الكتاب |
حوار الأديان
في القرآن الكريم
(إشكاليات
الحوار وآفاق التواصل) |
تأليف |
الشيخ عارف هنديجاني فرد |
إعداد ونشر |
جمعية القرآن الكريم |
الطبعة |
الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت |
موقع جمعية القرآن الكريم |
www.qurankarim.org |
بريد جمعية
القرآن
الكريم |
info@qurankarim.org |
رأينا ـ فيما سبق من بحوث ـ أن الإنسان هو
موضوع الخطاب الإلهي، ومنه تبدأ شهادة الإيمان
التي تجلّت بقوله «بلى»، وإليه تنتهي الكلمة
الإلهية التي لا تنفد. فالقرآن، بما هو كلمة
نهائية وكاملة، يقدم الحوار في حياة الإنسان
على أنه من متممات وجوده، ومن تجلّيات حضوره
وظهوره؛ فلا تكاد تجد بياناً في الكلام، ولا
سرّاً في الآيات، إلاّ والإنسان هو الناطق به
والمتجلّي فيه، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ...
﴾
[1] ، ذلك هو
معنى الإنسان في القرآن، الذي أوكلت إليه مهام
الحوار من موقع إمامته وتمام كلمته. فهو
العالم بجميع الأسماء الإلهية، ومظهر جميع
أسماء الله وصفاته
[2] .
لقد رأى بعض الباحثين في العلوم الإسلامية،
إضافة إلى بعض المفسرين لآيات الله تعالى، أن
القرآن ينطوي في خطابه إلى الناس على كثير من
معاني القسوة والشدّة، ويدعو إلى الجهاد
والقتال، بل كأنه فيما يدعو إليه من غلظة مع
الكفّار وسطوة مع المنافقين، وعدّة واستعداد
مع غير المسلمين يُنبئ عن استحالة الحوار
وغرابة اللقاء، بل كأنه فيما يدعو إليه من ذلك
قد بان عن تقديس للقوّة والحرب، واستهانة
بالرحمة والسلام، إلى غير ذلك مما ذهب إليه
كثيرون من مسلمين وغير مسلمين. أما الحقيقة،
والحق، فهو غير ذلك تماماً، حيث نجد القرآن
يدعو إلى عدم العدوان، كما قال الله تعالى: ﴿
فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ
﴾
[3] ، وقال الله
تعالى: ﴿
وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ
الْمُعْتَدِينَ
﴾
[4] ، وغيرها من
الآيات التي تقدّم الحوار والتسامح والعدل
والإحسان وعدم البغي، لكونها تشكل أساسيّات في
بناء الإنسانية، وقد تقدّم الكلام في معنى
النداء الإلهي للإنسان في إطار الدعوة إلى
الحق والتوحيد، كما في قوله تعالى: ﴿
تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
...
﴾.
إنّ للحوار في القرآن من الأصالة بقدر، ما
للحق من ذلك، لأنّ القرآن يريد للإنسان أن
يكون تعبيراً عن كلامه الشاهد وروحه الناطقة
وسرّه الباقي في الكدح والملاقاة، وهذا كلّه
لا يكون متحققاً ما لم يكن للحوار جوهره
وتجلّياته في حياة الإنسان. وانطلاقاً من ذلك،
نرى أن القرآن قد استوعب كل الكلمات في تاريخ
الأديان، وفنّد مزاعم الشرك والأوثان، ليقدّم
صيغة جديدة، وكلمة فريدة في معنى الإيمان، كما
قال الله تعالى: ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً
﴾
[5] ، فإذا ما
عطفنا الكمال للدين وتمام النعمة على قوله
تعالى: ﴿
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً
﴾
[6] ، لرأينا أن
محور الخطاب وسرّ الإيمان كامن في ذلك
الإنسان، الذي لا قيام للإنسانية إلاّ به،
باعتباره حجّة الله على عباده. كما أن كمال
الدين وتمام النعمة والرضا بالإسلام ديناً،
لخير دليل على استيعاب كامل المعنى الديني في
وعي الإنسان وحركته الإيمانية في التاريخ
الإنساني
[7] ، هذا فضلاً
عمّا يعنيه هذا الرضا بالإسلام من امتداد في
المستقبل الديني للإنسان لكونه يمثّل محوريّة
هذا التمام والكمال، وصيرورة التفاعل في إطار
هذا الوعي الكامل لهذا الدين وكلماته التامة
في الماضي والحاضر والمستقبل، كما أنه في إطار
هذا الوعي أيضاً يمكن لحاظ الحوار وأصالته في
كلمات الله تعالى، لأنها كلمات وصلت أول
الزمان بآخره بالدعوة إلى الخير والتراحم،
وليس من خلال القوة والقهر والتسلّط، ويكفي
لتأكيد هذا المعنى الحواري لكلمات الله تعالى
ما تعرّض له الأنبياء والرسل في طريق دعوتهم
إلى الله تعالى، ومن هنا، تتبدّى لنا أصالة
الحوار وعالمية الدين في حركة النبوّة في
التاريخ البشري، فإذا كانت الشرائع والمناهج
في التاريخ الديني لم تتميّز بالعالمية من حيث
هي متعددة ومتنوعة، فإنّ الدين بما هو تسليم
لله تعالى وإيمان به وتصديق له، كان واحداً
وعالمياً في خطاب النبوّة إلى البشر، كما قال
الله تعالى: ﴿
يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
﴾
[8] . وهذا ما
تابعه القرآن في كلمته الخاتمة والنهائية إلى
الإنسان.
لذا، فإنّ القول بأنّ القسوة والغلظة هي ما
يميز الإسلام، قولٌ ينطوي على سوء فهم في
تفسيره لآيات الله تعالى، لأنه يتجاهل أسبقيّة
المعنى الروحي والفطري للإنسان على المعنى
المادي، والقرآن ناطق بسرّ الخلافة على الأرض
المسبوقة بشهادة الإنسان، والحوار مع الملائكة
بشأن آدم وأسباب استخلافه. وهذا كافٍ للتدليل
على أصالة الحوار في تاريخ استخلاف الإنسان
وتحوّلاته الإيمانية، التي لم يسبق لها أن
قامت على غير الهدى الربّاني، الداعي إلى
العلم والحوار والمحبة والإحسان. وقد تقدّم
الكلام في معنى تعلّق إرادة الله تعالى بكمال
الإنسان أصالةً، فأنّى لهذا الدين أن يكون
كاملاً ومستوياً بغير الحوار الديني في ضوء
معطيات الإيمان والكمال الديني للإنسان... فهو
كمال امتدّ به الإسلام من تاريخ النبي آدم
(عليه السلام)، إلى
بقيّة الله تعالى في أرضه، بدءاً من قوله
تعالى: ﴿
فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ
﴾
[9] ، وانتهاءً
بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
﴾
[10] .
لقد تقدّم الكلام في أنّ الإسلام ليس دين حرب
أو نفي، وإنما هو دين إلهي يؤسس للسلام بين
البشر، ويدعو إلى الحوار في ضوء تعاليم
الأنبياء، إذ لم يُعهد عن نبيّ، أو رسول أنه
استغنى بالحرب والقتال عن الحوار والسلام.
وإذا كان الإسلام قد دعا إلى جهاد الكافرين
والمنافقين والمعتدين، فذلك إنّما كان بهدف
السلام وحماية المستضعفين من شرار الطغاة
والمستكبرين، وقد لا يكون من الجدوى العلميّ
في شيء أن نعرض لتجربة الإسلام الأولى مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما
رافقها من تسامح ومحبّة وتفانٍ من أجل إخراج
الإنسان من الظلمات إلى النور، وإن كان البعض
قد ذهب شططاً فيما زعمه عن فتح مكّة عنوة
[11] .
ذلك أنّ مَن يذهب إلى هذا القول من المسلمين
يفسح في المجال أمام دعايات المغرضين من
مسلمين وغير مسلمين لتعزيز وتسويغ الرأي
القائل بأنّ الإسلام قام بالسيف وكانت له
عالميّة القوّة والطغيان! وليس عالميّة الحوار
والتسامح، وغير خفيّ على أحد ما ادّعاه كثيرون
من أنّ الإسلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) انتشر بالسيف، وتمادى أهله
بالحروب، فانتقلوا من الفتوحات الإيديولوجية
إلى الفتوح الإمبراطوريّة
[12]
! ولا شكّ في أنّ هذه المزاعم قد
تسبّببت بالإساءة للمسلمين في تاريخهم، وأعطت
غير المسلمين فرصة وإمكانيّة تناول الإسلام
بما لا يليق به من الادعاءات من دون وجه حق،
ودون وعي بما تنطوي عليه رسالة الإسلام من
مبادئ وقوانين لتحقيق السلام في الأرض.
كما تقدّم الكلام أيضاً في أن نهج الإسلام
والقرآن في مخاطبة البشر، سواء أكانوا مسلمين،
أم غير مسلمين، هو الدعوى بالحسنى، والمجادلة
بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الآيات التي تؤسّس
لحوار أصيل وبنّاء في إقامة العلاقات
الإنسانية، لأنّ الله تعالى يريد للبشر أن
يتسابقوا بالخيرات، كما سنبيّن في بحوثنا
المقبلة، هذا فضلاً عمّا يريده ربّ العالمين
بالناس من حكمة وعقل وإرادة حياة، باعتبار أن
الله تعالى هو الذي أعطى الخلق والهدى، وأراد
للحوار أن يكون هادفاً إلى تحقيق روحيّة
الإيمان في قلب الإنسان وعقله قبل تحقيق
المجتمع بالإرادة السياسية. وهذا ما يمكن
استفادته من قوله تعالى: ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ...
﴾
[13] . فإذا
صلحت النفوس والقلوب وفاضت الأرواح بمَعِين
الحياة والوحي، فإنه يمكن أن يكون للإنسان
قدرة على إصلاح واقعه ومجتمعه. ومن هنا يأتي
التركيز القرآني على معنى الحوار ليكون أساساً
ومنطلقاً لتعزيز فرص السلام وتحقيق الأمان
الروحي قبل المادي، ولعلّنا أسهبنا في الكلام
عن النداء الإلهي لأهل الكتاب، بقوله تعالى: ﴿
تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ
...
﴾، وقوله
تعالى: ﴿
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنجِيلَ
﴾
[14] ، هذه
الآية ـ كما نرى ـ ناظرة إلى معنىً عميق جداً،
فهي تتحدّث عن إقامة التوراة والإنجيل، وليس
القرآن، لأنّ حقيقة القيام بأيّة رسالة إلهيّة
هو قيام واستمرار قيام بكل الرسالات السماوية،
وهذا المعنى يمكن استنطاقه من كثير من الآيات
القرآنية. فالآية المباركة تلحظ معنى وضرورة
أن يكون أهل الكتاب على شيء لإقامة التوراة
والإنجيل، وهذا الشيء، كما يرى العلاّمة
الطباطبائي، متوقّف صدوره على أسّ معنوي ومبنى
قوي نفسي، لتوقف جلائل الأمور على الصبر
والثبات وعلوّ الهمّة وقوّة العزيمة وتوقّف
النجاح في العبودية على حق التقوى والورع عن
محارم الله ... ومن
هنا يظهر أن قوله: ﴿
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
﴾ كناية عن
عدم اعتماد أهل الكتاب على شيء يثبت عليه
أقدامهم، فيقدروا بذلك على إقامة التوراة
والإنجيل... تلويحاً إلى أن دين الله وحكمه له
من الثقل ما لا يتيسّر حمله للإنسان حتى يعتمد
على أساس ثابت
[15] .
هناك الكثير من الآيات التي تحدثت إلى أهل
الكتاب وعنتهم في عصر الرسالة الإسلامية،
وتدعوهم إلى إقامة التوراة والإنجيل، وهذه
الإقامة الحقيقية تبقى غير ممكنة ما لم تتوفّر
لأهل الكتاب عزيمة ومستلزمات هذا القيام
المعنوي، بكل ما يقتضيه من عقيدة وشريعة
وأخلاق، وغير ذلك مما تنطوي عليه رسالة
السماء، إذ إنّ التوفر على ذلك والقيام به في
الجوّ الحواري لا بدَّ أن يؤدّي إلى اتباع
المنهجية القويمة في طريق التحقق العبودي،
بحيث لا يكون هناك أي تصادم مع الوحي، سواء
جاء به النبي موسى (عليه السلام) أم النبي
عيسى (عليه السلام)، أم النبي محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فالأنبياء جميعاً على خط
حواري واحد، تمتدّ بهم الرسالة الإلهية،
وإليهم ينتهي ثقل هذه الرسالة، كما قال تعالى:
﴿
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
﴾
[16] ، ﴿
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ
وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ
﴾
[17] ، ومفاد
هذا الإيمان أن يكون مرتكزاً على شيء مما
يؤدّي إلى التقوى، وإلى أن يكونوا على مستوى
الرسالة وحمل الأمانة، وهذه دعوة حوارية أصيلة
تخالف مَن يدعو إلى ضرورة تجاوز الحوار في
الاعتقاد الى الحياة العملية والمبادئ
الأخلاقية إلى اعتماد الحوار سبيلاً إلى
الإيمان، باعتبار أن الحكمة في القرآن،
والدعوة الى الأخذ بها في سياق الرؤية
الحوارية، ليس هادفاً إلى الحوار العملي فحسب،
وإنّما هو هادف إلى الحكمة في إطار الرؤية
النظرية للتوفر على شيء مما يتطلّبه القيام
بالعقيدة والشريعة معاً.
إنّ أصالة الحوار في القرآن تتبيّن من خلال
مفردات الخطاب القرآني بما هو نداء صريح إلى
تصحيح المسار العبودي للإنسان، لقوله تعالى: ﴿
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
﴾
[18] ، إضافة
إلى آيات المجادلة، وآيات الحكمة والموعظة
الحسنة إلى غيرها من الآيات التي تحضّ أهل
الكتاب على الإيمان والقيام بالحق والتسابق في
الخيرات، فإذا ما أضفنا هذه الآيات إلى آيات
قرآنية أخرى تجادل أهل الكتاب، وتدعوهم إلى
اتباع الحق وسلوك طريق الخير من خلال تصحيح
المسار الإيماني، كما في قوله تعالى: ﴿
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ
خَيْراً لَّهُم
﴾
[19] ، وقوله
تعالى: ﴿
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ
﴾
[20] ، وقوله
تعالى: ﴿
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ
﴾
[21] ، ثم يأتي
التميّز الإلهي فيما عرضت له الآيات من فروق
بين مَن يكفر بالله ويصدّ عن سبيله وبين من هو
عالم بالحق يتلو آيات الله تعالى، كما جاء في
قوله تعالى: ﴿
لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
﴾
[22] .
كما أنّ هذا التميّز فيما هم عليه أهل الكتاب
من تباين له ما يماثله عند المسلمين أيضاً،
وقد بيّن القرآن في كثير من الآيات ما كانوا
عليه في بدء الدعوة من إيمان ونفاق، وغير ذلك
مما كانوا عليه أيام رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، وهكذا هو حال سائر الأمم والشعوب،
ما يعني أن الخطاب القرآني كاشف عن حقائق فيما
يكون عليه الناس من إيمان وكفر دون أن يكون
الكفر على حدّ الشرك، لأنّ للقرآن كلاماً آخر
مع المشركين والكفّار، ولا بدَّ من لحظ هذا
التميّز في فهم الكلام الإلهي، ليكون الحوار
ذا جدوى، وهذا ما تميّزت به الآيات المكيّة
لجهة الشدّة والعنف عن الآيات المدنيّة
[23] .
ما يعني ضرورة التمييز بين أن يكون الكفر على
حدّ الشرك، والكفر بما هو فسقٌ وخروجٌ عن
الأمر الإلهي، وهذا ما تفاوت بين أمة وأخرى
فيما تقوم به من أعمال، وتؤدّيه من عبادات،
وهذه مسائل يمكن التحاور بشأنها بين أهل
الإيمان، وبذلك يكون القرآن قد أرشد إلى طريق
الحوار الحقيقي، طالما أنه لم يتحدّث عن تمايز
في أمة دون أخرى إلاّ بالتقوى، فضلاً عمّا
يُعطيه القرآن من رؤية إيمانية متميّزة بخصوص
أولئك الصالحين من أهل الكتاب الذين يسارعون
في الخيرات، ويتبعون سبيل المؤمنين فما هم
عليه من علم وعمل، فهؤلاء هم من أهل الكتاب،
وقد خصّوا في المدح والثناء الإلهي بما
توفّروا عليه من خصائص، وقاموا به من أعمال،
وهم إنما يقدَّمُون للبشرية بصفتهم الكتابية
ليكونوا موضع قدوة واعتبار، بحيث يلتفت إلى
سلوكهم، ويتحاور بشأن صفاتهم الإيمانية
والسلوكية من حيث كونهم يؤمنون بالله واليوم
الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،
ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين في
مجالات العلم والعمل.
وهذا كافٍ للتدليل على أن الحوار بشأن هؤلاء
له كبير الجدوى، وعظيم الأثر فيما لو تأسّى
بهم أهل الإيمان، سواء أكانوا هوداً، أم نصارى
أم مسلمين، لينطلقوا في إثرهم، ويلتحقوا بهم،
لأنهم مثال الإنسان المؤمن الذي سمع قول الله
تعالى وعقل عنه قوله تعالى: ﴿
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
﴾
[24] ، وهو قول
ممتد في الزمان، وفي المعنى الديني أيضاً حيث
تجد صداه في قوله تعالى: ﴿
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ
﴾
[25] .
وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أن ما مدح به القرآن
النصرانية القرآنية، إضافة إلى ما خصّ به
النصرانية التي لم تعترف به، أو لم تؤمن
بدعوته، كل ذلك يؤكّد لذي لبّ أن النداء
القرآني، والخطاب الإلهي للبشر، هو خطاب عالمي
لا يصنّف الناس بين مسيحي ومسلم ويهودي،
وإنّما على أساس الكفر والإيمان في صيرورة
الأديان، هذا فضلاً عن دعوة القرآن وندائه إلى
التعارف والتلاقي في ضوء الرؤية الإيمانية
للتمايز والتفاضل على أساس التقوى، وليس على
أي أساس آخر من عصبيّة، أو عرقيّة، أو قومية.
إذ إنّ كل القبائل والشعوب مدعوّة إلى حضرة
الأمة القرآنية لتكون على مائدة الرحمانية
والرحيمية بهدف أن تحقّق ذاتها في مسار
العبوديّة، وهذا ما لا نجده في أي كتاب سماوي
آخر، لا في الإنجيل، ولا في التوراة برغم ما
يدّعيه كثيرون من مسيحيين وغير مسيحيين لجهة
تأكيدهم على عالمية الإنجيل أو التوراة، أو
الدعوة إلى أن كل كتاب سماوي هو كتاب يحمل
رسالة عالمية إلى الإنسان، ولكن ما تجاهله
هؤلاء هو أن الإنسان موضوع الخطاب الإلهي له
تحوّلاته في الزمان والمكان والتاريخ، فضلاً
عمّا له من قدرات ومؤهلات لا بدّ من توفره
عليها ليكون موضوعاً لخطاب العالمية الإيمانية
والرسالية.
إنّ تجاهل هذا المعطى الإنساني يؤدّي إلى
تشويه الرؤية، وتضييع المعنى الرسالي فيما لو
ادّعى الإنسان أنه في عمر الطفولة يمكنه أن
يكون قادراً على تلقّي وتحمّل ثقل الشباب، أو
العكس، إذ إنّ لكل من هؤلاء عُمُرَهُ ومستواه
وقدراته على تحمّل أثقال السماء، ولعلّ هذا ما
يفسّر ما جاء في الأناجيل على لسان عيسى (عليه
السلام)، أنّه ما جاء إلا للخراف الضالّة من
بني إسرائيل، يقول عيسى (عليه السلام): «إلى
طريق أمم لا تمضوا، إلى مدينة السامريين لا
تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بني
إسرائيل الضالّة»
[26] ، وهكذا في فقرات أعمال الرسل ما
يدلّ على تمسّك الحواريين بعد عيسى بأنّ
المسيحية دين لبني إسرائيل خاصة، فقد خاصم
اليهود بطرس لأنه دخل على غير اليهود وتكلّم
معهم؛ يقول أحمد شلبي: «ويؤيّد الكتّاب
المسيحيّون هذا الاتجاه أيضاً، يقول: «فقد جاء
في دائرة المعارف البريطانية أن أسبق حواريّي
المسيح ظلّوا يوجّهون اهتمامهم إلى جعل
المسيحية ديناً لليهود وجعل المسيح أحد أنبياء
بني إسرائيل إلى بني إسرائيل»
[27] . وإذا
كان المسيح (عليه السلام) قد تكلّم عن الدخول
في ملكوت الله تعالى، وخاطب الصالحين من الناس
فيما وعظ به قومه، فذلك ليس فيه ما يشير إلى
عالمية الخطاب المسيحي، لأن المقصود بملكوت
الله تعالى، هو تلك النفسيّة الإيمانية،
والعبودية الخالصة لله تعالى المفتوحة لجميع
الصالحين، وبهذا المعنى يكون ما جاء به نوح
(عليه السلام) وإبراهيم (عليه السلام) وكلّ
الأنبياء دعوات صالحة للدخول في هذه
العبوديّة، أو للتحقق في هذه الروحية، عالمياً
وإنسانياً وإيمانياً
...
