تفسير سورة العنكبوت

 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد

 - بيروت - لبنان

الطبعة الأولى، ذو الحجة 1434هـ // 2012م

فهرس الكتاب

الجزء الأول

الجزء الثاني
 المقدمة 5
 سورة العنكبوت 7
 ملامح سورة العنكبوت 15

 تفسير الآيات

 الآيات 1 - 2 - 3 15  الآية 20 41
 الآيتان 4 - 5 17  الآيتان 21 - 22 42
 الآية 6 22

 الآية 23

43
 الآية 7 23

 الآية 24

44
 الآية 8 24  الآية 25

45

 الآية 9 26  الآية 26 47
 الآية 10 27  الآية 27 48
 الآية 11 28  الآية 28 53
 الآية 12 29  الآيتان 29 - 30 55
 الآية 13 30  الآية 31 62
 الآيتان 14 - 15 33  الآية 32 64
 الآية 16 36  الآية 33 67
 الآية 17 37  الآيتان 34 - 35 69
 الآيتان 18 - 19 39  

 

 

 


المقدمة



الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد وعلى آله الطاهرين.
في عصرنا الحاضر نشاهد أعداء البشرية يقدمون - وأكثر من أي وقت مضى - على تحريف ثقافتنا وإلقاء الشبهات الباطلة، وطرح الأفكار المنحرفة، ويصنعون المكائد والمؤامرات، كلّ ذلك ضمن حملة موجهة ضد عقائدنا وثقافتنا وأخلاقنا وإيماننا، ويستخدمون في سبيل ذلك أحدث الوسائل والتقنيات الموجودة في العالم، حيث أضحت الفتن اليوم كالغمام المظلم المكفهر الذي يلقي بظله على جميع أرض المعمورة، وأصبح الإنسان بحاجة إلى سفينة موثوقة مطمئنة تبحر به إلى شاطىء الأمان، وهذه الحاجة ملحّة اليوم أكثر من أي زمان مضى. فالإنسان في هذه الظروف بحاجة إلى الأمل، وهذا الأمل يتمثل في القرآن الكريم، بالإضافة إلى التمسك بنهج محمد (ص) وآل بيته الأطهار (عليهم السلام)، فالقرآن الكريم يشير في بعض قصص الأنبياء عليهم السلام، أنَّ المولى تعالى حفظ يونس (ع) في قعر البحر، ونوح (ع) على سطح ماء الطوفان، ويوسف (ع) في قعر الجب، القرآن يحدثنا أنَّ موسى (ع) بضربة واحدة من عصاه شقَّ نهر النيل فبانت أرضه اليابسة، وبضربة من نفس العصا في مكان آخر انبجست اثنتا عشرة عينا في الماء. والإرادة الإلهية تستطيع أن تغرق فرعون وأتباعه في الماء، وقارون في بطن الأرض، وتنجي ابراهيم (ع) وتخرجه سالماً من قلب النار الملتهبة، ولذلك نرى أنَّ الله تعالى يوبخ الذين لا يتدبرون القرآن، وليس أيّ علم أو كتاب آخر: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [1] .
التدبر في القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي في كلِّ سورة وآية وكلمة وحرف فيه مسألة وحكمة، من هنا، يتوجب على كلِّ مسلم أن يتدبر في كلِّ كلمة وحرف في هذا الكتاب السماوي، لأنَّ في كلِّ حرف منه هدف وحكمة وغاية. عندما يسأل الإمام الصادق (ع) لماذا تمسحون قسماً من الرأس عند الوضوء ولا تمسحون الرأس كله، أجاب: لأنَّ المولى تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ [2] ، والباء تدل على بعض الرأس وليس كلُّه.
وبالعودة إلى التفسير، فإنّا نجد أنَّ المفسرين قد فسَّروا القرآن الكريم بطرق ومناهج مختلفة، واتخذ كلّ واحد منهم أسلوباً خاصاً.
فالبعض منهم اهتم بنقل آراء المفسرين مثل تفسير مجمع البيان وروح المعاني.
وهناك آخرون كتبوا في الجوانب الفقهية، وكانوا أكثر اهتماماً بهذا الجانب من التفسير القرآني كتفسير القرطبي.
والبعض منهم التفت إلى المسائل الاجتماعية، نظير تفسير في ظلال القرآن والمنار.
والبعض الآخر اعتنى بإيراد الروايات في ذيل كلّ آية، كتفسير الصافي والبرهان ونور الثقلين وكنز الدقائق.
وهناك من توجه إلى تفسير القرآن بالقرآن، واستخدم الآيات لبيان معاني الآيات الأخرى كتفسير الميزان.
أما آخرون فقد اهتموا بالمسائل الطبيعية التي طرحها القرآن مثل تفسير الطنطاوي.
كذلك يوجد أشخاص اهتموا بشرح الآيات وطرح المباحث المتعلقة، بها كتفسير الأمثل.
أما فيما يتعلق بهذا التفسير الذي بين أيدينا، فقد ابتعدت عن نقل الأقوال والأحاديث التي لا تفيد سوى أهل المعرفة والفن في هذا المجال، كذلك وضعت المناقشات الأدبية ـ التي لا تفيد عموم الناس ـ جانباً، واستعضت عن كلّ ذلك باستخراج النقاط والمسائل العملية التي تفيد عامة الناس، سواء الفكرية أو العملية، في حياتهم اليومية.
أيها القارىء العزيز إذا تأملت جيداً في المسائل التي طرحتها في هذا النوع من التفسير، فإنَّك قد تجد مطالب جديدة ومسائل لطيفة، أو يحصل في فكرك نقاط لم يطرحها الكاتب، لذلك نأمل من جانبك الكريم إرسال ملاحظاتك ونقاطك إلينا مع الشكر الجزيل، نعم إنَّ القرآن «بحر لا يدرك قعره» [3] ، فكما أنَّ الماء أصل لكل شيء ومنه تنبعث الحياة، فإنَّ القرآن أيضاً بحر تنبع منه جميع الحقائق، وهو وحي الله تعالى وكلامه.
وكما أنَّ الغوَّاصين ينزلون إلى أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، فالعلماء أيضاً بتعمقهم في القرآن يستطيعون استخراج المفاهيم القيِّمة والمعاني السامية.
لكن الشيء الهام الذي لا بد من الإشارة إليه، أنَّ الغوَّاص لا يمكن وضع رجله في الماء دون تعلم السباحة، كذلك الأمر فإنَّه من دون معرفة الأسلوب الصحيح والمنهج القويم للتفسير، فلا يمكن الدخول في فن تفسير القرآن، لأنَّ في ذلك خطراً كبيراً.
لكلِّ إنسان قدرة محددة وظرفيَّة خاصة للاستفادة من هذا البحر الذي لا حد له ولا نهاية لمعانيه. فلكلٍ ظرفيته وسعته. على أمل أن نصل إلى اليوم الذي يصبح فيه درس تفسير القرآن مقدماً على سائر الدروس في الحوزات العلمية، ويجد له مكاناً خاصاً في الجامعات، وفي المساجد والحسينيات، ويصبح محور المنابر فيها.


والله هو الهادي والمدبر
محسن قراءتي


[1] سورة محمد، الآية: 24.
[2] سورة المائدة، الآية: 6.
[3] نهج البلاغة: خطبة، 198.
 

 

 


سورة العنكبوت


 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُواْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ (39) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) 
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمّىً لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
 

 

 


ملامح سورة العنكبوت


 

نزلت هذه السورة في مكة، وعدد آياتها تسعة وستون آية، في الآية الواحدة والأربعين يشبه المولى تعالى بناء الشرك ببيت العنكبوت في وهنه وضعفه، لذلك سميت السورة بسورة العنكبوت، والعديد من سور القرآن سميت بأسماء الحيوانات التي ذكرت فيها كالنمل والفيل والنحل والبقرة، فسورة البقرة سميت بذلك لمناسبة ورود قصة بقرة بني إسرائيل، والنحل لمناسبة ذكر بيان حياة هذه الحشرة العجيبة، كذلك بالنسبة إلى سورة النمل ومناسبة قصة النملة وحديثها مع سليمان، أما سورة الفيل فالقصة معروفة وشاهدها حملة أبرهة على مكة وركوبه وأصحابه على الفيلة.

أما المواضيع التي طرحت في هذه السورة فهي مواضيع تتكلم عن: الإيمان بالله، تكليف البشر، الامتحان الإلهي، تاريخ بعض الأنبياء، بالإضافة إلى النهي عن المجادلة بغير التي هي أحسن، وطرح مسألة الاعتماد على غير الله سبحانه وتعالى.

 

 


الآيات (1) - (2) - (3)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

 

كلمة «فتن» في الأصل بمعنى: إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته، ويقال «فتنة» للامتحان والبلاء، ليمتحن جوهر الإنسان فيميز الخبيث من الطيب.

 

1- الإيمان ليس باللسان والشعارات فقط، ولا بد من امتحان كل من يدعي الإيمان: ﴿ أَحَسِبَ ... وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ لا يكفي الادعاء بالإيمان بل يجب رؤية العمل والحكم عليه.

2- الامتحان والبلاء سنة إلهية مستمرة طوال التاريخ: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾.

3- الحوادث ليست صدفة، بل امتحانات وفتنة لها أسبابها ومسبباتها: ﴿ فَتَنَّا ﴾.

4- معرفة التاريخ والحوادث السابقة تُعدّ الناس وتؤهلهم لقبول الحوادث الواقعة: ﴿ مِن قَبْلِهِمْ ﴾.

5- دليل الامتحانات الإلهية تَحقق العلم الإلهي الأزلي وعينيته، وتمييز المؤمنين الحقيقيين من الكاذبين، وتفتّح الاستعدادات الباطنية وإظهارها إلى حيز الفعلية: ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ ... الَّذِينَ صَدَقُواْ ... الْكَاذِبِينَ ﴾.

 

إنَّ جميع مجالس القوننة و«البرلمانات» في العالم تضع نوعين من القوانين ويتم تصويبهما:

الأول: القانون الداخلي الذي يلزم المجلس نفسه به، لإدارة أمور المجلس الداخلية.

الثاني: القوانين التي يصدرها لإدارة البلاد ويلزم الحكومات بتنفيذها.

والله تعالى وضع نوعين من القوانين:

الأول: القوانين التي ألزم الناس بإجرائها وأوجبها عليهم، والتي يطلق عليها اسم الأحكام والتكاليف.

والثاني: القوانين التي ألزم نفسه بها وكتبها على نفسه، والتي يطلق عليها السنن الإلهية، مثل الرزق: ﴿ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [1] ، والهداية: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [2] .

