تفسير سورة العنكبوت

 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد

 - بيروت - لبنان

الطبعة الأولى، ذو الحجة 1434هـ // 2012م

فهرس الكتاب

الجزء الأول

الجزء الثاني

 تفسير الآيات

 الآية 36 71  الآية 52 111
 الآية 37 76

 الآيتان 53 - 54

112
 الآية 38 77

 الآية 55

113
 الآية 39 78  الآية 56

114

 الآية 40 79  الآية 57 122
 الآية 41 82  الآية 58 123
 الآيتان 42 - 43 88  الآيتان 59 - 60 124
 الآية 44 89  الآية 61 126
 الآية 45 90  الآيتان 62 - 63 127
 الآية 46 101  الآية 64 129
 الآية 47 105  الآية 65 132
 الآية 48 105  الآية 66 135
 الآية 49 106  الآية 67 136
 الآية 50 108  الآية 68

136

 الآية 51 110  الآية 69

137

 


 


الآية (36)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)

 

كلمة «أخاهم» إشارة إلى منتهى محبة هؤلاء الأنبياء إلى أممهم، وإلى عدم طلبهم السلطة، وبالطبع فإنَّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضاً. و«مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن، وتدعى اليوم بـ «معان» وهي في شرق خليج العقبة، وكان شعيب (ع) وقومه يقطنون فيها. وشعيب كسائر أنبياء الله العظام، بدأ بالدعوة إلى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، وهما أساس كلّ دين وطريقة، ﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾. فالإيمان بالمبدأ يكون سبباً لإحساس الإنسان بأنّ الله يراقبه مراقبة دقيقة بشكل دائم ويسجل أعماله، والإيمان بالمعاد يُذكِّر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كلِّ شيء وكلّ عمل مهما كان تافهاً... ومن المسلم به أن الاعتقاد بهذين الأصلين له أثره البالغ على تربية الإنسان وإصلاحه [42] !.

كلمة «تعثوا» من «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الافساد، وأكثر ما يستعمل هذا التعبير في «المفاسد الأخلاقية».

نبي الله شعيب كان مكلفاً بهداية قبيلتين:

أ: أصحاب مدين الذين هلكوا بالصيحة.

ب: أصحاب الأيكة الذين نزلت عليهم الصاعقة بما يعرف بعذاب «يوم الظلة»، حيث اجتمعوا تحت ظل السحابة من شدة الحرّ، فألهبها الله تعالى عليهم ناراً، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد، وصاروا رماداً [43] .

 

1- لا يجب أن ننسى العواطف والأحاسيس في دعوة الناس إلى الله تعالى: ﴿ أَخَاهُمْ ... يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ ﴾. فتعبير «يا قوم» نوع من العاطفة والمحبة.

2- التوحيد والمعاد في رأس أولوية دعوة الأنبياء: ﴿ اعْبُدُواْ اللهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾.

3- عبودية الله والإيمان بمبدأ المعاد يعدّ أرضية صالحة لتجنب الفساد: ﴿ اعْبُدُواْ اللهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْاْ [44] .

 

إنَّ ما جرى من حوار بين المولى تعالى والملائكة في إحداث خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، حيث يقول تعالى عن اعتراض الملائكة وقولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [45] ، يشير إلى أنَّ القتل وسفك الدماء والعمل على انعدام الأمن في بلاد الله تعالى من أهم مصاديق الفساد، لكن المولى تعالى يتحدث عن موارد أخرى ويعدها من الفساد، من هذه الموارد الفساد المالي والاقتصادي. فقوم شعيب (ع) كانوا يبخسون الناس أشياءهم ولا يوفون الكيل والميزان: ﴿ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ [46] .

وهذا نوع من الفساد الاقتصادي، لأنَّه تضييع لحق الناس، وهو أمر يجر عواقب وخيمة وسيئة على المجتمع، ويسبب «لقمة الحرام»، ولقمة الحرام تجعل من الإنسان إنساناً فاجراً وسيئاً إلى أقصى الحدود، فإذا لم يجبر أكل الحرام، فقد يصل الإنسان إلى حالة الكفر والنكران.

والقرآن الكريم في بداية سورة المطففين يقول: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴾، ثم يصفهم بعد ذلك «بالفجار»، ثم يطلق عليهم صفة
﴿ الْمُكَذَّبِينَ ﴾، وهنا يشير إلى أنَّ الإنسان يسقط تدريجياً، ففي البداية يكون مطففاً وآكلا للحرام، ثمَّ يصبح فاجراً ومفسداً، ثمَّ بعد ذلك يقف مع الكفار والمشركين في وجه الحق.

وأكبر شاهد على ذلك ما جرى في كربلاء، حيث وقف جيش الكوفة والشام في وجه الإمام الحسين يريدون قتاله، وهم يعرفونه ويعرفون أمه وأباه وجده، لكن دليل ذلك كان واضحاً، وقد عبر عنه الإمام الحسين بقوله: «فقد ملئت بطونكم من الحرام» [47] .

وقد وردت أحاديث كثيرة حول مسألة أكل الحرام وتأثيره على حياة الناس وسلوكهم. فقد ورد في الحديث: «إن الحرام لا ينمي، وإن نمى لم يبارك له فيه» [48] .

وفي حديث آخر: «كسب الحرام يبين في الذرية» [49] .

كذلك الأمر بالنسبة إلى صحة بعض العبادات، فمن المعروف أنَّ صحة الصلاة مرهونة بأن لا يكون المكان واللباس والماء أو «الغسل» مغتصباً.

نعم، في حال تصرفنا بمال حرام في صغرنا، فيجب أن نرضي صاحبه على نحو ما، فإن كان ميتاً يجب أن نرضي ورثته.

وأكثر من ذلك، فإن طالبنا شخص بحق له في أعناقنا وكنا في حالة الصلاة، يجب علينا أن نوقف صلاتنا مباشرة، ونؤدي حقه ثمَّ نبدأ بالصلاة من جديد.

وجاء في بعض الروايات أنَّ الرجل إذا تزوج وضمر أن يأكل حقَّ زوجته من المهر، فإنَّ زواجه يعد من الزنا بحسب الروايات.

 

الفساد يقابله الاصلاح ويطلق على كلِّ عمل تخريبي. ويقول الراغب في مفرداته: «الفساد خروج الشيء عن الاعتدال قليلاً أو كثيراً، ويضاده الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة»، وعلى ذلك فكل عمل فيه نقص وكلُّ إفراط وتفريط في المسائل الفردية والاجتماعية هو مصادق للفساد، وفي كثير من موارد القرآن الكريم ذكر الفساد في مقابل الاصلاح: ﴿ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾. وقوله تعالى: ﴿ وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾. كما ذكر الإيمان والعمل الصالح في مقابل الفساد، حيث يقول جلَّ وعلا
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾. ومن جانب آخر ذكر الفساد مع كلمة ﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ في كثير من آيات القرآن الكريم نحو 20 (آية ونيف)، وهي توضح الجوانب الاجتماعية للمسألة، ومن جانب ثالث ذكر الفساد والإفساد مع ذنوب أخرى، ويحتمل أن يكون مصداقاً لها، وبعض هذه الذنوب كبيرة وبعضها الآخر أصغر فمثلاً قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ﴾. ومرة يعتبر فرعون من المفسدين وأثناء توبته عند غرقه في النيل يقول: ﴿ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾، وقد استعمل الفساد في الأرض تعبيراً عن السرقة كما في قصة يوسف (ع): ﴿ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾، ومرة أخرى كناية عن قلّة البيع كما في قصة شعيب (ع) حيث نقرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾، وأخيراً استخدم القرآن الكريم الفساد في التعبير عن اضطراب النظام الكوني: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا ﴾، نستفيد من مجموع هذه الآيات إنَّ الفساد بشكل عام أو الفساد في الأرض له معنى واسع جداً، بحيث يشمل أكبر الجرائم مثل جرائم فرعون وسائر الطواغيت، كما يشمل الأعمال الأقل إجراماً، منها بخس الناس أشياءهم ويشمل كذلك أيّ خروج عن حالة الاعتدال [50] .


 


الآية (37)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)

«الرجفة» تعني الزلزلة الشديدة، و«جاثمين» «الجاثم» مشتق من «جثم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما، ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع الزلزلة الشديدة، بحيث أنَّ الحادثة لم تمهلهم ليقوموا وينهضوا، فانهارت عليهم الجدران ونزلت عليهم الصاعقة وهم في حالة الجثو على الركب، فهلكوا وماتوا.

 

1- تكذيب الأنبياء بسبب نزول العذاب الإلهي: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ ﴾.

2- كيف يحق للإنسان الذي لا قدرة له على الفرار من العذاب الإلهي أن يكذب الأنبياء والرسل: ﴿ فَكَذَّبُوهُ ... فَأَصْبَحُواْ ... جَاثِمِينَ ﴾.

3- يمكن للبيت الذي هو محل السكن والراحة والطمأنينة أن ينقلب إلى مكان للعذاب والابادة - إذا أراد الله تعالى - أن يعذب المكذبين والظالمين: ﴿ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾.


 


الآية (38)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ (38)

 

1- إن حفظ بعض الآثار التاريخية الدالة على الأقوام الغابرة جيد لأخذ العبر والدروس: ﴿ تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾.

تضيف الآية ﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾ المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن. فأنتم في كلِّ سنة تمرون في أسفاركم للتجارة بأرض «الحجر» التي تقع شمال جزيرة العرب، وبالأحقاف التي تقع قريباً من اليمن وجنوبها، وترون آثار المساكن المتهدمة وبقاياها من عاد وثمود، فعلام لا تعتبرون؟!.

2- الأعمال السيئة التي يرونها جيدة بنظرهم، إنَّما هي من فعل الشيطان فقد زيّنها وجمّلها في أعينهم: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾، فالغرور والتكبر والإحساس بالقوة والقدرة، والافتخار بالثروة، كلُّ ذلك من مظاهر تزيين الشيطان.

3- التبليغ الثقافي المسموم والمنحرف وتبريراته من أجل تزيين الذنوب والأعمال القبيحة، من عوامل الانحراف عن الحق: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ... فَصَدَّهُمْ ﴾.

4- الإنسان يحب -بالفطرة - الزينة والجمال، والشيطان يستفيد من هذه الميول الباطنية لدى الإنسان بصورة سيئة ليزين له أعماله القبيحة: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ... فَصَدَّهُمْ ﴾.

5- يمكن للإنسان البصير والمطلع أن يتعرض لإغفال الشيطان وتزيينه: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ... وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ﴾.

6- الله سبحانه لا يمكن أن يعذب قوماً من دون دليل وبينة وبصيرة واطلاع: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ... وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ﴾.

7- الناس يملكون المعرفة والإطلاع ويستبصرون من طرق عديدة: الفطرة والعقل والأنبياء: ﴿ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ﴾، لكن الشيطان ليس عاطلاً عن العمل، بل يجهد في سبيل اضلال الناس: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ... فَصَدَّهُمْ ﴾.


 


الآية (39)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ (39)

1- عاقبة المستكبرين الهلاك، ومصيرهم درس وعبرة لغيرهم:
﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ... ﴾.

2- سنة الله تعالى إتمام الحجة ثمَّ المؤاخذة والحساب: ﴿ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ﴾.

3- الاستكبار يتجلى بمظاهر مختلفة ونماذج متفاوتة: فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة. وفرعون كان مظهر القدرة الاستكبارية المقرونة بالشيطنة. أما هامان فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين: ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ... فَاسْتَكْبَرُواْ ﴾.

4- القوة والثروة لا تؤثر في مقابل قدرة الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ ﴾.

5- ليس هناك من قوة تقف في مواجهة العذاب الإلهي، فلا أمم تستطيع ذلك، ولا أفراد مهما بلغت قدراتهم وثرواتهم: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ ... وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ... ﴾.


 


الآية (40)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

«الحاصب» معناه الاعصار الذي يحمل حصى كبيرة معه، و«الحصباء» «الحصى الصغيرة». والمقصود بـ(منهم) هنا هم (عاد) قوم هود، وحسب ما جاء في بعض السور كالذاريات والحاقة والقمر أصابهم اعصار شديد مهلك خلال ثمانية أيام وسبع ليال فدمّرهم تدميراً.

