الكتاب حوار الأديان في القرآن الكريم (إشكاليات الحوار وآفاق التواصل)
تأليف الشيخ عارف هنديجاني فرد
إعداد ونشر جمعية القرآن الكريم
الطبعة الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت
موقع جمعية القرآن الكريم www.qurankarim.org
بريد جمعية القرآن الكريم info@qurankarim.org

 

لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

 

فهرس الكتاب

الجزء الأول

الجزء الثاني الجزء الثالث

 

الإهداء

المقدمة

الفصل الأول : الإنسان في القرآن

  تمهيد الفصل

 أولاً : الإنسان الخليفة

 أ - الخلافة والعلم
 ب - الخلافة والكمال الإنساني

 ثانياً : القرآن والحوار

 أ - الدين والحوار

 ب - القرآن ومنطق الحوار

 ثالثاً : الأديان وأصول الإيمان

 أ - القرآن وأصول الإيمان

 ب - الأصول الإيمانية في التجربة التاريخية

خلاصة البحث

 

 


الإهداء



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَاخْصُصْ أَبَوَيَّ بِأَفْضَلِ مَا خَصَصْتَ بِهِ آبَاءَ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمَّهَاتِهِمْ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ لاَ تُنْسِني ذِكْرَهُمَ فِي أَدْبَارِ صَلَوَاتِي وَفِي أَناً مِنْ آناءِ لَيْلِي، وَفِي كُلِّ سَاعَة مِنْ سَاعَاتِ نَهِارِي. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَاغْفِرْ لِي بِدُعَائِي لَهُمَا، وَاغْفِرْ لَهُمَا بِبِرِّهِمَا بِي، مَغْفِرَةً حَتْماً وَارْضَ عَنْهُمَا بِشَفَاعَتِي لَهُمَا رِضَىً عَزْماً، وَبَلِّغْهُمَا بِالْكَرَامَةِ مَوَاطِنَ السَّلاَمَةِ. اللَّهُمَّ وَإنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لَهُمَا فَشَفِّعْهُمَا فِيَّ، وَإنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لِي فَشَفِّعْنِي فِيْهِمَا، حَتّى نَجْتَمِعَ بِرَأفَتِكَ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ وَمَحَلِّ مَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ، إنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الِعَظِيمِ وَالْمَنِّ الْقَدِيْمِ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

اللهم إنهما ربّياني على حبّ أهل بيت نبيك، وسعيا جهدهما لتأصيل ذلك في قلبي، وأنارا سبيلي بذكر أنوارك، وعمدا إلى توعيتي بمعرفة أعداءك.. إلى من أوصاني بهما ربي (جلَّ اسمه) حيث قال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ﴾ أهدي ثواب هذا الجهد المتواضع عسى أن ينفعني به الله تعالى حين ألقاه فهو ثمرة تربيتهما وجهدهما، وإليهما أقول: لم يذهب تعبكما ضياعاً، وأتمنّى أن أكون عند حسن ظنّكما بي بالإلتحاق بالأبرار ومرافقة الأنبياء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأقول: ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيراً.
وأرجو من الله أن يتقبل هذا الإنجاز الصغير إنه خير مسؤول ومجيب.

الشيخ عارف هنديجاني فرد


 


المقدمة


 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطاهرين.
إنّ التدبّر في كتاب الله تعالى يكشف لكل ذي لبّ أن الحوار هو الحقيقة الظاهرة في آيات الله تعالى، وهذا الحوار يتكشّف في الخطاب الإلهي مع جميع الكائنات؛ فالله تعالى هو الخالق وهو المدبّر، وهو الهادي، كما قال الله تعالى: ﴿
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [1] . وممّا لا شكّ فيه أن إعطاء الخلق يستتبع إعطاء الهدى لعلمه تعالى بما خلق وقدرته عليه، وإحاطته به.

وانطلاقاً من ذلك، نرى أن الحوار في القرآن هو مما تقتضيه حقيقة الخلق والهداية وخاصة مع الإنسان، الذي هو خليفة الله في أرضه، والذي استحق أن يكون موضوعاً لخطاب ربّه، وقد خوطب هذا الإنسان بما هو عبد لله تعالى وخليفته في الأرض، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... [2] . ولهذا فإنّ مقتضى كونه خليفة أن يكون أهلاً لهذا الخطاب، وموضوعاً للحوار على النحو الذي يميّزه عن سائر ما خلق من الكائنات، ويمكّنه من القيام بشؤون الخلافة، وتحقيق الولاية بحيث لا يكون للشيطان سلطان عليه، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [3] .

وهكذا، فإنّ الحوار في القرآن، وهو أكثر ما يتظهّر في مجال العبودية، يدلّل على أن الإنسان في هذا الحوار ليس منعوتاً بشيء، بمعنى أن الخطاب معه بما هو إنسان غير موصوف بصفة، ولا محدود بحدّ، بل هو الإنسان الذي خُلق ليكون عبداً لله بما خصّه به من عقل وإرادة وحرية، وغير ذلك مما يميزه عن عوالم الوجود، فهو الإنسان الذي سُخّرت له السماوات والأرض، وجعلت له الأرض ذلولاً ليمشي في مناكبها إلى غير ذلك مما انطوت عليه آيات القرآن من خصائص ومميزات كاشفة عن ماهية هذا الإنسان ودوره في عالم الوجود، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... [4] ، وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [5] ، وغيرها من الآيات الكاشفة عن حالات الإنسان وتحوّلاته النفسية والعقلية والوجودية، ويكفي أن نشير هنا إلى ما تدلّ عليه آية: ﴿ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [6] إذ هي تستبطن ما يكتنف حالات الإنسان من تحوّل وتبدّل في نفسه وواقعه، فضلاً عما ترمز إليه هذه الجدلية من علاقة مختلفة مع ما يحيط بالإنسان من عوالم هي أيضاً لها من التأثير على الإنسان ما يجعله أكثر فعلاً في جدليته ليكون أكثر تحولاً وتبدلاً في سياق ما يعيشه هذا الإنسان ويتفاعل معه، سواء أكان هذا التفاعل مع بني نوعه، أم مع الكون الذي يحيط به ويتأمل فيه.

إنّ القول بأن القرآن ينطوي على أطروحة حوار يتكامل فيها الإنسان، إنّما نقصد به حقيقة ما يتضمنه هذا الكتاب التشريعي، التدويني، من حقائق تعكس الكتاب التكويني وتتحدث عنه على النحو الذي يظهر معنى التكامل. إن لم نقل التماهي بين كتاب التكوين وكتاب التشريع، باعتبار أن ما ينطوي عليه كلا الكتابين هو آيات الله تعالى التي لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين يديها. فكلها آيات بالحق أنزلت وبالحق نزلت، كما قال الله تعالى: ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً [7] ، فالكون كله آيات الله تعالى، وهي آيات لا تنفد، وكل ما في هذا الكون من تكوين وتشريع ينطق بالحق ويسبّح بحمده، وقد أراد الله تعالى أن يكون الحوار في الأديان وبينها تسبيحاً، وكلمة يهتدي بها الإنسان إلى توحيد الله تعالى قولاً وفعلاً... كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾.

لذا، فإنّ ما نؤسس له في هذه الدراسة هو محورية الإنسان في الآيات المباركة، الإنسان الخليفة الناطق بالحق، والقائم به. وإذا كان ثمّة معنى للإنسان، بما هو إنسان موصوف باليهودية، أو بالمسيحية، أو بالإسلامية، فإنّ ذلك يمكن فهمه في سياق الوصف الظاهري للإنسان. أما جوهر الوصف، فهو الذي ينطوي عليه الإنسان من مكنون إلهي يعبر عنه في انتمائه إلى الله تعالى، كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [8] .

وهكذا، فإن حقيقة التمظهر إنّما تكون في العبوديّة، وليس فيما يتّصف به الإنسان من صفات ظاهرية يكتسبها من صياغات وتحولات إنسانية وتاريخية، فالنسبة الحقيقية هي لله تعالى. في حين أن التمظهر الديني الذي يصنّف الإنسان ويسمه بميسم الاسمية على نحو ما ألفه الإنسان في انتماءاته الدينية، وتفاعلاته الإنسانية، فهذا كله له معناه الظاهري، ولا ينبغي أن يكون الإنسان مستغرقاً فيه ليجعل منه إنساناً مختلفاً عن أخيه الإنسان، أو مانعاً له من التحوّل في عبوديته ليكون إنساناً كادحاً إلى ربّه. ولا شكّ في أن ما يدلّ على هذه الحقيقة، هو أن النبوّة لم تأتِ لإحداث التمايز في الانتماء، وإنما جاءت لتحقق العبودية، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [9] ، فهذا هو خطاب النبوة في لسان رسالتها، وعلى مستوى حركتها التاريخية، باعتبار أن الدين واحد، وهو الإسلام بما هو تسليم لله تعالى، وتصديق به، وتوحيد له، ولهذا نجد أن خطاب: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ [10] ، يكشف عن معنى التفاعلية في سياق العبودية وليس في سياق الوصفية الظاهرية التي غالباً ما يتلبّس بها الإنسان، عن قصد، أو عن غير قصد، ليتمايز في ضوئها، ويسكن إلى بريقها، خلافاً لمقتضى العبودية التي هي غاية الخلق، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [11] .

فالنبوّة في زمانها وتاريخها، وفي ما حققته من تجارب، لم تأخذ الإنسان إلى دائرتها الخاصة ليكون عبداً لهذا النبي أو ذاك، وإنما أثارته ليكون عبداً لله تعالى، وهذا ما نفهمه من دعوى عيسى إلى الملكوت، ومن دعوة رسول الله محمد إلى التحقق بالإيمان والعمل للفوز بالرضوان والجنان، وهذا هو مقتضى الإيمان الإبراهيمي الذي ننتمي إليه جميعاً بغضّ النظر عن أوصافنا وأحوالنا وتمظهراتنا الدينية والإنسانية. إنه الإيمان الجامع الذي عنونه إبراهيم بقوله تعالى: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [12] . ولا شكّ في أن الانتماء إلى هذا الإيمان، هو انتماء إلى السماء بكل ما يقتضيه هذا الانتماء من تحولات إنسانية واجتماعية وسياسية، وقبل ذلك من تحوّلات دينية أُريد لها في كثير من الأحيان أن تكون تعبيراً عن طقوس وشعائر مجرّدة عن الحق والمنطق، وقد ردّ عليها القرآن الكريم بما لا يبقى لها من شأن أو اعتبار، كما في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً [13] ، فمن أين يكون هذا الإيمان صادقاً، وهذا الانتماء قائماً فيما لو كانت الدعوة قائمة على زعم موهوم، أو على باطل معهود. فالانتماء إلى إبراهيم هو انتماء إلى الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال.

وعليه، فإنه لا معنى لأن يكون الحوار في الحق، أو عليه، وإنما يقتضي الحق أن تكون معه، سواء أكنت تنتمي إلى اليهودية، أم إلى المسيحية، أم إلى الإسلام، فكلها أسماء تحققت بالإيمان في تاريخها، وكانت النبوّة سبيلها إلى الله تعالى رغم اختلاف الشرائع، وتمايز الطرائق، وهذا كله لا يضير الإيمان وجوهر الانتماء، لأنه التزام بالشِّرعة والمنهاج كما جاء بها النبي. وإذا كان من سبيل للاختلاف؛ فلا ينبغي أن يكون الدين موضوعاً له، لأن الفطرة دليل هذا الدين، وسبيل هذا اليقين، وجوهر هذا الانتماء، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ... [14] . وهذه الشهادة الصادقة من بني آدم ليس لها إطار مذهبي، أو طائفي، أو عصبي، أو غير ذلك مما أريد للإنسان أن يتمايز به في تاريخه الإنساني والديني.

إن حوار الأديان في القرآن منطلقه الدين بما هو إسلام لربّ العالمين، كما جاء به الأنبياء، حيث دعوا جميعاً إلى عبادة الله تعالى، هذا فضلاً عمّا ينطوي عليه هذا الحوار من قبول، أو نقد، أو رفض، ويكفي أن يكون هذا الحوار مجسّداً لحقيقة التواصل الإنساني، ومعترفاً بالخصوصية والتمايز، ومقرّاً باختلاف الشرائع والمناسك [15] . وهذا إن كان يدلّ على شيء، فإنّه يدلّ على ما لهذا الحوار القرآني في إطار الرؤية الدينية من معنى إنساني يلحظ تعدّدية الإنسان وتنوعه فيما ينتمي إليه ويسوّغه لذاته في إطار عبودية الله تعالى. فالحوار في القرآن، كما نلاحظ في سياق الخطاب القرآني، هو خطاب متنوّع ومتعدّد، فهو تارة يكون لأهل الكتاب، وطوراً يكون للنصارى، وثالثة يكون لليهود، ورابعة للذين آمنوا، وخامسة للناس، وهذا كلّه يؤكّد أن حوار الأديان في القرآن له مشروعيته، وإن لم تكن له حقانيته على نحو ما سنبيّن في بحوثنا المقبلة إن شاء الله.

إن تنوّع الخطاب الإلهي، معناه أن يكون الحوار لاحظاً لحقيقة هذا التنوّع، وكاشفاً عن مشروعيته، ولكنه لا يُبقي على هذه المشروعية في دائرة الرفض لحقيقة العبودية، وكل ما يقتضيه الإيمان، وحقيق الهداية كما جاء بها الأنبياء، ولئن كان هذا التنوع في الخلق، وفي الخطاب الإلهي، مما يتميّز به الخلق، سواء في عالم التكوين أم في عالم التشريع، فإن له هدفاً لا بدَّ أن ينتهي إليه من خلال ما بلّغه الأنبياء من هداية، وقاموا به من رعاية، لأن مقتضى هذا التنوّع والتعدّد في الخلق أن يتواصل الإنسان ويتعارف ليكون له كماله الإنساني، فإذا لم يتحقّق هذا الأمر فلا يكون الإنسان قد بلغ منتهى ما أُريدَ له وبهِ فيما أُعطي من خلق وهدى، وهذا ما يُفسّر لنا معنى الخطاب الإلهي وتنوّعه إلى البشر، أن يهتدوا إلى سبيل الله تعالى، بحيث يكون لهم التحوّل الآمن في طريق الكدح إلى الله تعالى. فإذا لم يهتدوا إلى هذا السبيل، واستغرقتهم الدنيا فيما تنوّعت به، وتلهّوا عمّا أُريد لهم، فإنهم بذلك يقصّرون عن غاية خلقهم، وعن سرّ عبوديتهم، فلا يكون لهم الأمن، كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [16] . وهكذا، فإنّ مشروعية الخطاب الإلهي فيما ينطوي عليه من تنوّع، هادف إلى هداية الإنسان إلى طريق الحق، إلى الدين الحقّ، الذي هو واحد لا يتعدّد، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [17] .

غاية القول: إنّ ما ينتظمه عالم التكوين من تعدّد وتنوّع، سواء في عالم النبات، أم في عالم الحيوان، أم في عالم الإنسان، وكل ما خلقه الله تعالى، هو ليس مجرّد تنوّع في الأشكال وحسب، وإنما هو تنوّع في الوظائف والمهمات، تنوّع يستوعب كل شيء، ويعتبر من مظاهر الإعجاز والإبداع في الخلق، هذا النظم التكويني له انتظامه أيضاً في عالم التشريع لما تقدّم من أن كلمات الله تعالى تتماهى تشريعاً وتكويناً، وكل كتاب ناطق بما في الكتاب الآخر، ويبقى على الإنسان الحرّ والمتميّز باختياره أن ينتظم في سلك هذا التكوين والتشريع ليكون له كدحه وانتظامه الخاص به، لأنه الإنسان الخليفة، الذي أوكلت إليه مهام الحكم والتدبير، وأُلقيت عليه أسرار التغيير، هذا فضلاً عمّا خُصّ به هذا الإنسان من معانٍ في عالمي الملك والملكوت، وإذا كانت للإنسان هذه الخصائص والمزايا، فلا ينبغي له أن يكون سالكاً لسُبل الضلالة، أو هاجراً لسبيل الهداية، أو منتظماً في سلك الغواية، وخارجاً عن مقتضى الهداية والولاية، ومصغياً للشيطان فيما توعّد به من تغيير في خلق الله تعالى، كما قال الله تعالى: ﴿ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ... [18] .
فالشيطان هو الذي يدفع إلى نفي الحوار، ويأمر بتغيير خلق الله تعالى، الذي هو خلق متعدّد ومتنوّع وهادف إلى تحقيق الغاية من إعطاء الخلق والهداية للإنسان للقيام بشؤون الخلافة وبكل ما يقتضيه حمل الأمانة من حريّة ومسؤولية وتعاون، وغير ذلك مما لا بدَّ منه في طريق الكمال. ومن هنا يمكن لنا أن ندرك معنى تنوّع الخطاب القرآني إلى عباده ليكونوا على مستوى التحقق بالكمال، ويصدروا عنه في حقيقة انتمائهم الديني والعبودي، وفي التزاماتهم الإنسانية اتجاه عباد الله تعالى، فلا يتعصبون لباطل، ولا يعملون بخلاف ما تقتضيه الحكمة من الخلق والوجود.

كما ندرك أيضاً معنى أن يكون أهل الأديان متعارفين متعاونين، فلا تلههم تجارة الأوثان، ولا تتصرّم بهم السُّبل عن حقيقة الإيمان، الذي يؤدي بهم إلى أن يكونوا عباداً لله تعالى، دونما اعتبار لاختلاف مناهجهم وشرائعهم، وتعدّد ألوانهم ولغاتهم، إلى غير ذلك مما يتمايزون به ويختلفون فيه.

إنّ الحوار في الأديان له هذا المعنى، وهذا الهدف، أن يتحوّل الإنسان عن كونه منعوتاً وموصوفاً ليكون عبداً لله تعالى، فلا تقصّر به اليهودية، ولا المسيحية، ولا الإسلامية عن أن تكون له مقام الخلافة والتحقق في الوجود، والفوز برضى المعبود، فيتحوّل عن كونه إنساناً منتمياً إلى الزمان والمكان والتاريخ، أو للطائفة والمذهب والحزب، ليكون عبداً لله تعالى، وقائماً بسرّ العبوديّة، إذ إنّ مقتضى التعددية هو التسابق بالخيرات لتجاوز مشروعية التعدّد والتنوّع في الوجود إلى التحقق بحقّانية الخلود، كما قال الله تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ... [19] .


[1] سورة طه، الآية: 50.
[2] سورة البقرة، الآية: 30.
[3] سورة النحل، الآيتان: 99 ـ 100.
[4] سورة الإسراء، الآية: 70.
[5] سورة التين، الآية: 4.
[6] سورة الكهف، الآية: 54.
[7] سورة الإسراء، الآية: 105.
[8] سورة الزمر، الآية: 36.
[9] سورة الأعراف، الآية: 59.
[10] سورة الحجرات، الآية: 13.
[11] سورة الذاريات، الآية: 56.
[12] سورة الأنعام، الآية: 79.
[13] سورة آل عمران، الآية: 67.
[14] سورة الأعراف، الآية: 172.
[15] قال الله تعالى: ﴿
لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 67] .
[16] سورة الأنعام، الآية: 82.
[17] سورة الأنعام، الآية: 153.
[18] سورة النساء، الآية: 119.
[19] سورة المائدة، الآية: 48.


