بسم
الله
الرحمن
الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمد وأهل بيته الطاهرين.
لقد دفع اهتمام الجيل الجديد بالقرآن، والإقبال عليه من جهة، والحاجة إلى معرفة تفسيره من جهة أخرى جماعات كبيرة من الناس إلى البحث عن تفسير القرآن.
وحيث إنَّ إعداد تفسير يشمل كلّ القرآن الكريم يحتاج إلى ميزانية ضخمة، كما إن مطالعة ذلك القدر من التفسير هي الأخرى بحاجة إلى استعداد روحيٍ ونفسيٍ كبيرين غير متوفرَيْن لدى أغلب الناس، أقدمت بعض الشخصيات من علمائنا على شرح وتفسير كامل السور القرآنية ونشرها بصورة مستقلة.
ويعتبر تفسير سورة الحجرات ـ وهو الكتاب الحاضر ـ الجزء الثاني من هذا المسلسل القرآني.
وفي الوقت الذي نشكر الله تعالى على أن وفّقنا لهذا العمل، نشكر كلاً من أصحاب الفضيلة الكلباسي والدهشيري والجعفري، الّذين بذلوا ساعات عديدة في إعداد هذا التفسير وإنجاز هذا المشروع.
وكما إن النقاط التي تسطع عليها الشمس من الكرة الأرضية تكون منوّرة ومُضاءة، أما ما لم تسطع عليها الشمس فيغرق في الظلام، كذلك فإن وجد القارئ الكريم نقاطاً مشرقة في هذا الكتاب فليعرف أن ذلك هو من نور القرآن نفسه ومن هدايات النبي والأوصياء والشهداء والعلماء، أما ما قد يجده من نقص أو ضعف، فليعتبره من المؤلف.
وختاماً نسأل الله تعالى أن يجعل من القرآن نوراً لفكرنا وعملنا، ولبياننا وقلبنا، ولقبرنا وقيامتنا، ولسياستنا واقتصادنا، ولمجتمعنا وجيلنا، ولأهلنا ولتاريخنا، إنّه سميع مجيب.
أعوذ
بالله
من
الشيطان
الرجيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(1)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ
الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى
لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
(3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ
مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ
خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماً
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
(6)
وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي
كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ (7)
فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(8)
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ
فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا
يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً
مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً
مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ
بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ
وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(11)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا
يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ (13)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا
قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
(14) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ
بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(16)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ
إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ
لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
(18) ﴾
نزلت هذه السورة في المدينة، وعدد آياتها ثمان عشرة آية ووصفت بأنها سورة الأخلاق والآداب.
و«الحُجُرات» جمع «حُجْرة» أي غرفة، وإنما سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لأنها تضمّنت الإشارة إلى حجرات النبي الأكرم
(ص) التي كانت غُرفاً بسيطة جداً، ومبنية من الطين، وكانت سقوفها مشيدةً من الخشب
وجريد النخل.
لقد بدأت ثلاث سور من القرآن الكريم والتي تدور حول القضايا الحكومية والاجتماعية، بعبارة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾
[1] مرة بعد أخرى.
وفي هذه السورة بسبب تكرار جملة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾
يتجلّى سيماء المجتمع الإسلامي.
لقد تضمّنت هذه السورة قضايا ومسائل لم تُطرح في سور أخرى ومن تلك القضايا:
1 ـ النهي عن التقدّم على النّبي
(ص) والحث على مراعاة آداب التعامل معه (ص) وتحذير غير المتأدّبين معه
(ص).
2 ـ النهي عن الاستهزاء بالآخرين، وعن الهمز واللمز وسوء الظن، والتجسس، والغيبة المحرّمة في المجتمع المؤمن.
3 ـ مسألة الأخوّة والأمر بالإصلاح، والتعبئة العامة ضد البغاة، والوساطة العادلة، وضرورة التحقق من الأنباء والأخبار الواردة عن طريق أشخاص مشكوك في أمرهم، وتعيين وتحديد ملاك التفوق والأفضلية في المجتمع المؤمن.
4 ـ في هذه السورة التي جاء فيها الفرز الواضح بين درجات المسلمين ودرجات المؤمنين، اعتبرت التقوى ملاكاً للقيم، كما اعتبر الإيمان هو المحبوب والممدوح لا سواه، والكفر، والفسق، والمعصية هي المنفورة والمرفوضة، كما اعتبر القسط والعدل هما المحور في المجتمع.
5 ـ اعتُبر المجتمع الإيماني ـ في هذه السورة ـ مديناً لله تعالى، ومحباً أشدّ الحبِّ لرسول الله
(ص) لكنه الواسطة في هدايته فعليه أن لا يمنّ بإسلامه وإيمانه على الله ورسوله.
6 ـ في المجتمع الإيماني ـ على الناس ـ كما في هذه السورة أن يكونوا تبعاً لرسول الله
(ص)، وأن لا يتوقعوا مطلقاً اتباع الرسول (ص) للناس.
هذه السورة كسائر السور الأخرى تبدأ هي أيضاً باسم الله تعالى لأنه جاء في الحديث الشريف « كلّ أمرٍ ذي بالٍ لم يذكر فيه اسم الله فهو أبترٌ
»
[2].
أجل إن الإنسان يحتاج عند الشروع والبدء في جميع الأعمال إلى الاستمداد من رحمة واسعة وتلك الحاجة ترتفع وتحقق الغاية المنشودة بجملة:
﴿بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
المباركة.
إنَّ البدء ببسم الله لدى الشروع في كل عمل علامة الإيمان بالله، ودليل على حبِّه وذكره، والتوكّل عليه وهو يصبغ الأعمال بصبغةٍ إلهيةٍ ويعطيها وجهةً ربّانية.
[1] فنحن نقرأ في مطلع سورة المائدة: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾.
وتقرأ في مطلع سورة الممتحنة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ ﴾
وفي مطلع السورة الحاضرة تقرأ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ﴾.
[2] بحار الأنوار: ج73، ص305، من الطبعة البيروتية.
﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
[3]
|
هذه الآية تحول دون الكثير من الأخطاء، لأنّ طلبات أكثرية الناس التي تتمثل أحياناً في أمور ظاهرية مادية، وفي
اتّباع الحدس والتخمين، والرغبة في الابتكار والتجديد غير المبرر، والهيجان والتعَجُّل في القضاء وإصدار الحكم، وتخيُّل التحرّر وحرية الفكر، قد تحمل الإنسان على التلفُّظ بقولٍ أو كتابة شيء أو اتخاذ قرارات تجعل الإنسان ـ من غير قصد وانتباه ـ في مواجهة إرادة الله سبحانه ورسوله
(ص)، كما أن تخيُّل العبادة وتصوُّر القاطعيِّة، وتخيُل الثوريَّة وتصور الزهد والبساطة في العيش، قد تدفع البعض أحياناً إلى أن يتقدَّم على الله سبحانه ورسوله
(ص).
إن هذه الآية تريد أن تربِّي الناس تربية عالية، وتصنع منهم نماذج راقية كما لو كانوا ملائكة، لأنَّ القرآن يصف الملائكة بأنّهم:
﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ
وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾
[4].
إنّ القرآن الكريم ـ في الآية الحاضرة ـ لم يُبَيِّن الموارد التي ينهى فيها عن التقدّم على الله تعالى ورسوله
(ص)، ولم يحدّد مصاديقها بل أطلق ليشمل كل أنواع التقدم العقيدي والعلميّ والسياسيّ والاقتصاديّ وغيرها في مجال القول والعمل.
طلبَ بعض أصحاب النبيّ (ص) أن يخصوا أنفسهم ويقضوا على قواهم الجنسيّة حتى لا تبقى عندهم رغبة في الأزواج، من أجل أن يوظِّفوا أنفسهم لخدمة الإسلام بصورة كاملة، وقد نهاهم رسول الله
(ص) عن هذا العمل القبيح.
إنّ الذي يتقدّم على الله ورسوله
(ص) يحدث خللاً في نظام الإدارة ويربكه، ويجّر المجتمع إلى الفوضى، والهرج والمرج، وفي الحقيقة يجعل الجهاز الإداري ونظام التقنين لعبة خاضعة لأهوائه، ورغباته الشخصيّة.
[3] سورة الحجرات، الآية: 1.
[4] سورة الأنبياء، الآية: 27.
1 ـ لكي تجد الأوامر والقوانين طريقها إلى التنفيذ يجب أولاً إيجاد
أرضية القبول في نفوس المخاطبين، والخطاب بعبارة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ يعطي شخصية للمخاطب ويبيّن علاقته بالله تعالى، تلك العلاقة المطلوبة في مجال القيام بالعمل، وتنفيذ الأوامر الإلهيّة وتشعره بالإلتزام أمام الله سبحانه وتعالى.
2 ـ حيث إنّ الأمر بعدم التقدّم على الله تعالى ورسوله (ص) هو أمر
برعاية الأدب في مجال التعامل، لذا فإنَّ الآية نفسها كذلك نادت
المخاطب بأدب خاصّ: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ... ﴾.
3 ـ بعض
ما تفرزه الطبائع الشخصيّة وبعض العادات والأعراف الاجتماعية
والكثير من المقررات والقوانين البشرية التي ليس لها جذور في
القرآن والحديث، ولا تنطلق من العقل والفطرة، ما هي إلا نوع من
التقدّم على الله سبحانه والرسول (ص): ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ ... ﴾.
4 ـ إنّ أي تحريم للنعم التي أحلّها الله تعالى وأي تحليل
للمحرّمات يكون من التقدّم على الله عزَّ وجلَّ ورسوله (ص): ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ ... ﴾.
5 ـ كلّ بدعةٍ ومبالغة ومدح لما لا يستحقّ المدح، وكل نقد غير
مبّرر يكون من التقدّم المنهي عنه: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ ... ﴾.
6 ـ يجب أن يكون القرآن والسنّة هما المصدر لفقهنا وأعمالنا: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
﴾.
7 ـ إن التقدّم على الله سبحانه ورسوله (ص) يخالف التقوى، لأنّ
الله تعالى يقول في هذه الآية: ﴿ لَا
تُقَدِّمُواْ ...
وَاتَّقُواْ ﴾.
8 ـ لا قيمة لأية حرية وتنمية وتقدم خارج الإطار المذكور: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ ... ﴾.
9 ـ للقيام بالتكاليف لا بدّ من عنصرين هما: الإيمان والتقوى، فقد جاء في هذه الآية لفظة
﴿ آمَنُواْ
﴾ ولفظة ﴿ وَاتَّقُواْ ﴾ معاً.
10 ـ إنّ مما يجعل هذه الآية أكثر جمالاً هو ورود الأمر والنهي
أحدهما إلى جانب آخر، فقد جاء في الآية النهّي ﴿ لَا
تُقَدِّمُواْ ﴾ والأمر ﴿ وَاتَّقُواْ
﴾ معاً.
11 ـ إنّ حكم الرسول هو حكم الله سبحانه نفسه، وعدم
احترامه يكون بمثابة عدم الاحترام لله تعالى، والتقدّم عليهما معاً ممنوع ومرفوض
﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ
﴾.