ومن البرامج والقوانين التي كتبها الله على نفسه: الامتحان والبلاء (الفتنة). بحيث يمتحن الناس ويمحصهم، وقد ورد في الآيات القرآنية أمثلة كثيرة في هذا المورد: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾، والبلاء يشمل الجميع.
 

لكن السؤال الذي يُطرح هو التالي:

1- لماذا يبتلي الله عزَّ وجلَّ الناس، ما دام يعلم ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وعلمه وسع كلّ شيء؟

الجواب: الامتحان الإلهي ليس للعلم، بل للتعليم، بمعنى تعليم الإنسان وتعريفه ليميز المدّعين الصادقين من المدّعين الكاذبين، فجميع المؤمنين يدّعون أنَّهم مطيعون لله سبحانه ويعملون بأوامره ونواهيه، لكن عند الامتحان تظهر حقيقة الأمر، ويُعلم من هو الصادق ومن الكاذب.

إضافة إلى ذلك، فإنَّ العقاب والثواب لا يكون على أساس العلم، بل على أساس العمل الذي يصدر عن هذا الإنسان، فكلنا يعلم أنَّ النّجار يعلم كيفية صنع الأبواب والنوافذ، لكنَّا لا نعطيه أجراً على علمه هذا، بل نعطيه الأجر عندما يصنع لنا الباب أو النافذة، فإذا لم يصنع شيئاً لم نعطه. والله سبحانه، كذلك، يمتحن الإنسان لكي يرى عمله فيعطيه ما يتناسب وفعله من أجر أو عقاب.
 

2- ما هي وسائل الامتحان؟

الجواب: إن جميع أمور الحياة من خير وشر يمكن أن تكون وسائل للامتحان والبلاء. يقول تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ [3] . فالإنسان معرض للبلاء في حالات الفقر والعوز والضيق، كما في حالات الوسعة والغنى والرفاه، في التعب وفي الراحة، فيمتحن في حالات الضيق والفقر، أيصبر أم يكفر ويخرج عن جادة الطريق، كذلك في حالات الرفاه والسعة، أيشكر فيساعد الآخرين، أو ينشغل بنفسه ويفكر بحاله فقط.
 

3- كيف تكون ردة فعل الإنسان في حالات الابتلاء الإلهي؟

الجواب: الناس عند البلاء عدة أصناف:

الصنف الأول: تكون ردة فعلهم عند البلاء سلبية، يصيحون ويندبون ويجزعون: ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [4] .

النوع الثاني: هم الصابرون: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [5] .

النوع الثالث: يقبلون على البلاء بأرواحهم وقلوبهم ويسلمون أمرهم إلى مولاهم: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ [6] .

ومثال ذلك أعضاء الأسرة عند تناول الطعام الذي يخالطه الفلفل والبصل مثلاً، فنرى أن ردة فعلهم متفاوتة: فالأطفال عندما يتذوقون الفلفل والبصل يصرخون ويصيحون، والأكبر سناً منهم يأكلون الفلفل ويتحملون طعمه، أما الأب فيمنح المال ويأكل الفلفل والبصل وهو سعيد.


 


الآيتان (4) و (5)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

 

ورد عن أمير المؤمنين علي (ع) أن المراد من «لقاء الله» في الآية يوم القيامة.

 

1- ارتكاب المعاصي والذنوب وتكرارها يؤثر في فكر الإنسان وتصوره، ويجعله أسير التصورات والأوهام: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾.

2- يمكن معالجة التصورات والأوهام بذكر الموت وتذكر المعاد. وليعلم الجميع سواء المؤمنين الذين يتعرضون للبلاء والامتحان والكفار والمخالفين، أن الفرص لا تدوم، والمهل لها انقضاء، وأن لطف الله سبحانه وقهره آت لا محال: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ ... أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ... مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاء اللهِ ... ﴾.

3- الجميع في معرض البلاء، فلا المؤمنون متروكون من دون امتحان، ولا المخالفون ناجون من الانتقام الإلهي: ﴿ يَسْبِقُونَ ﴾، يخيّل إلى العاصين أنَّ يد القهر الإلهية لن تصل إليهم!: ﴿ أَمْ حَسِبَ ﴾.

4- يجب رفض الأفكار والتصورات الباطلة ووسمها بالسوء: ﴿ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾.

5- الله تعالى يسمع مقالنا في إظهار الإيمان، ويعلم ما يدور في أذهاننا وما نتصور ونخفي في بواطننا: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.


 


الآية (6)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)

 

المراد من الجهاد في هذه الآية ليس فقط الجهاد بالسيف ومحاربة الأعداء، بل يشمل كل سعي وجهد، سواء الجهاد في سبيل بناء الذات وإعمار النفس وإصلاحها، أي «مجاهدة النفس»، أو مجاهدة وسوسات الشيطان والجهاد ضد الأعداء الخارجيين.

لا شك أن كل سعي أو جهد يبذله الإنسان، إنما يعود بالفائدة عليه، لأن الله سبحانه غنيّ ولا يعتريه أي نقص ولا حاجة. كما لو أنَّ جميع البشر بنوا بيوتهم في مواجهة الشمس أو في خلافها، فإنَّ ذلك لن يؤثر على الشمس وليس هناك أي تفاوت بالنسبة إليها، لكن البشر هم المحتاجون إلى نور الشمس ودفئها. فالمولى عزَّ وجلَّ غني عن عباده وعن جميع مخلوقاته، فلو أنَّ جميع من في الأرض آمنوا أو كفروا، فلن ينفعوا الله أو يضرّوه شيئاً، لأنَّ الله ليس بحاجة إلى صلاتنا وعبادتنا، إنَّما نحن بحاجة إلى الصلاة والعبادة من أجل الرشد والكمال، وطلب المدد والعون والتوفيق الإلهي: ﴿ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾.

 

1- الله تعالى لا يحتاج إلى سعينا: ﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾. فهو لم يَخلُقْ لمنفعة في ذاته، بل ليجود على مخلوقاته.

2- يجب أن نستفيد من الميول الباطنية والفطرية - كحب النفس مثلاً - في تحفيز الناس على السعي الايجابي، فالإنسان يميل فطرياً إلى الربح والمنفعة: ﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾.

3- إنَّ غنى المولى تعالى حقيقي وكامل بخلاف غنانا نحن البشر، حيث نظهر الاستغناء ونحن في العين ذاتها محتاجون: ﴿ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾، فحرفا «إن» و«اللام» علامة اللزوم والتأكيد.

4- الله سبحانه غني عن البشر وعن الملائكة وجميع المخلوقات: ﴿ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾.


 


الآية (7)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ (7)

 

أفضل نموذج وأهم علامة للجهد والسعي الذي ورد في الآية السابقة هو الإيمان والعمل الصالح الذي توضحه هذه الآية.

 

1- الإنسان بحاجة إلى الإيمان والعمل الصالح ليفوز بالثواب الإلهي: ﴿ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾.

2- المؤمن ليس معصوماً عن ارتكاب الأخطاء وزلة القدم، لكن زلاته وأخطاءه يكفر عنها بسبب إيمانه وعمله الصالح: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ... لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾.

3- نيل الثواب يأتي بعد التطهر من الذنوب والتكفير عن السيئات: ﴿ لَنُكَفِّرَنَّ ... وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ﴾.

4- الثواب الإلهي لا يقف عند حد التكفير عن الذنوب، بل يتعداه إلى الجزاء الحسن أيضاً: ﴿ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.

5- الله سبحانه يجعل أفضل عمل المؤمن معياراً للثواب والجزاء الحسن: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.


 


الآية (8)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

 

1- الإحسان إلى الوالدين أمر إنساني وليس إيمانياً فقط، فالمولى عزَّ شأنه يقول: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ ﴾، ولم يقل ووصينا المؤمنين.

2- الإحسان إلى الوالدين ليس مقيداً بشرط ولا قيد: ﴿ حُسْنًا ﴾، إذ لم يقيده بشرط النسب والقربة أو السنّ، أو بشرط علمي واجتماعي وسياسي واقتصادي وإيماني، فحتى الإنسان الكافر والمشرك يجب أن يحسن إلى والديه.

3- يمكن للوالدين المنحرفين أن يحرفا الأولاد: ﴿ جَاهَدَاكَ ﴾.

4- لا يجب سوء الاستفادة من احترام الآخرين، فعلى الوالدين أن لا يجهدا في حرف أبنائهم عن جادة الصواب بالاستفادة من احترامهم لهم: ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ ﴾.

5- يتوجب على الأبناء امتلاك القدرة على اختيار الفكر الصحيح وانتخاب الطريق القويم، فلا يطيعوا الأهل طاعة عمياء: ﴿ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ... فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾.

6- الشرك لا يملك برهاناً أو استدلالاً علمياً: ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾.

7- لا يجب إطاعة أحد، ولا مداراة شخص في مسألة التوحيد والشرك، حتى لو كان أباً أو أماً: ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾.

8- الاحسان إلى الوالدين مطلق ودائم، لكن طاعتهما مشروطة بعدم الابتعاد عن الله سبحانه: ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾.

9- الإيمان بالمعاد يضمن إجراء التعاليم والوصايا الإلهية: ﴿ وَوَصَّيْنَا ... إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾.

10-الله سبحانه يعلم جميع أعمال الإنسان ومطلع عليها: ﴿ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.

11- في يوم القيامة يطلع كلُّ امرئ على حقيقة أعماله: ﴿ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.


 


الآية (9)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

 

بيّنت الآيتان السابقتان أنَّ الإيمان والعمل الصالح يكفّر عن الذنوب، وأنَّ المولى سبحانه يجزي المؤمنين أحسن الذي عملوا. وبالإضافة إلى الاحسان إلى الوالدين، والابتعاد عن الشرك، تشير هذه الآية إلى أنَّ أهل الإيمان والعمل الصالح هم في زمرة الصالحين.

مقام الصالحين مقام رفيع، حيث نقرأ في مكان آخر أنَّ بعض الأنبياء كإبراهيم ويوسف (عليهما السلام) طلبوا من الله أن يلحقهم بالصالحين: ﴿ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [7] ، وهذا يدل على رفعة شأن هذا المقام.

 

1- يجب أن يترافق الإيمان مع العمل: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ﴾.

2- العمل الصالح وحده لا يدخل الإنسان في زمرة الصالحين، بل العمل الصالح النابع من الإيمان بالله تعالى، وهذا ما يعطيه قيمة حقيقية: ﴿ آمَنُواْ ... لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾، وهو العمل الصالح المبني على الإيمان.