 


الفصل الأول : الإنسان في القرآن


 

تمهيد الفصل


ذ
كرنا في التأسيس المتقدّم أن الله تعالى اصطفى الإنسان وخاطبه ليكون خليفة في الأرض، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... [20] ، وهذا الخطاب الإلهي للإنسان لم يأتِ متميزاً في المكان أو في الزمان، أو في التاريخ، وإنما جاء خطاباً مطلقاً، سواء جاء هذا الخطاب على لسان النبي نوح (عليه السلام)، أو النبي موسى (عليه السلام)، أو النبي عيسى (عليه السلام)، أو رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بمعنى آخر يمكن القول: إن الإنسان هو موضوع لهذا الخطاب الإلهي في مطلق الزمن، وعلى لسان الأنبياء جميعاً، ولعلّه من الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الإنسان في تاريخه، أنه اعتبر نفسه إنساناً محدوداً ومتميزاً في الزمان والمكان، ومقصوراً الأمر به على هذا الاعتقاد أو ذاك، أو على هذه الرسالة أو تلك، ساهياً عن كونه خليفة الله تعالى، وأريد به أن يكون إنساناً كاملاً ومستوياً على جوديّ ملكوته، وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة في كثير من الآيات القرآنية التي أثنت كثيراً على الإنسان في مقابل آيات أخرى ذمّته ووبّخته، كما قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [21] فالإنسان، كما يرى مطهّري، في نظر القرآن موجود له القدرة على تسخير عالمه واستخدام الملائكة لنفسه، ويمكن أن ينزل إلى أسفل سافلين [22] .

إن الحديث عن الإنسان في القرآن، رغم كثرة البحوث التي تناولته من قبل العلماء والباحثين، لا يزال قابلاً للبحث، ولكن من منطلق أن القرآن لم يتحدّث عن الإنسان باعتباره تاريخاً، أو مخلوقاً في الزمان والمكان، وإنما تحدّث عنه من حيث هو خليفة سجدت له الملائكة، وتحقق في عالم الملكوت، وكانت له رؤية الجبروت على نحو ما بيَّن الإمام الخميني (قده) بقوله: «واعلم أن الإنسان هو الكون الجامع لجميع مراتب العينية والحسّية والمثالية منطوٍ فيه العوالم الغيبية والشهادتية وما فيها... فهو مع الملك مَلِك، ومع الملكوت ملكوت، ومع الجبروت جبروت...» [23] .

وأنّى لهذا الإنسان الذي له هذا التمايز في الغيب والشهادة، أن يكون مجرّد تاريخ، أو حديث، أو رؤية؟ ذلك هو معنى الإنسان في القرآن الذي لم تظهر كثرة البحوث الإسلامية وغير الإسلامية تمايزاته على مستوى التحوّلات الإيمانية والإنسانية، ونحن إنّما نمهّد لهذا الفصل عن الإنسان لبيان معنى إيمان الإنسان وما أُريد به من تحوّل من خلال إرسال الرسل لهدايته وإثارة دفائن عقله ليكون إنساناً كادحاً إلى ربّه، وواصلاً إلى غايته كما أراد الله تعالى، وهذا إنّما يكون ممكناً فيما لو تجاوزنا مفردات الوصف والشيئية والتميزات المكانية والزمانية، بحيث لا يقال الإنسان اليهودي، والإنسان المسيحي، والإنسان المسلم، أو غير ذلك مما وُصف به الإنسان في تاريخه. فالإنسان هو الإنسان الذي حقّقته النبوّة، وميّزته الرسالة، وبعثته الهداية إنساناً جديداً قادراً على تحقيق ذاته فيما خصّ به من وجود، وفيما أعدّ له من كرامة، وهذا كلّه يستدعي منا أن نتحدّث عن الإنسان بما هو إنسان خليفة، وإنسان متديّن، وإنسان كادح إلى ربّه، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ [24] .


 

أولاً : الإنسان الخليفة


يبيّن القرآن الكريم أنّ الإنسان كان خليفة قبل أن يكون يهودياً، أو مسيحياً، أو مسلماً، وقبل أن تكون له أيّة اعتبارات إيمانية، أو تاريخية، فهو الشاهد بالربوبية، والقائم بالعبودية، تميّزه الفطرة، وتحكمه حقيقة الانتماء إلى الله تعالى، كما قي قوله تعالى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [25] . وقال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمّىً عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ [26] . وكما نلاحظ أن الآيات تتحدّث عن عنصر ملكوتي في جبلّة الإنسان، وهو العنصر الذي هيّأ الإنسان ليكون ثابتاً وباقياً لا ينفد، لأنّ ما عند الله باقٍ وما عند الناس ينفد، كما قال الله تعالى: ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ [27] ، وإذا كان الأجل المسمّى لكل شخص هو عند الله تعالى، فإنّ معنى ذلك، كما يرى العلاّمة الطباطبائي، أنّ ما عند الله تعالى محفوظ من آفة التغيير والتبديل... فتكون النتيجة، أن الأجل المسمّى لا يقبل التغيير ... [28] .

إذن، الإنسان الخليفة، كما في مدلول الآيات المباركة، في عالم الثبات والبقاء ليس متحيّزاً ولا متميّزاً إلاّ على نحو ما يبيّن القرآن بأن الإنسان وإن كانت له تمايزاته في عالم الخلقة والوجود، إلاّ أنّه فيما خُصّ به من لدن الله تعالى له قيمه الروحية، والملكوتية الثابتة والباقية، والتي لا يمكن للنماذج المادية أن تفسّرها، لا من حيث القدرة، ولا من حيث الفكر، ولا من حيث الشهادة، ولا من حيث الحسّ الخُلُقي والديني والجمالي، لأنّ الإنسان سابق في وجوده على كل ما هو طبيعي ومادي [29] ، وله أفضليته على سائر ما خلق الله تعالى.

ومن هنا يرى العلامة المطهّري في معنى قيم الإنسان أن القرآن قد لحظ هذا المعنى الإنساني في أسبقية وجوده وفي أفضليته، مبيّناً أن الإنسان وإن كان قد خُصّ بأنّه خليفة، فهو له ظرفيّة علميّة هي أكبر من كونه مخلوقاً، كما قال الله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [30] ، هذا فضلاً عمّا خُصّ به إنسان القرآن من فطرة تعرف الله، وجبلّة ملكوتية لا تنفد، إضافة إلى حقيقة اجتباء الإنسان وهدايته، كما قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [31] . إلى غير ذلك مما خُصّ به هذا الإنسان من أمانة [32] وكرامة [33] ، وضمير أخلاقي [34] ، وذكر إلهي [35] ونِعَم سُخِّرت له [36] ، وهي قيم كثيرة منها ما هو في دائرة الملك، ومنها ما هو في دائرة الملكوت، كما قال الله تعالى: ﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [37] ، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [38] .

وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أن الإنسان الخليفة له تمايزه الملكوتي، وهذا يقتضي من أهل الإيمان أن يبحثوا في حقيقة الإنسان وما خصّ به من لدن الله بمعزل عن التاريخ الانساني وما حفل به هذا التاريخ من تأطير لحالة الإنسان الرسالية، وهذا ما ركّز عليه القرآن في سَير الأنبياء وعلاقاتهم مع أقوامهم، حيث نرى القرآن يدعو على لسان الأنبياء إلى التوحيد، والعدل، والتقوى، وحمل الأمانة، وتحقيق العنصر الروحي في حركة الإنسان الإيمانية والإنسانية، لأن حاكمية الروح هي الأساس في عالمية الإنسان، وهي الجوهر في حركته الرسالية، وإن أدنى تأمّل في مدلول الآيات المباركة يكشف عن هذا المعنى الإنساني، وهذا ما نرى أنّ المسيحية، وكذلك اليهودية، وكل الرسالات السماوية، تنطوي عليه وتدعو إليه ما يعني أن مقتضى فهم الخلافة لا بُدَّ أن يأتي في سياق الرؤية الإيمانية التي حملها الأنبياء لأقوامهم، ودعوهم إلى التمثّل بها والعمل بمقتضاها ليكون لهم الفوز في الدنيا والآخرة. فالإنسان هو الخليفة، وهو المستخلف في الأرض، والحامل للأمانة، وهذا كلّه، وإن كان يرتكز على ما تميّز به الإنسان في جبلّته من عناصر ملكوتية، إلاّ أنه لا يعني مطلقاً تجاوز الإنسان لرسالته في زمانه ومكانه وتاريخه، بدءاً من النبي آدم (عليه السلام)، وانتهاءً بعصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وهو بمقدار ما يكون له من حضور في عالم الرسالة، بمقدار ما يكون له من حضور في تحوّلاته الاجتماعية والسياسية على النحو الذي يجعله إنساناً يعيش الواقع ويتفاعل معه، وذلك خلافاً لمن يزعم بأنّ الإنسان له خلافته في الأرض على أساس كونه متماهياً ومتحققاً بدين، أو برؤية، أو بنظريّة، يُراد لها أو من خلالها أن تعطي أبعاد الخلافة في الأرض بُعد التاريخ الخاص بهذه الجماعة، أو تلك. فالرسالة السماوية، كل رسالة، تؤكد على خلافة الإنسان من حيث كونه منتمياً إلى دين الله تعالى فيما يصدر عنه، ويقوم به من أعمال عبادية أو سياسية، أو غير ذلك مما يتفاعل معه الإنسان في حياته المادية... على هدى النبوّة، التي هي واسطة كل تحوّل إيماني في حياة الإنسان على النحو الذي يؤكّد معنى الخلافة في الأرض.
نعم، إنّ الإنسان لم يتميّز في أصل خلقته، باعتبار أن القرآن يركّز على وحدة الأصل المادي، كما في قوله تعالى: ﴿
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ   [39] ، كما أنه لم يتميّز في أصل جوهره الروحي، كما في قوله تعالى: ﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [40] .

إنّ الأصل المادي واحد، وكذلك الأصل الروحي والمعنوي والملكوتي، فهو واحد أيضاً، وهذه الحقيقة تقرّها الأديان ولا يختلف عليها اثنان، بل هي حقيقة مؤدّاها أن لا اختلاف في الأصول التي ينتمي إليها الإنسان ويصدر عنها فيما يتخذه لنفسه من تحوّلات إيمانية وإنسانية، وفيما يعيشه من تفاعلات اجتماعية وثقافية وحضارية، فهو إنسان مكرّم في الأرض والسماء، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... [41] . إنّه إنسان مكرّم بصرف النظر عن التاريخ والزمان والمكان، لأنّ الإنسان، كما بينّا، سابق في تكريمه وخلافته وجوهره على كل هذا، وقد خصّه الله بهذه الكرامة قبل أن تميّزه حقيقة الانتماء إلى الرسالة الخاصة، أو النبوّة الخاصة، بل هو تكريم جاء بلحاظ كون الإنسان إنساناً متميّزاً بسرّ إلهي استودعه الله تعالى فيه، ولم يأتِ بلحاظ كون الإنسان منتمياً إلى شيء، أو منعوتاً بشيء، أو منسوباً إلى شيء. إنّه تكريم مخصوص للإنسان بما نفخ فيه من روح الله تعالى، وبما جعل فيه من نور الله تعالى؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [42] .

إنّ الإنسان هو جوهر العالم ومركز الثقل فيه، وفيه انطوى العالم الأكبر، وهو أقرب مخلوق في حقيقته وجوهره من حضرة القدس، بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى، ولسانه ناطق بذكر الله تعالى، وجوارحه وأعضاءه مكرمة بطاعة الله تعالى، ولعلّ قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [43] ، ناظر إلى نعمة الروح الملكوتية التي نفخها الله تعالى فيه من روحه، والتي جاءت في سياق آية حسن الخلق، ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه.. وهذا كلّه يقتضي الشكر من الإنسان الخليفة لخالقه الذي جعل له كل شيء لغاية العلم والشكر والتحقق في الوجود، بحيث يكون له التمايز في القرب، لكونه هو مبدأ القرب والولاية [44] .

 

أ - الخلافة والعلم


ل
قد بيَّن القرآن الكريم في حواره مع الملائكة، وفيما أخبرهم به أنه جاعل في الأرض خليفة: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... فقالوا: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾، فجاء الجواب: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [45] . فالملائكة لم يعلموا الحكمة من هذا الجعل الإلهي، ولكنهم أفصحوا عمّا هو مركوز لديهم من إفساد وسفك للدماء، فرأوا أن هذا لا يتناسب مع مقامات التسبيح والتقديس التي يقوم بها الملائكة.

وكما يبيّن القرآن أن هذه الإجابة لا تنطوي على علم كافٍ بحقيقة الجعل، وما ينطوي عليه من تقديس وتسبيح، فقال الله تعالى: ﴿  إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، فلم يأتِ الجواب بلغة التقديس والتسبيح، كما أنه لم يلحظ حقيقة ما كشف عنه الملائكة من دم وإفساد في الأرض، وهذا إن كان يدلّ على شيء، فإنّه يدلّ على أن للعلم معناه في الحوار الإلهي مع الملائكة، وهو ما تريد أن تكشف الآيات عنه، حيث أفادت الآيات بأن الإنسان إنما هو مخلوق للعبادة بما هي معرفة وللعلم بما هو سبيل للتحقق في الوجود، بلحاظ كون الإنسان الخليفة هو الإنسان الذي يملك الإرادة والحريّة والاختيار، خلافاً للملائكة الذين لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يُؤمرون؛ فهم على تسبيح وتقديس لله تعالى في كينونة وجوديّة مختلفة عمّا تميّز به الإنسان الخليفة في كينونة وجوديّة تملك إرادة أن تطيع، وأن تعلم الأسماء، وأن تتعلّم في طريق الكدح إلى الله تعالى، وهذا ما تدلّ عليه إضافة قولهم: ﴿ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ ما يعني أن هناك علماً جديداً، ونوراً مبيناً، شعَّ في أفق الإنسانية ليكشف عن بعدها الملائكي في صيرورة تحولها الإنساني. فأنّى للإنسانية أن تبصر بنور العلم فتكون في مقام الملكوت والجبروت...؟

إنّ قوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، كما ذكرنا، يفيد حقيقة العلم بكون الإنسان مخلوقاً لغاية العلم، كما قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [46] . فالعلم في ضمير الآية المباركة لم يكن ملحوظاً في قضايا الملائكة، بدليل تعليم آدم الأسماء كلّها وجواب الملائكة بالقول لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا، فالعلم هو محور الخطاب الإلهي وجوهر التحقق الإنساني في حين أن الملائكة استفزتهم تسوية آدم الطينية، فلم يلتفتوا إلى جنبة النور الإلهية المتجلّية بقوله تعالى: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [47] باعتبار أن الأمر بالسجود لم يكن لمجرّد تسوية بني آدم، وإنّما لجنبة النور في الملكوت الإنساني، وهذا دليل على تمايز الإنسان ومكانته في الخلق والوجود. وقد جاء في الحديث القدسي: «يا آدم خُلقت الأشياء لأجلك، وخلقتُكَ لأجلي».

إنّ قوله تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [48] هو دليل العلمية في حضرة الإنسانية، هو خطاب مسبوق بقوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [49] . ومن هنا نتعرّف إلى معنى علمي دقيق ممّا يمكن استنطاقه من الآيات المباركة، فهي تتحدّث عن علم إنساني لم يكن قد تعلّمه الإنسان، وهذا العلم المكنون في آية اقرأ مداه السماوات السبع والأرضين السبع، كما قال الله تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، وهذا المدى الحقيقي للعلم هو للإنسان الخليفة، وقد تقرّر في أصول الفقه أن ترتّب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علّة، وهذا يدلّ على أن الله تعالى اختصّ بوصف الأكرمية لأنه علّم الإنسان العلم، فلو كان شيء أفضل من العلم وأنفس لكان اقترانه بالأكرمية أولى.

وهكذا، فإن الله تعالى أراد أن يعرّف تمايز الإنسان بالعلمية، وليس كل إنسان، وإنّما الإنسان الخليفة الذي يسمع ويعقل عن الله تعالى، كما قال: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [50] . وهذه الآية ناظرة وكاشفة إلى أن من لا يسير بنور الله تعالى، ولا يهتدي بهديه يخرج من إنسانيته، وتستحيل عليه المعراجية، وهذا هو الإنسان الذي تحدثت عنه الملائكة، ورأت فيه سبباً للإفساد والإهلاك. وهنا قد يتساءل المرء، لماذا خلق الله الإنسان طالما أنّه يسفك الدماء، ويفسد في الأرض، فنقول: إنّ الذي جُعِلَ أفضل وأشرف من الملائكة هو ذلك الإنسان الذي دخل في ضمير قوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، أي الإنسان الذي اتبع الهدى وسار بنور الله في مسيرة كدحه، إذ إنه ليس من الحكمة في شيء أن يعدم الإنسان الوجود لمجرّد أنه سيكون منه من يسفك الدماء ويفسد في الأرض، باعتبار أن الإنسان المتجلّي في نور الله تعالى هو الخليفة، وهو سرّ الخلق والوجود [51] .

وهنا يمكن لسائل أن يسأل، هل من شأن الشَّرق بالماء والموت به أن لا يُخلق الماء؟ وهل من شأن الاحتراق بالنار أن لا تخلق النار؟ وهل من الحكمة أن لا يُخلق الإنسان الكامل لمجرّد أن بعض البشر يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء؟
إنّ قوله تعالى: ﴿
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، يستبطن وجود الخير الأعظم في الإنسان، ويُدلّل على مكانته فيما ينتهي إليه من تجلّيات علميّة وعمليّة، حيث إنّه جُهِّزَ بما يؤهّله لأن يتسامى في الملكوت حتى يبلغ مقام الجبروت فيما يختاره من هدى، فلا يضلّ ولا يشقى، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ [52] . هذه الآية التي تُعطي للإنسان بعده في سلوك طريق الهدى، فيكون له الفوز والنجاة بصرف النظر عن تنوّعه، وعمّا يكون منه من تحوّلات إنسانية وتاريخية في مسيرة كدحه إلى الله تعالى.

إنّ الإنسان الذي كرَّمه الله تعالى وجعله على أحسن تقويم، وشرّفه بالعلم، وخصّه بالنوريّة والملكوتيّة، والذي مَنَّ عليه بنور الهداية بعد نعمة الإيجاد. إنّ كل ذلك إنّما كان له ليكون له تمايزه الإنساني من خلال العبوديّة الحقّة لله تعالى.

ولا شكّ في أن هذا الإنسان بمقدار ما يتحوّل في ذاته وعبوديته لله تعالى، بمقدار ما يكون له من التسامي في حضرة القدس، ذلك أن الإنسان ما كان ليتميز في جنبة الطين، وإنّما تميّز بما جعل له من نور منَّ الله تعالى به عليه، كما قال الله تعالى: ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ... [53] . وقال الله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [54] . ولا شكّ في أنّ هذا الذي نذهب إليه لا يستتبع القول بأن هناك من حُرم من نور الله تعالى ابتداءً، وإنّما هو يعني أن الإنسان يتحوّل بذاته واختياره من نفخة الروح وتجلّي النور إلى الطين والمادة فيكون أسفل سافلين، هذا الطين الذي يؤدّي الاستغراق فيه والإخلاد له إلى أن يكون الإنسان أسير أهوائه وشيطان ذاته على ما يعنيه ذلك من إفساد في الأرض وسفك للدماء.. ولعلّنا لا نخطئ القول في أن الإنسان إذا ما اختار الهدى على الضلال، واتبع النور الذي جُعل له، فإنّه يقدر على أن يتحوّل إيمانياً وإنسانياً، سواء أكان ينتمي إلى الإسلام، أم إلى المسيحية، أم إلى أي دين من الأديان، وشريعة من الشرائع. لأنّ النور الإلهي هو نور واحد شعّ في حياة الأنبياء، وأضاء في طريق العباد، ولا يمنع منه إلاّ غواية شيطان، وعبادة هوى،...!!
إنّ العلم والتقوى هما سبيل التحقق الإنساني، فإذا ما اختلفت الشرائع وتبدّلت المناهج، فإنّ ذلك لا يحول دون أن تكون للإنسان طريقه إلى الهدى. ولا شكّ في أن حوار الأديان في القرآن كاشف عن هذه الحقيقة، باعتباره حواراً بنّاءً، سواء أجاء بالقبول، أم بالنقد، أم بالرفض للحالات الدينية التي ما أنزل الله بها من سلطان [55] ، وهذا ما سيكون موضع اهتمام وتدبّر في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى.