12 ـ إنّ الالتزام العملي يجب أن يكون مقروناً بالتقوى الباطنية ﴿
لَا تُقَدِّمُواْ ... وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾.
13 ـ الذين يتقدّمون على الله عزَّ وجلَّ ورسوله (ص) تحت تأثير
الطبيعة الشخصية، ولدوافع أخرى لا إيمان لهم ولا تقوى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ ... وَاتَّقُواْ
﴾.
14 ـ
ينبغي أن لا نبرّر ما يصدر منّا من إفراط أو تفريط: ﴿
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
﴾.
نماذج من التقدّم على
اللهِ تعالى ورسولِه (ص): |
والآن نشير إلى عدة نماذج تاريخية من تقدّم الناس على الله عزَّ وجلَّ ورسوله
(ص)، مما جاء في كتب التفسير والحديث:
1 ـ أقدم جماعة في يوم الأضحى على ذبح أضاحيهم قبل رسول الله (ص)
فقيل لهم: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[5].
2 ـ صام جماعة قبل أن يثبت هلال شهر رمضان فقيل لهم: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[6].
3 ـ بعث رسول الله (ص) جماعة إلى الكفار للتبليغ والدعوة، فأقدم
الكفار على قتل أولئك المبلّغين إلا ثلاثة أنفار فرّوا، وفي أثناء
الطريق التقوا شخصين من قبيلة بني عامر الكفار، فقتلوهما انتقاماً
للشهداء من أصحابهم في حين لم يكن لذينك الشخصين العامريّينِ أي
ذنب، فوبّخهم القرآن الكريم على تصرفهم الكيفيّ هذا، وندّد بعملهم،
لأنهم أقدموا على هذا العمل من دون إذن النبيّ (ص)
[7].
4 ـ قال الإمام الصّادق (ع) لشخص: وهو يعلّمه دعاء قل: « يا مقلّب القلوب
»،
فقال الرجل: « يا مقلّب القلوب والأبصار
»، فقال له الإمام (ع):
أنا لم أقل: « والأبصار »، ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[8].
5 ـ طلب بنو تميم من النبي (ص) أن ينصّب لهم أميراً، فاقترح البعض
شخصاً للإمارة وتنازعوا في محضر النبي (ص) كل يرجح ما اقترح، فنزل
قول الله تعالى: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ
﴾
[9].
6 ـ قال الإمام (ع) ـ في تعليمه دعاء لشخص ـ إقرأ هذا الدعاء: «
لا إله إلا الله ... » إلى أن قال: « يُحيي ويُميت
».
فأضاف المخاطب من عنده عبارة: « ويُميت ويُحيي ».
فقال له الإمام: لا بأس فيما قلت، ولكن قل ما قلته لك ثم قرأ (ع)
الآية: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
[10].
7 ـ حرّم بعض صحابة النبيّ (ص) الطعام والنوم ونكاح أزواجهم على أنفسهم، فغضب رسول الله
(ص) ثم رقى المنبر وقال: « ما بال قومٍ يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟!
ألا إني أنام اللّيل، وأنكح، وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي
»
[11].
8 ـ في السنة الثامنة من الهجرة عندما خرج رسول الله (ص) من
المدينة مع النّاس لفتح مكة، لم يفطر بعض الناس وهم في السفر مع
أنهم كانوا يعلمون أنه ليس في السفر صوم، ثم إنهم كانوا قد رأوا
النبيّ (ص) قد أفطر
[12].
وقد كان هؤلاء هم من الذين تقدّموا على الله سبحانه وعلى رسوله
(ص): ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾.
9 ـ كان في أصحاب الأديان السابقة المتقدمة على الإسلام كذلك نماذج
من هذا التقدم، فقد رفع بعضهم المسيح إلى مرتبة الألوهيّة، وهو
الغلّو في الدين الذي نهي عنه، مع أنّ السيد المسيح (ع) كان ابن
مريم وكان عبداً لله
[13].
[5] الكشاف للزمخشري: ج4، ص350.
[8] كمال الدين للصدوق: ص352.
[9] صحيح البخاري: ج32، ص132، باب التفسير.
[10] الخصال: للصدوق، ج1، ص62.
[11] وسائل الشيعة: ج23، ص244.
[12] صحيح مسلم: كتاب الصوم.
[13] سورة النساء، الآية: 171، سورة المائدة، الآية: 77.
كما أنّ التقدّم على الله سبحانه ورسوله
(ص) مرفوض، فإن التخلّف عن أمرهما وعدم تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله
(ص) ممنوع أيضاً.
فعندما يدعو الله سبحانه ورسوله (ص) وخلفاؤه الشرعيون، الناس إلى أمر، يجب على الناس المبادرة إلى تنفيذ ذلك الأمر عن شوق ورغبة، والتّلبية من دون إبطاء.
ولقد انتقد القرآن الكريم في آيات عديدة بشدّة أولئك الذين
تباطأوا وتلكّأوا
في تنفيذ أوامر إلهيّة نبويّة رغم التعبئة والدعوة الأكيدة، فقال
مستنكراً عليهم: ﴿ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ
انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ
﴾
[14].
ونشير في هذا الصعيد إلى نماذج:
أ ـ عبّأ رسول الله (ص) قبيل وفاته جيشاً للدّفاع عن منطقة من المناطق، وأمّر على ذلك الجيش شابّاً اسمه أسامة بن زيد وقال: « لعن الله من تَخلّف عن جيش أسامة ».
ولكنّ جماعة تخلّفوا عن هذا الأمر
[15].
ب ـ لقد
انتقد القرآن أشخاصاً بشدّة بسبب تخلفهم عن أمر النبي (ص) وأنهم لم
يذهبوا إلى جبهة القتال وكانوا فرحين بذلك: ﴿
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ
بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾
[16].
ج ـ في معركة « أُحد » مع أنّ المسلمين انتصروا في الحملة الأولى، ولكن بسبب تخلف جماعة الرماة ـ وكانوا خمسين شخصاً ـ عن أمر الرسول، وتركهم ثغرة مهمة في جبل « أُحد » رغبة في جمع الغنائم، وطمعاً في عرض الدنيا لحقت بالمسلمين هزيمة نكراء، وأدت إلى استشهاد سيد الشهداء « حمزة » عمّ النبي
(ص) ولفيف من أصحابه الأوفياء.
وقد لخّص القرآن أسباب الهزيمة في ثلاثة أمور هي: التراخي،
والاختلاف، والتخلّف عن الأمر، إذ يقول تعالى عنهم: ﴿
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم ﴾
[17].
د ـ ندَّد الإمام عليّ (ع) كما في نهج البلاغة ـ مراراً وبشدّة ـ بقساة القلوب أو بالجبناء والمتكاسلين واستخدم للتعبير عن ذلك عبارات مثل قوله: « يا أشباه الرجال ولا رجال
»
[18].
وعلى هذا فإنّ الله تعالى لم يطلب منّا فقط أن لا نتقدّم على الله سبحانه ورسوله
(ص)، بل يطلب منّا كذلك أن لا نتخلف عن أمر الله تعالى ورسوله (ص).
إنه يطلب منّا أن نكون مع الله عزَّ وجلَّ ونبيّه فكراً وعملاً: ﴿
والّذين معهم ... ﴾.
[14] سورة التوبة، الآية: 38.
[15] كتاب المغازي: ج3، ص1117، الملل والنحل: للشهرستاني، ج1،
المقدمة الرابعة، الخلاف الثاني.
[16] سورة التوبة، الآية: 81.
[17] سورة آل عمران، الآية: 152.
[18] نهج البلاغة: الخطبة 27.
وبمناسبة الإشارة إلى عبارة ﴿ وَاتَّقُواْ
اللَّهَ ﴾ نشير إلى نقاط هامّة فيما يرتبط بالتقوى:
1 ـ إنّ الهدف من الأوامر الإلهيّة التقوى في الإنسان فالقرآن الكريم مثلاً يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
[19].
ويقول أيضاً:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
[20].
2 ـ إنّ التقوى أساس لقبول الهداية:
﴿ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾
[21].
3 ـ إنّ الله تعالى يمنح المتّقين علوماً خاصة:
﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾
[22].
4 ـ إن التقوى هي الوسيلة لاستحقاق الرحمة الإلهية وتلقّيها:
﴿ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ ﴾
[23].
5 ـ إنّ التقوى وسيلة لقبول العمل فنحن نقرأ في القرآن الكريم:
﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ ﴾
[24].
6 ـ إنّ التقوى وسيلة لحصول المتّقي على الرزق من طرق لا يتوقّعها، ولم يتصورها:
﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ ﴾
[25].
7 ـ إنّ الله وعد المتّقين بأن لا يواجهوا طرقاً مسدودة ولا أبواباً موصدة في حياتهم:
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل
لَّهُ مَخْرَجاً ﴾
[26].
8 ـ إنّ الله تعالى يفيض بكل ألوان نصرته وإمداداته الغيّبية على المتّقين فهو سبحانه معهم على الإطلاق:
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ ﴾
[27].
9 ـ إنّ التقوى طريق النجاة من أخطار يوم القيامة ومخاوفه
﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾
[28]، وسبب لحسن العاقبة:
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[29].
[19] سورة البقرة، الآية: 21.
[20] سورة البقرة، الآية: 183.
[21] سورة البقرة، الآية: 2.
[22] سورة البقرة، الآية: 282.
[23] سورة الأنعام، الآية: 155.
[24] سورة المائدة، الآية: 27.
[25] سورة الطلاق، الآية: 3.
[26] سورة الطلاق، الآية: 2.
[27] سورة التوبة، الآيات: 36 و123.
[28] سورة مريم، الآية: 72.
[29] سورة الأعراف، الآية: 128.
وبعد أن أشرنا إلى طرف من معطيات التقوى وآثارها الطيّبة، نشير إلى العوامل المؤثرة في تحقق حالة التقوى وحصولها في النفس الإنسانيّة:
1 ـ الإيمان بالمبدأ والمعاد يصون الإنسان عن المعاصي والذنوب، وكلما كانت درجة الإيمان أعلى كانت حالة التقوى أقوى.
2 ـ النظارة العامة المتمثّلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لنموّ وتقوية روح التقوى في المجتمع.
3 ـ التربية العائليّة الأسريّة.
4 ـ الطعام الحلال.
5 ـ سلوك المسؤولين ونوع ممارساتهم وتصرفاتهم.
6 ـ الأقارب والأصدقاء: الزوجة والجار والزميل في العمل، وفي الدراسة.
7 ـ الاشتغال والعمل.
8 ـ مصاحبة المتّقين.
هذه من العوامل المؤثرة في حصول وتحقق حالة التقوى عند الفرد والمجتمع.
يتخيّل البعض أن التقوى سجنٌ وأنّ لها محدوديّة، ولكن الحق أن التقوى قلعة (حصن)
وليست سجناً.
وهناك فرق بين الحصن والسجن، وهو أن السجن يقفل من الخارج، وهو محدودية مفروضة لا تتفق مع الحرية البشرية والإنسانية.
