ثم
يتحدث سبحانه وتعالى عن جزاء عباد الرحمان فيقول:
وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ
مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُماًّ وَعُمْيَاناً (73})
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا
وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا
حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً (76)
سورة الفرقان
اللغة:
قرة
أعينٍ: قرة العين كنابة عن السرور لأن العين تستقر عنده.
الغرفة: كناية عن الدرجة الرفيعة في الجنة.
التّفسير:
في
متابعة للآيات الماضية التي كررت القول في خصائص «عباد الرحمن»،
تشرح هذه الآيات بقية هذه الصفات:
الصفة الرفيعة التاسعة لهم، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين: إنّ
هؤلاء لا يشهدون بالباطل مطلقاً: {وَالَّذِينَ
لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}.
المفسّرون الكبار فسّروا هذه الآية على نحوين:
اعتبر بعضهم «الزور» بمعنى «الشهادة بالباطل» كما قلنا أعلاه، لأنّ
«الزور» لغة بمعنى التمايل والإنحراف، وحيث أن الكذب والباطل
والظلم من الإنحرافات، فإن «الزور» يطلق عليها.
هذه
العبارة (شهادة الزور) في كتاب الشهادات في فقهنا، موجودة بنفس هذا
العنوان، وقد نُهي عنها في روايات متعددة، وإن لم نرفي تلك
الرّوايات استدلالا بالآية أعلاه.
التّفسير الآخر: هو أنّ المقصود من «الشهود» هو «الحضور» يعني أن
عباد الرحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل.
وفي
بعض الرّوايات التي وردت عن طرق أئمّة أهل البيت(ع)، فسّرت
بـ «الغناء» أي تلك المجالس التي يتمّ فيها إنشاد اللهو مصحوباً
بأنغام الآلات الموسيقية أو بدونها.
لا
شك أنّ مراد هذا النوع من الرّوايات ليس هو تحديد مفهوم «الزور»
الواسع بـ «الغناء»، فالغناء واحد من مصاديقه البارزة إنه يشمل
سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب والغيبة وأمثال ذلك.
ولا
يستبعد أيضاً أن يجتمع كلا التّفسيرين في معنى الآية، وعلى هذا
فعباد الرحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة، ولا يشهدون مجالس اللهو
والباطل والخطيئة، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس ـ فضلا عن
ارتكاب الذنب ـ فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح.
ثمّ
يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة، وهي امتلاك
الهدف الإيجابي في الحياة، فيقول: {وَإِذَا
مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}.
إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل، ولا يتلوثون باللغو والبطلان. ومع
الإلتفات إلى أن «اللغو» يشمل كل عمل لا ينطوي على هدف عقلائي، فإن
ذلك يدل على أن «عباد الرحمن» يتحرون دائماً الهدف المعقول والمفيد
والبناء، وينفرون من اللاهدفية والأعمال الباطلة، فإذا اعترضهم هذا
النوع من الأعمال في مسير حياتهم، مروا بمحاذاتها مرور اللامبالي،
ولا مبالاتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه الأعمال،
فهم عظماء بحيث لا تؤثر عليهم الأجواء الفاسدة ولا تغيرهم.
ولا
شك أنّ عدم اعتنائهم بهذه الاُمور من جهة أنّهم لا طريق لهم إلى
مواجهة الفساد والنهي عن المنكر، وإلاّ فلا شكّ أنّهم سوف يقفون
ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الأخيرة.
الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والأذن
السامعة حين مواجهتهم لآيات الخالق، فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ
إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا
صُماًّ وَعُمْيَاناً}.
من
المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار، ذلك لأنّهم لا
اعتناء لهم بآيات الله أصلا، بل إن المقصود: فئة المنافقين أو
مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة، دون
أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها، فيعرفوا ما يريده الله ويتفكروا
فيه، ويستهدوه في أعمالهم.
ولا
يمكن طي طريق الله بعين وأذن موصدتين، فالأذن السامعة والعين
الباصرة لازمتان لطي هذا الطريق، العين الناظرة في الباطن،
المتعمقة في الأشياء، والأذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة.
