الذي أصابه المرض واستبدّت به المحن، فقصد
أطباء الفرق والمذاهب لتشخيص حالته الصحية،
وكانت النتيجة أن وصفت له أدوية مختلفة، ولم
يهتدِ أي من هذه الفرق إلى مرضه، فاستحال أمره
إلى مزيد من المرض، وهذا هو حال الأمة
الإسلامية اليوم في ظلّ منازع القول واختلاف
المذاهب، ولولا أن الله تعالى قد خصّ هذا
الدين بما يحفظه ويمنع عنه التحريف وسوء
التأويل، لانتهى أمر الإسلام والمسلمين إلى
مزيد من المرض والضياع المادي والمعنوي.
إنّ منهجيتنا تتركّز في جوانبها كافة على ما
أسس له أهل البيت (عليهم السلام) في حماية هذا
الدين، وعلى ما تركوه من أصول في العقيدة
والشريعة تؤدّي بالمسلم فيما لو التجأ إليها
وصدر عنها إلى أن يكون بمنأى عن الأعراض
والأمراض، ولعلّ أكثر ما يدلّ على صوابية هذا
الرأي، هو المناظرات التي قام بها أهل البيت
(عليهم السلام) لإحقاق الحق وإزهاق الباطل،
هذا القيام الذي منع الدين من الاندراس، وأسقط
الكثير من المقولات والنظريات، سواء في
العقيدة أم في الشريعة.
كما أنه لا يخفى أيضاً أن أسس المنهج المتكامل
تكمن في لحاظ الرؤية الجامعة لمدرسة أهل البيت
(عليهم السلام) الذين هم أهل القرآن، في
الباطن والظاهر، وفي الأول والآخر، على اعتبار
أنهم باب مدينة علم الله تعالى، ومن شأن
الارتكاز إلى قواعد وأسس هذه المدرسة، أن
يؤدّي بالمسلمين إلى استخلاص المواقف، واتخاذ
العبر، بل من شأنه أن يحول دون الضياع بين
منهج هذه الفرقة أو تلك، لأنّ أهل البيت
(عليهم السلام) لهم منهج واحد يصدرون عنه،
ويعبّرون من خلاله عن الرؤية القرآنية
المتكاملة في كل مجال من مجالات الحياة
[31]
.
ولا شكّ أيضاً في أنه كلما قال المسلمون لا
حاجة بنا إلى هذه المنهجية كما جاء في بداية
الأمر، كلما ابتعد المسلمون أكثر عن جادة
الصواب...!؟
فالإسلام كلٌّ واحد، والمنهج الحق هو الذي
يرتكز إلى هذه الحقيقة ويصدر عنها، لأنه لا
فصل في الإسلام بين نظرية وأخرى، فالكلّ
متداخل ومتمازج إلى حدّ أن أية قضية من
القضايا وأي موقف من المواقف، سواء في مجال
العقيدة أم في مجال الشريعة، يتولّد من القرآن
وكلامه، تولّد الثمرة من الشجرة، وتولّد النور
من الشمس، ذلك هو معنى الممازجة في حقيقة
الإسلام، بأن يتحوّل المنهج من كونه منهجاً
متجزئاً ليكون منهجاً عاماً ومتكاملاً فيما
يعالجه الباحث من قضايا، وفيما يبحث عنه
ويؤسّس له من نظريات في الدين والدنيا
والآخرة.
[1]
سورة الزمر، الآية: 9.
[2]
سورة المجادلة، الآية: 11.
[3]
سورة النساء، الآية: 48.
[4]
سورة النساء، الآية: 122.
[5]
انظر، الفضلي، عبد الهادي، موقف الإمامية من
الفرق الإسلامية، بحث في النشأة وأصول
العقيدة، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي،
بيروت، ط3، 2055، ص104.
[6]
الإمام علي (عليه السلام)، المعجم المفهرس
لألفاظ نهج البلاغة، كاظم محمدي، ومحمد دشتي،
دار الأضواء، بيروت، 1986، الخطبة:88.
[7]
الشهرستاني، أبي الفتح محمد بن عبد الكريم،
تحقيق محمد كيلاني، دار صعب، بيروت، 1986، ج1،
ص15.
[8]
م. ع، ص42.
[9]
م. ع، ص16.
[10]
عبد الله شبّر، حق اليقين في معرفة أصول
الدين، مكتبة الآداب الشرقية، بيروت، ط1،
ص466.
[11]
سورة النساء، الآية: 48.
[12]
سورة النساء، الآية: 31.
[13]
الزمخشري، أبي القاسم جار الله، (467 ـ
538هـ)، تفسير الكشاف، دار الكتب العلمية،
بيروت، ط5، 2009، ج1، ص509.
[14]
سورة النساء، الآية: 18.
[15]
سورة النساء، الآية: 82.
[16]
دعاء كميل بن زياد.
[17]
الحر العاملي، وسائل الشيعة، (ت 1104هـ)،
مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث،
قم المشرفة، ط2، 1414هـ، ج1، ص81.
[18]
سورة الأنفال، الآية: 24.
[19]
سورة الأنعام، الآية: 122.
[20]
سورة النساء، الآية: 48.
[21]
سورة النساء، الآية: 18.
[22]
سورة النساء، الآية: 31.
[23]
سورة ق، الآية: 14.
[24]
سورة الإسراء، الآية: 82.
[25]
سورة الانفطار، الآية: 14.
[26]
سورة الانفطار، الآية: 13.
[27]
الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م. س،
قصار الحكم: 78.
[28]
الشهرستاني، الملل والنحل، م. س، ج1، ص42.
[29]
الصدوق، أبي جعفر بن بابويه، كمال الدين وتمام
النعمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1991م، ص16.
[30]
يقول البغدادي عن أصحابه: «إنّ أصحاب الوعيد
من الخوارج والقدرية يخلدون في النار لا
محالة...». انظر: البغدادي، أبي منصور عبد
القاهر بن طاهر التميمي، أصول الدين، (ت
429هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1980،
ص242.
[31]
انظر: السبحاني، جعفر، المناهج التفسيرية في
علوم القرآن، دار الولاء، بيروت، ط2، 2013،
ص73.
عملاً بالمألوف فيما اعتمدناه من أسلوب في
التمهيد لأبواب البحوث، فقد رأينا أن نقدّم
لهذا الباب بالشكل الذي يؤدّي إلى استجماع
الرأي، وتجلية الموقف حول ما نرى أنه جديد في
بابه لجهة التركيز على مفهوم الوعد، ذلك أن
هذا المفهوم بمعزل عن إطلاق القول فيه، هو
إنّما يُفيد تحقق ما وعد الله تعالى به، سواء
في الدنيا أم في الآخرة، لأن وعده حق، كما قال
تعالى: ﴿إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾
[1] ، وهذا لا
يُستفاد منه الوعد بالخير والفوز وحسب، وإنّما
يتعدّاه إلى الوعيد أيضاً لكونه حقّاً أيضاً،
فلا يُقال: إنّ آيات الوعيد يمكن أن تخصص
بآيات الوعد، طالما أنه حق فيما وعد به وأوعد
عليه، ويستحيل الخلف فيه، لكونه خبراً، والخبر
مثلما أنه لا ينسخ، فكذلك هو لا يخصص لإجماع
الفقهاء على أن ذلك إنما يكون في الإنشاء.
فالوعد بالجنة، أو بالعذاب له دلالة سياقية
تضاف إلى سبب النزول، الذي يوضح مدى تحقق هذا
الوعد بكل أنواعه، وهذا ما عرضنا له تحت عنوان
أنواع الوعد والوعيد في القرآن، سواء في
الدنيا أم في الآخرة، كما أنه قد يجد الباحث
تركيزاً على مفهوم الوعد بما له من مصاديق
وتجلّيات في كثير من أحداث الدنيا، وكذلك
الوعيد حيث تبيّن لنا أن ما يثيره القرآن من
اعتبار، ودعوة إلى الامتثال للسنن، ليس لاحظاً
لتحققات الوعد في الآخرة، بل يأتي به القرآن
بلحاظ تحولات الإنسان ومسيرته التكاملية في
الحياة من خلال ما يؤكد عليه من ترهيب وترغيب،
وتنبيه وتذكير إضافة إلى الأخبار والقصص
القرآني، الذي يُفيد في الكثير من دلالاته
تحقق الوعد والوعيد في حياة الإنسان فيما تعرض
له من أحداث تجاوزت المصائب والبلايا
والاختبار لتكون عقاباً شاملاً، واستئصالاً
تاماً لكل الأمم والشعوب التي عتت عن أمر
ربّها، وأفسدت في الأرض، فكان الوعيد لها في
الدنيا، وهذا ما تحدّثنا عنه من خلال ملاحظة
التجارب البشرية، وخاصة في تاريخ المسلمين
وتجاربهم، وتحديداً في تجربة رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في كل الأحداث التي
رافقت البعثة النبوية سواء في مكة أم في
المدينة...
لقد أسس القرآن لرؤية متكاملة حول الموت
والحياة، وحينما نقول ذلك نعي تماماً أن الوعد
والوعيد هما في صلب ما يُعرض للناس من تحولات
باتجاه الآخرة، ويكفي للتدليل على هذا المعنى
أن نعرف أن الخبر القرآني استُحضر من تاريخ
الإنسان كله، من النبي آدم (عليه السلام) وحتى
عصر الرسالة الإسلامية، لذا فإنه من الضروري
أن يلحظ هذا الخبر لا من حيث هو خبر قابل
للنسخ لاستحالة ذلك، وإنّما من حيث هو حامل
لتجارب البشر وما جرى عليهم من سنن اجتماعية،
وتاريخية، وكونية كانت وستبقى حاكمة ما دامت
السماوات والأرض، فإذا ما تجاوز الإنسان هذه
السنن، فلا بدّ أن يلقى المصير ذاته الذي
لاقاه الإنسان في التاريخ، ولا يشفع في ذلك أن
تكون الأمة الإسلامية خير أمة لمجرّد أنها
بعثت بالقرآن، أو أن يكون الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) قد وعدها بالشفاعة، باعتبار
أن هذه الأمة ذاتها هي التي هدّدها القرآن
بقوله تعالى: ﴿ إِلَّا
تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾
[2] ، إلى ما
هنالك من آيات تخص هذه الأمة دون سواها.
إنّ غايتنا من هذا التمهيد، هي التأسيس لمباحث
الباب الأول لكونه يعرض لأهم الآراء في مجال
مصاديق الوعد والوعيد، لأنّ مفهوم الوعد، ليس
مفهوماً مجرداً، وإنّما له مصاديقه في حياة
الإنسان وتجاربه. وهنا تجدر الإشارة إلى ما
رأيناه من ضرورة لبيان الفرق بين الوعد والعهد
باعتبارهما مفهومين متقاربين لجهة ما يعنيه
الأوّل من إخبار، وما يعنيه الثاني من التزام
مع الله تعالى، ومع العباد، ولهذا قال تعالى:
﴿ وَأَوْفُواْ
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾
[3] .
كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ هذا الباب
يتضمّن مباحث في معنى الوعد والوعيد وعلاقتهما
بحقيقة العبادة، وأثر الترغيب والترهيب في
صيرورة الإنسان وكدحه إلى الله تعالى، وقد
لاحظنا أنه يوجد كثير من العلماء ممن استغرقهم
الوعد والوعيد في الآخرة، ساهين عن أن الهدف
في الأساس هو حياة الإنسان ودنياه، ولا بدّ أن
تكون العبادة، وإن بدأت بالترغيب والترهيب،
متجاوزة حالة الاستقرار التي يريدها الله
تعالى للإنسان فيما يدعوه إليه من توازن، إلاّ
أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ تستقر حالة
الإنسان على ذلك طالما أنّ المنشود هو الكمال
الإنساني الذي لا يتحقق إلا بتوجه خالص، هذا
ما تمّت مناقشته لاستخلاص الموقف وبيان الحكمة
من عبادة تتجاوز عبادة الطمع والخوف إلى عبادة
الأحرار.
إنّ الوعد والوعيد، كما بيّن القرآن، ينطويان
على غايات لا بدّ أن يصل إليهاالإنسان عن طريق
الكدح إلى الله تعالى، وقد أفادت التجارب أن
تحققات الوعد في الدنيا لم تكن تتحقّق فقط في
جوّ الترغيب والترهيب، بل كانت السكينة مجالاً
لتحقق هذا الوعد في مقابل ما كان عليه الكفار
وأهل النفاق من حميّة جاهلية كانت وستبقى
مجالاً لإنفاذ الوعيد بحق أهلها في الدنيا
والآخرة.
قال الفراهيدي في كتاب العين: «الوعد والعدة
مصدراً واسماً، فأما العدة فتجمع عدات والوعد
لا يجمع، والموعد موضع التواعد وهو الميعاد،
والموعد مصدر وعدته، وقد يكون الموعد وقتاً
للعدة، والموعدة اسم للعدة...» والميعاد لا
يكون إلاّ وقتاً أو موضعاً، والوعيد من
التهديد، أوعدته ضرباً ونحوه، ويكون وعدته
أيضاً من الشر
[4]
، قال تعالى: ﴿ النَّارُ
وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾
[5]
، وجاء في الصحاح للجوهري، أن الوعد يستعمل في
الخير والشرّ، قال الفراء: يقال وعدته خيراً،
وعدته شراً.. فإذا أسقطوا الخير والشرّ قالوا
في الخير الوعد والعدة، وفي الشر الإيعاد
والوعيد، قال الشاعر:
وإني وإن وعدته أو دعوته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
[6]
وإلى مثل هذا ذهب ابن منظور في لسان العرب،
فقال: «وعده الأمر به عدة ووعداً وموعداً
وموعدةً وموعوداً وهو من المصادر التي جاءت
على مفعول ومفعولة...، وهو أي الوعد يستعمل في
الخير والشر، كما قال الجوهري، فيقال وعدت
الرجل خيراً ووعدته شرّاً وأوعدته خيراً
وأوعدته شرّاً، فإذا لم يذكروا الخير قالوا
وعدته ولم يدخلوا ألفاً، وإذا لم يذكروا الشر
قالوا أوعدته ولم يسقطوا الألف، وإذا أدخلوا
الباء لم يكن إلاّ في الشرّ كقولك أوعدته
بالضرب
[7] » ،
ومما أضافه ابن منظور إلى كلام أهل اللغة، هو
تمييزه بين الوعد والوعيد من خلال الإشارة إلى
الوعد بما هو عهد، كما قال تعالى: ﴿ فَأَخْلَفْتُم
مَّوْعِدِي ﴾
[8]
، قال: الموعد العهد، وموعدي عهدي، كما في
قوله تعالى: ﴿ وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾
[9]
، قال رزقكم المطر، وما توعدون الجنة، واليوم
الموعود، هو يوم القيامة
[10] .
كما رأى الزبيدي في تاج العروس، أنّ وعد بغير
ألف، فلا يقال وعدته بخير وبشرّ وعلى هذا
القول أكثر أهل اللغة، فإذا قالوا أوعدته
بالشرّ أثبتوا الألف مع الباء وأنشد الشاعر
العديل بن الفراخ العجلي شعراً:
أوعدني بالسجن والأداهم
رجلي فرجلي شثنة المناسم
قال الجوهري تقديره أوعدني بالسجن وأوعد رجلي
بالأداهم، ورجلي شثْنة أي قويّة على القَيْد.
وحكى ابن الفوطية، والكلام للزبيدي، وعدته
خيراً وشراً وبخير وبشر، فعل هذا لا تختص
الباء بأوعد بل تكون معها ومع وعد، فتقول
أوعدته بشرّ، ووعدته بخير، لكن الأكثر ما
مرّ...
[11] .
ولا شكّ في أنّ زبدة الكلام في معنى الوعد
تبقى للراغب الأصفهاني، الذي لم يخالف أهل
اللغة فيما رأوه من معنى الوعد والوعيد، ولكنه
أضاف إلى اجتهاداتهم اللغوية دلالة الآيات
القرآنية، فرأى ما رأوه من أن الوعد يكون في
الخير والشرّ، فقال وعدته بنفع وخير وعداً
وموعداً وميعاداً، والوعيد في الشرّ خاصة،
يقال منه أوعدته ويقال واعدته وتواعدنا، قال
الله تعالى: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ﴾
[12] ﴿ أَفَمَن
وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً ﴾
[13]
﴿ وَعَدَكُمُ
اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾
[14]
﴿ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾
[15]
، إلى غير ذلك من الآيات التي تميّز بين الوعد
والوعيد، فيما يختصّ به كل منهما من معنى في
سياق الدلالة القرآنية
[16] ، كما في
قوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾
[17] ، وهذا من
الوعيد وليس من الوعد، ومن هنا نرى أن الراغب
الأصفهاني يرتكز إلى السياق القرآني لإظهار
التمايز في حقيقة ما ترشد إليه الآيات من
وعيد، باعتبار أن القرآن هو الحجّة على أهل
اللغة وليس العكس، بدليل ما ذكره ابن منظور
فيما اختلف أهل اللغة في قراءته، في قوله
تعالى: ﴿ وَإِذْ
وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾
[18]
، وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف، وقرأ ابن
كثير ونافع وعامر وعاصم وحمزة والكسائي،
واعدنا بالألف، وقال أبو إسحاق اختار جماعة من
أهل اللغة وعدنا بغير ألف، وقالوا إنّما
اخترنا هذا لأنّ المواعدة إنّما تكون من
الآدميين، فاختاروا وعدنا، وقالوا: دليلنا قول
الله تعالى: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ﴾
[19] ، وما أشبهه، قال: وهذا الذي ذكروه
ليس مثل هذا، وأما واعدنا فجيّد لأنّ الطاعة
في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من الله وعد،
ومن موسى (عليه السلام) قبول واتباع فجرى مجرى
المواعدة.. قال الأزهري: مَن قرأ وعدنا فالفعل
لله تعالى، ومن قرأ وواعدنا فالفعل من الله
تعالى ومن موسى (عليه السلام) ... وكما في
التنزيل: ﴿ وَوَاعَدْنَا
مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ﴾
[20]
فواعدنا من اثنين ووعدنا من واحد.... انتهى
[21] .
إنّ ما تميّز به الراغب الأصفهاني في كتاب
المفردات، هو أنه لم يخلط بين آراء أهل اللغة
ليتظهّر له المعنى، وإنّما جاء بالسياق
القرآني ليدلّل على معنى الوعد والوعيد، فأورد
الآيات التي تفيد الوعيد، منفصلة عن الآيات
التي تفيد الوعد، وهذا من شأنه أن يمكّن
الباحث من المناقشة والمعالجة للمواضيع
بالاستقلال بعضها عن بعض، وقد بينّا هذا في
تمهيد الباب، حيث رأينا أن بحوث القدامى
والمحدثين استقرّت على عنوان الوعد والوعيد في
مبحث واحد، في حين مقتضى البحث العلمي في
الرؤية الموضوعية لأساس موضوع قرآني يُراد
معالجته أن يستقلّ البحث في الوعد عن البحث في
الوعيد رغم وجود دواعٍ كثيرة لدراستهما في
سياق واحد، إلاّ أنّ هذا لا يمنع أن نفصّل
الكلام في الوعد الإلهي طالما أن مسار الآيات
يأخذ طابع الهداية والتغيير، ويأتي الوعد
الإلهي للإنسان لترغيبه في طريق الدعوة إلى
الله تعالى والفوز في الدنيا والآخرة، وكذلك
حال الوعيد، بما هو ترهيب في المآلات، وهذا ما
سنفصّل الكلام فيه على النحو الذي يظهّر لنا
الوعد والوعيد على أنهما لا يقتصران على تبصير
الإنسان بمآلاته الأخروية، وإنما لهما هدف هو
إخراج الإنسان من الظلمات إلى النور وهدايته
إلى الصراط المستقيم، الذي من شأنه أن يضمن
للإنسان تحولاته الإيجابية والإيمانية، سواء
في الدنيا أم في الآخرة.
لقد أوضح الراغب في مفرداته أن المائز بين
الآيات هو دلالة السياق، حيث قال تعالى: ﴿ قُلْ
أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ
النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ ﴾
[22] . وقال
تعالى: ﴿ إِنَّ
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ﴾
[23]
. وقال تعالى: ﴿ فَلَا
تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ ﴾
[24] ، فهو وعد
للرسل بالخير ولأعدائهم بالشر، باعتبار أنه لا
يحسن الخلف بالوعد، يقول الراغب: «ومما تضمن
الأمرين قوله تعالى: ﴿ أَلَا
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
[25]
فهذا وعد
بالقيامة وجزاء بالعباد إن خيراً فخير، وإن
شرّاً فشرّ..»
[26]
.
إنّ الغاية من هذا المبحث اللغوي هي أن
لايختلط الأمر على الباحث بين ما هو وعد وما
هو وعيد، وقد تبيّن لنا من كلام الراغب
إمكانية الاستفادة من سياق الآيات لفهم كل
المفردات القرآنية التي جاءت بمعنى الوعيد،
طالما أن الغاية من مباحث هذا الكتاب، هي
دراسة الوعد والوعيد في دراستين هادفتين إلى
تبيان معنى الوعد والوعيد وما لهما من آثار
وتحققات في حياة الإنسان قبل الآخرة، وقد أجمع
العلماء أن هدفية القرآن من الترهيب والترغيب
ليس ضمانة التحول الإنساني في الآخرة إلى
الجنة وحسب، بل إحداث التوازن في الدنيا، بحيث
يكون لذلك انعكاسات على سائر ميادين الحياة
الإنسانية، سواء في المادة أم في الروح، لأن
القرآن لم يدع الإنسان إلى هجرة الدنيا خوفاً
من الوعيد، ولا إلى نسيان الآخرة طمعاً بالوعد
في الدنيا، وإنّما يدعوه إلى التبصر في مجال
الدنيا، وابتغاء رضوان الله تعالى فيما يأتيه
من أعمال وفاق أمر الله ونهيه، كما قال تعالى:
﴿ وَابْتَغِ
فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ
وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾
[27] .
ومن هنا نفهم الوعد الإلهي للإنسان، سواء أكان
بمعنى الخير أم بمعنى الشر، كما أفاد أهل
اللغة، على أنه وعد دنيوي قبل أن يكون وعداً
أخروياً، كما بيّنه القرآن من أحداث وتجارب في
حياة الأنبياء كانت تتحقق فيها الوعود
والانتصارات ضد المترفين والمشركين
والمنافقين، وهناك الكثير من الآيات التي وعد
الله تعالى فيها الأنبياء بالنصر والغلبة على
الأعداء، بل هناك آيات تحمل الكثير من الأحداث
والوعود المستقبلية التي لم يكن لها أي تحقق
في الحاضر، وجاء المستقبل بالوعد الإلهي
ليعتبر الناس وأهل الإيمان بما وعد الله تعالى
في الدنيا والآخرة، كما هو مفاد سورة الروم،
وسورة الفتح، ولعلّ قوله في سورة الفتح مرشد
إلى هذا المعنى بما هو تحقق دنيوي يتضمن الوعد
والوعيد معاً، حيث قال تعالى: ﴿ وَأُخْرَى
لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ
اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيراً ﴾
[28] .
غاية القول: إنّ فائدة البحث اللغوي، هي أنها
تمهّد للكلام التفصيلي في الوعد الإلهي في
الدنيا والآخرة، كما أنها تعطي المباحث بعض
تمايزاتها في ضوء دلالة السياق القرآني، حيث
أهل اللغة وجّهوا الكثير من البحوث اللغوية في
ضوء مداليل الآيات وما جاءت فيه من سياقات
ليميزوا بين ما هو ترغيب وترهيب في القرآن،
هذا فضلاً عمّا كان للغة من دور في فهم الآيات
القرآنية، كونه يستحيل على مَن ليس عالماً
باللغة العربية أن يدلوَ بدلوه في مباحث
القرآن الكريم، وقد أجمع العلماء وأهل اللغة،
وكذلك أهل التفسير، على أن علم اللغة يكاد
يكون في أهمية سائر العلوم التي يحتاج إليها
الفقيه أو المفسّر للقرآن الكريم.
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن ما اختصرنا الكلام
فيه في مجال اللغة قد لا يكون كافياً، وقد
يكون ممكناً استيفاء المباحث حقها فيما سنعرض
له من دلالات ومفاهيم قرآنية عن الوعد الإلهي،
طالما عرفنا أن الوعد ليس مقصوراً على ما أعده
الله تعالى للإنسان من نعيم، أو جحيم في
الآخرة، وإنّما هو قبل ذلك وعد دنيوي له آثاره
السلبية والإيجابية فيما يكون عليه الإنسان من
تحولات إيمانية، أو شيطانية في حياته، سواء
الخاصة أم العامة، هذا، ويمكن أيضاً أن نتمّم
مبحث اللغة بمزيد من التفصيل في مبحث الوعد في
الاصطلاح وما يراه العلماء من معنى ومفهوم
للوعد الإلهي في القرآن والسنّة، وما توقفوا
عنده من مباحث تجاوزت مبحث الوعد في الدلالة
القرآنية إلى بحوث هي أقرب إلى الكلام
والفلسفة، ما جعل من هذا المبحث مبحثاً
مستعصياً طلبه على كثير من الباحثين، وكان من
الممكن أن يكون للعلماء سبيل آخر في سياق
التدليل على معنى الوعد وتحققاته من دون الخوض
في المباحث الكلامية، والحق يُقال: إنّ الفرق
الإسلامية تسببت بهذا التحوّل، فكان لا بدّ من
أن يلجأ العلماء إلى المناظرة والمجادلة
لترشيد المباحث وتحقيق الأهداف المنشودة
بتخليص الإنسان من ربقة الفرق الكلامية، التي
قالت على الله تعالى وأوجبت عليه ما لم ينزل
به سلطاناً.
إذا كان الوعد في اللغة، كما بيّن ابن منظور
في لسان العرب، والراغب الأصفهاني في المفردات
لا يجمع، أو من المصادر المجموعة التي جاءت
على مفعولة ومعقولة، كالمخلوف، والمرجوع،
والمصدوقة والمكذوبة، وأنه يكون في الخير
والشر، ويصلح للتقييد بالخير والشر، كما جاء
في الفروق اللغوية للعسكري
[29] غير أنه إذا
أطلق اختص بالخير، وكذلك إذا أبهم التقييد
كقولك: وعدته بأشياء، لأنه بمنزلة المطلق، فإن
معنى الوعد في الاصطلاح وعند الفقهاء، هو
الإخبار عن فعل المرء أمراً في المستقبل يتعلق
بغيره، سواء أكان خيراً أم شرّاً، وهذا المعنى
لا يبعد كثيراً عن المعنى اللغوي، وقد عرّفه
الطبرسي بأنه الخبر عن خير يناله المخبر في
المستقبل
[30] ، أو كما في تعريف
الطوسي، أنه الخبر بفعل الخير في المطلق، أو
بوصول نفع إلى المدعو له، أو شرّ كما جاء في
التبيان
[31] ، إلى غير ذلك من
التعريفات التي تعطي تمايزاً للوعد عن سائر
المصطلحات الأخرى ذات الصلة به، كالعهد
والميثاق، كما سنرى في البحوث اللاحقة.
فالوعد، هو إخبار بإيقاع شيء نافع، سواء في
الحاضر أم في المستقبل، في الدنيا، أم في
الآخرة، كما سيظهر لنا من خلال السياق
القرآني، وطالما أننا استعرضنا الكلام في مبحث
اللغة فيما ذهب إليه أهلها، فإنّه يكفي
الإشارة إلى أن هذا الوعد من الله تعالى
للإنسان ليس مجرّد وعد، وإنما هو حقّ لا يخلف
فيه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ﴾
[32]
. وغيرها من الآيات القرآنية المميزة للوعد عن
العهد والميثاق والمواعدة، فهو من الله حق لا
ريب فيه، ومن الإنسان معروف أو منفعة، أو صلة
برّ، أو صلة رحم ومجاورة سكن، وقد يكون من
الإنسان أيضاً بمعصية كما إذا وعد شخصاً
بمعونة شخص على شرب خمر أو فعل فاحشة، أو
إتلاف مال ظلماً وعدواناً ونحو ذلك. ومن هنا،
فإنّ الفقهاء يعدّون الوعد نوعاً من شهادة
المرء على نفسه، كما أن الوعد يختلف عن
المواعدة في كونها تعني إنشاء وعدين متقابلين
من شخصين، بينما الوعد هو الإخبار بوصول نفع
إلى المدعو له، بخلاف الوعيد الذي هو عبارة عن
الإخبار بوصول ضرر إليه...
إنّ المواعدة في الاصطلاح الفقهي، تختلف عن
الوعد في كونها إعلاناً في إنشاء عقد في
المستقبل، ولعل أكثر الفقهاء استعمالاً لهذا
المصطلح هم المالكية، باعتبارها من المفاعلة
[33] ، وهذه لا تكون
مع الإنسان نفسه، وإنّما لا بدّ من وجود
طرفين، كونها لا تكون إلاّ من اثنين، فإذا كان
الأمر وعداً من أحدهما للآخر، فلا تكون
مواعدة، بل عدة رأى الفقهاء أنها تجمع على
عدات، وقد بينّا في مبحث اللغة أن الوعد
والعدة يكونان مصدراً واسماً، فأما العدة
فتجمع عدات، والوعد لا يجمع...
[34] .
غاية القول: إن الوعد في الاصطلاح لا يختلف عن
معناه اللغوي، ولكنه يزيد تفصيلاً عليه فيما
يقاربه الوعد من مفاهيم ومصطلحات تتمايز في
ضوء الدلالة القرآنية بين أن يكون الوعد
عهداً، أو مواعدة، في الخير أو في الشر، في
الدنيا أو في الآخرة، إلى غير ذلك من المفاهيم
والمصطلحات، وهذا ما سيكون موضع بحثنا في
البحوث اللاحقة، على اعتبار أن للغة
والاصطلاح، وكذلك المفهوم الذي هو أسبق من
المصطلح، مدخلية كبيرة في ما نهدف إلى تبيانه،
ذلك أن حقيقة كل بحث علمي تستدعي من الباحث أن
يوضّح قبل الشروع في بحثه معنى أن يكون الوعد
خيراً، أم شراً في ضوء الدلالة القرآنية، لأن
البحث غايته تبيان حقيقة ما أراده المولى من
دعوة لعبده في الدنيا والآخرة، وقد أجمع
الفقهاء على أن الوعد والميعاد من المولى عزّ
وجلّ هادف إلى تربية الإنسان وهدايته إلى سبل
الفوز والسلامة في الدين والدنيا والآخرة.
وعليه، فإنه لا معنى لأن يخلط الباحث بين ما
هو وعد إلهي، وبين ما هو وعد إنساني، على
اعتبار أن الوعد والوعيد، كما سنرى في فصل
الوعيد، يتفرّع عن أصل العدل إذ مقتضى العدالة
الإلهية أن يثاب الأخيار وأن يعاقب الأشرار،
وإذا كان القرآن قد حفل بكثير من الآيات التي
تبلغ المئات حول ما وعد الله تعالى به وأوعد
عليه، فإنّ ذلك يمكن فهمه من سياق الدلالة
القرآنية، لكون هناك الكثير من الآيات التي
تضمنت الأمرين معاً، كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَا
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
[35]
. فهو وعد بجزاء العباد يوم القيامة إن خيراً
فخير، وإن شرّاً فشرّ.
