يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ
اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا
نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ
الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ
هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن
طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ
مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ
سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ
لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا
الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ
كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ
قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ
وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
(12).
سورة التحريم مدنية
وعدد آياتها اثنتا عشرة آية
ورد في حديث عن رسول الله (ص) أنه
قال: «من قرأ سورة يا أيّها النبي لِمَ تحرّم ما أحلّ الله لك
أعطاه الله توبة نصوحاً»
(4)
وفي حديث عن الصادق (ع) قال: «من
قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم
القيامة ممن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله الله الجنّة
بتلاوته إياهما ومحافظته عليهما لأنهما للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم»
(5)
(4) - مجمع البيان: ج
10/ ص 311
(5) - (ثواب الأعمال)
ج5/ص 367
تحتوي هذه السورة أربعة أقسام
رئيسية:
الأول: يرتبط بقصة الرسول (ص) مع
بعض أزواجه حينما حرّم بعض الطعام عن نفسه.
الثاني: وهو خطاب لكل المؤمنين في
شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب.
الثالث: يتضمن خطاباً الى الرسول
(ص) بضرورة مجاهدة الكفار والمنافقين.
الرابع: ويتضمن توضيحاً للأقسام
السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء، وهما (مريم العذراء، وزوجة
فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح، وزوجة لوط) ويحذر نساء
النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهن الى الاقتداء بالنموذجين
الأولين.
نسأله سبحانه أن يجعلنا من صالح
المؤمنين.
والحمد لله رب العالمين
تحرّم: الحرام القبيح الممنوع منه
بالنهي ونقيضه الحلال وهو الحسن المطلق بالإذن فيه والتحريم تبيين
أن الشيء الحرام لا يجوز والتحريم إيجاب المنع.
تبتغي: الابتغاء الطلب ومنه طلب
الاستعلاء بغير الحق.
تحلّة: تحلّة اليمين فعل ما يسقط
التبعة فيه.
أيمانكم: واحدة اليمين وهو الحلف.
أسرَّ: الإسرار القاء المعنى الى
نفس المحدث على وجه الاخفاء عن غيره.
تظاهرا: التظاهر التعاون والظهير
المعين واصله من الظهر.
سائحات: السائح الجاري والعرب تصف
بذلك الماء الجاري الدائم الجرية ثم تصف به الرجل الذي يضرب في
الأرض ويقطع البلاد.
ثيبات: الثيب الراجعة من عند الزوج
بعد الافتضاض.
أبكاراً: البكر هي التي على أول
حالها قبل الافتضاض.
توبة نصوحاً: التوبة النصوح ما يصرف
صاحبه عن العود الى المعصية أو ما يخلص العبد للرجوع عن الذنب فلا
يرجع الى ما تاب منه.
جاهد: الجهاد بذل لجهد في إصلاح
الأمر من جهتهم، ودفع شرهم.
فخانتاهما: الخيانة مخالفة الحق
بنقض العهد في السر.
وردت روايات عديدة في أسباب نزول
هذه السورة في كتب الحديث والتفسير والتاريخ، عن الشيعة والسنة،
انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي: أن رسول الله (ص) كان يذهب
أحياناً الى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتى تأتي إليه
بعسل كانت قد هيأته له (ص) ولكن لما سمعت عائشة بذلك شق عليها
الأمر، ولذا قالت: إنها قد اتفقت مع «حفصة» إحدى (أزواج الرسول)
على أن يسألا الرسول بمجرد أن يتقرب من أي منهما بأنه هل تناول صمغ
«المغافير» (وهو نوع من الصمغ يترشح من بعض أشجار الحجاز يسمى
«عرفط» ويترك رائحة غير طيبة، علماً أن الرسول كان يصر على أن تكون
رائحته طيبة دائماً، وفعلاً سألت حفصة الرسول (ص) هذا السؤال يوماً
وردّ الرسول بأنه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنه تناول عسلاً عند
زينب بنت جحش، ولهذا أقسم بأنه سوف لن يتناول ذلك العسل مرةً أخرى،
خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذت على شجر صمغ «المغافير»
وحذرها أن تنقل ذلك الى أحد لكي لا يشيع بين الناس أن الرسول قد
حرم على نفسه طعاماً حلالاً فيقتدون بالرسول ويحرمونه أو ما يشبهه
على أنفسهم، أو خوفاً من أن من أن تسمع زينب وينكر قلبها وتتألم
لذلك.