ولو
تأملنا جيداً لأدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات الأعين والآذان الموصدة
وفي ظنها أنّها تتبع الآيات الإلهية، ليس أقلّ من ضرر الأعداء
الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق اصرار، بل أن ضررهم أكثر
بمراتب أحياناً.
التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات
والصمود، لأنْ من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين، وبتحريفه
يتم الإنحراف عن الخط الأصيل، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر
والضلالة وعدم الإيمان.
هذا
النوع من الأفراد أداة بيد الأعداء، ولقمة سائغة للشياطين،
المؤمنون وحدهم هم المتدبرون المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ،
فلا يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك.
نقرأ في حديث عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله
عزَّوجلّ: {وَالَّذِينَ
إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا
صُماًّ وَعُمْيَاناً}، قال: «مستبصرين ليسوا بشكاك».(16)
الصفة الثّانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين، هي التوجه
الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة
إزاء هؤلاء {وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إن
الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر، ورمز جدهم
واجتهادهم.
من
المسلَّم أنّ أفراداً كهؤلاء لا يقصرون في بذل مالديهم من طاقة
وقدرة في تربية أبنائهم وأزواجهم، وتعريفهم بأصول وفروع الإسلام،
وسبل الحق والعدالة وفي ما لا تصل إليه قدرتهم وطاقتهم، فإنّهم
يدعون الله، يسألونه التوفيق بلطفه.
فالدعاء الصحيح من حيث الأصل، ينبغي أن يكون هكذا: السعي بمقدار
الإستطاعة، والدعاء خارج حدّ الإستطاعة.
«قرّة العين» كناية عمّن يُسرَّ به، هذا التعبير أُخذ في الأصل من
كلمة «قر» التي بمعنى البرد، وكما هو معروف (وقد صرح به كثير من
المفسّرين) أن دمعة الشوق والسرور باردة، ودموع الحزن والغم حارة
حارقة، لذا فـ «قرّة عين» بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين
الإنسان، يعني أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه، وهذه كناية جميلة عن
السرور والفرح.
مسألة تربية الأبناء وإرشاد الزوجات، ومسؤولية الآباء والأمهات
إزاء أطفالهم من أهم المسائل التي أكد عليها القرآن.
وأخيراً فالصفة الرفيعة الثّالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه
الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على
طريق الحق، بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات
للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً.
إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم انقاذ أنفسهم
من الغرق، بل إن سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى.
لذا
يقول في آخر الآية، إنّهم الذين يقولون: {وَاجْعَلْنَا
لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.
ينبغي الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، إنّهم لا يدعون ليكونوا في
موقع العظماء جزافاً، بل إنّهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث
تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة الحقيقية، وهذا عمل عسير جداً،
وله شرائط صعبة وثقيلة.
ولا
ننس أنّ القرآن لا يذكر في هذه الآيات صفات جميع المؤمنين، بل
أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان «عباد
الرحمن». نعم، إنّهم عباد الرحمن، وكما أن رحمة الله العامّة تشمل
الجميع فإنّ رحمة الله بهؤلاء العباد عامّة أيضاً من أكثر من جهة،
فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في
طريق هداية خلق الله.
أُولئك نماذج وأُسوات المجتمع الإنساني.
أُولئك قدوات المتقين.
إنّهم أنوار الهداية في البحار والصحاري. ينادون التائهين إليهم
لينقذوهم من الغرق في الدوامة، ومن السقوط في المزالق.
نقرأ في روايات متعددة أنّ هذه الآية نزلت في علي (ع) وائمّة أهل
البيت (ع).
ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادق (ع): «إيانا عنى».(17)
ولا
شك أن أئمة أهل البيت (ع) من أوضح مصاديق هذه الآية، لكن هذا لا
يمنع من اتساع مفهوم الآية، فالمؤمنون الآخرون أيضاً يكون كل منهم
إماماً وقدوة للآخرين بمستويات متفاوتة.
واستنتج بعض المفسّرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية
والروحانية ليس غير مذموم فقط، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضاً.(18)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة «إمام» وإن كانت للمفرد، إلاّ
أنّها تأتي بمعنى الجمع، وهكذا هي في الآية.