وهكذا، فإنه يبقى للمصطلح معناه الذي يميزه عن
اللغة في بعض التفاصيل، وخاصة فيما تعارف أو
اتفق عليه العلماء لجهة ما يكون وعداً، أو
عهداً، سواء بالنسبة لما تضمنه القرآن، أم
لجهة ما يراه الإنسان، عقلاً وسمعاً وتجربة،
خلافاً لما زعمه بعضهم من أن الوعد والوعيد
هما كلام الله الأزلي، وعد على ما أمر به
وأوعد على ما نهى عنه، فقالوا: إنّ كل من نجا
واستوجب الثواب فبوعده، وكل من هلك واستوجب
العقاب فبوعيده
[36] ، إلى غير ذلك من
المقولات التي تأسست عليها نزاعات القوم،
وشوّهت الكثير من المفاهيم والمصطلحات التي
تبلورت في التجربة التاريخية للمسلمين!.
إنّ غايتنا من مبحث المصطلح ليست الاستغراق
فيما ذهبت إليه أهواء الفرق ومنازع الرجال،
وإنّما بلورة الرؤية، فضلاً عن المفهوم
والمصطلح في ضوء النظرية الإسلامية كما جاءت
في الكتاب والسنّة، وحققها أهل البيت في ما
أسّسوا له من اعتقاد، ودعوا إليه من حق على أن
نأخذ بالاعتبار، كل ما اصطلحوا عليه، واختلفوا
فيه لغة ومفهوماً ومصطلحاً
[37] ، لأنّ معنى
المصطلح، في الجوهر، هو اتفاق قوم على وضع
الشيء، وقيل إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى
معنى آخر لبيان المراد، فإذا كان الوعد في
اللغة يعني إيصال الخير والشر إلى الآخر، فإنّ
إخراج هذا المعنى اللغوي من كونه مجرّد إخبار
ليكون مفهوماً قرآنياً له دلالاته المختلفة في
سياق الآيات المباركة، إنّ هذا الإخراج إنّما
يكون ممكناً فيما لو علمنا أن المصطلح هو لفظ
يعبّر عن مفهوم. وبما أن المعرفة هي مجموعة من
المفاهيم التي يرتبط بعضها ببعض في شكل
منظومة، ولهذا، نجد العلماء يبحثون عن الوعد
والوعيد، وعن الدنيا والآخرة، والخير والشر،
والجنة والنار، في سياق رؤية قرآنية متكاملة
لا يمكن للمعنى اللغوي أن يكون كافياً في
إظهار تجلّياتها، أو في بلورة مفاهيمها على
النحو الذي يمكّن الباحث من استخلاص الموقف
الرسالي المتكامل منها، وإنما لا بدّ له من
التأسيس على المفردة اللغوية لإحداث التمايز
بين المفاهيم، وقد ازدادت كما يرى صالح
العظمة، أهمية المصطلح وتعاظم دوره في المجتمع
المعاصر الذي أصبح يوصف بأنه مجتمع المعلومات،
حتى إن الشبكة العالمية للمصطلحات اتخذت
شعاراً: «لا معرفة بلا
مصطلح»
[38] .
إنّ أدنى تأمّل في بحوث العلماء والفقهاء لا
بدّ أن يكشف عن أن المعنى اللغوي يمهّد
لاستجلاء الرؤية المفهومية الكامنة خلف
المصطلح، فإذا قلنا: إنّ مصطلح الوعد إنّما
يفيد إيصال الخير إلى الغير، فذلك ليس كافياً
لتظهير الموقف، أو تجلية المفهوم، أو تحديد
المصطلح، بما هو لفظ يعبّر عن مفهوم، وإنّما
لا بدّ للباحث أن يستخلص الموقف في ضوء رؤية
مفهومية شاملة يمكّن الباحث من تكوين معرفة
شاملة بما يريد بيانه
[39] ، لأنّ الاصطلاح
إمّا أن يكون عبارة عن شيء تستلزم معرفته
معرفة شيء آخر، ويقصد به أن يكون حقيقة ما وضع
اللفظ بإزائه، وهذا ما يسمّيه أهل الاصطلاح
بالتعريف الحقيقي، وإمّا أن يكون عبارة عن شيء
يكون اللفظ واضح الدلالة فيه على معنى، فيفسّر
بلفظ أوضح دلالة على ذلك المعنى. كقولك:
الغضنفر الأسد، وهذا ليس تعريفاً حقيقياً
يُراد به إفادة تصور غير حاصل، وإنّما المراد
تعيين ما وضع له لفظ الغضنفر من بين سائر
المعاني.
إنّ الذي يميز مصطلحاً عن آخر، هو مدى وضوح
المصطلح فيما يعبر عنه من مفهوم، لأن الفرق
بين المصطلح والمفهوم هو ما يكون للأول من
وضوح عند البشر، وما يكون للثاني من غموض
عندهم، ومهمة الفقيه أو الباحث، هي تجلية
المفهوم بالشكل الذي يسمح له بتظهير الدلالات
من سياقات الكلام، بحيث يكون ممكناً استكشاف
الموقف، وإحداث التمايز بين مفهوم وآخر، ويأتي
في طليعة هذه المصطلحات مصطلح الوعد الذي لا
يختلف بين لغة وأخرى، ولا يشتبه معناه بين
إنسان وآخر، وإذا كان ثمّة غموض فيما يُفيده
هذا المفهوم، فإنّ القرآن قد قدّم الوعد على
أنه وعده، وهو تعالى لا يخلف الميعاد. إنّه
وعد الحق في الدنيا والآخرة، حتى إنه في الآية
الواحدة نجد وجه الإعجاز والبلاغة فيما ينطوي
عليه من وعد، سواء بالثواب أم بالعقاب.
لقد تقدم الكلام في معنى مصطلح الوعد، الذي لا
يبعد عن المعنى اللغوي فيما يعنيه من إيصال
الخير إلى غيره، وترجّي حصول هذا الخير من قبل
الموعود، ولعلّنا أسهبنا في الكلام في
الاصطلاح نظراً لما يعنيه من إخراج الكلمة، أو
الشيء عن معناه اللغوي إلى معنى آخر لبيان
المراد، باعتبار أن المصطلح هو مفتاح العلم إن
لم يكن نصف العلم، ومن شأن الإحاطة باللغة
والاصطلاح أن تظهّر حقيقة المفهوم بما يعنيه
من دلالات، وخاصة مفهوم الوعد والوعيد في
القرآن الكريم. ولا شكّ في أن تقديم الكلام في
المصطلح على الكلام في المفهوم، هو بمثابة
التأكيد على أن المفهوم ليس هو المصطلح،
وإنّما هو مضمونه، هذا فضلاً عن كون المصطلح
هو الذي يُعطي المفهوم وجوده وتحققه المادي
والمعنوي، فهو مَن يثبته ويسمّيه وينقله من
وجوده الذهني التصوري التجريدي الكلي إلى
الوجود العيني الجزئي إلى عالم الإدراك الحسّي
المادي ويمنحه بعده التداولي فيما يختاره
الباحث من منهج ورؤية وموضوع...
إنّ السؤال الذي كان ولا يزال مطروحاً، هو كيف
يتمّ الانتقال من الذهني المجرّد إلى المادي
والملموس؟ وكانت الإجابة دائماً تأتي من خلال
المناطقة وعلماء الأصول، فضلاً عن علماء
اللغة، الذين عرفوا المفهوم وفاقاً لمناهجهم
الفكرية والعلمية، وغالباً ما كانت تواجههم
صعوبات في وضع المصطلح وترجمته. وإنّ أدنى
تأمّل في ما عرف به أهل اللغة المفهوم، يكشف
عن عملية تدرّج في إطار صياغة المفاهيم، وخاصة
الدينية منها. يقول ابن منظور في تعريف الفهم،
بأنه معرفتك الشيء بالقلب، فهمه فَهْماً
وفَهَماً وفهامة، عَلِمهُ، وفهمت الشيء،
عقَلْتُه وعرَفتُه، وفهّمتُ فلاناً وأفهمته،
وتفهّم الكلام، فهِمَهُ شيئاً بعد شيء...
[40] ، «ويرى الطريحي
في مجمع البحرين أن الفهم ضدّ الغباوة، يقال
فهمته فهماً وفهامة، من باب تعب، وتسكين
المصدر، إذا علمته، وفلان فهم، وقد استفهمني
الشيء وأفمهته وفهّمته تفهيماً، وفي حديث مدح
الإسلام، جعله فهماً لمن عقله، أي مفهوماً،
فأطلق عليه لفظ الفهم مجازاً، إطلاقاً لاسم
المسبب على السبب وهو مسبب، من فهم عنه، وعقل
مقاصده»
[41] .
كما كان أيضاً للمناطقة تعريفاتهم، فهم يرون
أن المفهوم نفس المعنى بما هو، أي الصورة
الذهنية المنتزعة من حقائق الأشياء. والمصداق
هو ما ينطبق عليه المفهوم، أو حقيقة الشيء
الذي تنتزع منه الصورة الذهنية، مثال الصورة
الذهنية لمسمّى (محمّد)، فهو مفهوم جزئي،
والشخص الخارجي الحقيقي مصداقه، والصورة
الذهنية لمعنى الحيوان مفهوم كلّي، وأفراده
الموجودة وما يدخل تحته من الكلّيّات كالإنسان
والفرس والطير مصاديقه، وعموماً يمكن القول:
إنّ المصداق هو ما ينطبق عليه المفهوم
[42] . ولا شك في أن
المفهوم يشكّل عماداً وأساساً لكل مباحث
العلماء لكون المفهوم هو التصوّر والفكرة التي
لا بدّ أن تستبق المصطلح فيما يراد التعبير
عنه، وقد أخذ هذا المفهوم حيّزاً كبيراً أيضاً
من مباحث علماء الأصول فيما يميزون بين أنواع
الدلالات في مباحثهم، فرأوا أن المنطوق
والمفهوم يُراد بهما المعنى المدلول عليه
باللفظ والمعنى على نحو يؤكّد المعنى المصطلحي
في سياق مداليل الألفاظ
[43]
.
وكان الارتكاز دائماً إلى أسبقية المفهوم
للمصطلح في كل مباحث العلماء، لكون المصطلح
يركّز على الدلالة اللفظية للمفهوم، والوعد في
القرآن ما هو إلاّ مصطلح لمفهوم معيّن ينتج عن
إدراك العناصر المشتركة فيما ينطوي عليه
المصطلح، وهكذا الحال بالنسبة لكل مصطلح
قرآني، مثل الجهاد والإنفاق، والصوم، والصلاة،
فلا بدّ من إدراك العناصر المشتركة بين هذه
المصطلحات، بكل ما تختزنه من مفاهيم غير
محسوسة وتتجسّد فيما يكون لها من مصاديق
خارجية، على اعتبار أن مفهوم الإنفاق مثلاً
يتجسّد بالإنفاق بالمال والجهد، أو الوقت،
وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم الوعد بما هو
مفهوم غير محسوس وله مصاديقه التي من خلالها
يمكن التعرّف إلى حقيقة العناصر المشتركة بين
مفهوم وآخر، باعتبار أن المفهوم هو صور عقلية
ذهنية تتكوّن من خلال الخبرات المتتابعة التي
يمرّ بها الإنسان، سواء أكانت خبرات مباشرة أم
غير مباشرة، خبرات تؤهّل الإنسان لاكتساب ما
يلزم من المعرفة، بحيث يمكن التدرّج من شيء
إلى شيء، وتجاوز الفهم من شيء إلى شيء، بل
تجاوز معرفة القلب والصور العقلية إلى مجالات
التعرف للمصاديق المختلفة بحسب الزمان
والمكان، حيث إنّ المفهوم واحد، بما هو صورة
ذهنية، والذي يتغيّر فهمه واستيعابه هو ما
ينطبق عليه المفهوم دائماً، ونعني به المصداق
[44] ، هذا بالإضافة
إلى استيعاب اختلاف المصاديق في تبدلات الحياة
وتحولات الأمم في ضوء اختلاف المناهج والرؤى،
وقد بينّا في معنى المصطلح أنّ كل مفهوم يتّسم
بمجموعة من الصفات والخصائص التي تميزه عن
غيره من سائر المفاهيم، ذلك أن مفهوم الزكاة،
مختلف عن مفهوم الحج، وهي خصائص وصفات - كما
بينّا - يتّسم بها كل مفهوم قرآني، وذلك من
حيث كونها خصائص وصفات غير محسوسة ومتّسمة
بالتجريد والتعميم، وهي لا تتمايز إلاّ فيما
تستقرّ عليه من مصطلحات ومصاديق خارجية من
خلال دلالة المفهوم على مصداقه في ضوء الحكم
على المفهوم وحده، أو في ضوء النظر إلى ما
وراء المفهوم الذي يكون معبراً عن مصداقه
ودليلاً عليه، كما تقول الإنسان ضاحك، أو
الإنسان في خسر، بحيث تشير بمفهوم الإنسان إلى
أشخاص أفراده، وهذا ما يسمّيه المناطقة بالحمل
الشايع في مقابل الحمل الأولي
[45] .
بالتأكيد نحن لسنا بصدد فلسفة المفهوم أو
المصطلح، ولا نريد الغوص في ترجمة المصطلحات
والمفاهيم، وقد كنّا في الحوزة العلمية نقضي
الأوقات الطويلة في زحمة المناقشات النظرية،
وخاصة في المنطق، أو في علم الأصول، أو في غير
ذلك من التخصصات اللغوية التي كان من الممكن
الاستغناء عن كثير منها لصالح الفقه والعلوم
الأخرى، ولكن المنهج العلمي في الحوزة أو في
الجامعة كان يفرض دائماً أن تكون المقررات
الدراسية النظرية غالبة على المفردات العلمية،
ونحمد الله تعالى أن هذه المنهجية العلمية،
وإن كانت قد أخذت المزيد من الوقت، إلاّ أنها
أفادت كثيراً في إطار ما هو ضروري لاستيعاب
حركة الفكر الإسلامي، الذي كان ولا يزال بحاجة
إلى بلورة الكثير من المفاهيم التي التبست على
الكثيرين ممن اعتبروا أن النظرية الإسلامية
ليست قادرة على مواكبة العصر والتطوّر العلمي
وما رافقه من تحوّلات في المناهج والرؤى، وهذا
ما دفع بكثير من الباحثين إلى تجاوز النظرية
الإسلامية إلى صياغة مصطلحات جديدة بوحي من
الحضارة الغربية، وقد سهى هؤلاء عن أن هذه
الحضارة قد بدّلت المفاهيم، فجعلت من الباطل
حقاً، ومن الحق باطلاً، ومن الخير شرّاً، ومن
الشرّ خيراً، هذا فضلاً عمّا لحق بالأمة من
هزائم بسبب هذه المفاهيم والقيم الجديدة...!؟
كما أنه ليس من الغرابة في شيء أن يُعاد النظر
في مفهوم الوعد والوعيد في القرآن لبلورة رؤية
إسلامية جديدة لا نزعم أن أحداً لم يتطرّق
إليها، حيث أشرنا إلى أنه يمكن من خلال إعادة
النظر في كثير من المباحث أن نخلص إلى نتائج
جديدة لم يسبق لأحد أن تساءل بشأنها، أو وضّح
الكثير من ملابساتها. ولهذا، فإنّا نرى أنّ
هذا المبحث في مفهوم الوعد هادف إلى تبيان
حقيقة هذا الوعد من حيث هو وعد قرآني للناس له
مفهومه ومصداقه، باعتبار أنه وعد مشروط
بالإيمان والعمل الصالح، خلافاً لمن رأى فيه
وعداً مجرداً عن التحقق الخارجي وأخذ به إلى
الجبر تارة، وإلى التفويض تارة أخرى، ويكفي
لتهفيت مزاعم هؤلاء أن نتدبّر في آيات الوعد
والوعيد لنرى كيف أن القرآن قد أعطى الوعد
بعده في الإيمان والعمل، فإذا لم يتحقق بهما،
فسيتحوّل الأمر عن كونه وعداً ليكون وعيداً
وقد سبق للإنسان في تاريخه الديني أن اعتبر
الوعد مجرد إيمان بالرسالة، كما جاء في العهد
الجديد عن بولس فيما رآه من مضمون للوعد بأنه
هبة يتم الحصول عليها بواسطة النعمة من دون أن
يكون للأعمال شأن بذلك
[46] ، وأن الوعد
إنما يتحقق عند مجيء المسيح إلى غير ذلك مما
التبس أمره على الإنسان في تاريخه الديني!
ومن هنا، نرى أن ما جاء به الإسلام من حقائق
دينية، هو تأكيد لوعود الأنبياء منذ النبي آدم
(عليه السلام) إلى رسول الله محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم)، حيث بيّن أن الوعد ليس مجرّد
إيمان، وإنما هو تحقق في الواقع، وتجسيد لكل
الحقائق الدينية، بحيث تتحوّل عن كونها مفاهيم
لتكون لها تحققات خارجية، وأفعال جوارحية
وجوانحية يلتزم بها الإنسان ويؤدّيها في ضوء
أمر الله تعالى نهيه، وهذا هو معنى أن يتحقق
الوعد الإلهي في حياة الإنسان وفق الشروط
والمبادئ التي جاء بها الإسلام، وأرسى دعائمها
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته
(عليهم السلام) الكرام.
إنّ مفهوم الوعد في القرآن والسنّة ليس
مفهوماً ملتبساً، لكونه تجسّد في ما حققه
الإسلام من تحولات في الدين والدنيا، وكانت له
مصاديق مختلفة ومتنوعة في حياة الأمة، وخاصة
في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
حيث كان الوعد أساساً في حركته، وروحاً لكل
تحولات المجتمع الإسلامي، وإذا ما تأمّلنا
جيداً في النصوص الدينية قبل الإسلام، فإننا
نرى هذا الوعد هو أساس لكل تحوّل ديني
[47] ، هذا فضلاً
عمّا تجسّد به هذا الوعد وأعطاه من أمل وترجّي
في وراثة الأرض، ويكفي هذا المفهوم تبلوراً
ووضوحاً أن كل الديانات، بل كل شعوب الأرض ترى
لهذ المفهوم تجسيداً حقيقياً في الزمان
والمكان، ويبقى الفارق بين رؤية دينية وأخرى،
هو ما تزعمه كل فرقة من اعتقاد في حقيقة هذا
الوعد. إنه مفهوم يتجاوز الزمان والمكان
والتاريخ في دلالته، لكونه حقيقة معاشة
وتجلّياً إلهياً له تمظهراته في الدنيا
والآخرة، وهذا ما سنتوقف عنده مليّاً في ضوء
الرؤية القرآنية بعد أن أسهبنا الكلام في
المصطلح والمفهوم فضلاً عن اللغة، وقد اتضح
لنا من المباحث الثلاثة أن الوعد بما هو مفهوم
ومصطلح، بل بما هو خبر بوصول الخير من قبل
الواعد، وترجّي حصوله من قبل الموعود، إنّما
هو وعد إلهي للإنسان بأن يكون له الحق والخير
والسلام والفوز في الجنان فيما لو التزم بما
أُمر به ونهي عنه، لأنّ الله تعالى قد كلّف
الإنسان تخييراً ونهاه تحذيراً، فإذا حقّ
الحق، كان له الوعد الحق فيما أعدّ له من
الفوز في الدنيا والآخرة.
فالوعد هو وعد الله تعالى بالثواب والجنة، وهو
تعالى لا يخلف وعده، وما يميز هذا الوعد هو
حتمية التحقيق، وقد أشار إلى هذه الحتمية
بقوله تعالى: ﴿إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾
[48] .
وبما أن الوعد والوعيد من المفاهيم المهمة
التي اختلف بشأنها المسلمون كعادتهم في كل ما
عرضوا له من قضايا ومسائل، سواء في الأصول أم
في الفروع، فقد أردنا أن نطلّ على هذا المفهوم
بالقدر الذي أتاحه لنا هذا التمهيد، لأنّ
الغاية من هذا المبحث، هي استكشاف ملامح هذا
المفهوم من خلال رؤية قرآنية شاملة ومتكاملة
نأخذ من خلالها بعين الاعتبار ما قدمه العلماء
قديماً وحديثاً بما يسمح لنا باستخلاص الموقف
الإسلامي في مفهوم الوعد والوعيد، وبالله
التوفيق.
جاء في معجم الفروق اللغوية في بيان الفرق بين
العهد والوعد، «أن الأول ما كان من الوعد
مقروناً بشرط نحو قولك إن فعلت كذا فعلت كذا،
وما دمت على ذلك فأنا عليه، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ
عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ ﴾
[49]
،
أي أعلمناه أنك لا تخرج من الجنة ما لم تأكل
من هذه الشجرة، والعهد يقتضي الوفاء والوعد
يقتضي الإنجاز، إذ يقال نقض العهد وأخلف
الوعد»
[50] ، وكذلك الفرق
بين العقد والعهد بأن العقد أبلغ من العهد
فتقول عهدت إلى فلان بكذا أي ألزمته إياه،
وعقدت عليه وعاقدته ألزمته باستيثاق، وتقول
عاهد العبد ربه ولا تقول عاقد العبد ربّه، أو
لا يقال استوثق من ربه، وقال تعالى: ﴿ أَوْفُواْ
بِالْعُقُودِ ﴾
[51] .
إذاً، العهد يقتضي الوفاء، فإن التزم الإنسان
بما عاهده عليه، كان له الوفاء، كما قال
تعالى: ﴿ وَأَوْفُواْ
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾
[52] ، وقد جاء
في تفسير العسكري في معنى التفضيل في القرآن
لبني إسرائيل أنّ الله فضّلهم على العالمين
بما التزموا به في الدين، فكان التفضيل لهم في
الدين والدنيا بما نزل عليهم من النعم في
البرّ والبحر، وإنّ أيّ أمة لها هذا التفضيل
فيما لو قامت بالحق وعملت بالكتاب، ووفت
بعهدها مع الله تعالى، ثم قال عز وجل لهم:
«فإذا كنت قد فعلت هذا بأسلافكم في ذلك الزمان
لقبولهم ولاية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
فبالأحرى أن أزيدكم فضلا في هذا الزمان إذا
أنتم وفيتم بما أخذ من العهد والميثاق عليكم»
[53] . فإذا لم تفِ الأمة
بعهدها، فإنها تخرج عن كونها مستحقة لما وعدت
به من النعم والنعيم، بل إن ذلك يؤدي بها إلى
أن تكون على شفا جرف هارٍ كما حصل لبني
إسرائيل حين خانوا العهد، وأخلفوا ما وعدوه من
الطاعة، فاستحقوا العذاب في الدنيا والوعيد في
الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ أَوَكُلَّمَا
عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ
مِّنْهُم ﴾
[54]
، وهذا يؤكد أن العهد والميثاق المأخوذ على
العباد، ليس ما جاء في الكتاب من فروع وأحكام،
وإنّما هو في الجوهر عهد الوفاء بالأصول، كما
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«اتقوا الله عباد الله، واثبتوا على ما أمركم
به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من
توحيد الله، والإيمان بنبوة محمد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن الاعتقاد
بولاية علي (عليه السلام) ، ولا يغرنكم صلاتكم
وصيامكم وعبادتكم السالفة. إنها لا تنفعكم إن
خالفتم العهد والميثاق، فمن وفى وُفي له،
وتفضّل بالإفضال عليه، ومن نكث ونبذ فإنما
ينكث على نفسه، والله ولي الانتقام منه...»
[55] .
ذلك هو معنى العهد، أو الوعد المقرون بالشرط،
وبقدر ما يكون الإنسان عند عهده ووعده، بقدر
ما يكون مستحقاً للفضل والإنعام والوفاء
ومستوفياً لشروط النجاة في الدنيا والآخرة،
ولهذا قال الإمام علي (عليه السلام) : «إن
لأهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث،
وأداء الأمانة والوفاء بالعهد...»
[56] .
إنّ الله تعالى أمر العباد بالوفاء ونهى عن
نقض العهد، وضرب لهم مثلاً: ﴿ وَلَا
تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن
بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾
[57] .
وانطلاقاً مما تقدم، نرى أنّ حسن الوعد
والوفاء إنّما يحسن فيما لو كان الشرط محققاً،
ونعني به الإيمان والعمل الصالح والقيام بحق
العهد والميثاق، وقد قيل: إن العهد في الأصل
معناه حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، ثم
استعمل في الموقف الذي يلزم مراعاته، إذ
يُقال: عهد إليه بالأمر يعهد عهداً، أوصاه به
وجعله في ذمّته وضمانه، كما قال تعالى: ﴿
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ
أَن لَّا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ ﴾
[58] . أما الوعد، فهو الإخبار، كما سلف
القول، عن فعل المرء أمراً في المستقبل يتعلق
بغيره، أو إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في
المستقبل، وقد اختلف الفقهاء في أقسام الوعد
بين من قال بوجوب الوفاء به، وبين قائل بعدم
الوجوب، أما العهد فيلزم الوفاء به، لأنه قائم
على الالتزام مقرون بالشرط، ثم إنه قد يكون مع
الله تعالى ومن ذلك النذر، وقد يكون مع البشر
ومن ذلك سائر العقود التي يتعامل بها الناس،
يقول الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ
بِالْعُقُودِ ﴾
[59]
. «يعني أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم،
والعقود التي عاهدتموها إيّاه، وأوجبتم بها
على أنفسكم حقوقاً، وألزمتم أنفسكم بها لله
فروضاً، فأتمّوها بالوفاء والكمال والتمام
منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم
بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكثوها
فتنقضوها بعد توكيدها»
[60] .
وهكذا، نرى أن العهد في كثير من الآيات يستعمل
بمعنى الوعد فيكون مثله في الحكم، باعتبار أن
هناك عقوداً قد تشاكل الوعد من حيث الشكل
والحكم والوفاء من أهمها العهد والنذر
والجعالة والهبة، لكن المشاكلة لا تلغي الفروق
بينهما. فالنذر مثلاً وإن كان فيه معنى الوعد
فيه القربة إلى الله تعالى وحده، وفي عدم
الوفاء به كفارة بخلاف الوعد الذي لا يتعلق به
حق لمخلوق، ولهذا قالوا: إنّ مَن نقض عهده من
غير عذر شرعي، فقد ارتكب كبيرة من كبائر
الذنوب يستحق بها الهلاك، وكذلك مَن أخلف وعده
فيما لو كان عهداً من الله تعالى، فيكون أيضاً
ممن يستحقون الهلاك، لأن نقض العهد مثل نقض
الوعد. وقد رأى الطوسي (قده) في التبيان أن
الإخلاف نقض ما تقدم من العهد من وعد وعزم
وأصله الخلاف، والوعد متى كان بأمر واجب أو
ندب أو أمر حسن قبح الإخلاف، وإن كان الوعد
وعداً بقبيح كان إخلافه حسناً
[61] ، ما يعني أن العهد هو الوعد كما في
قوله تعالى: ﴿
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ
بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ
اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ
يَكْذِبُونَ ﴾
[62] ، فالآية المباركة تبدأ
بالعهد، فلما اختلفوا رتّب عليهم ما رتّب من
النفاق
[63] ثم علّله تعالى
بقوله: ﴿
بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ
﴾
[64] . هذا
فيما يتّحد به الوعد مع العهد، أما فيما يعود
إلى معنى العهد في الفقه والاصطلاح، فهو فقط
الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، ويسمى الموثق
كما يرى الأصفهاني في مفرداته، كما في قوله
تعالى: ﴿
وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ
كَانَ مَسْؤُولاً ﴾
[65] إلى غير
ذلك من الآيات التي تفيد ضرورة الالتزام
بالعهد والوفاء به، وهو إمّا أن يكون عهداً
بما ركّزه الله تعالى في عقولنا، أو بما أمر
الله سبحانه به بالكتاب والسنّة رسله، وإمّا
أن يكون بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع
كالنذور وما يجري مجراها، وبهذا المعنى يمكن
أن يختلف الوعد عن العهد بما يعنيه هذا الأخير
من التزام ووفاء مع الله تعالى فيما أمر به
ونهى عنه عقلاً وشرعاً، ذلك هو معنى العهد في
معناه اللغوي والاصطلاحي، إلاّ أن الذي يعنينا
في سياق هذا المبحث هو حقيقة الاتحاد بين
المفهومين في سياق الآيات القرآنية، حيث نرى
أن العهد في كثير من الآيات يكون ويراد به ما
تعبّد الله تعالى به العبد من أمور الدين، كما
سلف القول، أو ما يكون بين العباد مما يكون
بخلفه إتلاف مال أو نفس، أو إدخال ضرر كبير،
وهذا ما يعنيه الطبري
(قده) في تفسيره في قوله
تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ
بِالْعُقُودِ
﴾ .
وعليه، فإنّه لا ضرورة لأن نبحث العهد والوعد
إلاّ من حيث هما متحدان، ويأخذان الحكم ذاته،
كما تبيّن من ظاهر الآية المباركة: ﴿
بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ ﴾
، يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير
الميزان: «وإنما صار هذا البخل والامتناع سببا
لذلك لما فيه من خلف الوعد لله والملازمة
والاستمرار على الكذب... وفي الآية دلالة
أولاً: على أن خلف الوعد وكذب الحديث من أسباب
النفاق وأماراته، وثانياً: إنّ من النفاق ما
يعرض الإنسان بعد الإيمان، كما أن من الكفر ما
هو كذلك، وهو الردّة...»
[66]
. وكما نلاحظ أنّ العهد إنما كان منهم فيما
زعموه من أنهم إذا أتاهم المال تصدّقوا وهو
ظاهر في أنهم لم ولن يكونوا كذلك فيما
عاهدواالله عليه لنفاقهم، فكان العهد منهم
كذباً، فاستحقوا الموت على بخلهم إذ لا تغيّر
لحالهم فيما بعد الموت على أي حال بما أخلفوا
الله ما عاهدوا عليه ووعدوا به.
لا شكّ في أن سياق الآيات القرآنية كاشف عن
حقيقة هذا الاتحاد بين العهد والوعد، وهما حيث
يفترقان تكون الدلالة مختلفة، والسياق الدلالي
دائماً هو المعوّل عليه في ما يعنيه الوعد أو
العهد من دلالة في سياق الآيات، كما في قوله
تعالى: ﴿
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً
فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ﴾
[67]
. فالعهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد
والخبر
[68] ، وإنّما سمّي خبره
عهداً، لأنه أوكد من العهود المؤكدة منا
بالقسم والنذر، فالعهد من الله تعالى لا يكون
إلاّ بهذا الوجه، بمعنى أنه لا يكون بخير خاصة
كما ذهب الشافعي
[69] ، كالنذر، ولا التزام
قربة لم يتعين، كما ذهب آخرون، إذ رأوا أنه
عقد يعقده المرء على نفسه تأكيداً لما التزمه،
والأصل فيه آيات كقوله تعالى: ﴿
وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾
[70] .
وأخبار أخرى كخبر البخاري: من نذر أن يطيع
الله فليطعه ومن نذر أن يُعصي الله سبحانه فلا
يعصه، وفي كونه قربة أو مكروهاً خلاف
[71] .