أما القلعة فيختارها الإنسان نفسه، ويقفلها من الداخل ليأمن أنواع الحوادث.
نرى أننا عندما نلبس الحذاء، هل نصون أرجلنا من الآفات بذلك أم نفرض عليها محدودية؟!
إذاً ليست كلُّ محدوديّة مسألة سيّئة ومرفوضة، وليست كل حرية
أمر جيد وقيّم، كما إنه ليست كل تنمية ونمو حاجة جيدة وقيّمة، لأن خليّة السرطان الخطير قد تنمو في البدن وهو مع ذلك أمر بغيض.
كما إنه ليس كل تراجع ورجوع يعد أمراً سيّئاً، فالمرضى الذين يراجعون الطبيب لا يهدفون من ذلك إلا إلى العودة إلى الحالة السابقة وهي حالة العافية وهذا الرجوع مسألة قيّمة.
إذا فالتقوى تعني الحصانة والصيانة.
قد تقدم بعض النساء ـ والفتيات ـ وبحجّة الحرية والتحرر من القيود على جعل أنفسهن في معرض رؤية الآخرين والنظر إليهن، ولكن إذا فكّرت هؤلاء النسوة ولو لبضع دقائق فقط في أنفسهن ـ حتى إذا لم يكنَّ مسلماتٍ ـ لعرفن أن عقولهنّ تدعوهنّ إلى العفة والطهر، وإلى الحجاب والتّستر عن أعين الرجال، لأن عدم التحجب أو السفور الناقص يتسبّب في:
1 ـ سوء الظن بهن.
2 ـ التآمر لاختطافهن.
3 ـ انفصام عرى العائلة.
4 ـ الحركات المفسدة وانعدام التوازن الروحي إثر ذلك.
5 ـ الوقوع في فخّ التظاهر وفي مصيدة ودوّامة اللهاث وراء الكماليات المجهد.
6 ـ توجيه ضربة علميّة إلى الطلبة، والقضاء على التركيز الفكري الضروري لهم في مجال المطالعة والدراسة.
7 ـ إيقاع المعوزين ممّن لا يمكنه توفير وتحصيل هذه الأنواع والألوان من الألبسة والكماليات في المشاكل.
8 ـ إلحاق ضربة اقتصادية بالفرد والمجتمع
لأنّهنّ بدلاً من مراعاة الدقة والإتقان في العمل، سيشتغلن باللهو وبالاهتمامات الشهوانية.
9 ـ إصابة النساء والفتيات الّلائي لا يحظينّ بجمال الوجه وحسن الملامح باليأس والإحباط والصدمة والإخفاق.
10 ـ إلقاء الوالدين في دوامة الوساوس.
11 ـ إرضاء اللاهثين وراء الشهوات الحرام.
12 ـ إغراق أفراد المجتمع في المنافسات السلبية.
13 ـ الفرار من البيوت والعوائل.
14 ـ ولادة الأولاد غير الشرعيين.
15 ـ ظهور الأمراض الجنسية.
16 ـ ظهور الأمراض والأزمات الروحية.
17 ـ ظهور قضايا سلبية مثل الإجهاض والانتحار، أو قتل الآخرين والاعتداء عليهم، وحوادث سير مفجعة، و... .
هذا هو بعض ما يمكن أن يحصل بسبب انعدام التقوى مما يكون منشأ التبرّج والسفور وعدم الالتزام بالحجاب.
ولعلّ من أجل هذا تكرّرت التوصية في القرآن الكريم بالتقوى، وطُلب من أئمّة الجمعة أن يطرحوا مسألة الالتزام بالتقوى في خطبهم دائماً، ولعلّ لأجل هذا لا يرضى القرآن ولا يقنع بالقدر القليل من التقوى فيقول:
﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ﴾
[30].
ويقول في موضع آخر يقول:
﴿ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
[31].
طبعاً يجب أن لا نيأس ونفقد الأمل، لأنّنا متى ما وقعنا في معصية، يمكننا أن نخلّص أنفسنا من مستنقع الذنب والمعصية بحبل الصلاة والتوبة والاستعانة بالله.
[30] سورة التغابن، الآية: 16.
[31] سورة آل عمران، الآية: 102.
﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَرْفَعُواْ
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُواْ
لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾
|
في الآية السابقة نهى الله تعالى عن التقدّم على الله سبحانه ورسوله
(ص) في مقام العمل والممارسة، وفي هذه الآية يبيّن طريقة التحدث مع النبيّ
(ص) ويقول: احترموا رسول الله (ص) عند التحدث عنه.
وفي الآية 63 من سورة النور كذلك أوصى الله تعالى بمراعاة الاحترام والتأدّب عند ذكر اسم النبي، ونهى عن ذكر اسمه بصورة غير مؤدّبة، وحث على ذكره بعنوانه ومقامه عند مناداته ومخاطبته.
إنّ المحافظة على العمل ـ أهمّ من العمل نفسه ـ فإن أعمالنا قد تكون باطلة من البداية، لكونها اقترنت بالرياء والتظاهر.
وقد تبطل في أثناء العمل وتفسد إذا طرأ عليها العجب والغرور.
وقد تبطل بعد الانتهاء من العمل بسبب بعض الأعمال، وهذا هو ما يسمّى بحبط الأعمال ولهذا يقول القرآن:
﴿ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ﴾
[32].
ولم يقل تعالى: كل من فعل حسنة فله عشر أمثالها، لأن بين القيام بالعمل في الدنيا وبين تقديمه إلى الله سبحانه يوم القيامة سليماً مسافة كبرى.
قال رسول الله (ص):
« من قالَ: سبحانَ الله » غرس الله بها شجرة في الجنّة.
فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير.
قال:
نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها
[33]، ثم قرأ آية مختومة بقوله تعالى:
﴿ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ ﴾
[34].
لقد علّق الله تعالى حبط العمل وبطلانه في موضع من القرآن على الكفر والشرك، وفي موضع آخر رتّبه على ترك الأدب في محضر رسول الله
(ص)، ومن هذا يتبين أن معصية عدم التأدب مع رسول الله (ص) وعدم مراعاة الأدب في محضره يعادل معصية الكفر والشرك، لأن مآل كليهما من حيث النتيجة هو الحبط والبطلان والضياع.
لقد رفع رجل من الصحابة ـ غفلةً ـ صوته على صوت رسول الله
(ص)، ولكي لا يتسبّب هذا الموقف في حبط أعماله تحدث رسول الله (ص) بصوت أعلى من صوت ذلك
الصحابيّ
[35].
إنّ رفع الصوت فوق صوت النبي (ص) من قبل المؤمنين يكون سبباً لحبط أعمالهم، إلا أن الأمر هذا يختلف بالنسبة لمن لم يكن يعرف النبيّ
(ص)، لأن العلم والقصد شرطان في صدق عنوان الإهانة.
لما نزلت الآية الحاضرة فُقِدَ أحد صحابة النبي
(ص) لأنه كان جهوري الصوت، فتفقده رسول الله (ص)، ولما حضر سأله فقال: يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإنّي رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط.
فقال رسول الله (ص):
لست هناك « أي لا بأس في ذلك لأنك خطيب، وقد رفعت صوتك للخطابة فحسابك يختلف عن الآخرين »
[36].
فإذا استعلمنا ـ في المثل ـ بعض الصحف التي تدرج فيها الآيات القرآنية المباركة من دون أن نعلم بذلك ومن دون قصد الإهانة لم يعد ذلك إهانة.
لقد جاء في قوله تعالى: في الآية الراهنة
﴿ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ وهي تفيد أن الحبط وبطلان الأعمال يحصل من دون أن يشعر أصحابه به، والعلّة في ذلك هي أن الآفات والآثار السيئة التي تلحق العمل لا ترتبط بعلمنا وجهلنا، بل هي تلحق به طبيعياً، علمنا بذلك أو لم نعلم، وشعرنا بذلك أو لم نشعر.
فلو شرب شخص الخمر سكر لا محالة، وإن تصوره ماء، وكذا من مسّ سلكاً كهربائياً مكشوفاً صعق به، وإن تخيّله سلكاً عاديّاً وخالياً من الطاقة الكهربائية.
إن بعض الذنوب والمعاصي تسبب ظهور القحط والجدب والزلازل، وقصر الأعمار، والذلة إن لم يعلم الإنسان بظهور هذه الآثار ووقوعها، فعلى هذا الأساس يكون عدم رعاية الأدب في محضر النبي
(ص) سبباً لحبط الأعمال وبطلانها، وتبخّرها وإن لم يشعر الإنسان نفسه بذلك الأثر السلبي.
[32] سورة الأنعام، الآية: 160 ـ سورة النمل، الآية: 89 ـ سورة
القصص، الآية: 84.
[33] بحار الأنوار: ج8، ص187.
[34] سورة محمد، الآية: 33.
[35] بحار الأنوار: ج9، ص331 ـ 332.
1 ـ من أجل تعليم النّاس قواعد السلوك والأدب يجب علينا نحن أيضاً
أن نخاطب الآخرين بلهجة مؤدّبة ومهذبة ولهذا نادى الله سبحانه
النّاس وخاطبهم في هذه الآية بأدب حيث قال: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾.
2 ـ إن هناك حقوقاً ومزايا معنوية عالية لقيادة الأمة الإسلامية
يجب أن يراعيها الجميع، إلى درجة أنه إذا كان الشخص في حالة التحدث
والتكلّم مع القائد لم يجز له رفع الصوت على صوته، وإذا كان ساكتاً
وكنا نحادثه وجب علينا أيضاً أن لا نتحادث بصوت مرتفع في محضره:
﴿ لَا
تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾.
أجل إن مقام النبوة يفرض علينا جملة من المسؤوليات.
3 ـ إن الأمر والتوصية باحترام الآخرين إنما يكون جميلاً إذا كان بلسان الآخرين (ففي هذه الآية لم يقل النبي
(ص):
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوتي، بل جاءت هذه التوصية من جانب الله سبحانه) حيث قال تعالى:
﴿ لَا
تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾.
4 ـ إنّ لمكانة الأشخاص وموقعهم أثراً في عملهم (فالتجاسر من جانب المؤمن على النّبي
(ص) له حساب خاص ومختلف: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ...
أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ﴾.
5 ـ قد يقطع الإنسان جذور نفسه بنفسه وهو لا يشعر ﴿ أَن
تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾.
في جميع المجتمعات والشرائع في العالم يقوم الناس باحترام خاص لشخصياتهم، فهم يطلقون أسماءهم على المدن والشوارع والجامعات والمطارات والمدارس والمؤسسات، وفي الإسلام هناك أيضاً أفراد وساعات وأمكنة وحتى بعض النباتات والجمادات تحظى بالقداسة والحرمة، غير أن سبب القداسة ومنشأ الكرامة في جميع هذه الأشياء في الإسلام هو الارتباط بالذات الإلهيّة المقدّسة، وكلّما كان
ارتباط الأشياء بذلك أكثر كانت قداسته أعلى وأكثر، ويجب علينا أن نحافظ على حرمته الخاصة.