بعد
إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء
مع جميع هذه الخصائص، وفي صورة الكوكبة الصغيرة، فيبيّن جزاءهم
الإلهي {أُوْلَئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}.
لذلك فإنّ «عباد الرحمن» بامتلاكهم هذه الصفات، يكونون في الصف
الأوّل من المؤمنين، وينبغي أن تكون درجتهم في الجنّة أعلى درجة
أيضاً.
المهم أنّه يقول: إن هذا المقام العالي قد أُعطي لهم بسبب ما قدموا
من ضريبة الصبر والإستقامة في طريق الله، ومن الممكن أن يتصور أن
هذا وصف آخر من أوصافهم، لكن هذا في الحقيقة ليس وصفاً جديداً، بل
هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وإلاّ فهل يمكن أن نتصور
عبادة الخالق، ومواجهة الطغيان والشهوات، وترك شهادة الزور،
والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة.
هذا
البيان يُذكّر الإنسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي
(ع)حيث يقول: «والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد» فبقاء الجسد من
بقاء الرأس، ذلك لأن قيادة جميع أعضاء البدن تستقر في دماغ
الإنسان.
وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق
الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي الذنوب،
تجتمع كلها في ذلك المفهوم، وإذا فسر في بعض الرّوايات بالصبر على
الفقر والحرمان المالي، فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان المصداق.
ثمّ
يضيف تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ
فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً}.
أهل
الجنّة يحي بعضهم بعضاً، وتسلم الملائكة عليهم، وأعلى من كل ذلك أن
الله يحييهم ويُسلم عليهم، كما نقرأ في الآية (58) من سورة يس {سَلامٌ
قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}، ونقرأ في الآية (23 و24) من سورة الرعد {وَالمَلاَئِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ
(23) سَلاَمٌ
عَلَيْكُم ...}.
تُرى هل لـ «التحية» و«السلام» هنا معنيان، أم معنى واحد!؟ ثمّة
أقوال بين المفسّرين، لكن مع الإلتفات إلى أن «التحية» في الأصل
بمعنى الدعاء لحياة الغير، و«سلام» من مادة السلامة، وبمعنى الدعاء
للغير.
على
هذا نستنتج: أن الكلمة الأُولى بعنوان طلب الحياة، للمخاطب والكلمة
الثّانية طلب اقتران هذه الحياة مع السلامة، ولو أن هاتين الكلمتين
تأتيان بمعنى واحد أحياناً.
«التحية» في العرف لها معنى أوسع، فهي كل ما يقولونه في بيان
اللقاء مع الآخرين، فيكون سبباً في سرورهم واحترامهم وإظهار
المحبّة لهم.
ثمّ
يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: {خَالِدِينَ
فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً}.
يتحدث سبحانه وتعالى عن صفات المؤمنين والمؤمنات بقوله:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ
اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (72)
سورة
التوبة
اللغة:
عدنٍ: العدن الاقامة والخلود.
رضوان: مصدر رضي
التّفسير:
صفات المؤمنين الحقيقيين:
في
الآيات السابقة ذكر بعض الصفات المشتركة بين المنافقين، الرجال
منهم والنساء، وتلخصت في خمس صفات: الأمر بالمنكر، والنهي عن
المعروف، والبخل وعدم الإِنفاق، ونسيان الله سبحانه وتعالى،
ومخالفة وعصيان أوامر الله.
وتذكر هذه الآيات صفات وعلامات المؤمنين والمؤمنات، وتتلخص في خمس
صفات أيضاً، فتقابل كل صفة منها صفة من صفات المنافقين، واحدة
بواحدة، لكنّها في الإتجاه المعاكس.
وتشرع الآية بذكر صفات المؤمنين والمؤمنات، وتبدأ ببيان أنّ بعضهم
لبعض ولي وصديق {وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}.
إنّ
أوّل ما يلفت النظر أن كلمة (أولياء) لم تُذكر أثناء الكلام عن
المنافقين، بل ورد (بعضهم من بعض) التي توحي بوحدة الأهداف والصفات
والأعمال، ولكنّها تشير ضمناً إِلى أن هؤلاء المنافقين وإن كانوا
في صف واحد ظاهراً ويشتركون في البرامج والصفات، إلاّ أنهم يفتقدون
روح المودة والولاية لبعضهم البعض، بل إنّهم إذا شعروا في أي وقت
بأنّ منافعهم ومصالحهم الشخصية قد تعرضت للخطر فلا مانع لديهم من
خيانة حتى أصدقائهم فضلا عن الغرباء، وإلى هذه الحالة تشير الآية
(14) من سورة الحشر: {تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}.
