ذَلِكَ مِمَّا
أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ
اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا
مَّدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ
وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ
قَوْلاً عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ
لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا (41) قُل لَّوْ
كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى
ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ
السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ
جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى
أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ
بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ
يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً
مَّسْحُورًا (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ
فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48) وَقَالُواْ أَئِذَا
كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا
جَدِيدًا (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ
خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن
يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ
قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً (52) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ
إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ
كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَـئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِن مَّن قَرْيَةٍ
إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ
مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا (58)
-
صرَّفنا: كررّنا الدلائل وفصَّلنا المعاني والأمثال
-
أكِنَّةً: أغطية
-
وَقراً: صماً وثقلاً في السمع
-
نجوى: يتناجون في ما بينهم ويتسارُّون
-
فسيُنغضون: فسيُحركون رؤوسهم استهزاء
-
فتستجيبون بحمده: تخرجون من قبوركم، قائلين سبحانك وبحمدك
-
ينزغ بينهم: يُفسد بينهم، يغرى بعضهم ببعض
-
مسطوراً: مكتوباً في اللوح المحفوظ
التفسير
{ذلِكَ
مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ
مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا
مَدْحُوراً} (39)
كل
الذي تقدم من القصص والآداب والأحكام هي بعض الذي أوحاه اليك ربك
"يا محمد" من المواعظ البليغة والحكم الفريدة وفي ختام الآية يوجه
الخطاب الى النبي والمراد غيره لأنّهُ ابلغ في الزجر، ويأمر بعدم
الشرك بالله، لان المشرك مصيره جهنم يُخلَّد فيها مُبعداً مطروداً
من كل خير.
{أَفَأَصْفَاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً
إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} (40)
هذا
الخطاب موّجه لمن جعل الملائكة بنات الله، والمعنى أَفَخَصَّكم
ربكم واخلصكم بالذكور واتخذ لنفسه على زعمكم البنات؟ انكم لتقولون
قولاً عظيماً في بشاعته وشناعته حينما تَنسبون اليه البنات والحال
انكم تكرهونهنّ.
{وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا
يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} (41)
أي
بيّنَّا للناس في هذا القرآن العظيم المواعظ والأمثال ليتذكروا
وليتفكروا فيها، فيعرفوا الحق وينزجروا عمّا هم فيه من الشرك
والضلال، ولكن لا يزيدهم بيان هذه الأمثال والمواعظ والحكم إلاَّ
تباعداً عن الحق وغفلةً عن الإعتبار.
{قُلْ لَوْ
كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى
ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} (42)
أي
قل "يا محمد" لو فرضنا أنّ مع الله الهة أخرى كما يقولون لطلبوا
طريقاً الى مغالبة ذي الجلال ليسلبوا ملكه كما يفعل ملوك الدنيا
بعضهم ببعض.
{سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً} (43)
تنزه الله وتقدّس عما يقول أولئك الظالمون وتعالى ربنا عمّا نسبوه
إليه من الزور والبهتان عُلُواً كبيراً.
{تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُوراً} (44)
كل
الكائنات والمخلوقات تسبح لله وتقدسه بنحو من التسبيح، بل وكل شيء
في هذا الوجود يُسبِّح لله، ويُنزِّهه وهو ناطق وشاهد على عظمته،
وهذا التسبيح أنتم لا تفهمونه لانه ليس بلغاتكم والله سبحانه لا
يعاجل من عصاه بالعقوبة، وهو غفور لمن تاب وأناب اليه.
{وَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُوراً} (45)
أي
واذا قرأت "يا محمد" القرآن جعلنا بينك وبين هؤلاء المشركين الذين
لا يُصدِّقون بالآخرة حجاباً خفياً يحجب عنهم فهم القرآن وإدراك
حكمه واسراره.
{وَجَعَلْنَا
عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ
وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ
وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} (46)
أي
جعلنا على قلوب الكفار أغطية لئلا يفهموا القرآن. وصماً يمنعهم من
استماعه، لذا فاذا وَحدَّت الله وانت تتلو القرآن فرّ المشركون من
ذلك هرباً من استماع كلمة التوحيد.
{نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ
وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا رَجُلا مَسْحُوراً} (47)
أي
حينما يستمعون إلى تلاوتك "يا محمد" يتحدثون فيما بينهم سراً،
ويقول هؤلاء الفجّار ما تتَّبعون الا رجلاً سُحِرَ فاختلط كلامه.
{انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلاً} (48)
انظر "يا محمد" كيف شبَّهوا لك الأشياء فقالوا إنك مجنون وساحر
وشاعر وقد ضلّوا بقولهم هذا ضلالاً بعيداً فلا يجدون سبيلاً الى
الهدى ولا طريقاً الى الحق المبين.
{وَقَالُوا
أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
خَلْقاً جَدِيداً} (49)
قال
المنكرون للبعث إنَّا اذا متْنّا وانتثرت لحومنا وصرنا عظاماً
وتراباً أَنُبعَثُ بعد ذلك خلقاً جديداً ؟!!.
{قُلْ
كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} (50)
أي
قل لهم "يا محمد" أُجهدوا في أن لا تُعادوا، وكونوا إن استطعتم
حجارة في القوة أو حديداً في الشدة.
{أَوْ
خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ
عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} (51)
أي
أو كونوا خلقاً آخر، بلى كونوا ما شئتم فسيعيدكم الله، القادر
العظيم الذي خلقكم من العدم أول مرة، وهنا سيحركون رؤوسهم
استهزاءً، ويقولون متى يكون هذا البعث؟ وهذه الإعادة؟ قل لهم سيكون
قريباً، فكل آتِ قريب.
{يَوْمَ
يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} (52)
أي
يوم يدعوكم الله عز وجل للإجتماع في المحشر يوم القيامة فتجيبون
أمره، معترفين بان الحمد لله على نِعَمِه لا تنكرونه وتظنون لهول
ما ترون أنكم ما أقمتم في الدنيا الا زمناً يسيراَ
{وَقُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ
عَدُواًّ مُبِيناً} (53)
أي
قل لعبادي المؤمنين أن يقولوا في محاوراتهم ومخاطباتهم الكلمة
الطيبة ويختاروامن الكلام أحسنه وأفضله،لان الشيطان يُفسد ويهيج
بين الناس الشر، ويشعل نار الفتنة من خلال كلمة قد تصدر من أحدهم
لأنه ظاهر العداوة للإنسان منذ القدم. فهو يتلمّس سقطات لسانه
ليُحدث العداوة بين المرء وأخيه
{رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ
يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}
(54)
أي
ربكم اعلم بأحوالكم إن يشأ يرحمكم بالتوفيق للإيمان، وإن يشأ
يعذبكم بالإماته على الكفر والعصيان وما أرسلناك "يا محمد" حفيظاً
على أعمال الكفار، كفيلاً عنهم لتجبرهم على الإيمان إنما ارسلناك
نذيراً ومبلِّغاً،من اطاعك دخل الجنة ومن عصالك دخل النار.
{وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا
بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}
(55)
أي
وربُّك سبحانه اعلم بعباده فجعلهم مختلفين في الصور والأرزاق
والأحوال كما اقتضته المصلحة فيخص بالنبوة من يشاء من خلقه، وفضَّل
بعض الأنبياء على بعض حسب علم الله وحكمته وخَصَّ كل نبي بميزة
خاصة، فإبراهيم بالخلة وموسى بالتكليم وسليمان بالملك العظيم،
وخصَّ محمداً بخصائص لم يعطها أحداً وختم به النبوة وجعله سيد
الأولين والآخرين ثم أنزلنا الزبور على داوود المشتمل على الحكمة
وفصل الخطاب.
{قُلِ
ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ
كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}
(56)
قل
يا "محمد" لهؤلاء المشركين ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه
تعالى فلا يستطيعون دفع البلاء عنكم ولا تحويله الى غيركم.
{أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}
(57)
-
أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم من دون الله هم أنفسهم يطلبون القرب
الى الله ويتوسلون إليه بالطاعة والعبادة فكيف تعبدونهم معه، وهم
يرجون بعبادتهم رحمته سبحانه ويخافون عقابه ويتسابقون الى رضاه،
وعذاب الله شديد ينبغي أن يخاف من وقوعه.