يقول القرآن: ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ [51] ، ومنهم من أخذتهم الصيحة وقلنا: إنَّ الصيحة السماوية التي هي نتيجة الصاعقة التي تقترن مع الزلزلة في زمان الوقوع، وهذا هو العذاب الذي عذّب الله به ﴿ قَوْمِ هُودٍ ﴾ كما عذّب آخرين.. ويقول القرآن في الآية (67) من سورة هود في شأن ثمود
﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾، ومنهم من خسفنا به الأرض وهذا هو عذاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل وقد أشير إليه في الآية (81) في سورة القصص، ومنهم من أغرقنا ونعرف أنَّ هذا الكلام إشارة إلى عذاب فرعون وهامان وجنودهما، وقد ذكرت هذه القصة في سور متعددة من القرآن الكريم.

وعلى كلِّ حال فمع الالتفات لهذا البيان فإنَّ أنواع العذاب الأربعة ذكرت هنا للطوائف الأربعة المذكورين في الآيتين المتقدمتين، حيث أشارت إلى ضلالهم وانحرافهم وذنوبهم، دون أن تذكرا عقابهم، ولكن من البعيد أن تشمل هذه الأنواع الأربعة من العذاب الواردة في هذه الآية أقواماً آخرين كما يقول بعض المفسرين: «كالغرق لقوم نوح وأمطار الحجارة والحصباء على قوم لوط»، لأنَّ عقابهم مذكور هناك وفي موارد ذكرهم...، وأما عقاب الفئات الأربع فلم يذكر في هذه السلسلة من الآيات، ولذا بيَّنه الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين. وبين في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنَّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم، وهم زرعوا فحصدوا، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. أجل، إنَّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم، حيث يغلقون جميع طرق الاصلاح في وجوههم. فالله أكثر عدلاً وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم [52] .

 

1- من المفيد في التبليغ بيان جامع وملخص للمطلب بعد الشرح والتفصيل، وهذا مؤثر: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا ... ﴾.

2- لا يرتبط العذاب بيوم القيامة فقط، فبعض الأمم نالت عقابها في هذه الدنيا أيضاً: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا ... ﴾.

3- لا يجب أن نغتر إذا أمهلنا الله سبحانه، لأن عاقبة المعاصي والذنوب العقاب: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ﴾.

4- أبواب العذاب من عنده سبحانه مفتوحة، ويده قادرة على البطش: ﴿ حَاصِبًا - خَسَفْنَا - أَغْرَقْنَا ﴾.

5- عذاب المولى عزَّ وجلَّ يشمل الأفراد والجماعات: ﴿ حَاصِبًا - خَسَفْنَا ﴾.

6- نزول العذاب السماوي مبني على نظام العدالة الإلهي: ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾.

7- إنَّ مصير كلِّ فرد رهن أعماله: ﴿ كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.

8- التكبر في مقابل الحق ظلم بحق النفس: ﴿ كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.

9- الاستمرار في الظلم اسوأ من الظلم نفسه: ﴿ كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.


 


الآية (41)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41)

هذه السورة سميت بسورة العنكبوت بمناسبة ذكر اسم هذه الحشرة في السورة.

ينقل عن الفيلسوف أفلاطون قوله: أنَّ الذبابة هي أحرص حشرة على معاشها، فهي تجلس على الأطعمة الحلوة والحامضة، والملوثة والقذرة، وحتى على الجروح، لكن العنكبوت وهي من أقنع الحشرات تجلس في زاوية وهي قانعة بمعيشتها، والعجيب الملفت للنظر أنَّ المولى تعالى قد جعل أحرص حشرة طعاماً لحشرة قانعة منزوية، فهي تذهب بأرجلها خلف العنكبوت التي تصطادها بواسطة خيوطها.

1- الاستفادة من المثل يعد من أفضل الأساليب التربوية والتعليمية وأنجعها: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ ... ﴾ وأفضل الأمثلة ينطبق على كل زمان ومكان، ولكل طبقات المجتمع: ﴿ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ ﴾.

2- بناء الشرك مثل بناء العنكبوت ضعيف وواهن: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ ... كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ ﴾.

3- العنكبوت تضع بيوضها في الأماكن المهجورة، كذلك الشرك يترعرع في النفوس البعيدة عن الله تعالى ويؤثر فيها: ﴿ دُونِ اللهِ - كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ ﴾.

4- بيت العنكبوت ليس سوى اسم لبيت، وما دون الله ليس أكثر من اسم فقط: ﴿ دُونِ اللهِ ... كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ ﴾.

5- تتصور العنكبوت في عالم خيالها أنّ لها بيتاً، وأنه يستطيع مقاومة الحوادث الطبيعية، والمشرك كذلك الأمر لا يملك سوى الأوهام:
﴿ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ﴾.

6- ولاية الله سبحانه بنيان مرصوص مستحكم، أما ولاية غير الله فبناء واهن وضعيف: ﴿ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ﴾.

7- في بعض الأحيان تصبح الدوافع والخيالات والميول والرغبات مانعاً لإدراك الحق وفهمه: ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾، وكما ورد في الحديث: «حب الشيء يعمي ويصم»، فإنَّ بعض الميول والرغبات تجعل الإنسان أعمى وأصم.

8- المشركون جاهلون وهم بجهلهم وجهالتهم يسعون خلف ما هو دون الله: ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.

9- بعض الناس يصلون إلى حالة من الفساد، بحيث لا يرجى منهم أي أمل: ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.

 

كلمَّا أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّاً انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة، يقول تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.

كم هو بديع هذا المثال وطريف، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!.

تأمّلوا بدقّة... إنّ كلَّ حيوان وكل حشرة له بيت أو وكر وما شابه ذلك، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت! فكل بيت ـ عادةً ـ يحتوي على سقف وباب وجدار، وهو يحفظ صاحبه من الحوادث، ويكون مكاناً أميناً لإيداع الأطعمة والأشياء الأُخرى وحفظها... فبعض البيوت لا سقف لها إلاّ أنّها على الأقل لها جدار، كما أنّ هناك بيوتاً لا جدار لها إلاّ أنَّ لها سقفاً.

لكن بيت العنكبوت المنسوج من خيوط دقيقة واهية، ليس له سقف ولا جدار ولا ساحة ولا باحة ولا باب، هذا من جانب... ومن جانب آخر فإنّ مواد بنائه واهية جدّاً وسرعان ما تتلاشى إزاء أية حادثة بسيطة، فهي لا تقدر على المقاومة.

فلو هبّ نسيم عليل لتمزق هذا النسيج. ولو سقطت عليه قطرات المطر لتلاشى وتلف. ولو لامسته شعلة خفيفة لأحرقته. وحتى لو تراكم عليه الغبار لتركه أشلاء ممزقة معلقة.

فآلهة هؤلاء الجماعة ومعبوداتهم «الكاذبة» كمثل هذا البيت لا تنفع ولا تضر ولا تحلّ مشكلة، ولا تكون ملجأ لأحد في المحنة والشدّة!.

صحيح أنَّ هذا البيت للعنكبوت ـ مع ما لها من أرجل طويلة ـ هو محل استراحتها، وشركٌ لاصطياد الحشرات والحصول على الغذاء إلاّ أنَّ هذا البيت ـ بالقياس إلى البيوت الأُخرى للحيوانات والحشرات ـ في منتهى الوهن والانهيار!. فمن يعتمد على غير الله ويتخذ من دونه ولياً، فقد اعتمد على بيت العنكبوت!!.

والذين اختاروا سوى الله سبحانه، اعتمدوا على بيوت العناكب، كعرش فرعون وتاجه، والأموال المتراكمة عند قارون، وقصور الملوك وخزائنهم، جميع هذه الأمور المذكورة كمثل بيت العنكبوت!. فهي لا تدوم، ولا يمكن الاعتماد عليها، ولا أساس لها حتى تكون راسخة أمام طوفان الحوادث.

والتاريخ يدل على أنّه لا يمكن الاعتماد على أيّ من هذه الأُمور حقّاً. أمّا الذين اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه، فقد اعتمدوا على سدّ حصين منيع.

والجدير بالذكر، أنَّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل، هو نفسه من عجائب الخلق، والتدقيق فيه يعرِّف الإنسان على عظمة الخالق أكثر. فخيوط العنكبوت «مصنوعة» ومنسوجة من مائع لزج، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جمد وتصلّب. والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.

يقال: إنَّ كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّاً ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!

وقال بعضهم: إنَّ الوهن في هذه الخيوط منشؤه دقتها القصوى، ولولا هذه الدقة فإنّها أقوى من الفولاذ «لو قدر أن تفتل بحجم الخيط الفولاذي».

العجيب أنَّ هذه الخيوط تنسج أحياناً من أربع جدائل كل جديلة هي أيضاً منسوجة أو مصنوعة من ألف جديلة! وكلُّ جديلة تخرج من ثقب صغير جدّاً في بدن العنكبوت، ففكروا الآن في هذه الخيوط التي تتكون منها هذه الجديلة كم هي ناعمة ودقيقة وظريفة؟!

وإضافةً إلى العجائب الكامنة في بناء بيت العنكبوت ونسجه، فإنَّ شكل بنائه وهندسته طريف أيضاً، فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظراً طريفاً مثل الشمس وأشعتها مستقرةً على قواعد هذا «البناء النسيجي»، وبالطبع فإن هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف، ولكنّه في المجموع لا يمكن تصور بيت أوهن منه، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضَّالِّين ومعبودهم، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان!!.

ومع الإلتفات إلى أنَّ العناكب ليست نوعاً واحداً، بل ـ كما يدعي بعض العلماء ـ عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع، وكلُّ نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.

إنَّ أهميَّة المثال وطرافته لا تكمن في كبره وصغره، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته.

قالوا في ضرب الأمثال: ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها، ولذا قيل: إنّه لا يعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلاّ العلماء!.

لكن يبقى أن نشير إلى مسألة غاية في الأهمية، صحيح أنَّ ولاية غير الله تعالى واتباع من دونه يعد شركاً، لكن اتباع الأنبياء والأئمة المعصومين أمر مجاز ومطلوب، وفي حقيقته هو اتباع لله تعالى، لأنَّه بأمر منه سبحانه. فالله عزَّ شأنه يقول: ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [53] ، ويقول أيضاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [54] .

لكن من هم أولي الأمر الواجبة اطاعتهم مع إطاعة الرسول، بحيث يتوجب على الناس إطاعتهم من دون (كيف ولماذا)؟. نعم أنَّهم المعصومون، لأنَّ المولى تعالى وهو الحكيم لا يمكن أن يوجب إطاعة من ليس معصوماً بل ومعرضاً للخطأ والمعصية إطاعة عمياء.

من هنا، وبعبارة قصيرة، فإنَّ إطاعة البشر يجب أن تكون فقط لله تعالى خالق هؤلاء البشر، أو لمن أمر الله تعالى بطاعتهم، وهم المعصومون، وفي غير ذلك يكون ظلماً كبيراً.

لكن السؤال: لماذا نطيع غير الله تعالى؟!

- إذا كنا نسعى خلف القدرة، فإنَّ القدرة لله تعالى: ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ [55] .

- إذا كنا نسعى خلف العزَّة، فإن العزَّة لله سبحانه: ﴿ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلهِ جَمِيعًا [56] .

- إذا كنا نسعى خلف الرزق، فهو من عند الله وبيده: ﴿ لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [57] .

- إذا كنا نسعى خلف الدعم والحماية، فليس هناك من حام ولا نصير غير الخالق سبحانه: ﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [58] .

- إذا كنا نسعى خلف المنافع والمصالح، فإنَّ النافع والضَّار هو سبحانه ومن دونه لا يملكون نفعاً ولا ضراً: ﴿ لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [59] .

- المولى تعالى يتحدى المشركين ومن يعبدون من دونه فيقول لهم: ﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ [60] .

نعم انظروا إلى التاريخ القاصي والداني، كيف تلاشت أعظم القدرات الظالمة وبادت الممالك، وهلك جميع الفراعنة في الماضي والحاضر. لذلك فإنَّ النجاة والخلاص والعزَّة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا بالتمسك بالله ورسوله والأئمة الأطهار، وكلّ اتباع أو اتصال بخيوط العنكبوت الواهية الضعيفة ﴿ مِن دُونِ اللهِ ﴾ فهو سقوط للإنسان في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة.