أما تلك المقدسات فهي:
1 ـ الذات الإلهية المقدسة وهي منشأ القداسة.
أما المشركون الذين يسوّون الآخرين بالله تعالى فسيقرّون يوم القيامة بانحرافهم، وسيقولون لمعبوداتهم الباطلة: إنّ سبب ما نحن فيه من العذاب والشقاء هو أننا كنّا نساوي بينكم وبين الله،
﴿
تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
﴾
[37].
هناك حديث كثير ومكرّر عن تسبيح الله سبحانه في ثنايا القرآن الكريم وهذا يعني أنّ علينا أن ننزه الله تعالى ونقدسه، ونوقره ونحترمه، ونعتقد بأنه منزّه عن كل نقص، لا ذاته فقط، بل وأسماؤه أيضاً:
﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
﴾
[38].
2 ـ كتاب الله تعالى، فإن له أيضاً قداسة وحرمة خاصة لأن القرآن نفسه يصف نفسه بالعظمة إذ يقول:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ
الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾
[39] إذا يجب أن نعظم هذا الكتاب ونجلّه ونحترمه.
وعندما يصف القرآن نفسه بأنه كريم
[40] يجب علينا أن نكرّمه نحن أيضاً، وعندما يصف القرآن نفسه بأنه مجيد
[41] يجب علينا أيضاً أن نمجدّه ونحترمه.
3 ـ القادة الإلهيّون، فإن لجميع أنبياء الله وأوصيائهم، وبخاصة رسول الله
(ص) وأهل بيته مكانة خاصّة، وقد أشير إلى بعض الآداب التي يجب أن تراعى مع النبي في هذه السورة، ومنها أن لا نرفع أصواتنا فوق صوته.
لقد أمرنا ـ في القرآن الكريم ـ بالصلاة على رسول الله
[42].
طبعاً يجب أن ننتبه إلى هذه النقطة وهي أنّ النبي
(ص) مع أنه راحل عنا إلا أن احترامه في هذه الحالة، واحترام أوصيائه وذرّيته ومن ينتمي وينتسب إليه بنوع من الانتماء، والانتساب ونخص بالذكر منهم العلماء الربانيين والفقهاء العدول، ومراجع الدين والتقليد ـ هم بحسب جملة من الأحاديث خلفاؤه ـ أمر حتمي ولازم علينا كما هو أمر لازم وحتمي علينا حال حياته
[43].
نحن نقرأ في الحديث أن الرادَّ على الفقيه العادل كالرادِّ على أهل بيت النبي
(ص)، والرد عليهم كالرادّ على الله
[44] فمن ردّ على الفقهاء العدول كلامهم يكون كالرادّ على كلام الله سبحانه.
ليست ذات النبي فقط تحظى بالكرامة والقداسة، بل كل ما يرتبط بالأنبياء يحظى كذلك بالقداسة والكرامة، فها نحن نقرأ في القرآن أن الصندوق الذي وضع فيه موسى
(ع) يوم كان وليداً وألقي في البحر، ثُمّ صار فيما بعد مواريث موسى عند آل موسى، صار مقدساً عند بني إسرائيل إلى درجة أنه
[45] كان مبعث السكينة عندهم فكانوا يصطحبونه في أسفارهم وكانت الملائكة تحمله.
4 ـ يحظى الوالدان ـ في الإسلام ـ بكرامة ومنزلة خاصة، فقد وردت الوصية بالإحسان بالوالدين في القرآن خمس مرّات، بعد الوصية والأمر بعبادة الله الواحد
[46] وبالشكر لهما إلى جانب الشكر لله تعالى
[47].
ولقد بلغ التأكيد على احترام الوالدين إلى درجة أنه اعتبر النظر برحمة إلى الوالدين عبادة، وقد أمرنا أن لا نرفع صوتنا فوق صوتهما.
بل ويحْرم سفرنا إذا كان ذلك موجباً لأذاهم، ووجب أن نتم صلاتنا في مثل هذا السفر، كما ونهي
أن يتزوج الشخص المرأة التي كانت في يوم ما زوجةً لوالده.
5 ـ لقد قُدست في القرآن الكريم بعض الأزمنة والأوقات كليلة القدر، وبعض الأمكنة مثل المسجد وبعض الأحجار كالحجر الأسود، وبعض أقسام الترب كتربة الإمام الحسين
(ع) وبعض النباتات كالزيتون، وبعض الأسفار كالمعراج والرحلات العلمية والعبادية والسفر من أجل القيام بالأعمال الخيرية والجهادية، كما قدست بعض الألبسة كثياب الإحرام، ويجب علينا أن نقبل هذا التكريم والتقديس الخاص الذي حظيت به هذه الأمور.
فمثلاً نقرأ في القرآن الكريم أنّ النبي
(ص) أمر بخلع نعليه لأنه حل في الوادي المقدس:
﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ
بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ﴾
[48].
كما نقرأ أن المشرك لا يحق له الدخول في المسجد الحرام:
﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ﴾
[49].
وقد أمرنا في آية أخرى أن نتزين ونتجمَّل إذا أردنا الدخول في المسجد
﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ
مَسْجِدٍ ﴾
[50].
كما لا يحق للجنب التوقف في المسجد
﴿ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي
سَبِيلٍ ﴾
[51].
إن المسجد مكان محترم، وهو يحظى بالكرامة والأهمية بحيث أمرت شخصيات عظيمة كالنبيّ إبراهيم وإسماعيل وزكريا ومريم (ع) بخدمته، وطلب منهم تنظيفه وتطهيره:
﴿ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾
[52] بل حتّى أن
والدة مريم الطاهرة (عليها السلام) لما ظنّت ـ وهي حامل ـ أن جنينها ذكر وليس أنثى نذرت ـ إن صدق ظنّها ـ أن تجعله بعد الولادة والرشد، خادماً للمسجد الأقصى، فقالت: ﴿ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ﴾
[53].
6 ـ إن الإنسان المؤمن هو الآخر يحظى بالحرمة والكرامة، إلى درجة أن حرمة عرضه تفوق حرمة الكعبة، وإلى درجة أنه يحرم اغتيابه، ويجب الدفاع عنه، بل يحرم نبش قبره بعد الموت أيضاً.
وإذا كانت إقامة الصلاة فرادى في مكان تقوم فيه جماعة موجبة لتوهين إمامها بطلت تلك الصلاة.
7 ـ إنّ الإسلام أولى حتى بعض غير المسلمين باحترام خاصٍ.
وها هو النبيّ الكريم (ص) فإذا استجاب زعيم قوم لمطلبه
احترمه، واستبقاه في منصبه، فضلاً عمّا إذا آمن وأسلم.
بل ويحترم الأسير إذا كان من عائلة كريمة ويحسب له حساباً خاصاً، كما صنع بالنسبة إلى السيدة شهربانو بنت يزدجرد ملك إيران، وابن حاتم الطائي المعروف بسخائه والذي أسر فيمن أسر، فقد أولاه رسول الإسلام
(ص) احتراماً خاصاً.
أجل إنّ في ثقافة الشعوب قاطبة ـ وكما أسلفنا ـ أشياء وأموراً مقدسة، كدستور البلاد وعَلمِها، والشخصيات العلمية والثَّورية، والفنية فهي تحظى بالاحترام لدى الشعوب.
على أنه لا بدَّ من تجنّب القداسات الباطلة، لأن التاريخ شهد أشخاصاً دجّالين روّجوا لأمور باطلة كالسامري الذي صنع عجلاً له خوار، وأضفى عليه هالة من القدسية المختلفة، رُبَّ ملوك استأجروا علماء وشُعراء وأصحاب أقلام ليثنوا عليهم، ويطهّروهم ويقدّسوهم.
[37] سورة الشعراء، الآيتان: 97 ـ 98.
[38] سورة الأعلى، الآية: 1.
[39] سورة الحجر، الآية: 87.
[40] سورة الواقعة، الآية: 77
﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾.
[41] سورة ق، الآية: 1﴿ ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾.
[42] سورة الأحزاب، الآية: 56
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾.
[43] لقد وردت في كتب متعددة مثل كتاب (تبرك الصحابة) بقلم آية
الله الأحمدي الميانه چي عشرات النماذج من احترام الصحابة
لرسول الله (ص) في زمان حياته وبعد مماته.
[44] بحار الأنوار: ج28، ص238.
[45] سورة البقرة، الآية: 248 يقول تعالى:
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ
سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ
مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
﴾
[46] سورة البقرة، الآية: 83 ـ سورة النساء، الآية: 36 ـ سورة
الأنعام، الآية: 151 ـ سورة الإسراء، الآية: 23 ـ سورة
الأحقاف، الآية: 15.
[47] سورة لقمان، الآية: 14.
[49] سورة التوبة، الآية: 28.
[50] سورة الأعراف، الآية: 31.
[51] سورة النساء، الآية: 43.
[52] سورة البقرة، الآية: 125.
[53] سورة آل عمران، الآية: 35.
لقد كان أولياء الله أشدّ النّاس
احتراماً للمقدسات وأكثرهم التزاماً برعايتها، وإليك نماذج من ذلك:
أ ـ عندما كان رسول الله (ص) حيّاً لم يلقِ الإمام عليّ
(ع) أي خطاب، احتراماً للنبيّ (ص)، وتأدّباً معه.
ب ـ فيما كان رسول الله (ص) يؤم الجماعة في الصلاة شاهد بصاقاً على جدار المسجد فقطع قراءته وتقدّم قليلاً من دون أن ينحرف عن القبلة وأزال ذلك الشيء بغصن من الشجر ثم رجع إلى الوراء واستمر في صلاته.
ج ـ عندما رأى الإمام الحسين (ع) أن أخاه الإمام الحسن المجتبى
(ع) أعطى لفقير 100
درهماً، أعطى هو لذلك الفقير 99
درهماً أي أقلّ مما أعطاه أخوه الأكبر احتراماً.
د ـ عندما سمع الإمام الرضا (ع) اسم الإمام المهدي
(عج) قام فوراً مع أنّ الإمام المهدي (عج) لم يكن قد ولد بعد.
هـ ـ ذات يوم وفي بيت آية الله العظمى السيد البروجردي (قده)
(وقد كان من مراجع الشيعة الكبار) نادى أحد الحاضرين لدى رؤيته للسيد البروجردي قائلاً: من أجل سلامة إمام الزمان وأيضاً من أجل سلامة آية الله البروجردي صلّوا على محمد وآل محمد.
فانزعج السيد البروجردي وقال في غضب شديد: « لم لا تراعون حدود الأشخاص ومراتبهم ولم جعلتم اسمي إلى جانب اسم إمام العصر
(عج)؟ ».
إذن لا بدّ من الانتباه إلى أن درجات الكرامة ومراتب القداسة متفاوتة، ولكلّ شيء مرتبة خاصة من الكرامة والحرمة، ودرجة معينة من القداسة تناسبه.