نعم، قد يُقال: إن الإنسان شهد لله تعالى،
وكانت له شهادته في عالم تحققه الفطري حيث كان
شاهداً لله تعالى وإنساناً عالمياً حينما قال
في روحه وعقله «بلى»، ولكن هذا المعنى غير
مقصود في العالمية فيما لو كانت تعني التحقق
على مستوى الرسالة والوعي والشريعة، إضافة إلى
القدرات والمؤهلات الإنسانية، التي تؤهّل
الإنسان لأن يكون عالمياً في كلّ تحوّلاته
الإنسانية. ولهذا، فإنّ الدخول في الملكوت
الذي دعا إليه الأنبياء، هو الدعوة الخالصة
للخروج من أسر العصبية والولاء القبلي إلى
رحاب العبودية لله تعالى، وما جاء في إنجيل
متّى يوضّح هذا المعنى، وينفي عن اليهود ما
ادّعوه لأنفسهم من اختيار إلهي، فكان لا بدّ
أن يكرِز (يبشّر) عيسى (عليه السلام) بدعوته
وبناموسه ليخرج اليهود وبني إسرائيل من ولائهم
العائلي إلى الإنسانية، وهذا ما يكشف القرآن
عن معناه فيما يركّز فيه على بني إسرائيل، كما
في قوله تعالى: ﴿
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...
﴾
[28] ، وقال
الله تعالى: ﴿
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
﴾
[29] إلى كثير
من الآيات القرآنية التي تميّز في الخطاب بين
أن يكون لقوم، أو أمّة، وبين أن يكون
للعالمين، أو للناس جميعاً، كما قال الله
تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ
﴾
[30] .
إنّ القول بأن المسيح جاء ليخلّص العالم
بالمعنى الذي تعنيه العالمية من حيث كمال
الرسالة، وكمال الإنسان، وكمال الرؤية النظرية
والعملية، فذلك مما لا يستقيم بلحاظ نصوص
الإنجيل والتوراة معاً، بدليل ما تقدّم ذكره
من أن الخطاب هو للعالمين في زمان الأنبياء،
كما جاء في القرآن في ما خصّ به بنو إسرائيل
من نعم، حيث جاء التعبير بالعالمين، كما قال
الله تعالى: ﴿
اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ
﴾
[31]
. فالعالمين تأتي في الرسالة السماوية بهذا
المعنى لتدلّل على أن هناك أشخاصا، رجالاً
ونساءً، يكون لهم هذا المعنى العالمي من دون
أن تعني العالمية كمال التحقق الوجودي على
مستوى الرسول والرسالة، فضلاً عن الإمامة التي
هي في الجوهر باطن النبوّة. وعليه، فإنّه لا
معنى لدعوة خلاص العالم، كما ذهب بعض الباحثين
في شأن عالمية المسيحية
[32] ،
فهذا البعض إنّما أراد أن يعبّر عن الدعوة
الخلاصية في إطار الرؤية الدينية والملكوتية
التي تستنبطها المسيحية، فوضع كل الأديان
والشرائع في سياق واحد، واستدل على صحة رؤيته
من خلال التحققات العملانية للأديان والشرائع.
وبرأينا كان لا بدّ من التمييز بين الرسالة
بما هي دين وتدعو إلى الإسلام والتسليم
والعبادة الخالصة لله تعالى، وبين النداء أو
الخطاب الرسالي إلى القوم، أو إلى الشعب من
قبل الأنبياء، لأنه من خلال هذا التمييز يمكن
لمعنى العالمية أن يستقيم
[33] .
أما أن تطلَق العالمية بما هي خلاص وشمولية في
زمان خاص وظروف محددة، فهذا مما لا يمكن
القبول به لكونه يتجاوز عالمية الرسول
والرسالة الإلهية التي تكامل معها الإنسان
وتكاملت معه في سياق الرؤية الدينية المتواصلة
مع الأنبياء، والتي انتهت إلى رسالة الإسلام،
لتكون عالمية المعنى والمضمون بغضّ النظر عمّا
شاب هذه العالمية من التباس في التجربة
التاريخية للمسلمين، وهذا ما كان أيضاً مثار
جدل بين المستشرقين الذين ذهبوا مذاهب شتّى في
فهم العالمية الإسلامية، وهم في كثير مما
ذهبوا إليه قد يكون نتيجة لتأثرهم بهذه
التجربة التي لا تصلح لأن تكون دليلاً، أو
سبيلاً للحكم على صحّة وسلامة النظرية
الإسلامية.
غاية القول: إنّ أصالة الحوار في القرآن
وعالمية الإسلام كما أظهرها القرآن ليست
مجالاً للشك أو الرَّيب، وذلك من منطلق أن
الأنبياء جميعاً قد تواصلوا مع الإنسان
لإخراجه من الظلمات إلى النور، ليكون له نوره
المتجلّي في الإيمان والعمل، وهذا التجلّي ما
كان ليظهر كاملاً في حياة الإنسان لولا أن
الله تعالى مَنَّ على هذا الإنسان بالرسالة
الكاملة والنهائية لبعثه في عالمية روحيّة
وإنسانيّة كاملة، فإذا لم يكن للعالمية هذا
المعنى، فما يكون معنى تواصل وتواتر الرسل
والأنبياء، بحيث يكون تحقق الأمور على فترة من
الرسل، وهذه ما تفسّره لنا فترات الزمن وحقب
التاريخ، وعدم تواصل الجاهليات، حيث كان من
مهام الأنبياء قطع تواصلها، وضرب مفاصلها،
وتهديم أركانها، وقد تميّز الإسلام في كونه،
ورغم نهائيته وكمال رسالته، قد تحدّث عن
جاهليّة أولى بالشكل الذي يستوحى منه أنّ
جاهليات أخرى يكون لها مكانها وزمانها في حياة
الإنسان، وقد أُعدّ لكل جاهلية من أسباب
الإيمان ما يمنع من استمرارها إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها.
إنّ العالمية الإسلامية هي ذات بعد إيماني
ورسالي، وليست مجرّد عالميّة في إطار الشأنية
العملية للإنسان في تطوّره وتحوّله، وإنّما هي
عالميّة تلحظ الجوانب الإنسانية كلّها، وتعطي
الإنسان حيّزه الوجودي الكامل في ما تقدمه له
من مبادئ وتعاليم وقوانين وأحكام من شأن
الالتزام بها تحوّل الإنسان عن كونه إنساناً
موصوفاً ليكون إنساناً منتمياً إلى الله
تعالى، ومتجاوزاً لحدود الزمان والمكان
والتاريخ للتحقق في بعده التواصلي والرسالي
الذي عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
﴾
[34] ، فالله
تعالى هو الرقيب أولاً وأخيراً، وما كان دور
الأنبياء سوى الشهود على ما بعثوا به ودعوا
إليه في إطار الدعوة إلى الامتثال للتعاليم
الإلهية، ذلك هو معنى أن يكون الرقيب شاهداً
وشهيداً؛ أن يسلّم الأمانة لمن يأتي بعده
تمهيداً للرقابة على العالمين من قبل الله
تعالى، والتي هي رقابة محققة قبل الخلق ومع
الخلق وبعد الخلق.
ينقل الباحث «هويدي» عن بعض العلماء أنه لا
يستفاد من النصوص القرآنية شرعية الحوار في
العقيدة مع أهل الكتاب، يقول: «فثمّة رأي
أصولي في الأزهر، يرى أن الحوار في العقائد
غير مستحب من الناحية الشرعية، والتوجيه
القرآني في كثير من الآيات يكاد يغلق الباب
أمام الحوار في العقائد، باعتبار أنها تحثّ
النبي في حال المجادلة على تفويض الأمر إلى
الله وعدم الخوض في الحوار الكلامي مع
الآخرين... وعن قوله تعالى: ﴿
وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
﴾، يقول أصحاب
هذا الرأي أنها تنصبّ على الأمور الدنيوية
التي تتعلّق بالمعاملات التي تدور في إطار
التعايش والبرّ الواجبين في علاقة المسلمين
بغيرهم...»
[35]
.
إنّ ما يذهب إليه بعض علماء المسلمين في مجال
الحوار مع غير المسلمين يُغلق الباب أمام حوار
العقائد والأصول الإيمانية الكبرى، اعتقاداً
منه بأنّ الله تعالى قد أخرج غير المسلمين عن
كونهم أهلاً للحوار في مجال العقيدة، وحكم
عليهم بالكفر والجهل، وغير ذلك مما يجعل من
الحوار غير ذي جدوى! وكما نلاحظ أن رأي مَن
نقل عنهم هويدي الكلام يتحدّث عن حوار شرعي،
أو غير شرعي ما يدلّل على أنّ الأمر يأتي في
سياق الفتوى. وقد سبق لنا أن بينّا ما ذهب
إليه بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى: ﴿
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى
كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
﴾ حيث
بيّن هؤلاء أن النداء القرآني ناظر إلى حقيقة
الحوار في مجال أصل من أصول الإيمان
والاعتقاد، فلا ينبغي صرف الكلام عن ظاهره من
دون قرائن توجب ذلك، فالأمر متعلّق بالعبادة
لله تعالى فيما عرض له بشأن أهل الكتاب ولم
يتعرض القرآن في آيات الحوار والنداء إلى
مسائل شرعية، وإنّما عرض لمسائل اعتقادية كان
كثير من النصارى يتأوّلون فيها على الله
تعالى، ويذهبون إلى القول فيها بغير حق. وإذا
كان البعض يرى بأنّ الخطاب الإلهي منصبّ على
الأمور الدنيوية، فذلك يمكن اعتباره تبسيطاً
إن لم يكن تأويلاً بالرأي؛ ذلك أن المسائل
الدنيوية لم ولن تكون مثار جدل ونقاش مع أهل
الكتاب حتى تكون موضوعاً لخطاب الله تعالى في
قوله: ﴿
تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ
﴾، بما هي
كلمة عدل بخصوص أهمّ المسائل الاعتقادية
والعبادية
[36] .
وقد يقال أيضاً أن ما ذهب إليه هؤلاء، هو من
الغرابة في كل شيء، وليس في مجال واحد. إذ كيف
يمكن أن نتأوّل على الله تعالى، وندّعي إخراج
العقائد من مجالات الحوار بين أهل الإيمان،
وقد سبق إلى ذلك رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، الذي استقبل نصارى نجران وكلّمهم
في العقيدة والتوحيد وفيما هو عليه نبيّ الله
عيسى (عليه السلام) من صفات وخصائص إنسانية
بعيداً عمّا جاؤوا به من كلام في العقيدة؟ وهل
كان هذا من الأمور الدنيوية أن يتطلّب أمر
النقاش والحوار مع الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) نزول الوحي بنداء الله تعالى: ﴿
فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ
﴾
[37] .
وكما نلاحظ أن السياق في الآيتين واحد، حيث
قال الله تعالى: ﴿
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى
كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
﴾،
وفي الآية الثانية قال الله تعالى ﴿
فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ ...
﴾. وهنا
السؤال الأساس، كيف يمكن صرف الآيات إلى
الحوار في أمور الدنيا وعلاقات البشر، وهي
ظاهرة الدلالة فيما يفيده السياق على الحوار
في مجال العقيدة؟
ثمّ إنّه ما معنى أن يُدّعى في المقام أن
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اكتفى
بمجرّد الاستقبال لنصارى نجران للاحتفاء بهم
وتكريمهم على النحو الذي يُفهم منه أن اللقاء
كان هادئاً، في حين تجمع المصادر الإسلامية
على أنّ ما جرى في الحوار بين الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) وبينهم كان عاصفاً
[38] ،
وإلاّ فما معنى: ﴿
تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ
﴾
[39]
؟ فهل الكذب كان في مسائل الدنيا؟، أم
أنهم اختلفوا مع رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) وتجادلوا معه بشأن قضايا وعلاقات
إنسانية حتى يستدعي الأمر الابتهال إلى الله
تعالى لجعل اللعنة على الكاذبين؟ إنها أسئلة
تحمل في طيّاتها إجابات كافية ووافية على أن
ما يذهب إليه بعض العلماء في شأن الحوار ليس
صحيحاً، ويحتاج إلى إعادة نظر وتأمّل لكونه
متعلّقاً بالآيات القرآنية التي لا يمكن أن
تؤوّل على غير معناها، اللّهمّ إلاّ أن يكون
المقصود من هذا التأويل ضرب الدعوة إلى الحوار
والمجادلة في مجال العقيدة، وهو مجال يؤسس له
في العقل، ويمنع من التقليد فيه والآيات ترشد
إليه. أما ما ذهبوا إليه في تفسير قوله تعالى:
﴿
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ
﴾
[40] ، وقوله
تعالى: ﴿
وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا تَعْمَلُونَ
﴾
[41] ، فهم
يرون أن الآيات ناظرة إلى تفويض الأمر إلى
الله تعالى، باعتبار أن الله هو العالم بما
يعملون، بما يوحي بأن الحوار في مجال العقيدة
غير مرغوب فيه. ولا شكّ في أن أدنى تأمّل في
كتاب الله تعالى، لا بدّ أن يكشف عمّا تعنيه
هذه الآيات من ضرورة للحوار والمحاججة مع أهل
الكتاب وغيرهم، إذ إنّ الله تعالى قد بيّن في
آيات أخرى أن معنى أسلمت وجهي لله، لا تعني
عدم شرعية الحوار، وإنّما تؤكّد عليه وتدعو
إليه، كما قال الله تعالى: ﴿
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا
أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
﴾
[42] حيث نرى
أن الآية تركّز في ظاهرها على التوحيد، هذا
فضلاً عمّا تعنيه آيات أخرى جاءت في معنى
المحاججة، حيث قال الله تعالى في آية
المباهلة: ﴿
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ
مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ ...
﴾، وهذا يدلّل
على أنه لا يستفاد من قوله تعالى: ﴿
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ
﴾ ما زعمه بعض
العلماء من أنها تعني انعدام الحوار وعدم
شرعيته، لأنّ مقتضى المحاججة والإصرار عليها
يستوجب الردّ والمناقشة واتخاذ الموقف الملائم
لهداية الآخرين وتعليمهم، والكشف عن زيف
مغالطاتهم، سواء في مجال العقيدة، أم في أي
مجال آخر، وهذا ما بيّنه الله تعالى في كثير
من الآيات، التي أجاب فيها على مسائل تتعلّق
بالاعتقاد، كما في قوله تعالى: ﴿
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا
أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا
مِن بَعْدِهِ
﴾
[43] ، فلو لم
يكن للمحاججة معنى وأثر في التوجيه لما جاء
الجواب الإلهي بالحكمة والمنطق العقلي
الكاشفين عن زيف ما يذهب إليه الزاعمون في
العقيدة وسواها. ثمّ جاء الردّ بأوضح ما يكون
في مجال الكشف عن زيفهم بالقول لهم: ﴿
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ
عِلْمٌ
﴾
[44] ، فإذا
كنتم قد حاججتم فيما لكم به علم، فلما
تحاجّونني فيما ليس لكم به علم؟ وهذا من
الردود المنطقية في مجال الدعوة والهداية
الربّانية للإنسان، سواء أكان في مجال
العقائد، أم في غيرها، لأنّ الله لم يترك
الإنسان هملاً، وقد هداه إلى ما ينبغي أن يكون
عليه في دينه ودنياه، فلا يُقال بأنّ مجال
الحوار هو في إطار التعايش وأعمال البرّ، أو
في إطار المعاملات الدنيوية لمجرّد أن بعض
الناس لا يقرؤون كتاباً، أو لا يجيدون حواراً،
ولا يحسنون صنعاً، بل إنّ مجال الحوار الحقيقي
هو في مجال العقيدة، ومنها ينطلق إلى أمور
ومسائل الدنيا وعلاقاتها لما للعقيدة من أثر
في توجيه الإنسان إلى الأعمال الصالحة، وقد
بيّن العلاّمة اليزدي أنه ما ارتفع قوم إلاّ
بحُسن الاعتقاد، وما تسافل قوم إلا بسوء
الاعتقاد
[45] .
فالعقيدة هي أساس بناء الحياة النفسية
والعقلية والروحية والعملية. فالقول: إنّه يجب
ترك الحوار والجدل في مجال العقيدة إلى ربّ
القلوب والضمائر، هو قول محكوم بالرأي والهوى،
لكونه صادراً عن هواجس الحياة، ومساوئ
العلاقات بين البشر. فلا ينبغي أن يكون له
أدنى اعتبار في مجال التأسيس لحقيقة الحوار
كما أمر الله تعالى به بعيداً عن الهواجس
والمساوئ، وإنّما لا بدّ من لحاظه في جوّه
القرآني وما تدعو إليه الآيات.
ثم إنّه إذا كان بعض العلماء يرى بأنّ هناك
تعارضاً حقيقياً فيما يدعو إليه أهل الإيمان
في مجال الأصول والاعتقاد، فهذا مما عرض له
القرآن ووجّه إليه الأنظار لا ليكون موضع صخب
واعتراض وتصادم بين أهل الإيمان، وإنّما ليكون
سبيلاً إلى متابعة الحوار على أساس قوله
تعالى: ﴿
تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ...
﴾، فإذا لم
يحصل أن اجتمع الناس على كلمة عدل، أو آل
أمرهم إلى أن يكون على تناقض في ما يذهب إليه
كل فريق، فليس معنى ذلك أن يتحوّل الحوار إلى
تجريح وتقاتل بين الناس، وإنّما معناه أن يكون
لكل فريق، ولكل طائفة، أو مذهب دينه واعتقاده
على نحو ما بيّن الله تعالى: ﴿
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
﴾
[46] . إن ما
ذهب إليه بعض العلماء في قوله متسائلاً بأن
النصّ صريح في القرآن على تكفير مَن قال إن
الله هو المسيح بن مريم، فكيف يمكن تجاهل هذا
الأمر في الحوار على مستوى العقيدة؟ والإجابة
هنا هي على حدّ الغرابة إذ نرى مدى الانكشاف
في الرؤية الإيمانية، حيث يتمّ تجاهل تجربة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا
الحوار، ويراد للمسلمين أن يتساءلوا مجدداً في
معنى العقائد على النحو الذي يمنع من التلاقي
والتحاور
[47] ، وكأن
هؤلاء العلماء يعيشون في حوار التأسيسات
الإيمانية ولم يسبق للإسلام أن أجاب على هذه
التساؤلات
[48] ، ويكفي
أن نشير هنا إلى الحقيقة القرآنية في مجال
الحوار، وهي بمثابة التأسيس في مجال الاعتقاد،
حيث قال الله تعالى: ﴿
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً
فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
مِنَ الْخَاسِرِينَ
﴾
[49] . فالقرآن
لم يقل «هو في الدنيا من الخاسرين»، بل «في
الآخرة» ما يعني أن الخسارة هي أمر أخروي
يحاسب الله عليه يوم القيامة، ولا ينبغي أن
يكون له أدنى تأثير على حقوق غير المسلمين في
ما يتعلق بحياتهم وواجباتهم في الدنيا. وإذا
كان مَن يقوم بشأن الحوار هو ممّن تميّزوا
بالوعي والحكمة والعلم، فإنّ الأمور تسير وفاق
هذا العلم والحكمة، ولا يكون للاختلاف، ولا
للتناقض في الرؤية الإيمانية أيّة انعكاسات
سلبيّة في مسار الحوار الإيماني. أما أن يقال
بأن أهل الحوار قد تقابلوا وتجارحوا، فذلك مما
يدلّل على أن من يقوم بهذا الأمر ليس أهلاً
له، وقد أمر الله تعالى المجادلة بالتي هي
أحسن، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وهل يُعقل أن
يكون القائم بالحوار غير حكيم؟
إنّ الذي يؤسس للحوار في الحياة الإيمانية هم
أهل الدراية والحكمة، سواء أكان الأمر يتعلق
بأهل الكتاب، أم بالمسلمين، وهذا يقتضي منهم
أن يكونوا على مستوى الحقيقة الإيمانية،
فينطلقوا في الحياة على أساس إنسانية الإنسان،
وكرامته وإيمانه بالأصول الإيمانية الكبرى،
التي يفترض أن تكون منطلقاً للحوار، كما بينّا
سابقاً، وليس مجالاً له، على اعتبار أن
الاتفاق من حيث المبدأ والرؤية الإيمانية
متحقق على مستوى هذه الأصول رغم التأويلات
المختلفة في التفاصيل والصفات، وغير ذلك مما
هو مختلف عليه في الدائرة الإيمانية الصغرى
لجهة ذهاب كل طائفة إلى تأسيسات كلامية مختلفة
عمّا تذهب إليه الطائفة الأخرى، وهذا الاختلاف
غالباً ما يكون في تفاصيل الرؤية الإيمانية
التي ينتمي إليها كل فريق. ولكن يبقى ما هو
مشترك بين أهل الإيمان هو الدافع إلى الأمل في
الحوار على مستوى العقيدة أولاً، وعلى مستوى
الحياة وحقوق البشر ثانياً.