 


الآيتان (42) و (43)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

1- الله تعالى يعلم ادعاء الإنسان لمن دونه تعالى، والجواب حاضر: ﴿ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ ﴾.

2- يجب التوكل على الله العزيز القوي، بدل الاعتماد على غيره، فهم ضعفاء كبيت العنكبوت، ولا أساس لبنيانهم: ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

3- إنَّ شرك الإنسان لا يضر الله عزَّ وجلَّ شيئاً: ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾.

4- العزَّة الإلهية مترافقة مع الحكمة، وليست القدرة من دون منطق: ﴿ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

5- الأمثلة القرآنية عميقة، بحيث توجب على العلماء والمفكرين التفكر فيها بعمق، وهي ليست لعامة النَّاس فقط: ﴿ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾.

6- المولى سبحانه يحث الناس على تحصيل العلم والتفكر من أجل إدراك المسائل القرآنية الدقيقة وفهمها: ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾.

7- وظيفة العلماء التأمل والتفكر في الأمثال القرآنية وشرحها للناس: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ ... وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾.


 


الآية (44)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44)

كلُّ إنسان وكلّ مخلوق من دون الله تعالى ضعيف وفانٍ، مثل بيت العنكبوت، أما الله تعالى فهو:

1- العالم: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ ﴾.

2- العزيز الحكيم: ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

3- خالق الوجود: ﴿ خَلَقَ اللهُ ... ﴾.

1- خلق العالم له هدف، فهو ليس عبثاً ولا باطلاً: ﴿ بِالْحَقِّ ﴾، كذلك فإنَّ نظرتنا إلى العالم يجب أن تكون هادفة: ﴿ لَآيَةً ﴾.

2- الماديون يقفون عند الظواهر، لكن المؤمنين يعبرون منها ويصلون إلى معرفة الله تعالى: ﴿ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾.

3- الإيمان شرط من شروط إدراك حقانية الوجود: ﴿ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾.


 


الآية (45)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

في هذه الآية يأمر المولى تعالى رسوله بتلاوة القرآن إلى جانب إقامة الصلاة، وذلك لأنَّ الصلاة والقرآن منبعان يمنحان القوَّة، فالمولى تعالى يخبر رسوله بأنَّه سيلقي على عاتقه مسؤولية كبيرة: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [61] ، لذلك عليك أن تستمد القوَّة من هذين المنبعين:

1- تلاوة القرآن: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [62] .

2- صلاة الليل: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [63] .

من يلقى إليه حمل ثقيل ويتعهده، يلزمه خطوات محكمة وثابتة لكي لا يزلزله الحمل الثقيل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتطلب الأمر حلماً، فلا ينطق بما هو غير لائق تحت وطأة هذا الحمل. من هنا، فإنَّ القرآن الكريم يؤمن هذين المطلبين (الخطوات الثابتة، والحلم)، من خلال التلاوة التي تجذب القلب وصلاة الليل حيث يكون الناس نيام.

هذه الآية توصي المؤمنين بتلاوة القرآن، وقد ورد في الروايات، عن أمير المؤمنين (ع) حول كيفية التلاوة: «بينه تبياناً ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن اقرع به القلوب القاسية، ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة».

وعن الإمام الصادق (ع) قال في الترتيل: «هو أن تتمكَّث فيه وتحسِّن به صوتك». وقال: «إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنَّة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار» [64] .

ذكر الصلاة وتلاوة القرآن جاء مرات متكررة ومتقارناً، ومن جملة ما ورد:

1- ﴿ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ [65] .

2- ﴿ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [66] .

ذكر عدة معاني لجملة: ﴿ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ﴾:

أ- الصلاة هي اكبر ذكر لله بدليل الآية: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [67] .

ب- ذكر الله تعالى وحضور القلب أكبر من ظاهر الصلاة.

ج - ذكر العبد لربه أكبر مما سواه وأفضل من جميع أعماله.

د- ذكر الله سبحانه إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته.

هـ - ذكر الله عزَّ وجلَّ هو التسبيح والتقديس وهو أكبر وأحرى بأن ينهي عن الفحشاء والمنكر.

قيل لرسول الله  (ص): أنَّ فتى من الأنصار كان يصلي صلاة ويرتكب الفواحش فقال: «إنَّ صلاته تنهاه يوماً» وقيل له إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال: «إن صلاته لتردعه» [68] .

وعن الإمام الصادق (ع) قال: «من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه» [69] .

 

1- لا يكفي أن نتعرف إلى مفاهيم القرآن وتلاوته، بل يجب العمل بأحكامه وتعاليمه: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ ... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾.

2- تلاوة القرآن وإقامة الصلاة في رأس أولوية البرامج التربوية: ﴿ وَاتْلُ - وَأَقِمِ ﴾.

3- العلاقة التي تربط الرسول  (ص) مع الناس تأتي عن طريق تلاوة القرآن وإبلاغ أحكام المولى تعالى وتعاليمه، والعلاقة بين الرسول والله عزَّ وجلَّ تكون عن طريق العبادة والصلاة: ﴿ وَاتْلُ - وَأَقِمِ ﴾.

4- يجب أن نبين حكمة التعاليم والأحكام الدينية وآثارها في مسائل التبليغ والارشاد: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾.

5- الصلاة لها مكانة وعظمة خاصة عند الحضرة الإلهية: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ ﴾. فتكرار كلمة الصلاة دلالة على عظمتها.

6- الدور الاصلاحي للصلاة في حياة الفرد والمجتمع ليس احتمالياً أو ظنياً، بل قطعي: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ ﴾، وكلمة إنَّ والجملة التي تليها تدل على جدية آثار الصلاة.

7- إذا لم تردع الصلاة الإنسان عن ارتكاب الفحشاء والمنكر، فيجب عندئذٍ الشك في قبولها: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى ﴾.

8- انتشار الأعمال الحسنة يمنع بشكل طبيعي اتساع المنكر وانتشاره: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى ﴾، مثلما يمنع الزواج انتشار الفساد وكثيراً من الذنوب، وكذلك الزكاة وإشباع الفقراء يمنع كثيراً من التجاوزات والمخالفات التي تظهر بسبب الفقر.

9- التوجه إلى العلم الإلهي يضمن الاجراء الصحيح للتعاليم: ﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.

 

1- الصلاة تنهى عن المنكرات:

1- إنَّ أصل جميع المنكرات ينبع من الغفلة، والله تعالى يصف الإنسان الغافل بأنَّه أسوأ من الحيوان: ﴿ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [70] ، والصلاة هي ذكر الله تعالى لذلك فهي أفضل وسيلة لمحو الغفلة، من هنا فإنَّها تمنع ارتكاب المنكرات.

2- إقامة الصلاة تعني صبغة الله سبحانه، وهذا يمنع التلبس بصبغة الشيطان، كما أنَّ الشخص الذي يرتدي لباساً أبيضاً نظيفاً يمنع عن الجلوس في مكان قذر.

3- إلى جانب الصلاة يذكر إيتاء الزكاة، وهذا يحض الناس على اجتناب فكر آخر وهو البخل، وعدم اللامبالاة اتجاه الفقراء والمساكين في المجتمع، لأنَّ الفقر يعد أرضية مناسبة للتوجه نحو المنكرات.

4- للصلاة أحكام وتعاليم لا يمكن تجاوزها وهي شروط واجبة لصحة الصلاة، ورعاية هذه الشروط يمنع الكثير من ارتكاب المعاصي والمنكرات:

أ- أن يكون اللباس والمكان طاهراً وهذا يمنع الإنسان من ارتكاب بعض التجاوزات والاعتداءات على الغير.

ب- رعاية شرط طهارة الماء، واللباس والمكان، والبدن، وهذا يمنع الإنسان من التلوث المادي والمعنوي، ويبعده عن اللامبالاة.

ج- شرط الاخلاص الذي يمنع الإنسان عن منكر الشرك والرياء والسمعة.

د- شرط التوجه إلى القبلة، وهذا يمنع الإنسان عن منكر (اللاهدف) والتوجه إلى حيث شاء.

هـ- الاهتمام بكيفية الغطاء أثناء الصلاة (الحجاب) وهذا يمنع الإنسان من ترك العفة والحياء.

و- الالتفات إلى عدالة إمام الجماعة، وهذا يوجه الناس إلى سبب مهم للبعد عن الفسق والفاسقين والمخالفين.

ز- الصلاة (صلاة الجماعة) تبعد الإنسان عن الانزواء وتدخله في رحاب المجتمع والجماعة.

ح- ولأحكام صلاة الجماعة وشروطها الكثير من الأهمية لأنَّها تحيي القيم الإنسانية، منها: الاختلاط مع الناس، عدم التقدم على الإمام، عدم التخلف عن المجتمع، النظم والانضباط، الاستماع والسكوت أمام كلام الحق لإمام الصلاة، الوحدة وترك التفرقة، اجتناب الميول العصبية والعنصرية والإقليمية والسياسية و....، والحضور في الميدان مع الناس.
 

2– تأثير الصلاة في تربية الفرد والمجتمع:

بالرغم من أنَّ فائدة الصلاة لا تخفى على أحد، لكن التدقيق في متون الروايات الإسلامية يدلنا على لطائف ودقائق أكثر في هذا المجال!.

1 ـ إنَّ روح الصلاة وأساسها وهدفها ومقدمتها ونتيجتها... وأخيراً حكمتها وفلسفتها، هي ذكر الله، كما بيّنت في الآية على أنَّها أكبر النتائج.

وبالطبع فإنَّ الذكر المراد هنا، هو الذكر الذي يكون مقدمة للفكر، والفكر الذي يكون باعثاً على العمل، كما ورد عن الإمام الصادق (ع) في تفسير جملة ﴿ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ﴾ قال: «ذكر الله عندما أحلّ وحرّم» [71] أي على أن يتذكر الله فيتبع الحلال ويغضي أجفانه عن الحرام.

2 ـ إنَّ الصلاة وسيلة لغسل الذنوب والتطهر منها، وذريعة إلى مغفرة الله، لأنَّ الصلاة ـ كيف ما كانت ـ تدعو الإنسان إلى التوبة وإصلاح الماضي، ولذلك فإنَّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم (ص) إذ سأل بعض أصحابه: «لو كان على باب دار أحدكم نهر واغتسل في كلِّ يوم منه خمس مرات أكان يبقي في جسده من الدرن شيء؟! قلت لا، قال: فإنَّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلمّا صلّى كفَّرت ما بينهما من الذنوب» [72] .

وعلى هذا فإنَّ الجراح التي تخلِّفها الذنوب في روح الإنسان، وتكون غشاوة على قلبه، تلتئم بضماد الصلاة وينجلي بها صدأ القلوب!

3 ـ إنَّ الصلوات سدّ أمام الذنوب المقبلة، لأنَّ الصلاة تقوي روح الإيمان في الإنسان، وتربِّي شجيرة التقوى في قلب الإنسان، ونحن نعرف أنِّ الإيمان والتقوى هما أقوى سدّ أمام الذنوب، وهذا ما بيَّنته الآية المتقدمة عنوان «النهي عن الفحشاء والمنكر»، وما نقرؤه في أحاديث متعددة من أنَّ أفراداً كانوا مذنبين، فذكر حالهم لأئمَّة الإسلام فقالوا: لا تكترثوا فإنَّ الصلاة تصلح شأنهم... وقد أصلحتهم.

4 ـ إنَّ الصلاة توقظ الإنسان من الغفلة، وأعظم مصيبة على السائرين في طريق الحقِّ أن ينسوا الهدف من إيجادهم وخلقهم، ويغرقوا في الحياة المادية ولذائذها العابرة!

إلاّ أنَّ الصلاة بما أنَّها تؤدي في أوقات مختلفة، وفي كلِّ يوم وليلة خمس مرات، فإنَّها تخطر الإنسان وتنذره، وتبيِّن له الهدف من خلقه، وتنبهه إلى مكانته وموقعه في العالم بشكل رتيب، وهذه نعمة كبرى للإنسان بحيث أنَّها في كلِّ يوم وليلة تحثه وتقول له: كن يقظاً.

5 ـ إنَّ الصلاة تحطّم الأنانية والكبر، لأنَّ الإنسان في كلِّ يوم وليلة يصلي سبع عشرة ركعة، وفي كلِّ ركعة يضع جبهته على التراب تواضعاً لله تعالى، ويرى نفسه ذرة صغيرة أمام عظمة الخالق، بل يرى نفسه صِفراً بالنسبة إلى ما لا نهاية له!.