غاية القول: إنّ ما يتميّز فيه العهد
عن الوعد هو ما جاء في فروق المعاني وأن العهد
هو وعد مقرون بشرط، وأن العهد يقتضي الوفاء،
والوعد يقتضي الإنجاز، على اعتبار أن الوعد من
الله تعالى لا يحسن خلفه، من حيث هو تقدير أمر
ما والقضاء به من قبل الواعد وترجّي حصوله من
قبل الموعود، وإذا كان العهد خبراً، فإنّ الله
تعالى لا يخلف عهده كما لا يخلف وعده، وقد قال
تعالى: ﴿
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ ﴾
[72]
، وقال تعالى: ﴿
وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ
إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾
[73]
. وقال تعالى: ﴿
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[74] ، وفي هذا السياق يأتي
قوله تعالى ليقيد الدلالة ذاتها من حيث كون
خبره عهداً، كما في قوله تعالى: ﴿
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ
عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ ﴾
[75] ، كما لا يخلف وعده، وبهذا يتحد معنى
الوعد والعهد في دلالة السياق، بخلاف ما لو
جاء العهد مقروناً بالشرط ويقتضي الوفاء
والالتزام، كما في قوله تعالى: ﴿
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾
[76] ،
وقوله تعالى: ﴿
لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾
[77] ،
وقوله تعالى: ﴿
الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن
بَعْدِ مِيثَاقِهِ... ﴾
[78]
، وقوله تعالى: ﴿
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى ﴾
[79] ،
وقوله تعالى: ﴿
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ
وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾
[80] . فهذه الآيات فيما ينطوي عليه من
دلالات في سياقاتها المختلفة، وفيما هو الظاهر
منها أنّ أكثر الناس نقضوا عهد الله إليهم
بالإيمان والتقوى، والمأخوذ عليهم لله
بالربوبية وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالنبوّة ولعلي (عليه السلام) بالولاية، من
بعد ميثاقه الذي أخذه عليهم باتباع النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، والتصديق به...
إنّ الوعد الإلهي، الذي هو خبره بإيصال النفع
إليهم وإبعاد الضرر عنهم فيما لو أطاعوا
ووفوابما علموه من العقل والشرع، وبما أعطوا
الميثاق فيه، كل ذلك إنما يكون من الله تعالى
وعداً غير مكذوب، وعهداً لا خلف فيه، بل وعد
حق وعهد حق من الله لعباده بالفوز والرضوان في
الدنيا والآخرة، وطالما أن الوعد هو العهد
فيما يكون خبراً وقضاءً من قبله تعالى، فإنّ
ذلك يقتضي منّا أن نشير باختصار إلى بيان
حقيقة الفرق بين الميثاق والعهد، فنقول: إنّ
الميثاق هو توكيد العهد كما في قوله: أوثقت
الشيء إذا أحكمت شدّه، وقال بعضهم: العهد يكون
حالاً من المتعاهدين، والميثاق يكون من
أحدهما، كما قال تعالى: ﴿
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
[81] ، وقوله تعالى: ﴿
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ
لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا
مَعَكُمْ ...
﴾
[82] .
وكيف كان، فإنّ الغاية مما عرضنا له في
المباحث السابقة، ليست سوى محاولة للإحاطة قدر
المستطاع بجملة المصطلحات والمفاهيم التي لا
بدّ منها في هذا الكتاب، وذلك من منطلق أن أي
بحث قرآني لا بدّ من التأسيس له في ضوء ما
تعارف عليه أهل اللغة والاصطلاح، وخاصة فيما
يعود إلى المصطلحات القرآنية، ومنها الوعد
والوعيد، وقد استطعنا إلى حدّ ما أن نقدّم
الأفكار والرؤى الأساسية حول هذا المبحث
تمهيداً لبيان معنى الوعد والوعيد في القرآن
من خلال رؤية موضوعية ومنهجية تأخذ بعين
الاعتبار حقيقة الوعد وما جاء فيه من سياقات،
كوننا نعرف مسبقاً أن البحوث القرآنية تحتاج
إلى مزيد من التدبّر، وخصوصاً في مجال العلوم
القرآنية، وسائر العلوم التي يحتاج إليها
الباحث في مجال بحثه، بيد أن هذا كله، لا
يعفينا من التقصير في مجال هذا البحث، على أمل
أن نوفّق بإذن الله تعالى إلى مزيد من البحوث.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن خاتمة مبحث الوعد
والوعيد، قد تكون كافية لتبيان الركائز
والقواعد التي استندنا إليها لإيصال هذا
الكتاب إلى خواتيمه المرجوّة، لأنّ الهدف كما
قلنا مما قدّمنا له هو التأكيد على حقيقة أن
الوعد الإلهي للإنسان لا يكون كيفما اتفق،
وإنّما لا بدّ من تحقق الشروط التي لا بدّ من
توفّرها لتحقق هذا الوعد حتى لا يكون وعيداً،
بغضّ النظر عمّا ذهب إليه كثير من الباحثين في
تأويل آيات الوعد والوعيد، فالوعد سواء أكان
في الدنيا أم في الآخرة، فهو مشروط بالتوفر
على الخصائص والصفات والشروط التي من شأن
التوفر عليها أن يكون الإنسان محققاً للنصر،
والفتح، والفوز، ووراثة الأرض، كما وعد الله
تعالى عباده المؤمنين، تمهيداً لتحقيق الفوز
والرضوان في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿
وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ
إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾
[83] ، وكما في قوله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. ﴾
[84] ، إلى كثير من الآيات
التي وعد الله تعالى فيها بالنصر والفوز في
الدنيا والآخرة، وهذا ما سيكون مجال بحثنا في
الفصل الثاني من هذا الكتاب، إلاّ أنه كان لا
بدّ من الإتيان بالمقدمات المطلوبة التي يمكن
من خلالها تنوير البحث بالمزيد من المعطيات
والدلالات لتبيان حقيقة أنه لا يكون للإنسان
شيء من الوعد بالخير ما لم يتوفر الإنسان على
الشروط التي تؤهله لوراثة الأرض، ووراثة
الجنة، التي أعدّها الله سبحانه للمتقين، لأنّ
من يريد أن يتحقق له وعد الله، أو ما وعد به
من لدن الله عزّ وجلّ لا بدّ أن يفي ما عاهد
به الله جلَّ وعلا من التزام بالأوامر
والنواهي، فضلاً عن الإيمان بالله ورسله وكتبه
وملائكته، باعتبار أن هذه الشروط سبق لمن
استخلفوا في الأرض أن قاموا بها، وكان لهم
الأمن والأمان والتمكين في الأرض كما وعد الله
تبارك وتعالى، وما يجري على السابقين، يجري
على اللاحقين سنّة الله سبحانه في الذين خلوا
من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلاً، والله
وليّ التوفيق وبه نستعين، والحمد لله ربّ
العالمين.
إنّ ما تقدّم من كلام في معنى الوعد والوعيد
من شأنه أن يُسهم في الإضاءة على مباحث هذا
الفصل بما يؤدي إلى التمييز بين الوعد في
الدنيا والوعد في الآخرة، على اعتبار أن
الوعد، في الحقيقة، هو وعد الله تعالى لعباده،
وقد اختلف هذا الوعد بين أن يكون وعداً في
التكوين، أو وعداً في التشريع لجهة ما كلّف
الله تعالى به عباده من تكاليف، وإذا كنا قد
ميّزنا بين الوعد في الدنيا والوعد أو الوعيد
في الآخرة، فذلك لأنّ القرآن قد أتى في كثير
من الآيات على الوعد دون الوعيد، وعلى الوعيد
دون الوعد، هذا فضلاً عمّا خصّ به الإنسان من
وعد ووعيد في الدنيا، وهذا ما لم يلتفت إليه
كثير من العلماء في بحوثهم عن الوعد والوعيد،
وقد رأينا كيف أن العلماء في حديثهم عن المعاد
وما يكون للإنسان من مآلات ومصير، قد جمعوا
دائماً بين الوعد والوعيد دون تمييز أو فصل
بينهما، كما أنه لا يخفى أيضاً أن القرآن
حينما قال الله تعالى: ﴿
ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴾
[85] ،
أو ﴿ فَحَقَّ
وَعِيدِ
﴾
[86] ، أو ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾
[87]
، أو ﴿
وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ
﴾
[88] ، وفي
غيرها من الآيات التي تخصّ تحولات التكوين وما
تؤول إليه السماوات من طي، كطيّ السجلّ للكتب،
كل هذا، كما نرى، إنما يُستفاد منه الفصل بين
الوعد والوعيد، كما أنه إشارة للجمع بينهما،
لأن يوم الوعيد، هو يوم الوعد أيضاً.. لذا
فإنّ هذا المبحث سيتعرّض لأنواع الوعد في
القرآن من خلال الفصل بين ما جاء في القرآن من
وعد ووفاء به في الدنيا، وبين الوعد والوعيد
في الآخرة وما يكون للإنسان من ذلك بحسب عمله
وإيمانه، وغير ذلك مما يؤول إليه من مصير،
وفيما يكون له من ثواب، أو عقاب في الدنيا
والآخرة.
إنّ أحداً من الباحثين لم يسلك هذا المسلك في
البحث، لأن الغالب على البحوث القديمة
والحديثة، هو تناول الوعد والوعيد في سياق
رؤية قرآنية عامة، تجمع بينهما في الدنيا
والآخرة، وهذا ما دفع بنا إلى أن نسلك مسلكاً
آخر نعرض فيه لرؤية متكاملة عمّا يراه القرآن
من وعد ووعيد يمتد بهما الإنسان من دنياه إلى
آخرته، ذلك أن القرآن في كثير من الآيات نراه
يجمع في الآية الواحدة بين الوعد والوعيد، ولا
نقول يقابل بينهما، وإنّما يتعاقب الذكر لهما،
والمتتبع لمنهج القرآن الكريم يجد هذا واضحاً
من خلال آياته، فإذا ذكر الوعد أعقبه بالوعيد،
كما قال الله تعالى: ﴿
نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَاْ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾
[89] إلى غير ذلك من الآيات
التي تكشف للمتدبّر في القرآن أن هذا العرض
يأتي مطرداً فيه، وهذا ما سيكون موضع تأمّل
وتدبّر للتعرّف إلى مزيد من اللطائف القرآنية
من خلال منهجية جديدة تفصل بين الوعد والوعيد.
إنّ المتتبّع لمنهجيّة القرآن في عرضه لآيات
الوعد والوعيد، يمكنه القول: إنّه من دأب
القرآن الكريم، أنه يعرض الآيات إمّا من خلال
الجمع بين الوعد والوعيد، وهو ما عبّرنا عنه
بالتعقيب، وإمّا الفصل بينهما بحسب ما كانت
تقتضيه الأحداث والتحوّلات في المجتمع
الإنساني، وهذا ما توقف عنده العلماء ملياً
تحت عنوان أسباب النزول، ونحن في هذا المبحث
سنحاول قدر المستطاع استكشاف الرؤية القرآنية
حول آيات الوعد الخاصة بالدنيا، إذ إن القرآن
خصّ الكثير من الآيات بالدنيا، واعداً
للمؤمنين، أو للكافرين بما يكون لهم من فوز أو
نصر، أو غنيمة، أو هزيمة، رابطاً مصير الأمم
واستخلافها وتمكينها في الأرض بما يكون لها من
التزام ووفاء بالوعد، والعهد، كما قال الله
تعالى: ﴿
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
﴾
[90] ، فالوعد
ليس منفصلاً عن الآخرة، ولكنه يتميز في الدنيا
في ضوء حالات الإنسان وما يكون عليه من إيمان
وكفر، وغير ذلك مما يمكن استكشافه من سياق
الآيات القرآنية، التي، كما سنرى، تتحدّث عن
وعد دنيوي للمؤمنين بالنصر والتمكين في مقابل
آيات أخرى تعد الكافرين بالهزيمة، وهذا ما
يمكن تبيانه في الآية الواحدة في القرآن
الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن
بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ
ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
﴾
[91] .
فالآية، كما نلاحظ، ناظرة إلى ما يكون به
الوعد محققاً في الدنيا بالاستخلاف والتمكين
والرضا في الدين، أما الذين كفروا، فإنه لن
يكون لهم ما يكون للذين آمنوا وعملوا
الصالحات، فالوعد هو وعد الله بخير الدنيا،
قبل خير الآخرة، بل إنّه شرطه، باعتبار أن
حقيقة الاستعداد للوعد بالخير في الدنيا، إنما
يكمن بتحقق الشروط، وإلاّ انتفى الوعد بالخير
وكان الأمر على خلافه.
إنّ ما تلحظه الآية من وعد ليس منفصلاً عن
الآخرة وما يكون للمؤمن فيها، باعتبار أن
الدنيا مزرعة الآخرة. وبحق نقول: إنّ وعد
الخير في الآخرة هو امتداد حقيقي للوعد بالخير
في الدنيا، وإذا كان لهذا الوعد من امتياز بين
العالَمَيْن، فيمكن تظهيره من آيات قرآنية
أخرى، كما في قوله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[92] ،
ولا شكّ في أنه من هذا الوعد بالخير في
الآخرة، يتبدّى لنا الفارق بين أن يكون الوعد
وعداً بالتمكين والاستخلاف والارتقاء، وبين أن
يكون وعداً بالرضوان، بل برضوان من الله أكبر،
وهذا ما لا يمكن توصيفه إلاّ بما قاله تعالى
في كتابه المجيد: ﴿
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[93] .
وهكذا، فإنّه من ثمرات الوعد في الدنيا، أن
يكون الوعد في الآخرة خيراً ورضواناً للذين
آمنوا وعملوا الصالحات، وقد عرضنا لهذا المعنى
مفصلاً في بحوثنا عن الفوز العظيم والخسران
المبين
[94] حيث بان لنا أنه فوز لا
توصيف له بلغة البشر، ولا إدراك لكنهه، ولكنه
وعد للمؤمنين الذين امتدّ بهم الخير والالتزام
والوفاء إلى أن يكونوا على حالة من الفوز بما
لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
بشر. إنه الرضوان من الله أكبر والفوز العظيم.
إنّ دراسة موضوع الوعد في القرآن، سواء أكان
وعداً بخير الدنيا أم وعداً بخير الآخرة،
يستتبع حتماً دراسة الوعيد بشرّ الدنيا،
والوعيد بشرّ الآخرة، وهذا ما سنعقد له بحثاً
خاصاً، لما له من فائدة في سياق التعرف إلى
معنى الوعد والوعيد. ومن هنا تتظهّر لنا أيضاً
أهمية أن يستقل البحث فيهما لاستكشاف حقيقة كل
منهما في الدنيا قبل الآخرة، كما عرض لنا
القرآن الكريم، على اعتبار أن للوعد في الدنيا
آثاره الإيجابية في المجتمع الإنسان، وليس
مجرّد وعد بأن يكون للإنسان الفوز والرضوان في
الآخرة بمعزل عمّا يتفاعل معه في حياته
الإنسانية والاجتماعية والثقافية والحضارية،
وهنا تجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم كتاب
حياة وهداية وتغيير، وما لم يتحول الإنسان
وفاقاً له، فإنه لن تكون له الحياة لا في
الدنيا ولا في الآخرة، هذا فضلاً عمّا يمكن أن
يؤول إليه الإنسان من تحولات سلبية في اجتماعه
الإنساني على نحو يؤدّي به إلى أن يكون خاسراً
في الدنيا والآخرة معاً...
وبناءً على ما تقدّم، فإنّنانرى الوعد القرآني
بخير الدنيا والآخرة يأتي في سياق رؤية قرآنية
متكاملة للتغيّر في الحياة، وقبل ذلك في النفس
الإنسانية لقوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾
[95] . فإذا لم يتغيّر
الإنسان في ذات نفسه، كأساس للتغيير، فلا
يتحقق له الوعد الإلهي لكونه لم يتوفّر على
شروط هذا التغيير في النفس والواقع، وقد بيّن
القرآن أنّ الإيمان والعمل الصالح هما من شروط
تحقّق هذا الوعد بما يعنيه من تمكين واستخلاف
ورضا، أما الذين كفروا، فأولئك هم الفاسقون
الذين يؤول أمرهم إلى الخسران المبين في
الدنيا والآخرة، ولعلّ السرّ في كون القرآن قد
اشتمل على كثير من آيات الوعد والوعيد، هو
التأكيد على هذا المعطى التغييري في الدنيا
كشرط لكل فوز ووعد بالخير في الآخرة، وهذا ما
ذهب إليه بعض علماء التفسير، بقوله: «وأُمُّ
علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد وتذكير
وأحكام... والتذكير، ومنه الوعد والوعيد،
والجنة والنار، وتصفية الظاهر والباطن... » ،
وهذا كما يرى الزركشي في البرهان
[96] والثعالبي في
الجواهر الحسان
[97] ، والسيوطي في تفسير
الجلالين
[98] ، فهؤلاء جميعاً يرون
أن اشتمال القرآن على هذا القسم من التذكير
ليس هادفاً إلا إلى تبيان حقيقة ما يهدف إليه
القرآن من تغيير، بحيث يكون للإنسان من ذلك
الخير والفوز في الدنيا، تمهيداً لوعد الله
بالخير في الآخرة.
إنّ معنى أن يتحقق الوعد بالخير، أن يكون
الإنسان على وعي بأمر الله ونهيه، وإلاّ
استحال أمره إلى وعيد الدنيا والآخرة. وهنا
تكمن حكمة القرآن في أنّه استوعب حركة الإنسان
في التاريخ والزمان والحياة، وأعطاه بُعده في
الإيمان والعمل ليكون على مستوى التغيير في
النفس والواقع معاً تمهيداً لإحداث التحوّلات
النفسية والاجتماعية المطلوبة في ضوء ما أمر
الله به ونهى عنه ودعا إليه وذكّر به، وبذلك
يمكن أن تستقيم للإنسان رؤيته وتتحقّق له
غايته، بحيث يعي معنى أن يكون القرآن كتاب
حياة وهداية وتغيير في الحياة قبل أن يكون
كتاب وعد ووعيد في الآخرة، ويمكن لنا أن
نستدلّ على هذا المعنى الذي نذهب إليه بما عرض
له القرآن من وعود وعهود في الدنيا، حيث نرى
في آيات كثيرة كيف أن وعد الله في الخير أو في
العذاب تحقق لكثير من الأمم والشعوب، سواء
لتلك الأمم التي أطاعت الأنبياء والأولياء، أو
لتلك الأمم التي خالفت وانحرفت عن خطّ النبوّة
في تاريخها. وهذا هو معنى أن يمتدّ وعد الله
تعالى ووعيده في الدنيا ليكون له امتداده
وتحقّقاته في الآخرة على النحو الذي بيّنه
القرآن واستحال فهمه على الإنسان من حيث هو
رضوان وفوز بجنّات تجري من تحتها الأنهار، بل
بما هو رضوان ليست الجنّة والجنّات بإزائه
شيئاً، كما بيّن العلاّمة الطباطبائي (قده) في
الميزان، حيث ختم كلامه تعالى بالفوز العظيم،
وقد تكرّر رضوان الله، إيحاءً إلى أنه لا
يقدّر بقدر ولا يحيط به وهم بشر، أو لأنّ
رضواناً منه ولو كان يسيراً أكبر من ذلك كله،
إذ لولا شيء من حقيقة الرضا الإلهي في نعيم
الجنّة كان نقمة لا نعمة
[99] .
ذلك هو معنى تحقّق الوعد الإلهي للإنسان
بالخير أو بالشرّ في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ
فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ﴾
[100] . فهو وعد منه تعالى بالنجاة، ووعد
بإهلاك المسرفين في الدنيا، فكان للمؤمنين بما
صبروا، وللكافرين بما أسرفوا، فحقّ القول
عليهم بالهلاك، وهذا ما ينبغي أن يكون موضع
تبصّر لدى الباحثين للخروج من عهدة أن القرآن
في ترغيبه وترهيبه يدعو إلى بناء الحياة
الخاصة للإنسان، دونما اعتبار لآثار ذلك على
حياته الإنسانية والاجتماعية. إنّ الحكمة من
ذلك هي أن تتوازن حياة الإنسان لتكون لذلك
انعكاساته على ميادين الحياة المختلفة، ويكفي
أن نشير هنا إلى حقيقة أن الوعد الإلهي ليس
مجرّد وعد بالخير بمعزل عن الشروط التي ينبغي
أن يتوفّر عليها الإنسان، وإنّما هو وعد أتى
به القرآن في سياق رؤية متكاملة في حياة
الإنسان يبدأ بالحياة الخاصة فيما وعد به
الإنسان على مستوى علاقته الخاصة مع ربّه أو
مع مجتمعه وينتهي بعلاقته مع الاجتماع
الإنساني برمّته، وهذا ما يتجلّى لنا بوضوح
تام فيما عبّر عنه المؤمنون في سياق الدعوة
إلى الله والجهاد في سبيله لتحقيق الاجتماع
الانساني بما يؤهّله لأن يكون اجتماعاً حيّاً
وفاعلاً في صيرورة التحوّل الإيجابي والإنساني
والحضاري، حيث قال الله تعالى: ﴿
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ
قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً
وَتَسْلِيماً
﴾
[101] . وهذا يكشف
عن حقيقة الوعد الإلهي للمؤمنين بما هو تجلّي
حقيقي في دائرة الجهاد والحرب لتحقيق السلام
والأمان في المجتمع، إذ كان الوعد منه تعالى
وعداً بالنصر بعد أن كان الظنّ لدى الكثيرين
من الكفار والمنافقين أنه لا تحقّق للوعد،
فكان الصدق والإيمان والتسليم، ومن ثمّ النصر
على الأعداء بما حققه أهل الإيمان والصدق من
التزام ووفاء مع الله تعالى ورسوله (صلى الله
عليه وآله وسلم).
إنّ الوعد في الدنيا، قد يكون وعداً بالخير،
وقد يكون وعداً بالعذاب الأليم، وكل ذلك إنّما
يكون للإنسان بحسب ما يعقله عن الله تعالى
فيما أمر به ونهى عنه، ولهذا، نجد القرآن
دائماً يخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم): ﴿
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
يُرْجَعُونَ ﴾
[102] . ولا شكّ أن ﴿
بَعْضَ ﴾ في الآية، هو ناظر إلى حقيقة
ما يكون لمن يتربّص بالرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) شرّاً، وهو وعد دنيوي له تحققاته
في ميادين الحياة التي يعيشها الإنسان ويتفاعل
مع أحداثها، وإذا كان للوعد هذا المعنى، فإنه
يتكامل مع ما وعد به الإنسان من خير في
الآخرة، إلاّ أنه يبقى مشروطاً بما يؤدّيه
الإنسان من وظائف في حياته، وبما يفي به من
وعد وعهد اتجاه ربّه ومجتمعه.
وبهذا المعنى يمكن لآيات الوعد أن تتكامل في
ضوء رؤية متّسقة لا تفصل بين وعد الدنيا ووعد
الآخرة، سواء بالخير أم بالشرّ، على اعتبار أن
القرآن فيما يؤكّد عليه من عهد ووعد في الدنيا
يهدف إلى تبيان حقيقة الموقف الذي ينبغي على
الإنسان استكشافه من خلال ضمّ الآيات في الوعد
بعضها إلى بعض وفقاً لمنهجية موضوعية هادفة
تأخذ بعين الاعتبار هدفية القرآن من تكرار
آيات الوعد والوعيد في الخير والشرّ، وفي
الدنيا والآخرة، باعتبار أنّ الجنّة أو النار
ليستا شيئاً مجرّداً، أو امتيازاً جزافياً
للإنسان ينتظره على محطات العبور، وإنّما
الجنّة هي منازل أُعدّت للمتقين، وقد أزلفت
إليهم على سبيل الحياة الدنيا ليفوزوا بما
وُعدوا به من قبل الله تعالى، وكذلك نار
جهنّم، فهي برِّزت للغاوين، وأُعدّت للكافرين
والمنافقين مع أسبقية هؤلاء لتكون لهم على
مساغ ريقهم في زفيرهم وشهيقهم. ذلك هو معنى
الوعد الحق فيما يؤول إليه الإنسان في دنياه
قبل آخرته، وقد بيّنت سورة الفتح مدى الإحاطة
بوعد الخير للإنسان المقدور منه وغير المقدور،
كما قال الله تعالى: ﴿
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ
وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (20)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ
أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾
[103] .
إنّه وعد بمغانم الحياة من نعم وغنيمة وإحاطة
واستخلاف وتمكين ورضا بالدين، وكل هذا سابق
على وعد الخلود فيما أعدّ من جنات وعيون. وإذا
كان لهذا كله من معنى، فهو التحقق بالهدى
القرآني الدّاعي إلى الإيمان والعمل والصبر
والجهاد، وغير ذلك مما جعله الله تعالى سبيلاً
إلى الفوز بالدنيا. وقد جعل الله تعالى لكل
شيء قدراً، وما على الإنسان إلاّ أن يهتدي
بهدى الله تعالى الذي ضمن للإنسان فوزه
وسلامته في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿
إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾
[104]
، وكل مَن وعد خيراً فهو ملاقيه في مسيرة
حياته إلاّ أن يخرج على هدى الله تعالى فيما
جاءه من حق، وكلّف به من أمر ونهي، فإذا اختار
الإنسان أن يكون له الخير، وقد وعد به من لدن
حكيم خبير، كان له خيرٌ في الدنيا والآخرة،
وإن اختار خلاف ذلك كان له وعد الشرّ في
الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى في شأن النبي
موسى (عليه السلام) وقومه: ﴿
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ
أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ
رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ
عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن
يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ
فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ﴾
[105]
، فهم وعدوا النبي موسى (عليه السلام) ،
بالثبات على الإيمان بالله والهدى والقيام بما
يأمرهم به، ولكنهم اختاروا غواية الشيطان على
هداية الرحمن، فآل أمرهم إلى ما نزل بهم من
العذاب، وهو وعد إلهي حقّ لهم بما أخلفوا الله
تعالى ما وعدوه، وهذا هو معنى أن يكون للإنسان
عهده ووعده في الدنيا، أن يكون على أمر الله
ونهيه، بل على هداه حتى لا يضلّ ولا يشقى، ولا
يظمأ ولا يعرى، ولا يخاف ولا يخشى.
وهكذا، فإن مَن أخذ بشروط العهد والوعد، وعمل
بمقتضى الأمر والنهي، كان له ما وُعد به من
الخير، سواء في الدنيا أم في الآخرة، ومن لم
يأخذ بشروط هذا الوعد بأن أخلف وعده، ولم يأخذ
بشرط العهد بأن نقض عهده، فلا بدّ أن يؤول
أمره إلى العذاب والهوان، سواء بالاستئصال أم
بالمسخ أم بالهزيمة، أم بغير ذلك مما يختاره
الله تعالى له من عذاب في الدنيا، وإن عذاب
الساعة لأدهى وأمرّ، كما قال الله تعالى: ﴿
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ
أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾
[106]
.
خلاصة القول: إنّ وعد الله تعالى في
الدنيا، هو وعد مشروط بالقيام بأمر الله
سبحانه، بأن يلتزم الإنسان بما جاءه من الهدى
والبيان، فإن كان منه وعد الصدق، كان له وعد
الخير، كما قال تعالى: ﴿
وَأَوْفُواْ
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾
[107]
. وأما إن كان منه الكفر والنفاق وسوء الظن
بالله، كما تحدّث الله جلّ وعلا عن موقف
المنافقين: ﴿
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾
[108] ، فإن كان منهم ذلك،
كان لهم الوعد بالعذاب، كما قال الله تعالى: ﴿
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾
[109] .
لقد تبيّن لنا أن الوعد في القرآن ينقسم إلى
قسمين، وعد بالخير، أي بخير الدنيا، ووعد بخير
الآخرة، وهذا ما ينقسم له الوعيد في القرآن
أيضاً كما سنرى في هذا البحث، وطالما أن الوعد
بخير الآخرة هو امتداد للوعد بخير الدنيا،
فإنّ الوعد في الآخرة له ما يتمايز به أيضاً
لكونه يفوق خير الدنيا وما يكون للإنسان فيها
من نصر وغنيمة وفوز، لأنّ متاع الدنيا قليل
وزائل، وهو لا يكاد يُذكر إزاء ما أعدّ
للإنسان من نعم، كما قال الله تعالى: ﴿
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا
وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
[110] .
وكما رأينا سابقاًً، أن الوعد بخير الدنيا
إنّما يكون للإنسان فيما يأتيه من وفاء
والتزام في خط النبوات والرسالات وهو ما عبّرت
عنه الآيات بالإيمان والعمل الصالح، واتباع
أمر الله تعالى، وإخلاص العبادة له سبحانه،
كما عبّر الله تعالى: ﴿
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾
[111]
، جاء في سياق وعد الله تعالى للذين اتقوا
وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض... وإن
أي توجّه لغير الله تعالى يعتبر لوناً من
ألوان الشرك بالله تعالى. وعليه، فإنّ معنى
الوعد بالخير في الآخرة للإنسان هو استيفاء
كامل الشروط والصفات التي تؤهّل الإنسان لهذا
الخير الذي وصفه الله عزّ وجلّ بأنه رضوان من
الله تعالى، باعتبار أن أصل الوعد والوعيد،
يتفرّع عن أصل العدل، أو مقتضى العدالة
الإلهية، كما بيّن في البحوث السابقة، أن يثاب
الأخيار، وأن يعاقب الأشرار، والمعاد هو
التجلّي الحقيقي لهذا الوعد الإلهي، وبما أن
الوعد هو وعد بالخير في الدنيا والآخرة، فقد
تبيّن لنا معنى تواصل هذا الخير بمقتضى الرحمة
الإلهية، وبمقتضى العقل أيضاً، أن يكون لهذا
الإنسان ثوابه على طاعته وإحسانه، وعقابه على
كفره وشركه ومعصيته، وعلى كل ما يأتيه من
كبائر في خط النقض بالعهود والخلف بالوعود...
ولا شك في أن ما يميّز هذا الوعد الإلهي، هو
حتمية تحققه، لقوله تعالى: ﴿
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
[112]
، وقوله جلَّ وعلا: ﴿
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ
الْمِيعَادَ ﴾
[113]
، وقوله عزّ وجلّ: ﴿
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ ﴾
[114] ، إلى كثير من الآيات التي تنطق
بهذا الحق، سواء في مجال التكوين في طيّ
السماوات، وتبدّل الأرض غير الأرض والسماوات،
أم في مجال التشريع، وفي سائر ما جاء به الخبر
القرآني. ولعلّ ما ذكرناه في المبحث السابق قد
أتى على معنى تحقيق الوعد وحتميته في انتصار
المؤمنين، ولم يخلف الله وعده، كما أنه لم
يخلف وعيده فيما أصاب المنافقين الكافرين من
ألوان العذاب في البرّ والبحر، هذا فضلاً عمّا
لحق بهم من تهديد ووعيد فيما أصابهم من مسخ
واستئصال وهزائم في صراعهم مع النبوّة في خطّ
الإيمان والتوحيد...!؟
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن الوعد في الآخرة
بالخير للمؤمنين، والعاملين للصالحات، إنّما
هو امتداد للوعد في الخير في الدنيا، ولكنه
يمتاز عن هذا الخير في أنه رضوان الله تعالى،
كما وعد الله سبحانه في كثير من الآيات
بالمغفرة والرضوان والفوز العظيم، والتكريم،
ونحو ذلك من أنواع الثواب، وهذا كله إنّما كان
للعباد حقٌّ على الله جلّ وعلا، كونه ضمن لهم
إذا فعلوا والتزموا ووفوا بعهودهم ووعودهم أن
يعطيهم ما وعدهم به، ومن أولى بالوفاء من الله
عزّ وجلّ. وإذا كان الوعد حقاً للعباد على
الله تعالى، فإنّ الوعيد حقه على العباد، فإن
قال لا تفعلوا ونهاهم عن المنكر والمعاصي،
ففعلوا ذلك، فله سبحانه الأمر إن شاء عذّبهم،
وإن شاء غفر لهم، كما جاء في دعاء الجوشن: يا
من عُبد فشكر، ويا من عُصي فغفر.