 

 

ب - الخلافة والكمال الإنساني


لا شكّ في أنّ تمام مظهريّة الإنسان الكامل، كما يبيِّن القرآن الكريم، تتجلّى في الأنبياء والرسل الذين جاؤوا بالرسالة، وحملوا الأمانة، وكان بلسانهم حوار الإسلام مع القبائل والشعوب والأقوام، وهم ـ أي الأنبياء ـ إنّما كان لهم هذا التحقق على مستوى النور والفعلية في الوجود والملكوت لكونهم لسان الحق، ومبعث النور، وأهل الحقيقة القدسيّة التي هي أصل الظهور، يقول الإمام الخميني (قده): «هذه الخليفة الإلهية... لا بدّ أن يكون لها وجه إلى الهوية الغيبيّة ولا تظهر بذلك الوجه أبداً، ووجه إلى عالم الأسماء والصفات، وبهذا الوجه يتجلّى فيها ويظهر في مزاياها في الحضرة الواحديّة الجمعية...» [56] .

إنّ الإنسان الكامل الذي أُوكِلَت إليه مهمّة حوار الدين وتبليغ الأحكام، هذا الإنسان لم يكن له في اعتقادنا التكامل والكمال من مبتدأ أمره بحيث يُقال إنه خُلقَ كاملاً، وإنّما كان له ذلك في مدارج الصعود والكمال، وفي منتهى الحرية والاختيار، لأنه لا معنى للكمال إذا لم يطوِ الإنسان الطريق بنفسه وإرادته وتصميمه، وبهذا المعنى نفهم فقه ودلالة الآية المباركة: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [57] . فالله تعالى لم يُلجئ الناس إلى أن يؤمنوا، ولهذا قال الله تعالى: ﴿  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [58] .

وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أنّ الأنبياء في دعواتهم قد سلكوا بالناس طريق تهذيب النفس، والهداية إلى نور الحق، للخروج بهم من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الفطرة إلى العقل لما يحققه هذا الخروج للإنسان من طيّ في طريق الكمال، ومن اهتداء إلى سبل السلامة في الدين والدنيا، وإن أدنى تأمل فيما يسوقه القرآن من أدلّة وبراهين لتعليم الإنسان وهدايته، يكشف عن أنّ رسالات السماء التي توّجها القرآن وهيمن عليها كلّها أعدّت للإنسان ما تستطيع معه إقامة الحق، وتحقيق العدل، وإجراء الحوار اللازم ليكون الاهتداء عاقلاً وفاعلاً ومؤثراً في الإنسان فينطلق في طريق الهداية، ويكون له برهانه ودليله على ما يذهب إليه في مجال العقيدة والشريعة والحياة.

وإذا كان هذا الإنسان قد أخفق في طريق الهداية، ولم يهتدِ سبيل السلامة، فذلك ليس لأن الإنسان قصّر به عن حقه، أو حيل بينه وبين ربّه، وإنّما لكونه لم يتبع الهدى، واتّبع السبل فتفرق عن سبيله، وكانت منه المفاسد والشرور، ويكفي لتأكيد هذه الحقيقة أن نستعرض آيات الرحمن فيما جاء به في سياق الهداية والعناية، سواء في القرآن، أم في سائر الرسالات السماوية، لنعرف كيف أن الإنسان قد استغرق في زهرة الدنيا، واختار غير سبيل المؤمنين ليقع عن وعي وإدراك بالخسران المبين.

وقد يتساءل كثير من أهل الأديان، أنه إذا كان مقتضى الصفات الإلهية الكمالية أن يخلق العالم بصورة يتوفر في مجموعه الكمال الغالب والخير الممكن الحصول، فكيف يمكن أن نفسّر شرور الإنسان ومفاسده؟ وكان الجواب على لسان أهل العلم بما يكفي لتأكيد حرية الإنسان ومسؤوليته عمّا يختاره، يقول العلاّمة اليزدي: «إن الإرادة الإلهية إنّما تعلّقت بخلق الإنسان، وأن وجود الإنسان هو منشأ للخير الغالب، ومن المميزات الرئيسة للإنسان اختياره وإرادته الحرّة، ولا شكّ في أن التوفر على قوّة الإرادة والاختيار يعدّ من الكمالات الوجوديّة، حيث يعدّ الواجد لها أفضل من الفاقد لها، ولكن ما يلازم صفة الاختيار أن يكون الإنسان قادراً على ممارسة الأفعال الحسنة والخيّرة التي توصله إلى كماله النهائي والأبدي، وكذلك أن يكون قادراً على ارتكاب الأفعال القبيحة لتتّجه به إلى السقوط في الشقاء الأبدي. إنّ ما تتعلّق به الإرادة الإلهية أصالة هو تكامل الإنسان، ولكن بما أنه يلزم في التكامل الاختياري للإنسان إمكان السقوط، فلهذا تتعلّق الإرادة الإلهية بالتبع بهذا السقوط الاختياري...» [59] .

لقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أنه من السنن الحاكمة في حياة الإنسان الابتلاء، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ... [60] ، فهذه الآية ناظرة إلى أن ميزان تفوّق الإنسان وتمايزه ليس مجرّد الخلق من نطفة، وإنما لكون الإنسان ممتحن بالابتلاء، على اعتبار أن جميع الحيوانات قد خُلقت من نطفة أمشاج، فلا امتياز في هذا الخلق إلاّ من حيث كونه جاء في سياق الحكمة الإلهية التي جعلت الإنسان أهلاً لهذا الامتحان من منطلق كونه حرّاً مختاراً. وقد أُعطي الإنسان الحريّة لأداء الامتحان، ذلك أن من أراد أن يمتحن تلميذاً من حيث معلوماته فلا بُدّ من منحه الحريّة للإجابة...

إنّ الخليفة الذي جعله الله تعالى في الأرض لم يُخلق عبثاً، ولم يترك سدىً، وإنّما أُنيطت به مهام الخلافة وإعمار الأرض، وتحقيق العدل، والهداية إلى مدارج الكمال، وقد جهّز هذا الإنسان بكل ما يلزم للقيام بهذه المهام من عقل وتشريع وأنبياء ورسل للارتفاع به إلى مصاف التجلّي الإلهي، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾.

لقد بدأ خلق الإنسان من طين لا بهدف أن يكون طيناً، وإنّما بهدف أن يكون نوراً، بحيث يتحوّل الإنسان بذات نفسه نحو ما أُعدّ له من تجوهر في العبوديّة لله تعالى، لتكون له صبغة الله، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [61] ، وكما نلاحظ أن الصبغة قد جاءت في سياق العلم والعبادة والمعرفة، التي يتميّز بها الإنسان، بل هو من أهم ما يميّز خلق الإنسان في طريق تكامله، وكما بدا لنا سابقاً أنَّ هذا الأمر ليس متعلقاً بالجنبة الطينية للإنسان، بل بالجنبة النورية التي نفخها الله من روحه فجعل منه إنساناً مستحقاً للخلافة، ولسجود الملائكة له، وهذا ما بيّنه العلاّمة محمد تقي اليزدي بأن هذا الخلق يتعلّق أصالة بالله تعالى الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى إلى غير ذلك مما أكدته الآيات القرآنية، وحثّت على التدبّر فيه.

غاية القول: إنّ الإنسان المكرّم في الأرض، والمستخلف فيها، إنّما يكون إنساناً حقيقياً فيما لو استجاب لنداء الله تعالى في نفسه وحياته، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [62] ، ولا شكّ في أنّ هذه الحياة القرآنية هي التي تميّز الإنسان وتجعله مختلفاً في تحقيقاته الإنسانية والإيمانية بعد توحّده في الأصل والسبب، فالحياة القرآنية لا تقدّم الإنسان على أنّه متعدّد في لغته ولونه ومنهاجه، ولا في كونه مختلفاً في أنماط سلوكه، أو فيما هو منتهي إليه من قبائل وشعوب، بل تقدمه من حيث هو متحوّل في ذاته عن طريق الاستجابة والكدح والعقل عن الله تعالى باتجاه هدف واحد ورؤية إلهية واحدة جاءت بها النبوة إلى البشر، وعبّرت عنها في كل زمان ومكان بهدف أن يتواصل الإنسان في مسيرته التكاملية نحو الله تعالى، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [63] ، فإذا لم تتحقّق هذه الرؤية الواحدة، فإن الإنسان لا يلبث أن يسقط في امتحان وجوده، وفي تحقيق صبغته، هذا فضلاً عمّا يكون له من تبعثر في الوسائل والغايات، وتكون النتيجة الإفساد في الأرض وسفك الدماء.

إنّ تمام الجوهر الإنساني إنّما يكون بالعقل عن الله تعالى واتباع هداه، لأن كرامة الإنسان وخلافته في الأرض مشروطة باتباع الشريعة، لقوله تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً ... [64] ، فإذا اختلّت العلاقة مع الله تعالى استغرق الإنسان في هوى شيطانه، فإنه يخرج عن دائرة الخلافة والإعمار في الأرض ويتحوّل عن شهادته التي كانت منه في عالم النور، كما يقول الإمام شمس الدين ﴾: «إنّ الإنسان يخرج عن دائرة التكريم في أعماله، ويدخل فيها بإحسانه، وكذلك الحال في أمانة الاستخلاف، فإنّ الإنسان يخرج منها لمجرّد أن يركن إلى المعصية ويفسد في الأرض، كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [65] .

لقد وصلت الآدميّة إلى قاب قوسين أو أدنى، وتجلّت حتى لامست سدرة المنتهى فكانت الملك والملكوت، ومن دلائل هذا التجلّي في القرآن تحقّق الملاقاة في طريق الكدح للإنسان، وفي الكتب المقدّسة التي ينتمي إليها أهل الإيمان أن نور الحياة إنّما يكون في اتباع الإنسانية الكاملة، كما قال المسيح (عليه السلام): «أنا نور العالم ومن يتبعني لا يمشي في الظلام». ولا شكّ في أنّ هذه الملاقاة ليست مجرّد تعبير مجازي، وإنما هي تعبير حقيقي يكشف عن مدى تحوّل الإنسان في كدحه فيما لو أخلص لله تعالى وتجاوز قيود ذاته فيما هي عليه من تمايز في الأشكال والألوان والأحوال [66] .

إنّها ملاقاة كاشفة عن حقيقة ما تؤول إليه المسيرة الإنسانية في كدحها، فلا يستمر الإنسان طيناً بل يعود أدراجه ويكمل دورته ليكون له مصاف الوجود والتجلّي، خلافاً لمن أخلد إلى الأرض واتبع هواه فكان من الغاوين، وانحصر في هياكل الظلمة والأجساد والأشباح التي غالباً ما تجعل الإنسان أسير مادته وأناه، سواء تجسّدت هذه الأنا في النفس؛ أم في الطائفة، أم في المذهب، أم في العرق، وغير ذلك مما تتناهى عنده ظلمات الإنسان..

إنّ الإنسان مخلوق متميّز في شهادته، وقد جعل له التميّز أيضاً في الكرامة والخلافة، وقوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [67] ، يرشد في مضمونه إلى هذا التمايز، ويُعطي الإنسان قيمته المطلقة بمعزل عمّا يكون لهذا الإنسان من تحوّل وانتماء في زمانه ومكانه وتاريخه فضلاً عن دينه.. وقد تجلّت حكمة الله تعالى وعنايته بعبده فيما تواتر من أنبياء ورسل لأجل تكميل المسيرة الإنسانية بالهداية والرعاية والتدبير والسياسة، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي بإثارة دفائن العقول، لكي يتواصل الإنسان وتكون له عالميته الشاهدة والمتميزة على نحو ما تواصل الأنبياء والرسل لتأكيد شهادة الإنسان وتعزيز خلافته وإظهار مكامنه من حيث هو إنسان في مطلق الزمن، ما يعني ضرورة أن يكون الإنسان متجاوزاً حدود الانتماء، سواء أكان يهوديّاً، أم مسيحياً، أم مسلماً.

وانطلاقاً من ذلك، نرى أنه لا معنى لتجزئة الإنسان لذاته وتقييد خلافته وكرامته وعالميته من منطلق أنه إنسان ينتمي إلى نوح أو إلى إبراهيم أو إلى موسى أو إلى عيسى، أو إلى الرسول محمد صلوات الله عليهم أجمعين، إذ إنّ الذي ينبغي أن يلحظ في الحقيقة بمقتضى الانتماء والشهادة هو الإنسان المنتمي إلى الله تعالى أولاً وأخيراً، لأنّ انتماءه الحقيقي إلى الله تعالى هو الذي يعطيه بُعده في الزمان والمكان، كما قال الله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [68] . فإذا تحقق هذا المعنى للانتماء بكفاية العبودية لله تعالى؛ فإن ذلك من شأنه أن لا يُبقي زماناً لتميّز الإنسان في الزمان والمكان والتاريخ، بل يكون له بُعده العالمي بالشهادة الأولى التي شهدها الإنسان لربّه، والتي جاء الأنبياء لإثارتها كلٌّ في زمانه لكي يكون لهذا الإنسان انتماؤه الحقيقي، بحيث لا يكون للانتماءات الجزئية أية معانٍ أخرى، خاصّة تلك التي تزعم محدوديّة الانتماء في الزمان لهذا النبيّ أو ذاك على نحو ما آلت إليه الانتماءات في تاريخ الإنسانية. والحق يُقال: إنها انتماءات فصلت بين البشر بحسب أنبيائهم ورسلهم.

وقد رأينا كيف أن كثيراً من الانتماءات لم تصل إلى الله تعالى حتى في زمان النبوّة، فكيف يكون الانتماء صادقاً، والحوار قائماً فيما لو كان الدين مجرّد شعار لحركة الإنسان في ميدان الحياة؟ وكيف للإنسان اليوم أن يفسّر معنى الانقلاب على الأعقاب، أو الجمود القائم على التفرّق والتميّز في الدين!؟

فلو أن الآدمية الشاهدة والمكرّمة والمستخلفة هي الملحوظة في سياق التعبير عن الانتماء فيما يترجمه الإنسان ويجسّده من معانٍ دينية لما كان البشر وجدوا إلاّ الله تعالى لكونهم من أصل واحد في المادة، وكذلك في الروح والنفس، ومآلهم لا بدَّ أن يكون واحداً فيما لو اهتدوا بالأنوار وأخذوا بالأسباب. وسلكوا سبيل السلام. وهذا هو معنى التوحّد بالله تعالى بلحاظ كون الإنسان واحداً، وإن تعدّدت شرائعه وأفكاره ومناهجه وطرائقه ومناسكه وشعائره، حيث قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [69] .

إنّ الانتماء الحقيقي والنهائي في مسيرة البشر، هو الانتماء إلى الله تعالى من خلال الأنبياء والرسل، ومن شأن هذا الانتماء أن يكون الإنسان كادحاً إلى ربّه لتكون له ترجمة شهادته، وعالميّة كلماته الإلهية، باعتبار أن آدم (عليه السلام) تلقّى هذه الكلمات الهادية في تاريخ الإنسان، والناطقة بسرّ الانتماء. إنها الكلمات التي صحّحت مسار الانتماء في الحياة، وضمنت للإنسان مصير التحولات الدينية والإنسانية، هذا فضلاً عمّا حقّقته هذه الكلمات من أبعاد إيمانية في الهداية والرعاية من خلال تواتر الرسل والأنبياء في حياة الأمم والشعوب.

ومن هنا، نرى أنه لا معنى لأن يستغرق الإنسان في زمانه ومكانه ورؤيته الدينية، لأنّ الاستغراق فيما يعتقده الناس أنه كلمة باقية وهادية من دون وجه حق، إنّما يعني التصادم على مستوى الرؤية والمنهج والحياة، هذا فضلاً عمّا يؤدّي إليه ذلك من اختلال في تحقيق الكرامة والخلافة والشهادة، التي خُصَّ بها الإنسان من لدن الله تعالى، ليقوم بها على النحو الذي يؤدّي به إلى أن يكون إنساناً مهتدياً بالحق، وقائماً بالعدل، ومنتمياً أولاً وأخيراً إلى الله تعالى، وهذا ما أرشد إليه القرآن بقوله تعالى: ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... [70] ، وهو إرشادٌ يفيد أن الإيمان بالله واليوم الآخر، هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة، على نحو ما بيَّن العلاّمة اليزدي أنه سبيل يربط بين الإنسان وآخرته، بين التوحيد والمعاد، وقد تمّت الهداية إلى هذه السبيل بالوحي الذي أنزله الله على الأنبياء، وقد وُضع في متناول أيدي الناس بواسطة الأنبياء [71] .


 

ثانياً : القرآن والحوار


سبق لكثير من الباحثين أن كتبوا في موضوع الحوار في الإسلام، أو بين الأديان، وكانت جلّ بحوثهم تتعرّض إلى هذا الموضوع من منطلق أن القرآن يدعو إلى الحوار انطلاقاً من كونه الكلمة النهائية في حياة البشر، وعلى أساس أنّه خاتمة الرسالات السماوية، ولا بدّ أن يكون القرآن مهيمناً على الحوار ومؤسّساً له في ضوء هذه النهائية الدينية، بحيث تكون سائر الأديان مطيعة له ومنطلقة منه، وهذا ما كان يؤخذ به على أنّه نفي للأديان، أو إلغاء لها مع كل ما يتتبع ذلك من تهميش وتحقير وتسفيه للآخرين، رغم أنّ القرآن، فيما ينطوي عليه من آيات، سواء في مجال التكوين، أم في مجال التشريع، ناطق بالتنوّع والتعدّد، هذا فضلاً عمّا يدعو إليه من إنسانية في العلاقات بين البشر، ولعلّنا لا نخطئ القول بأن هذه النزعة الأحادية، أو هذه الرؤية السلبية لموضوع الحوار لم تكن خاصة بالأديان السماوية الأخرى، أو بمن لا يؤمن بها من الشعوب، بل هي رؤية انسحبت على المسلمين أنفسهم فيما ذهبوا إليه من آراء بلغت حدّ الإلغاء والتهميش والتحقير لكثير من المسلمين، الذين لا يؤمنون بما تؤمن به هذه الفرقة أو تلك من فرق المسلمين، فكان مجرّد الاختلاف في الرأي سبباً للتكفير، كما فعل الخوارج وغيرهم كثير.