ولأمير المؤمنين علي (ع) كلام معروف تتجسد فيه، فلسفة العبادات الإسلامية بعد الإيمان بالله، فبيّن أوَّل العبادات وهي الصلاة مقرونة بهذا الهدف إذ قال: «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر» [73] .

6 ـ الصلاة وسيلة لتربية الفضائل الخُلقية والتكامل المعنوي للإنسان، لأنَّها تخرج الإنسان عن العالم المحدود وتدعوه إلى ملكوت السماوات، وتجعله مشاركاً للملائكة بصوته ودعائه وابتهاله، فيرى نفسه غير محتاج إلى واسطة إلى الله أو أن هناك «حاجباً» يمنعه... فيتحدث مع ربّه ويناجيه!.

إنَّ تكرار هذا العمل في اليوم والليلة ـ وبالاعتماد على صفات الله سبحانه الرحمن الرحيم العظيم، خاصة بالاستعانة بسور القرآن المختلفة بعد سورة الحمد التي هي خير محفّز للصالحات، والطهارة ـ له الأثر في تربية الفضائل الخُلقية في وجود الإنسان!

لذلك نقرأ في تعبير الإمام علي أمير المؤمنين (ع) عن حكمتها قوله: «الصلاة قربان كلِّ تقيّ!» [74] .

7 ـ إنَّ الصلاة تعطي القيمة والروح لسائر أعمال الإنسان; لأنَّ الصلاة توقظ في الإنسان روح الإخلاص... فهي مجموعة من النية الخالصة والكلام الطاهر «الطيب» والأعمال الخالصة... وتكرار هذه المجموعة في اليوم والليلة ينثر في روح الإنسان بذور سائر الأعمال الصالحة ويقوّي فيه روح الإخلاص.

لذلك فإنّنا نقرأ في بعض ما روي عن أمير المؤمنين (ع) في ضمن وصاياه المعروفة بعد أن ضربه ابن ملجم بالسيف ففلق هامته، أنَّه قال: «الله الله في صلاتكم فإنَّها عمود دينكم» [75] .

ونعرف أنَّ عمود الخيمة إذا انكسر أو هوى، فلا أثر للأوتاد والطنب مهما كانت محكمة... فكذلك ارتباط عباد الله به عن طريق الصلاة، فلو ذهبت لم يبق لأي عمل آخر أثر.

ونقرأ عن الإمام الصادق (ع) قوله: «أوَّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل سائر عمله، وإن ردّت ردّ سائر عمله!».

ولعلَّ الدليل على هذا الحديث هو أنَّ الصلاة رمزٌ للعلاقة والارتباط بين الخالق والمخلوق! فإذا ما أدّيت بشكل صحيح، وكان فيها قصد القربة والإخلاص «حيّاً» كان وسيلة القبول لسائر الأعمال، وإلاّ فإنَّ بقية أعماله تكون مشوبة وملوَّثة وساقطةً من درجة الاعتبار.

8 ـ إنَّ الصلاة ـ بقطع النظر ـ عن محتواها، ومع الإلتفات إلى شرائط صحتها، فإنَّها تدعوا إلى تطهير الحياة! لأنَّنا نعلم أنَّ مكان المصلي، ولباس المصلي، وبساطه الذي يصلي عليه، والماء الذي يتوضأ به أو يغتسل منه، والمكان الذي يتطهر فيه «وضوءاً أو غسلاً» ينبغي أن يكون طاهراً من كلِّ أنواع الغصب والتجاوز على حقوق الآخرين. فإنَّ من كان ملوَّثاً بالظلم والغصب والبخس في الميزان والبيع وآكلا للرشوة ويكتسب أمواله من الحرام... كيف يمكن له أن يهيئ مقدمات الصلاة!؟ فعلى هذا فإنَّ تكرار الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ـ هو نفسه ـ دعوة إلى رعاية حقوق الآخرين!

9 ـ إنَّ للصلاة ـ بالإضافة إلى شرائط صحتها ـ شرائط لقبولها، أو بتعبير آخر: شرائط لكمالها، ورعايتها ـ أيضاً ـ عامل مؤثر ومهم لترك كثير من الذنوب!.

وقد ورد في كتب الفقه ومصادر الحديث روايات كثيرة تحت عنوان موانع قبول الصلاة، ومنها «شرب الخمر» إذ جاء في بعض الرّوايات: لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوماً إلاّ أن يتوب [76] .

كما أنَّ هناك بعض الرّوايات تقول: «إنَّ الصلاة لا تقبل ممن يأكل السحت والحرام، ولا ممن يأخذه العجب والغرور» وهكذا تتّضح الحكمة والفائدة الكبيرة من وجود هذه الشروط.

10 ـ إنَّ الصلاة تقوي في الإنسان روح الانضباط والالتزام، لأنَّها ينبغي أن تؤدى في أوقات معينة، لأنَّ تأخيرها عن وقتها أو تقديمها عليه موجب لبطلانها.

وكذلك الآداب والأحكام الأُخرى في موارد النية والقيام والركوع والسجود وما شابهها، إذ أنَّ رعايتها تجعل الاستجابة للالتزام في مناهج الحياة ممكناً وسهلاً.

كلُّ هذه من فوائد الصلاة ـ بغض النظر عن صلاة الجماعة ـ وإذا أضفنا إليها خصوصية الجماعة، حيث أنَّ روح الصلاة هي الجماعة، ففيها بركات لا تحصى ولا تعدُّ، ولا مجال هنا لشرحها وبيانها، مضافاً إلى أنَّ الجميع يدرك خيراتها وفوائدها على الإجمال.

ونختم كلامنا في مجال حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها بحديث جامع منقول عن الإمام الرضا (ع) إذ سئل عنها فأجاب بما يلي: «إنَّ علة الصلاة أنَّها إقرار بالربوبية لله عزَّ وجلَّ، وخلع الأنداد، وقيام بين يدي الجبار جلَّ جلاله بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاماً لله عزَّ وجلَّ، وأن يكون ذاكراً غير ناس ولا بطر، ويكون خاشعاً متذللاً، راغباً طالباً للزيادة في الدين والدنيا مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله عزَّ وجلَّ بالليل والنهار، لئلا ينسى العبد سيده ومديره وخالقه فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربِّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي ومانعاً له عن أنواع الفساد» [77] .


 


الآية (46)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

«تجادلوا» مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما ـ في الحقيقة ـ يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته.. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالاً. كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضاً، وعلى كلِّ حال فإنَّه المراد من قوله
﴿ وَلَا تُجَادِلُواْ ﴾ المناقشات المنطقية.

والتعبير ﴿ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع، سواءً كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى، وسواء كان في طريقة الكلام، أو الحركات والإشارات المصاحبة له.

فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة: إنَّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مفيداً، وصوتكم هادئاً غير خشن، ولا متجاوزاً لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة... وكم هو جميل هذا التعبير القرآني، إذ أوجز مجموعة من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة.

كلُّ هذه الأُمور لأجل أنَّ الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر... وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني.

وكثيراً ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيِّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقاً لفكره ورأيه، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه، لأنَّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه.

وهكذا فإنَّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة «السؤال والاستفهام» لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه!

وبالطبع فإنَّ لكلِّ قانون استثناءً، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية، فقد يُعدُّ في بعض الموارد ضعفاً، أو يكون الطرف الآخر مغروراً إلى درجة أنَّ هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً، لذلك فإنَّ القرآن يضيف مستثنياً: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [78] .

سأل أحد الإمام الصادق (ع) فقال: يا ابن رسول الله ما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن؟ قال: أما الجدال الذي بغير التي هي أحسن أن تجادل مبطلاً فيورد عليك باطلاً فلا تردّه بحجّة قد نصبها الله تعالى، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقاً يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة، لأنك لا تدري كيف المخلص منه، فذلك حرام على شيعتنا، أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف، في يده، حجّة له على باطله، وأما الضعفاء منكم فتعمى قلوبهم لما يرون من ضعف المحقّ في يد المبطل، وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله حاكياً عنه: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ فقال الله في الرد عليه: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) ﴾ فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟ وقال تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أفيعجز من ابتدأه لا من شيء أن يعيده بعد ان يبلى؟ بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثمّ قال: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا ﴾ أي إذا كمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثمَّ يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة من بلى، أقدر، ثمَّ قال: ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم، ولم تجوزوا منه ما هو أسهل من إعادة البالي؟ قال الصادق (ع): فهذا الجدال بالتي هي أحسن، لأنَّ فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم، وأما الجدال بغير التي هي أحسن بأن تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرم لأنك مثله، جحد هو حقاً، وجحدت أنت حقا آخر [79] .

 

1- جدال أهل الكتاب يجب أن يكون بأفضل أسلوب: ﴿ وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.

2- الجدال المقبول هو الجدال الأحسن لجهة المضمون والأسلوب والألفاظ: ﴿ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.

3- المباحثة وتبادل وجهات النظر والجدال الصحيح بين المدارس والأفكار والثقافات والأمم المختلفة أمر مقبول وقد أوصى الإسلام بذلك: ﴿ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.

4- علينا معرفة المخاطبين، والتعامل مع كلِّ فئة بما يناسب، لأنَّ المنطق والجدال اللين لا ينفع مع الظالمين: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾.

5- ليس جميع أهل الكتاب من الظالمين: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾.

6- علينا طرح المسائل المتوافق عليها قبل الجدال والبحث وإظهار الآراء في العقائد: ﴿ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ﴾.

7- الإيمان وحده ليس كافياً، ما يلزم هو التسليم والطاعة: ﴿ آمَنَّا ... وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.


 


الآية (47)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)

«الجحود» هو نفي ما في القلب اثباته، وإثبات ما في القلب نفيه.

 

1- القرآن يدعو جميع اتباع الأديان إلى الإسلام: ﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾.

2- أهل الكتاب لديهم استعداد أكبر من المشركين للقبول بالقرآن والإسلام: ﴿ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾.

3- الهداية الإلهية لازمة وإن كان بعض الناس لا يقبلونها: ﴿ أَنزَلْنَا ... وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾.

4- الذين يعرفون القرآن ولا يقبلونه هم كافرون: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾.


 


الآية (48)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

1- لا يجب أن نغتر بقراءتنا وكتابتنا و(علمنا)، فأحياناً، وبإرادة الله القوي العزيز، يمكن لشخص واحد «أميّ لم يدرس ولم يكتب» أن يغير ثقافة العالم: ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ ﴾.

2- من دلائل أحقية القرآن أمّية الرسول الأكرم: ﴿ وَلَا تَخُطُّهُ ﴾.

3- يجب اليقظة من سوء استفادة المخالفين واختلاقهم للأعذار ومنعها: ﴿ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾، لو لم يكن الرسول  (ص) أمياً لشك الناس بأنَّ القرآن من عند الله تعالى.

4- يعد نزول القرآن على النبي الأميّ الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، من طرق إتمام حجة الله سبحانه على الناس: ﴿ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾.

5- إنَّ ترك الحق والسعي خلف الشك والتردد علامة واضحة على أنَّ الدافع لهؤلاء ليس سليماً ولا صحيحاً: ﴿ لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾.


 


الآية (49)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

نواجه في الآيات المتقدمة آنفاً هذا التعبير وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون، ومرّة أخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت، فبدلاً من كلمة «الكافرون» جاءت كلمة «الظالمون» ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾. والموازنة بين التعبيرين تدل على أنَّ المسألة ليست من قبيل التكرار، بل هي لبيان موضوعين، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي «الكافرون» والآخر يشير إلى جانب عملي «الظالمون» فالآية الأولى تقول: «إنَّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم، لا يرون آية من آيات الله إلا أنكروها وإن تقبلتها عقولهم»! أما التعبير الثاني فيقول: إنَّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقاً يرون فيه منافعهم الشخصية، وعزموا على الاستمرار في هذه الطريق، لا يذعنون لآياتنا؛ لأنَّ آياتنا كما أنَّها لا تنسجم مع خطهم الفكري، فهي لا تنسجم مع خطهم العملي أيضاً [80] .