غاية القول: إنّ الوعد للمؤمنين بخير الدنيا
والآخرة، هو وعد حتمي التحقق، وهناك الكثير من
الآيات التي تفيد أن الوعد تحقق في الدنيا قبل
الآخرة ولم يخلف الله وعده، وهذا ما نرى أنه
قابل للبحث في ضوء جملة من الآيات القرآنية
التي تربط بين وعد الدنيا ووعد الآخرة، سواء
بالخير أم بالشر، كما قال الله تعالى: ﴿
أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ
لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
﴾
[115] .
فالآية، كما نلاحظ، ناظرة إلى متاع الحياة في
مقابل الوعد الحسن، يقول الكاشاني في تفسيره
حول المتاع: «هو مشوب بالآلام ومُكَدّر
بالمتاعب، مستعقب للتحسّر على الانقطاع» ،
وهذا غير الوعد الحسن الذي وعده الله تعالى
للإنسان
[116] ، إذ إنّ هناك فرقاً
كبيراً، كما يقول الطبرسي (قده) ، بين متاع
الدنيا ونعيمها، وبين من أوتي نعيم الآخرة
جزاءً على طاعته، والمعنى: «أيكون حال هذا،
كحال ذاك أي: لا يكون حالهما سواء، لأن نعم
الدنيا مشوبة بالغموم، وتعرض للزوال والفناء.
ونعم الآخرة خالصة صافية دائمة لا تتكدر
بالشوب، ولا تتنقص بالانقضاء»
[117] .
إنّ على المتدبّر في القرآن أن يلحظ هذا
المعنى جيداً، وأن يدرك معنى الوعد الحسن
وشروطه في الدنيا، لأنه لا يكون من الله تعالى
جزافاً وكيفما اتفق، وإنّما لا بدّ من ملاحظة
الأمر والنهي والتذكير، وقبل كل ذلك التوحيد
والإيمان، وغير ذلك مما جاء به الذكر الحكيم،
والذي من شأن الالتزام به قولاً وفعلاً أن
يجعل الإنسان متبصراً بمآلاته، ومحققاً لهذا
الوعد فيما يؤول إليه في آخرته، كيف لا وقد
بيّن القرآن أن الجهاد في سبيل الله تعالى
بالنفس والمال من شأنه أن يؤول بالإنسان إلى
الفوز العظيم، حيث قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ
اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[118] .
نعم، إنّ الفوز العظيم الذي تكون بدايته
الدنيا ووعد الخير فيها، وهذا ما ينبغي أن
يتدبّر فيه الإنسان جيداً، ليدرك تمايز
الدرجات فيما وعد الله سبحانه به عباده من
نعيم في ضوء تكامل الرؤية القرآنية، لأنّ مَن
باع نفسه وماله لله عزّ وجلّ في ميدان الحب
والطاعة والإخلاص لا بدّ أن يتمايز في هذا
الوعد عمّن هو قاعد من المؤمنين، كما قال الله
تعالى: ﴿
لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ
أَجْراً عَظِيماً ﴾
[119]
.
ولا شكّ في أنّ الأجر العظيم لا يختلف عن
الفوز العظيم فيما وعد الله به سبحانه
المؤمنين المجاهدين، ومن خلال سياق الآية في
موضوع الجهاد وما يكون من الإنسان في حالاته،
ندرك معنى أن يتمايز الوعد للمؤمنين في
الآخرة، حيث قال الله تعالى: ﴿
وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾، إضافة إلى التعقيب
بالقول: ﴿
وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى
الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾، وهذا له مؤدّاه في وعد
الآخرة بالخير، لأنّ القرآن يؤسّس فيما يعرض
له من حالات، ليس فقط لحقيقة الخير في الدنيا،
وإنما هو يبيّن مآلات التحول الإنساني في ضوء
تحقق الشروط في ما يلتزمه الإنسان ويؤديه من
أعمال هادفة في خطّ الإيمان بالله تعالى على
نحو ما تقدّم القول منا في مبحث الوعد في
الدنيا. وهكذا فإنّ معنى الأجر العظيم يتلاءم
تماماً مع الفوز العظيم الذي وعد الله جلّ
وعلا به الذين آمنوا وعملواالصالحات، وهذا ما
ينبغي التوقف عنده مليّاً في سياق الدلالة
القرآنية فيما يعرض له من وعد، بين أن يكون
سياق الوعد هو الفوز العظيم، أو الفوز المبين،
أو الفوز الكبير، أو الرضوان، أو الخلود في
الجنة، أو غير ذلك مما تناهت به الآيات في
سياق الدلالة القرآنية، لأنّ قوله تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ
حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾
[120] ، له دلالاته، وكذلك
قوله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
[121] ، له دلالة أخرى، إذ
يتظهّر لنا من الآيات مفهوماً ومنطوقاً أنها
تفيد تمايز في درجة الوعد بالخيرات، لكونها
الآية الوحيدة التي اشتملت على الرضوان في
سياق ما وعد الله تعالى به عباده المؤمنين،
وهذا ما نودّ التدبّر فيه لكون مصطلح الوعد في
القرآن لا يمكن تجاهل سياقاته المختلفة، وفي
جميع الأحوال تبقى شروط ومقدمات هذا الوعد في
الآخرة متوقفة على مدى التزام الإنسان بالحق،
وبكل ما يؤديه من التزامات إيمانية وجهادية
لكون الدنيا هي دار التكليف والعمل، وكل ما
يكون للإنسان من وعد في آخرته إنما هو تجسيد
لحقيقة وجوهر هذا الالتزام من الإنسان بما أمر
الله به ونهى عنه، لأنّه الحق ووعد الحق، كما
قال الله تعالى: ﴿
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴾
[122] .
إنه وعد الصدق في الدنيا والآخرة، وفي الوعد
والوعيد، وهذا هو مفاد دلالة: ﴿
مَا تُوعَدُونَ ﴾ سواء في الدنيا أم في الآخرة،
في المغفرة والرضوان، أم في الجحيم والعذاب.
وإذا كانت أنواع الوعد بالخير لاحظة لخير
الدنيا والآخرة، فإنّ أنواع الوعيد هي أيضاً
تلحظ ما يكون للإنسان من عذاب ووعيد في الدنيا
والآخرة، وهذا ما نجد له ظهوراً واضحاً في
القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: ﴿
إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً
أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ
وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
[123] . وقال الله سبحانه
في الوعيد بشرّ الآخرة: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ
وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُّقِيمٌ ﴾
[124] . فهذا قول الله عزّ
وجلّ في وعيده: ﴿
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾، وكما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴾، وقد توقف الفقهاء والمفسرون
مليّاً عند ما يعنيه هذا الصدق في الوعد
والوعيد، ورأوا، كما بينّا سابقاً، أنّ الله
جلَّ وعلا لا يخلف في وعده، بل لا أحد أولى
بالوفاء منه، وأن ما يكون من المغفرة والعفو،
إنما يكون لمن هو داخل تحت المشيئة فيما أخبر
الله تبارك وتعالى أنه يغفر له، وقد علمنا
بالسمع لا بالعقل أنه يغفر لمن تاب توبة
نصوحاً عن شرك أو كفر، ولكن الفقهاء اختلفوا
بخصوص الغفران لمن يشاء، كما في قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾
[125] ، وهذا ما سيكون
مجالاً للبحث في الفصول اللاحقة إن شاء الله
سبحانه، ويكفي أن نشير في سياق مبحثنا هذا إلى
أن تخلّف القوم عن نصرة دين الله عزّ وجلّ،
كما في قوله تعالى: ﴿
إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ﴾
[126] ،
لم يلحظ في سياق الدلالة في الآية المباركة
مَن يكون له العذاب الأليم، أو مَن يمكن أن
يكون موضوعاً للاستبدال كما لحظ في آية أهل
النفاق والكفر، فالآية الأولى (سورة التوبة /
39) وعد بالعذاب لمن تثاقل عن نصرة الدين، أما
في الآية الثانية (سورة التوبة / 68) فهو وعد
بالعذاب المقيم في جهنم، بمعنى آخر يمكن
القول: إنّ ظهور الآية الثانية واضح الدلالة
في الخلود بالعذاب واللعن، بخلاف الآية الأولى
التي أوعدت بالشرّ مَن يتثاقل عن نصرة الدين
وظنّ بأنّ الله تعالى لن ينصر دينه ورسوله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء ذيل الآية
المباركة ليوضّح لهؤلاء المنافقين أيضاً أن
الله على كل شيء قدير، يقول الكاشاني: «ولا
تضرّوا النبي شيئاً، لأنّ الله وعده أن ينصره
ويعصمهُ من الناس ووعده الله كائن لا محالة
﴿
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
﴾ فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب
والنصرة بلا عدد»
[127] .
وهو خطاب، كما نرى، متوجه فيه التهديد والوعيد
إلى الأمة الإسلامية مباشرة لكونها خير أمة
أُخرجت بنظر القرآن، فإذا تثاقلت عن النصرة،
فإنّها لن تضرّ الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) شيئاً، وتستبدل بمن ينصره.
غاية القول: إنّ الله فيما جاء به من وعيد
بالعذاب، هو أيضاً امتداد لعذاب الدنيا، وقد
حصل في تاريخ الأنبياء أن أصيب أهل الكفر
والنفاق والتثاقل بألوان من العذاب في الدنيا،
وما سيكون لهم في الآخرة أدهى وأمرّ، وقد بيّن
القرآن أن الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله
وكرهوا الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ بحجّة
الحرّ والبرد لم ينجوا من عذاب الدنيا، وكانت
جهنم لهم بالمرصاد. كما قال تعالى: ﴿
وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ
لَا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُواْ
يَفْقَهُونَ ﴾
[128] .
وكيف كان، فإنّه يظهر من دلالة السياق في آيات
الوعيد، سواء الآيات الناظرة إلى عذاب الدنيا
أم الآيات الناظرة إلى عذاب الآخرة، أنّ
الوعيد لا يتحقق لمن يستحقه من خارج هذه
الدنيا وما يأتيه من أعمال، ولاينبغي لمن
يتدبّر بالآيات أن يتساهل في حقيقة هذا الوعيد
من حيث كونه حقاً، وهو وعد الله تعالى، سواء
جاء هذا الوعد للمؤمنين أم للمنافقين، فلا
يُقال بأنه يحسن الخلف في الوعيد، ولا يحسن
الخلف بالوعد، لتكون النتيجة القول على الله
سبحانه ما لم ينزل به سلطاناً، لأنّ ما أخبر
الله جلَّ وعلا أنه كائن فهو لا مجال متحقق
إلاّ أن يكون أمراً أو نهياً، أو يأتي في معنى
الإنشاء على نحو ما بيّن العلماء في تميّزهم
بين ما هو قابل للنسخ وما هو غير قابل، وقد
أجمع العلماء قديماً وحديثاً على أنه لا نسخ
في الأخبار، وإذا كان الله تعالى قد أخبر بأنّ
الذين يعملون السيئات ولم يتوبوا من قريب، أو
الذين كفروا وماتوا وهم كفار، قد أعدّ لهم
العذاب الأليم، فإنّ مقتضى الوفاء والصدق في
الوعد أن يكون العذاب متحققاً. ومثلما أن الله
عزّ شأنه وعد المؤمنين العاملين للصالحات
بجنّات نعيم وثواب عظيم، فكذلك هو وعد
المنافقين والكفار وأصحاب الكبائر بالعذاب
الأليم، إلاّ أن يتدارك الله تعالى هؤلاء
بالرحمة والمغفرة فيما لو انطبق عليهم وصف
الجهالة، أو حال بينهم وبين التوبة القصور عن
إدراك حقائق الأمور. وهذا هو مقتضى العدالة
الإلهية بأن يثاب المطيع ويعاقب العاصي بما
يستحقه من العذاب، سواء في الدنيا أم في
الآخرة.
كما أنه ليس على المتدبّر في القرآن فيما أتي
به من آيات في الوعد والوعيد أن يتجاهل الرؤية
الموضوعية فيما تقتضيه من إلمام شامل بموضوع
البحث، على اعتبار أن القرآن يفسّر بعضه
بعضاً، ويشهد بعضه على بعض، فإذا ما عرضنا
لآيات الوعيد في الدنيا والآخرة، فلا بدّ أن
نلحظ حقيقة أن الذين استكبروا وكفروا ونافقوا
وتثاقلوا في تاريخ الصراع بين النبوة وبين
هؤلاء جميعاً، كان لهم ألوان من العذاب، ولم
يخلف الله تعالى وعيده فيهم، ويمكن لنا من
خلال المنهج التوحيدي الذي يقتضي ملاحظة تجارب
الأمم في ضوء ما عرضت له النصوص وجاءت به
الأخبار، وخاصة في القرآن الكريم، أن نستخلص
الموقف الرسالي القرآني، الذي يكشف لمتدبّر
بصير أن من استحق عذاب الدنيا، كفرعون،
وقارون، وهامان، وسائر الطغاة والمستكبرين،
وكل من حقّ القول فيه، لا يمكن أن يكون سبيله
إلى المغفرة والرضوان، باعتبار أن الله أخبر
عن مصائر هؤلاء، وعمّا يكون لهم من تحولات في
الدنيا والبرزخ والقيامة، وقد بيّن الله
سبحانه في سورة الواقعة، أن مَن كان من
المكذبين الضالين، فمآله حتماً إلى ما قال
الله تعالى: ﴿
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ ﴾
[129] ،
وهنا نسأل، هل يمكن لباحث أو لفقيه أن يدّعي
أنّ ما جاء في القرآن من وعيد هو هادف إلى
مجرّد الترهيب تعويلاً منه على حسن خلف
الوعيد؟ وكيف يمكن للعدالة في عالمي الدنيا
والآخرة أن تنتظم فيما لو قلنا بانقطاع العذاب
وتجاهلنا الأخبار في الوعد والوعيد
؟؟
إنّ الله عزّ وجلّ هادف فيما وعد به وأوعد
عليه، وقد بيّن القرآن أنواع الوعد والوعيد في
الدنيا والآخرة، وهذا ما تواترت الأخبار فيه،
وليس لأحد أن يدّعي أن الترغيب والترهيب في
القرآن هو مجرّد تأديب وتهذيب، أو أن يقيس
رحمة الله تعالى برحمته، كما أنه لا ينبغي
أيضاً مجافاة الحقيقة في تغليب النصوص، فنتخذ
من نصوص الوعد دليلاً على انتفاء العذاب، أو
من نصوص الوعيد دليلاً على انتفاء الرحمة، كما
فعلت الفرق الإسلامية في تاريخها حين انقسمت
بين وعد ووعيد، فآل أمرها إلى الإفراط
والتفريط، خلافاً لما أمر الله سبحانه به ودعا
إليه.
يبقى أن نقول: إنّ ما عرضنا له في مبحث أنواع
الوعد والوعيد، في الدنيا والآخرة، لم تكن
الغاية منه سوى التأكيد على أن دلالة النصوص
كما جاءت في سياقاتها المختلفة تبيّن أن الوعد
بالخير أو بالشرّ ليس وعداً أخروياً وحسب،
وإنما هو وعد دنيوي أيضاً كانت له تحققات
مختلفة في تاريخ البشرية، وإذا كان الله عزّ
وجلّ لا يخلف الميعاد، فهو لا يخلفه لا في
الدنيا ولا في الآخرة، طالما أنه وعد الحق
المستند إلى إرادته فقط، وكما يقول العلّامة
الطباطبائي (قده) :
«فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقي
فإنه يهدي إلى العلم بأن وعده حق لا يمازجه
باطل ولكن أكثرهم (وهم العامة من الناس) لا
يعلمون لعجزهم عن الإمعان في ما يعنيه الوعد
الحق، كما قال تعالى: ﴿
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ، وإذا وعد وعداً كان حقاً لا مردّ له
من غير أن يتغير عن وعده بصارف»
[130] .
ذلكم هو معنى أن يكون الوعد حقاً في الدنيا
والآخرة، في المغفرة أو في العذاب، إذ إنّ مَن
وعد بالاستخلاف والتمكين، وكان مرضياً في
الدين، هو ليس كمن وعد بالعذاب الأليم والخلود
في جهنّم، فلكل منهما صورته وحقيقته التي
يمتدّ بها من عالم الملك إلى حيث يستحق أن
يكون، فلا الحق ينقلب باطلاً، ولا الوعد ينقلب
وعيداً، بل هو وعد الحق، وكيف يكون وعده
باطلاً ووعده لنا هو فعله الغائب عن نظرنا
المستقبل لنا، وقد وجه كما يقول العلامة
الطباطبائي (قده)، كلّية الأسباب إليه ولا مردّ
له
[131] ؟ ولعل
ما تحقق من وعد الصدق في عالم الدنيا، سواء في
الخير أم في الشر، كاشف عن مستقبل الرؤية لنا
فيما يكون من تحققات لهذا الوعد، خلافاً لما
يرتكز إليه بعض الباحثين في تأويل المشيئة على
أنها تعني امتناع تحقق هذا الوعد بحق من كذب
وتولّى ولم يجتنب الكبائر، رغم أنّ هذه
المشيئة في كثير من الآيات لم تصرف العذاب
عمّن يستحقه، كما بيّن الشريف الرضي في حقائق
التأويل
[132] .
يرى بعض الباحثين في علوم القرآن أن كتاب الله
تعالى قد اشتمل على حكمة الموازنة بين الوعد
والوعيد والترغيب والترهيب، وقد سوّغ مَن ذهب
إلى هذا الرأي مقالته بأن النفس البشرية طبعت
في آن واحد على الخوف والطمع، وأنه من خلال
الجمع بين الترغيب والترهيب يمكن أن يكون
الإنسان أقرب إلى الطاعة منه إلى المعصية، وقد
استدلّ على رأيه، سواء أكان باحثاً أم فقيهاً،
بقوله تعالى: ﴿
وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ﴾
[133] ،
وقوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ
وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ
وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ ﴾
[134] ، إضافة إلى ذلك، فقد استدلوا على
صحة العبادة بالترغيب والترهيب بما قاله
الإمام علي (عليه السلام) : «إنّ قوماً عبدوا
الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإن قوماً
عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً
عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار»
[135] .
ولئن كانت الآيات المباركة في دلالة السياق
تظهر صحة العبادة ترهيباً وترغيباً على نحو
يُستفاد منه أنه رغبة في الطاعة لا في الثواب،
والرهبة من المعصية لا من العقاب لارتفاع مقام
الأنبياء عن ذلك، كما قال الكاشاني
[136] ، وهذا ما يمكن
استظهاره من دلالة السياق لكون الأنبياء كانوا
يسارعون في الخيرات.. إلى أن يقول تعالى: ﴿
وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ ﴾
[137] ،
وهذا ما ينسجم مع حالة الأنبياء والأولياء
الذين يعبدون الله عزّ وجلّ حباً له، وهذا هو
مفاد قول الإمام (عليه السلام) أنه وجد الله
أهلاً للعبادة فعبده. وهكذا، فإن الذي تقرره
الآية ليس حالة الخوف أو الطمع، وإنّما صحة
العبادة من حيث كونها حبّاً لله سبحانه
وخشوعاً له. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا
الأمر فيما يعود إلى صحة العبادة، كان ولا
يزال موضع تباحث بين الفقهاء قديماً وحديثاً،
وقد نقل الشهيد الثاني في قواعده عن الأصحاب
بطلان العبادة بهاتين الغايتين، وبه قطع آخرون
كابن طاووس محتجّاً بأن قاصد ذلك إنّما قصد
الرشوة والبرطيل ولم يقصد وجه الدين الجليل،
وهذا دليل على أن عمله سقيم وأنه عبد لئيم
[138] ... وإلى خلاف هذا
ذهب السيد الخوئي (قده) في البيان
[139] ، والطباطبائي (قده) في الميزان،
مرجّحاً الرغبة في الثواب، والرهبة من العقاب
[140] ، وإليه ذهب الشربيني
في مغني المحتاج، بقوله: إنّ الغالب في القرآن
ذكر الترهيب والترغيب معاً، كقوله تعالى: ﴿
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾
[141] ، فإن غلب داء القنوط فالرجاء أولى،
أو داء أمن المكر فالخوف أولى
[142] .. وعموماً يمكن القول: إنّ أحداً
من الفقهاء لم ينفِ أن تكون الموعظة قائمة على
الترهيب والترغيب، ولهذا يقول الطبرسي (قده)
في تفسير قوله تعالى: ﴿
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾
[143]
نقلاً عن محمد بن كعب: «وإنّما خصّ يوم
القيامة بذكر الملك فيه تعظيماً لشأنه،
وتفخيماً لأمره، كما قال ربّ العرش. وهذه
الآية دالّة على إثبات المعاد، وعلى الترهيب
والترغيب، لأن المكلف إذا تصور ذلك لا بدّ أن
يرجو ويخاف..»
[144] .
لقد ذكرنا آنفاً أنه من عادة القرآن، بل إنّ
منهجية القرآن المطردة قائمة على هذه الموازنة
إذ لا نجد آية وعد، إلاّ ويقابلها آية وعيد،
أو العكس، كما في قوله تعالى: ﴿
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ
غَيْرِ آسِنٍ ... ﴾
[145] ، فبعد هذا الترغيب
الجميل، أعقبه بما يخوّف النفوس، فقال الله
تعالى: ﴿
كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ
مَاءً حَمِيماً ... ﴾
[146] .
وكذلك الحال مع كل آية وعيد، كما قال تعالى: ﴿
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ
فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ
رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾
[147] ، نرى أن القرآن
يعقبها بآية النعيم المقيم، كما في قوله
تعالى: ﴿
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ
وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا
نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴾
[148]
.
ونظراً لكون القرآن، فيما اشتمل عليه من
تذكير، والذي رأى بعض الفقهاء أنه يشكل قسماً
كبيراً من القرآن، يكاد يبلغ ثلث القرآن،
فإننا لا نريد الاستغراق في ذكر الآيات بعدما
تبيّن لنا أن الموعظة القرآنية قائمة على هذا
المنهج في العرض في تصوير الحقائق وتظهيرها
على النحو الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يكون على
حالة توازن فيما يؤديه من أعمال، ويسعى إليه
من أهداف نبيلة في حياته الدينية والإنسانية،
ولعلنا إن أردنا الكلام في هذا القسم من
التذكير والموعظة لا نفي هذا البحث حقه،
ولكننا نودّ غاية أخرى من وراء الإتيان على
هذا المبحث في الترغيب والترهيب، وهو أننا
ندرك تماماً أن منهجية القرآن فيما يعرض له من
ترغيب وترهيب ليس هادفاً إلى تربية الإنسان
على أن يكون متوازناً في خوفه ورجائه، وإنما
هو يدعوه إلى تجاوز هذه الحالة إلى ما يكون
عليه أقرب من الله سبحانه، بمعنى أن يكون
محباً وخاشعاً لله تعالى، باعتبار أن الأنبياء
والأوصياء والأولياء وسائر أهل التقى ممن
تربّوا على مائدة الدعوة والهداية الإلهية، هم
دعوا إلى هذه الحالة، وبدأوا بها لا ليكون
حالهم بين الخوف والرجاء، بحيث لا يقنطون من
رحمة الله عزّ وجلّ، ولا يأمنون مكر الله جلَّ
وعلا، بل بهدف تجاوز ذلك إلى مستوى الإيمان
الحقيقي الذي يؤدي بالإنسان إلى أن يكون أشدّ
حبّاً لله تعالى، الإيمان الذي يرغب بالطاعة
لا بالثواب، ويرهب بالمعصية لا بالعقاب، لأنّ
عبادة الأحرار، كما بيّن أمير المؤمنين (عليه
السلام) ليست حكراً على الأنبياء والأولياء
والأوصياء، وإنّما هي حالة وعبادة ينبغي أن
تكون هدفاً لأهل القرآن، فإذا ما استقروا
عليها ووصلوا إليها كان لهم القرب من الله
سبحانه، كما قال الله عزَّ وجلّ: ﴿
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ
إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾
[149] . وهكذا، فإن معنى الترهيب
والترغيب، والوعد والوعيد أن يتحول الإنسان من
كونه تاجراً أو عبداً، ليكون حرّاً في عبادته،
وفي حبّه لله جلَّ وعلا.
أما من يزعم أنّ ما يؤدّيه القرآن في هذا
الجانب ارتكازاً على ما طبعت عليه النفس من
خوف وطمع، فهذا مما يعلم من طبيعة خلق الإنسان
وتكوينه، ولكنه ليس مما ينبغي الاستقرار عنده
والاكتفاء به، طالما أننا نعرف من حالات
الدنيا وأهلها، وخاصة في ما يعتمده التجّار
ورجال السياسة وغيرهم من أساليب في الترغيب
والترهيب بهدف استقرار الأوضاع لهم، فهل
تريدون القول: إنّ هدف القرآن الكريم من
الترغيب والترهيب هو هذا، أي أن يكون الإنسان
دائماً أسير خوفه وطمعه؟
لا شكّ في أن القرآن يدعو إلى هذا المنهج في
الوعظ والإرشاد، بل إن النبوة، كما يرى
المشهدي، قامت بهذا الدور، وهي إنّما أُثبتت
ليقع بها الترغيب والترهيب
[150] ، إلاّ أن الذي يقع فيه النقاش ليس
مبدئية هذا الأسلوب، لأن القرآن اشتمل عليه
ودعا إليه، بل في الغاية منه، باعتبار أن لكل
شيء مؤدّى، ومؤدّى هذا الترغيب والترهيب هو أن
يصل الإنسان إلى مستوى أن يكون عبداً شكوراً،
عبداً يكفيه الله جلّ شأنه وحده، كما قال الله
تعالى: ﴿
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾
[151] ، فإذا لم تصل
العبادة المأمور بها إلى مستوى أن يتحوّل
الإنسان عن كونه طامعاً، أو خائفاً، أو غير
ذلك مما يتناوب عليه من حالات اليأس والأمن
والقنوط ليكون عبداً لله تعالى، فإنّ هدف
النبوّة والرسالة لن يتحقق، ولعلّ أكثر ما
يمكن الاستدلال به على استقرار حالة الإنسان
عند مستوى الطمع والخوف، هو أن الأمة
الإسلامية عاشت هذه الحالة وتفاعلت معها،
ولكنها لم تصل إلى مستوى أن تكون خير أمة
أُخرجت للناس، وهذا يعني أنّ هدفية القرآن لم
تلحظ حالة الإنسان ونفسه وما يكون عليه من
اضطراب في تحولاته وحسب، وإنّما هي تجاوزت ذلك
إلى إرشاد الإنسان إلى تحولات أخرى تخرجه عن
كونه أسير حالاته، ورهن عبادة العبيد أو
التجّار ليكون على مستوى قوله تعالى: ﴿
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ﴾
[152] ، وكلنا يعلم أن هذا التراخي في
تجاوز كل الحالات إلى الهداية لا يكون
بالترهيب والترغيب، وإنّما يكون بالإيمان الذي
وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه على
أربعة شُعب تؤدّي بالإنسان إلى أن يكون عبداً
صالحاً يدعو الله سبحانه رغبة ورهبة
[153] ، كما كان حال
الأنبياء والأولياء والأوصياء وسائر من تبعهم
بإحسان في تاريخ الأمم والشعوب.
إنّ الأمم التي عاشت بالترهيب والترغيب، وخاصة
الأمة الإسلامية، ولم تعقل عن الله تعالى
ماينبغي أن تكون عليه أو تصل إليه من حالة
استقرار في العبادة لله جلّ وعلا، هذه الأمم
لم تفلح فيما أدّته من أدوار وقامت به من
وظائف، والتزمت به من عبادات جوّفتها إلى حدّ
لقلقة اللسان في كثير من أمور دينها ودنياها.
ومن هنا، فإنّ جديدنا في هذا المبحث هو
التأسيس على ما رآه العلماء من منهجية قرآنية
في الترغيب والترهيب، لكن لا بهدف أن يكون
الوعد والوعيد هو ميزان التحقق في الإيمان، أو
في دخول الجنان، بل بهدف وعي القرآن والتدبّر
فيه والتحوّل من خلاله باتجاه الحقّ في الدنيا
والآخرة.
وهكذا، فإنه ما لم يتوفر الإنسان من خلال
القرآن على رؤية في العقل والقلب تخرجهُ من
دائرة الترهيب والترغيب إلى دائرة الحق
والعبادة الحقيقيّة، فلن يكون هذا الإنسان قد
استوفى شروط أن يكون له الفوز العظيم، أو
الفوز المبين، أو الفوز الكبير، أو الرضوان
الذي هو أكبر إلى غير ذلك مما لا يمكن التوفر
عليه من خلال عبادة التجار أو العبيد، فأنّى
للإنسان المتّعظ بالقرآن والمستنطق له والناطق
به، إلى حدّ التجسيد لعينية القرآن، أن يكون
مستوياً مع ذلك الإنسان الذي أسرته لغة
الترهيب والترغيب أو أوقفته لغة الوعد
والوعيد، فهذه اللغة أوقعتها النبوة في
تاريخها، ولكنها لم تكن هدفاً بحدّ ذاتها،
وإنّما هي، في الوقت الذي أدّت فيه هذا الدور،
كانت تؤسس لتلك النفس التي روّضتها التقوى إلى
حدّ التجلّي بالحق، كما قال الإمام علي (عليه
السلام) «إنما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي
آمنة يوم الخوف الأكبر»
[154]
.
إنّ ما تقدّم من كلام لنا في معنى الترغيب
والترهيب لا ينفي أن الجمع بين الوعد والوعيد
أدعى إلى الطاعة وترك المعصية، كما أنه لا
ينفي أن يكون أداة للهداية والإصلاح والتغيير،
فإنّ هذا كله مما أسس له القرآن، وقامت به
النبوّة، ولكنه لم يكن هدفاً بحدّ ذاته،
وإنّما كان وسيلة لتجاوز الرهبة والرغبة إلى
مستوى الذين قالوا: «عظم الخالق في أعينهم
فصغر ما دونه في أنفسهم» ، أو الذين قالوا:
«إلهي إنْ صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن
النظر إلى كرامتك». فيا أيها الساقي ماء
الفرات، مهلاً فمن يروي الظمآن، فكيف لرهبة أو
رغبة تدعوني إليك وأنت الساقي، فعلي (عليه
السلام) هو الهدى وكل ما عداه سيّان، أرتوي من
معينك حباً، فعساك يا محبّ تلقاني...