إن الآية الثانية من سورة الحجرات تعتبر رفع الصوت في مجلس رسول الله
(ص) سبباً لبطلان الأعمال وهو ما يسمى بالحبط إذ قال تعالى:
﴿ ... لَا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾.
ولهذا يجدر بنا أن تكون لنا وقفة لتوضيح معنى الإحباط.
« الحبط » في اللغة يعني الفساد والبطلان.
فكما أن الأغذية والأدوية والبرد والحر والماء والنار يؤثر بعضها في بعض ويبطل بعضها مفعول البعض الآخر، كذلك أعمال الإنسان يؤثر بعضها في بعض أيضاً، وإليك مثالان في هذا المجال:
أ ـ إذا أقدم عامل خدم في مؤسسة عشرين سنة بجد وإخلاص، على قتل ابن صاحب تلك المؤسَّسة ذات يوم، أبطلت جريمته هذه كل خدماته السابقة وأتت على جميع سوابقه المشرقة، وهذا هو ما يسمى بحبط العمل.
أمّا إذا أقدم عامل أتعب رب عمله طوال عشرين عاماً، على إنقاذ ابن صاحب المعمل ذات يوم من الغرق، فإن خدمته هذه تزيل كل المتاعب النفسية التي سببها لأصحاب عمله طوال مدة خدمته، وتغسل ما ران بسبب تصرفاته على قلبه، وهذا هو ما يسمى بالتكفير، ومنه لفظ الكفارة لفظاً ومعنى.
بعد الوقوف على هذين المثالين نقول: إن المسائل والقضايا المعنوية، وإن أعمال الإنسان وتصرفاته هي أيضاً
تؤثّرُ بعضها على بعض وينقض بعضُها بعضاً.
وها نحن نشير إلى بعض ما يطرحه القرآن الكريم من نماذج في هذا المجال.
1 ـ الكفر والإرتداد والصدّ عن سبيل الله ومحاربة النبي
(ص) ومحاددته كلها تحبط الأعمال
[54].
2 ـ الذين يرتكبون ما يسخط الله سبحانه من الأعمال ويكرهون ما يرضي الله تعالى من الأعمال أولئك حبطت أعمالهم
[55].
3 ـ الشرك والنفاق والإقبال على الدنيا، وقتل الأنبياء، وقتل الآمرين بالقسط من الناس كل ذلك من عوامل الإحباط ومن أسباب بطلان الأعمال
[56].
4 ـ المن على من ساعدناهم، وأحسنا إليهم من عوامل الإحباط وبطلان العمل
[57].
5 ـ الرياء والعجب مما يبطل الأعمال ويحبطها.
[54] سورة محمد، الآية: 34.
[55] سورة محمد، الآية: 28.
[56] سورة الزمر، الآية: 65 ـ سورة التوبة، الآية: 69 ـ سورة
هود، الآية: 16 ـ سورة آل عمران، الآية: 22.
[57] سورة البقرة، الآية: 264.
بطلان
الأعمال في الأحاديث: |
والآن لندرس مسألة الإحباط في ضوء الأحاديث والروايات، لنَرَ أي عمل يوجب حبط العمل الصالح وبطلانه وفساده.
هنا نرى أيضاً كيف اعتبرت بعض القضايا العقيدية والعبادية والعائلية والاجتماعية والسياسية والنفسية من عوامل الإحباط، ووصفت على أنها أمور توجب بطلان الأعمال الصالحة المتقدمة.
وها نحن نشير إلى هذه الأمور واحدة واحدة:
1
ـ القضايا العقيدية: مثل بغض الأئمة المعصومين (ع) ومعاداتهم
[58].
2
ـ الأمور العبادية:
مثل ترك الصلاة من دون عذر
[59]، فقد سئل الإمام
(ع) ـ في حديث مفصّل ـ عن الكبائر لِمَ لم تذكر ترك الصلاة في عداد الكبائر وقد عددت منها أكل مال اليتيم؟، فقال (ع):
« إن تارك الصلاة من غير علّة كافر ».
3
ـ الأمور العائلية: قال الإمام الصادق (ع):
« أيّما امرأة قالت لزوجها: ما رأيت قط من وجهك خيراً فقد حبط عملُها »
[60].
4
ـ الأمور الاجتماعية:
قال رسول الله (ص):
« من غسل ميّتاً فأدى فيه الأمانة كان له بكل شعرة منه عتق رقبة، ورفع له مائة درجة ».
قيل يا رسول الله: وكيف يؤدي الأمانة؟!
قال:
« يستر عورته ويستر شيْنَه، وإن لم يستر عورته وشينه حبط أجره وكشفت عورته في الدنيا والآخرة »
[61].
5 ـ الأمور السياسية: قال الإمام محمد الباقر
(ع):
« في قوله تعالى:
﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾
[62]
( أي إن الارتداد يحبط العمل ويبطله ) :
الإيمان في بطن القرآن علي بن أبي طالب (ع)، فمن كفر بولايته فقد حبط عمله »
[63].
6 ـ الأمور النفسية: قال الإمام الصادق
(ع):
« من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله »
[64].
بعد أن سلّطنا الضوء على الآثار السلبيّة لبعض الأعمال آن الأوان لأن نسلّط الضوء على الآثار الإيجابية لبعض الأعمال الأخرى ليتضح كيف يمكن للإنسان أن يستر بأعماله الطيبة أعماله السيئة، أو يبدل سيئاته حسنات.
فقد ورد في القرآن الكريم أنّ الإيمان والعمل الصالح، والتقوى، والصدقة السرية، ومساعدة الفقراء خفية، والتوبة، والاجتناب عن الكبائر من الذنوب، والصلاة والزكاة، والقرض الحسن، والهجرة، والجهاد، من موجبات التكفير، أي
أنّها تكون من الأمور التي تسبّب ذهاب الأعمال السيئة وبطلانها
[65].
يقول القرآن الكريم في هذا المجال:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ ... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾
[66].
من الواضح بجلاء أن إساءة الأدب مع النبي
(ص) لما هو عليه من المنزلة الرفيعة موجب لحبط العمل وبطلانه، ولكن القرآن يوصينا بأن نتحدث مع جميع الناس بصوت منخفض، فها هو لقمان يوصي ابنه ـ كما في القرآن الكريم ـ بذلك قائلاً له:
﴿ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾ ثم يشبه الصوت المرتفع بصوت الحمير قائلاً:
﴿ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾
[67].
إن تلوث البيئة في مجال الصوت اليوم هو ـ كما نعرف ـ من مشاكل المجتمع البشري في عصر المدنية الحديثة، ورفع الصوت هذا قد يكون بسبب العرس، وقد يكون في المسجد، وقد يكون في أرض الملعب، تارة يكون في قالب البيع والشراء، سبباً لسلب الهدوء والراحة من الناس، نعم إنِّ الإسلام يسمح لنا برفع الصوت والصراخ في عدة مواضع، فمثلاً: عند رفع الأذان، حيث يحبَّذ أن يكون بصوت عال وحسن، ومن دون مقدمات، أو رفع الصوت بالتلبية بالنسبة إلى حجاج بيت الله الحرام حيث يستحب لهم كلّما رأوا قافلة أن يكرروا هذه التلبية: « لبيّك اللهم لبيّك ... ».
وعلى كل حال فإنه لا يسمح لنا ـ إلا في حالات قليلة ونادرة ـ أن نرفع الصوت فضلاً عن أن يقترن الصوت العالي بصبغة تهديدية أيضاً، ففي هذه الصورة مضافاً إلى كون هذا العمل يعد عملاً غير مهذب، فإنه يعتبر ترويعاً وإخافة للمؤمن، وهو من دون شك عمل مخالف للشرع ويستتبع عقاباً.
[58] بحار الأنوار: ج69، ص98.
[60] من لا يحضره الفقيه: ج3، ص440.
[61] وسائل الشيعة: ج2، ص396.
[62] سورة المائدة، الآية: 5.
[63] بحار الأنوار: ج35، ص348.
[64] وسائل الشيعة: ج27، ص40.
[65] راجع الآيات التالية: سورة البقرة، الآية: 271 ـ سورة
الأنفال، الآية: 29، سورة الطلاق، الآية: 5 ـ سورة
التغابن، الآية: 9 ـ سورة التحريم، الآية: 8 ـ سورة
النساء، الآية: 31 ـ سورة هود، الآية: 114 ـ سورة آل
عمران، الآية: 195 ـ سورة الفرقان، الآية: 70.
[66] سورة هود، الآية: 114.
[67] سورة لقمان، الآية: 19.
﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
|
لفظة « غَضَّ » تعني الخفض والنزول من فوق إلى تحت، وغضّ صوته أي خفض صوته ولم يرفعه، وهو علامة الأدب وآية التواضع، والوقار، والهدوء، والرحمة والحُبّ.
يقول القرآن الكريم في هذه الآية: إن الله سبحانه يختبر قلوب الأشخاص المؤدّبين، ومن المعلوم أن الاختبار والامتحان الإلهي ليس من أجل العلم بالأمر لأن الله تعالى يعرف كل شيء ويحيط بكل شيء علماً، بل الهدف من الاختبار هذا هو أن يظهر الإنسان قابلياته واستعداداته عند مواجهة المشاكل، وفي خضم المحن، ليصبح أهلاً لتلقي الأجر الإلهي وصالحاً للاستفادة من مواهب الله تعالى العليا، وذلك لأن الثواب والعقاب الإلهييّن لا يكونان على أساس علم الله سبحانه، بل يكونان على أساس عمل الإنسان، ونوعية ممارساته، يعني إذا كان الله يعلم بأن فلاناً سيرتكب مستقبلاً جريمة معيّنة فإنه لا يعاقبه، إنما يعاقبه بعد أن يرتكبها.
والجدير بالذكر أن الإنسان نفسه لا يعطي لأحد أجراً على أساس معلوماته عنه، بمعنى أنّه إذا علمنا أن هذا الخيّاط سيخيط لنا ثوباً فإننا لا نعطيه أجراً، بل يجب أن يخيط لنا ثوباً لنعطي له أجراً.
وعلى هذا فإن المراد من الامتحان الإلهي في الآيات والأحاديث هو صدور أفعال من الإنسان ليستحقّ بعد ذلك ثواباً أو عقاباً.
ومن البديهي أن الامتحان هنا في هذه الآية يرتبط بالقلب، إذ ما أكثر الأشخاص الذين يظهرون الأدب والتواضع، وهم متكبّرون في باطنهم وفي قرارة أنفسهم.
إنَّ المثوبات الإلهيّة وصفت دائماً ولدى ذكرها بصفات « الكريم » و« العظيم » و« الكبير » و« غير الممنون » و« نعم
الأجر » وهذا هو من أجل أن المثوبات الإلهية أساساً من رحمة الله ولطفه المطلق.
1 ـ أن نثيب المحسن ونعاقب المسيء دون فرق، وذلك حسب ما جاء في
الآية السابقة، حيث أقدم البعض على رفع صوتهم فوق صوت النبي (ص) فتم توبيحهم، والتنديد بهم.