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن أهداف الحوار ليس
تحويل الوجهات، أو تسويغ اللقاءات على النحو
الذي يؤدّي إلى تسجيل المواقف، وتحقيق
المكاسب، وإنّما أن يتحوّل الحوار إلى حياة في
تفكير المؤمنين وسلوكهم، باعتبار أن الأهداف
ليست مطروحة بين أن تكون مؤسسة على حوار في
العقيدة، أو حوار على تنظيم العلاقات في إطار
التعايش بين أهل الإيمان، بل هي مطروحة في
سياق القواسم المشتركة التي تجمع أهل الإيمان،
لكونهم جميعاً يؤمنون بالله تعالى وباليوم
الآخر، وبأن الله تعالى كلّم الناس بالأنبياء،
إلى غير ذلك مما يصلح أن يكون قاعدة وأساساً
لتحقيق الأهداف الإنسانية، وهذا ما سبق لنا أن
عرضنا له بالإسهاب تارة، وبالإجمال طوراً آخر،
حيث أكّدنا في بحوثنا أن الهدف من الحوار هو
إخراج الإنسان من كهوف العصبية إلى رحاب
الإيمان، بحيث يكون له دوره وأثره في تعزيز
الروح الإيمانية على مستوى الواقع الإنساني،
وخاصة في العصر الحديث الذي انتهى فيه الحوار
ليكون مادة إعلامية وحسب، إذ تمّت السيطرة على
تحوّلات الإنسان كلّها، وجعلت منه مجرّد
متلقٍّ ومنفعل بالأحداث، هذا فضلاً عمّا آلت
إليه المجتمعات الإنسانية من تصحّر معرفي
وإيماني بعد هيمنة الفراعنة والمستكبرين على
مقدّرات العباد والبلاد، والتي كان ولا يزال
لها أكبر الأثر في منع التحاور بين أهل
الإيمان. لذا، فإنّ معنى أن يكون الحوار
هادفاً، أن يتحوّل الإنسان عن كونه محاوراً في
الإيمان، ليكون محاوراً في الحياة الإنسانية
بكل ما تقتضيه هذه الحياة من تفاعلات إنسانية
وحضارية. فلم يعد معروفاً اليوم، ولا مألوفاً
ولا مقبولاً، أن يكون الهدف من الحوار تحويل
دائرة إيمانية إلى دائرة أخرى، كما كان عليه
الحال في مدارس الفلسفة وعلم الكلام، وإنما
القيام بالحوار على أساس أن الدين واحد،
والمعبود هو الله تعالى، وأن الإنسان هو خليفة
الله في الأرض، وأن الله تعالى كرّم بني آدم
بما هم بشر ينتمون إليه ويكتفون به فيما مَنَّ
به عليهم من إيمان وشرائع وحياة. فإذا ما
انطلق الحوار في ضوء هذه التأسيسات الإيمانية،
فإنّه لا بدّ أن ينتهي إلى علاقات إنسانية
فريدة في الحياة الإيمانية، بحيث لا يكون هناك
أي معنى للتعصّب الديني، بل دين واحد هو
الإسلام الذي تنتمي إليه البشرية منذ أن كانت
قبل أن تكون وكم يكون الفرق كبيراً بين أن
يتحاور الإنسان في طريق الكدح إلى الله تعالى،
وبين أن يكون محاوراً في إطار رؤية مذهبية أو
طائفية، أو دينية خاصة يطمح بها إلى أن تكون
المسيحية، أو اليهودية، أو الإسلامية الخاصة
عنواناً لحواره، أو سبيلاً لتحقيق غلبة، أو
تذويب مفردة في هذه الطائفة أو تلك؟ وهذا ما
فعله كثير من المسلمين في تاريخهم، وهذا ما
فعله كثير من المسيحيين فيما دعوا إليه من
تبشير، وكانت النتيجة مزيداً من الانقسام
والتنظير في ساحات الإيمان والإنسان..!؟
ليست العالمية، كما رأينا في البحث السابق،
شأناً إنسانياً، ولا هي اختيار نبوي، وإنّما
هي حقيقة ورسالة يختصّ بها الله من يشاء من
عباده، كما قال الله تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ
﴾
[50] . كما
أشرنا أيضاً إلى أنّ العالمية لها أبعادها في
كل زمان ومكان، فهي من حيث البعدين الديني
والتوحيدي لها بعد الديمومة في تاريخ الإنسان.
أما من حيث بعد الرسالة والشريعة، فهي تعبير
عن إرادة الله تعالى وما يختاره من مناهج
وشرائع لعباده، وكما قال الله تعالى: ﴿
وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا
نَذِيرٌ
﴾
[51] يبشّر بالثواب، وينذر
بالعقاب في ضوء الشريعة التي جاء بها إلى
قومه، وهذا التحيّز في الزمان والمكان
والتاريخ للناس ليس دليلاً على تحقق العالمية،
وإنّما هو سبيل إليها ودليل عليها، لأنّ الله
تعالى، وهو ربّ العالمين، شاء أن تكون عالمية
الدعوة والرسالة للإسلام بما هو كلمة خاتمة
ونهائية للناس كافة.
هناك من الباحثين في مجال الدين
[52] مَن يربط بين
العالمية والتبشير، أو بين الدعوة الإسلامية
والعالمية في سياق التحوّلات التاريخية على
نحو ينفي أو يؤكّد تحقق العالمية لهذه الأمة
أو تلك، وبمعنى آخر هم يؤكدون العالمية من
خلال التجربة البشرية، فإذا أرادت هذه الأمة
أو تلك أن تكون عالمية، فذلك يكون لها فيما لو
التزمت بالوظائف المناطة بها والموكلة إليها.
أما إذا لم ترد ذلك فلا تتحقّق لها العالمية،
وعلى فرض أنها حققت لذاتها عالمية الانتشار،
فإنّه لن يكون لها عالمية المحتوى والمضمون.
وهنا لا بدّ من التمييز بين أن تكون العالمية
رحمة إلهية، وبين أن تكون تعبيراً مادياً أو
نظرة إنسانية، أو فعلاً إنسانياً في الزمان
والمكان. فالله تعالى قال: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ
﴾، ومعنى أن
يكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة
للعالمين، أن يكون أكثر من مجرّد اختيار في
الزمان والمكان للرسالة الإسلامية، باعتبار أن
الرحمة كما أفاد صاحب قاموس القرآن فيما تعنيه
الرحمة في القرآن
[53] ، حيث أشار إلى أن
الأنبياء هم جميعاً تجلّيات للرحمة الإلهية،
ولكن تمام هذا التجلّي للرحمة كامن في رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تماماً كما
هو الحال في رسالته ودعوته من حيث هي تمام
وكمال للتجلّي الرسالي في تاريخ الإنسان
وحياته ...
إذن، العالمية ليست مجرّد فعل إنساني، أو
تعبير مجازي، يمكن اختياره، والشروع فيه
بإرادة إنسانية بمعزل عن إرادة الله واختياره
[54] . إنّها إرادة
الله تعالى في أن تكون عالمية الإسلام،
وخاتميّة الرسالة الإسلامية رحمة للعالمين
لجهة تحقق الكمال والتماموالرضا الإلهي في
الرسول والرسالة معاً. بيدَ أنّ هذا المعنى
الذي نذهب إليه لا يعني بحال من الأحوال نفي
الإرادة الإنسانية عن تحقيق هذا الفعل، بل هي
فعل أساسي في تجلّياته، إلاّ أنه لا بدّ أن
يكون مسبوقاً بالكلمة الإلهية، ومنطلقاً منها
لكي يكون له معنى العالمية
[55] . إذ لا يكفي أن
تدّعي أمّة، أو شعباً، أو قوماً، أنه مستوفٍ
لشروط العالمية، أو أن يدّعي صلاحية رسالته أو
دعوته لكل زمان ومكان، لأنّ هذا، كما أشرنا،
يبقى مشروطاً بإرادة الله تعالى واختياره، كما
قال الله تعالى: ﴿
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ
مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ
اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
﴾
[56] ، فإذا كان الأنبياء
جميعاً يدعون إلى الله تعالى، ويبلّغون عنه
الأحكام والتعاليم والمبادئ، كلٌّ في زمانه،
فذلك إنّما يعني وعي النبوّة لحدود رسالتها،
وأمد دعوتها على نحو ما بلَّغ نوح (عليه
السلام) وإبراهيم (عليه السلام)، وكلّ
الأنبياء الذين تواتر الكلام عنهم أنهم دعوا
إلى الله تعالى وبشّروا باستمرار الدعوة إلى
أن يكتمل الناموس، كما جاء في التعبير
الإنجيلي في قول المسيح (عليه السلام): «ما
جئت لأنقض الناموس، بل لأكمل الناموس...»، بما
هو شريعة ومحبّة ورحمة إلهية متجلّية في هذا
الامتداد الرسالي في تاريخ الإنسان. وهذا، كما
رأينا ليس اختياراً إنسانياً، لأن الله تعالى
أراد للبشرية أن تتكامل في إطار ما أُعدّت له
من تحوّلات إنسانية، والله أعلم بما خلق
ودبّر، وبما إليه هدى، وقد شاءت حكمته أن
تتعدّد الشرائع ليكون لكل أمّة شرعة ومنهاجاً
تهتدي من خلاله إلى طاعة الله تعالى، وتصدر
عنه في كل أمر ونهي. كما شاءت الحكمة الإلهية
أن تكون رسالة الإسلام هي الكلمة الخاتمة
والشريعة الكاملة، وأن يكون في الإسلام تمام
الرضا الإلهي، كما قال الله تعالى: ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً
﴾
[57] .
لقد اعتقد بعض المسيحيين أنه من خلال
(الكرازة) التبشير يمكن أن تتحقّق العالمية
المسيحية كما أرادها بولس الذي لم يكن من
تلامذة المسيح (عليه السلام) أصلاً
[58] ، وعلى فرض أنه
استطاع أحد من المبشرين أن يحقق هذه العالمية
من حيث هي قول وفعل وأثر في الحياة، فهل هو
يملك إمكانية أن يجعل من هذه العالمية رحمة
للعالمين، وهو يعلم أن المسيح منع من المضيّ
في طريق الأمم...؟ وهدى بني إسرائيل إلى سبيل
السلامة في الدين والدنيا ليكونوا مع تمام
الرسالة وكمالها في مستقبل دعوتهم وكرازتهم،
كما قال الله تعالى: ﴿
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي
اسْمُهُ أَحْمَدُ
﴾
[59] ...
إنّ المسيح (عليه السلام) كان يطوف كل الجليل
يعلّم في المجامع، ويكرز (يبشّر) بملكوت الله،
كما فعل سائر الأنبياء من قبله، وهو (عليه
السلام) لم يرد لدعوته وبشارته أن تتجاوز بني
إسرائيل، إذ كيف يكون ذلك منه، وهو يعلم أنّ
عالمية الرحمة هي شأنية مَن يكمل الناموس، فهل
أن المسيح (عليه السلام) لم يكن يدرك معنى
كمال الناموس؟
لقد بيّن أحمد شلبي في بحثه عن المسيحية «أن
بولس كان له دوره في نقل المسيحية من دين خاص
باليهود إلى دين عالمي» [60]
. وهذه العالمية الخاصة بالأنبياء كان قد
تقدّم الكلام فيما تعنيه في الزمان والمكان
والتاريخ والنبوة الخاصة. أما من حيث هي رحمة
للعالمين، فلم يأتِ أحد على ذكرها إلاّ في
سياق التبشير عن الأنبياء بها في تاريخ
الإنسان، لأنّ معنى العالمية، كما بينّا من
حيث هي رحمة، ليست مجرّد تعبير لفظي، وإنّما
هي فعل إلهي يختاره لعباده في ضوء ما أهّلوا
له وزوّدوا به من إمكانات عقلية ونفسية
وروحيّة للقيام بها. وإذا لم يكن الأمر كذلك،
فإنّ أحداً لم يشرح لنا الكيفية التي يمكن بها
ادّعاء العالمية، والإنسان قاصر في خلقه وهديه
عن أن يكون قادراً على القيام بها، وهذا ما لا
يتنافى مع ما ذكرته الأناجيل من أنّ عيسى
(عليه السلام) قال لهم: «فاذهبوا وتلمذوا جميع
الأمم وعمّدوهم باسم الأب والابن وروح القدس،
وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها
أنا معكم كل الأيّام إلى انقضاء الدهر». فهو
كلام ناطق بالدعوة، متقوّم بالبشارة إلاّ أنه
لا يفيد أن المسيحية ديانة عالمية، أو رسالة
نهائية، لأنّ المسيح (عليه السلام) لا يتناقض
مع حقيقة كمال الناموس، تماماً كما لا بدّ لنا
أن نتعلَّم معنى الدخول في الملكوت، وهذا ما
كشف عنه القرآن الكريم فيما تضمّنه من آيات عن
عيسى (عليه السلام) الذي بشّر بالنبي أحمد،
وأمر باتباعه تحقيقاً لعالمية الدعوة،
وتأكيداً على تجلّيات الرحمة، ذلك هو معنى أن
يكون الإنسان الرسالي عالمياً، أن يتحرّى
الناموس، ويتلمّس كمال الدين وتمام النعمة حتى
يكون وفياً لكرازة عيسى (عليه السلام) ولكل
مَن سبقه من الأنبياء العظام.
إذن، ليس التبشير هو الذي يؤكّد العالمية
للرسالة، أو الذي يعطيها أبعادها في الزمان
والمكان والتاريخ، باعتبار أن الرسالة شأن
إلهي، والرحمة الإلهية كامنة في الرسول
والرسالة معاً، ولا بدّ أن يلحظ الحوار الديني
والدعوة إلى الله هذا المعنى الجامع لتاريخ
الأديان، والذي جعل من الرسالة الإسلامية،
رسالة مهيمنة على كل الأديان، كما قال الله
تعالى: ﴿
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
﴾
[61]
. فإذا كان لا بدّ من التبشير في إطار الدعوة
الدينية، فإنّه يمكن لكل قوم أو أمّة، أو شعب
أن ينطلق في الحوار مبشّراً وداعياً إلى الله
تعالى دونما خوف أو وجل من تأثير هذه الدعوة،
باعتبار أن الدعوة شيء، وتحقّق العالمية شيء
آخر، ولكن شرط ذلك كلّه أن يكون مسبوقاً
بالاعتراف المتبادل بامتداد السلسلة النبوية
في تاريخ الإنسان، لأنّ أحداً لا يمكنه الحكم
عن الله تعالى والحدّ من قدرته المطلقة، بحيث
يستطيع أن يمنع من تجلّيات رحمته وكمالات
رسالته، فهو القائل عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ
الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ
﴾. وبما أنّ
هذا الدين قد دعا إلى الحوار والتلاقي
والتعايش، ومنع من الإكراه في الدين، وحتّم
الخسارة في الآخرة لمن ابتغى غير الإسلام
ديناً، فلم يبق أمام أهل الإيمان إلاّ أن
يتلاقوا ويتفاعلوا، سواء أكانوا هم من نطق بهم
القرآن، أم لم يكونوا، كما زعم بعض الباحثين
في الأديان بأن المسيحية اليوم ليست النصرانية
التي التقاها القرآن، أو أن المسيحيين اليوم
ليسوا المقصودين بأهل الكتاب، إلى غير ذلك مما
ادّعاه بعضهم، وزعم أنه يحول دون إقامة حوار
بنّاء بين المسيحيين والمسلمين، ويرى هؤلاء،
من جملة ما اقترحوه من حلول لإنجاح الحوار
ضرورة الإقرار بأنّ ما ورد في القرآن حول
إيمان أهل الكتاب النصارى لا يعبّر التعبير
الصحيح عن الإيمان المسيحي الذي يعتنقه
المسيحيون اليوم
[62] .
إنّ أحداً من المسلمين لا يذهب إلى القول بأنّ
من شروط العالمية، أو الحوار أن يكون ما جاء
في القرآن منطبقاً على النصارى فيما يذهبون
إليه، سواء في مجال الاعتقاد، أم في مجال شؤون
الحياة، وإذا كان النصراني الذي عاش في عهد
النبي محمد يختلف في بعض مفاهيمه وعقائده عن
النصراني في هذا العصر، فإنّ ذلك، لا يغيّر
شيئاً في القضيّة المطروحة، وهي الروحية التي
يوحي بها القرآن لأتباعه على أساس القيمة
الأخلاقية الروحية في تعاليم النصرانية، وفي
السلوك العملي المنفتح على الله تعالى
للقساوسة والرهبان
[63] .
ومما لا شكّ فيه أن هناك نصرانية قرآنية
يعتبرها القرآن جزءاً منه، وهذا ما تقدّم
الكلام فيه في الفصل الأول. أما النصرانية
التي رفضها القرآن، فهي سواء أكانت موجودة
اليوم، أم لم تكن موجودة، فقد أرشد القرآن إلى
طريقة التعامل معها، ويكفي أن نهتدي إلى فهم
القرآن في طريقة التعامل، والتفاعل مع أهل
الكتاب، أو مع غيرهم ممن لا يؤمنون به. فإذا
لم نهتدِ إلى المنهج، فإنّنا سنسقط في
الإيهامات والمصطلحات التي لا طائل منها، فلا
ينبغي أن ينفعل أحد الباحثين، أو يشترط لإنجاح
الحوار، طالما أنه يريد الحوار مع المسلمين،
وينشد أن تكون له عالمية مسيحية داعية في إطار
الدعوة إلى تحقيق الذات والمجتمع بالمسيحية.
فالإسلام يحترم حقوق الناس، ويدعو إلى التعامل
بالحسنى، ويمنع من التصارع في سبيل نجاح
الدعوة الحوارية.
ومن هنا نقول: إنّه إذا لم يهتدِ بعض الباحثين
إلى المنهجية القرآنية في ما يدعو إليه من
إيمان وتعامل وتعايش، فكيف يمكن لهؤلاء أن
يصدروا عن دعوة إيمانيّة يرون أن لها بعدها
العالمي، ويريدون أن يلحقوا العالم بها من
خلال التبشير؟ بل كيف لهم أن يميّزوا بين ما
ذهب إليه القرآن من تكفير لهؤلاء
[64] ، وبين ما خاطب
بها القرآن أهل مكّة، وعموم المسلمين، سواء
أكانوا مؤمنين، أم لم يكونوا كذلك؟؟
فإذا لم يستوعب هؤلاء معنى الكفر في دائرة
الرفض لأمر ما، أو لعقيدة ما في الحياة، فهل
يمكنهم أن يلحظوا معنى الكفر والإيمان في
الأناجيل مثلاً؟
إنّها أسئلة كثيرة يمكن أن نعرض لها في سياق
الدعوة إلى العالمية والتبشير، ويمكن لأهل
الإيمان أن يتابعوا الخطى في طريق الإيمان
لأجل أن يكون لهم معنى الإيمان، حيث تقدّم
الكلام أن الإيمان لا تاريخ له ولا زمان ولا
مكان، بل هو التاريخ وهو الزمان والمكان
والحياة. بل إنّه الإنسان بما هو إنسان ملتزم
ومنتمٍ إلى الله تعالى في صيرورة تحوّله
الإنساني ليكون إنساناً كادحاً إلى ربّه،
وكاملاً في رؤيته الإيمانية التي هي شرط كل
عالمية، لأن رسول الإسلام ، هذا الإنسان
الكامل، ولأنّ عيسى هذا الإنسان الكامل، قد
خصّهم الله تعالى بمعنى الرحمة لكونهم يشكّلون
امتداداً رسالياً يصل آخر الزمان بأوّله، كما
قال الله تعالى: ﴿
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
﴾
[65] .