{وَإِنْ مِنْ
قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُوراً} (58)
أي
ما من قريةٍ عصت أمر الله وكذّبت رسله إلا وسيهلكها الله إما
بالإستئصال الكلي أو بالعذاب الشديد لأهلها، وكان ذلك حكماً
مكتوباً في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل.
وَمَا مَنَعَنَا
أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ
إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ
إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ
اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ
فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء
مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ
لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ
إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ
وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ
بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ
لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا
مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ
تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ
أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
(71) وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ
أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ
عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ
وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ
لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذاً
لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ
تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
-
مُبصرة: دلالة واضحة
-
لاحتنكنَّ ذُرّيته: لأُغوينَّ ذريته، وأقودنّهم الى المعاصي كما
تُقاد الدابة بحنكها.
-
استفزز: استخف واستزل من استطعت منهم بوسوستك
-
أجلب عليهم بخيلك ورجلك: إجمع عليهم ما قدرت عليه من مكائدك
واتباعك وذريتك
-
سُلطان: تسلط وقدرة على إغوائهم
-
قاصفاً: عاصفاً، شديداً، مهلكاً
-
تَبيعاً: أحداً يطالبنا بما فعلنا
-
فتيلاً: الخيط المفتول في شقّ النواة
-
ثبَّتناك: ثبَّتنا قلبك على الحق
-
تَرْكَنُ إليهم: تميل إليهم
التفسير
{وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً
فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً}
(59)
أي
ما منعنا من إرسال المعجزات والخوارق التي اقترفها قومك إلا تكذيب
من سبقهم من الأمم حيث اقترحوا ثم كذّبوا فأهلكهم الله، وما نرسل
بالآيات الكونية كالزلازل والرعد والكسوف والخسوف إلا تخويفاً
للعباد من المعاصي.
{وَإِذْ
قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ
فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} (60)
-
واذكر "يا محمد" إذ قلنا لك انّ الله أحاط بالناس علماً في الماضي
والحاضر والمستقبل، فهو سبحانه لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، وعلم
أنهم لم يؤمنوا ولو جئتهم بما طلبوا من الآيات والمعجزات، وما
الرؤية التي أريناكها عياناً ليلة الاسراء والمعراج إلا امتحاناً
واختباراً لأهل مكة حيث كذَّبوا وكفروا وارتدّ بعضهم لمّا أُخبروا
بها. وما جعلنا شجرة الزقوم المذكورة في القرآن إلا فتنة للناس
كذلك، ونُخوِّفُ هؤلاء المشركين بألوان العذاب والآيات الزاجرة فما
يزيدهم تخويفنا إلا غياً واستمراراً على الكفر والضلال.
{وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} (61)
هذه
الآية والآيات التي بعدها تشير الى قضية امتناع ابليس عن إطاعة أمر
الله في السجود لآدم (ع)، والعاقبة السيئة التي انتهى إليها، وقال
إبليس "لعنه الله" أأسجد انا العظيم الكبير لهذا الضعيف الحقير
الذي خلقته من طين؟
{قَالَ
أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا
قَلِيلاً} (62)
-
أي قال ابليس اللعين جرأة على الله وكفراً: أتُرى هذا المخلوق الذي
فضَّلته عليّ وجعلته عندك أكرم مني ؟ لئن أبقيتني حياً الى يوم
القيامة لاستأصلنَّ ذريته بالإضلال والإغواء إلا قليلاً منهم وهم
المخلصون الذي عصمهم الله تعالى.
{قَالَ
اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ
جَزَاءً مَوْفُوراً} (63)
-
قال الله سبحانه "اذهب" يا إبليس فقد أنظرتك فمن أطاعك من ذرية آدم
فإن جزاءك وجزاءهم نار جهنم جزاءً كاملاً وافراً لا نقصان فيه.
{وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُوراً} (64)
-
أي استزل وحرّك من أردت أن تستفزّه فتخدعه بدعائك ووسوستك، وصِحْ
عليهم بأعوانك وجنودك من كل راكب وراجل، واجعل لنفسك شركة في
أموالهم وأولادهم، وعدهم بالوعود الخادعة المغرية والأماني
الكاذبة.
{إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلاً} (65)
-
أي أن عبادي المخلصين لا سلطان لك عليهم ولا يمكن لك أن تحملهم على
المعصية وكفى بالله حافظاً لهم من كيدك وشركك.
{رَبُّكُمُ
الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (66)
-
ربكم أيها الناس هو الذي يُسيّر لكم السفن في البحر لتطلبوا من فضل
الله تعالى في اسفاركم وتجاراتكم، فالله تعالى رحيمٌ بعباده، لهذا
سهّل لهم أسباب ذلك.
{وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا
إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ
الْإِنْسَانُ كَفُوراً} (67)
-
أي إذا أصابتكم الشدة في البحر وخشيتم من الغرق وذهب عنكم ذكر كل
معبود إلا الله فلما نجَّاكم من الشدة والغرق وأخرجكم الى ساحل
الأمان أعرضتم عن الايمان، وهذه هي طبيعة الانسان فهو كثير الجحود
والكفران.
{أَفَأَمِنْتُمْ
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} (68)
-
أي أفأمنتم أيها الناس حين نجوتم من الغرق في البحر أن يخسف الله
بكم الأرض فيخفيكم في باطنها ؟ أو يمطركم جميعاً بحجارة من السماء
فتقتلكم كما فعل بقوم لوط، ولا تجدون حينها من يُنجيكم من عذابه.
{أَمْ
أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا
كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً}
(69)
-
وهل أمنتم أن يجعل لكم حاجة في البحر أو يحدث لكم رغبة أو رهبة
فترجعون الى البحر مرة أخرى، فإذا ركبتم البحر أرسل عليكم ريحاً
شديدة كاسرة للسفينة فيغرقكم بسبب كفركم، ولا تجدوا من يأخذ لكم
بالثأر منّا أو يطالبنا بتبعة إغراقكم.
{وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70)
-
أي لقد شرَّفنا آدم على جميع المخلوقات بالعقل والعلم وتسخير جميع
ما في الكون لهم، وحملناهم على ظهور الدّواب والسفن ورزقناهم من
لذيذ المطاعم والمشارب، وفضَّلناهم على جميع من خلقنا من سائر
الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والطير وغير
ذلك.
{يَوْمَ
نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤنَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً} (71)
-
أي ننادي كُلَّ انسان بكتاب عمله ليُسلَّم له وينال جزاءه والامام
هو الكتاب الذي يسجل فيه عمل الانسان فمن أعطي كتابَ عمله بيمينه
فأولئك هم السعداء، فهم يقرأون حسناتهم بفرح لأنهم هم الفائزون وفي
الجنة خالدون ولا يظلمون ولا ينقص من أجور أعمالهم شيئاً ولو
بمقدار الخيط الذي في شق النواة وهو المسمّى (بالفتيل).
{وَمَنْ
كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى
وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (72)
-
أي ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى القلب لا يهتدي الى الحق ولا
الى الخير فهو في الآخرة أشدُّ عمىً وأشدُّ ضلالاً لأنه لا يجد
طريقاً الى الهداية والنجاة.
{وَإِنْ
كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}
(73)
-
أي أن المشركين حاولوا أن يصرفوك عن الذي أوحيناه إليك "يا محمد"
من بعض الأوامر والنواهي لتأتي بغير ما أوحاه الله إليك، ولو فعلت
ما طلبوا منك لتولوك وأظهروا صداقتك واتخذوك صاحباً وخليلاً.
{وَلَوْلَا
أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا
قَلِيلاً} (74)
-
أي ولولا أن ثبَّتناك على الحق بعصمتنا إياك لقاربت أن تسكن إليهم
بعض السكون وأن تميل إليهم ميلاً قليلاً فتعطيهم بعض ما سألوك.
{إِذًا
لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا
تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (75)
-
أي لو فعلت ذلك لعذبناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات لأن ذنبك
يكون أعظم، والآية الكريمة في مورد بيان فضل الله العظيم على نبيه
الكريم، وفي الآية تخويف لِأُمتهِ لئلا يركن أحدٌ من المؤمنين الى
أحدٍ من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائطه، وعندها لا تجد من
ينصرك أو يدفع عنك عذابنا.