إنّها كلمات القلب صاغتها لغة المحبين من
ثنايا الوعد والوعيد، ولعله من الأخطاء الكبرى
التي وقع فيها أهل العلم والتفسير، هي أنهم
استغرقوا في الوعد والوعيد، والترهيب
والترغيب، إلى حدّ أنهم كانوا، إمّا أهل وعد،
وإما أهل وعيد، ولكن الله تعالى أراد لهم أن
يكونوا على حسن ظنّ به ليفوزوا بما فاز به أهل
السبق ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾
[155]
، بالتأكيد أن هذا السبق لم يكن ترجمة للرهبة
والرغبة وحسب، وإنّما كان تعبيراً حقيقياً عن
حالة الكدح والتقوى والعلم، كما قال الله
تعالى: ﴿
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ
قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
[156] .
يقول المشهدي في كنز الدقائق في تفسير قوله
تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ... ﴾
[157] ، «لما
كانت العبادة
المأمور بها موقوفة على أمرين، أحدهما: إثبات
الوحدانية وإبطال الإشراك... والثاني: إثبات
النبوة التي يقع بها الترغيب والترهيب، وتعريف
طرق العبادة وتعيينها»
[158]
.
فإذا كانت العبادة متوقفة على هذين الأمرين،
وتمّ إثبات النبوة ليقع بها الترهيب والترغيب،
فإنّ ما نحن نلاحظه في سياق التعرف إلى ما
أدته النبوة من دور في الهداية والرعاية
للتعريف بطرق العبادة، هو أن النبوة خاطبت عقل
الإنسان لإثارة دفائنه، وذلك لاستحالة أن يقع
شيء من التأثير في حياة الإنسان، أو على قلبه
سواء أكان وعداً أم وعيداً، إنذاراً أم
تبشيراً، ترغيباً أم ترهيباً، فيما لو كان
العقل يأباه، يقول الشيخ الصدوق: «وذلك أنّ
الله تقدّس ذكره لا يدعو إلى سبب إلاّ بعد أن
يصوّر في العقول حقائقه، وإذا لم يصوّر ذلك لم
تتسق الدعوة ولم تثبت الحجة، وذلك أن الأشياء
تألف أشكالها وتنبو عن أضدادها، فلو كان في
العقل إنكار الرسل لما بعث الله عزّ وجلّ نبياً
قطّ»
[159] .
إذاً، إثارة دفائن العقول هو شرط تحقق
الهداية، وهي إنما أثيرت فيما اختاره الله
سبحانه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من
أساليب لمخاطبة النفس البشرية، فكان الترغيب
والترهيب، والإنذار والتبشير، والوعد والوعيد
من الأساليب التي اعتمدها القرآن في خطابه،
والمتأمل في القرآن الكريم يلحظ أن أسلوب
الترغيب والترهيب، أو الوعد والوعيد لم يأتِ
بصفة واحدة، أو بأسلوب واحد، بل اختلف الأسلوب
رغم احتفاظ السياق القرآني بحقيقة الاقتران
بين الوعد والوعيد، وكما يرى ابن كثير في
تفسيره أنه كثيراً ما يقرن القرآن بينهما
[160] ، كما قال تعالى: ﴿
إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
[161]
، إلى غيرها من الآيات التي عرضنا لكثير منها
في البحوث التي تقدمت، وكان آخرها بحث دواعي
العبادة، حيث رأينا أن العبادة ليست هادفة إلى
مجرّد أن يكون الإنسان على عبادة خوف أو رجاء،
وإنّما الغاية من الترغيب والترهيب أن يتم
تجاوز ذلك إلى حق العبودية لله جلَّ وعلا، ولو
لم يكن الأمر كذلك لما تمّت مخاطبة العقل
وإثارته على النحو الذي يؤدي به إلى أن يكون
عقلاًمستدلاً وسالكاً لطريق العلم والإحاطة
والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وهذا هو
جوهر ما تعنيه إثارة العقول وملاحظة الأسباب
والمسببات.
والاستدلال بالعقول، بحيث يكون كل ما خلقه
الله عزّ شأنه ودعا إليه عرضة للتأمّل
والتدبّر، ومجالاً للتوسم والتفرّس، يقول
الطبري(قده): «إنّ في الذي فعلنا بقوم لوط من
إهلاكهم، وأحللنا بهم من العذاب لعلامات
ودلالات للمتفرسين (المتوسمين) المعتبرين
بعلامات الله تعالى، وعبره على عواقب أمور أهل
معاصيه والكفر به»
[162] .
إنّ الله عزّ وجلّ كما وهب العقل وأرسل
الأنبياء لإثارته، إنّما أراد للإنسان أن يكون
متحولاً في ذات نفسه وفي عبادته من كونه
مجالاً لخطاب وأسلوب الوعد والوعيد ليكون
متوسماً، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾
[163]
. وهذا إن دلَّ على شيء، فإنه يدل على مدى
اهتمام القرآن بالإنسان لجهة إرشاده إلى ما
يكون له به التحوّل الإيماني والعلمي في سياق
عملية كدح متواصلة تخرجه عن كونه تاجراً، أو
طامعاً أو خائفاً، ليكون عبداً شكوراً يعرف
الله سبحانه بعقله، لا بطمعه وخوفه!! وهذا ما
تفيده دلالة تعريف العقل بأنه الذي يُعرف به
الرحمن ويدخل به الجنان.
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن أدنى تأمّل فيما عرض
له أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه عن
شعب الإيمان، يكشف عن أن ما يكون به الصبر
واليقين والعدل والجهاد، وما يكون لهذه الشعب
من تعريفات، كل ذلك إنّما يكشف عن أن العقل هو
سبيل التحقق بها على النحو الذي يؤدّي إلى
التميز بها في طريق الكدح إلى الله جلّ وعلا،
وما لم تتم إثارة للعقل وهدايته إلى سبل
السلام، فلن يكون لأسلوب القرآن أي تأثير على
تحولات الإنسان الإيمانية والعبادية، فضلاً عن
الاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية،
وهذا ما ينبغي التدبّر فيه، طالما أن الإمام
علي (عليه السلام) قد أوضح وفسّر معنى أن تثار
العقول في طريق الهداية والعبادة بما يؤدي
بالإنسان إلى تجاوز سبل الخوف والطمع، ليكون
صاحب عقل ونظر، يقول الإمام علي (عليه السلام)
: «فبعث فيهم -أي في الناس- رُسُله، وواتر
إليهم أنبياءه ليستأدُوهم ميثاق فطرته،
ويُذكروهم منسي نعمته، ويحتجّوا عليهم
بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم
آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم
موضوع، ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم....»
[164] .
فالإمام (عليه السلام) يشير بوضوح في كلامه
إلى أن الأنبياء خاطبوا العقل وأثاروه وذكروه،
واحتجوا بالتبليغ بعد أن استوى العقل على جودي
مقدماته ودلائله وأحكامه، وإلا لم تتسق دعوة
ولم تثبت حجة، كما بيّن الصدوق، ثم جاء
الاحتجاج بالتبليغ الذي صرّف الآيات في
التكوين والتشريع، وفي الأنفس والآفاق ليعتبر
الإنسان، ويهتدي إلى سبل السلم في الدين
والدنيا، ولعله من ألطف ما يمكن الاتيان به في
هذا السياق هو ما ذكره الطريحي في فهم قوله
تعالى: ﴿
نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ﴾
[165] ، فقال: «أي نكررها
تارة من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة
الترغيب والترهيب، وتارة من جهة التنبيه
والتذكير بأحوال المتقدمين»
[166] .
إن إشارة الطريحي إلى المقدمات العقلية، هي
التي نؤكد عليها في إطار الحديث عن العقل،
وإلا لاستحال التبليغ وكل ما تضمنه من ترغيب
وترهيب ووعد ووعيد، وهذه المقدمات هي التي
يرشد إليها الإمام (عليه السلام) في نصه
بقوله: «ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم
مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم
وآجال تفنيهم...»، وهذا الكلام يتنافى تماماً
مع ما زعمه بعض الباحثين قديماً وحديثاً،
وخاصة الأشاعرة وأهل الحديث، وكل من لم يرَ
للعقل أي دور في التحسين والتقبيح، أو غير ذلك
مما يحكم به العقل، وقد ردَّ الإمامية على مَن
زعم ذلك بالقول: إنّ السمعيات ألطاف في
العقليات، وأنَّ ما حكم به الشرع حكم به
العقل، إلى غير ذلك مما يطلب من مظانه في علم
الأصول
[167] .
فالأنبياء والرسل (عليهم السلام)، لم يأتوا
بالعقول، وإنما جاؤوا بالتبليغ لإثارة العقول،
وهذا ما ينبغي للباحثين أن يتوقفوا عنده
مليّاً حين الحديث عن الوعد والوعيد، فإذا صحّ
القول بأن مرتكز كل تحوّل هو الوعد والوعيد
والإنذار والتبشير دونما تدبّر بآيات العقل
والنظر في القرآن، فليس ثمّة مجال أبداً لأن
تستوي حالات العبادة عند الإنسان، لأن الهدف
من التبليغ هو إثارة العقل وهدايته إلى سبل
العبادة الحقة، بحيث يتحول الإنسان عن كونه
إنساناً حسياً غرائزياً، ليكون إنساناً عاقلاً
ومهتدياً بالعقل إلى ثواب ربه وعقابه، لا على
نحو الاستغراق في الوعد والوعيد، وإنّما على
نحو النظرة والاستدلال وتعقّل حقائق الإيمان
التي تؤهّل الإنسان لأن يكون عابداً لا على
سبيل نجاة، وإنما ليكون إنساناً ربّانياً يدعو
الله رهباً ورغباً لا طمعاً في جنّته ولا
خوفاً من ناره.
لذا، فإنّ كلامنا حول ما ذكره السيد الخوئي
(قده) عن عدم صحة القول ببطلان العبادة فيما
لو كانت قائمة على الخوف والطمع، هو مبنيٌّ
على أن الله تعالى لم يستثنِ العقل في تصريف
آياته، هذا فضلاً عن كون إعمال العقل من شأنه
أن يوفّر للإنسان أرضية التعقّل والنظر التي
تعطي الإيمان بُعده النظري والعملي، بحيث
يتمكّن الإنسان من خلال ذلك من أداء الشكر على
نعمة الله سبحانه، والخلوص في عبادته والتوجه
إليه، لأنه المحسن والمنعم والمفضل، وهذا ما
يقتضيه حكم العقل، وقد جاء به السمع لتقرير
حكم العقل في ذلك، كما قال الله تعالى: ﴿
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ
عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾
[168] . قال الطباطبائي
(قده) : «قال في المجمع التأذن الإعلام يُقال
آذان وتأذن ومثله أوعد وتوعّد.. فإن هذا
التأذن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب والترهيب
الباعثين إلى نيل خير الدنيا والآخرة.. ومن
لطيف كرمه تعالى اللائح من الآية كما ذكره
بعضهم اشتمالها على التصريح بالوعد والتعريض
بالوعيد، حيث قال لأزيدنّكم، وقال الله عزّ
وجلّ: ﴿
إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾
، ولم يقل لأعذبنّكم، وذلك من دأب الكرام في
وعدهم ووعيدهم غالباً، والآية مطلقة- كما يرى
العلامة- لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد
والوعيد بالدنيا ولا بالآخرة، وتأثير الإيمان
والكفر والتقوى والفسق في شؤون الحياة الدنيا
والآخرة معاً معلوم من القرآن»
[169] .
وإذا كنا قد ناقشنا السيد الخوئي (قده) فيما
يراه من حصرية العبادة لله تعالى بما هو أهل
لأن يُعبد بالمعصومين فقط، فإنّ منطلقنا في
ذلك عدم تسليمنا بدلالة الآية بحسب الظاهر على
المعصومين وحدهم، لأنّ من شأن هذه الحصرية في
العبادة للمعصومين القول، بأن غاية ما يؤّدي
إليه إيمان الإنسان وعمله، فضلاً عن عقله أن
يكون عابداً لله طمعاً، أو خوفاً، في حين أن
قوله تعالى: ﴿
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾
[170] ، لا يستفاد من ظاهره
حصرية العبادة بالمخلَصين بما هم معصومون مع
تسليمنا بأنهم المصداق الأبرز لها، بل غاية ما
يفيده أن هناك من البشر مَن لا سبيل لإبليس
عليه، وهذا ما ذهب إليه الكاشاني بقوله: «إنهم
الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى»
[171] ، وقال الطبرسي (قده): «الذين
أخلصهم الله بأن وفّقهم لذلك»
[172] ، وإلى مثله ذهب الطوسي (قده)،
فقال: «الذين أخلصوا عبادتهم لله وامتنعوا عن
إجابة الشيطان في ارتكاب المعاصي»
[173] .
وقد جاء في كتاب معاني الأخبار أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) سأل جبرائيل ما تفسير
الإخلاص؟ قال: «المخلص الذي لا يسأل الناس
شيئاً حتى يجد، وإذا وجد رضي، وإذا بقي عنده
شيئاً أعطاه، فإنّ مَن لم يسأل المخلوق أقرّ
لله عزّ وجلّ بالعبودية، وإذا وجد فرضي، فهو
عن الله راضٍ، والله تبارك وتعالى عنه راضٍ،
وإذا أعطى الله عز وجلّ فهو على حدّ الثقة
بربه عزّ وجلّ...»
[174] .
وهكذا، فإنّ ما ذهب إليه السيد الخوئي (قده)
في حصرية العبادة لله بما هو أهل لأن يعبد
بالمعصوم، بما هو مخلص، ومن قول بأن ذلك على
حدّ التكليف بما لا يُطاق، فهذا مما لا دليل
عليه، برأينا، لأنّ صفات المخلص يمكن أن تنطبق
على غير المعصوم (عليه السلام) ، فيكون عابداً
لله تعالى بما هو أهل للعبادة، فلا دليل على
هذا القيد، إلا من حيث ما يراه السيد لجهة
استحالة أن يكون سائر العباد أو بعضهم مخلصين،
على الرغم من أن المدح القرآني قد طال
الكثيرين ممن وصفهم بالسابقين السابقين وغيرهم
ممن يتداركه لطف الله تعالى.
وفي ضوء ما تقدّم، نرى أن كلام السيد الخوئي
(قده) قابل للنقاش، إلاّ أن مرادنا بما عرضنا
له يبقى أن نعرض لما نراه حقاً من حيث أن
الوعد والوعيد والتنبيه والتذكير، وغير ذلك
مما جاءت به النبوة وبلغته ليس مستقراً عند
الطمع والخوف، وإنما يمكن تجاوزه إلى مستوى
العبودية الحقة من خلال العقل والشرع معاً،
بحيث تتكامل الرؤية ويتفاعل الترغيب والترهيب
على مستوى النفس الإنسانية ليكون له تجلّياته
في المزيد من التحول والكدح نحو العبادة لله
تعالى بما هو أهل للعبادة
[175]
.
لقد سبق الكلام في معنى أنواع الوعد والوعيد،
وتبيّن لنا في خلاصة الأمر أن الوعد أو
الوعيد، هو وعد ووعيد في الدنيا والآخرة معاً،
وجاء البحث في دواعي العبادة وأحكام العقل
ليتمّ لنا المعنى الذي نروم التوقف عنده
مليّاً، ألا وهو أن الغاية مما أخبر الله
تعالى عنه في وعده ووعيده أنه يريد لعباده
الكمال والفوز والرضوان، وقد جعل الله سبحانه
الدنيا مزرعة للآخرة، وقنطرة لها كما جاء في
كثير من الأحاديث والروايات، التي أكّد فيها
المعصومون (عليهم السلام) على أن الدنيا متجر
أولياء الله عزّ وجلّ، كما جاء عن أمير
المؤمنين (عليه السلام) في كتاب الإرشاد للشيخ
المفيد (رض)
[176] ، هذا
فضلاً عمّا أفادته تجارب الأنبياء والرسل
والأولياء (عليهم السلام) فيما عرض لهم من
اختبارات وابتلاءات تراوحت بين الفوز المبين
والبلاء المبين، كما قال الله تعالى: ﴿
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾
[177] ،
وقوله تعالى: ﴿
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾
[178] ،
إلى غير ذلك من الآيات المباركة التي تكشف عما
هُيئ وأُعِد للإنسان في دار الدنيا، وما كلّف
به من مهام رسالية تؤهله لأن يكون تعبيراً
وتجسيداً لوعد الله سبحانه، بحيث يكون له
النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أن الغاية من الوعد
والوعيد ليست مجرّد وعد أو وعيد يكون للإنسان
بعد موته، وإنما هو وعد مرتبط مباشرة بإيمان
الإنسان وعمله في الدنيا، على اعتبار أن
الإنسان لم يخلق عبثاً، ولم يترك سدى، كما قال
الله تعالى: ﴿
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا
تُرْجَعُونَ ﴾
[179]
.
كما أن حقيقة الدور الذي أنيط بالإنسان في هذه
الدنيا، وهو الخلافة في الأرض، تفرض على
الإنسان أن يكون مستوعباً لحقيقة وجوده،
ومدركاً لدوره ووظيفته، بأن يقوم بالخلافة،
كما قال الله تعالى: ﴿
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
[180]
، ولعل السؤال الذي كان ولا يزال وسيبقى يراود
الإنسان في حياته، هو السؤال الذي طرحه الشهيد
الصدر، بقوله: «ما هو الهدف المرسوم لخلافة
الإنسان على الأرض، وفي أي اتجاه يجب أن تسير
هذه الخلافة في ممارستها الدائبة؟ ومتى تحقق
هدفها وتستنفذ غرضها؟»
[181]
.
فالشهيد رضوان الله عليه أجاب عن السؤال
بالقول: «إنّ الله سبحانه وتعالى شرّف الإنسان
بالخلافة على الأرض، فكان الإنسان متميزاً عن
كل عناصر الكون بأنه خليفة على الأرض، وبهذه
الخلافة استحق أن تسجد له الملائكة وتدين له
بالطاعة كل قوى الكون المنظور وغير المنظور»
[182] ، وقد حمل الإنسان
الأمانة باختياره، لقوله تعالى: ﴿
وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ... ﴾
[183] ،
فهي لم تفرض عليه، وإنّما اختار بإرادته
وحريته أن يكون على مستوى حمل هذه الأمانة
العظيمة الذي ينوء الكون كله بحملها، كما قال
الله تعالى: ﴿
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ
كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
[184] .
ومن هنا، كما يقول الصدر، كانت الخلافة في
القرآن أساساً للحكم وكان الحكم بين الناس
متفرعاً على جعل الخلافة، كما قال الله تعالى:
﴿ يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ ... ﴾
[185] .
إذاً، الغاية في الوعد والوعيد، كما سنرى، لا
يمكن التعرف إلى أسرارها من خارج ما أعدّ
للإنسان، وما كلّف به، وما جعل عليه، وقد بيّن
القرآن هذا المعنى في الكثير من الآيات التي
يتحدث فيها عمّا أعقب نزول النبي آدم (عليه
السلام) من نزول جنته الأرضية، ليكون في عالم
أراد الله عزّ وجلّ للإنسان فيه أن يكون
ممتحناً ومكلفاً، وهذا ما ترشد إليه الآيات
المباركة، كما في قوله تعالى: ﴿
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ
هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ ﴾
[186] .
إن الهدى الذي أراده الله جلّ وعلا للإنسان،
والذي لا خوف فيه ولا أحزان، ولا ضلال ولا
شقاء، هو الهدى الذي يستبطن الوعد والوعيد،
والأحكام وسائر التكاليف، بل هو الهدى الذي
خصّ به الإنسان دون غيره بعد أن أعطاه الخلق
والوجود، كما قال الله تعالى: ﴿
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
[187] ، وهو الهدى الذي قال الله تعالى
فيه: ﴿ قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾
[188] ، إذ جاء بالحصر
ليفيد أنه إذا كان هناك من هدى فهو هدى الله
سبحانه، وليس لأحد أن يهدي إلاّ الله تعالى،
وكما يقول الطباطبائي (قده) : «جعل الهدى
كناية عن القرآن النازل، ثم أضيف إلى الله
تعالى فأفاد صحة الحصر»
[189]
.
إنّ الغاية من الوعد والوعيد وكل ما انطوى
عليه الهدى الإلهي من أحكام، هادف إلى تصحيح
المسار الإنساني من خلال هذا الوعد الذي من
شأن الالتزام به الفوز في الدنيا والآخرة
معاً، لأنه وعد هادف إلى بناء الحياة
الإنسانية من خلال هدى الله عزّ وجلّ الذي
حمله الأنبياء وتابعه الأوصياء لأجل أن يتكامل
الإنسان في حياته، فلا يكون مجرّد إنسان
يتعايش بالضرورات، ولا يهتدي إلى سبل الكمال،
وقد سلف القول منا في معنى ما قامت به النبوة
من دور لإثارة دفائن العقول، وإخراج الناس من
الظلمات إلى النور، وكان الوعد والوعيد من
الأساليب التي اعتمدها القرآن، ترغيباً
وترهيباً، لهداية الإنسان إلى ما ينبغي أن
يكون عليه من عقيدة وتحقيق العدالة، والحكم
بما أنزل الله جلَّ وعلا، إلى غير ذلك مما
انطوى عليه الدين من أحكام وتكاليف، وبشارة
وإنذار، ووعد ووعيد، وهنا تكمن الغاية
الحقيقية لهذا الوعد الإلهي الذي لم يقتصر
الأمر به على مجرّد الوعظ والإرشاد والترهيب
والترغيب، وإنما تجاوزه إلى تحقق الوعد في
تحولات الإنسانية، فكان للإنسان المؤمن ما وعد
به من فوز في الدنيا، وكان للإنسان الكافر
أيضاً ما وعد به من خسران في الدنيا...
لذا، فإنّ معنى أن تتحقق الغاية من وعد الله
عزّ شأنه ووعيده في الدنيا، أن يتلمّس الإنسان
هذه الحقيقة، بحيث لا يعتقد أن الأمر والنهي،
أو الوعد والوعيد، هو مجرّد وعظ وإرشاد، وأنّه
لا قيمة له في تحولات الإنسان وحركته في
ميادين الحياة. وهنا يمكن لنا أن نضيف إلى ما
تقدّم، حقيقة ما تعنيه الغاية لجهة ما أريد
للإنسان أن يتبصّر به في حياته، فنقول: إنّ
الغاية في الأساس هي إعداد الإنسان الخليفة
وحامل الأمانة ليكون على مستوى ما أعدّ له من
الله تعالى المستخلِف له، أي التبصرة في الدور
بالوظيفة التي أُنيطت بالإنسان على الأرض في
ضوء الهداية الإلهية له، ذلك أن أي تجاوز
لهذا، من شأنه إثارة الالتباس فيما يعنيه
إعطاء الخلق والهداية للإنسان، وقد أشرنا
سابقاً إلى أن الهدف والغاية القصوى هي بناء
الحياة الإنسانية وفاق أمر الله ونهيه، لأن
هذا الإنسان فيما لو خلي ونفسه، فإنه لن
يستطيع القيام بالمهام التي تؤدّي به إلى
الكمال، وكما يقول اليزدي في معارف القرآن:
«إن التشريع والهداية التشريعية بعد الهداية
التكوينية جعلها الله جزءاً من تقدير خلق
الإنسان»
[190] ، فإذا كان
هذا التشريع قد أتى بكثير من آيات الوعد
والوعيد، وصرّف الآيات، عقلاً وشرعاً، فذلك
إنّما كان بهدف أن لا يتيه الإنسان عن الغاية
من وجوده، وذلك لا يتم للإنسان إلا إذا اعتبر
بهذا التصريف بالآيات ليهتدي إلى غايته، بحيث
يكون له من ذلك منظومة حياته وثوابته التي
ينطلق منها لتحقيق ما يرجوه من أمن واستقرار
وعدالة في اجتماعه الإنساني.
فالشريعة الإسلامية لم تأتِ لتعد الإنسان
بالنعيم أو الجحيم كيفما اتفق، وإنّما هي أتت
لصناعة الإنسان الخليفة، وإعداده بالشكل الذي
يتلاءم مع حقيقة خلقه التي قلنا أنها لم تكن
عبثاً، وإنّما هي لغاية تحقيق الحياة
الإنسانية والوصول بالإنسان إلى الكمال
الإنساني، وهذا لا يتأتّى للإنسان إلاّ عن
طريق الكدح، والكدح لا يكون إلاّ من خلال
قوانين وأنظمة وتشريعات، وهذا كله لا يكون
إلاّ من خلال منظومة متكاملة تأخذ بعين
الاعتبار حقيقة هذا الإنسان، وما جبل عليه من
مادة وروح وخصائص وصفات، وغير ذلك مما لا
يعلمه إلاّ خالق الإنسان، وهذا ما يقتضي أن
تكون المنظومة التي تهيّئ للإنسان ظروف التحقق
في الكمال، منظومةً متمايزة فيما تأتي به
وترشد إليه، وقد جاءت منظومة الإسلام لتسدّ
فراغ الحياة المادية والروحية، وتؤهّل الإنسان
لبناء ركائز الحياة الإنسانية المتوافقة
تماماً مع ثوابت الدين الإسلامي، وغير خفي على
متدبّر بصير أن الشرائع تواترت للإنسان مع
الأنبياء والرسل (عليهم السلام) لأجل تحقيقه
بما يلزم لبناء الحياة، إلى أن انتهى المطاف
بالشريعة الإسلامية، وكمال الدين، وقد نصّت
هذه الشريعة على أنها تستبطن الحياة كل
الحياة، فيما لو أراد الإنسان حياةً وكمالاً،
حيث قال الله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
[191] . فالهدف كان ولا يزال وسيبقى هو
الحياة، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وقد
تجلّت هذه الحياة في كل زمان بإخراج الإنسان
من الظلمات إلى النور على أيدي الأنبياء
(عليهم السلام) كلٌ في زمانه.
ربما يزعم بعضهم أن الإسلام فيما أتى عليه من
وعد ووعيد، إنما يدعو إلى أن يكون هذا الترغيب
والترهيب هادفاً إلى اعتبار مجرد الثواب
والعقاب وأن لا شيء وراء ذلك، إلاّ أنّ هذا
الزعم يسقط بمجرّد أن يتدبّر الإنسان
بالمنهجية القرآنية الداعية إلى بناء الحياة
الإنسانية على أساس رؤية متكاملة للحياة
المادية والروحية في مقابل مزاعم كثيرة من
قبيل الجاهلين والمنافقين... الذين يدعون في
كل زمان أنهم دعاة خير وصلاح وإصلاح
[192] ، رغم أن هؤلاء لم
يتوانوا يوماً عن جعل الوعد والوعيد أساساً
لمنظوماتهم الدينية والفكرية، فكانوا يعتبرون
الثواب والعقاب غاية لمناهج حياتهم الواهية،
في حين أن الإسلام يتميّز في أنه اعتبر الثواب
والعقاب جزءاً وركيزة من ركائز منهجه لا غاية
له.
فالغاية، هي إعداد الإنسان لأن يكون أهلاً
للخلافة، واتباع الهدى الإلهي بما هو هدى ضامن
لكل التحولات الإيجابية في حياة الإنسان، سواء
المادية أم المعنوية، ولم يثبت في تاريخ
الأديان أن الأنبياء (عليهم السلام) جاؤوا
ليحولوا بين الإنسان وبين ما يكون له منافع
ومصالح، إلاّ فيما يتعدّى الحدود ويضرّ بحياة
الإنسان ومصالحه، وخاصة الروحية والمعنوية،
وهذه هي ثقافة الحلال والحرام في منظومة
الإسلام، وقبلها، ثقافة الوعد والوعيد التي لم
يعرف عن نبيّ أنه استغرق فيها ليجعل منها
غايةً أو هدفاً. فالنبوّة كانت دائماً تؤسس
لبناء الحياة الإنسانية في ضوء الهداية
الإلهية لإخراج الإنسان من ظلامة الحياة في
الاجتماع والاقتصاد، والسياسة والثقافة، حتى
إنها لم تتجاوز فيما دعت إليه من هدى، ما
يحتاج إليه الإنسان في حياته الخاصة، فضلاً عن
العامة، وهذا ما لا يتنكّر له إلاّ جاحد أو
كذّاب، أو جاهل بشرائع السماء...!
إنّ غاية الوعد والوعيد في الإسلام، بل إن
حقيقة الوعد والوعيد في حياة الإنسان المسلم،
هي أن يتعرّف الإنسان إلى حقيقة ما ينتظره من
ثواب وعقاب فيما لو أحسن أو أساء، وهذا ما
نلحظه تماماً في دلالة سياق الآيات المباركة
حينما يأتي بالوعيد عقب الوعد، أو العكس. حيث
نرى أن سياق الآيات هادف إلى إعلام الإنسان
بأن له وعد الخير بكل ما يعنيه هذا الخير من
استخلاف وتمكين ونصر فيما لو التزم بكل ما
تتضمنه المنظومة الإسلامية بما هي نظرية
متكاملة الأبعاد، بمعنى أن الالتزام لا بدّ أن
يكون كاملاً وتاماً بكل ما تتضمنه النظرية
الإسلامية، لا أن يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فإنّ
ذلك لا يؤدّي بالإنسان إلى أن يكون مؤمناً
وعاملاً للصالحات لكي تكون له نتائج النصر
والفوز والتمكين، وكثيرون هم الذين يلتزمون
بهذه الجزئية في حياتهم، حتى في الأنظمة
والقوانين الوضعية، ولا يكون لهم من وراء ذلك
سوى النقض والخسران. فالإسلام كلٌّ واحد لا
يتجزّأ، وهذا ما يعنيه الإيمان والعمل الصالح
الذي وعد الله سبحانه بأن تكون له نتائجه شرط
أن يستوفي كامل الشروط والأركان كما قال الله
تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... ﴾
[193]
فهو وعد إلهي قائم على الشروط والأهداف
والغايات، فإذا صحّ الالتزام فلا بدّ أن تكون
له آثاره، ووعد الله حق، وهو لا يخلف الميعاد
لا في الدنيا ولا في الآخرة.
كما أن المتأمل بحقيقة الوعد والوعيد في
القرآن لا بدّ أن يلحظ حقيقة الغاية منهما
لجهة استقرار حياة الإنسان بما يؤدي إليه
الوعد والوعيد من توازن يدفع بالإنسان في ضوء
أدلة العقل والشرع معاً، إلى طلب الحق وتحقيق
العدالة، لأن من شأن التوازن النفسي، وكل ما
يؤدّي إليه المنهج التربوي، أن يبعث على طلب
التوازن الاجتماعي، على قاعدة قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾
[194] . وقد بينّا في
بحوثنا السابقة أن الغاية من الوعد والوعيد
وسائر ما ذكر به القرآن رتّبه عليه، ليست ركون
الإنسان إلى توازنه، ولا الاستغراق في ذلك، بل
لا بدّ من تجاوز ذلك من خلال العقل والشرع
[195] ، إلى تجوهر الإنسان
وتجلّيه على النحو الذي يؤدي به إلى مواصلة
الكدح إلى ربّه، وهذا لا يمنع أن يكون الإنسان
بين طمع وخوف، ورهبة ورغبة، ولكنه ليس المطلوب
في حقيقة الرسالة، وفي الغاية منها أن يكون
الإنسان أسير ذلك، بل تحقيق الكمال والملاقاة،
وهذا لا يكون إلاّ بتجاوز الطمع والخوف وعبادة
التجار والعبيد إلى عبادة الأحرار وعبادة
المخلصين الذين لا سبيل للشيطان عليهم، وقد
رأى السيد الخوئي (قده) أن مصداق هؤلاء هو المعصوم
(عليه السلام) ، ونحن نرى أنه المصداق الأبرز
لهم.