ولكنها أفشت السر فتبين أخيراً أن
القصة كانت مدروسة ومعدة، فتألم الرسول (ص) لذلك كثيراً فنزلت عليه
الآيات السابقة لتوضح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرة أخرى في بيت
رسول الله (ص).
(6)
وجاء في بعض الروايات أن الرسول
ابتعد عن زوجاته لمدة شهر بعد هذا الحادث، انتشرت على أثرها شائعة
أن الرسول عازم على طلاق زوجاته، الأمر الذي أدى الى كثرة المخاوف
بينهن وندمن بعدها على فعلهن.
(6) - البخاري ج 6/ص
194، والتوضيحات التي ذكرت في الأقواس تستفاد من كتب أخرى.
{يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(١)
ناداه سبحانه بهذا النداء تشريفاً
له وتعليماً لعباده كيف يخاطبونه أثناء محاوراتهم ويذكرونه خلال
كلامهم، وهو خطاب مشوب بعتاب لتحريمه (ص) لنفسه بعض ما أحل الله له
من الملاذ، تطلب به رضاء نسائك وهن أحق بطلب مرضاتك منك وليس في
هذا دلالة على وقوع ذنب منه صغيراً أو كبيراً لأن تحريم الرجل بعض
نسائه أو بعض الملاذ لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح ولا داخلاً في
جملة الذنوب ولا يمتنع أن يكون خرج هذا القول مخرج التوجع له (ص)
إذا بالغ في إرضاء ازواجه وتحمل من ذلك المشقة (والله غفور) لعباده
(رحيم) بهم إذا رجعوا الى ما هو الأولى والأليق بالتقوى يرجع لهم
الى التولي.
{قَدْ فَرَضَ
اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (٢)
يعني قد قدّر الله لكم تحليل
أيمانكم بالكفّارة، والله وليكم الذي يتولى تدبير أموركم بالتشريع
والهداية وهو العليم الحكيم. وفي الاية دلالة على أن النبي (ص) كان
قد حلف على الترك، وأمر له بتحلة يمينه.
{وَإِذْ
أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا
نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ
وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ
أَنْبَأَكَ
هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ} (٣)
معناه وإذ أفضى النبي الى بعض
أزواجه "وهي حفصة" حديثاً وأوصاها بكتمانه فلما أخبرت به غيرها
وأفشت السر خلافاً لما أوصاها به، وأعلم الله النبي (ص) أنها أنبأت
به غيرها، فلما خبرها النبي (ص) بالحديث قالت للنبي (ص) من أنبأك
وأخبرك أني نبأت به غيري وأفشيت السرّ ؟ قال النبي (ص): نبأني
وخبرني العليم الخبير، وهو الله العليم بالسر والعلانية الخبير
بالسرائر.
{إِنْ
تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ
تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ
وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
(٤)
ثم خاطب سبحانه حفصة وغيرها (إن
تتوبا الى الله) من التعاون على النبي (ص) بالايذاء والتظاهر عليه
فقد حق عليكما التوبة ووجب عليكم الرجوع الى الحق فقد مالت
(قلوبكم) الى الاثم وإن تتعاونا على النبي (ص) بالايذاء (فإن الله
هو) الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته (وجبريل) أيضاً معين له وناصره
ويحفظه وخيار المؤمنين كذلك والمراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين
علي (ع) (والملائكة بعد) الله وجبريل وصالح المؤمنين أعوان للنبي
(ص).