ويمكن الاستفادة مما تقدَّم أنَّ الكفر نوع من الظلم والعكس صحيح.

ورد أكثر من عشرين حديثاً في كتب التفسير تشير إلى أنَّ المراد من «أوتوا العلم» في هذه الآية هم الأئمة الأطهار (سلام الله عليهم).

 

1- آيات القرآن واضحة وبينة: ﴿ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾.

2- القرآن شاهد على أنَّه سماوي، وليس لأي شخص يد في تنظيمه وكتابته: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾.

3- علامة العلم الحقيقي قبول الآيات الإلهية الواضحة: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾.

4- صحيح أنَّ الإنسان مأمور بالسعي للوصول إلى الهدف والمقصد، لكن العلم هدية إلهية: ﴿ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾.

5- الآيات القرآنية مستقرة في صدور أهل العلم، وأهل العلم يدركون أحقية هذا الكتاب بكل وجودهم: ﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾.

6- المثال والنموذج الواضح على الظلم هو الظلم الثقافي والفكري، والإنكار الذي ليس في موقعه: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾.

7- إنكار الإنسان لما يفهمه ظلم كبير: ﴿ إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾.

8- منكر القرآن ظالم: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ... وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾.


 


الآية (50)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)

الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن الذي جاء به إنسان أمي كالنبي محمد (ص) دليلاً جلياً على حقانية دعوته... تذرعوا بحجة أخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية، وهي أنَّه لم لا تأتي ـ يا محمد (ص) ـ بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى  (عليهما السلام)، ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾. ولِمَ لم يكن لديه مثل عصى موسى (ع) ويده البيضاء ونفخة المسيح؟! ولِمَ لا يهلك أعداءه بمعاجزه، كما فعل موسى وشعيب وهود ونوح (عليهم السلام) بأممهم المعاندين؟!. أو كما يعبر على لسانهم القرآن في الآيات 90 - 93 من سورة الإسراء:
﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا ﴾.

ومن دون شك فإنَّ النبي  (ص) كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم، كما أنَّ التواريخ تصرّح بذلك أيضاً... إلا أن أولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة، بل كان قصدهم ـ من جهة ـ أن لا يعتبروا القرآن شيئاً مهماً وكتاباً إعجازياً، ومن جهة أخرى كانوا يريدون معجزات مقترحة «والمراد من المعجزات المقترحة هو أن يأتي النبي  (ص) طبقاً لرغبات هذا وذاك بمعاجز خارقة للعادة يقترحونها عليه، فمثلاً يريد منه بعضهم أن يفجر له الأرض ينابيع من الماء الزلال، ويريد الآخر منه أن يقلب له الجبال التي في مكة ذهباً، ويتذرع الثالث بأن هذا لا يكفي أيضاً بل ينبغي أن يصعد إلى السماء، وهكذا يجعلون المعجزة على شكل ألعوبة لا قيمة لها، وآخر الأمر.. وبعد رؤية كلّ هذه الأمور يتهمونه بأنه ساحر». الحق أليس القرآن كافياً بإعجازه؟! أوليس طلب معجزة مع وجود القرآن يعد كفراً وظلماً كبيراً؟!.

 

1- تذرع الأشخاص اللجوجين المعاندين لا ينتهي: ﴿ لَوْلَا أُنزِلَ ﴾، فمهما رأوا من معجزات يطلبون جديداً.

2- المعجزة عمل إلهي حكيم وليس ألعوبة المتذرعين: ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللهِ ﴾.

3- الانذار والتهديد أكثر تأثيراً في التبشير والرجاء في إزالة الغفلة: ﴿ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ ﴾ ولم يقل: (إنما أنا بشير).

4- إنذار الأنبياء صريح وشفاف وليس فيه أي إبهام: ﴿ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾.


 


الآية (51)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

في الآية السابقة طلب الكافرون من نبي الإسلام معجزات شبيهة بمعجزات موسى وعيسى  (عليهما السلام)؛ فهم بذلك يطلبون معاجز مادية «جسمانية»، والقرآن - بحد ذاته - أعظم معجزة معنوية... هم يريدون معجزة عابرة لا تمكث طويلاً، في حين أنَّ القرآن معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم. ترى هل يعقل أن يأتي إنسان أمي وحتى لو كان يقرأ ويكتب فرضاً بكتاب بمثل هذا المحتوى العظيم والجاذبية العجيبة، التي هي فوق قدرة الإنسان والبشر، ثمَّ يدعوا أهل العلم متحدياً لهم للإتيان بمثله فيعجزون عن الإتيان بمثله؟! فلو كانوا حقاً طلاب معجزة، فقد آتيناهم بنزول القرآن أكثر مما طلبوه إلا أنهم لم يكونوا طلاب معجزة، بل هم متذرعون بالأباطيل.

 

1- القرآن كتاب هداية جامع وكامل، ويؤمن جميع الحاجيات التي تتطلبها الهداية ويجيب عليها: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ﴾.

2- القرآن كتاب للهداية ولإثبات أحقية رسالة النبي محمد  (ص)، بل هو أكثر من كاف: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ﴾.

3- الرسول الأكرم (ص) هو «رحمة للعالمين» كذلك القرآن الكريم هو رحمة كبيرة: (رحمة)، جاءت نكرة مع التنوين، دلالة على الكبر والعظم.

4- القرآن أصل الرحمة، والبعد عن الغفلة : ﴿ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى ﴾.

5- الإيمان شرط لتلقي الرحمة وقبول الذكر الإلهي: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.


 


الآية (52)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

هذه الآية تسلية لخاطر النبي  (ص)، وفيها تهديد لأولئك المتذرعين المعاندين، لأنّ الله تعالى هو الشاهد بين النبي وبينهم، وسوف يحاسب الجميع على أفعالهم.

شهادة الله تعالى كافية بين الجميع، لأنه مطلع على أعمال الجميع، وشهادته تعتمد على علمه الكامل وإحاطته بكلِّ شيء.

 

1- إذا لم ينفع الاستدلال مع هؤلاء الكافرين المعاندين، فاقطع البحث معهم، وأوكل الأمر إلى الله تعالى فهو خير شاهد: ﴿ قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا ﴾.

2- الله سبحانه يؤيد رسوله ويصدقه بنزول القرآن وبالبشارة بمجيء نبي الإسلام في الكتب السماوية السابقة، وهو على ذلك شهيد: ﴿ شَهِيدٌ ﴾.

3- الله عزَّ وجلَّ مطلع على كلِّ شيء ومحيط بكلِّ شيء، فلماذا العناد واللجاجة والتذرع؟: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ﴾.

4- الشهادة يجب أن تعتمد على العلم: ﴿ قُلْ كَفَى بِاللهِ ... شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ﴾.

5- إنَّ ترك الإيمان والمسائل المعنوية والتعلق بغير الله سبحانه، يعني وضع القدم على طريق الكفر والباطل والانحراف الأعمى، وعاقبته الخسران الحقيقي: ﴿ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ ... هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.

6- الكافرون هم الخاسرون الحقيقيون: ﴿ وَكَفَرُواْ بِاللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.


 


الآيتان (53) و (54)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمّىً لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)

ورد في القرآن الكريم وبصورة مكررة أنَّ الكفار الذين يهددون بالعذاب الإلهي يطلبون من أنبيائهم تعجيل العقوبة والعذاب، وذلك لأنَّهم لا يصدقونهم أو بسبب الاستهزاء، والقرآن الكريم ينتقد هذه العجلة من قبل الكفار في عدة موارد.

يوجد بركات إلهية في تأخير العذاب، فمن جملة ذلك:

أ- منح الفرصة لأجل التوبة.

ب- امتحان الناس في التدين والمقاومة.

ج - اختيار الناس للعقيدة والعمل، فلو كان العذاب مباشراً ومن دون مهلة لآمن الناس من الخوف.

 

1- إنَّ جميع أمور العالم، ومن جملتها اللطف والقهر الإلهيين، مبنية على أساس حكيم ومحسوب، وطبق برنامج معين وزمان محدد، ولا يتبدل باستعجال هذا أو ذاك: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ... أَجَلٌ مُّسَمًّى ﴾.

2- نزول القهر الإلهي المفاجىء لأجل استعدادنا الدائم: ﴿ بَغْتَةً ﴾.

3- العذاب الإلهي لا يمكن التنبؤ به: ﴿ لَا يَشْعُرُونَ ﴾.

4- على الرغم من أنَّ الكفار يطلبون العذاب الفوري ويستعجلونه وذلك من باب عدم التصديق والاستهزاء، لكن يجب أن يعلموا أنَّ عذاب جهنَّم محيط بهم: ﴿ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾.


 


الآية (55)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

1- عذاب جهنَّم محيط وشامل: ﴿ فَوْقِهِمْ ... تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾.

2- عذاب جهنَّم هو تجسم أعمالنا وانعكاسها: ﴿ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.

3- الإنسان هو المسؤول عن مصيره: ﴿ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.

4- عذاب جهنم المحيط هو بسبب استمرار أعمالنا السيئة، ﴿ كُنتُمْ ﴾ تشير إلى الاستمرار: ﴿ كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.


 


الآية (56)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

لقد أوجب الإسلام الهجرة على مجموعة من الناس. فالأشخاص الذين يعيشون في مناطق الكفر والطاغوت، ويتعرضون للظلم، ويجدون في الهجرة نجاة لهم ولدينهم يجب عليهم أن يهاجروا. لكن في مقابل ذلك يتعرض الإنسان إلى وسوسات باطنية وخارجية، لعدم القيام بهذا الواجب، غير أنَّ الآيات أجابت على هذه الوسوسات وقيدتها:

أ- ترك المسكن بسبب الهجرة أمر صعب على الإنسان، والجواب يأتي في الآية 58 من هذه السورة: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ... أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾.

ب- مشقة الهجرة وصعوباتها، والجواب في الآية 59 حيث يقول: ﴿ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.

ج- تأمين المعاش، والجواب في الآية 60: ﴿ وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ ... الْعَلِيمُ ﴾.

تعد الهجرة أرضية مناسبة لظهور الاخلاص، لأنَّ الأفراد الذين لا يهاجرون، ويربطون أنفسهم بالأفراد والأحزاب والمنطقة والقبيلة والعائلة، ويتوقعون الامكانيات (المادية) من هذا وذاك، يبتعدون رويداً رويداً عن الاخلاص، لأنَّ المسائل التي ذكرناها تجعل للإنسان ضيق النظر، وتجرُّه إلى التنافس والحسد وغير ذلك من الأمور التي تعد سبباً مباشراً للخروج عن جادة الاخلاص، في حين أنَّ الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، تنفي كلَّ هذه المسائل وتحصن الفرد بالإخلاص.

 

إنَّ الإسلام ـ استناداً إِلى هذه الآية وآيات كثيرة أُخرى ـ يأمر المسلمين بكلِّ صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه ـ لأسباب خاصَّة ـ من عدم التمكن من أداء واجباتهم إِلى محيط ومنطقة آمنة، وسبب هذا الأمر واضح، لأنَّ الإِسلام لا يُحدّ بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص، ولهذا فإِنَّ التمسك المفرط بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الاُخرى لا تقف في نظر الإِسلام حائلاً دون هجرة المسلمين.

ولذلك نرى انفصام كلِّ هذه العلاقات في الصدر الأوَّل للإِسلام، ومن أجل حماية الإِسلام وتقدمه، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين: إنَّ القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولن يستطيع أحد الحياة دون اللجوء إِليها، إِلاّ أنّ محمَّداً  (ص) قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم ودم عائلته، وفعل ذلك من أجل ربِّه وخالقه فقد فصم النَّبي  (ص) علاقته بقريش في سبيل الإسلام.

والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا إِلى الهجرة من مكان ولادتهم ـ بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه ـ إِلى نقاط أُخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا الهجرة، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة، مثل الطيور التي تضطر أحياناً إِلى الدوران حول الأرض تقريباً من أجل إِيجاد مأوى تواصل فيه حياتها، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إِلى القطب الجنوبي، وأحياناً تقطع مسافة حوالي (18) ألف كيلومتر للوصول إلى المكان الذي تريد العيش فيه.