وكيف كان، فإنّ من يذهب إلى ادّعاء العالمية
ويسلك سبيل التبشير إليها ظنّاً منه أن
العالمية هي مجرّد امتداد بشري في الجغرافيا
والتاريخ، هو مخطئ تماماً، لأنّ العالمية
الإسلامية، كما بينّا، هي عالمية رحمة وتحتاج
إلى صدق الدعوة، وإلى سلامة العقيدة، وإلى
تحكيم أمر الله تعالى في الحياة، الأمر الكامل
والنهائي حينما تكون هذه العالمية قابلة
للتحقق في مدى الإيمان، وليس في مدى الأزمان،
كما قال الله تعالى: ﴿
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...
﴾
[66] . فإذا كان لأهل الكتاب
أن يمتدّوا في الإيمان، فما عليهم إلاّ أن
يسمعوا لنداء الرحمة الإلهية، الذي كان ولا
يزال المسيح (عليه السلام) من تجلّياته، وهو
النداء ذاته الذي عبّر عنه الإسلام في عقيدته
وشريعته ونظامه الأخلاقي، وليس بعد الحق إلاّ
الضلال، فليكن التبشير لغة الإنسان إلى أخيه
الإنسان دون أن يغرب عن بال أحد من أهل
الإيمان أن هناك من البشر في التاريخ والزمان
مَن لا يؤمن بهم، ويذهب إلى خلاف ما يذهبون
إليه في الدعوة والتبشير، فإذا لم يكن التبشير
صادقاً، والإيمان خالصاً، فإنّ الصراع والقتال
سيكون بديلاً للعالمية الدينية، وسيتحوّل
الإنسان عن كونه عبداً لله ليكون مجرّد إنسان
ضلّ عن السبيل، تماماً كما حصل في تاريخ
الأديان حينما ظنّ الإنسان بنفسه خيراً وخرج
عن مألوف الحوار، وادّعى ما لم ينزل الله به
سلطاناً، وكانت النتيجة حوار الحرب والسلاح،
والتنازع، إلى غير ذلك مما يعدّ منافياً
للرحمة الإلهية التي جاء بها الأنبياء.
إنّ المطلوب من أهل الإيمان، برأينا، أن
يتجاوزوا لغة الألفاظ، وأن يستجيبوا لنداء
الفطرة الهاتف في داخلهم، ليعرفوا أنّ
العالمية ليست عملاً تبشيرياً، بقدر ما هي
التزام حقيقي بما جاء به الأنبياء وبلّغوه إلى
أقوامهم، ليمتدّوا به في الإنسانية كمقدّمة في
طريق الرحمة الإلهية، هذه الرحمة التي كانت
دائماً سبب خروج الإنسان من ظلمات نفسه إلى
نور ربّه، كما قال الله تعالى: ﴿
أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ
لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ...
﴾
[67] .
إنّ نور الله الذي جاء به الأنبياء، كما قال
عيسى (عليه السلام): «أنا نور العالم ومن
يتبعني لا يمشي في الظلام»، وكما قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة
العلم وعليٌّ بابها»، وهذا هو ختام معنى
العالمية أن علم الله تعالى هو في مدينة محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) بما تعنيه هذه
المدينة من استيعاب لحركة النبوّة، ومن امتداد
في التاريخ والزمان والحياة، ومن رحمة تجلّى
بها الإسلام، كما قال الله تعالى في خطاب
الإنسانية: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم
بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً
﴾
[68] ، وهنا نلحظ كيف أن
الخطاب جاء بلفظ يا أيها الناس، إذ لم يقل يا
أيها الذين آمنوا، كما جاء بلفظ البرهان لنبيّ
الرحمة، والنور للقرآن ليؤكّد على امتداد
النور في معنى الإيمان الذي نطق به الأنبياء
العظام من آدم إلى نبيّ الإسلام العظيم (صلى
الله عليه وآله وسلم).
دأب المشتغلون في الحوار الإسلامي المسيحي،
وفي علم مقارنة الأديان، على التركيز
والاهتمام بالحوار من منطلق أنه مسألة دينية
ذات بُعد جوهري في حياة المؤمنين. وقد أخذ بعض
الباحثين على كثير من المثقفين وأهل السياسة
والفكر إهمالهم وتجنّبهم للحوار وعدم اكتراثهم
لما يحدث في العالمين الإسلامي والمسيحي من
مؤتمرات وندوات لجعل الحوار مادة حياة وأكثر
فعّالية في أوساط المؤمنين، سواء أكانوا
مسيحيين أو مسلمين. وهنا تجدر الإشارة إلى
حقيقة ملحوظة وبارزة لدى مَن يعمل للحوار، وهي
أن أكثر المشتغلين في الحوار وعليه، قد أساؤوا
له وحوّلوه إلى مادة تجاذب في السياسة يأخذ
بها هذا الطرف أو ذاك في ضوء مصالحه ومشروعه
الخاص، أو لتدعيم رؤية خاصة في المجال الديني،
أو السياسي بحسب ما يكون عليه الحال من هدوء
واضطراب في الواقع الإنساني. ولعلّنا لا نسيء
إلى أحد إذا قلنا أن أكثر إخفاقات الحوار
والتحاور قد تجلّت في اعتبار البُعد التاريخي
والسياسي للحوار دون التعمق في مدلولات
النظرية الدينية، سواء أكانت إسلامية، أو
مسيحية لإبراز المعنى الديني وما يحكم به هذا
المعنى في حياة المؤمنين.
إنّ التقديم النظري لهذا المبحث، إنّما يهدف
إلى إبراز أصالة الحوار والبُعد الديني كما
جاءت به الرسالات المقدّسة، وما لحظته هذه
الرسالات من حقائق في التكوين والتشريع معاً.
فإذا استطاع الباحثون إدراك هذه الحقائق،
والكشف عنها، فإنّ ذلك من شأنه أن يمكنهم من
التأسيس لمنطلق حواري هادف وناجح من خلال
إعطاء الحوار بُعده الديني، كما جاءت به
الرسالات، دونما اعتبار للتجارب التاريخية
التي غالباً ما كانت تشوّه الرؤية عند
المتحاورين، باعتبار أن التجربة لم تحمل خصائص
النظرية فيما عبّرت عنه، كما أنها لم تكن
تُضفي الطابع الإنساني والإيماني على الواقع،
بل كانت تتجاوز ذلك إلى كثير من التعبيرات
الشخصانية الخاصة بهذا الفريق أو ذاك، فضلاً
عمّا كانت التجارب محكومة له من أنانيات
وعصبيات قاتلة باسم الدين والإنسانية...!؟
من هنا، نرى أهمية لانطلاق المتحاورين في ما
جاءت به الرسالة المقدّسة، ونطقت به من أحكام
وتعاليم ثابتة ومعبّرة عن جوهر الإيمان،
ولعلّها في أكثر ما جاءت به واضحة وكاشفة ولا
تحتاج إلى كبير عناء كي يتمكّن الإنسان من
إدراك حقائقها والتعبير عنها، خلافاً لما يجري
عليه البعض من تعمّق في المفردات والمقارنات
والمقاربات لتحوير النص، أو تشويهه وفاقاً
لرؤية خاصة يرى أنها تخدمه فيما يعبّر عنه
ويريده لواقعه ومشروعه في مقابل رؤية أخرى
مخالفة له، وقد شهدنا الكثير ولا زلنا نشهد
الكثير من المناظرات والندوات والمؤتمرات،
التي تعقد حول الحوار والإيمان وضرورة
استمراره في أجواء المناكفة والتثبت بالرأي
والرأي المضاد. وكأنّ المطلوب هو مجرّد الحديث
والتحاور وإظهار القدرة الفكرية والعلمية في
تناول النصوص وشرحها، وهذا ما لا نرى فائدة
منه فيما لو كان المبتغى هو تعزيز الروح
الإيمانية الباعثة على هذا الحوار، وإبرازه
بالشكل الذي يؤدّى به إلى أن يكون حواراً
إيمانياً فاعلاً وممتدّاً في الزمان والمكان
الإنساني، وقد روي عن الصادق (عليه السلام)
أنه قال: «إنّ مَن يطلب الحديث عن اليهود
والنصارى ليعزّز علمه ويُكثر به حديثه، فهو
ممن لا يؤتمن لا على دين، ولا على دنيا... وهو
في الدرك الأسفل من النار»
[69]
.
إنّ فهم النظرية الدينية، واستيعاب ما جاءت به
في أصولها الكبرى، وعبّرت عنه من حقائق في
التكوين والتشريع، إضافة إلى ما أصّلت له هذه
الرسالات المقدّسة من حوار تعاون وتفاعل بين
أهل الإيمان من جهة، وبينهم وبين غير المؤمنين
من جهة أخرى، إنّ فهم ذلك كلّه من شأنه أن
ينير للإنسان طريق الحوار، وأن يهديه إلى
السبل الكفيلة بتحقيق الغاية من وجوده وتفاعله
وتحاوره... وتأسيساً على هذا كلّه يمكن الحديث
عمّا تضمنته الرسالات الدينية من حقائق، وفيما
أصّلت له في العقيدة والشريعة والأخلاق
[70] ..
من الحقائق الكبرى في عالم التكوين، هو ما
أرشدت إليه الكتب المقدّسة وعبّرت عنه في مجال
الخلق والإبداع، حيث التنوّع والتعدّد
والاختلاف في كل ما خلقه الله تعالى، سواء في
عالم النبات، أو في عالم الحيوان، أو في عالم
الإنسان، فالله تعالى شاء أن تكون الموجودات
والكائنات على ما هي عليه من الصنعة والإبداع
والتنوع والاختلاف، ولو شاء الله تعالى لجعل
الناس أمّة واحدة، كما قال الله تعالى: ﴿
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً
﴾
[71] ، فالكل منه، والكلّ
إليه يرجع، وهذا ما عبّرت عنه الوثيقة التي
أصدرها المجمع الفاتيكاني عام 1965م، والتي
أشارت إلى أنّ البشر هم أسرة واحدة أصلها الله
الواحد وغايتها الله الواحد نفسه، فهم جميعاً
من أصل واحد... ولهم جميعاً غاية قصوى واحدة
وهي الله تعالى...»
[72] .
إنّ العالم ما كان ليستقرّ إلاّ على ما جعله
الله تعالى من تعدّد وتنوّع واختلاف، وكما
يقول السيد مرتضى الشيرازي: «إنّ هذا التنوّع
في عالم الموجودات المادي ما خفي منها وما
ظهر، سيجعلنا ننتقل بالفكر إلى التنوّع
الموجود في ميول البشر وفي اعتقاداتهم
واتجاهاتهم، وليس خصوص تنوّعهم المادي في
أشكالهم ولغاتهم وأمزجتهم... فهذا التنوّع هو
أحد مظاهر الوجود البشري منذ العهود الأولى
للجنس البشري على هذه الأرض، ولم يأتِ وقت على
النوع الإنساني لم يكن مختلفاً أو متنوعاً في
اعتقاداته الدينية والسياسية...»
[73] .
فالتنوّع في عالم الوجود هو من الحقائق
الثابتة، وكل موجود على هذه الأرض ينطق بهذه
الحقيقة ويعبّر عنها ويتعايش معها، وهذا ما
كشفت عنه تعاليم الأنبياء والرسل، بدءاً من
النبي آدم (عليه السلام) وانتهاءً بالرسول
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جاء
بقوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
﴾
[74] .
إنّ مقاربةً للحوار في مجال هذه الحقيقة
الوجوديّة، لا بدّ أن تؤسّس لرؤية كاشفة في
مجال التفاعل والتحاور والتعارف بين البشر إلى
أي دين انتموا، وفي أي زمان كانوا، فهم من أصل
مادي واحد، ومن روح واحدة، أسكنوا هذه الأرض
لتكون لهم غاية واحدة هي الله تعالى، وقد بُعث
الأنبياء والرسل للناس ليرشدوهم إلى حقائق هذا
الكون، بحيث ينطلقوا منها ويعملوا وفاقاً لها
بعد إثارة دفائن عقولهم، وأداء التبليغ
إليهم..»
[75] .
فالنبوّة في كل زمان ومكان كانت تضطلع بهذه
المهمّة، وتقوم بهذا الدور لتحقق للإنسان ما
يكفيه لإثارة طريقه وإرشاده إلى سبل كماله.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لم تأتِ رسالة، ولم
يبعث رسول في حياة البشرية إلاّ وتؤكّد هذه
الحقيقة وتظهرها ليعرف الإنسان أن تعدّده
وتنوّعه واختلافه إنّما هو شرط أساسي في نهوض
البشرية، وفي تحقيق كمالاتها الإنسانية.
وانطلاقاً من ذلك، نرى أنّه لا بدّ للحوار من
أن ينطلق من حقيقة التنوع والاختلاف في عالم
الإنسان، وهو اختلاف مبرّر ومشروع في ضوء ما
تنطق به حقائق التكوين والتشريع، ولعلّ من
أكثر الأسئلة إلحاحاً عند الباحثين. كان
السؤال التالي: هل هذا التنوّع في باب
الاعتقادات، هل ينسجم مع طبيعة الخلق
الإنساني؟ هل ينسجم مع أهداف وغايات الخلق، أو
أنه ينسجم مع هذه الأهداف وهذه الغايات؟ والحق
هو أننا إذا قارنّا هذه الظاهرة في تنوّع
البشر الاعتقادي، وتعدّد البشر الاعتقادي، مع
ظاهرة التنوّع والتعدّد الشاملة لكل مظاهر
الخلق المادي في جميع الأكوان، فينبغي أن
نراها ظاهرة طبيعية تنسجم مع أهداف الخلق،
وأهداف الوجود في هذا العالم
[76] ..
فلو لم يكن العالم الإنساني متنوعاً ومتعدداً
لما قال القرآن تعارفوا، أو تعاونوا، أو غير
ذلك مما جاءت به الآيات القرآنية من تأكيد على
حقيقة التنوّع والتعدّد في هذا العالم. ولهذا،
فإنّ معنى أن يتنوّع الإنسان في عقيدته
وشريعته وثقافاته، أو أن يختلف في رؤيته، أن
يتحوّل الإنسان في صيرورته الإيمانية، وأن
يتحاور وفاقاً لهذه الحقيقة التي جعلها الله
تعالى ماثلة أمامه في كل ما خلق الله تعالى،
بحيث يكون للإنسان القدرة والقناعة الكافية
على استيعاب هذا التنوّع والتحوّل بمقتضاه
للوصول إلى الغاية المرجوّة، وهذا هو سرّ
تدرّج الرسالات وتواصلها وتوحدها في الأصول،
بحيث يفهم الإنسان المؤمن وغير المؤمن أن
التعدّد، أو التنوّع ليس في الأصول التي هي
واحدة، وإنّما هو في صيرورة التحوّل الإنساني
الهادف إلى تحقيق الكمال والفوز بالرضوان
الإلهي. ولعلّ ما أشار إليه سيّد قطب كاشف عن
هذه الحقيقة في تفسير قوله تعالى: ﴿
مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ
﴾
[77] ، فهو يقول: إنّ الكتاب
يصدّق ما بين يديه من الديانات التي سبقته
وامتدّت إلى زمانه، يصدّقها في أصولها، فهو
صورة من صور الحق التي جاء بها الرسل مناسبة
لزمانهم، وكلما تغيّرت الحاجة جاء طور من
الديانة جديد يتفق في أصله ويختلف في فروعه
تدرّجاً مع الحاجات. مع تصديق اللاحق للسابق
في أصل الوحدانية الكبير
[78] ...
إنّ مقاربة الحوار في ضوء هذه الحقيقة، حقيقة
التنوّع واستيعابها في ضوء الأصول الكبرى
للإيمان، هذه المقاربة من شأنها أن تجعل
الإنسان قادراً على الخروج من موقعه الإيماني
الخاص ليكون أمام حقيقته وسرّ وجوده واستخلافه
ووحدة أصوله المادية والمعنوية، إذ هو عبد لله
تعالى في كلّ تنوّعاته واعتباراته الإيمانية
والإنسانية. ولا بدّ أن يسلك طريقه إلى الله
تعالى بحسب ما يحققه من انتماء والتزام في
صيرورة تحوّلاته وعباداته. إنّه إنسان واحد في
روحه، وغايته الوصول إلى الله تعالى، باعتباره
عبداً له إلى أيّ دين انتمى، كما قال الله
تعالى: ﴿
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ
﴾
[79] .
وهكذا، فإنّ الانطلاق من حقيقة التنوّع في
العقيدة والثقافة ومجال الرؤية، لا يشكّل
حائلاً أمام تواصل الإنسان، وإنّما هو طريق
إلى الله تعالى، ومن شأن الحوار والتعارف
والتعاون أن يُغني هذا التواصل، وأن يجعله
أكثر مثالية وإنسانية فيما لو اعتبر في أصوله
وجاء في سياقاته بعيداً عن الاستغراق في
التنوّع والتعدّد، وكذلك بعيداً عن الانغماس
في التجربة التاريخية وما زخرت به من أحداث لا
تمتّ إلى الإيمان بصلة. باعتبار أن الحوار له
أصوله ومنطلقاته الوجودية والإيمانية التي
تفرض على الإنسان مراعاتها والانطلاق منها في
فهم الآخر والتعامل معه. فإذا لم تلحظ هذه
المنطلقات والحقائق فيما أراده الله للإنسان
في تنوّعه وتعدّده، واستقلّ الإنسان عن حقيقة
التواصل الإيماني فيما تعنيه من عبودية، واتخذ
لنفسه حيّزاً آخر بعيداً عن حقائق الخلق
والتكوين وما تهدف إليه، فإنّ ذلك كلّه من
شأنه أن يجعل الإنسان أسيراً للتعصّب والهوى،
ونقيضاً للإنسانية فيما قد يختاره لنفسه من
تمايز في الخلق والتكوين والتشريع، هذا فضلاً
عمّا يمكن أن تؤول إليه حالة الإنسان من تصادم
على مستوى الرؤية الإيمانية، بحيث يكون له من
ذلك تحوّلاته الخاصة وديانته الخاصة، التي
تبعده عن كونه عبداً ليكون إلهاً!؟
ثم إنه إذا استحال على الإنسان أن يكون
متواصلاً مع أهل إيمانه، فكيف يكون له التواصل
مع أقوام وشعوب أخرى لا تعترف له بأصوله
وفروعه، وتتنكّر لعبوديّته، وترى لنفسها ما لا
تراه لأهل الإيمان ممن ينتمون إلى الديانة
الإبراهيمية؟
إنّ مقتضى الإيمان بالله تعالى، وسلوك الطريق
إليه أن يتحوّل الإنسان في عبوديته ليكون
عبداً لله تعالى، وليس لما يختاره لنفسه،
ويراه لها من حق وتمايز في التكوين والتشريع.
كما أن مقتضى الإيمان أن يتواصل الإنسان مع
أخيه الإنسان، وأن يتحاور معه من منطلق كونه
إنساناً وعبداً لله تعالى، فلا يستقلّ بإيمانه
وإنسانيته عن الآخرين، ولا تستغرقه عبادته عن
الهدف الأقصى الذي يسعى إليه، وهذا هو معنى
الإنسانية في دائرة العبودية أن يكون له ما
للآخرين من بني نوعه، وأن يكون الله تعالى هو
الغاية القصوى، فإذا ما استوى الإنسان على هذا
المعنى، وتحقق بهذه العبادة، فلا يُبقي لنفسه
تمايزاً، ولا تأخذه العزّة بالإثم، وينظر إلى
الآخرين نظرة الإنسانية، التي عبّر عنها
الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله
لمالك الأشتر: «الناس صنفان إمّا أخ لك في
الدين، أو نظير لك في الخلق»
[80] .