غاية القول: إنّ ما وعد الله تعالى به وأوعد
عليه جاء في سياق رؤية متكاملة لخلافة الإنسان
في الأرض، وحمله للأمانة، فلا يُقال بأن
الإسلام دين وعد ووعيد، وقد بيّن القرآن أن
هذا الوعد هادف إلى بناء الحياة الإنسانية في
الدنيا لكونه شرطاً في تحقيقها، تماماً كما هو
الوعيد. وإذا كان القرآن قد اشتمل في معظمه
على التذكير والتنبيه، والترغيب والترهيب،
والبشارة والإنذار، فهو كذلك اشتمل على أساليب
أخرى في العلم والتقوى، بل على أسماء الله
وصفاته وقبل ذلك على توحيده، إضافة إلى
اشتماله على أحكام الحلال والحرام وغير ذلك
مما يتناول كافة شؤون الحياة، والحق يُقال: إن
النظر إلى الوعد والوعيد والغاية منهما في ضوء
رؤية قاصرة عن استكشاف ما ترمي إليه الرسالة
من أهداف وغايات، سواء في الدنيا أم في
الآخرة، من شأنه إحداث خلل منهجي قد يؤدّي
بصاحبه إلى مزيد من التعثّر فيما ترمي إليه
هذه الرسالة، ويكفي للتحقق من هذا المعنى أن
نلحظ حقيقة كل من الوعد والوعيد في ضوء دلالة
السياق، حيث نرى أن الوعد لم يكن وعداً من
خارج الحدث الإنساني أو الاجتماعي، أو
السياسي، أو العسكري، وإنما كان من صميمه لأجل
أن تكون لهذا الوعد تفاعلاته، كما في قوله
تعالى: ﴿
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ... ﴾
[196] ،
فهو في دلالته في ضوء أسباب النزول يؤكد على
تحقق الوعد في مجال نشاط إنساني ميداني،
وعسكري أيضاً، وكما يقول القرطبي نقلاً عن
النَّحَّاس: «فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا،
كذا هو يُنجز ما وعدكم به في الآخرة»
[197] .
وهكذا الحال في سائر الآيات التي جاء فيها
الوعد ليؤكّد على غاية منه، قد تكون تربوية،
وقد تكون لتغيير واقع وتبديل رؤية في ميادين
الحياة، وهذا ما حصل في واقعة بدر التي كانت
الفيصل بين الإيمان والكفر، فكان الوعد
صادقاً، والحدث صاعقاً، وعليه بُنيت رؤية
جديدة بحيث اندفع الجميع إلى التأمّل والتفكّر
في مآلات الأمور، فلم يكن الوعد أخروياً، بل
دنيوياً، هادفاً. ومن هنا نستكشف، كما يقول
العلَّامة الطباطبائي (قده)، حقائق الوعد
والوعيد في كل ما أخبر الله تعالى، سواء في
الماضي أم في المستقبل. وهنا تجدر الإشارة إلى
عبقرية العلامة الطباطبائي (قده) فيما أتي به
من ربط بين وساطة إبراهيم (عليه السلام) عن
الله تعالى في قوله: ﴿
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالاً ﴾
[198]
، ووساطة الإمام علي (عليه السلام) في إبلاغ
آيات البراءة: «﴿
وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ ﴾
[199]
هذا في الأذان والإعلام التشريعي الذي يستقر
به حكم الحاكم على المحكومين به، وأما الأذان
غير التشريعي كما في أذان يوم القيامة، ﴿
أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾
ففيه استقرار البعد التام
واللعن المطلق الدائم على الظالمين بعد
إشهادهم حَقِّيَّة الوعد الإلهي الذي بلغهم
منه تعالى من طريق أنبيائه ورسله، وفيه تثبيت
ما في ظهور حقائق الوعد والوعيد للظالمين من
النتيجة العائدة إليهم، فافهم ذلك، ولا يهونن
عليك أمر الحقائق ولا تساهل في البحث عنها إن
كنت ذا قدم فيه...»
[200] .
إذا كانت الغاية من الوعد والوعيد في القرآن
أن يتحول الإنسان في الحياة في سياق رؤية
تكاملية حملها الأنبياء (عليهم السلام) ودعوا
إلى تطبيقها لإخراج الإنسان من الظلمات إلى
النور، وهي التي يحدثنا التاريخ عنها بإثارة
دفائن العقول والاحتجاج بالتبليغ، كما تقدم
الكلام في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ،
فإنّ هذه الرؤية المتداولة ليست قائمة على
الوعد والوعيد وحسب، وإنما هي بالإضافة إلى
ذلك تتضمن كل ما يحتاج إليه الإنسان في طريق
كدحه وتكامله، والوعد والوعيد ليس جزءاً في
هذه المنظومة، بل هو يسري فيها جميعاً إذ لا
تكاد تجد حكماً أو إرشاداً، أو دعوة، أو
تعليماً إلاّ يبدأ أو ينتهي بالوعد والوعيد،
وهذه هي الفكرة الأساسية والجوهرية التي نحاول
البرهنة عليها في بحوثنا عن الوعد والوعيد،
وقد سبق لنا أن أشرنا إلى ما أسماه الفقهاء
بالأقسام القرآنية، فهم إن كانوا يتحدثون عن
أقسام وجزئيات، فلا شكّ بأنهم لن يصلوا إلى
هذه الرؤية المتكاملة التي سمّاها القرآن
بالهدى، بل كل الهدى. وأما إن كانوا يريدون
القول بأن أقسام القرآن تتداخل فيما بينها
وتشكّل كلاًّ واحداً، فذلك مما يمكن الكلام
فيه والحديث عنه، وهذا ما قلناه سابقاً ونقوله
لاحقاً بأن المنهج الموضوعي التوحيدي والرؤية
الموضوعية هي الكفيلة ببيانه، والكاشفة عن
أسراره، لكون ضمّ الآيات إلى بعضها، والاهتداء
إلى أسلوب القرآن ومنهجيته في ما يريد بيانه،
هو الذين يمكن الباحث من الخلوص إلى نتائج
فيما يروم بحثه،...
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن الغاية من الهدى
الإلهي، ومن دعوة الأنبياء (عليهم السلام) لم
تكن بهدف تخويف الإنسان وتهديده بالجنة
والنار، أو التأسيس لنظام عقوبي صارم يأخذ
الإنسان بألوان العذاب والتهديد، أو بالترغيب
والترهيب ليكون في طريق الدعوة إلى الله
تعالى، بل هي تهدف أساساً وجوهراً إلى التأسيس
لمنهج ورؤية تربوية يكون الثواب والعقاب ركيزة
وليس غاية بحدّ ذاتها. وإذا كان الوعد الإلهي
أو وعيده قد تحقق في كثير من الأحداث في تاريخ
الإنسانية، فذلك إنما كان لمساعدة الإنسان على
التدبّر، وعلى أن ما وُعد به سواء في الدنيا
أم في الآخرة، هو كائن لا محالة، ولو أنّ
الإنسان لم يرَ تحققاً لهذا الوعد فيما يحبه
ويرتضيه، أو فيما يكرهه لما اهتدى إلى كثير من
العبر، ولما استوت فكرته على حدود التأمّل
والتفكّر، ويكفي أن نشير في سياق هذا التأسيس
إلى أن منهجية القرآن تفصل بين الغاية من هذا
الوعد والوعيد، وبين ما يستحقه الإنسان من
ثواب وعقاب، لأن دين الله لا يتقوّم بالإكراه،
كما قال الله تعالى: ﴿
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾
[201] ، كما أنه لا يدعو إلى الإكراه في
أي شأن عبادي، بل هو يدعو إلى التفكر
والاعتبار وإلى تحكيم العقل والحوار والتعارف
بين البشر
[202] ، لكي
تتحقّق الغاية من هذا الوجود الإنساني، الذي
أُريد له أن يكون سيّد الكائنات، ومركزاً
للكون بما ميّزه الله عزَّ وجلّ به من خلق
وهداية في التكوين والتشريع
[203] .
إنّ الله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض
وحمّله الأمانة لا لأجل أن يكون معذباً، وإنما
بهدف بناء الحياة الإنسانية، وهداية الإنسان
إلى طريق تكامله، ومن أجل هذه الغاية كان
الهدى الإلهي الذي لا يخاف الإنسان معه ولا
يحزن، ولا يضلّ ولا يشقى، في حياة وعلى أرض
أراد الله سبحانه أن تكون للإنسان مستقرّاً
ومتاعاً إلى حين، وفي ضوء هذه الرؤية يمكن
للباحث المتدبّر أن يستخلص رؤية قرآنية
متكاملة عن الوعد الإلهي وحتمية تحققه، فضلاً
عن رؤية متكاملة عن وراثة الأرض، سواء أرض
الدنيا الفانية أم أرض الجنة الخالدة، ولهذا،
نلاحظ أن الوعد الإلهي في القرآن يتحدث عن
الإيمان والعمل الصالح ويرتكز إليهما في توضيح
معنى الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، كما
قال الله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ ... ﴾
[204] . فهو وعد بالاستخلاف
والتمكن في ظل شروط الإيمان والعمل الصالح بما
هما تعبير عن حقيقة الهدي الإلهي بكل أقسامه،
وليس بما هما تعبير عن وعد ووعيد وجنة ونار،
وثواب وعقاب، وهذا ما أخطأ فيه الكثير من
الباحثين حينما تحدثوا عن منظومة الإسلام في
سياق رؤية مجتزئة، فهم تارة يتحدثون عنه بما
هو دين عبادة وتارة بما هو دين سياسة، إلى غير
ذلك مما أخذوه مستقلاً ونظروا فيه على أنه إما
دين رحمة، وإما دين عذاب، فلم تستوِ عندهم
الرؤية، فباتوا حيارى في زلزال من الأمر وفي
بلاء من الشك...!؟
لقد توقف الفقهاء ملياً عند قوله تعالى: ﴿
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ ورأوا أنه يفيد حتمية
التحقق فيما لو توفّرت شروط الاستخلاف
والتمكين، وقد جسّد عصر الإسلام الأول مع رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حقيقة هذا
الوعد، وكانت له مصاديقه الكثيرة في كثير من
التحولات الإنسانية، فليس لأحد أن يدّعي أن
هذا الوعد غير قابل للتحقق، أو أنه مجرّد
تعبير في الخيال، أو مجرّد وعد في مستقبل
الإنسان، بل كان وعداً حقيقياً توفرت شروطه مع
خير أمّة أخرجت للناس
[205]
ونعني بذلك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأصحابه المنتجبين وأهل بيته الطاهرين (عليهم
السلام)، فكان الوعد حقاً وصدقاً، وهذا الوعد
قابل للتحقق في كل زمان ومع كل أمة تتوفر فيها
حقيقة الإيمان والعمل الصالح، لأنّ الإيمان،
كما بيّن القرآن، في خطاب: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ... ﴾ ، يستغرق النشاط الإنساني
كله، باطناً وظاهراً، ولا بدّ من الأخذ
بالأسباب، والتوفر على التزام حقيقي لأجل أن
تكون للإنسان تحولاته الإيجابية وفاق ما أمر
الله به ونهى عنه، إذ في هذا الإيمان وما
تقتضيه من التزام تكمن المنهجية الإسلامية
التي يحتاج إليها الإنسان في طريق كدحه إلى
الله إيماناً وعملاً؛ وإلاّ فإنّ الوعد لن
يتحقق، لا لأنّ الله تعالى يخلف في وعده،
وإنّما لأن الإنسان لم يتوفر على شروط أن يكون
مستحقاً لهذا الوعد، هذا فضلاً عمّا يؤدي إليه
انعدام الشروط وتجاهل الأسباب والعلل إلى نقض
بالعهود وخلف بالوعود، وقد قال الله تعالى: ﴿
إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ... ﴾
[206]
إلى غير ذلك من الآيات التي تفيد أن الله عزّ
وجلّ لا يخلف في وعده، سواء أكان وعداً في
النصرة والاستخلاف والتمكن أم وعداً بالعذاب
والانتقام لمن عصى وتولّى، ومثلما أن هناك
نماذج عن صدق وعد الله بحق المؤمنين في
الدنيا، فكذلك هناك نماذج في تاريخ البشرية عن
صدق وعد الله جلّ وعلا ووعيده بحق المنافقين
والكفار، وهذا ما يسلط القرآن عليه الضوء في
تكرار الآيات والأحداث الخاصة بالصراع بين
النبوة والمترفين، وهذا ما عرضنا له في بحوثنا
عن الترف وصناعة الفساد في تاريخ الأمم، وخاصة
في تاريخ الأمة الإسلامية
[207]
.
إن انعدام الشروط، ونقض العهود، ونكث الوعود،
كل ذلك يشكّل أساساً ومنطلقاً لتحقق الوعد
والوعيد، بل إن ذلك يؤسس لانهيار منظومات
القيم التي تقوم عليها الأمم والشعوب، وخاصة
الأمم المتدينة التي تدعي في كثير من حالاتها
وأحوالها أنها تنتمي إلى الإسلام أو إلى
الرسالات السماوية بشكل عام. وبما أننا تحدثنا
بما يكفي عمّا يعنيه الوعد والوعيد في
المنظومة الإسلامية ، والغاية منهما فيما
يرشدان إليه في سياق الرؤية القرآنية، فقد بات
لازماً التحدث عن الوعد ووراثة الأرض، فنقول:
إنّ الوعد بوراثة الأرض، هو تعبير حقيقي
وجوهري عن تحقيق الوعد الإلهي ووعيده في
الدنيا قبل الآخرة، والمتأمل في سياق آيات
الوراثة يجد تمايزاً خاصاً لهذه الآيات على
نحو يُستفاد منه أن القرآن يركّز على شروط
وأسباب لا بدّ أن يأخذ بها الإنسان في بناء
حياته الإنسانية بكل وجوهها وميادينها، ويأتي
في طليعة هذه الشروط والأسباب ما توفرت عليه
النظرية الإسلامية من سنن تاريخية واجتماعية
حاكمة على مسارات التحول الإنساني، كما قال
الله تعالى: ﴿
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن
قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً ﴾
[208] .
ولا شكّ في أن اشتمال القرآن على كثير من
الآيات التي تتحدّث عن السنن هو بمثابة الدعوة
إلى التأمل والتدبّر لأجل استكشاف ملامح
التحولات البشرية وفاق هذه السنن، لأن نظام
الحياة، كما أراد الله سبحانه له، تحكمه
قوانين وأنظمة وسنناً لا يمكن الخروج عليها،
وهذا ما بيّنه الشهيد الصدر في السنن
التاريخية، وقدم فيه رؤية متكاملة عن حاكمية
هذه السنن وما تتميز فيه من حقائق، هي
الاطراد، والربّانية، واختيار الإنسان
وإرادته، وقد تحدّث عن هذه السنن بما يكفي
للتأكيد على أن التاريخ الإنساني كله هو ميدان
هذه السنن، ولا يمكن الخروج عنها بحال»
[209] .
وكيف كان، فإن الوعد الإلهي في الحياة الدنيا
مثلما أن له تحققات ومصاديق كثيرة في ماضي
البشرية، فهو كذلك له تحققات في الحاضر،
وسيكون له تحققات ومصاديق كثيرة في مستقبل
البشرية، لأنّ الله عزّ وجلّ لا يخلف وعده،
كما أنه لا يخلف وعيده فيمن عصى وكفر وتولى
وأدبر، بدليل أنه ما من أمة صدق فيها وعد الله
بالخير والنصر والاستخلاف إلا وكانت آثار
ونتائج هذا الوعد وبالاً على المعاندين الذين
يصدّون عن سبيل الله سبحانه ويبغونها عوجاً.
فالوعد للمؤمن كان ولا يزال وسيبقى وعيداً
للكافر، سنّة الله جلّ وعلا في خلقه ولن تجد
لسنّة الله تحويلاً ولا تبديلاً. وهذا ما
تعنيه الآيات بوراثة الأرض للمؤمنين، كما قال
الله تعالى: ﴿
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾
[210] .
وقال الله تعالى: ﴿
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾
[211] ، ﴿
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ
عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾
[212] ، فالآيات ناظرة
وخاصة في ذيلها إلى بلاغ الله تعالى الصادق،
وإلى رحمة الله الواسعة التي عبّر عنها رسول
الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أرسل به
وقام بتحقيقه، وما سيكون لهذه الرحمة في
مستقبل البشرية. وكيف لا يكون كذلك وقد جسّد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه
الرحمة في كل ما أتى به من قول وفعل، ويكفي في
هذا السياق أن نعرض لنماذج من تحققات الوعد
الإلهي في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وخاصة في معركة الأحزاب حينما قال
المعاندون والمنافقون والكافرون: ﴿
مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا
غُرُوراً ﴾
[213]
، وكان الجواب المباشر بتحقق الوعد بقول
المؤمنين لما رأوا الأحزاب: ﴿
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ ، وكان ما كان من تحول في
مصير البشرية، حيث ردّ الذين كفروا بغيظهم
وكفى الله المؤمنين القتال، إلى غير ذلك مما
اشتملت عليه سورة الأحزاب، وهذه السورة كافية
بذاتها للتدليل على أن الوعد للمؤمنين كان
وعيداً للمنافقين والكافرين، وهذا إن دلّ على
شيء، فإنّه يدلّ على أن تحقق الوعد وإن كان من
الممكن أن يقضي على هؤلاء نهائياً ليكونوا في
نار الدنيا والآخرة، ولكن الله تعالى اختار
لهؤلاء المصير الذي يسمح لهم بالاعتبار
والعودة، وهذا يعتبر من دلالات الرحمة
الإلهية، وهنا تجدر الإشارة إلى ما عرض له
الشيخ شمس الدين في تفسير سورة الأنفال، فهو
يرى أن الوعد الإلهي كان من الرحمة على
الكافرين بما يعدهم بالمزيد من الخير فيما لو
اتعظوا وعادوا عن غيّهم، يقول في تفسير قوله
تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي
أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ
اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ
خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
[214] ،
وقد تضمن هذا
البلاغ السماوي وعداً من بندين، الأول: تعويض
دنيوي من سنخ ما أخذ منهم من فداء، ولكنه أوفر
وأكثر، والثاني: تعويض أخروي أعظم وأبقى من
هذا الفرض الدنيوي الزائل لا يعادل بمال أو
متاع، ولا سلطان، ذلك هو رضوان الله عليهم
بعدما ارتكبوه في حق الإسلام والمسلمين،
ومغفرته لهم مع ما يترتب على ذلك من لوازم في
الدنيا والآخرة»
[215] .
إنّه وعد الرحمة الإلهية في الأرض والسماء،
وفي الدنيا والآخرة، فهل يُقال بعد هذا
الرضوان وتحقق الوعد الصادق أنّ غاية الإسلام
في وعده ووعيده إنّما تتقوّم بالجنة والنار،
أو بالثواب والعقاب؟ فهل بعد هذه الرحمة من
مجال للقول بأن الإسلام غاية منهجه العقوبة؟
إنّ الرحمة الإلهية الواسعة، وفي ضوء هذا نرى
أن الوعد بوراثة الأرض لا يكون للإنسان كيفما
اتفق، وإنّما لا بدّ من التوفر على شروط
التمكين والاستخلاف والصلاح، بقوله تعالى: ﴿
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ ﴾
[216]
، إذ إنّ مقتضيات هذه الوراثة للأرض تحتّم أن
يكون الإنسان قائماً بأمر الله سبحانه،
ومحققاً لشروط النصر والاستخلاف، لأنّ الله
عزّ وجلّ لا يفيض بالنصر، إلاّ بعد أن يكون
الإنسان نفسه قد هيّأ له أسبابه، فهذا شرط
أساس من شروط الفيض الإلهي لأي شيء في الوجود،
وهذا ينسجم مع سنّة الله في خلقه بعد أن أغلقت
أبواب عيش الإنسان بالمعجزات، ووكِّلت إلى
الأسباب الطبيعية التي هي من شؤون الإنسان،
والمعبّر عنها بالمصطلح الفلسفي، بالفاعلية ما
به الوجود، كما قال الله تعالى: ﴿
هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾
[217]
. وغير خفي على متأمّل بصير، ومتدبّر صادق ما
يعنيه التأييد هنا لغة ومفهوماً، من أنه
التقوية ليس إلاّ، والتقوية هذه إنما تصح
لأساس موجود، يحتاج إلى دعم وإسناد»
[218] .
إنّ زمن المعجزات قد ولّى، ولا بدّ أن ينهض
الإنسان بأسباب النصر ليكون وارثاً للأرض،
وهذا ما جسّده الأئمة الأطهار (عليهم السلام)
في حياتهم، فيما دعوا إليه الناس من عمل
وتدبّر وأخذ بالأسباب، والتوفر على الشروط
المطلوبة لكل نصر في الحياة. وعليه، فإنه لا
معنى لأن نتحدّث عن وراثة الأرض أو عن تحقق
الوعد من خارج الأسباب، بل إن انعدام الشروط
وفتح باب التواكل والتخاذل من شأنه أن يؤدي لا
إلى تحقق الوعد بما هو خير ورحمة، بل إلى
الوعيد بما هو نقمة وعذاب. فإذا أدّى الإنسان
ما عليه فيما هو موكول القيام به إليه وعلم
الله سبحانه منه الصدق في القول والفعل،
والصبر في المواطن وعجز عن القيام بالأمر،
فحينئذٍ يمكن للإنسان أن ينتظر وعد الله عزّ
وجلّ بالنصر، كما قال تعالى: ﴿
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ﴾
[219]
إلى غيرها من الآيات التي تؤكّد على نصرة الله
جلَّ وعلا للمؤمنين، من غير أن يعني ذلك ما قد
يتوهمه بعضهم من نصرة وعلوّ وظفر على الأعداء
في ميادين الحرب والسلاح، لأنّ معنى أن ينتصر
الإيمان فيما يجسّده الإنسان المؤمن في صراع
الحياة، معناه أن ينتصر بالحجة والدليل، كما
هو مفاد معنى النصر في اللغة والمصطلح
[220] ، وإلاّ فإنّ هناك
الكثير من الأنبياء (عليهم السلام) لم ينتصروا
في ميدان الحرب، ولكنهم كانوا دائماً يشكلون
الخط والرؤية التي تسهم بتحقيق الهزيمة
للكافرين في كل زمان ومكان
[221] ، وكلنا يعلم ما حققه الإمام الحسين
(عليه السلام) من انتصار في كربلاء رغم هزيمته
العسكرية، فقد أدّت ثورته إلى انهيار المنظومة
الأموية بكاملها بعد فترة قليلة من الزمن ما
يؤكّد لنا صحّة ما يذهب إليه القرآن في أن
مستقبل الأرض هو للصالحين وليس لغيرهم، لأنّ
الصلاح والإيمان والعمل الصالح والصبر على ما
يحب ويكره الإنسان، كل ذلك كفيل بأن يؤسس
لحياة إسلامية يكون فيها الإسلام هو المنظومة
الحاكمة والوارثة للأرض كما وعد الله تعالى
بقوله: ﴿
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴾
[222] .
يبقى أن نقول: إن الوعد الإلهي بوراثة الأرض
ليس وعداً مثالياً يتصبر الإنسان به في أجواء
أوهامه وخيالاته، بل هو وعد إلهي من خالق
الدنيا ومدبّر الكون، إنه وعد الله سبحانه
القادر على كل شيء، ولو لم تكن لهذا الوعد
حقائقه في الدنيا لما كنا اليوم نكتب عن
الإسلام والرسالات وعن وعد الله عزّ وجلّ،
ولما كنا نردّد اليوم مقولات الفراعنة
والطواغيت فيما زعموه لأنفسهم من ألوهية
وربوبية كما زعم فرعون وقارون وهامان، وأبو
جهل وأبو لهب وأبو سفيان. إن هذا كله لدليل
واضح على تحقق وعد الله جلّ وعلا ووعيده فيما
انتهى إليه أهل الكفر من مصير، وهو بحدّ ذاته
يشكّل دليلاً وبرهاناً على أن مستقبل البشرية
هو رهن هذه الإرادة الإلهية المطلقة التي أعطت
الإنسان حيّز العقل والاختيار والتحوّل في
نطاق ما كلّف به وقدر عليه من تحولات، ولكن
هذه الإرادة في نهاية المطاف هي التي ستقرّر
مصير وراثة الأرض، وكل ذلك سيتم وفاق منظومة
الهدي الإلهي بما تنطوي عليه من سنن حاكمة،
هذه المنظومة التي ضمنت للإنسان أن يكون على
خوف وحزن وضلال وشقاء فيما لو اتبع غير سبيل
المؤمنين، واختار مزاعم الشياطين الذين كما
بيّن الله تعالى في كتابه المجيد أنهم سيتخلون
عمّن أطاعهم حين يحقّ الله الحق بكلماته، سواء
أكانت هذه الآيات تعني أمره كما رأى القرطبي
[223] أم وعده كما رأى
الشوكاني
[224] ...
إنه مستقر إلى حين، وحين يحين الحين، يكون فيه
الأمر لربّ العالمين، بحيث تكون كلمة الله
سبحانه هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى
[225] ، وهذا هو جوهر ما
تعنيه وراثة الأرض، بل ما تعنيه حتمية تحقق
الوعد الإلهي
[226] ، وإن
أدنى تأمّل وتدبّر في آيات الله عزّ وجلّ لا
بدّ أن يكشف عن تحولات هذا الوعد الصادق في
تاريخ البشرية منذ النبي آدم (عليه السلام)
وحتى عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وكم قويت شوكة الكافرين والمنافقين؟ وفي كل
يوم نسمع القرآن يقول: ﴿
أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾
[227]
، سواء في الدنيا أم في الآخرة، مع ما تشكله
هذه اللعنة من تحققات لهزيمة الباطل في كل
زمان ومكان، ويكفينا في هذا المجال أن نشير
إلى تحققات الإسلام في زماننا حيث كانت أكثرية
الناس على يأس وقنوط من تحولات العالم وفاق
رؤية الجبابرة، فإذا بالجمهورية الإسلامية في
بلادنا تخرج من مضايق الحياة لتعلي شأن
الإسلام والمسلمين، وتعطي أملاً للمستضعفين،
وتقدم أنموذجاً حيّاً وباهراً عن كيفية تحقق
وعد الله سبحانه للمؤمنين بالنصر على الأعداء،
وهذا وعد الله عزّ وجلّ، ووعده حق، إنه لا
يخلف الميعاد، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾
[228] .
قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ ﴾
[229] .
وقال تعالى: ﴿
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ
وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (20)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ
أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾
[230] .
وقال تعالى: ﴿
قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن
يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ
بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ
مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ
مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ
بِقَرِيبٍ ﴾
[231]
.
هذه جملة من الآيات المباركة التي يعرض فيها
القرآن لحقيقة الوعد في الدنيا فيما كان منه
تعالى لنصرة المؤمنين لإحقاق الحق وإزهاق
الباطل، وقد بيّن علماء التفسير وأصحاب
السيَر، كما جاء في سيرة ابن هشام
[232] ، وفصّل فيه الكلام
العلامة السبحاني في سيرة سيّد المرسلين
[233] أن تحقق الوعد الإلهي
في التجربة التاريخية للمسلمين وفي حياة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن إلاّ
بعد أحداث كانت في غاية الخطورة على الإسلام
والمسلمين، ومما لا شكّ فيه أيضاً أن هذا
الوعد لم تكن الغاية منه العقوبة بما هي عقوبة
وانتقام، وإنما كان بهدف إحداث التوازن الذي
يسمح للمعاندين بأن يعودوا عن غيّهم، كما
ذكرنا عن أسرى بدر قبل قليل وما وعدهم الله
تعالى به من خير ومغفرة فيما لو استجابوا للحق
وعقلوا عن الله ورسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم)...
ولعل من أغرب ما قرأناه عن المفسرين ما ذهبوا
إليه في تفسير قوله تعالى: ﴿
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾
[234] حيث رأوا أن النصر
إنما يكون في يوم الرجعة اعتقاداً منهم بأن
كمال النصر وتمامه لم يحصل للأنبياء (عليهم
السلام) في تاريخهم وتجاربهم، وقد ذكرنا أيضاً
معنى أن يكون النبي أو الرسول منتصراً بالحجة
والبرهان على مَن عاند وصدّ عن سبيل الله
تعالى، هذا فضلاً عمّا حققه الإسلام مع رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من انتصارات
ميدانية هائلة سمّاها القرآن بالفتح المبين،
كما هو موضوع سورة الفتح في القرآن الكريم،
والتي أشارت الآية الآنفة الذكر إلى مغانم
كثيرة قد نالها المسلمون، ناهيك عن تلكم
المغانم الأخرى التي لم يقدروا عليها وقد أحاط
الله بها، ويكفي المتدبّر أن يتوقف عند مدلول
قوله تعالى: ﴿
وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾
[235] ،
إذ في هذه الآية وما جاءت به من عطف على
القريب والبعيد، كما هو رأينا في ذلك، ما
يؤكّد لنا أن مذاهب الفقهاء والعلماء في تفسير
آيات النصر ليس تفسيراً وجيهاً، لأن الوعد
بالنصر والإحاطة يفيدنا بأنه نصر في المستقبل
بالظفر والغلبة في ميدان الصراعات قبل يوم
الرجعة، وهذا ما بيّنه الشريف الرضي (قده) في
حقائق التأويل أن النصر قد يكون بالظفر
والغلبة، أو بالحجة، وقد تحقق وعد الله تعالى
للأنبياء والرسل (عليهم السلام) في كل صراع
رغم ما كانت تؤول إليه الأحداث من صعوبات
ومآسٍ، وفي أحيان كثيرة إلى قتل النبي أو
الإمام، وهذا ما كان ليتمّ لولا أن النبي ـ أي
نبيّ ـ استطاع أن يهزم عدوّه في ما كان يؤسس
له من رؤية ومنطق، ويدعو إليه من حقائق، ولو
أن الناس كانوا دائماً عند حسن الظنّ بالله
سبحانه لما تمكّن الفراعنة والطواغيت وأهل
الجاهلية من النيل من النبي أو الإمام فيما
كانوا يدعون إليه من حق وعدل، وهذا ما عبّرت
عنه جملة من الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ
فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ
الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ
حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
[236]
.
وقال الله تعالى: ﴿
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ
الْغَالِبُونَ ﴾
[237] .