وبعد بيان هذه القاعدة الكلية، تشرع ببيان الصفات الجزئية
للمؤمنين:
1 ـ
ففي البداية تبيّن أن هؤلاء قوم يدعون الناس إلى الخيرات {يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ}.
2 ـ
إنّهم ينهون الناس عن الرذائل والمنكرات {وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ}.
3 ـ
إنّهم بعكس المنافقين الذين كانوا قد نسوا الله، فإنّهم يقيمون
الصلاة، ويذكرون الله فتحيا قلوبهم وتشرف عقولهم {وَيُقِيمُونَ
الصَّلاَةَ}.
4 ـ
إنّهم ـ على عكس المنافقين والذين كانوا يبخلون بأموالهم ـ ينفقون
أموالهم في سبيل الله وفي مساعدة عباد الله وبناء المجتمع وإصلاح
شؤونه، ويؤدون زكاة أموالهم {وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ}.
5 ـ
إنّ المنافقين فسّاق ومتمردون، وخارجون من دائرة الطاعة لأوامر
الله، أمّا المؤمنون فهم على عكسهم تماماً، إذ {وَيُطِيعُونَ
اللّهَ وَرَسُولَهُ}.
أمّا ختام الآية فإنّه يتحدث عن إمتيازات المؤمنين، والمكافأة
والثواب الذي ينتظرهم، وأوّل ما تعرضت لبيانه هو الرحمة الإِلهية
التي تنتظرهم فـ {أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ}.
إنّ
كلمة (الرحمة) التي ذكرت هنا لها مفهوم واسع، ويدخل ضمنه كل خير
وبركة وسعادة، سواء في هذه الحياة أو في العالم الآخر، وهذه الجملة
في الواقع جاءت مقابلة لحال المنافقين الذين لعنهم الله وأبعدهم عن
رحمته.
ولا
شك أنّ وعد الله للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ الله قادر وحكيم، ولا
يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب، وليس الله القادر بعاجز عن الوفاء
بوعده حين وعد {إِنَّ
اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
الآية الثّانية شرحت جانباً من هذه الرحمة الإِلهية الواسعة التي
تعم المؤمنين في بُعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلاً تقول: {وَعَدَ
اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا
فناء، بل الخلود الأبدي، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون {خَالِدِينَ
فِيهَا}.
ومن
المواهب الإِلهية الأُخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة،
والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان {وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}.
(عدن) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما، ولهذا يطلق على
المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح (معدن)، وعلى هذا المعنى
فإنّ هناك شبهاً بين الخلود وعدن، لكن لما أشارت الجملة السابقة
إِلى مسألة الخلود، يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في
الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة.
لقد
وردت هذه الموهبة الإِلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات
وكلمات المفسّرين، فنطالع في حديث عن النّبي
(ص): «عدن دار الله
التي لم ترها عين، ولم يخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة:
النّبيين، والصّديقين، والشّهداء».(181)
وفي
كتاب الخصال نُقل عن النّبي(ص) قوله: «من سرّه أن يحيا حياتي،
ويموت مماتي، ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي، جنات عدن...
فليوال علي بن أبي طالب (ع) وذريته
(ع) من بعده».(182)
ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر
فيها النّبي (ص) وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه. وهذا المضمون قد
ورد في حديث آخر عن علي (ع)، ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي
الإِسلام (ص).
بعد
ذلك تشير الآية إِلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء، وهو رضى الله
تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين، وهو أهم وأعظم جزاء، ويفوق
كل النعم والعطايا الأُخرى {وَرِضْوَانٌ
مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}.
إنّ
اللذة المعنوية والإِحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإِنسان عند
شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر، وعلى
قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم
الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية.
من
الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة
من نعم الحياة الأُخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها
المحدودة، فكيف سنصل إِلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية
الكبرى؟!