كما نعود للقول بأن الاستغراق في التاريخ
والجغرافيا والأحداث لا يجدي نفعاً فيما لو
كان المراد هو تحقيق حوار بنّاء وفاعل، لأنّ
التاريخ والتجربة وما صنعه التاريخ والأباطرة
والطواغيت، لم ولن يشكّل مجالاً للحوار، وهو
إن شكّل مجالاً لشيء، فإنّه يشكّل مجالاً
للحرب بين أهل الإيمان. إنّ أقصى ما يمكن أن
تشكّله التجارب التاريخية هو إسقاط الوصفية
والحزبية والتعصّب الأعمى، الذي يحول بين
الإنسان وبين أن تكون له عبوديّته الحقّة
وإيمانه السليم ورؤيته الإنسانية. ومن هنا،
نرى أنه لا معنى لأن نحتكم لشيء من ذلك، لا
للتاريخ ولا للسياسة في مقاربة موضوع الحوار
لما قد يُفضي إليه ذلك من استغراق في التعبير
والتأويل للأسفار والآيات وسائر النصوص
المقدّسة، التي تحوّلت مع التاريخ والأحداث
والتجارب، لتكون منابر حرب بين المؤمنين تحت
شعارات وعناوين شتّى، تارة تحت شعارات
المسيحية هي كلمة الله الأخيرة للإنسان،
وطوراً تحت شعارات التعرّض للإسلام أنه ليس
ديناً موحى به من السماء، ولعلّ من أغرب ما
قرأناه في هذا السياق هو تساؤل بعض الباحثين
عمّا إذا كانت المسيحية التي يعرض لها القرآن
ويتحدّث عنها هي ذاتها المسيحية الموجودة
اليوم، سعياً منه لإخراج المسيحية من أجواء
الحوار أو النقد القرآني
[81]
!!.
إنّ هذا التساؤل لا يمكن فهمه في سياق الرؤية
المتكاملة لمعنى الرسالة المقدّسة في حياة
الإنسان، وخصوصاً في ظلّ ما ذهب إليه صاحب
التساؤل من أن إله المسيحية والإسلام ليس إله
الفلاسفة الذي خلق الكون وتركه وشأنه، بل هو
الإله الذي كلّم الناس بالأنبياء»
[82] ، فهذا القول يؤكّد
معنى التواصل والتكامل، ويتعارض مع تساؤله،
ولو أنّه سلك مسلكنا في البحث لما ساقه
التساؤل إلى مثل هذه الرؤية الفكرية، ولما كان
استقرّ به الحال عند تفاصيل معنى الرسالة،
ولكان اقتصر على معنى الإنسان في تنوّعه
واختلافه وكدحه في مجال العبوديّة والطاعة لله
تعالى في كل زمان ومكان، طالما أن الله تعالى
لم يترك عباده لشؤونهم واستمرّ في تكليمهم
بالأنبياء، كما قال الله تعالى: ﴿
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ
وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ
عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ
﴾
[83] .
جاء في إنجيل يوحنّا أن عيسى قال: «إذا كنتم
تحبّوني، حفظتم وصاياي، وأنا سأسأل الآب فيهب
لكم مؤيِّداً آخرَ فيكون معكم إلى الأبد...»
[84] وهذا الكلام الإنجيلي
يدلّل بوضوح على تواصل الأديان بالأنبياء،
وهذا ظاهرٌ فيما تفيده دلالة السياق، وخصوصاً
إذا ما أضفنا إلى هذا الكلام ما ذكره يوحنّا
من كلام آخر لعيسى (عليه السلام)، إذ يؤكّد
فيه أنّ هناك أشياءً كثيرة لم يذكرها لعجز
قومه عن حملها، قال عيسى (عليه السلام): «لا
يزال عندي أشياء كثيرة أقولها لكم، ولكنكم لا
تطيقون حملها، فمتى جاء هو، أي روح الحق،
أرشدكم إلى الحقّ كلّه، لأنه لا يتكلّم من
عنده بل يتكلّم بما يسمع...»
[85] . فالكلام ظاهر الدلالة، مفهوماً
ومنطوقاً، على حوار العقيدة وتواصل الأنبياء
في التاريخ الديني. ومهما حاول بعض الباحثين
أن يؤوّل هذا الكلام ليخرجه عن مدلوله
الحقيقي، فإنّه لن يفلح في ذلك، لكون الكلام
واضحٌ فيما يهدف إليه، سواء في معنى «إلى
الأبد»، أم في معنى «أرشدَكم إلى الحق كله».
وانطلاقاً من هذا الكلام الإنجيلي نستطيع
القول بأنّ الرسالات السماوية وكل الأنبياء
والرسل والأوصياء، قد ركّزوا على الكدح إلى
الله تعالى في تواصل مناهجهم وشرائعهم في مطلق
الزمن، كلٌّ من موقعه ورسالته، وفي ضوء ما
استقرّت عليه حالة الإيمان لدى كلّ شعب أو أمة
من هداية وعبادة، على أساس أنّ الله تعالى هو
الربّ الوحيد للإنسان، وهو الذي كلّم الإنسان
وهداه إلى سبيله فيما أوحى به إليه من تعاليم
وأحكام، كانت ولا تزال تشكّل أساساً لتأهيل
الإنسان كي يكون عبداً مطيعاً لله تعالى، هذا
فضلاً عمّا تنطوي عليه هذه التعاليم من دعوة
لتأدية فروض الإجلال لله تعالى، بحيث لا تنقطع
به السبل عند حدود الترنيمات، ولا تحول بينه
وبين ربّه التأويلات، بل يستمرّ في كدحه
لملاقاة الله تعالى، وهذا كله يمكن الاهتداء
إليه بالفطرة الإنسانية الواحدة التي فطر
الإنسان عليها، كما قال الله تعالى: ﴿
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
﴾
[86] .
فإذا كانت الفطرة واحدة، وأحكام الله تعالى
ووصاياه قد خرجت إلى النور والبرهان والدليل
بالأنبياء. وإذا كانت هذه الفطرة دائمة
الشهادة لله تعالى، فما معنى أن يستقل الإنسان
بنفسه عن سائر بني نوعه ليكون له امتيازه
الخاص وهدايته الخاصة وديانته الخاصة! فالدين
واحد والإنسان واحد، كما هو أصل النوع واحد،
سواء في الخلق من الطين
[87] ، أو فيما يتمتع
به الإنسان من وعي وإدراك عقلي ونفس ناطقة
[88] ، فهذا كلّه
يؤكّد حتمية التواصل الإنساني والرسالي في
الحياة الإنسانية، وفي جوّ التعارف الهادف إلى
بلوغ الكمال ...
أما أن يستقلّ الإنسان بنفسه متجاوزاً لحقائق
التكوين والتشريع، وكل ما خلقه الله عليه
ولأجله، فذلك مما يجعل الإنسان أسير شهوته
وغريزته وتجربته الخاصة وحواره الخاص، الذي
غالباً ما يحول بينه وبين أن يكون متواصلاً مع
أخيه الإنسان، سواء أكان مؤمناً، أم لم يكن.
إنّ مقاربة الحوار في هذا المجال يمكن أن تكون
مفيدة وناجحة لما يمكن أن تؤدّي إليه من تلاقٍ
وتعارف وتكامل بين البشر، لأنّ الإنسان أخُو
الإنسان، يتفاعل معه، ويعترف به من منطلق
عبوديّته لله، واستمرار الهداية له من الله
تعالى.
فالمسلم والمسيحي هما على طريق واحدة، ويسيران
لغاية واحدة، وإن بطرق متعدّدة، ولكنها في
النهاية تؤدّي بالإنسان إلى الله تعالى، فإذا
ما أدرك المؤمنون هذه الحقيقة، وانطلقوا منها
في صناعة الحوار، فإنّهم بذلك يستطيعون الوصول
إلى ما هو مشترك بين أهل الإيمان، وإن اختلفت
شرائعهم ومناهجهم في الحياة. فالتعدّد
والاختلاف هو طريق إلى التوحّد. وليس سبباً
للانفصال وعدم التلاقي، كما يحاول البعض أن
يفسّر معنى التدرّج والتواصل في الحياة
الإيمانية. فالديانات المقدّسة تواصلت في
الحياة، وامتدّت في صنع النفس الإنسانية ليكون
لها تعبيرها الصادق وحوارها الفاعل والبنّاء
في طور ما تنتقل به من رؤى ومنهجيات، كما أراد
الله تعالى في قوله تعالى: ﴿
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً
﴾
[89] . وهذا دليل على أن
اختلاف الشرائع والمناهج، لا يمكن أن يكون
متعارضاً مع الجعل الإلهي للشعوب والقبائل،
وإنّما هو كاشف عن معنى التواصل في الحياة
والامتداد فيها وصولاً إلى الحقيقة التي يسعى
إليها جميع المؤمنين إلى أي دين انتموا، وفي
أي زمان وجدوا. فهم أهل الإيمان والتواصل
والتعارف. وإذا كان هناك من سبيل للتفاضل بين
البشر، فهذا السبيل هو السلوك الإنساني،
والتميّز بالتقوى، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
﴾
[90] .
إنّ التعدّدية في الوجود هي سنّة من سنن الله
الكونية، وفلسفتها لا تقوم على أساس أن تكون
مجرّد تعدّدية، وإنّما على أساس أنها طريق إلى
التوحد والتكامل وتحقيق الخير المطلق، كما قال
الله تعالى: ﴿
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ
﴾
[91] ، وكذلك قوله تعالى: ﴿
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ
﴾
[92] ، يقول مرتضى الشيرازي:
«إنّ التنافس أو الاستباق هو جوهر التعددية،
إذ لا يُعقل أن يتنافس الشيء مع ذاته، أو أن
يتسابق الإنسان مع نفسه دون تعددية حقيقية أو
اعتبارية، والأمر بالمعلول هو آمر بالعلة
بدلالة الافتضاء»
[93] .
مما تقدّم، نرى أنه إذا كانت التعددية متحققة
في الوجود، فذلك إنّما كان لهدف أن يتنافس
البشر باتجاه التكامل والتلاقي مع الله تعالى،
باعتبار أن الهدف الأقصى هو الله لكل موجود،
ما يعني ضرورة عدم الاستغراق في التعددية،
بحيث تتحول إلى مجرّد سور، أو عازل بين البشر،
فإذا كانت الشرائع والأديان السماوية قد لحظت
هذا الجانب، واعتبرته إلى حدّ جعله سبيلاً
للتلاقي مع الله تعالى. كما قال تعالى: ﴿
وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
﴾
[94] . فهذا الاعتبار إنّما
جاء بلحاظ أن يتسابق الناس للوصول إلى هدف
أقصى هو الله تعالى، ولم يأتِ بلحاظ مجرّد
التسابق كما تحاول بعض الديانات، التي تتسابق
لمجرّد التسابق دونما اعتبار لحقيقة وجوهر
التعددية في الوجود.
وهكذا، فإنّ أهل الإيمان الذين توحّدهم الأصول
الإيمانية ينبغي عليهم أن يتواصلوا، وأن
يتسابقوا لا كلّ في دائرته، وإنما مع الآخرين
ممن ينتمون إلى دوائر أخرى، بحيث ينتهي
التسابق بينهم الى الهدف المنشود، وهذا يقتضي
من أهل الإيمان أن لا يقفلوا أبواب الحوار
والمجادلة بالتي هي أحسن ليتحقق لهم كمال
الكدح إلى الله تعالى وملاقاته، فلا يقف
اليهودي عند حدود يهوديته، والمسيحي عند
مسيحيته، ولا المسلم عند إسلامه لمجرّد أنه
ينتمي إلى هذا الدين ويعبر عنه، بل يتواصل
الجميع بإيمان مطلق بأن الله هو مصدر
الرسالات، ويريد لهم أن يتكاملوا فيما جعل لهم
من مناهج وشرائع، بحيث يدركون أن الهدف من
تواتر الرسل والأنبياء ليس إحداث التصادم
بينهم، وإنما تحقيق التواصل، وتعزيز فرص
الإدراك العقلي لما يأتي به الأنبياء، باعتبار
أن الله تعالى أعلم بشؤون خلقه، وبما يصلح
حالهم وبالهم في خضمّ التحوّلات العقلية
والنفسية. وعلى هذا، فإنّ معنى أن لا نفرّق
بين رسل الله تعالى، أن يعي الإنسان حقيقة
المرحلية في ما جاء به الرسل والأنبياء
لموافقة كل مرحلة، بحيث تراعي الحالات العقلية
والنفسية للإنسان، وعليه، فإنّه يصحّ القول
بأنّ الأديان الأولى خاطبت الحسّ يوم كانت
الإنسانية في طور الطفولة... فلمّا سار ركب
الإنسانية، وجرّبت وكسبت، وتخالفت واتفقت،
ونما بها الوجدان، وبدت العواطف، جاء دين
يتحدث عن الزهادة وعن الصفاء وملكوت الله.
ولكن الإنسانية في صراعها لم تستطع أن تعيش
على الإيثار،. ولم يطل مقامها في الصفاء،
فراحت تتعارك، وحلّت القطيعة محلّ التراحم،
والتخاصم مكان المسالمة، فجاء دين ينظّم
الشؤون كلها، ويرعى الحسّ والعاطفة، ويدرس
العقل والقلب، وينظّم شؤون الناس في دينهم
ودنياهم»
[95] .
وهكذا، فإنّ معنى تواصل أهل الإيمان واستمرار
الحوار فيما بينهم، أن يكون منطلق الحوار
وموضوعه الإيمان بكل الرسالات السماوية
والاعتراف بها، لأنه لا يمكن التنكّر لحقيقة
التعددية، كما لا يمكن التنكّر لحقيقة تواتر
الرسل. وهذا أمر يجدر التوقف عنده والاعتبار
له، كونه شأناً إلهياً، وليس على الإنسان أن
يشكّ في مصدريّة أي رسالة سماوية، وخصوصاً أن
هذا الإنسان قد سبق أن اعتبر نفسه امتداداً
فيما ينتمي إليه من دين لدين سابق عليه. وإذا
كان دين الإسلام قد استوعب الديانات السابقة،
وتوجّه إلى كثير من أحكامها وتعاليمها بالنقد،
فقد سبق لكلّ ديانة، وخاصة للمسيحية، أن
توجّهت بالنقد لكثير من الأحكام اليهودية التي
حرّفها اليهود واعتبروها من التوراة، وهي ليست
من التوراة في شيء وخاصة فيما زعمه اليهود
لأنفسهم من امتيازات في الدين والدنيا!؟
إنّ مقتضى الإيمان هو هذا، أن يؤمن الإنسان
الرسالي بأن الله هو مصدر كل شيء، وأن يتحوّل
وفاقاً لمنهجه وشريعته في الحياة، وأن يتسابق
بالخيرات، على أن يكون منطلق التحوّل والتسابق
في الحياة، كما أسلفنا، الاعتراف بالإنسان وما
له من منهج ورؤية ورسالة يعبّر بها عن نفسه،
تماماً كما اعترف الإنسان بحقائق التكوين
والتشريع معاً، والتي عبّرت عنها جميع الأديان
السماوية، باعتبارها حقائق قائمة وماثلة
للعيان
[96] ...
وبما أن الإسلام مصدره الله تعالى، فإنّ هذا
الدين يشكّل تتويجاً لحركة التواصل بين البشر،
وهو لم يتنكّر لأية حقيقة من الحقائق الدينية،
باعتباره صورة من صور الحق التي جاء بها الرسل
مناسبة لزمان الإنسان ومكانه وسائر تحولاته.
وانطلاقاً من ذلك، نرى أنّه لا معنى لأن
يتنكّر الإنسان اليهودي أو المسيحي، أو غيرهم
لما أراده الله تعالى لخلقه من أمر ونهي،
لكونه ينطوي على مزيد من التفاصيل المناسبة
لحركة الإنسان، إضافة إلى مركزيّة حقيقة
التوحيد، هذا الدين الذي عبّر عنه جميع
الأنبياء في كل زمان، وهذا ما تعترف به سائر
الديانات، وقد نطق القرآن الكريم بهذه الحقيقة
باعتبارها أمّ الحقائق وأصل الأصول في كل
ديانة، وإذا كان الإسلام قد دعا أهل الكتاب
إلى شيء، فإنّه دعاهم إلى التوحيد، كما قال
الله تعالى: ﴿
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى
كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ...
﴾
[97] .
ولا شكّ في أنّ هذه الدعوة تشكّل تتمّة لكل
الرسالات السماوية، وتنطق بها، وقد نطق بها
الرسل والأنبياء في هداية أقوامهم، كما قال
الله تعالى: ﴿
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا
لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
﴾
[98] . وإذا كان الأمر كذلك،
فلا معنى لأن نتنكّر لدعوة القرآن، طالما أنها
دعوة كل الرسالات السماوية، ولا بدّ أن ينطلق
الحوار في ضوء ذلك بهدف تحقيق التواصل
والتسابق باتجاه الله تعالى.
رأينا في ما سبق أن التعددية هي من الحقائق
الكبرى في عالم الوجود، وهي إنّما وجدت بهدف
تحقيق التكامل، الذي هو معلول للاستباق فيما
عبّرت عنه آية ﴿
فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ
﴾
[99] . هذا فضلاً عن كون
التعددية، إضافة إلى ما تعنيه وتهدف إليه من
تحقيق للكمال البشري، لها فلسفة تقوم على
الابتلاء والامتحان، كما قال الله تعالى: ﴿
وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
﴾
[100] .
بيد أنّ ما جاء في معنى التعددية لا بدّ أن
يكون له أثر في المجال التشريعي والأخلاقي،
باعتبار أن التشريعات تواترت وتوافقت مع
التكوين لاستحالة أن يكون التشريع الإلهي
مخالفاً لما كوِّن عليه البشر وجعلوا عليه من
شعوب وقبائل، إضافة إلى الشرائع والمناهج، كما
قال الله تعالى: ﴿
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً
﴾
[101] ، وكذلك قوله تعالى:
﴿
لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ
نَاسِكُوهُ
﴾
[102] ، إلى غير ذلك من
الآيات التي تتضمّن معنى التعددية، وتعتبرها
استجابة حقيقية لنداء الفطرة والوجدان، وسنّة
إلهيّة في الكون والحياة.
ومن التعددية ذاتها، يمكن مقاربة موضوع الحوار
في المجال التشريعي والأخلاقي، حيث نجد أن
الإنسان المؤمن يلتزم بما شرّعه الله تعالى من
أحكام وتعاليم ووصايا أخلاقية، لكنه مع ذلك
نجده يخطئ في توصيف وتشخيص حالات التحوّل
الإيماني، ويحصر ذاته في بوتقة خاصة على قاعدة
أن الإيمان شيء والعقل شيء آخر، ساهياً عن
معنى ودور العقل في تقبّل الحقائق الإيمانية
التي منها الإيمان بالله خالق الكون والإنسان،
والاعتقاد باستمرار تدبيره وتربيته للإنسان
ورعايته الدائمة له. وهذا ما عبّر عنه أهل
الإيمان بقولهم: إنّ إله المؤمنين ليس كإله
الفلاسفة يخلق العالم ويتركه وشأنه، بل هو
الإله الذي كلّم الناس بالأنبياء، فأخرجهم من
الظلمات إلى النور، ومن الفطرة إلى البرهان
[103] .
ومن هذا المنطلق، نرى أن مقاربة الحوار في
مجال التشريع لا بدّ أن تلحظ معنى التعددية
باعتبارها مبدءاً لفهم وتعقّل أهداف الخلق
والتكوين، إضافة إلى ما لها من دور في فهم
حقائق التشريع، حيث إنّ هذه الحقائق، كما
أسلفنا، منسجمة مع حقائق التكوين ومتوافقة
معها، كما قال الله تعالى: ﴿
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ
﴾
[104] ، وظاهر الكلام ـ كما
يرى الطباطبائي ـ قد يُستفاد منه القبلة، أي
الوجهة التي يتّخذها الإنسان لنفسه، والمعنى
أنّ كل قوم لهم قبلة مشرّعة على حسب ما تقتضيه
مصالحهم، وقد يُراد بقوله تعالى: ﴿
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
﴾ المعنى
الشامل للجهات التكوينية والاختيارية، عاديّة
أو شرعية، فإنّ كل فرد من أفراد الإنسان يختلف
عن غيره بأمور وخصوصيات قد لا تكون فيها سواه
ولا يحيط بها إلاّ علاّم الغيوب فتشمل اختلاف
العادات والملكات والصفات والاختلاف في القبلة
والشريعة...»
[105] .
وهكذا، فإنّ معنى أن يختلف البشر فيما هم عليه
من شرائع ومناهج لا يمكن أن يكون مخالفاً
لسنّة الله تعالى في التكوين. وعلى هذا جرت
وتواترت الشرائع مع الأنبياء والرسل بحسب ما
أراد الله تعالى، وبما يتوافق مع سنن الكون
والحياة.