لقد ذهب المفسّرون مذاهب شتّى في تأويل معنى
النصر وتحققه للأنبياء والمرسلين (عليهم
السلام) ، بين قائل بتقسيم آيات النصر بين
الأنبياء (عليهم السلام) ، إذ منهم من انتصر
على عدوّه في ميدان الحرب، ومنهم من أذلّ
عدوّه بالحجة والبرهان، إلى غير ذلك مما رآه
الطبري من وجوه النصر في تاريخ البشرية وإهلاك
المعاندين
[238] ، ومنهم مَن ذهب في
تأويل الآية إلى يوم الرجعة الذي يأتي فيه من
كل أمة فوجٌ ويكون الانتصار لأهل الحق، وتكاد
وجوه الرأي لا تحصى رغم أن الآية تتحدّث عن
النصر في الدنيا، وقد لخّص ابن الجوزي في
تفسيره هذه الوجوه إلى ثلاثة آراء: أحدها: أن
النصر كان بإثبات الحجة. والثاني: بإهلاك
عدوّهم، والثالث: بأن العاقبة تكون لهم وفصل
الخطاب
[239] ، وهذا الكلام مفاده
أن الدعوة النبوية فيما كانت تتركه من تأثير
في قلوب الناس وعقولهم، كان يؤول أمرها في
أجواء الصراع والدفع الإنساني إلى الانتصار،
كما حصل مع كثير من الأنبياء الذين قتلوا،
وكما حصل في تاريخنا الإسلامي حين اختار
الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج للإصلاح
في أمّة جدّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو
يعلم أن الانتصار العسكري لا أمل فيه، ولكنه
علم أن هذا الإصلاح سيؤتى أُكلهُ في حياة
الإنسان بما يكون من تداعيات تؤدّي في نهاية
المطاف إلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
هذا فيما يتعلّق بحقيقة النصر والوعد الإلهي
بتحققه، سواء في حياة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أم الإمام (عليه السلام) أم بعد
موته، وبما أنّ حديثنا في هذا المبحث عن الوعد
بين النصّ والتجربة، فإنّ ذلك يتطلّب منّا أن
نتحدّث عن حتمية تحقق الوعد الإلهي كما عرض له
القرآن، لنتعرّف إلى حقيقة الموقف الرسالي في
ضوء مآلات التجربة، وخاصة الإسلامية، هذه
التجربة التي كشفت عن تحققات هائلة لهذا الوعد
الحق، سواء فيما أدى إليه من انتصار للنبي(صلى
الله عليه وآله وسلم) أم من هزيمة للمشركين
والكافرين والمنافقين. وهنا تجدر الإشارة إلى
أنه لا ينبغي أن يغرب عن بال الباحث أن
التجربة الإسلامية هي خاتمة التجارب وخلاصتها
فيما يعود إلى تحقيق هذا الوعد، لأن الإسلام
هو خاتم الرسالات، والنبي(صلى الله عليه وآله
وسلم) هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وإنّ مما
يدلّ على أن لهذه التجربة امتياز خاص ودلالات
مختلفة، هو تضمّن القرآن لسور كثيرة تحكي
تحققات وحتميات هذا الوعد الإلهي، وخاصة سورة
الفتح، وسورة الأحزاب، وسورة الحشر، وغيرها من
السور التي تتضمّن إشارات دقيقة إلى مجريات
الأحداث، ما يؤكّد لنا أن التجربة الإسلامية،
وقبلها النظرية الإسلامية، هي تقدّم للبشرية
خلاصة التجارب للاعتبار والتعقّل، وقد قال
الإمام علي (عليه السلام) : «والعقل حِفظ
التجارب، وخير ماجربت ما وعظك». فإذا أردنا
تلخيص الموقف في سياق رؤية متكاملة، فلا يسعنا
إلاّ أن نؤكّد على أن النص القرآني وما انعكس
فيه من تجارب يكشف عن أن الهدف من تحققات
الوعد هو استقامة الحياة الإنسانية وتحقيق
التكامل الإنساني من خلال النظرية الإسلامية
بما هي نظرية كاملة وخاتمة ومهيمنة على سائر
ما عرفته البشر من رسالات وتجارب، سواء أكانت
سماوية أم أرضية، ويكفي أن نشير في هذا المجال
إلى تجربة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
في فتح مكة، حيث نرى أصحاب السيَر، ومعهم أهل
التفسير، فضلاً عن أهل التاريخ، فهؤلاء جميعاً
يتجاهلون معنى أن يكون فتح مكة قد جاء في سياق
تحققات الوعد الإلهي لا على نحو المعجزة
القاتلة أو القاهرة، بمعنى أن هذا الوعد لم
يكن عقوبة لأهل مكة، لأنّ سياق الأحداث دلّ
على تفاهمات بين قريش والرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم)، ثم إنّ ما جرى قبل فتح مكة
وبعدها، يدلّل بوضوح على تجربة بشرية كان
للأسباب الطبيعية دورٌ بارزٌ فيها ما يؤكّد
لنا أن المعجزة كانت في داخل الإنسان لا في
خارجه، وإلاّ كيف يمكن لنا أن نفهم معنى تحقق
الوعد بمعزل عن قوله تعالى: ﴿
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن
بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
﴾
[240] ، هذا
أولاً.
ثانياً: إنّ المعجزة لم تكن قاتلة، ولو كانت
كذلك لحقّ القول فيها على نحو ما بيّن الله
تعالى بقوله سبحانه: ﴿
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ
وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً ﴾
[241] .
لذا، فإنّ التأمّل في سياق الأحداث والتدبّر
فيها لا بدّ أن يُفيد دلالات جديدة للموقف
الإسلامي في مجال تحقق الوعد، وهذا ما تظهر
دلالاته واضحة ومبيّنة في ما أرشد إليه القرآن
من مغانم، سواء تلك التي عجّلها الله عزّ وجلّ
أم التي كفّ فيها الأيدي، وهنا يكمن سرٌّ
عظيم، أم التي لم يقدر عليها المسلمون وأحاط
بها الله تعالى ليختم بقوله: ﴿
... وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً ﴾
[242] .
هنا تبدو لنا مطالعة جديدة في معنى تحقق الوعد
في ضوء ما أحاط الله جلّ وعلا به من أحداث
ومغانم وتفاعلات، إذ إنه بالقياس على ما جرى
في بدر، أو أُحد، أو الأحزاب، وصولاً إلى
خيبر، وفتح مكة، وصولاً إلى حجّة الوداع، دعنا
نقول من السنة الخامسة للهجرة وحتى السنة
الثامنة عام فتح مكة، فإذا ما تأمّلنا الأحداث
جيداً، فلا بدّ أن تستوقفنا جيداً تحولات
الموقف من كونه معركة فاصلة وحاسمة في بدر، ثم
هزيمة مدوّية في أُحد، ثم ارتباك عظيم وتجسّد
الإيمان كله في أمير المؤمنين (صلى الله عليه
وآله وسلم)، كما قال الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) حينما برز الإمام (عليه السلام)
لعمر بن ودّ العامري: «برز الإيمان كله إلى
الشرك كلّه» ، فهذا كلام لا يسع المفسّر أو
المؤرخ، أو الفقيه، أو الفيلسوف، أو أي باحث
في شؤون المسلمين وأحداثهم، لا يسع هؤلاء
جميعاً أن يتجاهلوا أنّ هذا الكلام يجسّد
الوعد الإلهي الحق في رجل قال فيه رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وعنه أنه الحق، كما
في قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «علي مع
الحق والحق مع علي»
[243] .
وكلنا يعلم أنه ليس بعد الحق إلاّ الضلال، ولا
شكّ في أنّ خاتمة التحول كانت في خيبر وفتح
مكة وما جاء فيها من إعلان البراءة وغيره من
الأحداث التي تكشف لذي لبّ أن الإسلام لم يُبق
وعده الحق مجرداً، بل كشف عنه في صيرورة
التحولات لتكون النتيجة إذناً تشريعياً في مكة
له صداه التكويني يوم يقوم الناس لرب
العالمين، فتأمّل إن كنت على بصيرة من الأمر
وَفِقْهٍ في القرآن ووعي بالتاريخ...؟
نعم في بدر نزلت الملائكة، ونزل المطر، وغشى
الناس النعاس أَمَنَةً، وأذهب رجس الشياطين،
وكانت البشرى
[244] بعد أن ألقى الله
الرعب في قلوب الذين كفروا، كل ذلك كان من
أسباب تحقّق الوعد، ولكن الأمر اختلف في أُحد
وكانت الهزيمة، فهل لمتدبّر بصير يكشف لنا
معنى هذا التحوّل وسرّ هذا الموقف، ويجيب عن
سؤال، لماذا وقعت الهزيمة؟ وما هو الدرس
المستفاد من ذلك؟
لقد أجاب الشهيد الصدر عن هذا السؤال بقوله:
«لا تتخيّلوا أن النصر حق إلهي لكم، وإنّما
النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن أن توفروا
الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن
التاريخ التي وضعها الله سبحانه كونياً لا
تشريعياً، وحيث إنكم في غزوة أُحد لم تتوفّر
لديكم هذه الشروط، ولهذا خسرتم المعركة.
فالكلام هنا كلام مع البشر، مع رسالة ربّانية،
بل يذهب القرآن إلى أكثر من ذلك، يهدّد هذه
الجماعة البشرية التي كانت أنظف وأطهر جماعة
على مسرح التاريخ بأنهم إذا لم يقوموا بدورهم
التاريخي وإذا لم يكونوا على مستوى مسؤولية
رسالة السماء فإن سنن التاريخ سوف تعزلهم،
وسوف تأتي بأمم أخرى قد تهيّأت لها الظروف
الموضوعية الأفضل لكي تلعب هذا الدور كما قال
الله تعالى: ﴿
إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً
أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ
وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
[245] »
[246] . ففي بدر توفرت الشروط فكان النصر،
أما في أُحد لم تتوفر الشروط، فحصلت الخسارة.
لا شكّ في أن كلام الصدر (رض) يعبّر عن حقيقة
الموقف القرآني في النصر والهزيمة، وهو في
كلامه يركّز على سنن التاريخ وما تقتضيه من
تحولات في ضوء الشروط المطلوب توفرها، ولكنه
لم يتجاهل إطلاقاً معنى تحقق الوعد الإلهي في
مكة، وتحديداً في بطن الحديبية حين قيل لرسول
الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد قبوله
الصلح: «أتعطي الدنية في
ديننا» ، في جوّ
الاضطراب الهائل بين مَن صدق الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) في دخول مكة، وبين من شكّك في
هذا الأمر بالدونية في مقابل ما وصفه به
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتح عظيم
[247] .
نعم، النصر هو حق طبيعي، كما يرى الصدر، وليس
حقّاً إلهياً وكيفما اتفق، والوعد الإلهي حين
تحقق في فتح مكة، أو في فتح خيبر، لم يكن
متجاهلاً لسنن التاريخ ولا للشروط الموضوعية
التي سيبقي توافرها شرطاً لتحقيق النصر، بل
إنّه، بالإضافة إلى ذلك، كان تعبيراً عن تحوّل
استراتيجي إذا صحّ التعبير في مسار التحولات
العظمى تحولاً أراد الله تعالى من خلاله أن
يؤسس لمنظومة جديدة في الوجود تبنى عليها
تحولات الإنسانية في نظمها وقيمها. والحق
يُقال: إنه لو فرضنا أن الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) كان وحيداً في تلك التحولات لكان
سيحدث ما حدث. وهذا، كما نرى، أو من الأهمية
بمكان، يمكن المناقشة فيه، وقد سبق الحديث عما
حصل في معركة بدر الكبرى حين تحقق الوعد
الإلهي في ظلّ عناية إلهية فائقة. ولهذا، فإنّ
ما ينبغي التأسيس عليه هو ملاحظة الشروط
والأسباب، ومن ثم التعرف إلى أن مايريده الله
سبحانه من الإنسان هو أن يكون على وعي كامل
بأن مشيئة الله عزّ وجلّ هي الحاكمة، وأن بدر،
أو خيبر، أو فتح مكة، وكل ما حصل في التجربة
الإسلامية هو قابل للتحقق وليس مجرّد أحداث
عابرة في التاريخ، وإنّما هي أحداث حقيقية
يمكن الاعتبار بها والتيقّن من أنها قابلة
للتكرار في ضوء ما يكون عليه الإنسان من وفاء
والتزام وامتثال لأمر الله جلَّ وعلا، ذلك أن
الله تعالى قادر على أن يحقّ الحق بكلماته،
لكون الدين هو دينه، والأمر أمره، والخلق
خلقه، وإذا كانت السنن حاكمة لعمل الإنسان
وتفرض عليه أن يكون مستوفياً لشروط التحقق في
التاريخ والزمان والحياة، فإنّ هذه السنن
قابلة تكوينياً للتحول لتكون سبباً كافياً
لخدمة الإسلام والمسلمين، باعتبار أن الله عزّ
شأنه لم ينتظر الإنسان في فترة الرسل لبعثة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد قرون من
الجاهلية، ويكفي أن نعلم أن تحوّلات الوجود
كلها، سواء في التكوين أم في التشريع هي صائرة
إليه، كما قال تعالى: ﴿
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ ، ﴿
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ ،...
نعم، لقد أغلقت أبواب المعجزات بالنحو الذي
نفهمه عن المعجزة بما هي كاشفة عن صدق
المعصوم. إلاّ أن ذلك لا يعني بأن تحقق الوعد
الإلهي لا يكون إلا بمعجزة، إذ كيف يمكن لنا
أن نفهم قوله تعالى: ﴿
وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي
الْمِيعَادِ ﴾
[248]
، وقوله تعالى: ﴿
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ ﴾
[249] ، وقوله تعالى: ﴿
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَارَ ﴾
[250]
، إلى غيرها من الآيات التي تدلّل بظاهرها على
أن الله سبحانه بلحاظ كون الأسباب محكومة له،
وهو المسبب لها، قادر على أن يحوّل القلوب
ومعها المسارات كلها لتكون متوجهة إليه،
وناطقة بحتمية وعده للمؤمنين بالنصر، وهذا ما
يمكن فهمه من أحداث بدر ومكة والأحزاب، وكل
الصراعات التي جرت في تاريخ الإسلام، فلا
يُقال بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان موجوداً، وقد حصل ما حصل بما كان عليه(صلى
الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المنتجبين من
تجليات إلهية حوّلت الأحداث من كونها مقهورة
لتكون قاهرة، بل يُقال: إنّ ما حدث قابل لأن
يحدث في كل زمان ومكان وفقاً للشروط وحاكمية
السنن من جهة، ووفقاً لمغلوبية هذه السنن لله
تعالى من جهة أخرى، وهنا يصحّ قول المؤرخ قطب:
«فلم يكن النصر في بدر إذن حادثاً فردياً،
إنما كان سنّة. سنّة قابلة للتكرار، وإن لم
يكن بنفس الصورة التي وقعت في بدر، وهذا هو
الدرس الذي ينبغي أن نأخذه من هذه الواقعة
التاريخية بكلّ تجلّياتها وأحداثها. أما
دراستها كواقعة مفردة،... فيضيع رصيدها
المذخور للأمة الإسلامية في تاريخها المقبل
كلها، وتضيع قوّتها الدافعة لأي جيل من أجيال
المسلمين يريد أن يستأنف الطريق! وإبراز
السنّة الإلهية في هزيمة أُحد وحُنين لا يقلّ
أهميّة عن إبرازها في النصر في وقعة بدر ووقعة
الأحزاب وغيرها من الوقائع. فالدروس الإيمانية
المستفادة من الهزيمة كالدروس الإيمانية
المستفادة من وقائع النصر سواء بسواء... وحين
تعرف الأمة الإسلامية بأيّ شيء تحرز النصر،
وبأي شيء تقع لها الهزيمة، تكون قد خطت خطوات
على الطريق»
[251] .
وهكذا، فإنّ كلام قطب يلتقي تماماً مع نظرية
الشهيد الصدر في السنن التاريخية، ويرى أن
تاريخ الإسلام ليس تاريخاً خاصاً يحفظ ولا
يُقاس، أو لا يستفاد منه الدروس، ونحن نرى أن
أهمّ الدروس التي يمكن استفادتها في عصرنا وفي
كل عصر هو أن نتدبّر جيداً سورة الفتح التي
تنطوي على عناصر مهمة في كيفية التحول
الإيجابي، وهي سورة كما نعلم تتحدّث عن فتح
قريب، وعن فتح مبين، ولكنها في جوهر بيانها،
وفي سرّ دلالتها، تكشف عن أن الإسلام لم يعد
بحاجة إلى معجزات من نوع فلق البحر لموسى
(عليه السلام) ، ولا لنار تكون برداً وسلاماً
على إبراهيم (عليه السلام) ، بل إنّ الأمّة
بحاجة إلى معجزة بناء ذاتها بعدما ظهر الدين
وكفى بالله شهيداً على هذا الظهور الذي لا
يحتاج معه الإسلام إلى تحققات وحتميات في
الوعد والوعيد على نحو ما جرى للأمة السالفة
من عقوبات وعذابات تراوحت بين المسخ
والاستئصال والغرق والخسف والريح العاصف
والقاصف إلى غيرها مما تعرضت له الأمم فيما
استحقته من وعيد وعقاب في الدنيا والآخرة.
وبما أن الإسلام بعد ظهوره على الدين كله لم
يعد بحاجة إلى معجزات على نحو ما ذكرنا، فليس
عجيباً ولا غريباً، أن يكون لهذا الدين مع
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكانوا كزرع
أخرج شطأه، تحولات وتحققات من نوع بدر وأُحد
والأحزاب وخيبر وفتح مكة لما أكّدنا عليه
ورأيناه في بحوثنا أن الله تعالى تكفّل بهذا
الدين وجعل له مَن يمنع عنه التحريف وسوء
التأويل...
وبناءً عليه، فإنّه لا معنى إطلاقاً لأن نراهن
على تحولات من خارج التاريخ والزمان، لأن حكم
الله تعالى يجري على اللاحقين كجريه على
السابقين، وهذه الأمة تحذو حذو من سبقها من
الأمم حذو القذة بالقذة إلى أن يحقّ الله
الحقّ بكلماته ويزهق الباطل ولو كره المجرمون.
وبالله التوفيق.
[1] سورة يونس، الآية: 55.
[2] سورة التوبة، الآية:
39.
[3] سورة البقرة، الآية:
40.
[4] الفراهيدي، الخليل بن
أحمد، كتاب العين، (ت 175هـ) تحقيق مهدي
المخزومي، إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار
الهجرة، ط2، (1409هـ)، ج2، ص223.
[5] سورة الحج، الآية: 72.
[6] الجوهري، إسماعيل بن
حماد، تاج اللغة وصحاح العربية (ت 293) تحقيق
أحمد العطار، بيروت، دار العلم للملايين، ط4،
(1407هـ)، ج2، ص551.
[7] ابن منظور، لسان العرب
(ت 711)، بيروت، دار إحياء التراث، ط1،
1404هـ، ج3 ص462.
[8] سورة طه، الآية: 86.
[9] سورة الذاريات، الآية:
22.
[10] ابن منظور، لسان
العرب، م. س، ج3، ص462.
[11] الزبيدي، محمد مرتضى،
تاج العروس من جواهر القاموس (ت 1204)، بيروت،
مكتبة الحياة، ج2، ص537.
[12] سورة إبراهيم، الآية:
22.
[13] سورة القصص، الآية:
61.
[14] سورة الفتح، الآية:
20.
[15] سورة المائدة، الآية:
9.
[16] الراغب الأصفهاني،
مفردات ألفاظ القرآن الكريم، (ت 502) ط1،
1404، ص526.
[17] سورة الحج، الآية:
47.
[18] سورة البقرة، الآية:
51.
[19] سورة إبراهيم، الآية:
22.
[20] سورة الأعراف، الآية:
142.
[21] ابن منظور، لسان
العرب، م. س، ج3، ص462.
[22] سورة
الحج، الآية: 72.
[23] سورة هود، الآية: 81.
[24] سورة إبراهيم الآية:
47.
[25] سورة يونس، الآية:
55.
[26] الراغب الاصفهاني،
مفردات القرآن، م. س، ص537.
[27] سورة القصص، الآية
77.
[28] سورة الفتح، الآية:
21.
[29] انظر: العسكري، أبو
هلال، معجم الفروق اللغوية، مؤسسة النشر
الإسلامي، قم، ط1، 1412، ص574.
[30] الطبرسي، أبو علي
الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1425هـ، ج1، ص27.
[31] الطوسي، محمد بن
الحسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتب الإعلام
الإسلامي، تحقيق العاملي، ط1، 1409، ج2، ص347.
[32] سورة إبراهيم، الآية:
22.
[33] العسقلاني، ابن حجر،
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، دار المعرفة،
بيروت، ط2، (لا ـ ت)، ج24، ص89. وقا: مع
العظيم آبادي، محمد شمس الحق، عون المعبود في
شرح سنن ابن داود، (ت 1329هـ). دار الكتب
العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ، ص126. يقول: واعد
رجل رجلاً، أي وعد كل منهما الآخر...
[34] را: ابن منظور، لسان
العرب، م. س، ج2، ص463.
[35] سورة يونس، الآية:
55.
[36] الشهرستاني، الملل
والنحل، م. س، ج1، ص117.
[37] لقد خلط بعض الباحثين
بين معنى مصطلح واصطلاح، فقالوا بالترادف،
وهذا ليس صحيحاً، باعتبار أن الاصطلاح هو
العملية التي أنتجت المصطلح، أي أن الاصطلاح
هو الاتفاق الذي أوجد مفردة لغوية وأعطاها
دلالة معيّنة بقصد التسهيل والاختصار،
فالمصطلح ليس هو الاصطلاح، كما أن المتفق عليه
ليس هو الاتفاق.
[38] را: عضيمة، صالح،
مصطلحات قرآنية..
[39] يقول الشيخ المفيد:
«إذا ثبت أن القرآن نزل بلغة العرب، وخوطب
المكلفون في معانيه على اللسان، وجب العمل بما
تضمنه على مفهوم كلام العرب دون غيرهم، را:
الشيخ المفيد، جوابات أهل الموصل، (ت 413هـ)،
تحقيق مهدي نجف، مطبعة مهر، ص15 (لا ت). وهذا
الكلام من الشيخ المفيد يُفيد بأن ما نعيشه من
مصطلحات عالمية لا ينبغي أن ينعكس سلباً على
اللسان العربي وأهله، لأن القرآن هو الذي
يُجلي مفاهيمه، وكل مصطلح لا بدّ أن يعبّر عن
هذه المفاهيم، فلا يُقال إن العصر وتطوّره له
دخالة في صياغة المصطلح بهدف جعل القرآن عرضة
لمفاهيم ومصطلحات جديدة لم يقرّها اللسان، ولم
ينزل بها قرآن.
[40] ابن منظور، لسان
العرب، م. س، ج5، ص617.
[41] الطريحي، فخر الدين،
مجمع البحرين، (ت 1085)، تحقيق الحسيني، ط2،
1408، ص433.
[42] انظر، المظفّر، محمد
رضا، المنطق، دار التعارف، بيروت، 1995م، ص63.
[43] جاء في رسائل
المرتضى، أن كل منطوق به دال بالاصطلاح على
معنى. وقال مغنية في علم الأصول: إنّ المنطوق
والمفهوم وصفان من أوصاف المعنى باعتبارهما
مدلولين للفظ وليس من أوصاف اللفظ بالذات
كالفصاحة والإطناب والإيجاز. را: الشريف
المرتضى، رسائل المرتضى، دار القرآن، قم،
1405، ج2، ص28. وقا: مع مغنية، محمد جواد، علم
الأصول في ثوبه الجديد، دار التيّار، بيروت،
ط3، 1988، ص143.
[44] يمكن لنا أن نمثل على
ذلك بمفهوم النسخ في القرآن الذي عرضنا له في
كتابنا «علوم القرآن عند العلاّمة الطباطبائي»
حول ما أشكل عليه لجهة النهج الواقع في
القرآن، حيث رأى بعضهم أن النسخ ما هو إلاّ
اختلاف في النظر إن لم يكن من المناقضة في
القول، وكانت إجابة الطباطبائي (قده) على هذا
التساؤل أن ذلك ليس من المناقضة في القول، ولا
من قبيل الاختلاف في النظر والحكم، وإنما هو
ناشئ من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله
انطباق الحكم يوماً لوجود مصلحة فيه وعدم
قبوله انطباق الحكم يوماً لوجود مصلحة فيه
وعدم قبوله الانطباق يوماً آخر لتبدّل المصلحة
إلى أخرى توجب علماً آخر. را: الطباطبائي
(قده) ، محمد حسين، تفسير الميزان، مؤسسة
الأعلمي، بيروت، ط1، 1991م، ج1، ص69. وقا: مع
كتابنا، علوم القرآن عند الطباطبائي (قده) ،
جمعية القرآن للتوجيه والإرشاد، بيروت، ط1،
2013، ص233. فإذا كان المصداق ما ينطبق عليه
المفهوم، أو حقيقة الشيء الذي ينتزع منه
الصورة العقلية أو الذهنية، فإنّ معنى هذا أنّ
المصاديق تنزع انتزاعاً، ولا بدّ أن يدلّ
المفهوم على مصداقه، كما في دلالة مفهوم
الجهاد على مصاديق تختلف باختلاف الأحكام
والتحولات والمصالح، كدلالة مفهوم النسخ
مثلاً، أو الفرار إلى الله تعالى، الذي قيل إن
من مصاديقه حجّ بيت الله الحرام، ولعلّ
المصداق الأبرز لهذا المفهوم هو الفرار من
معصية الله تعالى إلى طاعته، وهناك أيضاً
مفاهيم لها دلالات مختلفة على مصاديقها،
كدلالة صدق الاسم وإن تغيّرت المصاديق، كما في
مثال السراج الذي هو آلة الاستضاءة في ظلمة
الليل الذي لم يزل ينتقل من مصداق إلى آخر حتى
استقرّ اليوم في السراج الكهربائي، ومثال
مصداق السلاح الذي استقر اليوم على المدافع
والطائرات. انظر كتابنا، علوم القرآن، م. س، ص
295.
[45] المظفر، المنطق، م.
س، ص63 ـ 64.
[46] انظر: الكتاب المقدس،
دار المشرق، بيروت، 1986م، العهد القديم
والعهد الجديد، رسالة بولس أهل رومية، تحية
وسلام 12/15. قوله تلك الإشارة التي سبق أن
وعد بها عن ألسنة أنبيائه في الكتب المقدسة.
ص464. ورا: رسائل بطرس الأولى والثانية. م. ع،
ص721، 735.
[47] إنّ البشرية منذ
النبي آدم (عليه السلام) وإلى يوم القيامة،
كانت وستبقى تعيش حقيقة وتجليات هذا الوعد
الإلهي لها. وإن أدنى تأمل في تاريخ الأديان
والرسالات السماوية يكشف عن أن هذا الوعد هو
للإنسان الذي سمع عن الله تعالى وعقل عنه،
باعتبار أنه وعد مشروط، ولا يكون كيفما اتفق،
كما زعم بعض الباحثين في تاريخ الأديان، من
خلال تسويغ النعمة الإلهية للإنسان التي تحتّم
برأي هؤلاء أن يكون الوعد وفقاً لهم في مستقبل
البشرية، وهذا ما نفاه القرآن، مؤكداً على
حتمية الوعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات.
[48] سورة يونس، الآية:
55.
[49] سورة طه، الآية: 115.
[50] العسكري، أبو هلال،
المعجم، م. س، ص379.
[51] سورة المائدة، الآية:
1، ومعنى الوفاء بالعقود، هو ما يتعاقد عليه
اثنان، وما يعاهد العبد ربّه عليه، أو يعاهده
ربّه على لسان رسوله .
[52] سورة البقرة، الآية:
40.
[53] المجلسي، محمد باقر،
بحار الأنوار، دار الوفاء، بيروت 1983، ج9، ص
311.
[54] سورة البقرة، الآية:
100.
[55] تفسير العسكري، م. س،
ص465.
[56] العياشي، مسعود بن
عياش السمرقندي، تفسير العياشي، (ت 320هـ)
تحقيق هاشم المحلاتي، طهران، المكتبة العلمية
الإسلامية، ج3، ص312.
[57] سورة النحل، الآية:
92.
[58] سورة يس، الآية: 60.
[59] سورة المائدة، الآية:
1.
[60] الطبري، ابن جرير،
جامع البيان، (ت 310)، توفيق جميل العطار، دار
الفكر، بيروت، 1425، ج6، ص63.
[61] الطوسي، التبيان في
تفسير القرآن، (ت 460هـ)، مكتب الإعلام
الإسلامي، ط1، 1409هـ، ج5، ص143.
[62] سورة التوبة، الآيات:
75 ـ 77.
[63] يقول الزمخشري في
الكشاف: «هم أخلفوا ما وعدوا الله من التصدق
والصلاح وكونهم كاذبين، ومنه جعل خلف الوعد
ثلث النفاق...». انظر: الزمخشري، أبي القاسم
جار ا« محمود بن عمر، دار الكتب العلمية،
بيروت، ط5،2009، ج2، ص283. وهنا تجدر الإشارة
إلى أنّ هذه الآية، وغيرها، كما في قوله
تعالى: ﴿
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ
مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ إذ حاول بعض الباحثين أن
يحرّر محل النزاع من خلال التعرض إلى مواطن
اتفاق بين الفقهاء، مشيراً إلى أن الوعد بشيء
محرّم لا يجوز الوفاء به إجماعاً، هذا أولاً:،
وثانياً: الوعد بشيء واجب على الواعد يجب
الوفاء به إجماعاً. وثالثاً: مَن وعد بأمر
مباح فلا خلاف أنه يستحب الوفاء به، لكن
السؤال هو: هل يجب الوفاء بوعد أمرٍ مباح، وهل
هو وجوب يُلزم به ديانة، وهل يمكن أن يلزم به
قضاءً؟ لقد اختلف العلماء بين قائل بوجوب
الوفاء بالوعد ـ بالمعروف ديانة على قولين:
الأول: أن الوفاء بالوعد مستحب وليس بواجب
ديانة، وهو قول الحنفية، والشافعية،
والحنابلة، والظاهرية، والمالكية، فيما إذا
كان الوعد مجرداً....!؟ انظر: القرطبي، الجامع
لاحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري، دار
إحياء التراث، بيروت، 1405هـ، ج18، ص80.
أما القول الثاني: فقد رأى أصحابه أن الوفاء
بالوعد واجب بحيث يحرم اخلافه بلا عذر، وهو
وجه عند الحنابلة اختاره غير واحد. انظر:
الجصاص، أحمد بن علي الرازي، أحكام القرآن،
دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، ص304.
إنّ عمدة الاستدلال هي في قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ
مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا
تَفْعَلُونَ ﴾،
حيث رأى بعض المفسرين كالشافعي في تفسيره أن
الآية تحتج على كل مَن لزم نفسه عقداً لزمه
الوفاء به، والوعد مما لزم الإنسان على نفسه
مع وجود الخلاف في الوجوب أو الاستحباب، كما
عند القرطبي، والجصاص في تفسيريهما. غاية
القول: إن الذين أوجبوا الوفاء بالوعد وجه
استدلالهم بالآية أن الواعد إذا وعد ثم خلف
فإنه قال قولاً ولم يفعل، فيلزم أن يكون وعده
كذباً، والكذب محرّم إجماعاً.