وفي هذه الآية والآيات اللاحقة نجد الثناء على المؤدّبين
﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ... لَهُم مَّغْفِرَةٌ
... ﴾ أجل الثواب والعقاب معاً، جنباً إلى جنب.
2 ـ الأدب الظاهرّي هو علامة حالة التقوى الباطنية ﴿
الَّذِينَ يَغُضُّونَ ... امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
لِلتَّقْوَى
﴾ يعني: أنّ الذين يخفضون أصواتهم يمتلكون في الحقيقة قلوباً متقيّة.
3 ـ مع أننا لسنا اليوم في محضر رسول الله
(ص)، ولكن مسألة وجوب رعاية الأدب لدى زيادة مرقده المبارك، وكذا خلفائه الشرعيين، باقية على حالها.
4 ـ إنّ رعاية الأدب بصورة غير دائمة، بل وبصورة مؤقتة وعابرة تنم عن عدم التحلّي بالتقوى.
ويفهم هذا من قوله تعالى في الآية بصيغة المضارع ﴿
الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ فإنَّ الفعل المضارع يعبر عن الاستمرارية والعمق.
5 ـ في جميع الموارد التي وردت لفظة المغفرة والأجر في القرآن الكريم، جاء الحديث عن المغفرة أولاً، وذلك لأننا ما لم نتطهّر من الذنوب لا يمكن أن نصبحَ أهلاً لتلقّي الألطاف الإلهية: ﴿ لَهُم
مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
وحيث إن الحديث في هذه الآية يدور حول أدب الحوار، والتحدث مع رسول الله
(ص) يجدر بنا أن نشير نحن أيضاً إلى تعاليم الإسلام في هذا المجال.
1 ـ إن الكلام لا بدّ أن يقترن بالعمل وإلا
استحق الذم:
﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ ﴾
[68].
2 ـ إن الكلام يجب أن يكون عن تثبيت وتحقيق، قال الهدهد لما أتى بخبر إلى النبيّ سليمان
(ع):
﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ
يَقِينٍ ﴾
[69].
3 ـ يجب أن يكون الكلام طيباً محبّباً:
﴿ الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾
[70].
4 ـ يجب أن يكون الكلام غير خشن:
﴿ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾
[71].
5 ـ يجب أن يكون الكلام كلاماً كريماً:
﴿ قَوْلاً كَرِيماً ﴾
[72].
6 ـ يجب أن يكون كلاماً قابلاً للتنفيذ:
﴿ قَوْلاً مَّيْسُوراً ﴾
[73].
7 ـ أن يكون كلامنا مع جميع الناس لا بعض الناس أو مع فرق معينة، كلاماً حسناً
﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾
[74].
8 ـ أن نختار في الكلام أفضل المواضيع والأساليب:
﴿ يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
[75].
9 ـ أن يخلو الكلام من أي لغو وباطل
﴿ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ ﴾
[76].
و﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ ﴾
[77].
[68] سورة الصف، الآية: 2.
[69] سورة النمل، الآية: 22.
[70] سورة الحج، الآية: 24.
[72] سورة الإسراء، الآية: 23.
[73] سورة الإسراء، الآية: 28.
[74] سورة البقرة، الآية: 83.
[75] سورة الإسراء، الآية: 53.
[76] سورة الحج، الآية: 30.
[77] سورة المؤمنون، الآية: 3.
حيث إن هذه الآية تثني على الأشخاص الذين تأدبوا مع رسول الله
(ص)، فخفضوا أصواتهم عند التحدث معه، ووعدتهم بالمغفرة والأجر العظيم، نشير فيما يلي إلى نموذجين من التعامل مع الأدب، وبما يخالف الأدب مما جاء في القرآن الكريم:
1 ـ عندما أكل آدم وزوجته حواء من الشجرة الممنوعة رغم النهي، وتعرضا للعتاب والتوبيخ، خجلا من فعلهما، واعتذرا وتابا إلى الله سبحانه فقبل الله تعالى توبتهما، وقد كان هذا الاعتذار في حقيقته نوعاً من التأدب الذي كانت وراء قبول نداء آدم
(ع) وزوجته حواء.
2 ـ لم يسجد إبليس لآدم (ع)، فتعرّض للقدح واللّوم، ولكن الشيطان بدل أن يعتذر ويتوب أساء الأدب وقال: لم يكن عليّ أن أسجد، فآدم من التراب، وأنا من النار، والنار أعلى وأفضل من التراب.
لقد اعتبر الشيطان أمر الله سبحانه بالسجود أمراً غير مبرّر، وفي غير محلّه، ولأجل هذا
استحق إبليس اللعنة الأبديّة.
ما يمتاز
به الثّواب الإلهي: |
إن المثوبات البشرية قصيرة الأمد صغيرة وسطحية ومقرونة غالباً بالمنِّ والأذى وغيرها من الآفات والمكدرات، وهذا بغض النظر عن أن غير الله كالزوج والولد، والشريك والصديق، والحكومة، وغيرهم، كثيراً ما لا علم لهم بما نقوم به بصورة كاملة، لكي يعطونا أجراً مناسباً، بل وربما كانوا يحسدوننا، وتحت وطأة هذا الحسد يتجاهلون ما نقوم به، ويبخلون بإعطاء ما نستحق من الثواب والأجر.
وقد لا يمكنهم إعطاء الثواب والأجر لفقدانهم ما يعطونه أساساً.
إنّ غير الله ـ كائناً من كان ـ لا يقبل من الآخرين عملهم إذا كان ناقصاً معيباً، هذا بغض النظر عن أن الثواب والأجر الذي يعطيه البشر ربما يتلخّص في مجرد تصفيق أو إطلاق صفير، أو رفع شعار الصلوات ...
لا غير.
أما الله تعالى فهو يقبل العمل ولو
كان قليلاً: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾ كما أنه يقبل المعيب من العمل كما جاء ذلك في تعقيبات الصلوات اليومية: « إلهي إن كان فيها (أي في صلاتي) خلل أو نقص من ركوعها أو سجودها فلا تؤاخذني وتفضل عليّ بالقبول والغفران ».
إنّ الله تعالى يستر العيوب ويظهر ما هو جميل « يا من أظهر الجميل، وستر القبيح ».
أخيراً، فإنّ الله يشتري أعمالنا ويجعل ثمنه الجنّة الخالدة، أما الآخرون فربما يكتفون بأن يبادلوننا بالأحاسيس والمشاعر العابرة.
﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً
لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) ﴾
|
إنّ مسألة مناداة رسول الله (ص) من وراء الحجرات ليست مطروحة اليوم، ولكن الدرس والقانون المستفاد من هذه الواقعة مفيد لنا، لأننا نقرأ في تفسير « روح المعاني » إنّ ابن عباس كان يذهب إلى أستاذه في بيته لأخذ العلم عنه، فيقف عند الباب، ولا يدق الباب عليه إلى أن يخرج، فقيل له: هلا دققت الباب يا ابن عباس فقرأ الآية الحاضرة
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾
[78].
هكذا نشاهد كيف أن ابن عباس يستخرج من هذه الآية التي نزلت في حق رسول الله
(ص) درساً لجميع العصور ولجميع الأجيال.
أجل لا يقولنّ أحد أنَّ أبا لهب ليس موجوداً اليوم، فما معنى قوله تعالى:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ بحجّة أن هذه الآية تخصّ شخصاً معيناً مذكوراً بالاسم.
فنقول: صحيح أن هذه الآية تذكر شخصاً خاصاً وهو غير موجود الآن،
إلا أن الهدف هو ذكر طريقة تفكير ذلك الشخص وأعماله، فقد كان أبو
لهب كافراً وصادّاً عن سبيل الله، ولقد ندّد به من أجل هذا الموقف
المشين، وإننا إذا قلنا اليوم: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ فإن مقصودنا هو: قطعت يدا من يقصد المسلمين بسوء، وخابت جهود من يصدّ عن سبيل الله سبحانه، ويعرقل مسيرة الحق.
إنّ الحجرات التي كانت في بيت رسول الله (ص) وهي تسعة، كانت مبنية
من سعف النخيل، وكان على باب كل واحدة منها ستار من شعر
المعز، وكانت
مساحة كل واحدة منها ما يقرب من 10 أذرع طولاً أي حوالي خمسة أمتار وارتفاعها ما يقرب
من 7 إلى 8 أذرع أي حوالي أربعة أمتار.
هذه الحجرات هدمت في عهد عبد الملك بن مروان الأموي، وأدخلت في المسجد النبوي، وقد ضجّ الناس وعلت أصواتهم بالبكاء، وكان سعيد بن المسيِّب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها
[79] ويقصد بها حجرات النبيّ
(ص).
[78] تفسير روح المعاني: ج26، ص1341، عند تفسير الآية الحاضرة.
[79] وفاء الوفاء: للسمهودي، ج2، ص517.
1 ـ يجب أن نراعي مكانة الأشخاص وشؤونهم فالنداء من وراء الجدران
والضغط النفسيّ يحرج رسول الله (ص) وفرض الطلبات الشخصية عليه أمر
لا يناسب شأنه (ع) ﴿
... يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ
﴾.
2 ـ ليس من الصحيح أن يوصف عامة الناس بعدم الفهم والجهل في ضوء
موقف واحد غير مؤدب، إنما كان الذين جرت عادتهم على أن ينادوا
النبي من خلف الجدران والحجرات هم وحدهم الجهلة: ﴿
يُنَادُونَكَ
﴾ فالفعل المضارع يفيد الاستمرار المشعر بجهل الفاعل.
3 ـ لا بدّ من فرز حساب الأشخاص الذين اعتادوا على التكلم بصوتٍ عالٍ
وليس بسبب الإهانة والتحقير، عن حساب عديمي الأدب والمغرضين: ﴿
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
﴾ فربما ينادي أحدنا ولده بصيغة بسيطة ومن غير ألقاب ومن
المعلوم أننا لا نريد بهذا الإساءة إليه.
4 ـ إنّ النّداء من وراء الجدار ومن وراء الحجرات وعدم مراعاة الأدب في التعامل مع القائد الإلهي دليل على الجهل، وعلامة من علائم عدم العقل
﴿
يُنَادُونَكَ ... لَا يَعْقِلُونَ
﴾
5 ـ كل من حظي بعقل أقوى وفهم أكمل كان تأدبه أكثر: ﴿
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ ... أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
﴾ قال الإمام علي (ع):
« لا عقل لمن لا أدب له »
[80].
6 ـ إن من طرق الإصلاح والتربية، الانتقاد والتوبيخ لمرتكبي
المخالفات: ﴿
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ ... أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
﴾.
7 ـ كلّما تكررت المخالفة والمعصية استوجبنا تكرار التوبيخ
والتنديد، ويفهم هذا من استخدام صيغة المضارع ﴿
يُنَادُونَكَ ... لَا يَعْقِلُونَ
﴾.
8 ـ يجب احترام برامج الآخرين، وأوقات فراغهم، كما أنّ النبيّ بحاجة إلى الهدوء والراحة، ومعالجة أموره العائليّة، وليس من الصحيح أن يزاحمه المسلمون في كل لحظة وكل وقت:
﴿
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ...