 


الآية (10)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)

 

ورد في الآية الأولى من هذه السورة قوله تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ ... ﴾، فهل تظنون أنكم تدّعون الإيمان من دون امتحان وبلاء، أما في هذه الآية فيتحدث عن نموذج من هذا الإيمان.

في الآية يعتبر أنَّ أذية الكفار للمؤمنين فتنة وامتحاناً، ليقول للمؤمنين أن جميع المصائب والأذية والتهكم والتهم والعذاب الذي يصيبكم من قبل المخالفين هو نوع من الامتحان والبلاء.

المراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من أولي العقل إنساناً كان أو غيره كالجن والملائكة، ولو كان المراد به الصدور والبواطن فهو بعيد [8] .

 

1- بعض الناس يظهرون الإيمان باللسان فقط وليس بالقلب: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا ﴾.

2- الإيمان يتبعه - أحياناً كثيرة - أذى الناس، لذلك يجب التحمل والصبر: ﴿ آمَنَّا - أُوذِيَ فِي اللهِ ﴾.

3- المؤمن مقاوم: ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا [9] . غير أنَّ المنافق لا يستطيع التحمل والمقاومة: ﴿ فَإِذَا أُوذِيَ ... جَعَلَ ... ﴾.

4- الإيمان الحقيقي يظهر عند الصّعاب: ﴿ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ ﴾.

5- المنافق انتهازي يسعى وراء منافعه الشخصية فإذا انتصر المؤمنون عدّ نفسه منهم وأصرَّ على الاستفادة من المزايا والغنائم: ﴿ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾.

6- إنَّ التظاهر بالإيمان وإضمار النفاق والفكر لا ينفع عند الله سبحانه، لأنَّ الله يعلم ما في الصدور وأخفى عن ذلك: ﴿ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾.


 


الآية (11)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)

 

بعدما بينت الآية السابقة كيف يتصرف المنافقون عند تقلب الأمور ويدعون بإصرار أنهم يؤازرون المؤمنين وأنَّهم معهم (عند النصر):
﴿ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾. لكن الله تعالى يؤكد في هذه الآية أنَّه يعلم الجميع:
﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ﴾، وحرف «اللام» و«النون» الثقيلة في «ليعلمن» للتأكيد.

صحيح أنَّ الله سبحانه يعلم الذين آمنوا ويعلم المنافقين ويعلم ما في الصدور والضمائر، مع ذلك يريد الله أن يميز بين المؤمنين والمنافقين بالفتنة والامتحان.

 

1- إذا علم الإنسان وتيقن أنَّ الله سبحانه يعلم باطنه كما ظاهره، فيجب أن يخرج من حالة النفاق: ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾.

2- واحدة من فلسفة الامتحان الإلهي التمييز بين صفوف الناس، بين المؤمنين والمنافقين: ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ ... الَّذِينَ آمَنُواْ ... الْمُنَافِقِينَ ﴾.


 


الآية (12)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)

 

المنحرفون يدعون المؤمنين إلى ارتكاب المعاصي ويشجعونهم على الانحراف، فيقولون لهم اتبعوا سبيلنا في الانحراف ونحن نحمل آثامكم وخطاياكم، في حين أنه لا يمكن لأحد أن يحمل وزر أحد آخر.

أسلوب الكفار الذين يحبون أن يضل المؤمنون عن جادة الصواب ويعودوا عن إيمانهم على عدة مراحل:

1- يمنعون المؤمنين ويردونهم عن إيمانهم بالأذية والصدّ: ﴿ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ [10] .

2- يردون المؤمنين عن إيمانهم بالحرب والقتال: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ [11] .

ج- يقولون لهم اتبعونا فقط: ﴿ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ﴾، فإن فعلتم فلن تتعرضوا للأذى، ونحن نحمل آثامكم وخطاياكم: ﴿ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾.

د- إذا لم تنفع جميع الأساليب الآنفة الذكر، عندها يميلون إلى المداهنة وتصبح أمانيهم أن يلين المؤمنون ويغضّوا الطرف عن التكاليف السماوية من أجلهم: ﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [12] .

 

1- الأعداء لا يتركونكم ويعملون على تحقيق أهدافهم، ومنها صرفكم وصدّكم عن الدين، فالمسلم المؤمن عرضة للفتنة والعذاب الجسدي من قبل الكفار: ﴿ فِتْنَةَ النَّاسِ ﴾، وكذلك عرضة للهجوم الثقافي والتبليغي والحرب النفسية أيضاً: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ﴾.

2- إنَّ الارتداد عن الإيمان إلى الشرك والكفر إثم كبير، والكفار يدّعون أنَّهم يستطيعون جبران هذا الاثم بحمله عنهم: ﴿ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾.

3- في الرؤية الإسلامية للكون والوجود لا يمكن لأحد أن يحمل خطايا آخر: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [13] ، أما في عقيدة الآخرين وفكرهم فالأمر ليس كذلك: ﴿ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾.

4- إنَّ وعود الشيطان والكفار واهية ولا أساس لها: ﴿ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ ﴾، الشيطان أيضاً يأمر الإنسان بالكفر وارتكاب المعاصي، ولكن بعدما يكفر الإنسان يتبرأ الشيطان منه ومن عمله: ﴿ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ [14] .


 


الآية (13)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (13)

 

سؤال: في الآية السابقة تمَّ التأكيد على أنَّه لا يمكن لأحد أن يحمل خطايا غيره: ﴿ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ ﴾. أما في الآية مورد البحث فيقول، أنَّهم يحملون أثقالهم ويحملون فوقها أثقالاً أخرى، فما هي هذه الأثقال الإضافية.

الجواب: في الآية السابقة جواب للكفَّار الذين يدعون أنّ باستطاعتهم حمل خطايا غيرهم إذا اتبعوهم، فيقول المولى تعالى للكفَّار ليس الأمر كما تدَّعون، فكل امرئ رهين عمله ومسؤول عنه وعن نتاجه ولا يمكن التنصل منه، صحيح أنَّ شخصاً آخر حثه على الاجرام وارتكاب المعاصي، فهو شريكه، إلا أنَّ هذا الاشتراك في الجرم لا يخفف عنه المسؤولية، لذلك يقول القرآن صراحة:
﴿ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾. أما الآية الحالية فتقول أنَّ الشخص الخاطىء والعاصي مسؤول عن فعله، أما الشخص العاصي والذي يدعو الآخرين إلى المعصية فهو ضال ومضل، لذلك فهو أوَّلاً مسؤول عن أفعاله وفي ذات الوقت يشارك الآخرين ممن أضلهم في أفعالهم، من دون أن ينقص من مسؤوليتهم شيء، فالثقل هنا هو ثقل ذنب الاغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب، وهو في الحقيقة ثقل السّنة السيئة التي سنها، كما يعبر عنها رسول الله (ص) بقوله: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» [15] .

في حديث منقول عن الرسول الأكرم (ص) وهو أنَّ سائلاً جاء والنبي (ص) في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد، ثمَّ قام إليه رجل وناوله شيئاً فقام الآخرون ورغبوا في إعانته فقال النبي (ص): «من سنَّ خيراً فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ شراً فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً». وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.

 

1- الضال والمضل في آن، يحمل وزراً مضاعفاً إضافة إلى وزر عمله بسبب ضلال الآخرين وحرفهم: ﴿ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾.

2- الحمل ثقيل: ﴿ أَثْقَالِهِمْ ﴾.

3- الكذب والافتراء من خصال الكفار وأساليبهم: ﴿ كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾.

4- ادعاء تحمل أثقال الآخرين وعبء ذنوبهم ادعاء كاذب ومفترى: ﴿ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾.


 


الآيتان (14) و (15)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15)

 

قرأنا في بداية السورة أنَّ الله تعالى يقول أنَّ الذين يدَّعون الإيمان لا يمكن أن يتركوا، بل يجب أن يمتحنوا ويمحصوا ليميز المؤمن الحقيقي من المدّعي والمنافق، وفي هذه الآية يقع الكلام على الامتحانات الشديدة للأنبياء، وكيف تعرضوا لضغوط أعدائهم وأذيتهم، وكيف صبروا فكانت عاقبة صبرهم النصر، وهذا الكلام فيه تسلية لقلوب أصحاب النبي (ص) الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء، وفيه أيضاً تهديد للأعداء لينتظروا عاقبة أمرهم السيئة.

النبي الوحيد الذي ذكر القرآن مدة رسالته هو نوح (ع)، حيث بلغت ثمانماية وخمسون، واستمرت حتى موعد الطوفان، أما مدة حياته بعد الطوفان فلم تذكر.

ظاهر الآية الآنفة أنَّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح (ع) بتمامه (وإن ذكر ذلك في التوراة الحديثة، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أخرى، وطبقاً لما قاله بعض المفسرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة! طبعاً... هذا العمل الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جداً ولا يعد طبيعياً أبداً، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتاً مع عصرنا هذا... وبناء على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح (ع) كانوا معمرين، وعمر نوح بينهم أيضاً كان أكثر من المعتاد، ويشير هذا الأمر ضمناً إلى هيئة تركيب أجسامهم بحيث كانت تمكنهم من أن يعمروا طويلاً. إن دراسات العلماء في العصر الحاضر تدل على أنَّ عمر الإنسان ليس له حد ثابت، وما يقوله بعضهم بأنَّه محدود بمائة وعشرين سنة، وأكثر وأقل، فلا أساس له... بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف [16] .

الواقع أنَّ العمر الطويل للإنسان بإرادة الله تعالى ليس مستحيلاً، كما أنا نعتقد أنَّ الإمام صاحب العصر والزمان| قد حفظه الله تعالى وأطال عمره الشريف ليقيم دولة العدالة والحق في آخر الزمان، وهي دولة عالمية تشمل جميع بقاع الأرض.

صحيح أنَّ جميع البشر يولدون ثمَّ يهرمون ويموتون، لكن الإمام المهدي وبإرادة الله عزَّ وجلَّ يظهر وهيأته في عمر الأربعين - كما يذكر جميع العلماء الكبار - وهذا ليس عجيباً ولا غريباً، لأنا إذا نظرنا إلى الإنسان نفسه نجد أنَّ شعر الحاجب والعين ثابت لعشرات السنين تقريباً وينمو نمواً قد لا يذكر، في حين أنَّ شعر الرأس واللحية في نمو دائم وتغير مستمر، مع أنَّ غذاء جميع الشعر وبيئته ومائه وطقسه ومسكنه واحد، وهذا دليل على أن الله سبحانه يستطيع أن يغير إنساناً ويجعله في حالة نمو وهرم، ويثبت إنساناً آخر فلا يتغير ولا يهرم لمدَّة طويلة من السنين.