ومما استدلوا به أيضاً على الوجوب قوله تعالى:
﴿
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ
﴾،
فرأى بعض المفسرين أن الله تعالى: أمر بالوفاء
بكل من الوعد والعهد والعقد في جميع الآيات،
وقد حافظ الأنبياء على ذلك ودعوا إليه، وقد
مدحهم الله على ذلك بقوله تعالى: ﴿
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾، وقوله تعالى: ﴿
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ
إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ
... ﴾، في شريعة
الإسلام ما يؤكد على وجوب الوفاء بالعهد
والوعد، كما قال تعالى: ﴿
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
﴾ ،
وقوله تعالى: ﴿
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ
بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ
﴾،
وقد استنكر الله تعالى إخلافهم بالوعد، لأنّ
الصدقة واجبة، والكون من الصالحين واجب بسبب
الوعد والعهد الشبيه بالشرط.
يبقى أن نشير إلى رأي الإمامية، ونذكر منهم
الطباطبائي (قده) في الميزان، والطوسي (قده)،
والكاشاني (قده)، فهم يرون أن الخلف يوجب
المقت عند الله تعالى وعند الناس، وعن الصادق
(عليه السلام) عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة
له، وقال في المجمع والطبرسي، إنها نزلت في
المنافقين وهذا كاف للدلالة. وقال الطوسي
(قده) في التبيان: إنّ الله أطلق ذلك مع أنه
ليس كل قول يجب الوفاء به، لأنه من المعلوم
أنه لا عيب بترك الوفاء فيما ليس بواجب الوفاء
به، وإن الذمّ إنما يستحق بترك ما هو واجب أو
ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنذر والعهد.
وقال الطباطبائي (قده) : «إنّ مورد الآية فيه
توبيخ للمؤمنين، وظاهر الآية يُفيد مطلق تخلف
الفعل عن القول وخلف الوعد ونقض العهد، والأمر
كذلك لكونه مَن أثار مخالفة الظاهر للباطن وهو
النفاق، وكلنا يعلم أن الله وعد وأوعد
المنافقين بالعذاب الأليم خالدين فيه». هذه
جملة من المواقف التي ذهب إليها الفقهاء، ولا
حاجة بنا لمزيد من التفصيل لكون الغاية هي
التبصّر بالموقف من العهد والوعد والعقد.
[64] سورة التوبة، الآية:
77.
[65] سورة الإسراء، الآية:
34.
[66] الطباطبائي، الميزان،
م. س، ج9، ص35.
[67] سورة البقرة، الآية:
80.
[68] قال تعالى: ﴿
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ
الْمِيعَادَ ﴾، فهذا وعد قيمته في
كونه خبراً حتمي التحقق، لقوله تعالى: ﴿
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ﴾.
[69] أحمد الشربيني، شمس
الدين محمد، الإقناع في حلّ ألفاظ أبي شجاع،
(ت 960)، دار المعرفة، بيروت، ج2، ص256.
[70] سورة الحج، الآية:
29.
[71] الشربيني، م. ع،
ص257.
[72] سورة إبراهيم، الآية:
47.
[73] سورة مريم، الآية:
61.
[74] سورة الروم، الآية:
6.
[75] سورة البقرة، الآية:
80.
[76] سورة البقرة، الآية:
40.
[77] سورة البقرة، الآية:
124.
[78] سورة البقرة، الآية:
27.
[79] سورة آل عمران،
الآية: 76.
[80] سورة الأعراف، الآية:
102.
[81] سورة البقرة، الآية:
83.
[82] سورة آل عمران،
الآية: 81.
[83] سورة مريم، الآية:
61.
[84] سورة النور، الآية:
55.
[85] سورة ق، الآية: 20.
[86] سورة ق، الآية: 14.
[87] سورة المائدة، الآية:
9.
[88] سورة الأنبياء،
الآية: 104.
[89] سورة الحجر، الآيتان:
49 ـ 50.
[90] سورة البقرة، الآية:
40.
[91] سورة النور، الآية:
55.
[92] سورة التوبة، الآية:
72.
[93] سورة التوبة، الآية:
72.
[94] عارف، هنديجاني فرد،
الفوز العظيم والخسران المبين، جمعية القرآن
الكريم للتوجيه والإرشاد، بيروت.
[95] سورة الرعد، الآية:
11.
[96] الزركشي، بدر الدين
يزيد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، (ت
794هـ) تحقيق محمد إبراهيم، دار إحياء الكتب
العربية بالقاهرة ط1، 1376هـ ج1، ص18.
[97] الثعالبي، عبد
الرحمن، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، (ت
875)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1،
1418هـ، ج2، ص300.
[98] السيوطي، جلال الدين،
الدر المنثور، (ت 911هـ)، دار المعرفة، ط1،
ج4، ص51، 1365هـ.
[99] الطباطبائي، الميزان،
م. س، ج9، ص329.
[100] سورة الأنبياء،
الآية: 9.
[101] سورة الأحزاب،
الآية: 22.
[102] سورة غافر، الآية:
77.
[103] سورة الفتح،
الآيتان: 20 ـ 21.
[104] سورة محمد، الآية:
7.
[105] سورة طه، الآية:
86.
[106] سورة القمر، الآية:
46.
[107] سورة البقرة،
الآية: 40.
[108] سورة الأحزاب،
الآية: 12.
[109] سورة الروم، الآية:
60.
[110] سورة آل عمران،
الآية: 148.
[111] سورة النور، الآية:
55.
[112] سورة يونس، الآية:
55.
[113] سورة الزمر، الآية:
20.
[114] سورة إبراهيم،
الآية: 47.
[115] سورة القصص، الآية:
61.
[116] الكاشاني، الفيض،
تفسير الصافي، تحقيق الأعلمي، مؤسسة الهادي،
قم المقدسة، ط2، 1416، ج4، ص98.
[117] الطبرسي، مجمع
البيان، م. س، ج7، ص451.
[118] سورة التوبة،
الآية: 111.
[119] سورة النساء،
الآية: 95.
[120] سورة النساء،
الآية: 122.
[121] سورة التوبة،
الآية: 72.
[122] سورة الذاريات،
الآية: 5.
[123] سورة التوبة،
الآية: 39.
[124] سورة التوبة،
الآية: 68.
[125] سورة النساء،
الآية: 48.
[126] سورة محمد، الآية:
7.
[127] الكاشاني، الفيض،
تفسير الصافي، م. س، ج2، ص342.
[128] سورة التوبة،
الآية: 81.
[129] سورة الواقعة،
الآيتان: 93 ـ 94.
[130] الطباطبائي، محمد
حسين، تفسير الميزان (بتصرف)، م. س، ج10. ص72.
[131] تفسير الميزان: ج1،
ص77.
[132] يقول الشريف الرضي:
«ثم أخبر تعالى أنه يعذّب قاتل المؤمن والزاني
وآكل الربا وقاذف المحصنات وغيرهم من أهل
الكبائر، فعلمنا أن جميع هؤلاء ليس ممن يشاء
أن يغفر لهم ما ذكره تعالى أنه يعذّبهم عليه
من هذه الذنوب التي دون الشرك، إذ كان تعالى
قد أعلمنا أنه يعذبهم كما أعلمنا أنه يُعذّب
الكفار بعد قوله تعالى: ﴿
فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن
يَشَاءُ ﴾، فكان مَن يغفر لهم ما
دون ذلك هم أهل الصغائر الذين وعدهم غفرانها
باجتناب الكبائر في قوله تعالى: ﴿
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، فلم يجب لاشتراط
مشيئة الغفران لِمَا دون ذلك أن نشك في غفران
الصغائر لمجتنبي الكبائر، كما لم يجب أن نشك
في تعذيب أهل الكبائر التي هي دون الشرك
لاشتراط المشيئة في الغفران لهم. راجع: حقائق
التأويل في متشابه التنزيل، مؤسسة البعثة،
طهران، 1406هـ، ص495.
[133] سورة الأنبياء،
الآية: 90.
[134] سورة الحج، الآية:
77.
[135] الإمام علي (عليه
السلام) ، نهج البلاغة، م. س، قصار الحكم،
237.
[136] الكاشاني، الفيض،
تفسير الصافي، م. س، ج2، ص160.
[137] سورة الأنبياء،
الآية: 90.
[138] الشهيد الثاني، روض
الجنان (ت 966) مؤسسة آل البيت، 1404هـ، ص37.
[139] لقد بيّن السيد
الخوئي (رض)، في مبحث دواعي العبادة، أنّ
الداعي إليها، إمّا أن يكون هو الطمع في الأجر
والثواب، وإمّا أن يكون الداعي إلى العبادة هو
الخوف من العذاب، وإما أن يكون الداعي إليها
هو أن يعبد الله حبّاً لكونه تعالى أهلاً
للعبادة، كما قال الإمام علي (عليه السلام) ،
وقد أجاد في بحثه أنه لا يمكن القول ببطلان
عبادة من يعبد الله تعالى طمعاً أو خوفاً،
لأنّ عبادة سائر الناس منحسرة بالقسمين
الأولين، إذ لا يسعهم تحصيل عبادة الله بما هو
أهل لأن يُعبد، فهذه العبادة الأخيرة لا يسعنا
التصديق ببلوغها لغير المعصومين، وبذلك يظهر
بطلان قول من أبطل العبادة إذا كانت ناشئة من
خوف أو طمع، ووجه بطلان هذا القول أنه تكليف
بما لا يُطاق. ونحن في مبحثنا هذا سنلحظ هذا
المعنى، وقد لا نكون على توافق تام مع السيد
الخوئي، لأنّ ما عرض له من أدلة واستدل به من
آيات وأحاديث هو جاء في سياق الترغيب والترهيب
وكما سنرى في مبحثنا أنّ هذا مما يمكن اعتباره
مقدمات في الطمع والخوف لإحداث التحول
الإيماني والعبادي المطلوب، ولكن المناقشة
ليست هنا، وإنّما هي في صحة العبادة أو
بطلانها فيما لو اقتصرت العبادة على الخوف
والطمع. وهنا يكمن التساؤل الحقيقي، هل أن
القرآن والنبوة، وقبلهما ما فطرا عليه الإنسان
من توحيد يقتضيان من الإنسان أن يكون على خوف
وطمع، أم أنهما يدعوانه إلى التحول من خلالهما
ليكون على مستوى عبادة الله تعالى بما هو أهل
للعبادة؟؟؟ ولماذا لا يُقال: إن المعصوم هو
المصداق الأبرز لعبادة الأحرار بحيث لا يكون
الأمر تكليفاً بما لا يُطاق. وقد فُصِّل
الكلام في مصباح الفقاهة لجهة القول بصحة
العبادة لأجل الثواب ودفع العقاب، خلافاً لما
زعمه كثيرون من قول بفساد العبادة فيما لو لم
تأتِ خالصةً لله تعالى. ولهذا فإنّ مناقشة
السيّد الخوئي ليست فيما رآه من صحّة العبادة
على وجوهها المختلفة، سواء أكانت بداعي
التملّق والخضوع، أم بداعي الخوف، أم بداعي
التقرّب إلى الله وتحصيل رضاه، وإنّما
المناقشة فيما ذهب إليه السيّد الخوئي بقوله
كما في مصباح الفقاهة: «إنّ الغاية القصوى من
العبادة قد تكون هي الله فقط، من دون أن
يشوبها غرض دنيوي أو أخروي، وضروري أنّ هذا
النمط من الامتثال منحصرٌ في الأئمة (عليهم
السلام) ...». وهذا ما نرى أنه يحتاج إلى مزيد
تدبّر وعناية، فنقول: إنّ هذا النوع من
العبادة قد يتحصّل لغير المعصوم أيضاً لما
بيّنه القرآن عن المخلَصين، وعن كثير من
العباد الذين لم يتربّوا في بيئة النبوّة
كآسيا زوجة فرعون ﴿
إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً
فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ ﴾ فهي
عبّرت بالعنديّة التي لا تفيد الخوف والطمع
وإنّما الخلوص في العبادة لله تعالى، وهذه
مرتبة الشهداء والصالحين كما قال عزّ وجلّ: ﴿
أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾، وقوله جلّ وعلا: ﴿
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ﴾.
إذاً, خلوص العبادة بما هي خلوّ من القصد
والميل ليست منحصرة بالأئمة (عليهم السلام).
وهذه العبادة مثلما أنها تكون خالية عن القصد
والغرضيّة في الدنيا والآخرة عند الأئمة
(عليهم السلام)، يمكن أن تكون كذلك عند غير
الأئمة (عليهم السلام) باعتبار أنّ الخلوّ عن
القصد هو أيضاً متفاوت بين النبي والإمام وبين
الأئمة أنفسهم على نحو ما بيَّن الإمام زين
العابدين (عليه السلام) في بيان عبادته
بالقياس إلى عبادة جدّه أمير المؤمنين علي
(عليه السلام) . وقد ألمح السيّد الخوئي إلى
هذا المعنى فيما اعتبره خالياً من عبادة
الأغراض في مرتبة المختصّين بمعرفة الله
والسالكين إليه وهم قلّة كسلمان والمقداد وأبي
ذرّ وغيرهم من السابقين السابقين، وهذا الكلام
برأينا يتنافى مع القول بانحصار العبادة
الخالية عن القصد بالأئمة المعصومين (عليهم
السلام). ثمّ إننا لا ندري لماذا ذهب السيّد
الخوئي إلى القول بحصرية العبادة رغم تقسيمها
إلى مراتب في سياق التأكيد على صحّة العبادة
لله فيما لو أتت بداعي الخوف أو الطمع، بل
ندري إنّ السيّد الخوئي يريد أن يُظهر المعصوم
(عليه السلام) مرتبة من العبادة لا يشاركه
فيها أحد، وهذا ما نرى أنه متوقف علمه على
الله تعالى، وقد قال النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم): إنّ لله عباداً يغبطهم الأنبياء
يوم القيامة، هذا فضلاً عمّا أظهرته تجارب
الإسلام من تجلّيات عبادية وخاصة في كربلاء مع
أولئك الأنصار الذين أبوا أن يتركوا الإمام
الحسين (عليه السلام) بعد أن صنعهم الإمام على
عينه، واختاروا الموت والشهادة حبّاً للحسين
وخلوصاً في العبادة لله بعيداً عن أيّ غرض أو
مطمع سواء في الدنيا أم في الآخرة...». لقد
أردنا توجيه الكلام في معنى العبادة لنظهر أن
مقولة الحصر في العبادة قد تكون غير مستقيمة
في كلام السيّد، لأنّ العبادة الخالية عن
القصدية والغرضيّة قد تحقّق في غير المعصوم
أيضاً، ومثلما أنّ هذه العبادة تتفاوت بين
نبيٍّ ونبيّ وبين إمامٍ وإمام، فهي تتفاوت
أيضاً بين البشر وتكون لها مرتبة العبادة
الخالصة عن أغراض الدنيا والآخرة التي سمّاها
الإمام بعبادة الأحرار. وعليه، فإنّ السيّد
الخوئي قد بيَّن في مطلبه صحّة العبادة
بدواعيها المختلفة، ولكنّه حصر عبادة الأحرار
بالمعصومين خلافاً لظاهر آيات المُخْلَصين
المبنيّة أساساً على أدلّة العقل. وبما أن
دليل العقل لا يمنع من إطلاق العبادة فقد يصحّ
القول بأنّ العبادة تأتي خالصةً عند غير
المعصوم أيضاً والله أعلم.
انظر السيد الخوئي، أبو القاسم، البيان في
تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط3،
1974، ص477.
[140] الطباطبائي، تفسير
الميزان، م. س، ج12، ص176.
[141] سورة الانفطار،
الآيتان: 13 ـ 14.
[142] الشربيني، الخطيب،
مغني المحتاج (ت 977هـ)، دار إحياء التراث
العربي، ط1958م، ج1، ص331.
[143] سورة الفاتحة،
الآية: 4.
[144] الطبرسي، مجمع
البيان، م. س، ج1، ص61.
[145] سورة محمد، الآية:
15.
[146] سورة محمد، الآية:
15.
[147] سورة الحج، الآية:
19.
[148] سورة التوبة،
الآية: 21.
[149] سورة الانشقاق،
الآية: 6.
[150] المشهدي القمي،
الميرزا محمد، تفسير كنز الدقائق (ت 1125)،
تحقيق مجتبى العراقي، قم، مؤسسة النشر
الإسلامي، ط2، 1407هـ، ج1، ص175.
[151] سورة الزمر، الآية:
36.
[152] سورة طه، الآية:
82.
[153] سُئل الإمام علي
(عليه السلام) عن الإيمان فقال: الإيمان على
أربع دعائم: على الصبر واليقين، والعدل
والجهاد. فالصبر منها على أربع شعب: على الشوق
والشفق والزهد والترقب، واليقين على أربع شعب:
على تبصرة الفتنة، وتأوّل الحكمة، وموعظة
العبرة، وسنة الأولين. والعدل على أربع شعب:
على غائص الفهم، وغور العلم، وزهرة الحكم،
ورساخة الحلم. والجهاد منها على أربع شعب: على
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في
المواطن، وشنآن الفاسقين...
ولا شكّ في أن الإمام (عليه السلام) يُعطي
تعريفات لهذه الشعب وهي تفيد بأن الإنسان لا
تستقر حاله ولا يتوازن في حركته الإيمانية
والعقلية فيما لو استغرقه الوعد والوعيد، بل
لا بدّ من إثارة دفائن العقل ليتعاضدا معاً،
ويؤدّيا بالإنسان إلى أن يكون عبداً لله تعالى
في صيرورة تحولاته من الدنيا إلى الآخرة،
والذي يجمع هذا الشعب جميعاً هو ما عبّر عنه
القرآن بقوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ
إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾ ، وما لم تثر
دفائن العقل فلن تنفعه مقدمات عقلية ولا
تبليغات شرعية، وهذا ما جاء الأنبياء لتحقيقه
وإخراج الإنسان من الظلمات إلى النور، ومن نور
الفطرة والتوحيد إلى البرهان والاستدلال، كما
قال تعالى: ﴿
وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم
مُّلَاقُوهُ ﴾ (البقرة: 223)، وغير ذلك من
الآيات التي نلاحظ أن الوعيد تضمنها كلفظ
العلم، والإحاطة، والقدرة، والكتابة، ونحو ذلك
من الألفاظ التي تدلّ على أن الله سبحانه
يطّلع على أفعال عباده ولا يخفى عليه خافية،
كما في قوله تعالى: ﴿
وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ﴾، ونحو قوله عزّ وجلّ: ﴿
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ .
[154] نهج البلاغة، م. س.
الكتاب: 45.
[155] سورة الواقعة،
الآيتان: 10 ـ 11.
[156] سورة آل عمران،
الآية: 18.
[157] سورة البقرة،
الآية: 21.
[158] المشهدي القمي،
الميرزا محمد، تفسير كنز الدقائق، م. س، ج1،
ص175.
[159] الصدوق، أبي جعفر
محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، (ت: 381هـ)،
كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة الأعلمي،
بيروت، ط1، 1991، ص16.
[160] ابن كثير، أبي
الفداء إسماعيل القرشي الدمشقي، تفسير القرآن
العظيم، (ت: 774هـ)، دار المعرفة، بيروت،
(1412هـ)، ج2، ص192.
[161] سورة الأنعام،
الآية: 165.
[162] الطبري، محمد بن
جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (ت:
310هـ) توثيق صدقي العطار، دار الفكر، بيروت،
(ط، 1415هـ)، ج224، ص63.
[163] سورة الحجر، الآية:
75.
[164] الإمام علي (عليه
السلام) ، نهج البلاغة، م. س، الخطبة 37.
[165] سورة الأنعام،
الآية: 46.
[166] الطريحي، فخر
الدين، تفسير غريب القرآن الكريم، (ت: 1085هـ)
تحقيق كاظم الطريحي، قم، ص385.
[167] يرى العلامة مغنية،
أن الإمامية كما آمنوا بالعقل وأحكامه، آمنوا
بالقاعدة التي تقول: «السمعيات ألطاف في
العقليات، أي أن الأحكام العقلية وحدها لا
تقرّب العباد من طاعة الله، وتبعد به عن
معصيته تعالى، لأن العقل في الأكثر الأغلب
تطغى عليه الأهواء، ولا يطاع له حكم، فاحتاج
إلى مَن يؤازره بالتأكيد والتوكيد تارة،
وبالوعد والوعيد تارة أخرى، فكان الدين مع
شريعته هو هذا المؤازر والمناصر، وبيانه الحجة
الكافية، بالإضافة إلى أن العقل لا يدرك كل
الأحكام...
انظر: مغنية، محمد جواد، علم الأصول في ثوبه
الجديد، م. س، ص261. وقا: مع المظفر، محمد
رضا، أصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2،
1990، ط1، ص206.
[168] سورة إبراهيم،
الآية: 7.
[169] الطباطبائي،
الميزان، م، س، ج12، ص23.
[170] سورة الحجر،
الآيتان: 39 ـ 40.
[171] الكاشاني، الفيض،
تفسير الصافي، م. س، ج3، ص13.
[172] الطبرسي، مجمع
البيان، م. س، ج5، ص388.
[173] الطوسي، أبي جعفر
محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، م.
س، ج6، ص12.
[174] الحويزي، عبد علي
بن جمعة، تفسير نور الثقلين، (ت 1112هـ)،
تحقيق المحلاتي، مؤسسة إسماعيليان، قم، ط4،
1412هـ، ج3، ص15.
[175] إن الله تعالى فيما
دعا إليه من تدبر ونظر وتوسم في الأشياء، إنما
وهب الإنسان العقل لإعماله في طريق الكدح إلى
الله لتحقيق الكمال وبلوغ الرضوان، وهذا ما
أردنا تبيانه في هذا المبحث للتأكيد على أنه
ليس من معاني الوعد والوعيد، إفادة حكمة
الموازنة في النفس وحسب، وإنما هو بالإضافة
إلى ذلك أسلوباً قرآنياً هادفاً إلى تجاوز
أمراض الطمع والخوف إلى حق العبودية لله
تعالى.
[176] يقول الإمام علي
(عليه السلام) : «الدنيا دار صدق لمن عرفها
ومضمار الخلاص لمن تزود منها فهي مهبط وحي
الله ومتجر أوليائه، اتجروا: تربحوا الجنة».
را: الشيخ المفيد، الإرشاد، محمد بن النعمان،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط3، 1979م، ص157.
[177] سورة الجاثية،
الآية: 30.
[178] سورة الصافات،
الآية: 106.
[179] سورة المؤمنون،
الآية: 115.
[180] سورة البقرة،
الآية: 30.
[181] الصدر، محمد باقر،
الإسلام يقود الحياة، دار التعارف، بيروت،
1990م، ص129.
[182] الصدر، محمد باقر،
الإسلام يقود الحياة،م. س، ص123
[183] سورة الاحزاب،
الآية: 72.
[184] سورة الأحزاب،
الآية: 72.
[185] سورة ص، الآية: 26.
[186] سورة البقرة،
الآية: 38.
[187] سورة طه، الآية:
50.
[188] سورة البقرة،
الآية: 120.
[189] الطباطبائي، تفسير
الميزان، م. س، ص90.
[190] اليزدي، محمد تقي
المصباح، معارف القرآن، الدار الإسلامية،
بيروت، ط1، 1989م، ج4، ص16. يقول اليزدي: «إنّ
الهداية التشريعية بواسطة الوحي والنبوة هي
جزء من تقدير خلق الإنسان، ولا يمكن إسكانه في
الأرض من دونها، لأن ذلك خلاف الحكمة الإلهية.
[191] سورة الأنفال،
الآية: 24.
[192] قـال الله تعالى: ﴿
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِي
الْأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ
﴾ (البقرة: 11 ـ 12).
[193] سورة النور، الآية:
55.
[194] سورة الرعد، الآية:
11.
[195] إنّ الله تعالى وضع
للإنسان قانون تكامله من خلال خط آخر وضع إلى
جانب الخلافة وهو خطّ الشهادة الذي يمثّل
القيادة الربانية والتوجيه الربّاني على
الأرض. انظر: الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود
الحياة، م. س، ص127.
[196] سورة الأنفال،
الآية: 7.
[197] القرطبي، تفسير
القرآن، م. س، ج7، ص368.
[198] سورة الحج، الآية:
27.
[199] سورة التوبة،
الآية: 3.
[200] الطباطبائي، تفسير
الميزان، م. س، ج8، ص141، أقول في معنى كلام
الطباطبائي، إنّ الحجّة التي لزمتني في
التشريع، تلزمني في التكوين، فإذا كان الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) قد اختار من اختار
للبراءة من المشركين، فهل يتبدّل الاختيار يوم
القيامة، وقد قال الله تعالى: ﴿
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ﴾ ، وهو لا يتبدّل لا في
التكوين ولا في التشريع فيكون علي (عليه
السلام) هو المنادي لكونه اختير في التشريع
لهذا الأمر من لدن حكيم خبير. والله أعلم
بحقائق الأمور.
[201] سورة البقرة،
الآية: 256.
[202] قال الله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
(الحجرات: 13).
[203] يقول اليزدي: «إنّ
آدم (عليه السلام) حين هبط إلى الأرض، فقد
أوحى إليه بوجوب التسليم للهداية عندما تأتيه
من قبل الله تعالى....». را: اليزدي، محمد تقي
المصباح، معارف القرآن، تعريب الخاقاني، الدار
الإسلامية، بيروت، ط1، 1989م، ج4، ص15.
[204] سورة النور، الآية:
55.
[205] ﴿
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ (آل
عمران: 110).
[206] قال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن
تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ ﴾ (محمد: 7).
[207] انظر: عارف،
هنديجاني فرد، المترفون وصناعة الفساد، جمعية
القرآن الكريم، بيروت، ط1، 21، ص95.
[208] سورة الأحزاب،
الآية: 62.
[209] الصدر، محمد باقر،
السنن التاريخية في القرآن، دار التعارف،
بيروت، ط1، 1989، ص70 ـ 73.
[210] سورة القصص، الآية:
5.
[211] سورة الأنبياء،
الآية: 105.
[212] سورة الأنبياء،
الآيتان: 106 ـ 107.
[213] سورة الأحزاب،
الآية: 22.
[214] سورة الأنفال،
الآية: 70.
[215] محمد جعفر شمس
الدين، في ظلال سورة الأنفال، دار التعارف،
بيروت، ط1، 1982، ص193.
[216] سورة الأنبياء،
الآية: 105.
[217] سورة الأنفال،
الآية: 62.
[218] شمس الدين، في ظلال
سورة الأنفال، م. س، ص124.
[219] سورة القمر، الآية:
10.
[220] يقول الشريف الرضي
في معنى النصر: «إنّ النصرة قد تكون بالحجة
إذا ظهرت للمؤمن على عدوه عند المنازعة، وقد
تكون بما يحصل له من التعظيم والكرامة... وقد
تكون في الحرب بالغلبة، وقد تكون بتحمّل
المشقة فيما يؤدّي إلى الأجر والمثوبة، فلذلك
قلنا: إن المؤمنين إذا غلبوا في الدنيا لم
يخرج الكفار من أن يكونوا مخذولين من حيث كان
ما فعلوه مؤدّياً إلى عظيم النكال، وأليم
العقاب... والله تعالى يؤيّد المؤمنين في حروب
الأعداء وينصرهم وبضروب الألطاف.. انظر: حقائق
التأويل في متشابه التنزيل، مؤسسة البعثة،
طهران، 1406هـ، ص167.
[221] قال الله تعالى: ﴿
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَاْ
وَرُسُلِي ﴾ (المجادلة: 21)، والآية
تبشّر كما يرى الطبرسي والطوسي والكاشاني، أن
الغلبة إنما تكون بالحجة، إن الله قويّ على
نصر أنبيائه، كما أن مفاد الجمع هو أن
الأنبياء أمة واحدة، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ فالغلبة ليست ناظرة إلى
مرحلة من المراحل، وإنما معناه التأكيد على
حقيقة الانتصار وحتميته في التاريخ والحياة.
[222] سورة إبراهيم،
الآية: 47.
[223] را: القرطبي، أبو
عبد الله الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، م.
س، ج7، ص369.وقا: مع السيوطي، جلال الدين
المحلى، تفسير الجلالين، م. س، ج1، ص228.
[224] الشوكاني، فتح
القدير، م. س، ج2، ص288.
[225] قال الله تعالى: ﴿
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ
اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ
لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا ﴾
(التوبة: 40).
[226] قال الله تعالى: ﴿
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ
إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ
لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا
تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ... ﴾ (إبراهيم: 22).
[227] سورة هود، الآية:
18.
[228] سورة غافر، الآية:
51.
[229] سورة الأنفال،
الآيتان: 7 ـ 8.
[230] سورة الفتح،
الآيتان: 20 ـ 21.
[231] سورة هود، الآية:
81.
[232] ابن هشام، السيرة
النبوية، مؤسسة الرسالة، الكويت، ط1، 1984م،
ص29، وما بعدها.
[233] السبحاني، جعفر،
سيد المرسلين، دار البيان العربي، بيروت، ط1،
1992، ج2، ص512.
[234] سورة غافر، الآية:
51.
[235] سورة الفتح، الآية:
20.
[236] سورة يونس،
الآيتان: 102 ـ 103.
[237] سورة الصافات،
الآيات: 171 ـ 173.
[238] الطبري، جامع
البيان، م. س، ج24، ص92 ـ 95.
[239] ابن الجوزي، زاد
المسير في علم التفسير، م، س، ج7، ص46.
[240] سورة الفتح، الآية:
24.
[241] سورة الفتح، الآية:
22.
[242] سورة الأحزاب،
الآية: 27. إنّ مفاد القدرة هنا هي أن الله
تعالى قد أحاط بها وهو قادر على ذلك، وقد رأى
بعضهم أن الآية تتضمّن معجزة في الوعد، ونحن
نرى تحققاً للوعد جاء من داخل الإنسان الذي
هزمه الرعب، وهذا سلاح غالباً ما يتنكّر له
المؤرخون في بحوثهم الإسلامية، وهو أمر من
الجهل بمكان، تأمّل.
[243] انظر: المحقق
البحراني، الحدائق الناضرة، تحقيق الأيرواني،
قم، ج8، (ت 1186) ، ص512. وقا: مع الهمداني،
أحمد الرحماني، الإمام علي (عليه السلام) ،
طهران، ط1، 1417، ص47.
[244] يقول أصحاب السيَر،
وهذا ما ينقله البخاري في صحيحه أن الرسول(صلى
الله عليه وآله وسلم) يوم بدر قال: اللهم
أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد...».
نعقّب فنقول: يجب الالتفات إلى العهد والوعد
في دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فهو عهد ووعد بينه وبين الله تعالى ولا معنى
لقول القائل أن من كان بحضرة الرسول(صلى الله
عليه وآله وسلم) قد صحّ منه العهد والوعد
جميعاً؛ فتأمّل. را: البخاري، محمد بن إسماعيل
(ت 556هـ)، دار الفكر، بيروت، طبعة بالأوفست
عن دار الطباعة العامرة باستانبول، 1251هـ،
ج5، ص5.
[245] سورة التوبة،
الآية: 39.
[246] الصدر، محمد باقر،
السنن التاريخية، م. س، ص52.
[247] انظر: السبحاني،
جعفر، سيرة سيد المرسلين، م. س، ج2، ص288.
وقا: مع سيرة ابن هشام، مؤسسة الرسالة، م. س،
ص282.
[248] سورة الأنفال،
الآية: 42.
[249] سورة الفتح، الآية:
20.
[250] سورة الفتح، الآية:
22.
[251] قطب، محمد، كيف
نكتب التاريخ، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1992،
ص95.