﴾ وهذا يعني أن المزاحمة والإستعجال والمطالبات واستخدام الضغط والهيجان ممنوع.
9 ـ إنّ الصبر والتريث علامة الأدب ﴿ ...
صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ
﴾.
10 ـ إنّ تنظيم لقاءات الناس بالقيادة هو من شؤون القيادة: ﴿
حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ
﴾.
11 ـ كان الرسول الأكرم (ص) قد رتب ونظم أوقات اللقاء مع الناس، فلا حاجة إلى النداء والصراخ من وراء الحجرات.
12 ـ ينبغي معاملة الأشخاص غير المؤدبين والجهلاء والبلهاء بالعفو، والصفح رحمة بهم، ولعدم تيئيسهم، فإنّ الله تعالى مع أنه وبخّ الأشخاص الذين نادوا رسول الله
(ص) بغير أدب طرح أموراً كالصبر والمغفرة والرحمة لكي لا ييأسوا، ولكي يكون ذلك فرصة لهم من أجل تغيير سلوكهم:
﴿
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ... وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
﴾.
[80] غرر الحكم ودرر الكلم للإمام علي (ع).
﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماً
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ ﴾
|
سؤال: في هذه الآية نجد أمراً بالتحقيق والتثبت، ولكن في الآية 12 من هذه السورة حرّم التجسّس في أمور الناس فهل يمكن أن يكون شيئاً واحداً واجباً وحراماً معاً؟
الجواب: إنّ الفحص والتجسس في حياة الآخرين إنّما يكون حراماً وممنوعاً إذا كان في التصرفات الشخصية
اتجاه الأشخاص، مما لا يرتبط بالحياة الاجتماعية وأمنها، ولكن إذا ارتبط الأمر بالمجتمع، وكان مما قد يتهدّده من مخاطر، وأردنا اتخاذ موقف علمي منه، كان عدم التحقيق والفحص والتبين والتثبت بحجة
احترام الأشخاص مما يعرض المجتمع للفتنة والاضطراب.
يمكن اتخاذ دروس هامة من هذه الآية نشير فيما يأتي إلى بعضها:
1 ـ كلّما وجهّت أمراً إلى أحد فخاطبه باحترام: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ...
﴾.
2 ـ لم يكن جميع صحابة النبي (ص) عدولاً بل كان بينهم الفاسق
والمنافق: ﴿
إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ...
﴾.
3 ـ لا مانع من فضح الأشخاص الذين لا يهمهم إلا إلقاء الفتنة: ﴿
إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ...
﴾، ولا بد من التذكير بأن المراد من الفاسق في هذه الآية هو الوليد بن عقبة.
4 ـ يرى الإسلام أنّ أصلاً مهماً في الحياة الاجتماعية هو الثقة
بالناس، أما حساب من فسقه ظاهرٌ بيّن فيختلف حتماً عن حساب الناس
العاديين: ﴿
إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ...
﴾.
5 ـ إن أرضيّة الحوادث شيئان: جهد الفاسق، وإصغاء المؤمن وقبوله
السريع له: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
﴾.
6 ـ نحن وإن كنّا لا نرغب في استخبار الفاسق، وطلب ما عنده من
أخبار ولكن الفسقة هم الذين يسعون إلينا ويحاولون نشر أخبارهم
بيننا: ﴿
جَاءَكُمْ ...
﴾.
7 ـ ليس كل خبر يحتاج إلى التثبت والتحقق لأن النبأ يطلق على الخبر المهم والمفيد الذي يحتاج إلى التحقيق والتثبيت والفحص والتأكد.
8 ـ إن الإيمان لا يتناسب مع التسرع في قبول الخبر من دون تحقيق: ﴿
آمَنُواْ ... فَتَبَيَّنُواْ
﴾.
9 ـ لا تتأخّروا في التحقيق والفحص في الخبر: ﴿
فَتَبَيَّنُواْ
﴾ فحرف الفاء علامة الإقدام السريع.
10 ـ إنّ المجتمع الإسلامي عرضة لكل هجوم خبريّ، وعلى الناس أن
يكونوا أذكياء وحذرين، وأهل تحقيق وتثبت في الأمور: ﴿
إِن جَاءَكُمْ ...
فَتَبَيَّنُواْ
﴾.
11 ـ حيث إنّ الفاسق قد يصدق أحياناً، ولهذا لا ينبغي تكذيب حديثه
دائماً، بل يجب التحقّق والتثبت من خبره:
﴿
فَتَبَيَّنُواْ
﴾.
12 ـ علاج المفاسد والأدواء الاجتماعية إنما يتهيّأ بيقظة الأمة
الإسلامية: ﴿
فَتَبَيَّنُواْ
﴾.
13 ـ لا بد أن نردع الفاسق بالتحقيق في خبره، والتثبت من كلامه،
وينبغي أن لا ندع الفسقة يملكون زمام المبادرة، ويقودون الساحة
كيفما يريدون في المجتمع الإسلامي، ويجب أن نضيّق عليهم الطريق:
﴿
فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْماً
﴾.
14 ـ في مجال الإدارة يجب علاج الواقعة قبل وقوعها، في البداية
يكون التحقيق ثم يتم الإقدام: ﴿
فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ
﴾.
15 ـ بيان فلسفة الأحكام الإلهية والكشف عن حكمتها يزيد من رغبة
الناس في القيام بالأوامر الدينية وفلسفة وحكمة التحقيق والتثبت من
الأخبار هو اجتناب وقوع الفتنة في المجتمع: ﴿
فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ
﴾.
16 ـ إن هدف المخبرين الفسقة هو إيجاد الفرقة والفتنة والإخلال
بالأمن في المجتمع: ﴿
أَن تُصِيبُواْ قَوْماً بِجَهَالَةٍ
﴾.
17 ـ الإقدام على أساس خبر غير متحقق منه يمكن أن يعرّض جماعة لخطر
الفناء: ﴿
أَن تُصِيبُواْ قَوْماً
﴾.
18 ـ الإقدام العجول ومن دون التحقيق والتثبت هو ضرب من الجهالة:
﴿
أَن تُصِيبُواْ قَوْماً بِجَهَالَةٍ
﴾.
19 ـ العمل بالأوامر الإلهية يمنع من الندم، فلنتحقق من الأخبار
الواردة حتى لا نقع في الندامة: ﴿
فَتَبَيَّنُواْ ...
نَادِمِينَ
﴾.
20 ـ نتيجة العمل غير المدروس بعناية هي الندامة: ﴿ ...
نَادِمِينَ
﴾.
ما هو
الفسق؟ ومن هو الفاسق؟ |
في هذه الآية وهي السادسة من سورة الحجرات
يوصي الله تعالى المسلمين بأنه إذا جاءهم فاسق بخبر مهم كان عليهم أن يحققوا فيه، ويتثبتوا منه. فلنعرف هنا ما هو الفسق؟ ومن هو الفاسق؟ وما هي الطرق التي تساعدنا على تمييز النبأ الكاذب عن النبأ الصادق.
« الفسق » في اللغة هو الانفصال والخروج، وفي اصطلاح القرآن يعني الفسق: الخروج عن الدين، والابتعاد عن الطريق المستقيم.
وهذه الكلمة تستخدم في من يرتكب الإثم، ويُطلق عنوان الفاسق على من يرتكب الذنوب الكبيرة ولم يتب.
وقد وردت لفظة « الفسق » في قوالب وصيغ مختلفة ومتنوعة 54
مرة في القرآن الكريم، واستخدمت أو بالأحرى أطلقت على أفعال وحالات منها:
1 ـ قد يطلق هذا الوصف في مجال الانحراف الفكري والعقائدي، كما جاء في شأن فرعون وقومه:
﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً
فَاسِقِينَ ﴾
[81].
2 ـ قد يطلق هذا الوصف على المنافق صاحب الوجوه المتعدّدة:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ ﴾
[82].
3 ـ قد
يطلق هذا الوصف على من يتعرّض بالأذى للأنبياء، وعلى المتمرّدين
على تعاليمهم وأوامرهم، لقد وصف القرآن بني إسرائيل الذين لم
يأتمروا بأمر موسى (ع) وكانوا يؤذونه بالفاسقين: ﴿ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن
نَّدْخُلَهَا ... الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾
[83].
4 ـ وقد
يطلق وصف الفاسق على المحتالين: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾
[84].
5 ـ وأحياناً يوصف من يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بأنهم الفسقة: ﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ
بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾
[85].
6 ـ وقد يسمى الذين يفضلون مساكنهم والعائلة، والأمور المادية على
الجهاد في سبيل الله: ﴿ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ ...
أَحَبَّ ...
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
[86].
7 ـ وربما يطلق على الانحرافات الخسيسة والشهوانية الفاسدة، يصف
القرآن الذين كانوا يرتكبون اللّواط في مجالسهم بوقاحة بالفاسقين:
﴿ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾
[87].
8 ـ
وأحياناً يطلق عنوان الفسق على الاستفادة من الأطعمة الحرام: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...
ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾
[88].
9 ـ وأحياناً يطلق عنوان الفسق على اتّهام النساء المحصنات
الطاهرات بتهمة الزِّنا: ﴿ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... وَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾
[89].
[81] سورة النمل، الآية: 12.
[82] سورة التوبة، الآية: 67.
[83] سورة المائدة، الآيتان: 24 ـ 25.
[84] سورة الأعراف، الآية: 163.
[85] سورة الأعراف، الآية: 165.
[86] سورة التوبة، الآية: 24.
[87] سورة العنكبوت، الآية: 34.
[88] سورة المائدة، الآية: 3.
[89] سورة النور، الآية: 4.
لقد نهت الآيات والروايات المسلمين عن مصادقة الفاسق.
1 ـ فقد روي عن الإمام الصادق والإمام الباقر والإمام السّجّاد
(ع) أحاديث عديدة تنهى عن مصادقة المتظاهر بالفسق الذين يبيعونك بلقمةٍ أو أقلّ من ذلك ولا وفاء لهم
[90].
2 ـ قال الإمام علي (ع):
« لا أقبل شهادة الفاسق »
[91].
3 ـ قال رسول الله (ص) في هذا المجال: « أربعة ليست غيبتهم غيبة: الفاسق المعلن بفسقه
... »
[92].
4 ـ نهى رسول الله (ص) عن إجابة الفاسقين إلى طعامهم
[93].
[91] وسائل الشيعة: ج27، ص394.
[92] مستدرك الوسائل: ج9، ص128.
[93] من لا يحضره الفقيه: ج4، ص7.
التحقيق
علاج الأمراض الاجتماعية: |
كان الأنبياء
(ع) على طول التاريخ يواجهون شعوباً ومجتمعات مصابة بأنواع عديدة من الأمراض
الاجتماعية
والأخلاقية، بل وحتّى في عصرنا الحاضر لا تزال المجتمعات العصرية رغم كل ما أحرزته من تقدم في المجالات العلمية
والاقتصادية
والاجتماعية تعاني من تلك الأمراض بالقوة نفسها.