{عَسَى
رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا
مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ
عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (٥)
أي واجب من الله ربه يا معشر أزواج
النبي (ص) (أن يبدله أزواج) أصلح له منكن، ثم نعت تلك الأزواج أنهن
مستسلمات لما أمر الله به مصدقات لله ورسوله (ص) مستحقات للثواب
والتعظيم مطيعات لله تعالى ولأزواجهنّ (تائبات) عن الذنوب (عابدات)
لله تعالى ماضيات في طاعت الله سبحانه (ثيبات) وعذارى لم يكن لهن
أزواج.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (٦)
لمّا أدب سبحانه نساء النبي (ص) أمر
بعد ذلك المؤمنين بتأديب نسائهم مخاطباً لهم (يا ايها الذين آمنو)
احفظوا وامنعوا انفسكم واهليكم النار بالصبر على طاعة الله وعن
معصيته وعن اتباع الشهوات وقوا أهليكم النار بدعائهم الى الطاعة
وتعليمهم الفرائض ونهيهم عن القبائح وحثهم على أفعال الخير.
وعلموا بأن حطب تلك النار الناس
وحجارة الكبريت وهي تزيد في قوة النار (عليها ملائكة غلاظ) القلوب
لا يرحمون أهل النار أقوياء يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم، لا
يخالفون الله في أوامره ونواهيه ويفعلون ما يأمرهم به في دار
الدنيا لأن الآخرة ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء وانما أمرهم
الله تعالى بتعذيب أهل النار على وجه الثواب لهم بأن جعل سرورهم
ولذاتهم في تعذيب أهل النار كما جعل سرور المؤمنين ولذاتهم في
الجنة.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (٧)
معناه أنهم إذا عذّبوا يأخذون في
الاعتذار فلا يلتفت الى معاذيرهم ويقال لهم لا تعتذروا اليوم فهذا
جزاء فعلكم.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (٨)
عاد سبحانه الى خطاب المؤمنين في
دار التكليف فقال (يا ايها الذين آمنو) ارجعوا الى طاعة خالصة لوجه
الله (عسى ربكم أن) يحط سيئاتكم عنكم ويدخلكم الجنة فلا يعذبهم
الله بدخول النار ولا يذلّهم بذلك بل يعزّهم بإدخالهم الجنة،
(نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) أي يتولد غداً من البذل والجهاد
لوجه الله والحق نور يشع بين يدي الباذل المجاهد وعن يمينه وشماله
تماماً كما تتولد الكهرباء من آلاتها ومفاعلها (يقولون ربنا اتمم
لنا نورن) وذلك بأن توفقنا للطاعة التي هي سبب النور، واستر علينا
معاصينا ولا تهلكنا بها.
{يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
(٩)
خاطب سبحانه النبي بأن (جاهد
الكفار) بالقتال والحرب (والمنافقين) بالقول الرادع عن القبيح لا
بالحرب إلاّ أن فيه بذل المجهود فلذلك سمّاه جهاداً، واشدد عليهم
من غير محاباة ومآل الكفار والمنافقين (جهنم وبئس) المآل والمستقر.
{ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ
لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
وَقِيلَ
ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}
(١٠)
ضرب الله سبحانه المثل لأزواج النبي
(ص) حثاً لهن على الطاعة وبياناً لهن أن مصاحبة الرسول (ص) مع
مخالفته لا تنفعهن فقال (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوحٍ
وامرأت لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادن) أي نبيين من أنبيائنا
(صالحين فخانتاهم) فإمرأة نوحٍ كانت كافرة تقول للناس أنه مجنون
وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به وكانت امرأة لوط
تدل على أضيافه فكان ذلك خيانتهما وما بغت امرأة نبي قط وإنما كانت
خيانتهما في الدين، ولم يغن نوح ولوط مع نبوتهما عن امرأتيهما من
عذاب الله شيئاً ويقال لها يوم القيامة (ادخلا النار مع الداخلين)
وقيل اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط واهلة.
{وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ
قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} (١١)
ثم ضرب سبحانه (مثلاً للذين آمنوا
امرأة فرعون) وهي آسية بنت مزاحم قيل أنها لما عاينت المعجزة من
عصا موسى (ع) وغلبته السحرة أسلمت فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها
فأبت فأوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس ثم أمر أن
يلقى عليها صخرة فلما قرب أجلها (قالت رب ابن لي عندك بيتاً في
الجنة) فرفعها الله تعالى الى الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب (ونجّني
من فرعون) ودينه (ونجّني من القوم الظالمين) التابعين لفرعون من
أهل مصر.
{وَمَرْيَمَ
ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ
مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (١٢)
أي ومريم التي منعت فرجها من دنس
المعصية وعفت عن الحرام فنفخ جبرائيل بأمرنا في جيبها من روحنا
(وصدقت) بما تكلم الله تعالى وأوحاه الى أنبيائه وملائكته وبكتب
الله المنزلة على انبيائه مثل التوراة والانجيل ومن وحّد، وكانت من
المطيعين لله سبحانه والدائمين على طاعته.
وأخيراً ورد عن النبي (ص) أنه قال:
كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع آسية بنت مزاحم
امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد
(ص).
وردت في الآية الخامسة من السورة
مجموعة صفات لزوجات النبي (ص) وهذه الصفات في الحقيقة هي صفات
نبيلة ومطلوبة لكل مؤمن ومؤمنة، وهي صفات ستة:
أولاً: الإسلام
الانطلاقة الأولى للانسان الملتزم
ينبغي أن تبدأ بالاذعان بالله تبارك وتعالى ورسوله وهو ما يبرز من
خلال الشهادتين وبها يدخل الانسان في دائرة الاسلام، وإن كان جوهر
الاسلام هو التسليم والانقياد المطلق لله تبارك وتعالى والخضوع له
في كل صغيرة وكبيرة من قصايا الحياة، ولذا فإن أول من أطلق هذا
المصطلح هو النبي ابراهيم (ع): «ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم
المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء
على الناس...»
(7) وقد ورد ذكر الاسلام
والمسلمين أكثر من خمسين مرة في القرآن الكريم.
(7) - الحج / 78
ثانياً: الإيمان
والايمان في المفهوم القرآني هو
تجسيد الاسلام وبلورته في العمل ويقرن كثيراً في القرآن الكريم
بالعمل الصالح وقد ورد ذكر الايمان والمؤمن ما يقرب من (500 مرة)
في القرآن الكريم أي عشرة أضعاف (الاسلام والمسلمين) كما سميت سورة
مستقلة باسم «المؤمنون».
ثالثاً: القنوت
القنوت هو الطاعة والخضوع لله تعالى
ولرسوله (ص) خضوعاً تاماً، وقد ورد في القرآن الكريم ذكر القنوت
ومشتقاته (13 مرة)، نعت سبحانه به النبي ابراهيم (ع) قال تعالى:
{إن ابراهيم
كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين}
(8)
وقد يستفاد من بعض الآيات القرآنية
أن القنوت هو الخضوع الذي تلازمه المعرفة والعرفان بالله تبارك
وتعالى كما في قوله تعالى: «أمّن هو قانت إناء الليل ساجداً
وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه قل هل يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب»
(9)
(8) - النحل: 120
(9) - الزمر: 9
رابعاً: الجهوزية التامة لتدارك
الفرص والأخطاء
من صفات الانسان المؤمن هو اتصافه
بصفة المرونة والتجاوب ويقظة الضمير والوجدان، والرقابة الذاتية
التي يعبر عنها في المصطلح القرآني ب «التوبة»، أي الرجوع والاقلاع
عن الذنب والسعي لتداركه، و «التوبة النصوح» هو ان يقلع عن الذنب
في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على الاّ يفعل
في المستقبل، وتترتب على توبة العبد توبة من الله تبارك وتعالى
بالمغفرة لما سبق له من الذنب «الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك
أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم»
(10) وقد ورد ذكر التوبة
ومشتقاته (86 مرة) في القرآن الكريم.