نعم، يمكن إِيجاد تصور ضعيف عن الإِختلافات المادية والمعنوية التي
نعيشها في هذه الدنيا، فمثلا يمكن إدراك الإختلاف في اللذة بين
اللقاء بصديق عزيز جداً بعد فراق طويل ولذّة الإِحساس الروحي الخاص
الذي يعتري الإنسان عند إِدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في
تحصيلها والوصول إِلى دقائقها الشهور، بل السنين، أو الإِنشداد
الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة، أو
النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور، وبين
اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ، ومن
الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ
المعنوية، ولا يمكن أن تصل إلى مصافها.
من
هنا يتّضح التصور الخاطيء لمن يقول بأن القرآن الكريم عندما يتحدث
عن الجزاء والعطاء الإِلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد
على النعم المادية، ولا يتطرق إِلى النواحي المعنوية، لأن الجملة
أعلاه ـ أي: رضوان من الله أكبر ـ ذكرت أن رضوان الله أكبر من كل
النعم، خاصّة وأنّها وردت بصيعة النكرة، وهي تدل على أن قسماً من
رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة، وهذا
يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي.
إن
الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضاً، لأنّ الروح في
الواقع بمثابة (الجوهر) والجسم بمكان (الصدف)، فالروح كالآمر
والقائد، والجسم كالجندي المطيع والمنفذ، فالتكامل الروحي هو
الهدف، والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع
من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ
المادية والجسمية، كما أن الآلام الروحية أشدّ ألماً من الآلام
الجسمية.
وفي
نهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية، وعبرت
عنها بأنّ {ذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا
خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ (15) (سجدة واجبة) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا
أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ
فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن
يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا
عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
سورة السجدة
اللغة:
تتجافى: تبتعد من الجفاء
جنوبهم: جمع جنب، وهو الجانب
المضاجع: جمع مضجع وهو فراش النوم
المأوى: ما تأوي إليه
نزلاً: المراد بالنزل هنا العطاء
التّفسير:
جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد!
إنّ
طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع
بعضها، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً، فإنّه يتطرّق إلى
صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة، ويبيّن اُصولهم العقائدية،
وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات، فيقول
أوّلا: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا
خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُون}.
التعبير بـ (إنّما) الذي يستعمل عادةً لإفادة معنى الحصر، يبيّن
أنّ كلّ من يتحدّث عن الإيمان ويتمشدق به، ولا يمتلك الخصائص
والصفات التي وردت في هذه الآيات، فإنّه لا يكون في صفّ المؤمنين
الواقعيين، بل هو شخص ضعيف الإيمان.
لقد
بيّنت في هذه الآية أربع صفات:
1 .
أنّهم يسجدون بمجرّد سماعهم آيات الله، والتعبير بـ (خرّوا) بدل
(سجدوا) إشارة إلى نكتة لطيفة، وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ينجذبون إلى
كلام الله لدى سماعهم آيات القرآن ويهيمون فيها بحيث يسجدون لا
إرادياً. ويفتقدون أرواحهم وقلوبهم في هذا الطريق.
نعم.. إنّ أوّل خصائص هؤلاء هو العشق الملتهب، والعلاقة الحميمة
بكلام محبوبهم ومعشوقهم.
لقد
ذكرت هذه الصفة والخاصية في بعض آيات القرآن الاُخرى كأحد أبرز
صفات الأنبياء، كما يقول الله سبحانه في شأن جمع من الأنبياء
العظام: {إِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}.(19)
وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة، ولكن من المعلوم أنّ
المراد منها غالباً الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.
2-
3. علامتهم الثّانية والثالثة تسبيح الله وحمده، فهم ينزّهونه
تعالى عن النقائص من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون
عليه لصفات كمالهُ وجماله.
4 .
والصفة الاُخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كلّ أنواع التكبّر، لأنّ
الكبر والغرور أوّل درجات الكفر والجحود، والتواضع أمام الحقّ
والحقيقة أُولى خطوات الإيمان!