وتأسيساً على ذلك، نرى أن مقاربة الحوار
الإسلامي المسيحي في مجال الشريعة والأخلاق لا
بدّ أن يكون آتياً في سياق وعي شامل لحقائق
الوجود، إذ ليس الأمر متعلقاً بالمسيحية
والإسلام وحسب، وإنّما هو متعلق بما هو عليه
كل إنسان من دين وشريعة وأخلاق، وقد تكلّم
الله بالأنبياء على حدّ تعبير المسيحية، لأجل
أن يتدبّر هذا الإنسان أموره في كل زمان
ومكان، لأن الله تعالى لم يترك الإنسان هملاً،
وإنّما رعاه ودبّره وعلّمه، وحققه بكل ما من
شأنه أن يجعله على الصورة الإلهية التي خُلق
عليها، كما جاء في الحديث أن الإنسان خُلق كل
شيء لأجله، وقد جعله خليفة له وكرّمه واستخلفه
في الأرض لأجل أن يكون تعبيراً إلهيّاً، وهذه
هي الرؤية الحقيقية التي تعبّر عنها الرسالات
السماوية، وتصدر عنها البشرية فيما تعبّر عنه
من دين، وتنتمي إليه من شريعة ومنهجية حياة
[106] .
فإذا كانت العقيدة تبلور علاقة الإنسان بالله
وبالكون المحيط به وبالطبيعة، فإنّ الشريعة
تنظّم علاقة الإنسان بالإنسان الآخر وبالطبيعة
أيضاً، وكذلك لا خلاف في تنظيم طريقة تنفيذ
الشريعة بمستوى أعلى، وكما يقول العلاّمة
مطهّري، فهي تنظّم فكر وإرادة الإنسان لتنفيذ
الشريعة بأمانة وإخلاص
[107] .
إنّ مقاربة الحوار في مجال الشريعة والأخلاق
في إطار الإسلام والمسيحية، يمكن ملاحظتها في
سياق التحول الإيماني للإنسان في تاريخه، حيث
نجد الإنسان القديم قد اعتمد الحسّ للتدليل
على عقائده وتشريعه، وقد تطوّر هذا الأمر
لتكون العاطفة والوجدان دليلاً على ما يعتقده
الإنسان ويعبّر عنه، وهكذا تواصل الأمر مع
الإنسان إلى أن وصل إلى حالة الإدراك العقلي،
والكمال الديني. وهنا تجدر الإشارة إلى أن
العقيدة لم تختلف بين إنسان وآخر، أو بين نبيّ
وآخر، وإنّما الذي اختلف هو المنهج والشريعة،
باعتبار أن العقيدة تمثّل عنصر الثبات في
الجوهر الإنساني
[108] ، في حين أن الشريعة
والمناهج لا يمكن أن تكون ثابتة نظراً لطبيعة
التحوّل والتدرّج الإنساني في فهم علاقته مع
نفسه ومع الآخر، ومع الطبيعة أيضاً. فالتحوّل
الإنساني في إطار التشريع لا يمكن أن يكون
تحولاً واحداً، لأنّ الحياة متغيرة، وتحتاج
دائماً إلى تطوير صيغ التعامل مع أحداثها
بإيجاد القوانين والتشريعات الملائمة لها، فلو
أن شريعة واحدة جاءت للإنسان في حياته، لما
استطاع أن يحقق ذاته في إطارها، وخاصة الإنسان
القديم الذي كان يعتبر الإحساس في حياته
مقياساً لكل شيء، فمن أين تكون له القدرة على
تعقّل معنى الوجود والتحوّل الإنساني بكل
مقتضياته فيما لو كان القرآن بديلاً للإنجيل
أو التوراة، أو كان القرآن بديلاً لصحف
إبراهيم (عليه السلام)
[109]
؟
لقد تدرّج الإنسان في فهم حقائق وجوده، وتحوّل
وفاقاً لقدراته وتعبيراته الملائمة لزمانه
ومكانه وتاريخه، وقد مثّل الدكتور أحمد شلبي
لهذه الحقيقة بقوله: «يمكن لنا أن نقسّم مراحل
الرسالات السماوية إلى أقسام ثلاثة، القسم
الأوّل يمثّل طفولة الجنس البشري وذلك يشمل
الفترة التي عبرتها البشرية من آدم إلى نوح
حتى إبراهيم (عليه السلام).
والقسم الثاني: يمثل صبا الجنس البشري حيث وجد
أنبياء بني إسرائيل وبخاصة موسى (عليه
السلام).
القسم الثالث: يمثّل شباب الجنس البشري، وهو
عند رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
[110] .
ومن خلال هذا التقسيم يمكن لنا استيعاب حركة
الرسالة والتشريع في حياة الإنسان، فنقول: إنّ
طبيعة الشريعة تختلف بين قسم وآخر، ولا يعقل
أن تكون مرحلة الطفولة قادرة على استيعاب
مرحلة الصبا أو الشباب، تماماً كما لا قدرة
للطفل على حمل ما يحمله الشاب، سواء في مجال
العقيدة، أم في مجال الشريعة والأخلاق، وليس
من الحكمة في شيء أن تُعطى جرعات الشريعة إلاّ
بحسب ما يستطيعه الإنسان لقوله تعالى: ﴿
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَهَا
﴾
[111] .
ولهذا، نجد أنّ الشريعة لم تكن ثابتة، وليست
واحدة، بل تعددت وتنوّعت بحسب مراحل تطوّر
الإنسان وقدرته على استيعاب ما خصّه الله
تعالى من عقيدة وشريعة وأخلاق، باعتبار أن
الله تعالى خلق الإنسان وهو أعلم بخلقه، ولا
بدّ أن تكون الرعاية له والتدبير موافقة
لقدراته النفسية والعقلية.
وعليه، فإنّ معنى أن تكون للإنسان شريعة
وأخلاق، أن تلحظ حالة الإنسان وقدراته وكذلك
وعيه بذاته وبالمجتمع، والطبيعة، وهذه كلها لا
بدّ أن يكون لها تأثيراتها على حركة الإنسان،
وكما يقول العلاّمة مطهري: إنّ الشريعة تنظّم
العنصر المتحوّل المتغيّر في الإنسان، حيث إنّ
علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان
بالطبيعة، خارج دائرة العقيدة والأخلاق،
تتأثّر بالحالة الثقافية ومكوّنات الوعي ودرجة
التعقيد في الحياة المادية، وهذه الأمور تقتضي
تنوّعاً في مجال التشريع»
[112]
.
بيد أنّ ما تقتضيه تحوّلات الإنسان وتنوّعاته
في الحياة، وهي كل مراحل تحولاته الاجتماعية
والسياسية، ليس من شأنه الحيلولة دون مقاربة
هذا الموضوع من ناحية التنوع في التشريع، حيث
نجد المسيحية في كثير من تفاصيلها تتحدّث عن
التسامح والمحبة والوصايا، وغير ذلك من الأمور
التي يحتاجها الإنسان في علاقته مع أخيه
الإنسان.
وإذا كان الإسلام قد تعرّض إلى هذا الجانب،
فإنّنا نجده قد زاده تفصيلاً، وخاطب العقل في
كثير من التفاصيل، وهو ما شكّل تتمّة وتكملة
لما جاء به الأنبياء من قبل، هذا فضلاً عن
مخاطبة المسيحية ذاتها، حيث اعتبرها جزءاً
منه، وإذا كان الإسلام قد خاصمها في مجال
العقيدة والشريعة والأخلاق، فهو بذلك إنما
اعتمد العقل في المحاججة، حيث قال الله تعالى:
﴿
قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ
﴾
[113] فالإسلام اعترف
بالمسيحيّة، وبجميع الرسالات السماوية وهيمن
عليها كما قال الله تعالى: ﴿
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
﴾
[114] . وهذه الهيمنة لا
تعني أكثر من استيعاب حركة الإنسان وحفظه فيما
جاءه من الله واستقرّ عليه بلحاظ التجارب
وتعقيدات الحياة، حيث بيّن الإسلام أن
المسيحية ليست تعبيراً نهائياً عن وعي الإنسان
ولا عن حركته الدينية والإنسانية في الحياة،
كما أنها ليست الكلمة الأخيرة كما تذهب
المسيحية
[115] ، وإنّما هي حلقة من
سلسلة الرسالات التي تواترت لتربية الإنسان
وتعليمه وتحصينه ضد الانحرافات التي كانت ولا
تزال تتسبّب له بمزيد من القلق واليأس والخوف.
ذلك هو معنى الهيمنة على ما جاء من كتب
ورسالات، أن يستمر الإنسان في حفظ ذاته من
خلال الإسلام، وأن يعبّر عنها وفاقاً
لتحوّلاته الجديدة في كل زمان ومكان، وهذا ما
فعله القرآن حيث انتقل بالإنسان من حالة الحسّ
والعاطفة والمحبة إلى حالة العقل والقلب معاً.
ولعلّ من أهم ما يمكن الاسترشاد به في هذا
السياق، هو عدم قدرة التشريعات السابقة على
الإسلام على نظم حركة الإنسان وتحوّلاته في
ظلّ التعقيدات المادية في العصر الحديث، فما
بالنا نتحدّث عن سلبية تشريعات الإسلام ونحن
ندرك تماماً أن الدين، كما بيّن الأنبياء
جميعاً، إنّما جاء بهدف نظم الحياة للإنسان،
سواء في المجال الخاص، أم في المجال العام،
وإلاّ فإنّ عدم التسليم بهذا المعنى لدور
الدين في الحياة، فلا يكون ثمّة اعتبار للرؤية
الدينية المتكاملة على نحو ما يفهمه كل إنسان
عن تواصل الشرائع وتواتر الأنبياء، وهذا ما لا
يُسلّم به أحد من أهل الإيمان، ممن ينتمون إلى
الإيمان الإبراهيمي!؟
لقد تحدّثت المسيحية عن الوصايا العشر، وعن
مفردات المحبة والتسامح، ولكنها لم تتحدّث عن
تشريعات إنسانية وسياسية واجتماعية إلاّ فيما
ندر مما له علاقة بالإنسان وحياته الخاصة،
وهذا لم يكن قصوراً في المسيحية، أو تقصيراً
من النبي عيسى (عليه السلام)، وإنّما كان بسبب
انعدام القابليات عند الإنسان، وقد بشّرت
المسيحية بالفارقليط الذي سيتابع مسيرة
الإيمان في حياة البشر
[116] ، وإنّ أدنى
تأمل فيما تنطوي عليه الأناجيل لا بدّ أن يكشف
عن معنى الشريعة لاستحالة أن تستمر البشرية
بالوعظ والإرشاد فقط. إذ إنّ الله تعالى لم
يرد للإنسان أن يكون مجرّد تعبير عاطفي،
وإنّما لا بدّ أن يكون منطلقاً بالدور
التغييري في العالم من خلال أنظمة وتشريعات
تحوّل الإنسان عن كونه مجرّد تعبير إيماني
ليكون إنساناً صانعاً للحضارة وحاكماً للحياة
فيما يملكه من قوانين وأنظمة وتعاليم، وفيما
يقوم به من دور ووظيفة في سائر مجالات الحياة
[117] .
إنّ معنى مقاربة الحوار في مجال الشريعة
والأخلاق هو هذا، أن لا يكون الإنسان الرسالي
تابعاً أو محكوماً لغير ما أنزل الله تعالى،
وقد خاضت الكنيسة صراعاً عنيفاً مع الإقطاع
السياسي في القرون الوسطى لأجل أن يكون لها
هذا المعنى التشريعي والأخلاقي في حياة
المؤمنين. ولا شكّ في أن خروج الكنيسة من حياة
الإنسان المسيحي في الغرب ترك أثراً سلبياً
على حياة المؤمنين، لكونهم أصبحوا محكومين
لقوانين ما أنزل الله بها من سلطان، ولا بدّ
أن تعاود الكنيسة دورها، وتقوم بوظيفتها
لتحرير الإنسان مما لحق به من هزائم وانحرافات
على مستوى العقيدة والشريعة والأخلاق،
فالمقاربة للحوار في مجال الشريعة والأخلاق
ليس مجرّد تعبير نظري، أو محاولة لإيجاد
مقارنة بين شريعة الإسلام وشريعة المسيحية،
وإنّما هي مقاربة حقيقية هادفة تسمح لنا في
الكشف عن معنى استمرار الشريعة الإلهية في
حياة الإنسان، ويكفي أن نشير هنا إلى ما نرى
أنه شكّل قاسماً مشتركاً بين المسيحية
والإسلام في مجال التشريع والأخلاق ألا وهو
إيمان كل منهما بأن الله تعالى هو مصدر
الشريعة والتعاليم والوصايا، والانتماء إلى
الإيمان الإبراهيمي، هذا بالإضافة إلى ما
يجتمعون حوله من أصول كبرى في الإيمان
كالتوحيد والنبوة والمعاد إلى غير ذلك مما
يجتمعون عليه في مجالات العقيدة والأخلاق.
إنّ المسيحية، كما عبّرت عن نفسها، وكما وصفها
القرآن ليست مجرّد ديانة روحية لا معنى للدنيا
فيها، بل هي ديانة عملية تتضمن الكثير من
التشريعات الحياتية من قبيل ما تتضمّنه
الأناجيل من دعوة إلى العدل والمحبة، وغير ذلك
مما تتواصل به مع تشريعات الإسلام. فإذا كانت
المسيحية تقدّم البرّ والأخلاق على العدل،
فهذا ما تضمّنه الإسلام أيضاً، حيث جاء في
الإنجيل: «أن العدل يحجّر القلوب إذا لم
ترافقه دفقة المحبة، وهذا ما يعبّر عنه
بأسبقيّة الأخلاق للعدالة في التعامل
الإنساني. وعلى ذلك تلتقي المسيحية والإسلام
معاً، حيث قال الله تعالى: ﴿
لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ
﴾
[118] ، حيث قدّم البرّ على
القسط وهو العدل، إلى غير ذلك مما تتواصل به
شريعة الإسلام مع المسيحية.
وكيف كان، فإنّ المقاربة الحقيقية تعني ملاحظة
حقيقة الامتداد التشريعي، تماماً كما تلاحظ
حقيقة الامتداد العقدي بين سائر الأديان، إذ
إنّه ليس من معاني الثبات في العقيدة أن
تستقرّ العقيدة على حالة واحدة، فيما ذهب إليه
كل فريق من تفاصيل حول تفسير وتأويل العقيدة
التي ينتمي إليها. وكذلك الحال في ملاحظة
التشريعات، فهي وإن كانت متنوّعة، فليس معنى
تنوّعها أنها مختلفة دائماً ولا توجد قواسم
مشتركة بينها، أو أنها تتغيّر نهائياً بين
مرحلة وأخرى، أو بين إنسان وآخر، فالتنوّع في
الشريعة هو إنما يتم لأجل المزيد من التكامل
في المعنى التشريعي في صيرورة الحياة
الاجتماعية للإنسان. وهذا ما لحظه الإنجيل
والقرآن معاً، فيما جاءا به من شرائع قد تلتقي
وقد تختلف في كثير من تفاصيلها دون أن يكون
للسذاجة أي معنى في فكر المسلمين..!؟
لذا، فإنّ معنى المقاربة للحوار في مجال
الأخلاق والتشريع أن نلاحظ ما هو مشترك بين
أهل الأديان لطالما هم موحدون في أصولهم، سواء
لجهة المعنى المادي، أم المعنى الروحي، وطالما
أنهم ينتمون إلى الإيمان الإبراهيمي ويعبرون
عنه، ويتوحّدون في الإطار النظري، وهذا
الانتماء الحقيقي من شأنه أن يمنع من الفرقة
والتشرذم في الحياة العملية، لأنّ التشريعات
الإلهية كانت دائماً تضبط عملية التحوّل
الإنساني بحسب الزمان والمكان والقدرة على
التكيّف مع كل تشريع جديد، بدليل ما أقدمت
عليه المسيحية من عدم اعتبار لكثير من
التشريعات اليهودية التي رأت فيها قسوة
وتحجّراً وصعوبة على الأتباع الجدد
[119] .
كما أنه ليس من معاني التنوع في الشريعة أن
يتناقض البشر في تحوّلاتهم الاجتماعية
والسياسية، إنّما معناه التكامل لكون هذا
التشريع يأتي في سياق وحدة الأصول الكبرى التي
يعيشها الإنسان المؤمن، وخاصة الأصل التوحيدي
الذي يوجّه كل التحولات والتشريعات.
ومن هنا، نجد أن تنوّع الشرائع هادف لتحقيق
الكمال الإنساني في حركة التحوّل الاجتماعي
والسياسي بحيث يكون هذا التنوّع سبيلاً للحوار
بين أهل الإيمان، وليس سبباً للفرقة، وإلاّ
فما يكون معنى قوله تعالى: ﴿
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
وَلَا تَفَرَّقُواْ
﴾
[120] ، فيما لو كان معنى
التشريع والتنوع فيه أن يختلف الناس
ويتفرّقوا؟
بل ما يكون معنى قول المسيح: «لا تظنّوا أني
جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، إنّي ما جئت
لأنقض بل لأكمل»، فيما لو كان معنى التشريع في
زمن نبوّة موسى (عليه السلام) التصادم مع
التشريع في زمن عيسى (عليه السلام) أو العكس؟
إنّ البشرية، وخاصة أهل الإيمان، تتكامل في
تشريعاتها وتنوعاتها، كما تتكامل في تعدديتها
التي جعلها الله تعالى عليها. وليس من الحكمة
في شيء التنكّر للتشريع الإسلامي طالما أن
النبي عيسى نفسه أكمل الناموس وتابع النبوّة
السابقة فيما أتت به من وصايا وتشريعات وهيمن
عليها بمزيد من الناموس. فالقول بالتصادم بين
الشرائع، هو منافٍ لما جاءت به النبوّة،
باعتبار أن الناموس هو شأن إلهي، وقد شاء الله
تعالى أن تستكمل الشرائع، وأن تكون لكل إنسان
شريعته ومنسكه ومنهجه الذي يصله بالله تعالى.
وإذا كانت المسيحية قد تحققت على نحو ما جاء
به المسيح من شريعة وأخلاق لإكمال الناموس،
وتواصلت في طريق النبوة في هداية الإنسان،
فإنّ الإسلام لم يأتِ بأكثر من ذلك، إذ هو جاء
بالشريعة الكاملة والحافظة لما سبق من
الشرائع، حيث قال الله تعالى: ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً
﴾
[121] .
ولم يكتفِ الإسلام بذلك وحسب، بل دعا أهل
الكتاب إلى كلمة سواء، ومتابعة النبوة فيما
جاءت به من شريعة وناموس لكونه يشكل امتداداً
للنبوّة والرسالات السماوية، هذا فضلاً عمّا
أقرّه للآخرين من استقلال تشريعي وخاصة لأهل
الكتاب في جميع علاقات اجتماعهم الداخلي، حيث
قال: ﴿
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ
﴾
[122] ، وقال الله تعالى: ﴿
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنجِيلَ
﴾
[123] .
ولا شكّ في أنه ليس معنى الإقامة للتوراة
والإنجيل غير العمل بهما، والالتزام بتكميل
الشريعة وعدم نقضها فيما جاءت به وعبّرت عنه
من استمرار للشريعة في حياة الإنسان، وقد قال
الله تعالى: ﴿
فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ
فَقَدِ اهْتَدَواْ
﴾
[124] . فالإسلام لم يكره
أهل الكتاب على العمل بشريعته، والإيمان بما
جاء به، وإنما أقرّ لهم الشخصية التشريعية
والثقافية في كل شيء، داعياً إيّاهم إلى
التواصل والتحاور كما قال الله تعالى: ﴿
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى
كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
﴾
[125] .
يبقى أن نشير إلى حقيقة واضحة لا لبس فيها،
وهي أن المسيحية لم تطرح رؤية سياسية اجتماعية
في مجال التشريع، لضمانة التحول الإيجابي في
حركة الإنسان نحو بناء ذاته واجتماعه وحضارته،
حيث اقتصرت الدعوة فيها على المجال العقدي
والأخلاقي، وهذا ما يرى فيه البعض تجنّياً على
المسيحية، ويعتبره طرحاً ساذجاً
[126] ، في حين أن
هذا الطرح لا يشكّل اتهاماً للمسيحية طالما أن
المسيحية ذاتها لم تقدّم رؤية واضحة في المجال
الاجتماعي والسياسي... وخصوصاً أن المسيحية قد
اعتبرت نفسها الكلمة النهائية في حياة
الإنسان، وكونها كذلك، فلا بدّ أن تكون
متضمّنة لهذه الرؤية، لأنّ التشريع الإلهي
للإنسان هادف إلى ضمانة تحوّل الإنسان في
اجتماعه وسياسته ليكون تعبيراً عن إرادة الله
تعالى، بحيث يكون عادلاً في كل تحولاته، وهذا
ما لا يمكن تحقيقه إلاّ في ظلّ تشريعات إلهيّة
تضبط حركة الإنسان وتجعله قادراً على إقامة
القسط بين الناس، كما قال الله تعالى: ﴿
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
﴾
[127] .