 

1- من اللائق في التبليغ ذكر الكليات أوَّلاً، ثمَّ الانتقال إلى التفصيل، ذكر الأمثلة والنماذج. في الآيات السابقة قرأنا: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾، وهنا ينتقل إلى بيان التفصيل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا ﴾.

2- القرآن اهتم ببيان تاريخ الأنبياء والأمم السالفة للتعريف بتاريخهم وماضيهم، ولتسلية قلب النبي والمؤمنين من أصحابه: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾.

3- الأنبياء كانوا بين الناس منهم وفيهم: ﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ ﴾. فإذا تعامل النبي مع قومه بقهر يؤدبه المولى تعالى، كما حصل ليونس (ع): ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ﴾ [17] ، لقد ترك قومه ونأى عنهم وركب السفينة يريد السفر والابتعاد عنهم فابتلعه الحوت.

4- القرآن يجد أنَّ طول العمر للإنسان ممكن ويؤيد ذلك بالشواهد، وهذا أمر له سابقة: ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ ... ﴾.

5- إذا لم يكن لدى الناس القابلية والاستعداد للقبول، فإنَّ آلاف السنين من التبليغ لن يكون لها أثر: ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾.

6- التربية والتبليغ يتطلبان الصبر والثبات: ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾. وهذا يدل على صبر نبي الله نوح (ع) وثباته في الدعوة وعناد الناس في زمانه.

7- في مسألة العدد يجب الدقة: ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾.

8- إنَّ عدم قبول دعوة الأنبياء، وعدم التوجه إليهم يعد ظلماً، والظلم سبب مباشر للقهر والعذاب الإلهي: ﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾.

9- الأنبياء وأتباعهم في مأمن من العذاب الإلهي: ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ﴾.

10- إنَّ العون الإلهي والمدد السماوي لا يعني ترك السعي والعمل، فنوح (ع) وأصحابه عملوا بجهد لصنع السفينة من أجل النجاة بأرواحهم، من هنا يتوجب بذل الجهد والعمل من جهة، والأمل باللطف والمدد الإلهي من جهة أخرى: ﴿ السَّفِينَةِ ﴾.

11- بعض الحوادث والأشخاص هم فوق المكان والزمان، ولكل جيل وعصر: ﴿ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾.


 


الآية (16)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (16)

 

إبراهيم (ع) هو من أنبياء أولي العزم وهو الثاني بعد نوح (ع).

 

1- الإرشاد والتوجيه يبدأ بالأقربين: ﴿ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾.

2- التوحيد والتقوى على رأس أولوية برامج جميع الأنبياء: ﴿ اعْبُدُواْ اللهَ وَاتَّقُوهُ ﴾.

3- العبادة من غير تقوى ليست بناءة: ﴿ اعْبُدُواْ اللهَ وَاتَّقُوهُ ﴾.

4- الخير كله مرهون بعبادة الله والتقوى: ﴿ اعْبُدُواْ اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ ﴾.

5- الذين يعبدون غير الله ويذهبون وراء الفساد بدل التوحيد والتقوى في حقيقة الأمر هم جاهلون: ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، والعالم من دون تقوى في الحقيقة جاهل.

6- يمكن تحقيق مصالح العبادة والتقوى بالعلم وتقدمه: ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.


 


الآية (17)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

 

الآية السابقة تحدثت عن دعوة إبراهيم قومه لعبادة الله وطاعته، وفي هذه الآية يقول إبراهيم لهم أنَّ ما تعبدونه من دون الله غير مقبول ولا فائدة منه، بل هو ضرر عليكم وبالتالي هو افتراء وظلم.

الشرك وعبادة الأوثان لا دليل منطقي يؤيده ولا برهان عليه:

أولاً: الأوثان جمادات ليس أكثر: ﴿ أَوْثَانًا ﴾.

ثانياً: مَن صنع الأصنام هم نفس الأشخاص الذين يعبدونهم: ﴿ وَتَخْلُقُونَ ﴾.

ثالثاً: الأوثان ليس بيدها حيلة ولا تستطيع أن تقدم أي نفع لمن يعبدها ولا لأنفسهم أيضاً: ﴿ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ ﴾.

يخاطب النبي إبراهيم (ع) المشركين في هذه الآية مباشرة وبشكل مستقيم: ﴿ تَعْبُدُونَ - وَتَخْلُقُونَ - تَعْبُدُونَ ﴾.

كلمة «وثن» جمعها «أوثان» على وزن «صنم» و«أصنام»، ومعناها الحجارة المنحوتة الموضوعة للعبادة. وعبارة ﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾ أي تفتعلون كذباً بأن تسمّوا هذه الأصنام آلهة.

 

1- الأشخاص المنحرفون يبررون أعمالهم بالكذب والافتراء: ﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾.

2- على الإنسان أن يعلم أنَّ الله هو الرازق، لذلك يجب طلب الرزق منه وهذا محفز للابتعاد عن عبادة الأوثان التي لا تملك القدرة على الرزق، وليس فقط أنَّها تملك ولا ترزق: ﴿ لَا يَمْلِكُونَ ﴾، ولم يقل: (لا يرزقونكم).

3- من أساليب التبليغ والارشاد إثبات الفكر الباطل والمنحرف ثمَّ تبيان طريق الحق: ﴿ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ ﴾.

4- اليأس من غير الله مقدمة للتوجه إلى الله تعالى. ﴿ لَا يَمْلِكُونَ ... فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ ﴾.

5- الله هو الرازق، لكن يجب على الإنسان أن يسعى: ﴿ فَابْتَغُواْ ﴾.

6- توهم الرازقية من عند غير الله أرضية مناسبة للشرك: ﴿ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ ﴾.

7- الله سبحانه وتعالى هو مصدر الرزق: ﴿ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ ﴾.

8- يجب عبادة من يليق بالعبادة وهو من بيده الرزق: ﴿ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ ﴾.

9- الاعتقاد بيوم القيامة يضمن تنفيذ الأوامر والتعاليم الإلهية: ﴿ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.


 


الآيتان (18) و (19)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)

 

في هذه الآية إشارة إلى ثلاثة أصول مشتركة بين الأديان:

1- التوحيد: ﴿ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ﴾.

2- النبوة: ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾.

ج - المعاد: ﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾.

كما أن رؤية الجبل أو المسمار بالنسبة للعين أمر واحد وهو سهل ولا يشكّل ضغطاً أو ضرراً عليها، كذلك الأمر بالنسبة إلى الخلق والتغيير فهو سهل ويسير على القدرة الإلهية، ولعلَّ دليل ذلك أنَّ المولى تعالى يقسم أحياناً بمخلوقات صغيرة كالتين والزيتون:
﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾، وأحياناً أخرى يقسم بمخلوقات كبيرة وهائلة كالسماء والشمس: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ وهذا إنَّما يدل على أنَّ المخلوقات جميعها، صغيرها وكبيرها لا تتفاوت في مقابل القدرة الإلهية، فهي عليه هينة.

المراد من كلمة ﴿ يَرَوْاْ ﴾ في الآية هي الرؤية القلبية والعلم، وقد تكون الرؤية البصرية والمشاهدة بالعين، لأنَّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات و...

 

1- جميع الأنبياء واجهوا معارضة المخالفين، لذلك لا يجب أن نخاف من المخالفين والمعارضين: ﴿ كَذَّبَ أُمَمٌ ... ﴾.

2- الحوادث التاريخية متشابهة وقابلة للتكرار: ﴿ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكَم ﴾.

3- معرفة التاريخ بالنسبة إلى الإنسان هو نوع من تسلية الخاطر: ﴿ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ﴾.

4- تكذيب المخالفين للرسل وللمؤمنين لا يجب أن يكون رادعاً للتبليغ: ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ ﴾.

5- الناس أحرار في اختيار العقائد، والرسل لا يجبرون أحداً على شيء: ﴿ وَإِن تُكَذِّبُوا ... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾.

6- يجب أن يكون التبليغ والارشاد تبليغاً بالقول الواضح البين: ﴿ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾.

7- طرح السؤال يوقظ فطرة الغافلين: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ... ﴾.

8- الإسلام دين الفكر والتفكر، ويدعو جميع البشر إلى التفكر: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾.

9- الخلق كله حادث وليس مخلداً إلى الأبد، بل يرجع في نهاية الأمر إليه سبحانه: ﴿ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾.

10- خلق العالم مظهر يدل على قدرة الخالق سبحانه في إيجاد الحياة والموت للظواهر والمخلوقات: ﴿ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ  ﴾.

11- الاعتقاد بالمبدأ سبب للاعتقاد بالمعاد، والجهل بقدرة الخالق أساس لإنكار المعاد: ﴿ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾.

12- الخلق والإماتة ثمَّ الاحياء عمل مستمر من قبل المولى تعالى: ﴿ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾، فالفعل المضارع في التعبير يدل على الاستمرار والدوام.

13- الخلق ابتداءً كذلك الخلق يوم القيامة يسير على الله تعالى، فقط بحاجة إلى ارادته سبحانه: ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ﴾.


 


الآية (20)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

 

1- المطالعة والتأمل بعمق في الطبيعة والسير والسفر الهادف، يعد تكليفاً ذا قيمة: ﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ ﴾.

2- السير في الطبيعة يحث الإنسان على التفكر والتأمل: ﴿ قُلْ سِيرُواْ ... فَانظُرُواْ ﴾.

3- النظر والمطالعة الدقيقة في الخلق يرفع الشك والتردد، ويجعلنا أكثر معرفة بالله سبحانه: ﴿ فَانظُرُواْ ﴾.

4- أفضل دليل على المعاد اظهار قدرة الله سبحانه في اظهار الخلق ابتداءً (خلق الموجودات أول مرة): ﴿ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ﴾.

5- السير في الأرض والنظر في الطبيعة يجعل الإنسان قادراً على درك كيفية بدء الخلق: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾.


 


الآيتان (21) و (22)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

 

الأسلوب التربوي للقرآن الكريم عندما يتحدث عن اللطف والعذاب الإلهيين، فإنَّه يبدأ بالحديث أوَّلاً عن اللطف والرحمة ثمَّ ينتقل تالياً إلى القهر والعذاب، لكن بما أنَّ الآية (21) جاءت مباشرة بعد الحديث عن الكفار وتكذيبهم في الآية السابقة، لذلك ابتدأت بالعذاب والقهر ثمَّ تحدثت عن الرحمة واللطف.

كلمة «ولي» قيل: «الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه وتارة بأن يأمر غيره به» [18] .

 

1- لا يستطيع أعداء الدين أن يعجزوا الله سبحانه مهما كان سعيهم وتدبيرهم ومؤامراتهم، ولا يمكنهم التغلب على الإرادة الإلهية ولا منعها، ثمَّ لا يقدرون على الخروج من مدار العذاب الإلهي وقهره: ﴿ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾.