وقد يصحّ القول: إنّ عالم المسلمين منذ وفاة رسول الله وحتى يومنا هذا قد انطوى على فواجع ومهالك يهون معها الخطب على غير المسلمين؛ ويكفي أن نشير هنا إلى طريقة تعامل العرب مع الموالي في العهد الأموي، حيث كانت أقوام غير العرب تعتبر من الدرجة الثانية، أو الثالثة في الدولة الإسلامية، في حين كانت الأقوام المسيحية واليهودية والمجوسية تتمتّع بالعزّة والحريّة والاستقلال في ممارسة شعائرها، وإقامة مناسكها، وقد بيّن العلاّمة مطهّري في كتابه «الإسلام وإيران» [72] أن أهل البيت (عليهم السلام) لم يكونوا بمأمن من غوائل الأمراء، وتعرّضوا لأبشع أنواع الظلم من قبل الأمويين، وكانت أعظم هذه الفواجع، كما نعلم، قتل الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء.

وهناك الكثير ممّا لا يمكن إحصاؤه في تاريخ المسلمين، حيث نجد أنّ الحوار، سواء أكان ذا طابع ديني، أم طابع سياسي قدغاب عن حياة المسلمين، لصالح الاستبداد بالرأي في الدين والسياسة معاً، وغالباً ما كانت المصالح السياسية والأطماع الشخصية هي الحاكمة والمجتهدة في النصوص الدينية، ما أدّى بالمسلمين إلى أن يكونوا أسارى هذه الرؤية الفكرية أو تلك، هذا فضلاً عمّا انتهى إليه المسلمون من تأويل وتفسير للقرآن على النحو الذي يخدم تطلّعات السلطات الحاكمة في الدين والسياسة كما فعل المعتزلة في زمن المأمون، وأهل الحديث في زمن المتوكّل [73] ، حيث كانت كل فرقة تستخدم السلطة لتسويغ مشروعها الفكري والسياسي، ورؤيتها الدينية وفاقاً لتأويلات قرآنية ما أنزل الله بها من سلطان!؟

إذن، لم يكن الحوار في تاريخ المسلمين على ما ينبغي أن يكون عليه، وكما جاء به الإسلام مع رسول الله ، بل كان ملتبساً إلى حدّ القول بأنه كان إكراهاً، ولم يكن حواراً، سواء أكان مع المسلمين، أو مع غير المسلمين وإن بدرجات متفاوتة، ويكفي في هذا البحث أن نسلّط الضوء على حقيقة الحوار في القرآن من خلال المنهج البياني الذي يفترض الموضوعية في فقه الآية ودلالتها، إضافة إلى تفسير القرآن بالقرآن. وقد سبقنا إلى هذا البحث كثير من المفسرين والباحثين، وكانت لهم تقديماتهم القيّمة في موضوع الحوار. وبما أننا لا نروم أن يكون بحثنا تكراراً لما قدّمه الآخرون في هذا المجال، فإنّنا سنحاول جاهدين أن نعرض لرؤية حوارية نؤكّد من خلالها على أنّ الإسلام كلٌّ واحد لا يتجزّأ، وأنّه في دعوته الحوارية يعترف بالآخر ويقبل به شرط عدم العدوان، ويكفي أهل الأديان قاطبة أن يتفهّموا معنى قوله تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [74] ، الآية التي نزلت في مكّة حين كان الإسلام لا يزال في بداية الدعوة، والناس في شرّ دار وعلى شرّ دين على حدّ تعبير الإمام علي (عليه السلام) [75] .

فإذا كان الحال كذلك مع المشركين والوثنيين، فكيف يمكن أن يكون الحال مع الأقوام والشعوب الأخرى التي تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، أو كانت تؤمن بالله وتتلبّس بلبوس التشبيه والتجسيم كما هو شأن الكثيرين من مسلمين وغير مسلمين ممن كانوا يعبدون الله على حرف...!

إنّ القرآن يهدي للتي هي أقوم، أي إلى الطرق القويمة في معالجة قضايا الإنسانية، سواء في مجال الفكر والعقيدة، أم في مجال الاجتماع والسياسة والحضارة؛ فهو ـ أي القرآن ـ يقدّم منهجيّة فريدة في إدارة موضوع الحوار، سواء مع المسلمين، أم مع أهل الكتاب، أم مع المشركين إذ لم يُعهد عن نبيّ من أنبياء الله تعالى أنه كان يقوم بنفي الآخرين، أو إلغائهم، وإنّما كان شأن النبوّة دائماً النداء إلى عبادة الله تعالى، كما جاء على لسان الأنبياء جميعاً: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [76] . والدعوة إلى تحقيق العدل في المجتمعات الإنسانية من خلال شرائع السماء التي حملها الأنبياء إلى أقوامهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك الأذى والنفي وغير ذلك مما كان يتعرّض له الأنبياء من سخرية واستهزاء وعداء وقتل، وهم رغم كل ما كانوا يتعرّضون له في سبيل الحقّ، استمرّوا في الدعوة بالحسنى، ولم ينبذوا الحوار بل استمروا به لهداية العباد وإصلاح البلاد.

 

أ- الدين والحوار


لقد تقدّم الكلام في أن الدين هو فطرة الله، التي فطر الناس عليها، ولم يسبق لجماعة، أو قوم، أو شعب أن كان غريباً عن فطرته، أو خارجاً عن ذات نفسه مهما كان بدائياً، وكما يقول ول ديوارنت: «لا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعمّ البشر جميعاً اعتقاداً سليماً، وهذه حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية، إذ لا يكفي المؤرّخ أو الفيلسوف أن يعلم عن الديانات كلها أنها مليئة باللغو والباطل، لأنه معنيٌّ قبل ذلك، بالمشكلة ذاتها، أعني مشكلة العقيدة الدينية من حيث قدم ظهورها ودوام وجودها، فما أساس هذه التقوى التي لا يمحوها شيء من صدر الإنسان» [77] . وقد رأينا سابقاً فيما عرضنا له في موضوع خلافة الإنسان وكماله لما ذكره علماء الانتربولوجيا أن الإنسان ما كان ليؤمن بالوحي لو لم يكن مركوزاً في نفسه شيء من هذا الوحي، وهذا الشيء هو فطرة الإنسان وعنصر النور فيه، الذي يحمله على تقبّل الوحي، وهو ما عبّر عنه الإسلام بالشهادة لله تعالى في عالم كونه قبل أن يكون على ما هو عليه في عالم الشهادة والخلق والإيجاد. ولعل ما ذهب إليه «ولتر ستيس» في حقيقة الدين قريب مما أجمع عليه علماء الأديان قديماً وحديثاً وهو كلام معبّر عنه لجهة تأكيده على أنه يمكن أن تجد مجتمعاً، أو عصراً لا علم فيه ولا نظام، ولا انتظام أفكار في الاجتماع والسياسة والثقافة، ولكن لا يمكن أن تجد مجتمعاً، أو عصراً لا دين فيه [78] .

فالدين هو حقيقة ثابتة، وعنصر أساسي في تكوين الإنسان، وقد عرّف أرسطو الإنسان بأنه حيوان ناطق [79] وعرّفه هيغل بأنه حيوان متديّن، والإنسان وحده الذي يكون له دين [80] ، هذا فضلاً عمّا ذهب إليه علماء الأديان بأنّ الدين شيء فطري في النفس البشرية، إلى غير ذلك من التعريفات التي لخّصها الدمغاني في قاموس القرآن في خمسة أوجه [81] وفصّلها العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان، بقوله: إنّ الدين في عرف القرآن أعمّ من الشريعة والملّة وهما كالمترادفين مع فرق من حيث العناية اللفظيّة، أو هو السنّة الاجتماعية الدائرة في المجتمع، وهذه السنّة إمّا دين فطري وهو الإسلام، أو دين منحرف عن دين الحق وسبيل الله [82] .

وهكذا، فإنّ القرآن يبيّن معنى الدين بما هو توحيد وتسليم لله تعالى، وهذا البيان ليس مجرّد تعريف للدين لكونه وحياً من الله تعالى، وكاشفاً عمّا لهذا الدين من معنى في نفس الإنسان وفطرته، فإذا ما كان هذا البيان تعريفاً، فإنّه قد يلتبس هذا البيان ليكون موضع قبول أو رفض أو تساؤل، في حين أن الوحي هو الكاشف عن معناه، والمبيّن لحقيقته من حيث هو فطرة لا تبديل لها، ولهذا نرى أن علماء التفسير قد أخذوا على الباحثين مسلكهم في تعريف الدين أو غيره، إذ إنّهم يلجأون إلى وضع التعريفات ثم يشرعون في إثبات صحّة ما يضعونه مسبقاً من تعريفات، فيكونون أسرى ما وضعوه، ومثاله على ذلك، أنّ الدين قد يعرّف بأنه عبارة عن الشيء الذي أوجده الحكام لتخدير الشعوب، أو هو انعكاس عمل الإنسان الابتدائي مقابل قوى الطبيعة، أو هو الدهشة مقابل حدث ما، أو غير ذلك مما عُرِّف به الدين، وتكون النتيجة اعتماد المقدّمات، وإقامة الاستدلالات من أجل الوصول إلى التعريف [83] .

ولا شكّ في أن هذا ليس من نهج القرآن، لأن الله هو خالق الإنسان، وعالم بما هو عليه في ذات نفسه؛ فلا يكون بيانه تعريفاً، ولا كشفه تخميناً، وإنما هو بيان علم وحق شهد له الإنسان في نفسه، وعبّر عنه في سلوكه، وقد جاءت الشرائع والعقائد متوافقة مع ما فطر عليه الإنسان بحيث يكون سبيل الهداية متاحاً له، وقادراً عليه، كما قال الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا [84] ، فكان الإسلام هو الدين الذي ينتمي إليه الإنسان في ذات نفسه قبل أن تكون له تعبيراته الاجتماعية والإيمانية والإنسانية، ولقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [85] ، وقال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [86] .

وانطلاقاً من ذلك، نرى أن القرآن هو هداية إلى هذا الإسلام، بما هو دين ينتمي إليه الإنسان الآدمي دونما اعتبار لزمانه ومكانه وتاريخه، وهذا ما دعا إليه الأنبياء أقوامهم بأن يكونوا مسلمين لله تعالى ومنقادين له. وطالما أن للإسلام هذا المعنى، وهذا الدور في حياة الإنسان، فإنّ الرسالات السماوية قد أرشدت إلى سبيل الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، إذ هي لم تلغِ ديانة، ولم تُنهِ نبوّة، بل أكملت الناموس كما في تعبير الإنجيل، وهيمنت بالقرآن بالحفظ والرعاية والصون لكل الديانات، وهذا ما عبّر عنه الإنجيل بالقول: «لا تظنّوا أني جئت لأنقض الناموس، أو الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأُكمل...». . وهذا دليل على تتابع الرسالات، وتواصل الهدايات إلى البشر من خلال الرسل والأنبياء، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [87] .

إنّ مقتضى الدين، والحوار في هذا الدين، أن نكمل الناموس، وأن نقبل الآخر، وأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وأن تتواصل البشرية والأديان بالإسلام، بحيث يكون هذا الدين أساساً ومنطلقاً في تحقيق السعادة والفوز في الدنيا والآخرة، فلا تكون هناك خسارة، ولعلّ قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ هادف إلى تبيان معنى الالتزام بهذا الدين والتعبير عنه عملياً في حياة الإنسان ليخرج به من الظلمات إلى النور، لأنه إذا لم يخرج من الظلمات بنور هذا الدين، فلن يكون له فوز، بل خسارة محققة في الآخرة إن لم تكن في الدنيا والآخرة معاً. ولكن عدم الإشارة إلى الدنيا في الآية المباركة، لا يُعطى الإنسان فرصة أن يحقق هذه الخسارة لنفسه أو للآخرين، أو أن يعمل بخلاف ما جاء في قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ إلى غيرها من الآيات القرآنية التي تنهى الإنسان عن العدوان، وتدعوه إلى الدعوة بالحسنى.

ولا شكّ في أنّ ما جاءت به الرسالات السماوية قبل القرآن ينطوي على هذا المعنى الحواري بغضّ النظر عمّا أفادته التجارب الإنسانية لجهة الادعاء بأنّ الدين هو ما تراه هذه الجماعة أو تلك، وقد بينّا في بداية بحثنا ما آل إليه أمر المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تعصّب وتفرّق وادعاءات دينية لا برهان لهم بها! وهكذا الحال كان مع الأمم السابقة على الإسلام إذ كانت كل فرقة، وكل أمّة تدّعي نهاية الدين عندها، وتمتنع عن الحوار مع الآخرين بدعوى أنّهم كفرة أو خارجين على الدين، وغالباً ما كانت النتائج السياسية والاجتماعية والثقافية متناسبة مع هذه الدعوى الباطلة.

إذن، الدين هو الإسلام بما هو تسليم لله تعالى، وقد أمر الأنبياء جميعاً أقوامهم باتباع الحق، وإقامة العدل، والمجادلة بالتي هي أحسن، والتعصّب للحق والعدل، واحترام حقوق الإنسان، والتي أهمها حرية المعتقد، لأنّ مقتضى التنوع في عالمي التكوين والتشريع كما يتبيّن لاحقاً أن يتحوّل البشر وفق إرادتهم وحريّاتهم، وأن يحتكموا إلى قوانين السماء، وإلى كليّات الأديان والشرائع فيما أمرت به ونهت عنه بمعزل عن سائر التفاصيل التي راعت بها الشرائع ظروف ومعطيات الحياة الإنسانية، هذه الظروف التي خصّها الله تعالى بالشرائع المناسبة لها في ضوء إمكانيات الإنسان العقلية والنفسية، وهذا ما كانت عليه منهجية الأنبياء في تحقيق الحياة العملية للناس. أما الدين بما يختزنه من تعاليم ووصايا، وبما يدعو إليه من حوار عقلي ومنهجي، فهو مما لا يختلف عليه أحد، لأنه دين الفطرة والحوار والمحبة والتسامح والكلمة الطيبة. وقد سبق أن بينّا معنى أن تكون للإنسان كرامته وحريته من حيث هو إنسان ينتمي إلى الله تعالى ويكتفي به.

إنّ الدين بما هو فطرة وبما هو انتماء إلى الله تعالى يهتف بالحوار ويدعو إليه، واختلاف الشرائع، وتعدّد المناهج والطرائق في الحياة لا يمنع من التعبير عن هذا الانتماء، الذي هو جوهر إنسانية الإنسان. وإذا كانت الشرائع قد اختلفت وتعدّدت وتباينت في أحكامها، فذلك هو أحد أوجه التعبير عن هذا الدين، الذي خصّ الله تعالى الإنسان به، ولكنه تمايز في ضوء ما كان عليه الناس من تحوّلات اجتماعية وإنسانية وثقافية ...

إنّ الله تعالى في كتبه، ومن خلال رسله أرشد الإنسان إلى سبيل سعادته وفوزه في الدارين، ولكنّه ترك له حريّة الاختيار ولم يكرهه على الإتيان بما هو حق وعدل، لأنّ الإنسان له قدرة التمييز والتفكير بعد أن تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في ضوء تجاربه وقبل ذلك في ضوء إيمانه لا بدّ أن يهتدي إلى ما ينبغي أن يكون عليه من إيمان وتسليم واعتقاد سليم، ولعلّ من أهم ما يدلّ على ما نذهب إليه هو دعوة الدين الحوارية التي جسّدها الأنبياء مع أقوامهم، إذ ندرك تماماً كيف أنّ الأنبياء قد تسلّحوا بالحجّة، واعتمدوا على منطق العقل، واستندوا إلى منهجيّة الحوار في قبول، أو رفض ما يُعرض لهم من أفكار وقضايا، ولهذا نجد الرسالات السماوية تركّز على رفض المنهج التقليدي [88] ، الذي اعتاد عليه الناس، وهذا ما يبدو واضحاً وجليّاً في دعوة الأنبياء، وخاصة في أمثال الإنجيل والقرآن ...

فالحوار الديني هو من متمّمات إنسانيّة الإنسان، ومن ضرورات التحققات الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع الإنساني، وحيث انعدم هذا الحوار، كان التعصّب والنفي والجهل، وغير ذلك مما جاءت الأنبياء لتحرير العباد منه. وما لم تتحقّق المجتمعات الإنسانية بهذا الحوار الديني المنفتح، والقائم على قوانين الفطرة، وإذا لم يُحتكم إلى شرع الله تعالى فيما دعا إليه وحضّ على اتباعه، فإنّ شيئاً من التواصل الإيماني لن يتحقق، وسيبقى الإنسان رهين تعصّبه ونزواته كأنّه لا نبيٌّ جاء ولا وحي نزل [89] ...

 

 

ب - القرآن ومنطق الحوار


تبيّن لنا فيما سبق أن الدين ليس مجرّد حالة شعورية، أو طقوسيَّة، وإنما هو عنصر ملكوتي، على حدّ تعبير مطهّري، في كيانية الإنسان، وفطرة فطر الناس عليها، وقد بيّن القرآن الكريم معنى أن يكون الدين توحيداً لله تعالى وتسليماً له وتصديقاً به، وكان أول تعبير عنه في شهادة الإنسان وقوله «بلى شهدنا»، ومن هذه الشهادة تحول الإنسان عن كونه مفطوراً على إدراك الحقائق من دون الحاجة إلى أي استدلال، ليكون إنساناً مكلفاً في عالم تحققه الوجودي والمعرفي في أجواء النبوات والشرائع، كما قال الله تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [90] .

وإذا كان لا بدّ من محاورة القرآن في معنى الدين، وفيما يكون له من معنى في حياة الإنسان، فإنّ ذلك يقتضي منّا أن نستنطق القرآن لنتعرّف إلى حقيقة ما يراد بالدين من حيث هو فطرة ومنهج، فنقول: إنّ الدين بما هو تسليم لله تعالى، وبما هو عقيدة وشريعة يهتف بالحوار ويدعو إليه، لما للحوار من معنى وأثر ودور في قواميّة الإسلام ، بما هو عقيدة وشريعة ونظام حكم، فالحوار هو متنفّس حريّة الإنسان في التعبير عن وجوده، وفي تحقيق مسؤولياته، فإذا انتفى الحوار الديني كان الاستبداد والقهر والإكراه بديلاً له، وكما تعلّمنا من القرآن، أنّ حقيقة الأمانة التي حَمَلَها الإنسان لم تعرض أصلاً على الإنسان، بل طلبها هو لقوله تعالى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [91] ، فالإنسان مارس الحوار في الحصول على الحريّة، ووجود الحوار هو دليل على تحقق هذه الحرية، ولهذا، قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [92] ، وهذا ما يمكن تلمّسه بوضوح من حوار القرآن مع أهل الكتاب ومع الكافرين، ومع مشركي مكة، حيث نجد القرآن يركّز في مفرداته على السمع والبصر والعقل والأفئدة، ويدعو إلى المنهج القويم، وكل ذلك إنّما كان من القرآن لإثارة الإنسان وجعله على بصيرة من أمره، سواء في دينه أم في دنياه، هذا فضلاً عمّا دعاه إليه من حوار وتأمّل وتساؤل حول الخلق والوجود لتلمّس الحكمة في حركة وجوده وتحوّله على خطّ من أين وفي أين وإلى أين، باعتباره إنساناً عاقلاً وهادفاً في حركته الإيمانية وفي ممارسته للحريّة [93] .