وهذه الشواهد هي خير دليل على أنَّ الهجرة هي إِحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصح أن يكون الإنسان أقل حظاً من الحيوان في هذا المجال؟

وحين تتعرض حياته المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إِلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإنسان البقاء في مكان الخطر متشبثاً بالأرض والمولد وغير ذلك متحملاً ألوان الذل والإِهانة والحرمان وسلب الحريات، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟! أو أنَّ عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار مكاناً آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟.

الطريف في هذا الأمر أنَّ الهجرة ـ أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإِسلامية ـ تعتبر مبدأ ـ أو بداية ـ التاريخ الإِسلامي، وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكلِّ الأحداث السياسية والإعلامية والاجتماعية للمسلمين.

 

فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرّسول  (ص) مبدأ ـ أو بداية ـ للتاريخ الإِسلامي؟.

إنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة، لأنَّنا نعلم أنَّ أيَّ مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها، فالمسيحيون مثلاً اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى (ع)، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة النّبي  (ص)، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة، وفتح مكَّة، ووفاة الرَّسول (ص)، لكنَّهم لم يتخذوا أيَّ واحدة من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإِسلامي.

إنَّ التاريخ يقول أنَّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامَّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإِسلامية ـ وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب (ع) باتخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإِسلامي.

والحقيقة أنَّ هذا الاختيار كان هو المتعيَّن، لأنَّ الهجرة كانت أهم والمع حدث أو برنامج حصل للإِسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإِسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكَّة كانوا يمارسون تعلُّم شؤونهم الحياتية وفق دينهم الجديد (الإسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة ـ على ما يبدو ـ أيّ قدرة سياسية واجتماعية، ولكنَّهم بعد الهجرة شكّلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة ـ في كلِّ المجالات ـ ولو أنَّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرَّسول  (ص) في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإِسلام أن يمتد خارج حدود مكَّة، بل حتى كان من الممكن أن يدفن الإِسلام في مكَّة ويمحى أثره.

ويتضح لنا أنَّ الهجرة لم تكن حكماً خاصاً بزمن الرّسول (ص)، بل أنَّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابه  (ص) إِلى ترك مكَّة والهجرة إِلى المدينة.

والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهراً لوجود الحرِّية والرفاه، وقد أشارت الآية ـ موضوع البحث ـ إِلى هذا الأمر، كما أنَّ الآية (41) من سورة النحل تشير من جانب آخر إِلى هذه الحقيقة، إِذ تقول:
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾. وتجدر الإِشارة ـ أيضاً ـ إِلى هذه النقطة، وهي أنَّ الهجرة في نظر الإِسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كلَّ ما ينافي الأصالة والكرامة الإنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إِلى الهجرة المكانية ـ إِذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإنسان المسلم هجرته الخارجية ـ وإِذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إِلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.

والأساس في الهجرة هو الفرار من «الظلمات» إِلى «النور» ومن الكفر إِلى الإيمان، ومن الخطأ والعصيان إِلى إطاعة حكم الله سبحانه، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنَّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإِنَّ من تتحقق لديه الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إِلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقاً.

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قوله: «ويقول الرجل هاجرت، ولم يهاجر، إِنَّما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها».

وعن النَّبي (ص) أنَّه قال: «من فر بدينه من أرض إِلى أرض وإِن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنَّة وكان رفيق محمَّد وإِبراهيم (عليهما السلام)». لأنَّ هذين النَّبيين هما قادة وأئمَّة مهاجري العالم.

 

في الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسؤولياتهم قبال المشاكل المختلفة، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك، فتقول الآية الأولى: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾.

وبديهي أنَّ هذا ليس قانوناً خاصاً بمؤمني أهل مكَّة، ولا يحدد سبب النُّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأُخرى... فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل، فإنَّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلاّ الذل «والخسران والضرر» والابتعاد عن أداء المناسك الإلهية، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة «حرَّة» يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامَّة أو حرية نسبية.

وبتعبير آخر: إنَّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبداً لله، فالعبوديّة هي في الواقع سبب للحرَّية والكرامة والانتصار في جميع الجهات... وجملة ﴿ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ إشارة إلى هذا المعنى، كما ورد هذا التعبير في الآية (56) من سورة الذاريات ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾.

فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلاً، فلا سبيل عندئذ إلاّ الهجرة، فأرض الله واسعة، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أُخرى، ولا يكون أسيراً لمفاهيم «القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل» في مثل هذه الموارد، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها، فإنَّ احترام هذه الأُمور هو فيما لو كان الهدف الأصلي قائماً غير مخاطر به، أمَّا إذا أصبح الهدف الأصلي «عبادة الله» مخاطراً به فلا سبيل إلاّ الهجرة!

وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين علي (ع): «ليس بلد بأحق بك من بلدك، خير البلاد ما حملك» [81] .

صحيح أنَّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كلّ إنسان، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك الأُمور، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها.

والتعبير بـ (يا عبادي) هو أكثر التعابير رأفة وحبَّاً للنَّاس من قبل خالقهم. وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائماً «أشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله».

من الطريف أنَّه حين خلق الله آدم لقبه بـ «خليفة الله»، وهو فخر لآدم، إلاّ أنَّ الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له، فكان ما كان، ولكن حين بوأه مقام العبوديَّة أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال: ﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [82] . والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [83] .

ويتَّضح ممَّا ذكرناه ـ بصورة جيِّدة ـ أنَّ المراد بالعباد ليس جميع النَّاس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب، وجملة
﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ جاءت للتأكيد والتوضيح.

وحيث أنَّ البعض بقوا في ديار الشرك، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنَّهم يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأُخرى التي تهددهم... إضافة إلى فراق الأحبَّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء، فإنَّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلاً: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾.

فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأيِّ أحد، فبعض يمضي عاجلاً، وبعض يتأخر، ولابدَّ أن يذهبوا جميعاً، وعلى كلِّ حال ففراق الأحبَّة والأبناء والأقارب لابدَّ أن يقع ويتحقق، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة.. وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله، أكلُّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيَّام أو أكثر؟!

ثمَّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديار الكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الإسلام، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!

ثمَّ لا تظنوا أنَّ الموت نهاية كلِّ شيء، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية، لأنَّكم جميعاً ﴿ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ ... إلى الله العظيم، وإلى نعمه التي لا حدَّ لها ولا انتهاء لأمدها.

 

1- علينا تحمَّل مصاعب الهجرة ومشاقها بنداء المحبَّة الإلهية، فالله تعالى يحيط المؤمنين بعنايته الخاصة: ﴿ يَا عِبَادِيَ ﴾.

2- يجب أن نختار مكان المسكن والإقامة على أساس التوفيق في العبادة، فتكون العبادة محور الاختيار: ﴿ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾.

3- يجب أن تستمر عبوديَّة الله: ﴿ يَا عِبَادِيَ ... فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾.

4- الهجرة التي تحمل قيمة عالية هي الهجرة التي تكون في ظل الإيمان: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾.

5- المسير والسفر يجب أن يكون هادفاً: ﴿ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾.

6- الهجرة تكون لأجل حفظ الدين والنجاة من الطواغيت الظالمين: ﴿ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾.

7- إنَّ قلع البدن والقلب من المدينة والديار والمسكن، مقدمة لقلعهما من شتى أنواع التعلقات، والارتباط بالله تعالى: ﴿ وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾.

8- إنَّ الذين ينحرفون بسبب التعلق بالمكان والارتباط بالمنطقة والمسكن، فعذرهم ليس مقبولاً، لأنَّ في الأرض دائماً فضاء مناسب ورحب لإنجاز التكاليف الدينية: ﴿ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾.


 


الآية (57)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)

الظاهر أنَّ هذه الآية مرتبطة بالآية السابقة، حيث يطرح السؤال التالي: إذا كانت الهجرة تؤدي إلى خطر الموت بالنسبة إلى الإنسان فما هو التكليف؟.

هذه الآية تجيب عن السؤال المفترض، فحيث تكون الهجرة لازمة لا يجب الخوف من الموت، لأنَّ الموت مصير حتمي لكلِّ إنسان ومخلوق؛ لكنَّه ليس نهاية الأمر، فالموت يعني القدوم إلى المولى تعالى، والله سبحانه هو المجازي والمثيب على الهجرة والموت في سبيل الهجرة، وهو المعاقب للذين ظلموا وسببوا بهجرة المؤمنين.

 

1- الموت لا يستثني أحداً وكلُّ بني البشر سيشربون هذا الكأس: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾.

2- الموت ليس نهاية المطاف، بل الرجوع إلى المبدأ: ﴿ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾.

3- إذا كان الموت حتمياً، فلماذا لا تكون الهجرة والموت في سبيله: ﴿ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ... كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾.


 


الآية (58)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)

لعلَّ في هذه الآية إشارة إلى الآية (56)، فالهجرة هي مثال واضح للعمل الصالح، وهذا يعني أنَّ الأشخاص الذين يهاجرون عن مساكنهم في الدنيا لأجل الأهداف المقدسة، فسوف يمنحهم الله سبحانه في الآخرة مساكن طيبة في الجنَّة.

كلمة «نبوِّء» تعني إعطاء المسكن الدائم، و«الغرفة» البناء المرتفع المشرف على أطرافه.

 

1- الأعمال الصالحة قيِّمة إلى جانب الإيمان: ﴿ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾.

2- الإيمان والعمل الصالح شرط لنيل الجنَّة: ﴿ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ ﴾.

3- الله تعالى قد ضمن الجنَّة للمؤمنين: ﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُم ﴾، جاءت باللام ونون التوكيد دلالة على الحتميَّة.

4- بناء الجنَّة وبيوتها مرتفعة وغرفها عالية: ﴿ غُرَفًا ﴾، والتنوين علامة العظمة والأخلاق.

5- أنهار الجنَّة دائمة الجريان: ﴿ تَجْرِي ﴾ فعل مضارع يدل على الاستمرار.

6- الحصول على الجنَّة والنعم فيها مرهون بأعمالنا: ﴿ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾.


 


الآيتان (59) و (60)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

كلمة «تحمل» في الآية تعني التكفل والتعهد، وقد يكون المراد من حمل الرزق: الادخار للمستقبل.

في الآية (56) كانت الاشارة إلى الهجرة، وفي هذه الآية جواب لمن خاف الهجرة بسبب انقطاع الرزق، فنقول أنَّ المهاجرين في سبيل الله لا يجب أن يقلقوا على رزقهم ومعاشهم، فالذي يرزق الدواب والحشرات العاجزة عن تأمين رزقها، سوف يؤمن لكم رزقكم.

الله تعالى يسمع كلام من يطلب الرزق فهو (السميع) وهو يعلم حال الخلق وحاجاتهم، حتى من غير أن يطلبوا فهو «العليم».

 

1- «الصبر والتوكل» هاتان الفضيلتان هما المثل الواضح للعمل الصالح: ﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ... الَّذِينَ صَبَرُواْ و... يَتَوَكَّلُونَ ﴾.

2- ربوبية الله تعالى هي الأرضية للتوكل عليه: ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.

3- الضغط الروحي ومشاكل الحياة والمعاش تعد من عوائق طريق الإنسان المؤمن، ويجب رفع هذه العوائق بالصبر والتوكل: ﴿ صَبَرُواْ ... يَتَوَكَّلُونَ ﴾.

4- إنَّ رمز التوفيق والسعادة يكمن في أربعة أشياء:

1- الإيمان والحافز: ﴿ آمَنُواْ ﴾.

2- العمل والسعي: ﴿ عَمِلُواْ ﴾.

ج- الدوام والاستقامة: ﴿ صَبَرُواْ ﴾.

د - التوكل على الله في مقابل الوساوس والقلق: ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.

5- التوكل على الله يجب أن يترافق مع استخدام كلِّ الطاقة والاستقامة الباطنية ﴿ صَبَرُواْ ﴾، استخدام الفعل بصيغة الماضي، فهم استعملوا كلُّ طاقاتهم سابقاً، و﴿ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ جاء في المضارع، والمضارع مستمر إلى المستقبل، وهذا يعني استمرار التوكل في مقابل الحوادث التي قد تحصل مستقبلاً.

6- علينا التوجه إلى الألطاف الإلهية التي يمنحها الله سبحانه للموجودات الأخرى، وذلك من أجل تقوية الإيمان والتوكل لدينا: ﴿ وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ ﴾.