2- يجب نفي جميع أنواع التوهمات وردها، وذلك لأجل محو الشرك: ﴿ وَمَا أَنتُم - وَلاَ فِي السَّمَاء - وَلاَ نَصِيرٍ ﴾، فالقرآن يتوجه إلى الأعداء والمخالفين بالقول: إنكم عاجزون ولا تستطيعون فعل شيء، كذلك لا يمكن للآخرين أن يفعلوا لكم شيئاً: ﴿ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ - مَا لَكُم ... مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾.

3- النجاة من عذاب الله سبحانه رهن رحمته ولطفه تعالى: ﴿ يُعَذِّبُ... وَيَرْحَمُ ﴾.


 


الآية (23)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

 

 

1- الكفار وحدهم من ييأس من رحمة الله تعالى الواسعة: ﴿ وَالَّذِينَ ... أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ ﴾. كذلك نقرأ في الآية 87 من سورة يوسف: ﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾.


 


الآية (24)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

 

الكفَّار والمشركون (النمرود وأتباعه) صمموا على قتل إبراهيم بإحراقه في النار، وذلك من أجل محق الحق، فأعدوا ناراً عظيمة وقذفوه فيها ليحرقوه وينتهوا من أمره وأمر دينه، غير أنَّ إرادة المولى تعالى كانت الغالبة فأنجاه الله سبحانه بأن أمر النار أن تكون برداً وسلاماً: ﴿ فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ﴾.

 

1- ليس لدى الكفَّار منطق أو دليل، فمنطقهم التعذيب والإعدام الجسدي: ﴿ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾.

2- يمكن أن يكون لدى الكفَّار أساليب مختلفة لكن هدفهم واحد: ﴿ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾.

3- الأنبياء في حماية الله تعالى وتحت رعايته: ﴿ فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ﴾.

4- إرادة الله تعالى غالبة على جميع الارادات والوسائل والأساليب والقوانين في العالم: ﴿ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ﴾.

5- انتصار مؤمن واحد على الكفار جميعاً، وإفشال جميع المخططات المحكمة وأشد المؤامرات وأخطرها، وتحول النار العظيمة إلى جنّة سلام، كل ذلك آية من آيات الله سبحانه:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ ﴾.

6- أخذ العبر والدروس من التاريخ بحاجة إلى فطرة سليمة وروح طاهرة: ﴿ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. نعم إنَّ الإيمان أصل التبصرة والاعتبار عند الإنسان.


 


الآية (25)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25)

 

كانت الأصنام هي المحور بين القبائل الوثنية، فكان لكلَّ قبيلة صنمٌ تعبده، فقريش لها «العزى» وسقيف تعبد «اللات» والأوس والخزرج «مناة» وهذه الأصنام كانت وسيلة العلاقة والمودة بين المشركين الذين يعبدون الأصنام، كذلك وسيلة تربط بينهم وبين أسلافهم: ﴿ مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ﴾.

قرأنا في الآية (17) أنَّ نبي الله إبراهيم (ع) قال لقومه قبل تهديده بالإحراق بالنار: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا ﴾، ثمَّ بعدما نجا من النار، قال لهم بصراحة أكبر وبصورة قاطعة، ﴿ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا ﴾. وهذا يشير إلى أنَّ إبراهيم (ع) لم يخف من التهديد، ولم يؤثر قذفه في النار على هدفه وتبليغه للدعوة، ولم يترك الناس لشأنهم، بل كرر دعوته بإصرار أكبر.

عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنَّه قال: «يا مالك أنَّه ليس من قوم ائتموا بإمام في الدنيا إلاّ جاء يوم القيامة يلعنهم ويلعنونه إلا أنتم، ومن كان على مثل حالكم، يا مالك إنَّ الميت والله منكم على هذا الأمر لشهيد بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله» [19] .

أحياناً، يجب أن يكون الجواب على طرح الكفار وعملهم أقسى وأقوى؛ لقد طرح الكفار وأتباع النمرود في الآية السابقة، بأن يحرقوا إبراهيم في النار: ﴿ حَرِّقُوهُ ﴾، فجاء جواب المولى قال لهم: ﴿ مَأْوَاكُمُ النَّارُ ﴾. يقول أمير المؤمنين (ع): «وردوا الحجر من حيث جاء فإنَّ الشر لا يدفعه إلا الشر» [20] .

 

1- للروابط العاطفية تأثير كبير في التصديقات والعقائد عند الإنسان: ﴿ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ﴾.

2- الروابط والمودات القائمة على أسس غير إلهية تكون موسمية ولا تدوم، وفي النهاية تنقلب إلى بغض ولعنات: ﴿ مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا ﴾.

3- المعتقدات الواهية والمنحرفة للمشركين تظهر لهم يوم القيامة فيكفرون بها: ﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ ﴾.

4- عندما نختار الطريق يجب أن نفكر بشكل منطقي وننظر بإمعان إلى المصير وعاقبة الأمور، فلا تحكمنا العواطف التي تسلب قلوبنا وتميلها عن الحق: ﴿ مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ... وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ﴾.

5- المودة والروابط المبنية خارج إطار محبة الله تعالى وولايته، ليس لها أثر إيجابي يوم القيامة، بل تكون وبالاً على أصحابها: ﴿ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾.


 


الآية (26)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

 

قال أكثر المفسرين في جملة ﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ ﴾ أن صاحب المقالة هو إبراهيم (ع)، كما قال في آية أخرى: ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [21] . وقال البعض أنه لوط (ع).

كان لوط من الأنبياء العظام وكانت له مع إبراهيم (ع) علاقة قربى، يقال أنَّه كان ابن أخت إبراهيم (ع).

 

1- الأنبياء يؤمن بعضهم ببعض: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ﴾.

2- في بعض الأحيان قد يعيش أكثر من نبي معاً في زمان واحد وفي مكان واحد أو أمكنة متفرقة، لكن إذا وجدوا في مكان وزمان واحد فإنَّ الإمامة تنعقد لواحد منهم: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ﴾، فلوط وإبراهيم (ع) كانا في زمن ومكان واحد فكانت الإمامة والقيادة لإبراهيم (ع).

3- إيمان لوط (ع) لإبراهيم (ع) فيه نوع من الدعم والحماية لإبراهيم (ع) حيث قال: ﴿ فَآمَنَ لَهُ ﴾، ولم يقل: (فآمن به)، وحرف (اللام) يدل على التسليم من جهة والحماية من جهة أخرى.

4- الهجرة إلى الله تعالى وسيلة للتربية والرشد والكمال: ﴿ إِلَى رَبِّي ﴾.

5- رجال الله سبحانه وتعالى ليسوا مرتبطين بمكان أو زمان أو فرد أو مجموعة: (إني مهاجر إلى الله) أي أنَّ وجودهم ليس متعلقاً بهذه المسائل.

6- نقوي روحية الهجرة فينا - إلى الرب تعالى - بذكر ألطافه:
﴿ مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، فالاتصال بالرب القوي العزيز يجبر غربتنا وضعفنا.


 


الآية (27)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

 

قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الأجر هو الجزاء الذي يقابل العمل ويعود إلى عامله، والفرق بينه وبين الأجرة أن الأجرة تختص بالجزاء الدنيوي والأجر يعم الدنيا والآخرة، والفرق بينه وبين الجزاء أنَّ الأجر لا يقال إلا في الخير والشيء النافع، والجزاء يعم الخير والشر والنافع والضار. والغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب ودرجات الولاية ومنها الجنَّة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف (ع): ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [22] ، وقوله: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [23] ، اطلاق الأجر على الجزاء الدنيوي الحسن. فقوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيوي الحسن والأنسب على هذا أن يكون ﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾ متعلقاً بالأجر لا بالإيتاء وربما تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه في موضع آخر: ﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [24] ، فإن الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو المعيشة الحسنة وإيتاؤها فعلية اعطائها دون تقديرها وكتابتها [25] .

الله تعالى قد وهب إبراهيم (ع) مواهب أربع بعد الهجرة العظيمة جزاء له على إخلاصه وجهده:

الموهبة الأولى: الأبناء الصالحون، من أمثال إسحاق ويعقوب، ليسرجوا مصباح الإيمان والنبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليها، إذ يقول القرآن: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ وهما نبيان كبيران وأصل كل منهما السير على منهاج إبراهيم (ع) محطم الأصنام.

الموهبة الثانية: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ولم تكن النبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب، بل استمر خط النبوة في ذرية إبراهيم (ع) وأسرته حتى نبوة خاتم الأنبياء محمد (ص) متعاقبون من ذرية إبراهيم، نوروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثالثة: وآتيناه أجره في الدنيا فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أمور مختلفة مثل الاسم الحسن، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأمم، لأن الأمم كلها تحترم إبراهيم (ع) على أنَّه نبي عظيم الشأن ويفتخرون بوجوده ويسمونه، شيخ الأنبياء. وعمارة أرض مكة كانت بدعائه، وجذب قلوب الناس جميعاً نحوه، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج، كلّ ذلك من هذا الأجر المشار إليه في القرآن.

الموهبة الرابعة: هي أنّه في الآخرة من الصالحين وهكذا تشكل هذه المواهب مجموعة كاملة من المفاخر [26] .

من مصاديق الألطاف والعنايات الإلهية التي أحاط بها نبيه إبراهيم (ع) نجاته من النار، وجذب قلوب الناس إلى مكة، وتجديد مراسم الحج كل عام، وتحوله من شخص مغمور الاسم إلى شخص طاف اسمه في الآفاق فعرف بـ: (شيخ الأنبياء)، ومنحه الذرية الطيبة الصالحة.

بمجرد أن وصل إبراهيم (ع) إلى مقام الإمامة: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾. طلب من ربِّه أن ينتقل هذا المقام إلى ذريته، فقال له المولى: إنَّ الإمامة والقيادة عهد إلهي لا يمكن أن يصل إلى الظالمين فمن كان ظالماً من نسلك لا يناله هذا العهد: ﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [27] .

أكبر الفخر!... «الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر، وقد يحظى به إنسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنَّ كثيراً من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين. فيوسف (ع) بعد وصوله إلى أبرز الانتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. وكذلك نبي الله سليمان (ع) مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة، يطلب من الله أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.

وشعيب (ع) ذلك النبي العظيم حين وقع العقد على استئجار موسى (ع) قال له: ستجدني إن شاء الله من الصالحين. وإبراهيم (ع) يطلب لنفسه من الله أن يكون من زمرة الصالحين ربي هب لي حكماً وألحقني بالصالحين. كما يطلب من الله أن يرزقه أبناء صالحين فيقول: رب هب لي من الصالحين، كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه يصفهم بأنَّهم «من عباده الصالحين» ويستفاد من مجموع هذه الآيات بصورة جيدة أنَّ أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبداً صالحاً.