إنّ القرآن يخاطب الإنسان، ويدعوه إلى الكدح في الحياة من خلال ما أمره به ونهاه عنه، ولا شكّ في أنّ من تعابير هذا الكدح هو الحوار والاستجابة لنداء الله تعالى، لتكون له الحياة، وإذا كان القرآن قد أكثر من استعمال العقل والقلب والسمع والبصر، فذلك إنّما يمكن فهمه في سياق تحمّل المسؤولية، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [94] . ولهذا نجد أن القرآن يذمّ أولئك الذين لهم آذان ولا يسمعون بها، وقلوب لا يفقهون بها، واعتبرهم كالأنعام أو أضلّ سبيلاً، وهذا ما يدلّ على أن الهدف من تركيز القرآن على مسؤولية الإنسان في إطار ما يمارسه من حرية، وما يملكه من إمكانات وقدرات، ويتمتع به من كفاءات علمية وعقلية، هو إعطاء الإنسان حيّزه الوجودي، وتميّزه العقلي ليكون إنساناً كادحاً إلى ربّه، ويأتي الحوار القرآني مع الناس في سياق هذه المسؤولية التي يتحمّلها الإنسان فيما يكتسبه من خلال الجوانح والجوارح، وإلاّ فما يكون معنى قوله تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [95] ، فيما لو تجاهلنا دخالة جوارح وجوانح الإنسان في إطار ما يتحمله من مسؤولية حوارية مع أخيه الإنسان، وفي دائرة الإنسانية الكبرى بمعزل عمّا ينتمي إليه هذا الإنسان، أو ذاك من شريعة، أو طريقة في التعبير عن نفسه أو عن معتقده.

لذا، فإنّ معنى أن يتحمّل الإنسان المسؤولية، وأن تكون له حريّة في طلب ما يريد وفي حمل ما يريد، كما أسلفنا، معناه أن لا يقتصر دور الإنسان على اعتبار الدعوة القرآنية والحوار القرآني حواراً خاصاً به، أو مقتصراً عليه من حيث هو إنسان ينتمي إلى الإسلام ويعمل بشريعة القرآن، لأنّ دعوة القرآن تتجاوز كون الإنسان منتمياً إلى القرآن إلى الناس كافة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ [96] .

وهذا ما ينبغي أن يكون موضع تأمّل وتدبّر عند المؤمنين والباحثين في الشؤون الإسلامية، ولعلّ من أهمّ ما يمكن التدبّر فيه، هو قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ... [97] ، فالآية، كما نلاحظ، تدعو إلى الحوار من موقع أهل الكتاب، وعلى أساس الوحدة والاتحاد، فهي تقول لهم: إنكم تزعمون أن اعتقادكم في الله تعالى لا ينافي التوحيد.. فتعالوا نضع يداً بيد لنحيي هذا المبدأ المشترك، ونتجنّب كل فهم أو تفسير يؤدّي إلى الشرك، والمُلفت للنظر، كما يقول الشيرازي في تفسير الأمثل، أن الآية تؤكّد موضوع التوحيد في ثلاثة تعابير مختلفة، فذكرت ﴿  أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾، وفي الجملة الثانية ﴿  وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً  ﴾، وفي الثالثة: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ [98] .

كما نلاحظ أيضاً أن الآية لا تفرض حواراً بالإكراه، وإنما تدعو إليه من موقع أهل الكتاب وإنسانيتهم، وبالتساوي معهم، ومن موقع حريّتهم وإيمانهم بالله تعالى، الذي يقتضي منهم أن يكونوا على مستوى المسؤولية الإيمانية، فيعملون أبصارهم وقلوبهم وعقولهم وأسماعهم، بحيث يستجيبوا لنداء الله تعالى. فالقرآن لا يدعوهم إلى حوار سلبي من موقع كماله وتمامه وخاتميته وهيمنيّته، وإنما يدعوهم ليكونوا أحراراً في الاستجابة لنداء عقولهم وقلوبهم، فيستجيبوا لدعوة الحوار القرآنية، ويعقلوا عن الله تعالى فيما يدعوهم إليه من حقّ وإيمان.

والحق يُقال: إنّ القرآن لم يخرجهم عن كونهم بشراً، ولم يُنظر إليهم على أنهم ناقصوا الأهلية، كما أنه لم يأتهم من عليائه لإشعارهم بنقصان الإنسانية، وهوان الاعتقاد وتسافل المقام، بل دعاهم إلى الكلمة السواء، الكلمة الحوارية المشبّعة بروح الإيمان والانتماء، فإذا كانوا على انتماء حقيقي لله تعالى، عالمين بحقيقة ما جاء به الأنبياء في التوراة والإنجيل، فذلك يستدعي منهم، ومن موقعهم الإيماني أن يستجيبوا للنداء القرآني، فيقيموا معه لغة الحوار للابتعاد عن الشرك والإلحاد. وقد حصل في تاريخ الإسلام أن تحاور رسول الله مع نصارى نجران، وقبل ذلك مع المسيحية في الحبشة [99] ومع اليهود على حدود يثرِب [100] ، وجادلهم بالتي هي أحسن، إلى غير ذلك مما كان من حوارات في العقيدة والسياسة، كما جرى في تحالف وتعاقد المسلمين مع اليهود من خلال صحيفة المدينة التي نصّت على أن يكون لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين [101] ...، وكان من شأن هذه الصحيفة أن تحقق اجتماعاً سياسياً ودينياً ناجحاً لولا أن اليهود أفسدوها وانقلبوا عليها [102] .

غاية القول: إنّ الدين بما هو تعبير إيماني فطري عملي لا بدَّ أن يكون له انعكاس في السلوك والتعبير الحياتي للإنسان، بحيث يكون التطبيق حاملاً لخصائص هذا الإيمان. وبما أن الدعوة الإلهية، كما جاء بها القرآن قد تمّت مع أهل الكتاب، ومع سائر الشعوب والقبائل، فإنّ ذلك يؤكد حقيقة ما يبتغيه القرآن من الحوار، سواء في مسائل الدين، أم في مسائل الدنيا.

وقد بيّن القرآن أن أزمة أهل الكتاب، سواء اليهود أم النصارى، لم تكن مع القرآن ككتاب لا يؤمنون به، وإنما كانت مع التوراة والإنجيل، كما بيّن الله تعالى في قوله: ﴿ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ [103] وكما في قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [104] . إلى غير ذلك من الآيات التي تحثّ أهل الكتاب على الحوار وتدعوهم إلى الإيمان، ولكنهم كانوا دائماً يتربّصون بالمسلمين الدوائر، وهذه الدعوة إلى الحوار كانت وستبقى قائمة، لأنّ ما يُؤسس له القرآن في حياة الإنسان يبقى قائماً ومستمراً إلى يوم القيامة.

ولهذا، فإنّ قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ ... ﴾ لا تزال دعوة حيّة وستبقى ما دامت السموات والأرض، وهي دعوة إلهيّة يمتثل لها المسلمون في حاضرهم ومستقبلهم. وإذا كان هناك من يصرّ على المفاضلة بين الأديان ليمتنع عن الاستجابة لدعوى الحوار، فذلك دليل عن أن من يدعُ إلى ذلك لم يحسن الانتماء إلى دينه، فأحرى به أن يكون عاجزاً عن الانتماء أو المفاضلة، لأنّ الدين الإلهي بما هو عبادة لله وتسليم له لا يختلف بين دين وآخر، ولا بين شريعة وأخرى من حيث الأثر والغاية ونيّة الالتزام، التي هي أساس في حركة الانتماء، وكذلك هي نيّة حقيقية في مسعى الحوار إلى التي هي أحسن.

ومن هنا، فإننا نرى أن ما يذهب إليه بعض الباحثين لجهة الدعوة إلى التوحيد والتوفيق بين الأديان والمذاهب، هو أمر في غاية الأهميّة، بل هو أكثر من ضروري بعيداً عن مساعي الطمس الديني، وذلك كلّه يبقى مشروطاً بحقيقة الانتماء إلى الله تعالى، لكونه الأساس في إنجاح أي مسعى توحيدي، وفي تحقيق الحوار الديني البنّاء، الذي يؤدّي إلى أن يكون أهل الإيمان في طريق التفاعل والتواصل لما فيه خير الدين والدنيا. أما الحقيقة، فهي خلاف ذلك تماماً، حيث نجد أنّ أكثر من يدّعي الدين والإيمان يختار دينه في ضوء المصالح والالتزامات المادية. فلا يستقرّ على قرار، وهو على استعداد دائم لإخلاء الديار كمن يحمل متاعه على كتفه رجاء ربح هنا، أو فوز هناك. والمطلوب، كما يرى أهل الإيمان والالتزام، ليس أن يبدّل المرء دينه، بل أن يقبل الآخرين على دينهم، وهذا يقتضي قيام أهل الإيمان في كل دين، بحيث يعمل كل منهم على تفسير دينه انطلاقاً من الإنسانية الواحدة، ووصولاً إلى الإنسانية الواحدة والدين الواحد، فلا يفاضل بين الأديان ولا يفرّق بين الأنبياء، لأنّ الدين واحد كما قال الله تعالى ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [105] وقوله تعالى: ﴿ أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ... [106] وإذا كان من أمثولة يجدر أن يتعلّمها أهل الإيمان واللاهوت والقداسة في عصرنا الحاضر، فهي أن المسيح ومحمداً وسائر الأنبياء والرسل (عليهم السلام) جاؤوا لا ليجعلوا من أتباعهم مسيحيين، أو مسلمين بالمعنى اللفظي أو الشكلي أو الاسمي للعبارة، بل ليجعلوا منهم أناساً مخلَصين [107] ، وإذا ما شئنا التعقيب، فنقول: ليكونوا أناساً منتمين إلى الله تعالى، كما جاء في القرآن: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾، بلى هو الكافي في دينه وشريعته، في الدنيا والآخرة، ومن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً، فيكون مخلصاً لله تعالى في دينه، ومسلماً لله تعالى في أمره ونهيه. كما قال الله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [108] .


 

ثالثاً : الأديان وأصول الإيمان


إذا كانت أصول الإيمان لم تختلف في مفرداتها، وتراكيب ألفاظها إلاّ أنها غالباً ما اختلفت في مضمونها وتعبيراتها ومدلولاتها، حيث نجد الأديان السماوية تُفرد للتوحيد والإيمان بالله تعالى جوهر وجودها، وتُعطيه خلاصة روحها. إنّه التوحيد الذي تميّزت به الرسالات، وتجوهرت به العبادات. قدّمته الرسالات على أنه أصل في الدين، وروح في اليقين، فاختلط في نور الفطرة، واهتدى إليه العقل، فكان للإيمان سرّاً، وللحياة سبباً، وللإنسان خلاصاً.

لقد نادى الإسلام بأن الدين واحد، وأن التوحيد هو رسالة كل نبيّ ومصدر بعثه. وبما أن الأنبياء جميعاً قد حملوا مشعل التوحيد، ونادوا به سبباً للخلاص في أجواء الشرك والوثنية، فإنّ هذا التوحيد، كأصل من أصول الإيمان، لم تكن له مضامينه الواحدة، ومدلولاته السامية عند أهل الأديان، فانقلب أكثرهم على روحه، فأخرجوه عن كونه واحداً ليكون توحيداً خاصاً بهذه الملّة أو تلك، خلافاً لما جاء الأنبياء من تنزيه وتقديس، وكان أول من التبس عليه التوحيد، ومال به الهوى عن جادة اليقين؛ هم اليهود الذين آمنوا بإله واحد، ولكنهم مزجوا الألوهيّة بالتجسيم والتشبيه، وانضووا على غلوّ في الدين والإيمان، فلم يحافظوا على الديانة التوحيدية كما جاء بها النبي موسى (عليه السلام) ولم يخضعوا، كما يرى المتخصصون في تاريخ اليهود، لقوانين التلمود خضوعاً تاماً [109] .

إنّ أهمّ ما يمكن التركيز عليه في هذا البحث، هو أن أصل التوحيد لم يختلف بين الأنبياء والأوصياء، وإنّما الأهواء البشرية والمنازعة الشخصية، وخاصة منازعة الأحبار، هي التي أخرجت التوحيد وأصول الإيمان عن صفائها، وقد ردّ القرآن على مذاهب اليهود والنصارى في كثير مما ذهبوا إليه وأصّلوا له على مستوى الاعتقاد، معلناً رفضه لكل تفسير وتأويل لا ينسجم والعقيدة القرآنية. وهذا ما بيّنته السيرة النبويّة للرسول فيما عرضت له من مناقشات مع يهود يثرب خاصة. وإنّ أدنى تأمّل فيما جاء في القرآن، لا بدَّ أن يكشف عن مدى اهتمام القرآن بالعقيدة الخالصة لله تعالى بعيداً عن ما زعمه اليهود من ألوهيّة خاصة بهم لا تنسجم وروح الدين والتوحيد، ولا شكّ في أن أهم نقطة يختلف بها اليهود والنصارى في مجال الإيمان هي مسألة التوحيد الذي بيّن القرآن الكثير من المزاعم بشأنها، هذا وقد بينّا في بحثنا السابق كيف أن القرآن يدعو أهل الكتاب إلى الكلمة السواء، التي مفادها ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾ ، وهي من الآيات الغرر التي تجيب على تساؤلات أهل الإيمان فيما يتعلق بأصل من الأصول الكبرى في العقيدة الدينية.

كما أن المسألة التوحيدية ليست هي المسألة الوحيدة التي اختلف بشأنها أهل الإيمان، وذهبوا فيها مذاهب شتّى، بل يُضاف إليها ما ذهب إليه اليهود خاصة بشأن النبي موسى (عليه السلام) [110] إذ رأوا فيه نبيّاً جبّاراً همّه القتل والقتال، لا إنسانية فيه وتحرّكه العاطفة اليهودية، في حين نجد القرآن يُعطي النبي موسى (عليه السلام) كامل المعنى الإنساني، وهذا يكشف لمتأمّل بصير كيف أنّ رسالة الإسلام قد صحّحت الكثير من المفاهيم، وأظهرت الكثير من الأحداث والوقائع النبوية، إذ لم يقتصر التبيان فيها على أصول الإيمان، بل تجاوزت ذلك إلى التجربة لتصحيح المسار البشري بعد أن شوّهه اليهود بوحي من أحبارهم لخدمة مآربهم الشخصية ومنافعهم الدنيوية.

وطالما أن مرتكز هذا البحث هو أصول الإيمان، فلا بأس أن نعرض لما هو مشترك في مسيرة الأديان، بعيداً عن تشابه المفاهيم، وكل ما اختلف بشأنه من نظريّات دينية بدءاً من أصل التوحيد، وانتهاءً بالصفات الإلهية التي لا يمكن مقاربتها بموضوعية تامة إلاّ إذا أخذ الباحث طريقه إلى البحث فيما رآه اليهود من صفات الإله الجبّار، إلى غير ذلك مما رأوه في مجال الشريعة التي لا تنسخ عندهم. فإذا كان اليهود والمسلمون يتفقون في التوحيد المطلق، وفي كونها ديناً وشريعة، إلاّ أنهم لا يتفقون فيما يذهب إليه كل طرف من تأويل في فهم التوحيد وفي الشريعة وفي النبوّة. والأمر نفسه يمكن لحاظه عند المسيحيين أيضاً لكونهم يتفقون مع المسلمين في أصل التوحيد والنبوّة، لكنهم يختلفون معهم في كثير من التفاصيل في شأن عيسى ونبوّته، وهذا ما كشف القرآن عن تفاصيله، ولولا أن القرآن قد أوضح هذه التفاصيل، فما كان ممكناً مقاربة مجالات الاتفاق والاختلاف فيما ذهبت إليه كل ديانة، سواء في مجال التوحيد، أم في مجال النبوّة، وهذا يدلّل على أن القرآن لم يقفل باب الحوار مع أهل الإيمان، كما زعم بعض الباحثين في علوم القرآن، بل قال: تعالوا إلى كلمة مستوية، كلمة عدل أن لا نعبد إلاّ الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا نجعل بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، وهي اللطيفة التي توضّح مدى ما كان يقوم به الأحبار ورؤساء القوم من أعمال تسيء إلى الدين، ومما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «ما عبدوهم من دون الله، ولكن حرموا لهم حلالاً وأحلّوا لهم حراماً، فكان ذلك اتّخاذهم أرباباً من دون الله...» [111] .

غاية القول: إنّنا لا نعدم وسيلة لتحقيق المقارنة التي تسمح لكل باحث أن يقف عند حقيقة ما هو متفق عليه ويشكّل قاسماً مشتركاً بين أهل الإيمان، ويبقى القرآن، بنظر الباحثين المنصفين، هو الكتاب الكاشف عن حقيقة الإيمان وأصوله، لأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه تنزيل الحكيم الحميد. وإذا كان بعض الباحثين لا يرى كفاية في ذلك، بسبب ما تنطوي عليه سريرته أو عقيدته من ملابسات اعتقادية، فإنه يكفي في التوقف عند حقيقة الحوار القرآني مع أهل الكتاب. تماماً كما يتوقف أي باحث عند الكتب المقدّسة الأخرى، لاستكشاف مفردات الخطاب الديني، سواء في مجال التوحيد، أم في مجال النبوّة ـ وهذا هو مقتضى الموضوعية أن يقوم الباحث بإجراء مقارنة حقيقية بين مفردات الخطاب الديني لعلّه بذلك يستطيع تجلية الأمور على النحو الذي يؤدّي به إلى تحقيق المقاربة الموضوعية حول أصول الإيمان الكبرى في الأديان، بمعزل عمّا شابها ولابسها في تاريخ البشر وتجاربهم.

إنّ الذي يعنينا في هذا البحث هو ليس تفاصيل الاعتقاد وطريقة تأويل وتفسير كل طرف لرؤيته الدينية والاعتقادية، وإنّما المشتركات التي هي مبعث حياة وأمل لأهل الأديان، وخاصة إذا ما علمنا أن للعقل دوراً كبيراً في مجال الاعتقاد ولا بدّ من التأسيس عليه في مجال مقارنة العقائد، طالما أجمع علماء الأصول على أن ما يأتي به النصّ في مجال العقيدة لا يمكن اعتباره من التأسيسات، وإنّما هو من الإرشاد، وإلا كان ما يؤسس على تأسيس العقل لغواً، بل هو مستحيل لأنه يكون من باب تحصيل الحاصل [112] .

 

أ - القرآن وأصول الإيمان


إنّ السؤال القديم الجديد الذي يسأله كل باحث في إطار معالجة قضايا الإيمان والحوار بين الأديان، هو: ما هي الأسس المشتركة بين الديانات السماوية في المعتقدات الدينية؟ وما هي مواطن اللقاء بين هذه الأديان في كل ميادين الحياة؟ وكيف يمكن لنا أن نتخطّى الأحكام المسبقة التي كانت ولا تزال تفرّق بيننا؟ فهذه الأسئلة هي في الجوهر متفرّعة من السؤال الأول، ولكننا أتبعناه بأسئلة أخرى لتكون الإجابة وافية من خلال رؤية شاملة يمكن تقديمها بلحاظ كون القرآن الكريم يقدم للإنسانية حقيقة حوارية قلّما نجدها في أي كتاب آخر، وهذه الرؤية تقوم على أساس أن الله هو خالق البشر، وهو مثلما أعطاهم الخلق، أعطاهم الهداية، كما قال الله تعالى: ﴿  قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [113] . وهذه الهداية تستتبع حتماً أن تكون هناك نبوّة وشريعة وتعاليم، لأنّه لا يمكن الفصل بين الألوهية والنبوّة لما بينهما من ارتباط عضوي، ويستحيل تصوّر ألوهيّة من دون نبوّة، أو نبوّة من دون ألوهيّة،وهذا مركوز في الفطرة ويعبّر عنه في حالات الإنسان المختلفة، هذا فضلاً عن أنه لو لم تكن النبوّة لما كان هناك معنى لأن نبحث عن أديان وحوار وأسس مشتركة بين الأديان، لأن الإنسان في ظلّ انعدام الهداية وتبليغ الأحكام، لا يكون مسؤولاً عن شيء، ولا تكون لديه خشية أصلاً من عقاب، ولا طمع في ثواب، وقد عبّر القرآن عن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [114] .