وَإِن كَادُواْ
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا
لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا
تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَّحْمُودًا (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ
سُلْطَانًا نَّصِيرًا (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (82) وَإِذَآ أَنْعَمْنَا
عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ
الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى
شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً
(84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا
(87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن
يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (89) وَقَالُواْ لَن
نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا
(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ
بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ
مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93) وَمَا
مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ
أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ
كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً (95)
قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ
بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
-
ليستفزونك: يزعجونك من أرض مكة بالإخراج
-
لِدلُوك الشمس: زوالها
-
غَسق الليل: ظلمته
-
كان مشهوداً: صلاة الصبح تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار
-
فتهجّد به: صلِّ ليلاً بعد الاستيقاظ
-
نأى بجانبه: بَعُدَ بنفسه تكبراً وعناداً
-
شاكلته: طبيعته وخليقته التي تخلّق بها
-
ظهيراً: معيناً
-
كِسفاً: قِطعاً قد تركب بعضها على بعض
-
قبيلاً: مقابلةً وعياناً
التفسير
{وَإِنْ
كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا
وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} (76)
-
أي أن المشركين أرادوا إخراجك "يا محمد" من أرض مكة ولو أخرجوك
حقاً فسوف لا يبقون بعدك إلا زمناً يسيراً وفق سنة الله التي لا
تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من أوطانهم.
{سُنَّةَ
مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ
لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (77)
-
هذه هي سنة الله وعادته مع رسله في إهلاك كل أمة أخرجت رسولها من
وطنه ومن أهله، وسنة الله لا تتبدل ولا تتغير على مر الدهور وتوالي
ألازمان.
{أَقِمِ
الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (78)
-
فسّر الإمام الباقر (ع) هذه الآية بالقول:
(دلوكها
زوالها، وغسق الليل إلى نصف الليل، ذلك أربع صلوات وضَعَهنّ رسول
الله (ص) ووقتهنَّ للناس، وقرآن الفجر صلاة الغداة) فالآية الكريمة
تتحدث عن الصلوات الخمس اليومية، كما في حديث الإمام الباقر (ع):
أم {أن قرآن الفجر كان مشهودا}
فمعناه أن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار وعليه
فأفضل وقت لأداء صلاة الصبح هي اللحظات الأولى لطلوع الفجر.
{وَمِنَ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُوداً} (79)
-
الآية الكريمة تعني صلاة الليل وهو القيام لأدائها بعد الهجود أي
بعد النوم فهي زيادة لك على الفرائض وقد كانت صلاة الليل فريضة على
النبي (ص) فالله سبحانه أوجب صلاة الليل على النبي الأكرم (ص) لكي
يجعل مقامه الشريف خاصاً به لا يشاركه أحدُ فيه وليكون هذا المقام
محموداً دائماً وهو محمود بلا شك والمقام المحمود هو مقام الشفاعة
الذي يشفع فيه لمن يستحق من الناس.
{وَقُلْ
رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيراً} (80)
-
النداء للنبي الأكرم (ص) أي يا رب أدخلني في أموري كلها إدخال صدق
وأخرجني إخراج صدق واجعل لي من عندك قوة وعزة تنصرني بها على
أعدائك وتُعز بها دينك.
{وَقُلْ
جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً} (81)
-
أي جاء الإسلام الدين الحق وزهق الباطل وهو الشرك وعبادة الأصنام،
والباطل ذاهباً مضمحلاً هالكاً لا ثبات له ولا قرار.