ما معنى الصلاح؟ ! وبعبارة أوضح: ما معنى أن يكون الإنسان صالحاً؟!.

معناه: أن يكون جديراً بالاعتقاد والإيمان، جديراً بالعمل، جديراً بالقول، جديراً بالأخلاق! أما ما يقابل الصلاح فهو الفساد، ونعرف أنَّ الفساد «في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة، وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحياناً - في مقابل الفساد، ويستعمل ـ أحياناً - في مقابل السيئة، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

أما مواهب إبراهيم العظيمة فقال بعض المفسرين: إنَّ في الآية الأنفة لطيفة دقيقة. هي أنَّ الله بدَّل جميع الأمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الاستياء، إلى الضد، فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنار فتبدلت روضة وسلاماً، وأرادوا أن يبقى منفرداً معزولاً عن الناس، فوهب الله له أمة عظيمة وجعل النبوة من ذراريه. وكان بعض أقاربه ظالماً وعابداً للصنم كما هي الحال في «آذر» فأعطاه الله مكانه أبناء مهتدين وهادين للآخرين ولم يكن لإبراهيم (ع) في بداية حياته مال ولا جاه، فوهب الله له مالاً وجاهاً عظيماً، وكان إبراهيم (ع) في بداية أمره مجهولاً لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه قالوا: سمعنا فتى يذكرهم يُقال له إبراهيم، لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته حتى أنَّه إذا ذكر قيل في حقه «شيخ الأنبياء» أو«شيخ المرسلين» [28] .

 

1- الولد الصالح هبة إلهية: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ ﴾.

2- يجب إعلان الجزاء الحسن من قبل الله تعالى للنَّاس، لكي يكون حافزاً للآخرين: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ ﴾.

3- البنية الأساسية لتلقي الألطاف الإلهية هو الاخلاص: ﴿ مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي - وَوَهَبْنَا - وَجَعَلْنَا ﴾.

4- الحفيد كالابن هبة إلهية: ﴿ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ فيعقوب ابن إسحاق: ﴿ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ﴾.

5- إنَّ جزاء العمل الصالح والخدمة الخالصة لله تعالى، ينعكس في ذرية الأب: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ﴾، طبعاً لياقة الذرية شرط في ذلك: ﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾. إذا كان الأبناء غير لائقين بالمنصب الإلهي فإنَّ هذا اللطف لن يشملهم.

6- جزاء الهجرة إلى الله سبحانه ليس محدوداً، فإبراهيم (ع) تلقى ألطافاً إلهية عديدة في مقابل هجرة واحدة: ﴿ مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي - وَوَهَبْنَا ... وَجَعَلْنَا ... وَآتَيْنَا ﴾.

7- إنَّ مقام النبوة ومنصب الإمامة من قبل الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا... النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾.

8- يمكن الجمع بين أجر الدنيا والآخرة: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾.


 


الآية (28)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28)

 

كلمة «فاحشة» تعني العمل أو القول القبيح الظاهر والواضح، ولمّا كان اللواط شائعاً بين قوم لوط، فقد عبر عنه القرآن الكريم بالفاحشة.

ليس كلّ ابتكار أمراً جيداً، ولا كل عمل جديد يعد قيماً، فالابتكار في الفساد هو ضد القيم، كذلك الأمر في التطور فليس كل تطور وتوسع ذا قيمة، لأنَّه أحياناً كثيرة عندما يدخل الميكروب جسم الإنسان، فإنه يكون في حالة تطور وتوسع وهذا أمر سيء وخطير، وفي المقابل ليس كل تأخر أو تخلف أمراً سيئاً.

عندما يعطي الطبيب المريض الدواء فإنَّ هدفه القضاء على الميكروب وإرجاع الجسم إلى حالته السابقة، كذلك العمليات الجراحية فهي تهدف إلى تقليص الجرح وإعادته إلى طبيعته الأولى.

وغير ذلك في المسائل التي ظاهرها التخلف، ولكن حقيقتها تخدم كمال الإنسان ورشده وتقدمه.

من هنا علينا أن لا ننخدع بالألفاظ البرَّاقة والشعارات التي ظاهرها التطور ولكن حقيقتها تدمر الإنسان وقيمه، من قبيل: النمو والتطور والحرية والابتكار والتقدم و... بل يجب أن نقيّم كلَّ شعار بالعقل والمنطق.

نسمع كثيراً شعار المساواة بين البشر، أو يطلقون شعار المساواة بين الرجل والمرأة، هذا الشعار يجب أن يوزن بالعقل والمنطق، فالعقل أحياناً يوجب المساواة، مثل المساواة في الحقوق الاجتماعية، لكن لا يمكن تطبيق المساواة في كل شيء، فأحياناً تكون المساواة ضد العقل، كأن يقوم الطبيب بإعطاء نوع واحد من الدواء لجميع الأمراض، أو يمنح المعلم جميع تلامذته نفس العلامة والدرجة، نعم في هذه الأمور والأمور المشابهة يوجد مساواة لكنها غير عادلة ولا حكيمة.

 

1- يتوجب على القادة الربانيين وأئمة الدين الانتباه إلى المفاسد والأعمال الفاحشة والأخطار العامة للمجتمع، والعمل بجهد على منعها وإزالتها، لقد حذر لوط قومه فقال لهم: ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾.

2- أول من قام بهذه الفاحشة هم قوم لوط، ولم يسبقهم إلى ذلك أحد من قبل: ﴿ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ﴾.


 


الآيتان (29) و (30)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

 

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزه، لأنَّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً وترتفع أصواتهم، والقرآن لم يبين هنا تفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم.. لكنها قطعاً كانت متناسبة مع عملهم السيِّىء المخزي.. وكما ورد في بعض التواريخ، فإنَّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والابتذال، أو يضرب أحدهم الآخر على ظهره، أو يلعبون القمار، أو يعبثون كالأطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة..

في حديث عن النبي (ص) كما تنقله «أم هاني» أنَّه قال مفسراً لمعنى: وتأتون في ناديكم المنكر أنَّهم «كانوا يقذفون من يمر بهم ويسخرون منه» أي يرمون من يمر بهم بالحجارة ويسخرون منه. والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضَّالِّين المنحرفين، على كلمات النبي لوط (ع) المنطقية، يقول القرآن الكريم: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ أجل هكذا، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والاستهزاء إزاء دعوة لوط (ع) المنطقية والمعقولة. كما يستفاد جيداً من هذا الجواب أنَّ لوط (ع) كان قد هددهم بعذاب الله سبحانه، بالإضافة إلى كلامه البين ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح، إلا أنَّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب: ائتنا بعذاب الله على سبيل الاستهزاء والسخرة! [29] .

إنَّ طلب العذاب على لسان الأقوام المختلفة له سابقة في التاريخ.

1- قوم نوح وعاد قالوا: ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [30] .

2- قوم ثمود قالوا لصالح (ع): ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [31] .

3- مجموعة من الكافرين في زمن الرسول الأكرم (ص) قالوا: ﴿ ائْتِنَا بِعَذَابٍ [32] .

المراد من كلمة ﴿ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ﴾ قطع الطريق على المسافرين ونهب أموالهم، أو بمعنى اللواط.

 

1- أنَّ الزواج المثلي واللواط أمر مستغرب وقبيح مع وجود الطريق الطبيعي والشرعي للزواج من أجل ارضاء غريزة الشهوة: ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ﴾.

2- شيوع الفساد ليس مانعاً للنهي عن المنكر: ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ﴾، فلوط (ع) كان ينهى قومه عن المنكر مع رواج الفساد فيما بينهم.

3- الفساد الأخلاقي يجر الإنسان إلى فساد الاعتقاد، فالاستغراق في المعاصي وإغماض العين عن القيم الأخلاقية يبعث على الشك في نبوة الأنبياء، وهذا ما حصل لقوم لوط: ﴿ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ - ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.

4- لقد جعل المولى سبحانه طريقاً سليماً لإرضاء غريزة الإنسان الجنسية، ولم يسد عليه جميع الطرق: ﴿ السَّبِيلِ ﴾.

5- من أقبح الذنوب ارتكاب المعاصي بشكل علني ومن دون خجل: ﴿ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ﴾.

6- يجب احترام العفة والأمن العام: ﴿ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ﴾.

7- عاقبة المعصية العلنية، الافتضاح العمومي الدائم، فقوم لوط ارتكبوا الفاحشة في مقطع زمني محدود ولفترة معينة، لكن السمعة القبيحة والاسم السيِّىء ما زال يلاحقهم طيلة هذه القرون: ﴿ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ﴾.

8- اللواط عمل منكر و«فاحشة»: ﴿ الْمُنكَرَ - لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ﴾، والمرتكب لهذا الفعل مفسد: ﴿ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾.

9- عدم وجود الناصر والمعين لا يوجب ترك النهي عن المنكر، فلوط (ع) كان وحيداَ ومع ذلك وقف في وجه القوم طالباً العون من المولى سبحانه: ﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي ﴾.

10- يجب أن نفكر دائماً في التغلب على المفسدين، ولا نقبل حكومتهم اطلاقاً: ﴿ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾.

 

صحيح أنَّ أي نوع من مخالفة الأوامر الإلهية يعد ذنباً، لكن هناك مسائل تجعل خطر هذه الذنوب أكبر وأعظم، ومن جملة ذلك:

1- مورد الذنب: أكل مال الناس بالباطل، لكن إذا تعلق الأمر باليتيم فإن الذنب يصبح أعظم.

2- زمان ومكان ارتكاب الذنب: الذنب في كلِّ مكان وزمان فهو معصية وأمر سيء، لكن الذنب في الأزمنة والأمكنة والمناسبات المقدسة، كشهر رمضان المبارك وفي أماكن خاصة كالمساجد وغيرها يصبح أعظم وعقابه أشد.

3- نوع الشخصية المذنبة: إنَّ حساب الذنب الذي يرتكبه أشخاص يعتبرون قدوة في المجتمع يختلف مع حساب الناس العاديين، فمثلاً حساب زوجات النبي يختلف عن حساب النساء الأخريات، حيث يقول المولى: ﴿ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء ﴾. فإن فعلن ما يخالف الشرع فلهن ضعف عذاب ما لغيرهن من النساء. كذلك الأمر فإنَّ الآباء والأمهات والمعلمين إذا قاموا بارتكاب المخالفات، فإنَّ أبناءهم وتلامذتهم يصبحون أقرب إلى ارتكاب هذه المخالفات، لأنَّ الآباء والأمهات والمعلمين يعدون قدوة للأبناء والتلاميذ.