(10) - البقرة: 160
- التوبة ودورها في تكفير الذنب
إن الانسان العادي بلغ ما بلغ من
الحصانة الذاتية لا تخلو حياته أو بعض أيام حياته من الزلات
والأخطاء، سيّما إذا نظرنا الى الغرائز التي تحكم الانسان
وتصرفاته، وطبيعته الميالة الى ما تشتهيه النفس، من هنا، وشفقة
بالعباد فتح الله تعالى لهم باباً للخروج من دائرة المعصية والرجوع
الى حالة الطهر والايمان: «إن الله يحب التوابين ويحبّ المتطهرين»
(11)
(11) - البقرة: 222
- دعائم التوبة ثلاثة
الأول: الندم، على ما حصل منه في
المخالفة والمعصية.
الثاني: العزم، على عدم الرجوع
والعودة الى المخالفة.
الثالث: إيصال الحقوق التي أهدرت
بسبب المخالفة والمعصية.
وكما هو واضح فإن الركنين الأول
والثاني، حالتان نفسيتان وأمران داخليان مرتبطان بباطن الانسان
ودرجة قناعاته وما يترتب على ذلك من الأثر كالندم على السلوكيات
السابقة والعزم على عدم ممارستها في المستقبل، في حين ان الركن
الثالث والأخير أمر خارجي وعملي، يتحقق من خلال جبران الأضرار
المادية والمعنوية التي أوجبها الانسان من خلال تصرفاته وأفعاله،
ومجال الركن الأخير هو حقوق الناس.
ولا شك ولا ريب بأن مكان التوبة
الدنيا دون الآخرة وقبل الموت لا عنده ولا بعده ولها شروط وتفاصيل
يمكن مراجعة كتب الأخلاق وتفسير الآيات في هذا المجال.
- خامساً: العبودية
العبودية بمثابة جوهر الايمان وثمرة
المعرفة الكاملة والاذعان المطلق بالله تعالى وهي هدف سام ورد بذلك
قوله «وما خلقت الجنّ والانس إلاّ ليعبدون»
(12)
كما تطرقت الآيات القرآنية الى موضوع العبادة في أكثر من (297 آية
قرآنية).
(12) - الذاريات: 56
- سادساً: الهجرة
إن الهجرة في سبيل الحفاظ على الدين
والعقيدة تمثل درجة عالية من الايمان بالله تعالى وكانت درجة سامية
في عهد رسول الله (ص)، كما أن الهجرة تمثل نقطة عطف كبيرة في حياة
الانسان الفردية وحياة المجتمعات البشرية جمعاء، وعلى مرّ التاريخ
بُنيت الحضارات الكبرى على سنة الهجرة، وقد تعرضت الآيات القرآنية
الى هذا المفهوم في أكثر من (20 آية قرآنية).
قد دعى الله تبارك وتعالى في الآية
السادسة من سورة التحريم الى وقاية النفس والأهل (القريبين) من نار
جهنم، وقد يستفاد من هذه الآية الأولويات بشأن الدعوة والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى أن الانسان مكلّف بالدرجة الأولى
(الأولوية الأولى) أن يبدأ من نفسه فيهذّبها ويحصّنها أمام المعاصي
والزلات وبعد أن كوّن أرضية صلبة فإنّ أولى المسؤوليات (الخارجية)
التي تتوجه إليه هي مسؤوليته تجاه أهله وأقرباءه، إن هذه التراتبية
قبل أن يكون لها أساس ديني وقرآني لها جذور في فطرة الانسان وتفرضه
الظروف الاجتماعية والحياتية للانسان.