{وَنُنَزِّلُ
مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (82)
أي
في القرآن الشفاء من كل داء كما ورد في الحديث النبوي الشريف:
(القرآن هو الشفاء) فيه الشفاء من أمراض القلوب والنفوس والأبدان،
وهو رحمة للمؤمنين، أي نعمة لهم وخصّهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به
وحدهم، بعكس الظالمين الذي لا تزيدهم آيات القرآن إلا هلاكاً
ودماراً لأنهم لا يُصدِِِِِّقون بما فيه فيزدادون غياً وضلالاً
{وَإِذَا
أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَئا بِجَانِبِهِ
وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً} (83)
- أي إذا أنعمنا على الإنسان بأنواع
النعم، من صحةٍ وغنىً وأمنٍ، أعرض عن طاعة الله وعبادته، وتباعد عن
ربه، غروراً وبطراً وكبراً وإذا أصابته الشدائد والمحن قنط من رحمة
الله كقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً
إذا مسّه الشرّ جزوعاً وإذا مسّه الخير منوعا}
{قُلْ كُلٌّ
يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ
أَهْدَى سَبِيلاً} (84)
-
أي كل واحد منكم يعمل على نهجه وطريقته في الهدى والضلال، فإن كانت
نفس الانسان صافية صادقة، صدرت عنها أفعال فاضلة، وإن كانت نفسه
فاجرة، صدرت عنه أفعال سيئة والله سبحانه وتعالى أعلم بمن هو أصوب
ديناًً وأحسن طريقاً.
{وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (85)
- أي يسألك "يا محمد" الكفار عن
حقيقة الروح الإنسانية، هذه الروح التي تُميِّز الإنسان عن
الحيوان، قل لهم إنها من الله، وهي من الأسرار الخفية التي لا
يعلمها إلا هو، وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا شيئاً قليلاً،
لأن علمكم قليلٌ بالنظر الى علم الله، ونقل عن الإمامين الباقر
والصادق (ع) أنهما قالا في تفسير آية {وِيَسأَلُونَك
عَن الرّوح....} هي من الملكوت، من القدرة.
{وَلَئِنْ
شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا
تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} (86)
-
أي لو أردنا ان نمحو هذا القرآن من صدرك "يا محمد" لا أحد يمنعنا
من ذلك، ولو فعلنا ذلك لا تجد من يتوكل علينا لاسترداده وردّه إليك
بعد ذهابه.
{إِلَّا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً}
(87)
-
ولكن من رحمة ربك لك، أن جعل القرآن محفوظاً في صدرك وصدور
المؤمنين، وفضل الله عليك كان عظيماً إذ اختارك للنبوة وخصّك
بالقرآن وجعلك سيد الأولين والآخرين.
{قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ
هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (88)
-
أي لو تظافر واجتمع الانس والجن وأرادوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لما استطاعوا على ذلك، فإن هذا الأمر ليس بمقدور أحدٍ أبداً.
{وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} (89)
-
أي لقد بيّنا لهم في هذا القرآن الحجج والبراهين القاطعة، ووضَّحنا
لهم الحق بالآيات والعبر والترغيب والترهيب، ولكن مع كل هذه
البراهين الواضحة والحجج الساطعة أبى اكثر الناس إلا الجحود
والتكذيب لله ورسوله.
{وَقَالُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعاً} (90)
-
قال المشركون لن نصدقك "يا محمد" حتى تشقق لنا من أرض مكة الجرداء
القاحلة عيناً ينبع منها الماء بغزارة واستمرار.
{أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ
الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً} (91)
-
أو يكون لك بستان فيه أنواع النخيل والأعناب والأنهار تتفجر فيها
وتسير وسطها بقوة وغزارة.
{أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً} (92)
-
هذا الاقتراح الثالث وهو ان تجعل السماء تتساقط علينا قِطعاً
قِطعاً لما كنت تخوفنا في قولك وتزعم أن الله سيعذبنا إن لم نؤمن
بك أو تحضر لنا الله والملائكة ونراهم عياناً ومقابلةً.
{أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً
نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً
رَسُولاً} (93)
-أي
يكون لك قصر عظيم من ذهب لا من حجر وغيره، أو تصعد الى السماء
بسلَّم ولا نصدقك بمجرد صعودك حتى تعود ومعك كتاب من الله تعالى
مكتوب فيه أنك عبده ورسوله، ونقرؤه بأنفسنا وهذا هو الاقتراح
السادس والأخير.
وهنا أجابهم الرسول الأكرم (ص)، سبحان الله هل أنا إله حتى تطلبوا
مني هذه المقترحات؟!
ما
أنا إلا رسول من البشر بعثني إليكم لهدايتكم فلِم هذا الجحود
والعناد؟
{وَمَا
مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا
أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} (94)
-
وما صرف المشركين عن الايمان بالله ورسوله حين أتتهم البيِّنات
والحجج الا قولهم في أنه لا يجوز أن يبعث رسولاً إلا من الملائكة.