لذا، فإن ما يذهب إليه البعض بأن المسيح (عليه
السلام) لم يشأ أن يكون للمسيحية نظام سياسي
محدد احتراماً منها لحريّة الإنسان وإبداعيته
[128] ، مذهب لا
يستقيم مع ما تذهب إليه المسيحية من كمال في
التشريع. وإذا كان المسيح قد ثار على الأنظمة
اليهودية الجامدة التي كان الفريسيون وعلماء
الناموس يستندون إليها ليستعبدوا الإنسان في
أطرها، فإنّ ذلك إن كان يدلّ على شيء، فإنّه
يدلّ على أن المسيح (عليه السلام) جاء بالنظام
والرؤية السياسية لتحرير الإنسان من الأنظمة
اليهودية الجامدة، باعتبار أن الخروج على أي
نظام من قبل النبوّة لا بدّ أن يكون البديل
موجوداً، وهذا لا يتنافى مع حريّة الإنسان
وإبداعيته، وخاصة فيما لو علمنا أن النبي أي
نبيّ لا يأتي إلاّ بما يضع الإصر ويفكّ
الأغلال، كما قال القرآن: ﴿
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
﴾
[129] .
وإذا كانت المسيحية تستبطن النظام في أمور
السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتعتمد
الاستنباط الدائم لضمان كرامة الإنسان
وحرياته، فإنّ السؤال يبقى عن ماهية هذا
النظام؟ وعن آليات الاستنباط في مطلق الزمن؟
لأن معنى الاستنباط أن يكون هناك أدلّة وأصول
لا بدّ أن النبوة جاءت بهالتحكم عملية
الاستنباط وتجعلها ذات فائدة في كل مجالات
الحياة الإنسانية. فالاستنباط لا يكون من
فراغ، وإنما له أصول يرجع إليها، فإذا كانت
المسيحية قد أصّلت لذلك، فما يكون معنى دعوتها
الخضوع للسلطات المنصبة، والتي في كثير من
الأحيان، لا تحترم ما أصّلت له المسيحية،
وجعلته دليلاً عاماً يحتكم إليه ويرجع إليه،
وهو ما يسمّى في الفقه الإسلامي بالأدلّة
العامة في الكتاب والسنّة. إنّ الفرق بين
المسيحية والإسلام هو هذا، أنّ الإسلام ترجم
نظامه السياسي ودلّ على قواعده وأصوله، ودعا
إلى الاستنباط الدائم لضمانة كل تحوّل سياسي
واجتماعي في حركة الإنسان نحو الأفضل، وهذا ما
عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: ﴿
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ
﴾
[130] . وفي ترجمة هذه
الآية قال أولو الأمر الذين جعلهم الله تعالى
امتداداً للنبوّة: «علينا بالأصول
وعليكم بالفروع». ما يعني أن الإسلام جاء بالنظام
السياسي وأصّل له ودعا إلى اتباعه في ضوء
المبادئ العامة التي تضمّنها القرآن الكريم
والسنّة النبويّة الشريفة. ولا شكّ في أنّ
المسيح (عليه السلام) قد جاء بكثير من المبادئ
العامة التي تحكم العمل السياسي والاجتماعي،
وعمل على تغيير الأنظمة اليهودية الجامدة
والفاسدة بهدف أن يحقق حريّة الإنسان ويطلق
إبداعه
[131] ، وهذا هو مقتضى
الدعوة الرسالية. أما أن يُقال بأن هناك
نظاماً سياسياً، وآليات استنباط دائمة دون
اعتبار لمبادئ وأصول حاكمة، فذلك مما لا
يستقيم بحق البشر، فكيف يمكن أن يستقيم مع
رسالة نبوية؟
وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أن الدعوة إلى
مقاربة الحوار في مجال التشريع والأخلاق، لا
يمكن أن يكون مجالها التطبيق التاريخي وما
ساده من سوء العلاقات والترجمات، بل هي تبدأ
بالنظرية أولاً للوقوف على القواسم المشتركة
بين أهل الإيمان، فإذا استطاع أهل الإيمان
مقاربة الحوار في دائرة النظرية، فإنّهم بذلك
يستطيعون أن يتحوّلوا باتجاه الواقع وحياة
الإنسان العملية، فلا يُقال مسبقاً بأنّه لا
يمكن القبول بالنظام الإسلامي أو بالدولة
الإسلامية بحجّة مخالفة المسلمين في أصل هذا
النظام وقيمته
[132] . كما لا يُقال أيضاً
بأن العلاقات الإسلامية المسيحية لا يمكن أن
تبنى اليوم وفي المستقبل على أساس ما ورد في
القرآن لعدم وجود رابط بين المسيحية اليوم
وبين النصرانية التي التقاها القرآن ومدحها أو
ذمها
[133] ... فهذه أقوال
ومذاهب تصادر كل مقاربة حوارية، وتحدث تصادماً
بين الديانات، بحيث تكون كل ديانة مستقلة عن
الأخرى ومختلفة معها، في حين أن الأصول واحدة،
والقواسم المشتركة قائمة، ولا بدّ من التواصل
والتفاعل والتحاور للوصول إلى تعايش حقيقي بين
المؤمنين على قاعدة أنهم ينتمون إلى إله واحد،
الذي هو مصدر كل شيء، ويؤمنون بتكامل الشرائع
وتواصلها في حياة الإنسان.
أما أن يطرح البعض لمقارنة الحوار بين الإسلام
والمسيحية، في الحاضر والمستقبل مجانبة القرآن
وتخطِّيه، أو اعتبار ما يوافق المسيحية منه
دونما اعتبار لما ينطوي عليه من عقيدة وشريعة
ونظام حكم، فذلك إنما يمكن اعتباره التفافاً
على الحوار ودفعاً له، ولا شكّ في أنه من
الغرابة أن يطرح البعض مشكلته تحت عنوان
الحوار، ويدّعي الحل من خارج ما جاء به
الإسلام، بأن يُقال: «إن الطريق الوحيد لتخطّي
هذه المشكلة هو الإقرار بأن ما ورد في القرآن
حول إيمان أهل الكتاب النصارى، لا يعتبر
التعبير الصحيح عن الإيمان المسيحي الذي
يعتنقه المسيحيون اليوم»
[134]
.
وهذا القول، في جوهره، ينمّ عن رغبة قوية في
تحقيق الاستقلال بين الإسلام والمسيحية بحيث
لا يكون هناك أيّ امتداد بينهما، هذا فضلاً
عمّا يعنيه من اعتبار القرآن كتاباً مستقلاً
عن المسيحية، ومعبراً عن رؤية دينية خاصة
بالمسلمين، في حين أن المطلوب لإنجاح الحوار
والمقاربة هو الاعتراف بالقرآن ككتاب منزل من
الله تعالى، ومتضمّن للهداية، ومهيمن على ما
بين يديه من الكتاب، وخاصة للمسيحية بكل
تعابيرها وتعاليمها، سواء تلك التي يعتبرها
جزءاً من الإيمان الإسلامي، أو تلك التي
يتوجّه إليها بالنقد.
إنّ القول بأن الإسلام شيء، والمسيحية شيء
آخر، فيما يزعمه بعض الأساقفة حول مقاربة
الحوار واستمراريته، من شأنه أن لا يؤدّي إلى
النتائج المرجوّة، ذلك أن معنى الحوار
والتلاقي، هو أن نؤمن بالاختلاف، وتعدد
الشرائع، وتواصل النبوات، واستمرار الهداية
الإلهية للإنسان في مطلق الزمن، وهذا المعنى
عبّرت عنه الوثيقة التي أصدرها المجمع
الفاتيكاني الثاني 1965م
[135] ، فيما أشارت
إليه عن علاقة الكنيسة بالمسلمين، فقالت:
«تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين
يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم الرحمن
القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم
الناس... إنّهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم
بأحكام الله، كما سلّم لله إبراهيم الذي يفخر
الدين الإسلامي بالانتساب إليه، وإنهم، على
كونهم لا يعترفون بألوهية سيّدنا يسوع المسيح،
يكرمونه نبياً، ويكرمون أمّه العذراء مريم...
ويعبدون الله بالصلاة والصوم والصدقة....»
[136] .
فالوثيقة تعبّر بوضوح عن امتداد الإيمان
وحيويته في الحياة، واستمرار الهداية الإلهية
للإنسان، ما يعني أهميّة التحوّل في ضوء هذه
الرؤية، بحيث يكون الحوار والمقاربة له
مرتكزاً على وحدة الأصول التي يؤمن بها
الجميع، باعتبارها أساساً لكل تحوّل إيماني
فيما تطرحه كل ديانة، وتعمل له كل شريعة،.
وتعبّر عنه كل أخلاق، فكل دين هو قبس من شعاع
الحقيقة التي تنير جميع الناس كما جاء في
وثيقة المجمع الفاتيكاني.
وانطلاقاً من ذلك، فإنّه لا معنى لأن نشترط في
سبيل إقامة الحوار، أو إيجاد مقاربة أن تخرج
المسيحية من القرآن، وإنّما لا بدّ أن نتعامل
مع الأديان، بكل ما جاء فيها، كسبيل للوصول
إلى الله تعالى، سواء كان الدين الذي نؤمن به
يتضمّن نصوصاً تتعلّق بأديان أخرى، أو لا
يتضمّن، فالمهم هو أن تبقي الرؤية الموضوعية
سبيلاً لتحقيق التقارب وإنجاح الحوار من خلال
التركيز على نقاط التلاقي في العقيدة والأخلاق
بين الأديان السماوية.
لقد اعتاد أهل الإيمان على التساؤل، ما هي أهم
النقاط التي تتلاقى عندها الأديان السماوية
وخاصة الإسلام والمسيحية؟ ولم يُعدم الباحثون
وسيلة للإجابة على كثير من التساؤلات، حول ما
يمكن رصده من نقاط تكون بمثابة القاسم المشترك
الذي يشكّل نقطة انطلاق لعلاقات سليمة بين أهل
الإيمان، وكان من جملة الأجوبة أن أصول
الإيمان الكبرى هي المساحة المشتركة التي
يلتقي عندها أهل الإيمان، وهذه الأصول هي
الإيمان بالله الذي لا شريك له، والإيمان بأن
الله كلّم الناس بالأنبياء، والإيمان باليوم
الآخر.
وانطلاقاً من هذه الأصول، فإنه يمكن لأهل
الإيمان أن يتواصلوا في طريق الحياة، وأن
يتعاونوا على البرّ والتقوى لتكون لهم رؤية
مشتركة حول قضايا الإنسان تتجاوز تفسيرات
العقيدة، وما يذهب إليه كل دين من تأويل
النصوص بما يخدم رؤيته في الإيمان وفهم
الأديان، وقد سبق أن عرضنا لمعنى العالمية
فيما يراه كل فريق من رؤية لها، حيث تبيّن لنا
أن كل ديانة تعتبر نفسها الكلمة النهائية في
تاريخ الإنسان وحياته، وهذا ما عبّر عنه
المسيحيون في بحوثهم الدينية، قديماً وحديثاً،
فأكدوا أنه لا يمكن الاستناد إلى ما تقوله كل
ديانة عن الأخرى فيما لو التزمنا بالنصوص
الدينية، سواء في الإنجيل أم في التوراة،
باعتبار أن القرآن يدعو إلى مقاتلة أهل
الكتاب، ويبرز، كما يقول بعض المسيحيين،
الموقف العدائي اتجاه المسيحيين، هذا فضلاً
عمّا تراه كل ديانة من كلمة نهائية في التاريخ
الديني، وهذه مسائل اعتقادية كانت وستبقى
موضوع جدل ونقاش بين أهل الإيمان، ولا يمكن
الاستناد إليها فيما لو كان المطلوب إنجاح
الحوار بين أهل الإيمان، لأن المسيحي ينظر إلى
كتابه على أنه كتاب موحى به، والمسلم ينظر إلى
كتابه على أنه مُنزل... إلى غير ذلك مما هو
مختلف فيه، وموقوف عنده.
وإذا كان الأمر كذلك في مجال العقيدة، فهو لا
يقلّ شأناً وخطورة في مجال التشريع والأخلاق،
وغير ذلك من تفاصيل الحياة، إذ في الوقت الذي
يذهب بعض أهل الإيمان إلى القول بأن الإنجيل
ليس فيه نظام سياسي، يذهب آخرون إلى القول بأن
الإسلام نظام كامل للحياة، ولكن هذا لا يمنع
برأيهم من استمرار التواصل في ضوء الأصول
الكبرى لتحقيق رؤية مشتركة ترتكز إلى هذه
الأصول في ملامسة الواقع وما يجري فيه من
تغييرات اجتماعية وسياسية وثقافية وحضارية
لجعل الإنسان أكثر أمناً وسلاماً، في ظلّ ما
يتعرّض له الإنسان من مساوئ بسبب هيمنة الحياة
المادية، وطغيان السلطة والمال، وقد سبق
للأنبياء أن أحيوا الإنسان وأخرجوه من ظلمات
المادة إلى نور الحياة بما كلّموه به من محبة
ودعوه إليه من عدل وخير، ويبقى على المؤمنين،
مسلمين ومسيحيين، أن يستلهموا خطاب النبوة في
تاريخ الإنسان لإخراجه مما هو فيه من ظلمات
وجاهلية، كما قال الله تعالى: ﴿ أَوَمَن
كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن
مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِّنْهَا
﴾
[137] .
إنّ الله تعالى كلّم الناس بالأنبياء، وهداهم
إلى سبل السلم، وأنزل إليهم الوصايا والأحكام
والشرائع، لتكون لهم الحياة، كما قال الله
تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ
﴾
[138] .
فالإنسان إذا ما تجاوز مشاجرات العقيدة،
ومناظرات علم الكلام، ونظريات الفلاسفة، فإنّه
يمكن أن يهتدي إلى إجابات كثيرة حول ما ينبغي
فعله والقيام به لتحقيق تعاون فاعل وبنّاء في
مجالات الحياة، فيجب أن يتحول الإيمان إلى
عمل، وهذا ما تأمر به الأديان، وما تكلّم به
الأنبياء، والذي كلّم بالأنبياء، كما ترى
المسيحية، كلّم بالصلاة والعبادة، والإحسان
إلى الفقراء والمساكين، وتفقد اليتامى في
حالهم إلى غير ذلك مما أوصت به الشرائع،
وانطوت عليه رسالات السماء...
وهكذا، فإنّ مقتضى الإيمان أن يلتزم الإنسان
روحية العبادة، ويكمل الناموس بلغة الإنجيل،
ويهتدي بالنور بلغة القرآن لتكون صلاته
معراجاً، وعبادته جهاداً، وصيرورته كمالاً،
ذلك هو معنى الإيمان، أن يعمل بالوصايا
[139] ، فيمتد في
التوراة والإنجيل، وأن يهتدي بالنور إلى
البِرّ فيمتد في القرآن
[140] ، ليكون له من
امتداده هذا معنى الأخلاق، وروح الإيمان، بحيث
يتجرّد عن متاع الدنيا الزائل، ويفوز بطهارة
القلب في مسالك العبور إلى رضوان الله تعالى.
إنّ القرآن يدعو إلى حوار الأديان على قاعدة
أن الهدف من الخلق هو التعارف، والتقوى في هذا
التعارف، وإلى العبادة، والتقوى في هذه
العبادة، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
﴾، فلا معنى
لأن يتجافى الإنسان عن الحوار الديني لمجرّد
أنه يختلف مع الآخرين في تفاصيل العبادات، وفي
طريقة ممارسة السياسات، باعتبار أن العقيدة
والأخلاق وسائر ما يتعلق بهما من تفاصيل هو
الجوهر المشترك بين أهل الإيمان، وذلك يقتضي
منهم أن يكونوا على مستوى الرؤية الدينية التي
تجعل من الحوار أساساً ومرتكزاً لكل تحوّل
إنساني في طريق الخلاص، هذا فضلاً عمّا للحوار
من معنى ودور في إدارة الأزمات التي تعصف
بالمجتمعات الإنسانية، وإن أدنى تأمّل وتدبّر
في ما تدعو إليه الآيات القرآنية، لا بدّ أن
يكشف عن أن القرآن ليس له أي موقف عدائي اتجاه
الأديان الأخرى، وخاصة فيما يعرض له عن
المسيحية، وإنّما يفنّد المزاعم، ويقدّم
الأدلّة والبراهين، بخصوص ما زعمه البعض أنه
حقائق عن الأنبياء والرسل، وإذا كان القرآن قد
اتهم بالكفر من يذهب إلى الثالوث، أو إلى
القول بألوهية المسيح وأنه ابن الله، إلى غير
ذلك مما ردّه القرآن، فهذا ما حاور فيه القرآن
واعتبره كفراً لكونه لا يرتكز إلى منطق سليم
وحجج قاطعة، بل مجرّد أقوال تواصوا بها
[141] ، ولم يقدّموا
البرهان والدليل عليها، كما قال الله تعالى: ﴿
هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ
﴾
[142] ، والحق يقال، إنّ
منطق القرآن، فيما يدعو إليه من حوار، قائم
على أساس أن الإنسان مخلوق لله تعالى، ويعلم
ما توسوس به نفسه، وهذا يقتضي أن لا يترك
الإنسان لنفسه فيما يزعمه ويراه أنه الحق،
فجاء الحوار معه لهدايته وصرفه عمّا يقوله
بغير علم، كما قال الله تعالى: ﴿
هَاأَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا
لَكُم بِهِ عِلمٌ
﴾
[143] ، فإذا كان ثمّة مأخذ
على هذا الحوار فيما ينطوي عليه من تكفير،
فذلك ليس مما يركن إليه، أو يُعتدّ به، وخاصة
في ظلّ ما يزعمه البعض من أن المسيحية اليوم
ليست النظرية التي التقاها القرآن، وليست
المعنية بخطاب يا أهل الكتاب. فالقرآن يحاور
ويجادل مَن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومَن
قال بألوهية المسيح، وأن الله ثالث ثلاثة،
فإذا لم يكن مَن قال بهذا موجوداً، فما معنى
السلبية اتجاه القرآن، غير أن يكون الهدف هو
القول بعدم نزول القرآن على النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ككلمة نهائية وخاتمة
للأديان...؟؟
[1] سورة البقرة،
الآية: 124.
[2] انظر: اليزدي، محمد تقي
المصباح، معارف القرآن، تعريب محمد عبد المنعم
الخاقاني، الدار الإسلامية، بيروت، 1989، 340،
ص5.
[3] سورة البقرة، الآية:
193.
[4] سورة البقرة، الآية:
190.
[5] سورة المائدة، الآية:
3.
[6] سورة البقرة، الآية:
124.
[7] إنّ ما تفيده آية كمال
الدين وتمام النعمة، هو كمال الشريعة، حيث
تدرّجت الشرائع ليكون الكمال في الشريعة
الإسلامية، كما قال المازندراني: «إنّها تعني
الشرائع أولاً فأولاً، لأنّ التوحيد لم يزل
تاماً».
را: المازندراني، محمد بن علي بن شهراشوب،
متشابه القرآن ومختلفه، انتشارات بيدار، ط3،
قم، 1410هـ، ج2، ص258.
[8] سورة الأعراف، الآية:
59.
[9] سورة البقرة، الآية:
37.
[10] سورة التكاثر، الآية:
8.
[11] نعم، هناك من الفقهاء
والمفسرين مَن فسّر القرآن، وخصوصاً آيات
الجهاد والقتال والظفر بالشكل الذي يؤكّد معنى
القوة والسيف، كما فعل أبو حنيفة في تفسير
قوله تعالى: ﴿
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن
بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ
...
﴾
[الفتح: 24] ، فرأى أن هذه الآية يستدلّ بها
على فتح مكة عنوة لا صلحاً، إذ هو لم يميّز
بين ظفر الحجّة وقوة المنطق والحكمة لدى
المؤمنين، وبين الظفر بما هو سيف وانتصار
عسكري!
را: الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، تفسير
الكشاف، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009، ج4،
ص332.
[12] انظر: هشام جعيط،
الفتنة، دار الطليعة، بيروت، 1995، ص294.
[13] سورة الرعد، الآية:
11.
[14] سورة المائدة، الآية:
68.
[15] الطباطبائي، محمد
حسين، تفسير الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت،
1990، ج5، ص65.
[16] سورة المزمّل، الآية:
5.
[17] سورة المائدة، الآية:
65.
[18] سورة آل عمران،
الآية: 64.
[19] سورة آل عمران،
الآية: 110.
[20] سورة آل عمران، الآية
98.