فإن الانسان يحصّن بالدرجة الأولى
في الواقع الاجتماعي من خلال القريبين والأهل والمعارف كما أن
العشرة والاختلاط في الحياة الاجتماعية أيضاً تحقق بالأهل
والقريبين بالدرجة الأولى وقد يستفاد من سيرة الرسول (ص) هذه
التراتبية حيث انه (ص) قد بدأ دعوته الى الاسلام بأهله ومن ثم جهر
بها وعمّمها الى الآخرين.
وكما هو واضح فإن من شروط الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر التأثير على المخاطب، تأثره بالأمر
والنهي، والتأثير والتأثر عاملان نفسيان اجتماعيان تولدها العوامل
الاجتماعية ومن أهم هذه العوامل الاجتماعية، العاطفة التي تحكم
العلاقات بين الأقرباء كالأب والأم بالنسبة الى أولادهما والأخ
والأخت بالنسبة الى إخوتهما وهكذا من هنا، نستطيع القول أن
الأولويات يفرضها الواقع الاجتماعي وعنصر التأثير والتأثر الحاكمين
في مجال الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
واجه النبي (ص) في مسيرته الربانية
الكثير من الصعاب واساليب الحرب النفسية من قبل الكفار والمنافقين،
ففي مكّة كذّب المشركون رسول الله (ص) وأذوه ورموه بأنواع التهم
والشتائم كالسحر والكهانة والجنون، ويتحدث القرآن عن هذه الأساليب
بقوله تعالى: «وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلاّ هزواً»
(13)
وقوه تعالى: «وقال الذين كفروا لا
تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون»
(14)
(13) - الأنبياء: 36
(14) - فصّلت: 26
وفي المدينة المنورة شنت الحرب على
النبي (ص) من جبهتين:
- جبهة الكفار (اليهود)، وجبهة
المنافقين، وهؤلاء استخدموا شتى أنواع الشائعات، وزرع الفرقة،
وتحطيم المعنويات لدى المسلمين، وقد تناول القرآن ذلك في مناسبات
عدة ومواضيع متعددة مثل قوله تعالى:
{وإذ يقول
المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}
(15)
وقوله تعالى:
{إن الذين
يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً
مهين}
(16)
وكان النبي (ص) انطلاقاً من دوره
الرسالي، وكرم أخلاقه الذي وصفه الله بقوله:
{إنك لعلى
خلق عظيم}
(17)
يتحمل هذه المصاعب ويتعب نفسه
لهداية هؤلاء، فنزلت من عند الله تعالى الآية التاسعة من سورة
التحريم مخاطباً النبي بقوله: » يا ايها النبي جاهد الكفار
والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير » مطالباً منه
(ص) الشدة والغلظة مع هؤلاء الذين قست قلوبهم وصمّت آذانهم وعميت
ابصارهم ولم يتأثروا بما كانوا يرون من آيات الحلم والحكمة من رسول
الله (ص)، وذلك لأنهم لا يملكون مقومات الهداية ولأنهم كما قال
سبحانه:
{لقد ابتغوا
الفتنة من قبل وقلّبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم
كارهون}
(18)
فالطريق الوحيد هو التصدّي لهؤلاء
بكل شدة وعنف حتى يرجعوا عن غيّهم ويفيقوا من سباتهم ويرتدعوا عن
الاستمرار في نهجهم الايذائي لرسول الله (ص).
نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا من
المقتدين بالمؤمنين الصالحين والمجاهدين على طريق الحق، والحمد لله
رب العالمين.
تم بتاريخ: 15 / شهر رمضان
المبارك / 1429هـ.ق
(15) - الأحزاب: 12
(16) - الأحزاب: 57
(17) - القلم: 4
(18) - التوبة: 48
القرآن الكريم.
تفسير مجمع البيان للشيخ ابي علي
الفضل بن الحسن الطبرسي.
تفسير الميزان، للعلامة السيد محمد
حسين الطباطبائي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،
للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
التفسير الكاشف، للشيخ محمد جواد
مغنية.
التفسير المبين، للشيخ محمد جواد
مغنية.
تفسير القرآن الكريم، للسيد عبد
الله شبر.
|