{قُلْ لَوْ
كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً}
(95)
-
أي قل لهم "يا محمد" لو كان اهل الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم
كما يمشي الناس ساكنين في الأرض ومستقرين فيها لنزلنا عليهم رسولاً
من الملائكة، ولكن اهل الأرض بشر فالرسول إليهم يجب ان يكون بشر من
جنسهم ليفهموا عليه ويفهم عليهم.
{قُلْ كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ
بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيراً} (96)
-
أي كفى بالله شاهداً على صدقي، وهو سبحانه العالم باحوال عباده
وسيجازيهم عليها
وَمَن يَهْدِ
اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَآؤُهُم
بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا
(98) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ
أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا
(99) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي
إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ
قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ
فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ
فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ
مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ
فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِن
بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء
وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ
أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ
آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن
كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ
لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) ( س ) قُلِ
ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ
فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن
لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ
الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
-
خَبت: سكن التهابها
-
قتوراً: بخيلاً
-
بصائر: حججاً وبراهين
-
مثبوراً: هالكاً
-
لفيفاً: جميعاً مختلطين
-
فَرَقناه: فصلَّناه، أو أنزلناه مُفرقاً
-
على مُكثِ: على تأن وتثبّت
-
نزّلناه تنزيلاً: على حسب الحاجة ووقوع الحوادث
-
يخِرُّون للأذقان: يسقطون على الوجوه ساجدين
-
خشوعاً: تواضعاً
التفسير
{وَمَنْ
يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُماًّ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}
(97)
أي
من يحكم الله بهداه فهو المهتدي بإخلاصه وطاعته على الحقيقة، ومن
يحكم بضلاله لن تجد لهم انصاراً يقدرون على إزالة الضلال عنهم،
ونجمعهم يوم القيامة يسحبون على وجوههم الى النار، يحشرون عمياً
عما يسرهم بكماً عن التكلم بما ينفعهم صماً عمياً يمتعهم كأنهم
عدموا هذه الجوارح، ومستقرهم جهنم كلما سكن التهابها زدناهم
استعالاً فيكون كذلك دائماً.
{ذَلِكَ
جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا
كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً
جَدِيداً} (98)
أي
ذلك العقاب الذي استحقوه بتكذيبهم بآيات الله وقد تعجبوا من المعاد
الجسماني لأن الانسان يتحول تحت التراب الى عظام نخرة ثم الى تراب،
ثم تتلاشى ذرات التراب هذه وتنتشر.
{أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً
لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً}
(99)
أي
أولم يعلموا أن الباري عز وجل الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما
قادر على أعادتهم، لأن القادر على الشيء قادر على أمثاله. وجعل
لاعادتهم وقتاً لا شك فيه إنه كائن لا محال، فأبى الظالمون لأنفسهم
إلا جحوداً بآيات الله ونعمه.
{قُلْ لَوْ
أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً
لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ
قَتُوراً} (100)
أي
قل -يا محمد - لهؤلاء الكفار لو ملَّكتهم خزائن أرزاق الله
ومقدورات ربي لبقيتم على الشح والتقتير والكفر وعدم الشكر خشية
الفقر والفاقة.
{وَلَقَدْ
آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي
لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} (101)
أي
لقد أعطينا موسى (ع) تسع دلالات وحجج واضحات وهذه الآيات التسع هي
يد موسى وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفدع
والدم والسنين ونقص من الثمرات، فالظاهر أنها هي المراد، بالآيات
التسع، وقال له فرعون يا موسى أظنك سُحرت فاختل عقلك.
{قَالَ
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا
فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (102)
أي
قال موسى مخاطباً فرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هذه الآيات
البيّنات إلا رب السماوات والأرض وأنزلها بصائر يتبصر بها أي يتميز
الحق عن الباطل، وإني لأظنك يا فرعون هالكاً لعنادك وجحودك.