[21] سورة آل عمران،
الآية: 99.
[22] سورة آل عمران،
الآيتان: 113 ـ 114.
[23] انظر: الحكيم، محمد
باقر، علوم القرآن، مجمع الفكر الإسلامي، قم،
ط4، 1419هـ، ص82.
[24] سورة المائدة، الآية:
75.
[25] سورة آل عمران،
الآية: 144.
[26] إنجيل متّى، 15 ـ 24.
[27] شلبي، أحمد، مقارنة
الأديان، المسيحية، ج2، م. س، ص65.
[28] سورة المائدة، الآية:
72.
[29] سورة آل عمران،
الآيتان: 48 ـ 49.
[30] سورة الأنبياء، 107.
[31] سورة البقرة، الآية:
47.
[32] انظر: وليم سليم
قلادة، العلاقات الإسلامية المسيحية، مركز
الدراسات الاستراتيجية، ط1، بيروت، 1994،
ص347.
[33] إنّ أل التعريف في
العالمين لبني إسرائيل، هي للعهد الذهني
المأخوذ من سياق الآيات التي تعرض قصتهم، وقد
مضى زمانهم وانقضى قبل بعثة رسول الله وقبل
وجود الأمّة الإسلامية وارثة بني إسرائيل في
التفضيل على العالمين فيما لو التزمت وصبرت،
كما قال الله تعالى: ﴿
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
﴾ [السجدة،
24] . ولا شكّ في أن التعبير بـ(لمّا صبروا)
تفيد الظرفية فيكون التفضيل للأمة محدّد بظرف
خاص.
را: مسلم، مصطفى، معالم قرآنية في الصراع مع
اليهود، دار القلم، دمشق، 1999، ص103.
[34] سورة المائدة، الآية:
117.
[35] را: هويدي، فهمي،
العلاقات الإسلامية المسيحية، مركز الدراسات
الاستراتيجية، الحوار الإسلامي المسيحي كما
يراه علماء الأزهر، بيروت، 1994، ص77.
[36] انظر مغنية، محمد
جواد، تفسير الكاشف، دار العلم للملايين،
بيروت، ط3، 1981، ج2، ص80. فهو يقول: إنّ
الكلمة السواء اقتصر فيها النبي على دعوة أهل
الكتاب إلى أن يقروا بما هو في الضمير
والوجدان، وما أقرّته الكتب السماوية بكاملها،
وهو أن يستووا جميعاً في عبادة الله وحده لا
شريك له.. لا يعبد بعضكم بعضاً، ولا يعلو
بعضكم على بعض، وهذه هي كلمة سواء.
[37] سورة آل عمران،
الآية: 61.
[38] الطباطبائي، محمد
حسين، تفسير الميزان، م. س، ج3، ص59.
[39] سورة آل عمران،
الآية: 61.
[40] سورة آل عمران،
الآية: 20.
[41] سورة الحج، الآية:
68.
[42] سورة الأنعام، الآية:
79.
[43] سورة آل عمران،
الآية: 65.
[44] سورة آل عمران،
الآية: 66.
[45] اليزدي، محمد تقي
المصباح، دروس في العقيدة الإسلامية، دار
الحق، بيروت، 1993، ص40 ـ 43.
[46] سورة الكافرون،
الآية: 6.
[47] را: هويدي، فهمي،
العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص78.
[48] يرى هويدي أنه عندما
عرض أمر الحوار للمناقشة في مجمّع البحوث
الإسلامية في القاهرة، اتجه الرأي الغالب إلى
تأييد مواصلة الحوار من حيث المبدأ، ولكن
المواقف اختلفت في تحديد نطاق الحوار
وموضوعاته، وفيما أيّدت الأقليّة فكرة الحوار
في كل الأمور، بما في ذلك ما كان عقيدياً
منها، فإنّ الأغلبية فضلت أن يظلّ الحوار
مركّزاً على الدائرتين الأخلاقية والاجتماعية.
را: هويدي، فهمي، العلاقات الإسلامية
المسيحية، م. س، ص79.
[49] سورة آل عمران،
الآية: 85.
[50] سورة الأنبياء،
الآية: 107.
[51] سورة فاطر، الآية:
24.
[52] انظر: هويدي، فهمي،
العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص79.
يقول: إنّ أكثر ما يقلق علماء الأزهر أعضاء
مجمع البحوث، هو الوثيقة الصادرة عن
الفاتيكان، التي تثير العديد من الأسئلة حول
دوافع الحوار ومقاصده من حيث أنها تلقي بظلال
من الشكّ حول مدى صدقية وبراءة الدعوة إلى
الحوار. إنّ الوثيقة تحمل عنوان «موقف الكنيسة
اتجاه أصحاب الديانات الأخرى... تأملات
وتوجهات حول الحوار والدعوة، ومناسبة صدورها
عيد العنصرة سنة 1984، ويرى هويدي أن البابا
يوحنا في خطابه أمام الجمعية العمومية لأمانة
سرّ غير المسيحيين يوم السبت الموافق 3 آذار
1984، يؤكّد على صلة الحوار المسيحي بالتبشير،
وعنوان الخطاب هو الحوار ويدخل ضمن رسالة
الكنيسة الخلاصية». وقد فهم علماء الأزهر من
هذا الخطاب الوثيقة، أن الحوار له صلة وثيقة
بالتبشير، ونقل عن البابا بولس قوله: «إنّ
تلاميذ المسيح، باتحادهم العميق مع الناس في
كل ظروف حياتهم ونشاطهم، يرغبون في أن يقدموا
لهم شهادة المسيح الحق بهدف خلاصهم، حيث لا
يستطيعون التبشير الكامل بالمسيح. إن الحوار
الأصيل يتحوّل إلى شهادة، والتبشير الحقيقي
يتحقق في جوّ من الاحترام والإصغاء للآخر»..
[53] يذكر الدامغاني في
كتابه قاموس القرآن، أو إصلاح الوجوه والنظائر
في القرآن الكريم، وجوهاً كثيرة للرحمة
الإلهية، ويرى أنها على أربعة عشر وجهاً، وهي:
الإسلام، الجنّة، المطر، النبوة، النعمة،
القرآن، الرزق، النصر والفتح، العافية،
المودّة، الإيمان، التوفيق، عيسى (عليه
السلام)، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فآية عيسى (عليه السلام) كما في قوله تعالى: ﴿
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً
مِّنَّا
﴾، وقال في
رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ
﴾. فالرحمة هي
صفة لأن الهاء والكاف في «ولنجعله» و«ما
أرسناك» هما للنبيَّيْن عليهما الصلاة
والسلام، فلفظ الرحمة صفة لهما وأثر من
رسالتهما.
را: الدامغاني، الحسين بن محمد، قاموس القرآن،
دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1985، ص201.
[54] يقول شمس الدين: إنّ
مبدأ العالمية، عالمية الرسالة الإسلامية هو
مبدأ أساس في صميم الرسالة الإسلامية منذ بعث
النبي ، وإنكار هذا المبدأ لا ينبعث إلاّ عن
جهل أو عن سوء نيّة...
انظر: بين الجاهلية والإسلام، المؤسسة
الجامعية للدراسات، بيروت، ط3، 1983، ص215.
[55] نحن نرى أن الحضارة
التي أبدعها الإنسان الأوروبي منذ عهد النهضة
إلى يومنا هذا، هي حضارة عالمية لجهة ما انتهت
إليه من أعمال عظيمة، ولكنها ليست عالمية
بالمعنى الإنساني للكلمة، فهي عالمية من حيث
التوسع والانتشار، وليست عالمية من حيث المنبع
والمحتوى، وهذا ما قصدنا به أن الإنسان له
إرادة الفعل، ولكنه ليس هو الذي يحدّد معنى
العالمية بما هي تجلٍّ للرحمة الإلهية لجهة ما
تتجلّى به هذه العالمية من قوانين وأحكام
إلهيّة في حياة الإنسان..
[56] سورة القصص، الآية:
68.
[57] سورة المائدة، الآية:
3.
[58] مرتضى، بسام، المسيح
بين القرآن والإنجيل، تقديم السيد فضل الله،
دار الحق، بيروت، ط1، 1994، ص45.
[59] سورة الصف، الآية: 6.
[60] شلبي، أحمد، مقارنة
الأديان، المسيحية، م، س، ص35.
[61] سورة المائدة، الآية:
48.
[62] را: كيرلس سليم
بسترس، العلاقات الإسلامية المسيحية، تاريخاً
وحاضراً، ورؤية مستقبلية، مركز الدراسات
الاستراتيجية، م. س، ص225.
[63] هاشم، شريف، الإسلام
والمسيحية، م. س، ص15.
[64] إنّ كلمة الكفر في
القرآن لا تنطلق من نفي إيمان المسيحيين بالله
تعالى، لأنّ القرآن، كما بينّا سابقاً، يؤكّد
هذا الإيمان عندما يتحدّث عن الكلمة السواء،
وعن توحيد الله في مضمون هذه الكلمة، بل ينطلق
من الكفر بالرسول محمد باعتبار أن المسيحيين
لا يؤمنون به كرسول من قبل الله، مع العلم بأن
الكفر بالرسول يجعل الإنسان كافراً من هذه
الناحية، وعموماً يمكن القول إنّ الكفر
والإيمان عنوانان نسبيّان، كما يرى فقهاء
المسلمين، فهناك كفر وإيمان يتنوّع حسب تنوّع
موارده، فقد يكون الإنسان كافراً بالنسبة إلى
شيء، ومؤمناً بالنسبة إلى شيء آخر، فنحن نؤمن
بالله ونكفر بالطاغوت.
را: العلاقات الإسلامية المسيحية، م، س، ص43.
[65] سورة النساء، الآية:
159.
[66] سورة النساء، الآية:
65.
[67] سورة الأنعام، الآية:
122.
[68] سورة النساء، الآية:
174.
[69] را: الفيض الكاشاني،
محسن بن مرتضى، (ت 1091هـ)، نوادر الأخبار
فيما يتعلّق بأصول الدين، مؤسسة مطالعات، قمّ
المقدّسة 1374هـ، ص36.
[70] يقول الإمام علي
(عليه السلام): «الدنيا كلها جهل إلا في مواضع
العلم، والعلم كلّه حجّة إلاّ ما عمل به،
والعمل كلّه رياء، إلاّ ما كان مخلصاً،
والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم
له».
را: الكاشاني، م. س، ص28.
[71] سورة هود، الآية:
118.
[72] را: المطران بسترس،
الوثيقة المسيحية، قراءات مرجعية في التاريخ
والحاضر والمستقبل، مركز الدراسات
الاستراتيجية، ص235.
[73] الشيرازي، مرتضى،
التعددية من منظور قرآني، م. س، ص14.
[74] سورة الحجرات، الآية:
13.
[75] يقول الإمام علي
(عليه السلام): «... فبعث فيهم رسله، وواتر
إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته...
ويحتجّ عليهم بالتبليغ، ويثير لهم دفائن
العقول...».
نهج البلاغة، الخطبة 37.
[76] إنّ فلسفة التعددية،
هي الابتلاء، والامتحان، والتكامل، وقد بينّا
أن التكامل معلول للاستباق، كما قال الله
تعالى: ﴿
فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ
﴾، والهدف
الأقصى هو الله تعالى.
[77] سورة المائدة، الآية:
48.
[78] قطب، سيد، في ظلال
القرآن، م. س، ج2، ص122.
[79] سورة الزمر، الآية:
38.
[80] الإمام علي (عليه
السلام)، نهج البلاغة، الكتاب: 53.
[81] انظر: المطران بسترس،
العلاقات الإسلامية المسيحية، م. س، ص225.
[82] م. س، ص236.
[83] سورة النحل، الآية:
36.
[84] إنجيل يوحنّا، 14/7 ـ
16. الكتاب المقدّس، دار المشرق، بيروت، ط2،
1988م، ص337.
[85] م. ع، إنجيل يوحنّا:
16/3 ـ 13، ص343.
[86] سورة الروم، الآية:
30.
[87] قال الله تعالى: ﴿
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ
...
﴾ [الأنعام:
2] .
[88] قال الله تعالى: ﴿
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ ...
﴾ [الأنعام:
98] .
[89] سورة المائدة، الآية:
48.
[90] سورة الحجرات، الآية:
13.
[91] سورة البقرة، الآية:
148.
[92] سورة المطففين،
الآية: 26.
[93] الشيرازي، مرتضى،
التعددية من منظور قرآني، م. س، ص22.
[94] سورة المائدة، الآية:
48.
[95] را: شلبي، أحمد،
مقارنة الأديان، الإسلام، م. س، ص12.
[96] نُشير في هذا السياق
إلى حقيقة التنوّع في الشرائع والمناسك
والمناهج التي تتابعت مع الرسل واعترف بها أهل
الكتاب، ولكنهم تنكّروا لها حينما بُعث النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، في حين أن مقتضى
التتابع أن يستمرّ الإنسان في تواصله لا أن
يحكم على الله تعالى في ما يريده لعباده من
عقيدة وشريعة ومنهج حياة. فالله غالب على
أمره، ولا مُعقّب لحكمه، وله الخلق والأمر،
ولا يُسأل عمّا يفعل والناس يُسألون.
[97] سورة آل عمران،
الآية: 64.
[98] سورة الأعراف، الآية:
59.
[99] سورة البقرة، الآية:
148.
[100] سورة المائدة،
الآية: 48.
[101] سورة المائدة،
الآية: 48.
[102] سورة الحج، الآية:
67.
[103] المطران بسترس،
كيرلس سليم، العلاقات المسيحية الإسلامية، م.
س، ص223.
[104] سورة البقرة،
الآية: 148.
[105] را: الطباطبائي،
محمد حسين، تفسير الميزان، ج1، م. س، ص323.
[106] را: مطهري، مرتضى،
المفهوم التوحيدي للعالم، دار التيار الجديد،
بيروت، 1985، ص14.
[107] را: مطهري، مرتضى،
الإنسان والإيمان، دار التيار الجديد، بيروت،
1985، ص60.
[108] مطهري، مرتضى،
التوحيد، دار الهادي، بيروت، ص12.
[109] شلبي، أحمد، مقارنة
الأديان، م. س، ص12.
[110] م. ع، ص13 ـ 14.
[111] سورة البقرة،
الآية: 286.
[112] را: مطهري، مرتضى،
الهدف السامي للحياة الإنسانية، مكتبة الفقيه،
الكويت، ط1، 1986، ص94.
[113] سورة البقرة،
الآية: 111.
[114] سورة المائدة،
الآية: 48.
[115] يرى المطران جورج
خضر أن المسيحي يؤمن بأن المسيح في قوله على
الصليب «قد تمّ» أبان أنه خاتم النبيّين
جميعاً من حيث أنه حقق في ذاته وفي كمال محبته
وعود الله كافة وكشف عمق العلاقة القائمة بين
الله والإنسان... والمسيحي يؤمن أننا مع السيد
بتنا في «ملئ الزمان» (غلاطية 4: 4) وأنه لا
ينتظر إلاّ حضور المسيح ثانية في اليوم
الأخير...
را: جورج خضر، العلاقات الإسلامية المسيحية،
قراءة في الراهن والمستقبل، مركز الدراسات
الاستراتيجية، م. س، ص213.
[116] انظر: دراسة «موريس
بوكاي»، التي تبيّن أنّ الفارقليط في إنجيل
يوحنَّا هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم)، لقول النبي عيسى (عليه السلام): «رحيلي
فائدة لكم، لأنّني إذا لم أرحل فالفارقليط لن
يأتي إليكم، وعندما سيأتي روح الحقيقة
فسيجعلكم ترقون إلى الحقيقة بكاملها، لأنه لن
يتكلّم بإرادته، وإنّما سيقول ما يسمع...
وسيمجّدني». ولا شكّ في أنّ الكلام فيه دلالة
واضحة على أن الله تعالى سيرسل إلى البشر
وسيطاً آخر، كما كان النبيّ عيسى (عليه
السلام) وسيطاً... وقد جاء النبي محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) ومجّد النبي عيسى (عليه
السلام).
را: موريس بوكاي، دراسة الكتب المقدسة، م. س،
127.
[117] يرى بعض المسيحيين،
أنه ليس صحيحاً أن الإنجيل يكتفي بمبادئ عامة
في الأخلاق والحياة الاجتماعية، وأنه ليس في
المسيحية نظام سياسي واقتصادي كما هو الشأن في
الإسلام، ويعتبرون هذا الرأي ومن يذهب إليه
ساذجاً، والحق هو أننا نعتقد بأن السيد المسيح
(عليه السلام) لم يشأ أن يكون للمسيحية نظام
سياسي محدّد احتراماً منه لحريّة الإنسان
وإبداعايته، وقد ثار على الأنظمة اليهودية
الفاسدة التي كان الفريسيون وعلماء الناموس
يستندون إليها ليستعبدوا الإنسان في أطرها،
فنظامنا المسيحي في أمور السياسية والاقتصاد
والاجتماع هو الاستنباط الدائم لما يتضمن
كرامة الإنسان وحريته، والاحترام لجميع الناس
من أي عرق كانوا، وإلى أيّ دين انتموا فكيف
يطلب منّا بعض المسلمين أن نقبل بدولة إسلامية
ونظاماً إسلامياً نعتبرهما من مخلفات العصور
الوسطى...
را: المطران كيرلس سليم بسترس، الإسلام
والمسيحية، مركز الدراسات، م. س، ص223.
[118] سورة الممتحنة،
الآية: 8.
[119] يقول النشار: «ليس
ثمة رباط عقلي أو فكري بين اليهود والمسيحيين
سوى إيمانهم بالتوراة في غموض وإيهام لم يعرفه
مجتمع من المجتمعات، وهذا ما هو موضع انتقاد
عند أغلب الباحثين في الشؤون الدينية، يقول
أحمد شلبي: للأسف أن المسيحيين مع تقديسهم
للتوراة لم يتبعوها، فأحلّوا ما حرّمته ولم
يلزموا حدودها... وفي كثير من الأحيان عمدوا
إلى تفسير التوراة بما يناسب الإنجيل.
را: النشار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي، م.
س، ص64، وقا: مع أحمد شلبي، مقارنة الأديان
المسيحية، م. س، ص172.
[120] سورة آل عمران،
الآية: 103.
[121] سورة المائدة،
الآية: 3.
[122] سورة المائدة،
الآية: 47.
[123] سورة المائدة،
الآية: 68.
[124] سورة البقرة،
الآية: 137.
[125] سورة آل عمران،
الآية: 64.
[126] انظر: المطران،
بسترس، م. س، ص223.
[127] سورة الحديد،
الآية: 25.
[128] كيرلس بسترس، م. س،
ص. ن.
[129] سورة الأعراف،
الآية: 157.
[130] سورة النساء،
الآية: 83.
[131] كيرلس بسترس، م. س،
ص226.
[132] م. س، ص225.
[133] م. س، ص225.
[134] م. س، ص225.
[135] م. ع، ص. ن.
[136] م. ع، ص230.
[137] سورة الأنعام،
الآية: 122.
[138] سورة الأنفال،
الآية: 24.
[139] إنّ أهمّ ما يركز
عليه في مجال الأخلاق هو الوصايا، التي تضمنها
العهد القديم (التوراة)، وتابعها العهد الجديد
(الإنجيل)، وهي كما يرى كثيرون، موجز الأخلاق
المسيحية الإسلامية في علاقة المؤمن بالله
تعالى وعلاقته بقريبه، ونجد في الآيات
القرآنية وصايا كثيرة مشابهة للوصايا العشر،
ولا تكاد تجد اختلافاً بين ما يقبله المسلم
ويقبله المسيحي في ما تعنيه هذه الوصايا من
التزامات أخلاقية اتجاه الخالق والمخلوق، تقول
الوصايا: أنا الربّ إلهك ـ لا تحلف باسم الله
بالباطل ـ احفظ يوم الرب ـ أكرم أباك وأمّك ـ
لا تقتل، لا تزن ـ لا تسرق، لا تشهد بالزور ـ
لا تشته امرأة قريبك ـ لا تشته مقتنى غيرك.
هذه هي الوصايا التي يرى فيها أهل الإيمان
مجالاً مشتركاً لا للحوار وحسب، وإنّما لتأسيس
رؤية أخلاقية ذات بُعد عملي في حياة الإنسان.
[140] قال الله تعالى: ﴿
لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ
الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُواْ
﴾ [البقرة:
177] .
[141] سورة الذاريات،
الآية: 53. قال الله تعالى: ﴿
أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
﴾.
[142] سورة البقرة،
الآية: 111.
[143] سورة آل عمران،
الآية: 66.