7- الرزق لا يأتي بالعمل والفطنة، فكثير من الحيوانات العاجزة والضعيفة يأتيها رزقها: ﴿ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾.

8- الرزق للحيوان الضعيف والإنسان السليم الحاذق بالنسبة إلى الله تعالى سواء: ﴿ يَرْزُقُهَا ﴾.

9- علم الله تعالى واطلاعه يضمن تأمين الرزق للموجودات: ﴿ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.


 


الآية (61)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)

 

كلمة «الإفك» تعني كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، وتعني الصرف من الحق إلى الباطل، وجملة «سخر الشمس والقمر» أي تسخيرها في مدار مفيد لنا.

 

1- نستطيع إيقاظ الوجدان عند البشر بطرح السؤال حول مبدأ الوجود وتدبيره: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم ﴾.

2- علينا الاستفادة من النماذج والأمثلة الواضحة والملموسة في المباحث الاعتقادية: «السماء والأرض، الشمس والقمر»: ﴿ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.

3- المشركون يعترفون أن خالق الكون هو الله تعالى، وأنَّ له دوراً في تحديد مصير الموجودات: ﴿ ... لَيَقُولُنَّ اللهُ ﴾.

4- الميول نحو الحق أمر فطري، وانحراف المشركين خلاف الفطرة، والسبب في ذلك الالقاءات الخارجية: ﴿ يُؤْفَكُونَ ﴾، والفعل جاء بصورة المجهول ليدلل على أنَّ الالقاءات التي جرَّتهم إلى الانحراف خارجية وليست فطرية باطنية.

5- الله تعالى هو خالق العالم ومدبر أموره أيضاً: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ... وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾.


 


الآيتان (62) و (63)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

الرزق بيد الله تعالى وزيادة الرزق أو قلته يكون بمقتضى الحكمة الإلهية وعلى أساس معايير ظاهرة وأخرى غير ظاهرة، أي على أساس الحكمة وبناء لمعايير معروفة وأخرى خافية لحكمة لا يعلمها الإنسان نفسه، فقد ورد في الأحاديث الشريفة، أنَّ مصلحة بعض الناس تكون في زيادة رزقهم، فإذا ما ضاق الرزق عليهم فسدوا، وأن مصلحة البعض الآخر في قلة الرزق، فإذا ما وسع عليه الرزق بطروا وفسدوا.

الله تعالى ليس فقط خالق الكون ومدبره، بل الرزق وميزانه في يده تعالى أيضاً.

 

1- طرح السؤال وسيلة لتقريب الأفكار وإصلاح الثقافة والعقائد المختلفة: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم ﴾.

2- لا يجب ترك المنحرفين لحالهم، بل علينا محاورتهم بأساليب ثقافية مختلفة: ﴿ سَأَلْتَهُم ﴾.

3- الماء أصل الحياة على الأرض: ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ ﴾.

4- الأرض من دون نبات أرض ميتة:﴿ بَعْدِ مَوْتِهَا ﴾.

5- الاستفادة من الأحداث والظواهر الطبيعية والمحسوسة من الأساليب التي يستخدمها القرآن الكريم في إثبات العقائد:
﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ من بَعْدِ مَوْتِهَا ﴾، كبداية فصل الربيع ونزول المطر.

6- إنّ معرفة الله تعالى أمر فطري، فإذا أزيل الغبار والجهل والانحراف عن صفحة فطرة المنحرفين، فسوف تظهر اعترافاتهم بوضوح:
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم - لَيَقُولُنَّ اللهُ ﴾.

7- نور الإيمان والفطرة من النعم الإلهية الكبرى الموجبة للشكر: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ ﴾.

8- نور العظمة ينجي الإنسان عندما يقوى وينمو بالتعقل: ﴿ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.

9- لا يجب النظر عند الحكم والقضاوة إلى مسألة الأكثرية والأقلية، فلعلَّ الأقلية تكون على حق والأكثرية على باطل: ﴿ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾. ونماذجه كثيرة.

10- إنَّ اختيار العقيدة من دون إعمال الفكر يوجب الملامة والذم: ﴿ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.


 


الآية (64)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (64)

هذا التعبير بليغ وبديع! لأنَّ «اللهو» معناه الانشغال... أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية.

أمَّا «اللعب» فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضاً، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثّالث قائداً للجيش، والرابع ـ السارق أو «الحرامي»، والخامس يمثل القافلة وهكذا، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كلُّ شيء إلى مكانته، وكأن المسألة لا تعدوا طيفاً.. أو خيالاً.. فلا أثر ولا خبر.

والقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة، مبيناً أنَّ الحياة الدنيا هي نوع من الانشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم، وبعد أيَّام يتفرقون ويختفون تحت التراب، ثمَّ يطوى كلَ شيء ويغدو في سلة النسيان.

أمَّا الحياة الحقيقيَّة التي لا فناء بعدها، ولا ألم فيها، ولا قلق ولا خوف ولا تضاد ولا تزاحم، فهي الحياة الآخرة فحسب... لو كان الإنسان يعرف ذلك، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق!

أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها، ويأنسون بها، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة.

وينبغي الإلتفات إلى أنَّ المراد من «الحيوان» على زنة «خفقان» هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً. وهذا التعبير ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ إشارة إلى أنَّ الحياة الحقيقية هي في الأخرى، لا في هذه الدار الدنيا، فكأنَّ الحياة في الأُخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شيء هناك إلاّ الحياة.

وبديهي أنَّ القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأُخرى قياساً صريحاً وواضحاً... وإضافةً إلى كلَّ ذلك فإنَّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً [84].

سؤال:

إذا كان القرآن نفسه يوصي الإنسان بالعمل والجد والسعي من أجل إعمار الأرض وأحيائها، والسير فيها والتمتع بطبيعتها وجمالها والزواج والإنجاب و.... فلماذا يوصفها في هذه الآية بأنَّها ليست سوى لهو ولعب؟!.

الجواب:

إنَّ التوفيق والنجاح و(العمل والسعي وتحقيق المراد) في الوصول إلى الأهداف المقدسة، وبالوسائل والأساليب المشروعة والمجازة، وضمن حدود القانون، ومع مراعاة سائر الشروط، يعد بمثابة المزرعة في الدنيا لأجل الآخرة، وما جاء في الآية مورد البحث من ذم الدنيا ووصفها باللهو واللعب، إنَّما يشمل الموارد التي لا يكون هدفها مقدساً وتخالف الموازين الشرعيَّة الدينية، ولا تتخذ الشرع والدين معياراً ومقياساً.

 

1- خلق العالم فيه هدف وحكمة، لكن الغفلة عن الآخرة، وحب الدنيا والغرق في ملذاتها سفاهة: ﴿ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾.

2- لا يجوز السكوت في مقابل جميع رغبات الناس وما يرضاه القلب، فأحياناً يجب الصراخ بوجه الغافلين وتحذيرهم: ﴿ لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾.

3- عندما نتعرض إلى أمر بالذم والنفي، فيجب أن نطرح البديل المناسب: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾.

4- الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة: ﴿ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾.

5- أكثر النَّاس لا يعرفون حقيقة الآخرة، وإلاّ لما تعلقوا بالدنيا: ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.


 


الآية (65)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)

يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان، وضمن مثال بديع جدَّاً وبليغ فيقول: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾.

أجل، إنَّ الشدائد والأزمات هي التي تهيئ الأرضية لتفتح «الفطرة» الإنسانية، لأنَّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً، إلاّ أنَّ الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالاً وأستاراً، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوَّامات المشاكل، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة، ويخلص قلبه من كلِّ نوع من أنواع الشرك والكفر، وينصهر في تنور الحوادث، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾.

وملخص الكلام: إنَّه توجد في داخل قلب الإنسان دائماً نقطة نورانية، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة، وأقرب طريق إلى الله. إلاّ أنَّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستاراً، غير أنَّ طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وعلى هذا، فإنَّ أئمَّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة «معرفة الله» ويغرقون في الشك والحيرة.. بهذا الأمر. وقصَّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله، والذي أرشده الإمام الصادق (ع) عن طريق الفطرة والوجدان، سمعناها جميعاً إذ قال: يا ابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!

فقال له الإمام (ع): «يا عبد الله، هل ركبت سفينة قطّ؟

قال: نعم.

قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟!

قال: نعم!

قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟!

قال: نعم.

قال الصادق (ع): «فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث» [85] .

 

سؤال:

يطرح الماديون في تحليلاتهم مسألة الخوف فيما يتعلق بجذور الإيمان، فيقولون: إنَّ أصل الدين هو الخوف، بمعنى أنَّ منشأ الدين أساسه الخوف، فالطفل الصغير عندما يخاف يلجأ إلى أمه، وعندما يكبر يلجأ إلى قدرة وهمية اسمها «الرب»، فهل تؤيد هذه الآية نظرية الماديين أو تنقضها؟

 

الجواب:

تقول هذه الآية أنَّ الإنسان عندما يخاف يلتجيء إلى الله تعالى، ولا تقول أنَّ «وجود الله» ولد من الخوف، فمثلاً نحن عندما نرى كلباً شرساً ونشعر بالخوف منه، نتوجه مباشرة إلى حجر لنضربه به، وهذا لا يعني أنَّ أصل وجود الحجر بسبب الكلب، هذا ليس صحيحاً. إنَّ وجود القدرة الأزلية في الوجود أمر فطري، لكنَّه يظهر بشكل جلي وأكبر عند الحوادث الخطيرة عند ذلك يلتفت الإنسان إلى هذا الأمر الفطري أكثر.

قرأنا في الآيات مورد البحث أنَّ المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهناك، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانباً جميع المعبودات المصنوعة، ويخلصون قلوبهم كاملاً ـ لكن خلوصاً إجبارياً لا قيمة له ـ فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الاعتياديَّة، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه «الوردة».

قد يقال: إنَّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والترسبات الفكرية من الثقافة الاجتماعية وأفكار المحيط.

ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصَّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني، ولكن مع الإلتفات إلى أنَّ هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله، وفي المجتمعات غير المذهبية، فيتّضح حينئذ أنَّ جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان، وفي داخل فطرته وجبلّته! [86] .

 

1- الخوف يزيل غبار الغفلة، والفطرة توقظ وجود الله في الإنسان:
﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ ... دَعَوُا اللهَ ... ﴾.

2- الإيمان ليس موسمياً: ﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ ... يُشْرِكُونَ ﴾.

3- البعد الزماني والمكاني لا يجعل الأمثال القرآنية قديمة، فركوب السفن والتعرض لأهوال البحار وخطر موجها كان وما زال عبر تاريخ البشرية: ﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ ﴾.

4- أهم من الاخلاص حفظ الاخلاص: ﴿ مُخْلِصِينَ ... إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾.

5- الدعاء بإخلاص مستجاب: ﴿ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ ... فَلَمَّا نَجَّاهُمْ ﴾. والفاء في «فلما» تدل على الاستجابة.

6- النجاة من الحوادث والأخطار سبيل إلى الشكر وليس إلى الشرك: ﴿ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾.


 


الآية (66)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

المراد من «يكفروا» كفران النعمة بقرينة «آتيناهم» يعني النعمة.

 

1- الشرك نوع من الكفران وعدم الشكر (كفران النعمة): ﴿ لِيَكْفُرُواْ ﴾.

2- طريق الوصول إلى النعم وتحقيق المقاصد مفتوح أمام الجميع الصالح والطالح: ﴿ آتَيْنَاهُمْ ﴾.

3- تحقيق المقاصد والوصول إلى النعم مع وجود الكفر وكفران النعمة لا يبعث على السرور والفرح لأنَّ عاقبته عاقبة شؤم وسوء:
﴿ لِيَكْفُرُواْ ... وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾.

4- التهديد أمر لازم في التربية: ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾.


 


الآية (67)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

 

1- إحدى طرق دعوة الناس إلى الله تعالى، لفت أنظارهم إلى النعمة الإلهية: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾.

2- التذكير بمحيط الناس غير الآمن، يجعل من مسألة الأمن قيمة عندهم: ﴿ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾.

3- الأمن والأمان أرضية مناسبة ومهد جيد للعبادة: ﴿ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي ... وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾، لكن بعض الناس لا يعرفون قدر هذه المسألة وأهميتها فيضلون ويكفرون: ﴿ حَرَمًا آمِنًا ... أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ﴾.