{فَأَرَادَ
أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ
مَعَهُ جَمِيعاً} (103)
معناه فأراد فرعون ان يزعج موسى ومن معه من أرض مصر وفلسطين
والأردن بالنفي عنها وقيل بأن يقتلهم، فأغرقناه وجنوده ولم ينجِ
منهم أحد، ولم يهلك من بني اسرائيل احد.
{وَقُلْنَا
مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} (104)
أي
من بعد هلاك فرعون وقومه قلنا لبني اسرائيل اسكنوا ارض مصر والشام،
فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم من القبور الى الموقف للحساب
والجزاء مختلطين التفَّ بعضكم ببعض لا تتعارفون ولا ينحاز احداً
منكم الى قبيلته.
{وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (105)
معناه وبالحق أنزلنا القرآن عليك (وبالحق نزل) القرآن وتأويله
أردنا بإنزال القرآن الحق والصواب وهو أن يؤمن به ويعمل بما فيه.
ونزل بالحق لأنه يتضمن الحق ويدعو اليه، وما أرسلناك إلا مبشراً
بالجنة لمن أطاع ومنذراً بالنار لمن عصى.
{وَقُرْآَنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (106)
أي
وأنزلنا عليك - يا محمد- قرآناً فصّلناه سوراً وآيات لتقرأه على
الناس على تثبت وتؤدة فترتله ليكون أمكن في قلوبهم ويكون أقدر على
التأمل والتفكر فيه ولا تعجّل في تلاوته فلا يفهم عنك ونزلناه على
حسب الحاجة ووقوع الحوادث.
{قُلْ
آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} (107)
قل
- يا محمد - لهؤلاء المشركين آمنتم بالقرآن أو لا تؤمنوا فإن
إيمانكم ينفعكم ولا ينفع غيركم وترككم الايمان يضركم ولا يضرُّ
غيركم، وهذا تهديد لهم عن الذين أُعطوا علم التوراة من قبل نزول
القرآن كعبد الله بن سلام وغيره فعلموا صفة النبي (ص) قبل مبعثه،
وقيل إنهم أهل العلم من أهل الكتاب وقيل إنهم أمة محمد (ص) إذا
يُتلى القرآن عليهم يسقطون على الوجوه ساجدين.
{وَيَقُولُونَ
سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}
(108)
أي
تنزيهاً لربنا سبحانه عمّا يضيف إليه المشركون إنه كان وعد ربنا
مفعولاً حقاً يقينا ولم يكن وعد ربنا إلاّ كائناً.
{وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (109)
أي
يسجدون باكين إشفاقاً من التقصير في العبادة وشوقاً الى الثواب
وخوفاً من العقاب، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ تواضعاً لله
تعالى واستسلاماً لأمر الله وطاعته.
{قُلِ
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا
فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (١١٠)
أي
قل - يا محمد - لهؤلاء المشركين المنكرين نبوتك حين قال المشركون
وقد سمعوه (ص) يقول: (يا الله يا رحمان) نهانا أن نعبد إلهين وهو
يدعو إلهين، أو قالت اليهود: إنك لتقلّل ذكرى الرحمن وقد أكثره
الله في التوراة أي هذين الاسمين تسمّوا فهو حسن أي أسماءه تدعونه
به كان جائزاً وهي دالة على صفات الجلالة والاكرام وهذان منها (ولا
تجهر بصلاتك) فلا ترفع بها صوتك رفعاً شديداً بحيث لا تعدّ مصليا.
(ولا تخافت بها) بحيث لا تسمع أذنيك فلا تعد قارئاً وابتغِ بين
الجهر والإخفات وسطاً.
{وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (١١١)
أي
الحمد لله الذي تنزه عن الولد والشريك والولي الذي يفتقر إليه
غيره، أما هو سبحانه فَغَنيٌّ بذاته تقدست اسماؤه، وعظم "يا محمد"
ربك عظمة تامة واذكره بصفات العزِّ والجلال والعظمة والكمال. وهذا
هو الختام المسك الذي ينبعث من ثنايا هذه السورة المباركة فلما
بدأت السورة بالتقديس والتعظيم لله سبحانه ختمت به، كأحسن ما يكون
الختام ف {سبحان ربك ربِّ العزة كما يصفون وسلامٌ على المرسلين
والحمد لله رب العالمين}.
|