4- ارتكاب الذنب علناً: الذنب العلني يضاعف عقابه، لأنَّ الذنب علانية يعد علامة على الجرأة والتجرؤ على كسر القوانين، وعدم إقامة أي وزن أو اعتبار لها من جهة، وعدم الحياء من الناس أو إقامة الاعتبار لشخصيتهم وتجرؤ الغير على ارتكاب المخالفات من جهة أخرى.

فهؤلاء قوم لوط كانوا يجتمعون في مجالسهم عراة، ويرتكبون كل أعمال الفاحشة بصورة علنية، حتى وصفهم القرآن بقوله: ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ﴾. وقد استخدم القرآن كلمة «نادي» للدلالة على أنَّ للمجتمع حرمة لا يجب كسرها أو تجاوزها، وفي حال تجاوزها فإنَّ ذلك يعني فتح الطريق أمام الآخرين لارتكاب الفساد والفاحشة.

5- إفشاء ذنوب الآخرين وفضحهم أمام الملأ: بعض الأشخاص لا يرتكبون المعاصي ولا يفعلون الذنوب بسبب التدين وإحراز التقوى، لكن الكثيرين يحفظون أنفسهم ولا يرتكبون المخالفات بسبب الحياء الاجتماعي، والخجل من الناس، فإذا كسر سد الحياء هذا، فإنَّ سيلاً من الفساد سوف يدمر كلَّ شيء، ولن يقف أمامه أي عائق.

من هنا لا يحق لأي إنسان أن يفشو ذنوب الغير أمام الناس، ولا يحق لأحد أن يتكلم أمام الآخرين حتى عن ذنبه شخصياً، كذلك يمنع تصوير المشاهد الفاسدة التي ترتكب فيها المعاصي والذنوب ونقلها وإشاعتها. لأنَّ نقل هذه المشاهد والتحدث بالمعاصي والذنوب أمام الناس، يمزق ستار الحياء في المجتمع ويجعل من المعاصي والذنوب شيئاً عادياً، ويزيل من أذهان الناس ذلك التصور السيِّىء عنها، فتصبح أمراً هيناً عندهم وبالتالي تهيء الأرضية المناسبة لنشر الفساد في المجتمعات.

إنَّ إشاعة الفحشاء والفساد أمر خطير إلى درجة يصبح فيها حتى العلاقة مع هذا الفعل يعد ذنباً كبيراً، أي حب إشاعة الفساد يصبح ذنباً كبيراً، يقول تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾.

العلاقة بنشر الفساد يكون أحياناً باللسان، وأحياناً يكون بالقلم، وقد يكون بإقامة مراكز الفحشاء وتشجيع الناس على ارتكاب الفحشاء، أو جعل الامكانيات في متناول أيدي الناس، وقد يكون أحياناً أخرى بالتبليغ والإعلانات أو حتى بالإشارة.

ورد في الحديث الشريف: «ألا ومن سمع فاحشة فأفشاها، فهو كمن أتاها» [33] وورد عن علي (ع): «القائل الفاحشة والذي يشيع بها في الإثم سواء».

ولعل منبع الكثير من مشاكلنا في المجتمع رغبتنا في هدر ماء وجه الآخرين، وإشاعة أعمالهم السيئة، في حين أننا لا ندرك العلاقة بين مشاكلنا وإراقة ماء وجه الآخرين أمام الناس، وهذا ما تشير إليه الآية: ﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [34] .

6- المساعدة على الذنب: إنَّ أي نوع من المساعدة أو دلالة الآخرين على ارتكاب الذنب، يعد كمن فعل الذنب. نقرأ في الآيتين (32 و33) من هذه السورة أنَّ زوجة لوط (ع) هلكت مثلما هلك قومه، وذنبها كان يتمثل في إرشاد القوم ودلهم عندما يأتي الضيوف إلى بيت لوط (ع)، فكانت توصل الخبر إلى القوم، ولما نزل العذاب الإلهي ونجي لوط (ع) ومن معه من عائلته، أخذ العذاب قومه وامرأته معهم، وهذا يدل بوضوح أنَّ القرابة والعلامة مهما بلغت فهي ليست وسيلة للنجاة، فليس هناك أقرب إلى الرجل من زوجته، ومع ذلك هلكت، وإنما النجاة في الاعتقاد والفكر والإيمان.

ولا بد من الإشارة إلى أنَّ الجواسيس والعملاء الذين ينقلون أخبار المؤمنين ومواضع تواجدهم وجلساتهم إلى الطواغيت والمستكبرين، سينالون عقابهم عاجلاً أم آجلاً، في الدنيا، ثمَّ لهم في الآخرة عذاب كبير.

 

الانحراف الجنسي - سواء كان في أواسط الرجال أم في أوساط النساء - فهو من أسوأ الانحرافات الأخلاقية، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساساً فإنَّ طبيعة «كل من الرجال والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع»، وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح، وهو نوع من الأمراض النفسية الذي لو قدر له أن يستمر، لاشتد خطره يوماً بعد يوم، وتكون نتيجته البرودة الجنسية بالنسبة لما بين الرجل والمرأة، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل»، ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمر في جهاز البدن، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح، إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها! بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسياً يبتلون بضعف جنسي شديد، ولا يستطيعون أن يكونوا آباء وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل، وربما كانوا غير قادرين حتى على الانجاب بصورة كلية «بسبب هذا الانحراف».

إنَّ المنحرفين جنسياً يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضاً، كما يبتلون بانفصام الشخصية، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة. ولهذا السبب - ولأسباب أخلاقية واجتماعية أخرى - حرم الإسلام الانحراف الجنسي تحريماً شديداً، وبأي شكل كان وفي أية صورة، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقاباً صارماً يبلغ أحياناً درجة الاعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أنَّ الانفلات الأخلاقي والتميع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرَّت كثيراً من الفتيان والفتيات إلى الانحراف الكبير. في البداية يرغب الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال، وتبدأ من هنا قضية الانحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال، وتأخذ شكلاً قانونياً بحيث يعدون هذا الأمر عادياً لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة، ولا يسع القلم إلا أن يستحي ويخجل من وصف ذلك [35] .


 


الآية (31)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُواْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ (31)

 

دعاء نبي الله لوط (ع) للنصر على المفسدين مستجاب، والعذاب الإلهي قادم لا محالة.

منطقة قوم لوط كانت تدعى «سدوم» وهي قريبة من منطقة إبراهيم (ع).

عندما بُشر إبراهيم وزوجته سارة بإسحاق كان عمرهما في حدود (100 سنة).

عندما جاءت الملائكة إلى لوط كانوا بهيئة فتيان ذي وجوه جميلة، وقد حضروا لأكثر من هدف واحد، فهم مأمورون بالبشارة لإبراهيم (ع) ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ ﴾، وكذلك أمروا بعذاب قوم لوط، وهم من نفذوا أمر المولى تعالى في العذاب.

وقيل أنَّ العذاب الذي أصابهم، هو أنَّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها، ثمَّ أمطرت عليها حجارة من السماء بحيث توارت بيوتهم وقراهم وأجسادهم تحتها!.

إنَّ الفاحشة التي ارتكبها قوم لوط، كانت من قبل جماعة من المنحرفين جنسياً، لكن عندما نزل البلاء والعذاب شمل جميع أهل المنطقة وهلكت جميع قراهم، ولعلَّ سبب ذلك سكوت البقية وعدم نهي القوم عن المنكر لذلك شمل لقب «الظالمين» جميع القوم: ﴿ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾.

 

1- يجب مراعاة سلسلة المراتب، فعندما نزل الملائكة لإهلاك قوم لوط جاؤوا قبلاً إلى إبراهيم، وهو من أنبياء أولي العزم وصاحب شريعة، فبشَّروه أوَّلاً ثمَّ أخبروه بالعذاب الذي سينزل على قوم لوط، ثمَّ بعد ذلك ذهبوا إلى لوط (ع) ليخبروه بأنَّ قهر الله تعالى قد حلَّ بالقوم: ﴿ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ - وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا ﴾.

2- دعاء العباد الصالحين مستجاب: ﴿ رَبِّ انصُرْنِي ... إِنَّا مُهْلِكُواْ ﴾.

3- الملائكة يؤمرون من قبل المولى تعالى بالقهر وباللطف، بالبشرى وبالعذاب: ﴿ جَاءتْ رُسُلُنَا ... بِالْبُشْرَى ... إِنَّا مُهْلِكُواْ ﴾.

4- نقل الأخبار يكون بداية بالخبر الجيد ثمَّ الخبر السيئ: ﴿ وَلَمَّا جَاءتْ ... ِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُواْ ... ﴾.

5- الظلم أساس الهلاك وسببه: ﴿ إِنَّا مُهْلِكُواْ ... ظَالِمِينَ ﴾.

6- عندما يصبح جميع أهل قرية أو مدينة أو منطقة ظالمين، فلينتظروا عند ذلك العذاب: ﴿ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾.


 


الآية (32)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)

 

إذا جمعنا هذه الآية إلى الآية 36 من سورة الذاريات التي تقول:
﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ يظهر لنا بوضوح أنَّ لوطاً وأبناءه كانوا فقط مؤمنين، حتى أنَّ زوجته كانت مع القوم الظالمين وقد شملها العذاب.

ويستفاد من معنى الآية 74 من سورة هود، أنَّ إبراهيم (ع) طلب من الله سبحانه أن لا ينزل العذاب على قوم لوط (ع)، فرفض طلبه وجاء الجواب: ﴿ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ... يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ [36] .

كلمة «الغابرين» جمع «غابر» بمعنى المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين... غير أنَّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان، دعاها إلى الانفصال!.

الواضح أنَّ انحرافها كان من جهة العقيدة، ولا يبعد أن يكون هذا الانحراف بسبب محيطها... والظاهر أنَّها كانت في بداية الأمر مؤمنة موحدة، ولذلك تزوج بها لوط (ع). أما من آمن بلوط (ع) من تلك الجماعة، فمن المؤكد أنَّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنسة قبل حادثة نزول العذاب، ما عدا لوط وأهله، فإنَّه كان عليه أن يبقى إلى آخر لحظة ليدعوهم ويحذرهم، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.

 

1- إنَّ وجود أولياء الله تعالى بين الناس في المجتمع يمنع نزول العذاب الإلهي، قال إبراهيم (ع): ﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ﴾. لكن العذاب نزل بعد أن خرج منها النبي لوط (ع).