كما أنه لا يخفى على باحث متبصّر أن أهل الأديان لم يسبق لهم أن تعاملوا مع النبوات على أنها حلقات متصلة في سلسلة الهداية، ولا عُهد منهم التواصل من منطلق أن الخلاص يمكن أن يكون في ديانة أخرى، خلافاً لما جاء به الأنبياء، وهنا يبدو لنا مفارقة عجيبة، وهي أنّ الأنبياء كانوا يبلغون الأحكام إلى أقوامهم، ويرشدونهم إلى سواء السبيل، ويدعونهم إلى متابعة الشريعة والهداية مع مَن سيأتي من الأنبياء، بمعنى آخر؛ نقول: إنّ كل نبي كان يدعو أمته وقومه إلى متابعة الحياة الإيمانية مع النبي الذي سيأتي بعده، كما قال عيسى (عليه السلام): ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأكمل...، وكما عبّر القرآن: ﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... [115] ، هذا ما كان على مستوى فعل النبوة في حياة البشر.. أما على مستوى فعل البشر، فإنّهم لم ينطلقوا في وعيهم، أو في حركتهم الإيمانية في ضوء فعل النبوة، وإنّما اختاروا التصادم على التواصل، فكان كل قوم، وكل أمة من الأمم تعتبر نفسها سيدة الخلاص، ووارثة الأرض، وهادية البشر، وهذا ما يهدي إليه القرآن في قول الله تعالى: ﴿  كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ... ﴾. فكل قومٍ أو ديانة تؤكّد بشكل حازم ونهائي أنها الوسيلة الوحيدة لخلاص الإنسانية دون غيرها من الديانات [116] ..!

مما تقدّم، نعود إلى سؤالنا الأساس، وهو: هل هناك أسس مشتركة؟ ما هي هذه الأسس؟ ولعلّ السؤال الأبرز الذي يخرج إلى الضوء من رحم التاريخ والتجارب، هو الآتي: لماذا ينطلق أهل الإيمان من مسلَّمة، وهي ليست كذلك، أن فعل الله تعالى مرهون بإرادة البشر؟ ومن أين استفاد أهل الإيمان أن حقيقة الخلاص مرهونة بإرادة هذا الشخص، أو ذاك، أو هذه الديانة أو تلك؟؟ فالمسيح لم يقل إنّي أكملت الناموس، وقد بيّن القرآن في كثير من الآيات المباركة خطاب الأنبياء إلى أقوامهم من آدم (عليه السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجوهر هذا الخطاب هو الدعوة إلى الله تعالى، إلى توحيده وعبادته، والتسليم له، والتصديق به. ولم يتبيّن من هذا الخطاب إطلاقاً أن مسألة الخلاص هي بيد نبيّ من الأنبياء، أو رسول من الرسل، فمن أين جاز لهذه الديانة أو تلك، وبشكل نهائي، أن تجزم بأن الخلاص هو رهن إرادتها، وأسير عزّتها!؟ هذا أولاً.

ثانياً: لقد تحدّث القرآن عن أصول الإيمان، ورأى فيها سبباً لجمع الرؤى وتحقيق الأهداف، وهذه الأصول وإن كانت مختلفة في الترجمة العملية عند الناس، إلاّ أنها تبقى أصولاً نظريّة يمكن الاحتكام إليها كونها تشكل إطاراً إيمانياً ثابتاً عند أهل الإيمان، وهي لا يمكن أن تكون موضوعاً للحوار بينهم، بل منطلقاً له، باعتبار أن التوحيد، والنبوة، والمعاد، وغير ذلك من الأصول، هي من الحقائق الكبرى في حياة المؤمنين، إن اختلفت التأويلات بشأنها كما بيّن القرآن في ما قدّمه عن أهل الكتاب، وعن اليهود والنصارى تحديداً، إذ هو أي القرآن يقدم النصرانية بنمطين مختلفين، الأول: هو النصرانية القرآنية، والثاني: هو النصرانية كما عبّرت عنها الكنيسة في تاريخها، كذلك بالنسبة لليهود، فالقرآن يقدّم صورة مختلفة تماماً كما في قوله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ... [117] ، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [118] .

إنّ عداوة بعض اليهود للمؤمنين لا تنفي أصول الإيمان، لأنّ مَن آمن منهم فقد آمن، أما من لم يؤمن واتبع هواه وانسلخ عن آيات ربّه فحاله كحال المسيحي الذي لم يؤمن والمسلم الذي لم يؤمن، ولهذا نلاحظ أن القرآن لم يحاور النصرانية القرآنية، لأنّ إيمانها جزءٌ من إيمانه، وهو يحتويها، وليس الحال كذلك مع النصرانية التي عرض لها القرآن وكشف عن عداء اليهود لها، والتي عرض القرآن لبعض عقائدها الأساسية مركّزاً على مسألة التثليث، داعياً إيّاها إلى الحوار والتعايش. فالقرآن تابع خطى الرسالات وبدأ الحوار مع أهل الكتاب مميّزاً بين اليهود والنصارى بشكل لافت، وكان حواره مع النصرانية في اتجاهين، أحدهما: يتمثّل في دعوة المسيحية إلى الإيمان به باعتناقه والاعتراف له بأنه يمثّل الكلمة الأخيرة والكاملة في التاريخ الديني للإنسانية، وثانيهما: يتمثّل في دعوة المسيحية ـ إذا رفضت الإيمان به ـ إلى التعايش معه بعد الاعتراف به، إذ لا يمكن التعايش مع الرفض والإنكار المطلق ... وهكذا ولد، نتيجة لرفض المسيحية نداء الحوار الإسلامي ثلاثة أشكال من الحوار بين المسيحية والإسلام. الأول: حوار السلاح والحرب، والثاني: حوار اللاهوت وعلم الكلام، والثالث: حوار التعايش [119] .

إذن، الإسلام بتعبير القرآن، بدأ الحوار، ونداء: «تعالوا» خير دليل على هذه البداية، والقرآن في دعوته لم يستثنِ أحداً باعتباره الكلمة النهائية في التاريخ الديني، وهو في دعوته هذه استوعب كل الكلمات الدينية في تاريخ الانسانية، وحصّن الأصول الإيمانية بما يجعل منها أصولاً حقيقية في حياة البشر، وليس مجرّد أصول تجريدية لا انعكاس لها في الحياة العملية والإنسانية، ولعلّنا لا نخطئ القول بأن الحكمة الإلهية من وراء تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الذين رفضوا دعوة القرآن، هي الكشف عن روحية الدين الجديد في علاقته مع الأديان السابقة عليه، وتصحيح مسيرة الحوار على النحو الذي يؤدّي إلى التفاعل والتواصل بين أهل الإيمان للحيلولة دون الوصول إلى أيّ شكل من أشكال الصراع أو الصدام بين من اعترف بالدعوة الجديدة ومن لم يعترف بها، وقد حصل في التاريخ الديني، كما بينّا سابقاً، أن استُجيب لنداء القرآن من قبل الكثير من أهل الكتاب، كما قال الله تعالى: ﴿ لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [120] ، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [121] .

نلاحظ أن الآية تنفي الاستكبار المانع من المودة والإيمان، وبما أن بعض القساوسة والرهبان من النصارى لم يستكبروا، فإنّهم آمنوا وكانوا أقرب مودّة لأهل الإيمان، سواء أكانوا من اليهود، أم من المسلمين، وهؤلاء النصارى هم الذين لم يجعلهم الإسلام موضوعاً للحوار معه، باعتبارهم جزءاً من إيمانه، ولم يستكبروا عن عبادة الله تعالى، لأنّ الاستكبار في تاريخ الأديان كان المانع من الإيمان، لقوله تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [122] ومن لم يؤمن بالآخرة، فهو لم يؤمن بالأولى، ولا بأيّ أصل من أصول الإيمان الكبرى، فضلاً عن فروعه. ومن هنا نرى أن النصرانية القرآنية بما هي جزء من إيمان الإسلام مثلها مثل كل المؤمنين في التاريخ الديني، استوعبت حقيقة الإيمان، واستجابت لنداء الحوار، فكانت امتداداً حقيقياً لمن كان في سفينة نوح (عليه السلام)، ولكل المؤمنين الذين استجابوا لنداء الفطرة والعقل. وهم إنما تواصلوا مع نداء القرآن لكونهم عقلوا عن الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه. أما أولئك الذين لم يستجيبوا لنداء القرآن، ولم يعترفوا له بكلمته الكاملة والنهائية، فيكفي أن القرآن لم يمنع من مجادلتهم والتحاور معهم إلا الذين ظلموا [123] ، سواء أكانوا يهوداً، أم نصارى، أم مسلمين، وهنا تكمن عظمة الحوار في القرآن، أنه خاطب الإنسان، وأعطى الحوار بُعده في الزمان والمكان والتاريخ، ليكون أصلاً وأساساً في حياة الإنسان يتواصل من خلاله ويتفاعل به بعيداً عن التعصب الأعمى، الذي كان ولا يزال سبباً في التنكّر لحقيقة الإيمان، بما هي حقيقة حوارية تواصلية، سواء مع المؤمنين، أم مع غير المؤمنين ...

وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أن القرآن فيما عرض له من أصول إيمانية شكّل امتداداً حقيقياً لكل الديانات السماوية كما جاء بها الأنبياء، إضافة إلى ما شكّله من إضافة جديدة حيث أنه هيمن عليها وحفظها، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [124] ، وهنا الهيمنة لا تعني أكثر من حفظ الأصول الإيمانية التي امتدّ بها الإنسان في تاريخه الديني. وإنّ أدنى تأمّل في الحوار القرآني لا بدَّ أن يكشف عن أن الإسلام لم يأت، من حيث الاعتقاد، إلاّ بالمزيد من الحجج والبراهين العقلية التي تجعل من الإنسان أكثر قدرة على الحوار، وهذا هو ما ميّز القرآن فيما انطوى عليه من أصول إيمانية ثابتة لا يختلف عليها أهل الإيمان حقاً، وإذا كان ثمّة خلاف بينهم في هذه الأصول، فهو ناشئ عن عدم الاعتراف بكلمته النهائية والكاملة، وليس ناشئاً عن عقلية وروحيّة حوارية. وقد يكون ناشئاً عن الاستكبار في الأرض الذي يتعارض تماماً مع الإيمان. وهذا الأمر فيما لو وجد في حياة الناس، فإنّه لا ينطبق على اليهود أو النصارى، أو غيرهم. ممن تنكّروا للحوار وتخلّفوا عن النداء، وإنما هو ينطبق على كثير من المسلمين ممّن أساؤوا إلى الإسلام واستكبروا في الأرض بغير حق.

وهكذا، فإنّ معنى الاستجابة لنداء الله تعالى في الحوار، أن ينطلق الإنسان في حركته الإنسانية والإيمانية محاوراً ومتفاعلاً ومعترفاً بالآخرين، لأنّ الله تعالى لم يشأ أن يكون الناس أمة واحدة [125] ، ولو شاء لكانوا أمة واحدة، ولما احتاجوا إلى الحوار والتفاعل والتعارف، ما يعني أنه لا ينبغي لأهل الإيمان أن يتنكّروا للحوار، أو أن يعتبروا ما هم عليه هو الصواب، وما عند غيرهم هو الخطأ. فالله تعالى هو العالم بحقائق الأمور ومقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، أن يكون الإنسان حيث أمره الله تعالى، بحيث يكون نداؤه: تعالوا إلى كلمة سواء لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، فإذا ما اختلف المؤمنون، فلا ينبغي أن يكون الاختلاف تنازعاً في الدين وتفرقاً عنه، هذا فيما لو كان التنازع بين أهل الإسلام. أما إن كان بين أهل الإسلام وأهل الديانات الأخرى، فكما يقول الفضلي: «إنّ بين الإسلام والمسيحية واليهودية مواضع اختلاف في العقيدة لا يمكن تجاوزها، وليست موضع بحث ولا موضع جدل في الإسلام، كما أنها ليست موضوعاً للاجتهاد، فإنّ الاجتهاد الإسلامي إنّما هو في حقل الأحكام الشرعية لا في حقل العقائد» [126] .

 

 

ب - الأصول الإيمانية في التجربة التاريخية


لقد تولّد عن عدم اعتراف بعض أهل الأديان بما كان يأتي به الأنبياء، وصولاً إلى خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي رفض دعوته اليهود والنصارى معاً. حيث تولّد عن رفضهم للدعوة الجديدة أشكالاً وألواناً من الصراعات، ولكن ذلك لم يمنع الإسلام والمسلمين من الاستمرار في الدعوة إلى الحوار بهدف تحقيق التواصل، واستمرار التعايش بين أهل الإيمان في ضوء ما جاء به القرآن من تعاليم وأحكام تلزم أهل الكتاب باحترام القوانين الإسلامية دون أن يعني ذلك التعرّض لشعائرهم الدينية ومبادئهم وعقائدهم، سواء أكانوا هوداً، أم نصارى، وقد أسهب المؤرّخون في ذكر وإظهار المزايا الإسلامية في التعامل مع غير المسلمين في بلاد الإسلام.

وبما أننا لا نروم التعرّض لما شاب تاريخ أهل الأديان من اضطراب نتيجة عدم الاعتراف بالدين الجديد [127] ، أو نتيجة منازع ومطامع المتربّصين شراً بكل دين، فقد يكون من الضروري في هذا المبحث أن نعرض لمبادئ وتعاليم القرآن في مجال الدعوة إلى الحوار، وخاصة لجهة استكشاف القواسم أو المساحات المشتركة، التي تفرض على أهل الإيمان أن يكونوا على مستوى الرؤية الدينية وما تفرضه من مسالك ومناهج في الحياة العملية، ذلك أن القرآن، فيما انطوت عليه تعاليمه، يدعو إلى الاعتبار وملامسة الواقع العملي بوحي من روح الإيمان والتعاليم التي جاء بها الأنبياء، بحيث لا يكون أهل الديانات غرباء عن الواقع، أو متعصبين لرؤيتهم الدينية على النحو الذي يمنعهم من التبصّر بما ينبغي أن يكونوا عليه من تواصل وتعايش واعتراف..

وكما نعلم جميعاً أن القرآن لا يحتاج إلى تاريخ، أو إلى تجربة، لكي تتحقّق صدقيته فيما يُعرض له من سنن في الحياة الإنسانية، بل هو حاكم للتاريخ وللتجربة، كما هو كاشف في غيبه وشهادته عمّا تؤول إليه الأحداث، ولقد قال عليّ (عليه السلام): «ذلك القرآن فاستنطقوه ـ ولن ينطق ولكن أخبركم عنه ـ ألا أن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم» [128] .

إنّ معنى أن نتحدّث عن الحوار ومنطلقاته في حياة أهل الإيمان، أو عن القواسم المشتركة التي تحكم أقوال وأعمال البشر، معناه تلمّس حقيقة ما يذهب إليه القرآن في مجال تحقّقات الرؤية الإيمانية في الحياة العملية، باعتبار أن القرآن يشخّص الواقع البشري، تماماً كما يعرّف طبيعة البشر وما هم عليه من إيمان ونفاق. فالقرآن هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل، ولو أن أهل الإيمان استجابوا لدعوة الحوار، وانطلقوا في حياتهم في ضوء قوانينه وسننه وتعاليمه لما احتاجوا إلى أن يخوضوا التجارب المؤلمة، وهذا ما أخفق فيه اليهود تماماً في تجربتهم مع رسول الله في المدينة وخيبر، حيث إنهم تجاهلوا الدعوة وعاندوا الحق وتآمروا على الرسول ظنّاً منهم أنهم بعنادهم للحق يمكن أن يؤثروا على مسار الدعوة ومصير الإسلام، ولكنهم أخفقوا في تجربتهم، وكان لهم ما كان من حرب وفقر ونفي، وغير ذلك ممّا آلوا إليه من خسران في الدنيا والآخرة.

وهكذا، فإنّ معنى أن نستجيب لدعوة القرآن وندائه، أن نكشف المساحات المشتركة التي كان ينبغي على أهل الإيمان أن يتعرّفوا إليها قبل أن تأخذ بهم التجارب والأحداث المريرة إلى الإيمان بها، وبشكل خاص المسلمين الذين هم أيضاً وقعوا في شرك التجربة والتاريخ والأطماع قبل غيرهم من أهل الديانات السابقة! فهم، أي أهل الإيمان، بدل أن يهتدوا إلى الحوار من تعاليم القرآن إلى حقيقة التعايش والتواصل والتعارف، ويسلكوا سبيل الحوار في الطريق إلى تحقيق هذه الأهداف، نجدهم قد وصلوا إلى الحوار، وتعرّفوا إلى ضرورته بعد مئات السنين، بعد أن جرّبوا كل أشكال الحوار من حرب وعلم كلام، وتعايش بالإكراه، إلى غير ذلك من الأشكال التي لجأ إليها أهل الإيمان لتسويغ مشروعية الوجود، وتحقيق غاية المذاهب في ضوء هذه الرؤية أو تلك. وكانت النتيجةالمذلاّت والخسران وضياع الأهداف، وهذا ما حذّرهم الأنبياء منه ودعوهم إلى خلافه، وخاصة القرآن الكريم الذي أكثر من نداء وخطاب يا أيها الناس، يا أيّها الذين آمنوا، يا أهل الكتاب...؟.

ولا شكّ أيضاً في أنّ ما اهتدوا إليه من قواسم ومساحات مشتركة في أصول الإيمان هو من أظهر الآيات في القرآن، وكان من شأن الالتزام بها والتعبير عنها توفير الكثير من القدرات، وتحقيق الكثير من المكاسب في الدين والدنيا. وهنا يمكن لنا أن نوجز لما قد توصّل إليه أهل الإيمان قاطبة من حقائق وأصول بعد أن أصابتهم مساوئ الحضارة المادية، وأيقنوا أنهم قد أخفقوا فيما ادعوه من خلاص وإيمان كانوا قد وعدوا به شعوبهم في ظلّ ممارسة الطغيان الديني، الذي مُورس تحت أشكال متعدّدة من أشكال الحوار، وهي في الحقيقة لم تكن أشكال حوار بقدر ما كانت أساليب في الطغيان وممارسته القمع [129] .