وتلك الأمراض هي:
1 ـ التقليد الأعمى للأسلاف والعادات والتقاليد الخرافية.
2 ـ إتباع الظنون والشائعات والتكهنات والتحاليل وأضغاث الأحلام وغير ذلك من الأمور الخيالية.
3 ـ الحكم والقضاء من دون علم، واتخاذ موقف ما من دون علم، والمدح أو النقد من دون علم، والكتابة والقول من دون علم.
إن الأمر بالتحقيق والتثبت الّذي ورد في هذه الآية علاج ناجحٌ لجميع تلك الأمراض والأدواء الاجتماعية.
إذا اعتمد مجتمعنا أسلوب التحقيق والتثبت، والفحص والدراسة، عولجت كل تلك الأمراض والآفات الاجتماعية في مكان واحد.
نموذجٌ مُرّ:
بعد معركة « خيبر » بعث رسول الله (ص) شخصاً يدعى « أسامة بن زيد » برفقة جماعة من المسلمين إلى اليهود الذين كانوا يسكنون في قرى « فدك » لدعوتهم إلى الإسلام أو القبول بشروط الذمّة.
ولما سمع رجل من اليهود يدعى مُرادس
هذا الخبر جعل أهله وأمواله في مكان حصين في الجبل حفاظاً عليهم، ثم تظاهر بالدخول في الإسلام، وتشهّد الشهادتين ثم عمد إلى استقبال المسلمين والإحتفاء بهم، إلاّ أنّ « أسامة » أقدم على قتل ذلك الرجل ظنّاً منه بأنه أسلم خوفاً ورهباً، وأن إسلامه ليس إسلاماً حقيقياً.
ولمّا سمع النبي (ص) بذلك انزعج، فنزل قوله تعالى:﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ﴾
[94] أي
أن الله قادر على أن يعطيكم الكثير من دون قتل الأبرياء.
[94] سورة النساء، الآية: 94.
لقد جعل الإسلام مبدأ الإتقان والإحكام في الأمور من آكد
اهتماماته ومن جملة ذلك:
1 ـ في مجال أصول العقيدة، منع الإسلام من التقليد وقال: يجب أن يختار كل شخص عقيدته بعقله وفكره ونفسه.
2 ـ في مجال القيادة يشترط توفر العصمة أو العدالة إلى جانب الشروط الأخرى في القائد.
3 ـ في مجال التقليد كذلك يعتبر من شرائط مرجع التقليد إلى جانب العلم والعدالة أن يكون المرجع مجتنباً للهوى وبصيراً بمسائل العصر ومشاكل الزمان.
4 ـ في مجال القضاء يُشترط في القاضي مضافاً إلى العلم والعدالة أن تكفل حياة القاضي، وتؤمّن كل احتياجاته المادية، لكي لا تدفعه الحاجة، والفقر إلى قبول الرشوة على الحكم.
5 ـ في مجال تنظيم المستندات التجارية اختصت أطول آية في القرآن الكريم بتنظيم المستندات التجارية والوثائق المرتبطة بالمعاملات.
بل نرى كيف أنّ الإسلام اهتم بالدقة والإتقان، وأوصانا بالإحكام حتى في دفن الموتى وإنّ المسلمين رأوا بأم أعينهم كيف أنّ النبيّ
(ص) أتقن صنع لحد مسلم مات ودفن بحضرة النبي (ص) فلمّا قيل له: لماذا أتعبت نفسك يا رسول الله، وهو عن قليل سيبلى؟
فقال:
إن الله يحب امرءاً إذا عمل عملاً أن يُتقنه.
ولقد قال القرآن الكريم في مجال الكلام أيضاً: ﴿
وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
﴾ أي محكماً متقناً ومنطقياً.
بعد هذا نعطف عنان البحث على مسألة النبأ والخبر في الإسلام.
الخَبَر
والنَبأ في الإسلام: |
لقد وردت في الإسلام تأكيدات كثيرة حول مسألة الخبر والنبأ من ذلك:
أ ـ لقد أمرنا في ثنايا الكتاب العزيز بأن لا نتبع ما لا نعلم لأن السمع والبصر والفؤاد كلها مسؤولون عنه يوم القيامة
[95].
ب ـ لقد ندّد القرآن الكريم بشدة بالذين يشيعون في الناس كل ما يسمعونه من دون تثبت، وأمرنا بأن نرد ذلك إلى من يقدر على فهمه واستنباطه، وإذا عرف المختصون في الأمر صحته جاز نشره ونقله إلى الآخرين
[96].
ج ـ لقد قرر الإسلام جزاءً شديداً لمن يثيرون قلق الآخرين ببث الأخبار الكاذبة في المجتمع
[97].
د ـ قال النبي (ص) في أخريات حياته وكان في آخر سفرةٍ إلى الحج: « قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به »
[98].
هـ ـ لعن الإمام جعفر الصادق (ع) من كذب وافترى على أبيه الإمام الباقر
(ع) وقال: « لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة »
[99].
و ـ وقال الإمام الرضا (ع):
« إنّا إن تحدَّثنا حَدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة، وإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه »
[100].
ز ـ إنَّ أحد أهمّ العلوم الإسلامية هو علم الرجال الذي أسس لمعرفة الخبر الصحيح وتمييزه عن غير الصحيح، وهو يقيّم الأشخاص الذين يروون الأحاديث.
[95] سورة الإسراء، الآية: 36.
[96] سورة النساء، الآية: 83.
[97] سورة الأحزاب، الآية: 60.
[98] بحار الأنوار: ج2، ص225.
[99] بحار الأنوار: ج2، ص250.
[100] بحار الأنوار: ج2، ص250.
إنّ المهم هو التحقيق والدراسة وكسب العلم حتى لا يتمّ أي عمل على أساس من الجهل.
أما الإسلام الذي هو دين جامع فله منهج كفيل بالتمييز بين الصحيح وغير الصحيح.
فقد وضع طرقاً وأساليب خاصة لذلك منها:
1 ـ الرجوع إلى الكتب والوثائق المقبولة إلى درجة أن رسول الله
(ص) أيضاً استشهد بالتوراة والإنجيل لإثبات نبوته وصحة دعواه، قال تعالى عنه:
﴿ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ ﴾
[101].
2 ـ سؤال العلماء الأتقياء: ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ ﴾
[102].
3 ـ شهادة شاهدين عادلين: ﴿ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾
[103].
4 ـ الدراسة الشخصية وهو أن يقوم الشخص نفسه بالتقييم والدراسة مثل تحقيق النجاشي بنفسه حول المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وحول عقيدتهم.
5 ـ جمع الشواهد والقرائن، فقد يحصل للإنسان يقين بحقّانيّة شيء من خلال جمع الشواهد والقرائن حول حديث أو زميل أو زمان أو مكان أو طريقة عمل.
فمثلاً للوقوف على صحة دعوى رسول الله
(ص) وصحة نبوته يمكن الاستفادة من شواهد عديدة مثل كونه أميّاً لم يتعلم الكتابة والقراءة، وقيامه ضدّ الوثنية في قلعة الوثنية، وما جاء من كتاب بليغ عظيم المحتوى، وكونه معروفاً بين الصديق والعدو، وخلقه العظيم، وأصحابه الأوفياء، وسلوكه الإنساني يوم فتح مكة وعفوه وصفحه في ذلك اليوم، وأوامره العالمية، وقيام جميع ممارساته على أساس الحق والتزامه بالعدل والإنصاف في جميع الحالات.
فهذه الشواهد والقرائن تثبت حقّانية رسول الله
(ص).
6 ـ تناغم كلامه مع كلماته السابقة وخلوّ منطقه من التناقض والتهافت.
7 ـ انسجام كلامه (ص) مع كلام الآخرين، مثلاً يستفيد الإنسان مطلباً من حديث رسول الله
(ص)، وعندما يرى أن شخصيات كباراً فهموا من حديث النبي (ص) ما فهمه هو يطمئن إلى فهمه.
8 ـ المعرفة بالشيء من طريق محقق مبعوث خاص كما قال الإمام علي
(ع):
« عيني بالمغرب أخبرني ».
9 ـ المعلومات الواردة عن طريق الناس يمكن أن تكون مصدراً موثوقاً به للتحقيق، قال الإمام علي
(ع):
« بلغني أنّك ... ».
10 ـ اعتماد الآخرين، فمثلاً إذا اطمأن العلماء ومراجع التقليد إلى حديث ووثقوا به، أفتوا طبقه، أو اقتداء جماعة من المتدينين في الصلاة بشخص.
هذا النوع من الثقة والاعتماد يمكن أن يجعل أداة فاعلة للتحقيق.
11 ـ سوابق الأشخاص في مجال العمل يمكنها أيضاً أن تكون طريقاً
مطمئناً للتحقيق، فقد قال رسول الله (ص) للناس: لماذا تشكّون فيّ
والحال أنكم تعلمون عنّي كلّ شيء: ﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً ﴾
[104].
[101] سورة الأعراف، الآية: 157.
[102] سورة النحل، الآية: 43 ـ سورة الأنبياء، الآية: 7.
[103] سورة المائدة، الآية: 95.
[104] سورة يونس، الآية: 16.
حيث إنّه في الآية
6 صدر أمر بالتحقيق والفحص في الأخبار، وجب أن نلقي نظرة إلى مسألة الكذب.
الكذب هو نوع من النفاق، لأن الإنسان قد يقول شيئاً بلسانه وهو لا يعتقد به في قلبه وباطنه:﴿ يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾
[105].
الكذب قد يظهر في صورة تهمة ونسبة باطلة إلى شخصٍ طاهرٍ وبريء:
﴿ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ﴾
[106].
الكذب قد يظهر في صورة يمين، والمراد به هو اليمين الغموس:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ... ﴾
[107].
وقد يظهر الكذب في قالب البكاء كما فعل إخوة يوسف حيث جاؤوا أباهم عشاء يبكون مدّعين بأن الذئب هو الذي قطّع يوسف (ع):
﴿ وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاءً
يَبْكُونَ ﴾
[108].
الكذب لا يكون باللسان فقط بل قد يكون بالعمل، فإخوة يوسف لطّخوا
ثوب يوسف بالدم، وبهذا الكذب العملي أظهروا مطلبهم (أعني براءة
أنفسهم من دم يوسف) « بدم كذب »
[109].
إن الإسلام نهى حتى عن المزاح الكاذب
[110].
الكذب مفتاح كثير من الذنوب
[111].
الكذب يحرم الإنسان من تذوّق طعم الإيمان
[112] ويوجب خراب الإيمان
[113].
قالَ الإمام الباقر (ع):
« لا سَوأة أسوأ من الكذب »
[114].
وقال الإمام علي (ع): « إيّاك وصحبة الكذّاب فأنتَ منه بمنزلة السّراب »
[115].
[105] سورة الفتح، الآية: 11.
[106] سورة يوسف، الآية: 25.
[107] سورة التوبة، الآية: 74.
[108] سورة يوسف، الآية: 16.
[109] سورة يوسف، الآية: 18.
|