2- المدير المسؤول والقائد يجب أن يتفقد أحوال رعيته ومن هم تحت مسؤوليته ويطلع على مصيرهم ويدافع عن حقوقهم: ﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ﴾.

3- الملائكة تعرف الأفراد واحداً واحداً: ﴿ قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ﴾.

4- الأنبياء ومن اتبعهم في أمان من العذاب الإلهي: ﴿ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾.

5- أحياناً يكون رجال الحق وحيدين وفي منتهى الغربة حتى ولو كانوا يعيشون بين قومهم، فلوط لم يؤمن به سوى أولاده: ﴿ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾.

6- عندما تصبح أفكار الوالدين متضادة يجب على الأنبياء اختيار الطريق الصواب والفكر الصحيح «الحق»: ﴿ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾. فأبناء نبي الله لوط (ع) اختاروا طريق والدهم ورجحوه على طريق والدتهم.

7- للمرأة شخصية مستقلة، وباستطاعتها اختيار الطريق الذي تريده، ويمكنها أن تخرج من تأثير الرجل، ونظام العائلة الثقافي: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾.

8- رابط القربى والزواج ليس رمزاً للنجاة، بل الاستقامة والنزاهة: ﴿ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾، فزوجة لوط كانت تربطها علاقة الزوجية ولكنها لم تكن مستقيمة.

9- العنوان الاجتماعي ليس مهما، المهم هو الإيمان والمعيار هو العمل الصالح: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾، كانت زوجة نبي لكن لم ينفعها ذلك العنوان، ولم يكن له قيمة، إنما القيمة الحقيقية تكون في الاتباع والموالاة.

10- زوجات الأنبياء لسن معصومات: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾، يقول المولى تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [37] وهذا الخطاب لزوجات النبي الأكرم (ص).


 


الآية (33)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)

 

كلمة «سيء» مشتقة من «ساء» وتعني سوء الحال، ولوط (ع) لم يعرف بداية حقيقة ضيوفه، لذلك ساء حاله وضاق ذرعاً، لأنَّه كان يخاف عليهم من قومه، لأنَّه لو حصل أي اعتداء على ضيوفه فهذا سيذهب بماء وجهه، وقد يكون المعنى أنَّ سوء حاله بسبب علمه بالعذاب الذي سينزل على قومه.

﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ﴾ أي ضاق بمكانهم صدره أو قلبه أو وسعه وطاقته وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه، وقيل ضاقت نفسه عن هذا الحادث، وذكر الذرع مثل وهو المساحة، وكأنَّه قدر البدن مجازاً، أي أنَّ بدنه ضاق قدره من احتمال ما وقع، وقيل الذراع اسم للجارحة من المرفق إلى الأنامل والذرع مدها، ومعنى ضيق الذرع في قوله تعالى ﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ﴾ قصرها كما أن معنى سعتها وبسطتها طولها، ووجه التمثيل بذلك أنَّ القصير الذراع إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويل الذراع تقاصر عنه، وعجز عن تعاطيه، فضرب مثلاً للذي قصرت طاقته دون بلوغ الأمر [38] .

ورد في تفسير الميزان أنَّ الخوف يقع على الحوادث غير المستساغة احتمالاً.. أما الحزن فيقع في الموارد القطعية. وقال بعضهم: الخوف يطلق على الحوادث المستقبلية، أما الحزن فعلى ما مضى! كما يرد هذا الاحتمال وهو أنَّ الخوف في المسائل الخطرة، أما الحزن فهو في المسائل الموجعة، وإن لم يكن فيها أي خطر [39] !.

 

1- في المجتمعات الفاسدة يشعر رجال الله والموحدون بالضيق والوحدة، وتصعب عليهم الأمور، بحيث يصبحون قلقين على أبنائهم وضيوفهم: ﴿ سِيءَ بِهِمْ ﴾.

2- شيوع الفساد لا يجب أن يجعلنا غير مبالين: ﴿ سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ﴾، إنَّ الغيرة الدينية لازمة الإيمان: ﴿ سِيءَ بِهِمْ ﴾.

3- أكثر دواعي القلق بسبب الجهل بالمستقبل: ﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُواْ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ﴾.

القلق الباطني ينعكس على الظاهر ويظهر على ملامح الوجه، فالملائكة عندما رأوا آثار القلق بادية على وجه لوط (ع) قالوا له: ﴿ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ ﴾.

4- لا يجب أن نأسف أو نحزن على الشخص الذي يستحق العذاب الإلهي بسبب ظلمه وفساده: ﴿ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ﴾.

5- من المناسب إظهار النقاط الايجابية قبل السلبية حتى في بيان الحقائق: ﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ ... ﴾.

6- المولى تعالى يحفظ أولياءه وينجيهم: ﴿ إِنَّا مُنَجُّوكَ ﴾.

7- الرابط الأسري والعلاقة الزوجية لا تنجي الإنسان، إنما مفتاح النجاة هو الإيمان والعمل الصالح: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ ﴾.

8- المرأة تتمتع بالاستقلال الشخصي ويمكنها مخالفة نظام الأسرة ورب البيت أو المجتمع: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ ﴾.

9- الدال والمساعد على الفساد، مفسد أيضاً: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾. فزوجة لوط (ع) كانت تطلع القوم عندما يأتي الضيوف إلى بيت زوجها.


 


الآيتان (34) و (35)


 

يقول سبحانه وتعالى:﴿ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

 

المراد بالقرية هي «سدوم» وما جاورها من القرى والمدن التي كان يسكنها قوم لوط، وقد أوصل بعضهم عدد هؤلاء إلى سبعمائة ألف نفر وهي مدينة في منطقة حمص من بلاد الشام. والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب، ومعناه الأصلي الاضطراب، ثمّ عبروا عن كلِّ شيء يوجب الاضطراب بالرجز، ولذلك استعمل العرب كلمة الرجز في كثير من المعاني كالبلايا الشديدة، والطاعون أو البرد، والأصنام، ووساوس الشيطان، والعذاب الإلهي... وجملة بما كانوا يفسقون هي سبب عقابهم الشديد، لأنَّهم لم يطيعوا الله، والتعبير بالفعل المضارع «يفسقون» دليل على استمرارهم ودوامهم على العمل القبيح!. وهذا التعبير يبين الحقيقة، وهي لو أنَّ أولئك لم يستمروا على الذنب، وكانوا يتوبون ويعودون إلى طريق الحق والتقوى، لم يبتلوا بمثل هذا العذاب وكانت ذنوبهم الماضية مغفورة [40] .

«الفسق» هو الخروج عن طاعة الله سبحانه إلى معصيته، ويشمل الشرك والكفر.

 

1- السماء تمطر بالرحمة الإلهية، الماء والوحي، وكذلك تمطر بالقهر الإلهي ( الْعَذَابُ ) : ﴿ مُنزِلُونَ ... رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ ﴾.

2- إنَّ عمل الإنسان يؤثر في الطبيعة، فكما أنَّ العمل الجيد يبعث على نزول النعمة والرحمة الإلهية: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [41] ، كذلك فإنَّ الذنوب والمعاصي تبدل الرحمة إلى نقمة وعذاب: ﴿ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾.

3- تكرار الذنوب والإصرار عليها سبب في نزول العذاب الإلهي: ﴿ كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ و«كانوا» تدل على الاستمرار.

4- في بعض الحالات يجب المحافظة على الآثار القديمة والخرابات التي كان يسكنها السلف، ونمنع هدمها لتكون آية: ﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً ﴾.

5- القرآن الكريم لم يهمل المعرفة بفلسفة التاريخ، واهتم ببيان تاريخ الأقوام الغابرة ومصيرهم، لكي يعتبر من جاء بعدهم ويعقل: ﴿ آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.

6- يمكن أخذ العبرة والدروس من الآثار الباقية للأمم السالفة: ﴿ آيَةً ... لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.

7- الاعتبار يحتاج إلى الدقة والتعقّل، فالأشخاص الغافلون لا يستطيعون إدراك الحقائق وأخذ العبر بنظرتهم السطحية: ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.

8- التعقل والتفكر شرط الهداية والاعتبار: ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.

9- يجب أن تنهض مجموعة من المتخصصين المتأدبين في المجتمع للعمل على تحليل التاريخ ودرس الآثار القديمة وتجزئتها، وتصنيفها ووضعها في خدمة العلم والناس: ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.


[1] سورة هود، الآية: 6.

[2] سورة الليل، الآية: 12.

[3] سورة الأنبياء، الآية: 35.

[4] سورة المعارج، الآية: 20.

[5] سورة البقرة، الآية: 155.

[6] سورة الأحزاب، الآية: 23.

[7] سورة يوسف، الآية: 101. وسورة الشعراء، الآية: 83.

[8] راجع تفسير الميزان: ح 16، ص 106.

[9] سورة إبراهيم، الآية: 12.

[10] سورة الحج، الآية: 25. وسورة الأعراف، الآية: 45.

[11] سورة البقرة، الآية: 217.

[12] سورة القلم، الآية: 9.

[13] سورة الأنعام، الآية: 164.

[14] سورة الحشر، الآية: 16.

[15] تفسير الأمثل: ج 12، ص 349.

[16] تفسير الأمثل: ج 12، ص 354.

[17] سورة الصافات، الآية: 142.

[18] مجمع البيان: ج 8 - 7، ص 438.

[19] بحار الأنوار: ج 65، ص 68. والكافي: ج 8، ص 146.

[20] البحار: ج 72، ص 212.

[21] سورة الصافات، الآية: 99.

[22] سورة يوسف، الآية: 90.

[23] سورة يوسف، الآية: 56.

[24] سورة النحل، الآية: 122.

[25] تفسير الميزان: ج 16، ص 122.

[26] تفسير الأمثل: ج 12، ص 370، 371.

[27] سورة البقرة، الآية: 124.

[28] تفسير الأمثل: ج 12، ص 371، 373.

[29] الأمثل: ج12، ص 375- 376.

[30] سورة هود، الآية: 32.

[31] سورة الأعراف، الآية: 70.

[32] سورة الأنفال، الآية: 32.

[33] ميزان الحكمة: ج10، ص511.

[34] سورة النور، الآية: 19.

[35] تفسير الأمثل: ج 12، ص 377 - 378.

[36] سورة هود، الآيات: 74 - 76.

[37] سورة الأحزاب، الآية: 29.

[38] راجع تفسير أبي السعود: ج4، ص 228، وكذلك الأمثل: ج 12، ص 382.

[39] الأمثل: ج12، ص 383.

[40] الأمثل: ج 12، ص 384.

[41] سورة الأعراف، الآية: 96.