وهكذا؛ فإنّ معنى أن يهتدي أهل الإيمان بعد مئات السنين إلى قواسم مشتركة في أصول الإيمان، أن تعود هذه الأصول إلى الحياة العملية، بحيث يتمّ الانطلاق منها في مواجهة الطغيان المادي والسياسي، وتصحيح المسار الديني بالشكل الذي يسمح لأهل الإيمان بالتثاقف والتعارف والتعايش وفاقاً لهذه الأصول، على أن تكون أصولاً حقيقية لا مجرّد اتفاق بين أهل الأديان يسقط أمام أوّل تحاور فكري، وتعارض ديني، كما سبق أن حصل في تاريخ الأديان. إنّ جوهر هذه الأصول يقتضي أن تكون ثوابت في الحركة الإنسانية وفي التعابير السياسية، فإذا لم تكن كذلك وتمّ التعامل معها على أنها ضرورات تقتضيها الحصص والمغانم، فإنّ الأمور لا تلبث أن تعود إلى ما كانت عليه من شحناء وبغضاء وتمرّد وعناد، وقد أثبتت التجارب الدينية، حتى في زمن حضور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أكثر ما كان يعانيه المجتمع الديني هو حالات النفاق التي كانت ولا تزال تحول دون تركيز الأصول الدينية على النحو الذي يؤدّي إلى أن تكون هذه الأصول منطلقات للحوار، وليس مجالاً له، إذ غالباً ما كانت الفرق والمذاهب الدينية تمارس القمع الفكري والاستبداد الديني لتسويغ الرؤية الدينية، وتشويه الدعوة النبويّة لحساب المترفين والمستبدّين في المجتمع.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأصول الإيمانية عادت في العصر الحديث لتكون قواسم مشتركة ومساحات لتلاقي الأديان، سواء عن وعي وفهم موضوعي، أم عن غير وعي، ولعلّنا لا نخطئ القول في أن هذه الأصول لم تتجاوز التاريخ والتجارب الدينية نهائياً، بل لا تزال محكومة لكثير من السوابق التي كانت سبباً في غيابها العملي لمئات السنين. فإذا كان المشترك في الأصول هو الإيمان بالله تعالى، وبأنّه الخالق لكل شيء، والإيمان بالنبوّة، واليوم الآخر، بمعزل عمّا يذهب إليه أهل الإيمان من تأويلات فلسفية وكلامية في شأنها. فهذه الأصول، كما نعلم جميعاً، هي أصول كبرى في الإيمان ولها متفرّعات مشتركة أيضاً، كالإيمان بالبعد الروحي للإنسان، وبكرامة الإنسان إضافة إلى الأخلاق الإنسانية الفطرية، وقد عاشها الإنسان وتفاعل معها في تاريخه الديني، ولكنه لم يحسن التلاقي معها. وبما أنها تعود اليوم لتشكّل محوراً للتلاقي والتحاور، فلا ندري ما إذا كانت مجالاً للحوار، أو منطلقاً له؟ فإذا كانت التجارب قد أفادت أن هذه الأصول خرجت عن كونها منطلقاً للحوار الديني، فهل هي اليوم منطلق للحوار أم مجال له؟

إنّه سؤال تبقى الإجابة عليه رهن التجربة والوعي الديني، ونحن بدورنا نشكّ في كون هذه الأصول تشكّل منطلقاً للحوار، لأنّ أهل الإيمان لم يفرغوا بعد من تاريخهم، ويتجاهلون النداء الإلهي المتجلّي في الرسالات السماوية، والداعي إلى الحوار الصادق والتعايش بلحاظ كون الخطاب القرآني كآخر كلمة إلهيّة للإنسانية دعا إلى مجانبة الهوى، وقال تعالوا إلى كلمة سواء، فهل ثمّة ما يمنع من الاستجابة لهذا النداء؟ وكيف للمؤمنين أن ينطلقوا مجدداً في الحوار وهم لمّا يستفيدوا بعد من تجاربهم، أو أنهم يمتنعون بعناد عن سماع صوت الحق، الذي سبق له أن دعاهم إلى التعايش والجدال بالتي هي أحسن برغم كونهم لا يزالون على عهدهم بإثارة مسائل خلافية حول ما إذا كانت الكلمة النهائية هي الإنجيل، أو القرآن!!

فالخطاب القرآني هو خطاب في الزمن، وليس خطاباً خاصاً بأهل مكة، أو الحبشة، أو نصارى نجران، أو يهود المدينة وخيبر، وكان يفترض بأهل الإيمان، من وجهة موضوعية، أن يستجيبوا لنداء الحوار القرآني، كما استجاب الكثيرون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿  لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً [130] . فالآية ناظرة إلى أولئك الذين آمنوا بالقرآن واستجابوا لنداء الحوار، وشكّلوا جزءاً من حياة المؤمنين، هم لم يكونوا مسلمين، وإنّما كانوا هوداً ونصارى، وقد وُصفوا بالراسخين في العلم ما يدلّل على أنّ غير الراسخين ممّن استبدّوا وعاندوا وصلتهم الدعوة وسمعوا النداء، ولكنهم أصرّوا على المكابرة، ومن يدري أن يكون هؤلاء هم من لحقوا بالمسيح (عليه السلام) ليقتلوه، أو بالنبي موسى (عليه السلام) قبل غرقهم في البحر؟ وقد يكونون هم من لحقوا بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لمنعه من إتمام دعوته، أو للحيلولة بينه وبين إقامة العدل وتحقيق الهداية. فهؤلاء ملّة واحدة، كما أن أهل الإيمان ملّة واحدة. ويجدر بالمؤمنين، وخصوصاً في عصرنا الحديث، أن يكونوا على مستوى هذا النداء القرآني، فيلتحقون به، ويستمعون له للاستفادة من الحوار بعد كلّ التجارب المريرة والمهينة التي مرّوا بها، والتي أظهرت لهم أنّ أصول الإيمان لم تُعَدُّ مجالاً للحوار على النحو الذي سبق لهم أن جرّبوه في الكلام والفلسفة وفي الحروب أيضاً، وإنّما هي كما كانت، وكما جاءت في النصّ الديني والتجربة النبويّة منطلقاً للحوار، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [131] وهو خطاب، كما بينّا، من أعلى وكاشف عن صيرورة التحولات الإيمانية والإنسانية، وباعث على التفكير والاعتبار بالتجارب، وهذا ما لم يلتفت إليه أهل الإيمان في كثير من حواراتهم العقيمة، وكانت النتيجة الغياب عن هذا النداء، والغيبوبة عن الإيمان، بحيث ظهر الأمر وكأنه لا نبيّ جاء ولا وحي نزل. وكما قال الله تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً [132] .

وقال الله تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ... [133] إلى غير ذلك من الآيات التي تظهر حقيقة الإنسان حينما يختار أن يكون معانداً مستكبراً في تعامله مع هذا الخطاب الإلهي! وإذا كنّا في حياتنا اليوم نعود للحوار في ضوء هذه الأصول، فلا ينبغي لنا أن نكون بعيدين عن تجارب الأنبياء، لأنها كاشفة لحقيقة التحولات الإنسانية في عصر عايش الخطاب الإلهي وترجمة النبوّة له فيما دعت الناس إليه.

وانطلاقاً من ذلك، نرى أن الحوار في عصرنا الحديث، بالتأكيد، لم يعد له معنى المكابرة والاستكبار في علاقات البشر، لأن الإنسان أدرك معنى أن يكون منتمياً إلى الله تعالى وليس إلى رؤية فكرية صاغتها التجارب، وبلورتها قرائح البشر، وإنما هو ينتمي إلى الله تعالى، الذي أخرجه من الظلمات إلى النور بما هيّأ له من رسل وأنبياء ورسالات، وهذا ما ينبغي أن يكون موضع تأمّل وتدبّر عند الباحثين وأهل الحوار ممن اكتووا بنار التجارب والأحداث، بحيث يعلمون أنه لا استراح مسيحي في كنف اليهودية، ولا استراح يهودي في كنف المسيحية ثم جاء المسلمون في تاريخهم البائس ليحدثوا مزيداً من التحولات السلبية في اجتماعهم الديني وحوارهم السياسي، فأضافوا فيما انتهوا إليه من فرق ومذاهب وحوارات كلامية وفلسفية، وفيما أحدثوه من صراعات فكرية وحروب عسكرية، ومآسٍ جديدة إلى أهل الأديان كافة.

وإذا كان البعض من المؤرخين يرى بأنّ أهل الكتاب قد تنعّموا في رحاب الأموية والعبّاسية والعثمانية، واستقلّوا في ممارسة شعائرهم الدينية في ظلّ حكومات الجور والترف. فهذا، وإن كان فيه شيء من الصحّة، مقابل ما كان يتعرّض له بعض المسلمين المؤمنين، يمكن اعتباره من التلوين السياسي، الذي اعتاده المسلمون في الحديث عن محاسن موتاهم. أما في الحقيقة فلم يكن أحد يعيش حالة الإيمان كما يفترض أن يكون الإيمان والحوار، كما جاء به القرآن وجسّده أهل بيت النبوّة في التاريخ الإسلامي [134] .

لقد سبق لكثير من الباحثين والمؤرخين من علماء الأديان، أن أرّخوا لمراحل الهدوء والسلام والتعايش لأهل الإيمان في التجربة الإسلامية، كما رأى العلامة مطهّري في «الإسلام وإيران» [135] ، وجورج قرم في «تعدّد الأديان» [136] ، وأحمد شلبي في «مقارنة الأديان» [137] ، وأديب صعب [138] ، وشريف هاشم [139] ، وغيرهم كثير ممّن اهتمّوا بالدراسات الدينية، وقدّموا أطروحات في مجال التعايش الديني، ولكنهم لم يبلغوا مستوى الموضوعية في ما ذهبوا إليه وادّعوه، ذلك أنهم لم يميزوا بين أن يكون التعايش نتيجة لضرورات الحكم وما يفرضه من أنظمة وبين أن يكون آتياً ـ هذا التعايش ـ في سياق التعارف الديني المرتكز على أسس وثوابت إيمانية حتّمت أن يكون لأهل الأديان تفاعلات دينية وسياسية، بمعنى آخر، يمكن القول: إنّ ضرورات السياسة كانت ولا تزال تفرض نوعاً من التعايش بحسب ما يكون عليه حال أهل الإيمان من قوّة وضعف. أما التعايش الناشئ عن كون أهل الإيمان قد تعارفوا وتحاوروا على مستوى الأصول الإيمانية، واقتنع كل فريق منهم أن يقوم بما تمليه عليه إرادة الإيمان، فذلك لم يحصل، وهو لن يكون ممكناً إذا لم تحسم مسألة جدلية الحوار، بحيث يكون أهل الإيمان منطلقين في حوارهم من قناعة ذاتية بأنّ جدل الحوار غير قائم على أساس أنّ الدين هو مجال الحوار، وإنما منطلقاً له، لأنه لا بدّ من حسم المسألة الإيمانية على مستوى القناعة بحيث يسلّم كل فريق بأنّ هناك كلمة قائمة وكاملة ونهائية قد قدّمت للإنسان، وأخذت بُعدها الإيماني في الزمان والمكان والتاريخ.

وهذا كلّه كان وسيبقى مشروطاً بتحقق هذه الكلمة في حياة الإنسان، بحيث يكون لها الاعتبار في حياته، لكن للأسف حِيل بين هذه الكلمة وديمومتها فيما آلت إليه أوضاع المسلمين في تاريخهم، مما تسبّبب بإعاقة التواصل الحضاري، وحِيل بين أهل الإيمان، وبين أن يكون لهم جسوراً للتواصل والتعارف، باعتبار أن من قام بهذه الكلمة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما عايشه الناس في العصرين الأموي والعبّاسي من أحداث وسياسات ساهم إلى حدّ كبير في ظلام الرؤية وكان له أكبر الأثر، على حركة الإيمان، هذا فضلاً عمّا أدّى إليه من انهيار لمنظومة القيم الإسلامية، الأمر الذي منع الأديان الأخرى من تقبّل الدين الجديد على النحو الذي يجعل منهم أهل مواطنة في الدولة الإسلامية، إضافة إلى ما عاينه أهل الإيمان من انتفاء للفروق بين ما هم عليه في تاريخهم الديني من استبداد واستخفاف، وبين ما آلوا إليه في ظلّ الحكومات الإسلامية، فاضطروا إلى الحوار من موقع الضعف والتسليم بالأمر الواقع، وليس من منطلق أنّ الدين الجديد هو أطروحة حياة كاملة، وهذا ما ينبغي التدبّر فيه من قبل الباحثين وعلماء الأديان، لعلّ ذلك يُسهم في إحداث تحوّل إيجابي عن الماضي بما هو سياسة استبداد واستخفاف إلى الحاضر والمستقبل في ضوء ما قدمته النظريات الدينية كما جاء بها الأنبياء. بذلك فقط، يمكن لأهل الإيمان أن يتواصلوا لإعادة ما انقطع بين الدين والمجتمع. ولا شكّ في أنّ هذا الأمر يبقى غير ممكن ما لم يعد الإنسان المؤمن إلى النظرية الدينية لتصحيح مساره الإيماني.


 

خلاصة البحث


غاية القول: إنّ ما أردنا التركيز عليه في هذا المبحث، هو أن لا نستغرق في التجربة التاريخية لحوار الأديان، وإنّما الكشف عن جوهر وحقيقة الدين فيما دعا إليه من حوار إنساني، والتأكيد على المعطى الإيماني في القرآن، الذي جاء بالكلمة الخاتمة والنهائية والكاملة في التاريخ الديني. هذه الكلمة التي أعطت أهل الإيمان حيّزاً من الوجود واسعاً، وفكراً من الحياة ناصعاً، ونوراً في ديمومة الإسلام ساطعاً. إنّها الكلمة التي نطقت بالحق من روح الإنسان وفطرته، وجاءت به من عالم شهادته لترشده إلى سبل السلام في طريق دعوته. ولكن الإنسان أبى إلاّ أن يكون له تجربته الإيمانية التي ضلّ فيها عن شهادته وفطرته، فضلاً عن دينه وشريعته، فكان له ما كان من التجارب القاتلة في الدين والسياسة والاجتماع، في الوقت الذي كان بإمكانه الاستغناء عن هذه التجربة الضالّة في تاريخه، والاكتفاء بنداء الحق ودعوة الحوار التي أرشد إليها الإسلام في كل الديانات والشرائع. ولعلّنا فيما ذكرنا سابقاً قد وفّقنا في ما عرضنا له من أصول إيمانية سواء من خلال النظرية أم من خلال التطبيق، وانطلاقاً من ذلك يمكن القول، إنّ هذه الأصول كانت سابقة للإنسان، ومكشوفة عنده ومُعاشة لديه، ولكن الإنسان، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾. فإذا كان لا غنى عن التجربة التاريخية وعن التفاعل مع الأحداث والوقائع والتاريخ الإنساني، فإنّ ذلك يبقى شرطه وأساس النجاح فيه وعي النظرية الدينية وما جاء به الأنبياء لهداية الإنسانية، لأنّ هذا الوعي فيما لو تحقّق كفيل برسم المسار الصحيح للبشرية باتجاه أهدافها، ويكفي للتمثيل على ذلك ما قاله أحد الباحثين من أن الأمّة الإسلامية لو اهتدت إلى دينها، وسلكت سبيل الحوار والدعوة بالحسنى في مبتدأ أمرها لما كانت وصلت إلى ما وصلت إليه من انكفاء وتراجع على مستوى منظومتها الدينية، والحضارية [140] ، ولكنها استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير فغربت عن ذاتها، واستحال أمرها إلى أن تكون رهينة تجاربها وأطماعها. وكما يقول الإمام علي (عليه السلام): «إن أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع» [141] .

وبحق نقول: إنّ ما جرى في تاريخ الأديان للأمم والشعوب من انهيارات على مستوى الدين والسياسة، كله ناشئ من كون هذه الأمم لم تعِ نداء السماء جيداً إذ هي جعلت من التجارب سبيلاً لتحقيق ذاتها، ودليلاً على قوة دينها. إنها أمم وشعوب اختارت التجربة سبيلاً إلى الهداية، واستبدلت الولاية بالسلطان لتجعل منه دليلاً إلى معالم الدين والدنيا، فكان الاستبداد ديناً، والحوار قهراً، والتعارف غربةً. وهذا ما جسّد حقيقة الانقلاب على الأعقاب في تاريخ الأديان، ومنع من أن يكون الدين والإيمان منطلقاً للحوار، وحال دون النجاح في تحقيق التواصل بين أهل الأديان بالطريقة الموضوعية، لأن أساس النجاح، كما نعرف جميعاً، هو أن تحمل التجارب خصائص النظريات الدينية والتعاليم السماوية، فإذا لم يكن الحال كذلك، وكانت التجربة رهن الأهواء والمطامع، فلا تلبث الأمم أن تعود القهقهري، تماماً كما جرى لأهل الإيمان في تاريخهم، سواء مع أديانهم، أو مع أنبيائهم، فهم لم يسلكوا سبيل الحوار، ولم يسمعوا النداء، فكان لهم ما أرادوا من غربة الدين. وكما هو معلوم، أن هذا ما بيّنته السنن الإلهية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾، ولطالما أن أهل الأديان اختاروا غربة الذات على الإيمان، وأسدلوا ستار الظلمة على الأديان، فلا بدَّ أن يكون التحوّل وفاقاً لما اختاروه في دينهم ودنياهم. وقد سبق للإنسان أن مارس الحريّة في طلب الحريّة يوم حمل الأمانة، فكان له ما اختاره أيضاً، ولا يزال هذا الإنسان يعيش في كنف اختياره ويمعن في تجارب أهوائه ومنازعه، فكان له ما أراد من هجرة في الدين والدنيا.!؟.

وقد قال في كتابه الكريم: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾، وبما أن أهل الإيمان قد شقوا وظلموا، فذلك دليل على أنهم اتبعوا الهوى، واختاروا غير سبيل المؤمنين، فكان لهم ما أرادوا، وقد تعلّقت إرادة الله في ما اختاروه بالتبع وليس أصالة، لأنّ الله يريد لعباده الكمال والهداية والسلام والكدح الإيجابي في الطريق إليه، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾. إنّ الآية تخاطب الإنسان الذي عقل عن ربّه، وسار في طريق شهادته، ولبّى نداء الحوار في الدعوة إلى ربّه، وهذا الخطاب هو من الأسرار القرآنية العظيمة باعتباره خطاباً مع الإنسان في الزمان والتاريخ، وكم كان مفيداً لهذا الإنسان أن يعطف آخر الزمان على أوّله فيما يتخذه لنفسه من مبادئ، ويعمل له من أهداف على مستوى الدين والدنيا؟ ذلك هو معنى خطاب الإنسان في القرآن، أن يجعل الإنسان من نفسه امتداداً للإنسانية بمعزل عن الزمان والمكان والتاريخ، حتى يكون له من ذلك كمال الإنسانية بكلّ تجلّياتها الإيمانية، بحيث يكون الأنبياء جميعاً سبيله إلى الملاقاة في حضرة القدس والملكوت ...