 


الآية (68)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِّلْكَافِرِينَ (68)

1- إنَّ نسب كلّ شيء إلى الدين يعدّ افتراءً وظلماً كبيراً: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى ﴾.

2- يجب قبول الوحي من دون نقصان ولا زيادة: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ... أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ ﴾.

3- الافتراء على الله سبحانه وتكذيب الحق وعدم التسليم في مقابل الحق يعد ظلماً « فكرياً وثقافياً»، وهو من أعظم أنواع الظلم: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ... أَوْ كَذَّبَ ﴾.

4- العذاب الإلهي ينزل بعد اتمام الحجة: ﴿ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ ﴾.


 


الآية (69)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

في معنى «الجهاد» هنا احتمالات متعددة. أهو جهاد الأعداء؟ أم جهاد النفس؟ أم الجهاد في سبيل معرفة الله عن الطرق العلمية؟

للمفسِّرين آراء في هذا المجال. وكذلك في معنى «فينا» الذي ورد تعبيره في الآية، هل المراد منه في سبيل الله؟! أم في سبيل الجهاد للنفس، أم في سبيل العبادة، أم مواجهة الأعداء؟

من الواضح أنَّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق، ومثله التعبير بكلمة «فينا» فالتعبير يشمل كلّ سعي وجهاد في سبيل الله ومن أجله، وللوصول إلى الأهداف الإلهية، كلّ ذلك يصدق عليه ﴿ جَاهَدُواْ فِينَا ﴾ سواءٌ كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر على المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح!

ويتّضح ممّا قلناه ضمناً أنَّ المراد بـ «السبل» الطرق المتعددة التي تنتهي إلى الله، سبيل جهاد النفس، سبيل جهاد الأعداء، سبيل العلم والثقافة.

والخلاصة، فإنَّ الجهاد في كلِّ طريق من هذه الطرق والسبل سبب لهداية المسير المنتهي إلى الله. وهذا وعدٌ وعده الله لجميع المجاهدين في سبيله، وأكده بأنواع التأكيدات كـ «لام التأكيد والنون الثقيلة» وجعل التوفيق والانتصار والرقي في محور شيئين هما: «الجهاد» و «خلوص النية».

ويعتقد جماعة من الفلاسفة أنَّ التفكر والمطالعة لا يوجدان العلم، بل يهيئان روح الإنسان لقبول صور المعقولات، وحين تتهيأ الروح الإنسانية للقبول يتنزَّل «الفيض» من قبل الخالق المتعال وواهب الصور بالعلم و«الحكمة». فعلى هذا ينبغي على الإنسان أن يجاهد في هذا الطريق، إلاّ أنَّ الهداية بيد الله تعالى.

وما ورد في الحديث أنَّه «ليس العلم بكثرة التعلم والتعليم، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء»، فلعله إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

 

ملاحظتان:

1- الجهاد والإخلاص:

يستفاد من الآية المتقدمة بصورة جيدة أنَّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة وعدم الموفقية، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين: إمِّا أنا قصَّرنا في جهادنا، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل، وإذا اجتمع الجهاد والإخلاص ـ فبناء على وعد الله ـ فإنَّ النصر والهداية حتميَّان.

ولو فكَّرنا جيداً لاستطعنا أن نعزو جميع المشاكل والمصائب في المجتمع الإسلامي إلى التقاعد عن الجهاد وعدم الإخلاص، فهما مصدرها.

وهنا السؤال: لِمَ تأخر المسلمون الذين كانوا متقدمين بالأمس!؟ ولِمَ يمدون يد الحاجة إلى الأجانب في كلِّ شيء، حتى في الثقافة والقوانين، وحتى نظمهم الخاصة. ولِمَ يعتمدون على غيرهم من أجل حفظ أنفسهم من التيارات السياسية والهجمات العسكرية. ولِمَ كان الآخرون جالسين يوماً على مائدة المسلمين التي كان خوانها مبسوطاً بالعلم والثقافة والمعرفة، واليوم أصبح المسلمون جالسين على مائدة الآخرين؟!.

وأخيراً، لِمَ نرى المسلمين أسرى في قبضة الآخرين، وأراضيهم مغصوبة من قبل الظالمين؟!.

الإجابة على جميع هذه الأسئلة منحصرة في سبب واحد، هو «نسيانهم الجهاد» أو «عدم الخلوص في النية».

أجل، لقد أهملوا الجهاد في الميادين العلمية والثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية، وتغلّب عليهم حب النفس وعشق الدنيا وطلب الراحة والنظرة الضيقة والأغراض الشخصيَّة، حتى أصبح قتلاهم على أيديهم أكثر من قتلاهم على أيدي أعدائهم!.

إنَّ استغراب بعض المسلمين الذين انبهروا بحضارة الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي، وعمالة بعض الرؤساء والزعماء، ويأس وانزواء العلماء والمفكرين كلّ ذلك سلبهم التوفيق إلى الجهاد، وكذلك حرمهم من الإخلاص. ومتى ما ظهر قليل من الإخلاص بين صفوفنا، وتحرك مجاهدونا حركة ذاتية، فإنَّ النصر يكون حليفنا واحداً بعد الآخر... وتتقطع غلال الأسر... ويتبدل اليأس إلى أمل مشرق، وسوء الحظ إلى حسن الحظ، والذلة إلى العزة ورفعة الرأس، كما تتبدل الفرقة والشتات إلى الوحدة والانسجام. وما أعظم ما قاله القرآن! وما أبلغ إلهامه! إذ جمع في جملة واحدة الداء والدواء معاً.

أجل إنَّ الذين يجاهدون في سبيل الله تشملهم هدايته، ومن البديهي أنَّه مع هداية الله، فلا ضلال ولا خسران، ولا انهزام.

وإذا لاحظنا أنَّ الآية مفسرة في بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام) بآل محمّد (ص) وأتباعهم، فهي مصداق كامل لذلك «التّفسير» لأنَّهم كانوا السابقين والمتقدمين في طريق الجهاد، وليس في الآية دليل على تحديد مفهومها أبداً.

وعلى كلِّ حال، فإنَّ كلّ إنسان يلمس هذه الحقيقة القرآنية... في سعيه واجتهاده، حيث يجد الأبواب مفتوحة عندما يعمل لله وفي سبيل الله، وتنتهي مشاكله السهلة والصعبة وتضحى بسيطة متحملة.

2- الناس ثلاثة أصناف:

فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية.

وصنفٌ مجدّ دؤوب مخلص، وهذا الصنف يصل إلى الحق.

وصنفٌ ثالث أعلى من الصنف الثاني، فهذا الصنف ليس بعيداً حتى يقترب من الحق، ولا منفصلاً عنه حتى يتصل به، لأنَّه معه أبداً.

فالآية المتقدمة ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى ﴾ إشارة إلى الصنف الأوَّل.

وجملة ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا ﴾ إشارة إلى الصنف الثّاني.

وجملة ﴿ وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ إشارة إلى الصنف الثّالث.

ويستفاد ـ ضمناً ـ من هذا التعبير أنَّ مقام «المحسنين» أسمى من مقام «المجاهدين»، لأنَّ المحسنين إضافة إلى جهادهم في سبيل الله لنجاة أنفسهم، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم، ويحسنون إلى الآخرين، ويسعون لإعانتهم [87] .

1- يجب المجاهدة للوصول إلى الهداية الإلهية الخاصة، والخطوة الأولى تكون من قبل الإنسان نفسه: ﴿ جَاهَدُوا... لَنَهْدِيَنَّهُمْ ﴾، كما يقول في مكان آخر: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ [88] .

2- أحياناً كثيرة تكون خطوة واحدة ولحظة جهد مخلصة سبباً في الهداية والنجاة الأبدية: ﴿ جَاهَدُواْ ﴾، جاءت بصيغة الماضي و
﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ ﴾ بصيغة المضارع المستمر.

3- لا يجب تحديد جميع الخطوات وإبعاد العمل من اليوم الأول فيما يتعلق بالإدارة والقيادة، المهم الشروع بالخطوة الأولى (الإلهية المخلصة). فيستتبع ذلك هدايات وتوفيقات غيبية: ﴿ جَاهَدُواْ ... لَنَهْدِيَنَّهُمْ ﴾.

4- إنَّ ما يعطي المجاهدة قيمة حقيقية هو الإخلاص: ﴿ فِينَا ﴾.

5- يجب أن نطمئن إلى الوعد الإلهي: ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ ﴾، فاللام ونون التوكيد علامتا التأكيد.

6- الطرق إلى الله تعالى ليست محدودة: ﴿ سُبُلَنَا ﴾.

7- علامة الاحسان المجاهدة في سبيل الحق والإخلاص فيه: ﴿ جَاهَدُواْ فِينَا - لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.

8- رعاية الله تعالى لعبده الضعيف تعني وصوله إلى كل شيء: ﴿ وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾، كذلك نقرأ في دعاء عرفة للإمام الحسين (ع): «ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك» [89] .

9- الله سبحانه أرشدنا إلى طريق القرب (منه): ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ ﴾ وأيضاً، أخذ بأيدينا للوصول إلى المقصد والهدف: ﴿ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.

إلهنا.. ارفع درجاتنا حتى نعلو على مقام المجاهدين وننال درجة المحسنين، وارزقنا هدايتك في جميع أعمارنا

نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لنكون من التالين للقرآن العاملين فيه المتدبرين بأحكامه ويجعلنا مع المحسنين.

والحمد لله رب العالمين

 


[42] الأمثل: ج 12، ص 387.

[43] راجع تفسير مجمع البيان: ج 4، ص 309، وتفاسير أخرى.

[44] سورة العنكبوت، الآية: 36.

[45] سورة البقرة، الآية: 30.

[46] سورة الأعراف، الآية: 85.

[47] ميزان الحكمة: ج8، ص326.

[48] الوسائل: ج 17، ص 82.

[49] الكافي: ج 5، ص 124.

[50] الأمثل: ج 7، ص400 - 204.

[51] سورة الحاقة، الآيتان: 7-8.

[52] تفسير الأمثل: ج 12، ص 390 - 392.

[53] سورة النساء، الآية: 80.

[54] سورة النساء، الآية: 59.

[55] سورة البقرة، الآية: 165.

[56] سورة النساء، الآية: 139.

[57] سورة النحل، الآية: 73.

[58] سورة العنكبوت، الآية: 22.

[59] سورة الفرقان، الآية: 55.

[60] سورة الأحقاف، الآية: 4.

[61] سورة المزمل، الآية: 5.

[62] سورة المزمل، الآية: 4.

[63] سورة المزمل، الآية: 6.

[64] راجع تفسير جوامع الجامع: الشيخ الطبرسي، ج 3، ص 663.

[65] سورة فاطر، الآية: 29.

[66] سورة الأعراف، الآية: 170.

[67] سورة طه، الآية: 14.

[68] راجع مجمع البيان: ج 7 - 8، ص 447.

[69] نفس المصدر: ج 7 - 8، ص 447.

[70] سورة الأعراف، الآية: 179.

[71] بحار الأنوار: ج 82، ص 200

[72] وسائل الشيعة: ج3، ص7، ح3.

[73] نهج البلاغة: الكلمات القصار، 252.

[74] نهج البلاغة: الكلمات القصار، 136.

[75] نهج البلاغة: وصية 47.

[76] بحار الأنوار: ج84، ص317.

[77] بحار الأنوار: ج84، ص317. وسائل الشيعة: ج3، ص4.

[78] الأمثل: ج 12، ص 414 - 415.

[79] تفسير نور الثقلين: ج4، ص 162 - 164.

[80] الأمثل: ج12، ص425 ـ 426.

[81] نهج البلاغة: الكلمات القصار، رقم 442.

[82] سورة ص، الآيتان: 82 - 83.

[83] سورة الحجر، الآية: 42.

[84] تفسير الأمثل: ج 12، ص 447 - 448.

[85] تفسير الأمثل: ج 12، ص 448 - 450.

[86] تفسير الأمثل: ج12، ص 451 - 452.

[87] الأمثل: ج12، ص 455 - 459.

[88] سورة محمد، الآية: 7.

[89] بحار الأنوار: ج95، ص226.