[20] سورة البقرة، الآية: 30.
[21]
سورة التين، الآيات: 4 ـ 6.
[22]
را: مطهري، مرتضى، الإنسان في القرآن، دار التيّار الجديد، بيروت، ط1، 1993، ص5.
[23] ا
لإمام الخميني، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1996، ص15.
[24] س
ورة الانشقاق، الآية: 6.
[25]
سورة السجدة، الآيات 7 ـ 9.
[26]
سورة الأنعام، الآية: 2.
[27]
سورة النحل، الآية: 96.
[28]
الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1991، ج7، ص9.
[29]
إنّ هذه الأسبقية للإنسان نفترض وجوده في الطبيعة واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليس بمركز الكون، كما يرى المسيري، وهو ليس سيّد الطبيعة، فمالك ذلك هو الله تعالى، والإنسان مستخلف فيها يتفاعل معها.
أنظر عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، ج1، القاهرة، 1999، ص82.
[30]
سورة البقرة، الآية: 31.
[31]
سورة طه، الآية: 122.
[32]
قال الله تعالى: ﴿
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ... [الأحزاب. 72] .
[33]
قال الله تعالى: ﴿
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ... ﴾ [الإسراء: 70] .
[34] ق
ال الله تعالى: ﴿
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 8] .
[35]
قال الله تعالى: ﴿
أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28] .
[36]
قال الله تعالى: ﴿
وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ [الجاثية: 13] .
[37]
سورة ق، الآية: 22.
[38]
سورة الفجر، الآيتان: 27 ـ 28.
[39]
سورة السجدة، الآية: 7.
[40]
سورة النساء، الآية: 1.
[41] سورة الإسراء، الآية: 70.
[42] سورة النور، الآية: 40.
[43] سورة النحل، الآية: 78.
[44] يقول العلاّمة الآملي: «حيث إنّ الولاية تنتج عن القرب فيجب أن تشرع من جهة العبد، لأن هذا القرب من ناحية الله تعالى حاصل شاء الإنسان أم أبى. فالله تعالى الذي هو بكل شيء محيط، وهو أقرب للإنسان من حبل الوريد، وهو معكم أينما كنتم، إلى غير ذلك من الآيات لا يعقل أن يكون بعيداً عن عباده، فلو أراد الإنسان أن يقيم هذه الإضافة، فيجب عليه أن يقرّب نفسه من الله تعالى بواسطة الأعمال المقبولة، وهي الأعمال التي جاء بها الأنبياء، مثل الصلاة والزكاة، وسائر التكاليف التي أمر الإنسان القيام بها، كما جاءت في شرائع الأنبياء، كلٌّ في زمانه، وهذا التدرّج في التشريع، كما سنرى في بحوثنا المقبلة لا يتنافى مع كون الإنسان منتمياً إلى الدين الذي جاء به كل الأنبياء والذي لم يختلف بين نبيّ وآخر، باعتباره الدين، الفطرة التي فُطر عليها الإنسان.
انظر: الآملي، جوادي، ولاية الإنسان في القرآن، دار الصفوة، بيروت، ط1، 1993م.
[45] سورة البقرة، الآية: 30.
[46] سورة الطلاق، الآية: 12.
[47] سورة الحجر، الآية: 29.
[48] سورة الطلاق، الآية: 12.
[49] سورة العلق، الآيات: 1 ـ 5.
[50] سورة طه، الآية: 123.
[51] جاء في الروايات عن الأئمة أنّ الحجّة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق، يقول الصدوق في فقه هذه الرواية: «إنّ الله تعالى لمّا أعلمَ الملائكة أنّه جاعل في الأرض خليفة أشهدهم على ذلك، لأنّ العلم شهادة، فلزم من ادّعى أن الخلق يختار الخليفة أن تشهد ملائكة الله كلهم عن آخرهم عليه...».
را: الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمّي، كمال الدين وتمام النعمة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1993، ص17.
[52] سورة الانشقاق، الآية 6.
[53] سورة الأنعام، الآية: 122.
[54] سورة النور، الآية: 40.
[55] يمكن ملاحظة حوار الأديان في القرآن من خلال التعرّض للحالات الدينية المختلفة، سواء تلك التي تتعرض لأهل الكتاب، أم لليهود، أم للنصارى، فتارة تجد المدح والقبول والمودة، وطوراً تجد النقد اللاّذع لمن فرّقوا دينهم، واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، وهناك آيات كثيرة تتعرّض وبطريقة علمية ومنطقية لكل الفرق التي ادّعت زوراً وبهتاناً أنها تقيم الدين، وهي ليست على شيء من ذلك، إلى غير ذلك من الآيات التي تعرض لنماذج فرديّة في سياق بيان معنى الإيمان والدين والتقوى. إنّ القرآن يبيّن أن الدين هو الإسلام، وأنّ الله واحد أحد لا شريك له في ملكه ولا منازع له في خلقه، وهذا ما جاء به الأنبياء، والحق يقتضي بنا تصديق كتاب الله تعالى في كل ما ذكره عن تعليم الأنبياء لشعوبهم، وهذا لا يضير أبداً مع اختلاف المناهج، وتعدّد الشرائع والمناسك، لأنّ الإنسان يتدرّج في علمه وعمله، ولا بدّ أن يكون له ما يناسبه في تحقيق ذاته.
[56]
انظر: الإمام الخميني، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، م. س، بيروت، ص16.
[57]
سورة يونس، الآية: 99.
[58]
سورة طه، الآية: 123.
[59]
انظر: اليزدي، محمد تقي مصباح، دروس في العقيدة الإسلامية، دار الحق، بيروت، 1993، ص251.
[60]
سورة الإنسان، الآية: 2.
[61]
سورة البقرة، الآية: 138.
[62]
سورة الأنفال، الآية: 24.
[63]
سورة فاطر، الآية: 24.
[64]
سورة البقرة، الآية: 38.
[65]
سورة الأعراف، الآية: 129.
[66]
إنّ تجلّيات الآدمية الإنسانية، بدأت بشهادة الإنسان «بلى»، حينما أشهده الله في عالم ذاته، بقوله تعالى ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾، وهذه الشهادة إنّما تدلّ على ما تعنيه الخلافة في الأرض من ترجمة لهذه الشهادة فيما يؤدّيه الإنسان من أعمال، ويقوم به من وظائف، ولو لم تكن هذه الشهادة سابقة على تحوّل الإنسان في عالم كونه خليفة لما كان ثمة معنى لتكليفه والخطاب معه؛ فالإنسان شاهد على نفسه، ولو لم يكن شاهداً لربّه بالربوبيّة وعلى نفسه بالعبوديّة لما فهم من نفسه استمرار الخطاب الإلهي، وهذا ما ذهب إليه علماء اللأنتريولوجيا من أنه لم يكن ممكناً تنزيل أي وحي كان لولا أن البشر كانوا في بدء أمرهم قد كوّنوا فكرة غامضة عن الوحي، واستلهموا حقيقة النور في تلمّس معاني الحياة، سواء في الدين، أم في الدنيا، فلو كان في العقل إنكار الرسل لما بعث الله نبيّاً قطّ.
را: كمال الدين وتمام النعمة، م. س، ص16.
[67]
سورة البقرة، الآية: 30.
[68]
سورة الزمر، الآية: 36.
[69]
سورة الأنبياء، الآية: 92.
[70]
سورة البقرة، الآية: 177.
[71]
يقول اليزدي: «إنّ النبوّة هي الحلقة الوسطى بين مواضيع الرؤية الكونية والإيديولوجية، وبواستطها نعرف المنهج السليم لحياتنا. ومن هنا ندرك معنى أن تكون المسائل الثلاث، التوحيد والنبوّة والمعاد، أصولاً للدين، أي الجذور العميقة للإيديولوجية الإسلامية. ونشير أيضاً إلى أنّ العدل هو من فروع التوحيد، وأنّ الإمامة هي من فروع النبوّة، وقد أسماها الشيعة بأصول المذهب بهدف تمييز عقائدهم من سائر المذاهب الكلامية الأخرى».
را: اليزدي، محمد تقي المصباح، الإيديولوجية المقارنة، ترجمة عبد المنعم خاقاني، دار المحجّة البيضاء، ط1، 1992، ص16.
[72]
يقول العلاّمة مطهّري: «إنّ الأمويين كانوا قد وجهوا حدّة سيوفهم إلى أهل البيت الذين كانوا يرونهم المنافسين لهم في الأمر ويشعرون بالخطر الشديد من ناحيتهم، وكان المجوس في هذه الحكومة أحسن حالاً من أتباع أهل البيت قطعاً. ومن المؤكّد أنّ سياسة الأمويين كانت عنصرية وأنّ حكومتهم كانت حكومة عربية لا إسلامية، فإنّهم كانوا يفرقون في حكمهم بين العرب وغيرهم، إلاّ أنّ هذا التفريق كان بين العرب وغيرهم حتى بين المسلمين منهم.. وكان المجوس آمنين ما زالوا يعملون بشرائط أهل الذمّة، فكان غير المسلمين يجادلون أئمة المسلمين، وخاصة في عهد العباسيين، حول الإسلام والمسيحية والمجوسية...
را: الإسلام وإيران عطاء وإسهام، دار الحق، بيروت، ط 1993، ص208 ـ 209.
[73]
النشار، سامي، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، القاهرة، ج1، ص6.
[74]
سورة الكافرون، الآية: 6.
[75]
الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م، س، الخطبة: 26.
[76]
سورة الأعراف، الآية: 59.
[77]
ول ديورانت، قصة الحضارة، دار الجيل، بيروت، 1998، ج1، ص99.
[78]
يرى «ولتر ستيس»، لا يزال في استطاعتنا أن نقول أن صورة العالم عند رجل العصر الوسيط قد سيطر عليها الدين، في حين أن صورة العالم عند رجل العصر الحديث قد سيطر عليها العلم، لكن ذلك لا يعني بالطبع أنه لم يكن هناك خلال العصور الوسطى ما يمكن أن نطلق عليه اسم العلم، ولا نقول إنه ليس ثمة دين في عصرنا.. فالدين حقيقة كامنة، فقد يغيب كل شيء في الإنسان ويظهر الدين على أنه كل شيء، لأن يوم الدينونة حاكم على حركة الإنسان منذ بداية الخلق إلى أن يدان في الأعراف أو في العذاب الأبدي.
را: ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998، ص54، 55.
[79]
را: هيغل، موسوعة العلوم الفلسفية، ت. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، 1983، ص47 ـ 48.
[80]
م. ع، ص48.
[81]
را: الدمغاني: قاموس القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1985، ص178.
[82] ا
لطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، م. س، ج9، 1990، ص172.
[83]
م. ع، ص172. وقا: مع الفضلي، عبد الهادي، أصول البحث، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، دار المؤرّخ العربي، ط1، 1992، ص12 ـ 16.
[84]
سورة الطلاق، الآية: 7.
[85]
سورة آل عمران، الآية: 19.
[86]
سورة آل عمران، الآية: 85.
[87]
سورة المائدة، الآية: 48.
[88]
قال الله تعالى: ﴿
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22] ..
[89]
ليس عجباً أن نقرأ في تاريخ المسلمين عن بعض الحكومات أنها ردّدت وأنشدت: «لا نبيّ جاء، ولا وحي نزل»، وهذا يكشف مدى ما وصلت إليه مستويات البشر في الحكم والدين والسياسة.
را: إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، عالم المعرفة، ص183.
[90]
سورة طه، الآية: 123.
[91]
سورة الأحزاب، الآية: 72.
[92]
سورة البقرة، الآية: 256.
[93]
جاء في الحديث: «رحم الله امرءاً عرف نفسه وعلم من أين وفي أين وإلى أين» وفي شرح هذا الحديث قال العلاّمة اليزدي: «إنّ من أراد أن يكون إنساناً فلا بدّ أن يفكّر في حقيقته ما هي؟ ومن أين جاء؟ ومن أيّ مبدأ وجد؟ ونحو أيّ مقصد ومنزل هو متّجه؟ ولا بدّ أن يعرف ماذا يجب عليه أن يعمل لتصبح لديه رؤية كونية واقعية وإيديولوجية صحيحة».
را: اليزدي، محمد تقي المصباح، الإيديولوجية المقارنة، م. س، ص14.

[94]
سورة الإسراء، الآية: 36.
[95]
سورة الأعراف، الآية: 157.
[96]
سورة سبأ، الآية: 28.
[97]
سورة آل عمران، الآية: 64.
[98]
سورة آل عمران، الآية: 64.
[99]
بدأ الجدال في الحبشة بين الإسلام والمسيحية، ثم أتى وفد من نصارى نجران إلى المدينة وجادل النبي، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك بعد أن رأوا الرسول يأتي بأهل بيته بعد أن صاح القرآن فيهم صيحته الرهيبة بقوله تعالى: ﴿
  فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ... ﴾ [آل عمران: 61] .
را: السبحاني، جعفر، سيد المرسلين، دار البيان العربي، بيروت، ج1، 1992، ص250.
[100]
بدأ الجدال على حدود يثرب بين المسلمين واليهود، وكانوا يجادلون بغير حق ويستفتحون على المشركين العرب بمجيء نبي جديد فلما أتى النبي أنكروه، وكانت النتيجة تحوّل الجدال إلى اشتباك عنيف مع اليهود وذلك بسبب خروجهم على العهود والمواثيق، كما قال الله تعالى: ﴿
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100] ، هذا فضلاً عن تآمرهم مع قريش على الإسلام والمسلمين، وهذا ما سيكون موضع بحث وتأمّل في البحوث المقبلة إن شاء الله تعالى.
[101]
انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق عبد السلام هارون، مؤسسة الرسالة، دمشق، ص124.
[102]
السبحاني، جعفر، سيد المرسلين، م. س، ج1، ص244.
[103]
سورة المائدة، الآية: 68.
[104]
سورة المائدة، الآية: 45.
[105]
سورة الروم، الآية: 30.
[106]
سورة الشورى، الآية: 13.
[107]
انظر: صعب، أديب، المقدمة في فلسفة الدين، دار النهار، بيروت، 1994، ص43. فهو يرى أن الوثنية الحقيقية ليست في تأليه الشمس أو القمر، بل في تأليه الذات الفردية... فالسقوط الأعظم هو في الاكتفاء الذاتي، وبالتالي، هو في محاولة الإنسان أن يجعل من أفكاره ونزواته وأهوائه وبقضائه وموته ربّاً يفرضه على الآخرين، وقد أدركت الأديان كلها هذا الخطر.
[108]
سورة البقرة، الآية: 112.
[109]
را: النشار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي، م. س، ص64.
[110]
إنّ التوراة المتداولة اليوم ليست توراة الله بإجماع المؤرّخين وعلماء الأديان قاطبة، فهي تصوّر أنبياء بني إسرائيل بصورة مشوّهة، وتنزع عنهم الحكمة، بل تردّهم إلى درك الحيوانية والشرك والارتداد عن الإيمان، وهذا ما ورد في سفر التكوين أن لوطاً زنى بابنتيه، وأن داود زنى بامرأة أورديا، كما جاء في سفر صموئيل الأول، إلى غير ذلك مما ورد عن الأنبياء في التوراة المتداولة، ويكفي أنها تحدّثت عن النبي موسى كقاتل ومجرم؛ هذا فضلاً عمّا يذهبون إليه من ادعاءات بأنهم شعب الله المختار. ولا شكّ في أن القرآن قد فنّد ما زعمه اليهود وكشف زيف أحبارهم في كثير من الآيات المباركة.
را: محمود بن شريف، اليهود في القرآن، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط2، 1986، ص38 وما بعدها.
[111]
الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ط1، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1415هـ، ج2، ص314.
[112]
را: المظفّر، محمد رضا، أصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2، 1990، ص207، إنّ كل ما يرد على لسان الشرع في الأوامر في موارد المستقلات العقلية لا بدّ أن يكون تأكيداً لحكم العقل لا تأسيساً.
[113]
سورة طه، الآية: 50.
[114]
سورة الإسراء، الآية: 15.
[115]
سورة الصف، الآية: 6.
[116]
هناك الكثير من الآيات القرآنية التي توضّح هذا المعنى، كما في قوله تعالى: ﴿
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ... ﴾. وقول تعالى: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ... ﴾ [البقرة: 120] .
[117]
سورة المائدة، الآية: 82.
[118]
سورة آل عمران، الآية: 199.
[119]
إنّ القرآن، كما هو ظاهر الكثير من الآيات قد دعا إلى الحوار والتعايش. وإذا كان حوار اللاهوت وعلم الكلام قد أدّى إلى مشاحنات وبغضاء، فذلك إنّما كان بسبب ما اختاره الآخرون من وسائل للإكراه على الدين، وهذا ما تكشف عنه التجارب التاريخية لأهل الأديان قبل الإسلام وبعده.
[120]
سورة آل عمران، الآيتان: 113 ـ 114.
[121]
سورة المائدة، الآية: 82.
[122]
سورة النحل، الآية: 22.
[123]
قال الله تعالى: ﴿
 وَلَا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ... ﴾ العنكبوت: 46.
[124]
سورة المائدة، الآية: 48.
[125]
قال الله تعالى: ﴿
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [النحل: 93] .
[126]
الفضلي، عبد الهادي، مدخل إلى علم الكلام، دار الوفاء، 1999، ص12.
[127]
انظر: موريس بوكاي، دراسة الكتب المقدّسة، دار الأفكار، بيروت، ط1، 1991.
[128]
الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م. س، الخطبة: 158.
[129]
تقدّم الكلام في أن بعض الباحثين قد أطلق على ما مارسه أهل الإيمان في تاريخهم مع المسلمين ما أسماه بأشكال الحوار المختلفة، وهذا الرأي لا يمكن الأخذ به لكونه لم يكن حواراً، وإنّما كان أسلوباً في العمل من قبل المسلمين وغيرهم لتحقيق فوز دنيوي، باعتبار أنه لا يمكن أن تكون الحرب شكلاً من أشكال الحوار، وإن كان البعض في العصر الحديث يسمّي الحرب بأنّها أسلوب في السياسة، أو أن الحرب هي وجه من وجوه السياسة، والأمر ليس كذلك لا في السياسة ولا في الحوار...
[130]
سورة النساء، الآية: 162.
[131]
سورة آل عمران، الآية: 64.
[132]
سورة مريم، الآية: 59.
[133]
سورة الأعراف، الآية 38.
[134]
نلاحظ أنه في كثير من الآيات القرآنية قد ذُكر أهل الكتاب بطريقة يستفاد منها اللين، وفي آيات أخرى يأتي الخطاب قوياً معهم، هذا فضلاً عمّا أفرد به كل من اليهود والنصارى من خطابات مختلفة ومتميّزة بالشدّة واللين، ولكن ما ينبغي التوقف عنده والاعتبار به، هو أنها إذا كانت آيات عدّة قد حملت على الأحبار الربّانيين وأولي العلم من اليهود لكتمهم الحق، وتدليسهم بالتوراة وصلف الإيمان وإلباسهم الحق بالباطل، وبيعهم دينهم وعلمهم وعهدهم بأعرض الدنيا، فإن هذه الآيات دليلاً واضحاً على أن فريقاً من علماء اليهود وقد أبى عليه علمه ودينه أن يندمج فيما تورّط به سائرهم بالردّ على النبوّة والمكابرة على صدق الدعوة النبوية والتنزيل القرآني.. هذا، ومن الحق أن ننبّه على ما في هذه الاستثناءات القرآنية من عبرة بالغة، ومَثَل رائع لتسجيل الحسنة لصاحبها والتنويه بالمحسن لإحسانه وذكر الفضل لذويه، مما يظل مصدر تلقين قرآني جليل الشأن ويدحض حجّة المغرضين...
[135]
مطهري، مرتضى، الإسلام وإيران، عطاء وإسهام، م. س، ص57.
[136]
قرم، جورج، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دار النهار، بيروت، ط2، 1992، ص190.
[137]
شلبي، أحمد، مقارنة الأديان، م. س، مدخل إلى المقارنة، ج1، ص12.
[138]
صعب، أديب، مقارنة في فلسفة الدين، دار النهار، بيروت، 1994، ص43.
[139]
هاشم، شريف، الإسلام والمسيحية، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط1، 1982، ص77.
[140]
نحن نرى أن الأمة الإسلامية في تاريخها كان ينبغي عليها الالتزام بالولاية لوعي ذاتها، ولكنها التزمت بالبيعة الفلتة في تاريخها، وكانت النتيجة وقوع الغيبة عام 250هـ، العام الذي كان يفترض أن تبدأه الشورى، فحصل الانقلاب وتغيّرت فلسفة التاريخ، ولو أنها استمرّت في الولاية إلى العام 250هـ لكانت اهتدت إلى مسالكها الهادئة وجرت على أذلالها السنن...
[141]
الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة: قصار الحكم، 219.