إنّ
الذين يسيرون في طريق الكبر والعُجب لا يسجدون لله، ولا يسبّحونه
ولا يحمدونه، ولا يعترفون بحقوق عباده! إنّ لهؤلاء صنماً عظيماً،
وهو أنفسهم!
ثمّ
أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاُخرى، فقالت: {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}
فيقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته
وعبادته.
نعم.. إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون
الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية،
وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ
الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة، والخلاصة: عند
توفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى
معبودهم، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم، ويخبرونه بما في
قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.
ثمّ
تضيف: {يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}.
وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: «الخوف» و«الرجاء»، فلا
يأمنون غضب الله عزّوجلّ، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف
والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه،
والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى
اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما
عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.
وثامن صفاتهم، وآخرها في الآية أنّهم {وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
فهم
لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم
ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه
الغير.
إنّهم ينبوع من الخير والبركة، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب
الصافي الذي يروي العطاشى، ويغني المحتاجين بحسب إستطاعتهم.
نعم.. إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة،
والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله، والعبادة والطاعة، والسعي
والحركة الدؤوبة، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات.
ثمّ
تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين
يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير
جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا
أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}.
التعبير بـ (فلا تعلم نفس) وكذلك التعبير بـ (قرّة أعين) مبيّن
لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر، خاصّة وأنّ
كلمة (نفس) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي، وهي تعني العموم
وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله.
والتعبير بـ (قرّة أعين) من دون الإضافة إلى النفس، إشارة إلى أنّ
هذه النعم الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في
الآخرة، في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع.
(قرّة) مادّة القَرّ، أي البرودة، ومن المعروف أنّ دموع الشوق
باردة دائماً، وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق، فالتعبير بـ
(قرّة أعين) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين
الإنسان، أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم، وهذه كناية
لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة.
وفي
حديث عن النّبي الأكرم (ص): «إنّ الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين
ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».(20)
وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلاّمة «الطبرسي» في (مجمع
البيان) وهو: لماذا اُخفي هذا الثواب والجزاء؟
ثمّ
يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال:
أنّ
الاُمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال
الألفاظ والكلام، ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحياناً أكثر
تحفيزاً، وأبعث على النشاط، وهو أبلغ من ناحية الفصاحة.
أنّ
الشيء الذي يكون قرّة للأعين، يكون عادةً مترامي الأطراف إلى الحدّ
الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته.
لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة، فإنّ المناسب أن
يكون ثواب هذا العمل عظيماً ومخفيّاً أيضاً. وينبغي الإلتفات إلى
أنّ جملة {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل.
وفي
حديث عن الإمام الصادق (ع): «ما من حسنة إلاّ ولها ثواب مبين في
القرآن، إلاّ صلاة الليل، فإنّ الله عزّ إسمه لم يبيّن ثوابها لعظم
خطرها، قال: فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين».(21) وبغضّ
النظر عن كلّ ذلك، فإنّ عالم القيامة عالم أوسع من هذا العالم سعةً
لا تحتمل المقارنة، فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى
حياة الجنين في رحم الاُمّ، وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها
عادةً بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا، ولا
يمكن تصوّره من قبل أحد.
إنّنا نسمع كلاماً عنه فقط، ونرى شبحه من بعيد، لكنّنا ما لم ندرك
ولم نر ذلك العالم، فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته، كما أنّ
إدراك الطفل في بطن الاُمّ لنعم هذه الدنيا ـ على فرض إمتلاكه
العقل والإحساس الكامل ـ غير ممكن.
وقد
ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله، ذلك أنّ الشهيد
عندما يقع على الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّبة التي
خرجت من البدن الطيّب، أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت،
ولا خطر على قلب بشر.(22)
وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة
أكثر صراحة، فتقول: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ
فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ}.
لقد
وردت الجملة بصيغة الإستفهام الإنكاري، ذلك الإستفهام الذي ينبعث
جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبداً،
وفي الوقت نفسه، وللتأكيد، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح
بذكر جملة: {لاَّ يَسْتَوُونَ}.
لقد
جعل «الفاسق» في مقابل «المؤمن» في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ
للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاُخرى، لأنّ هذه الكلمة
أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها، ثمّ أطلقت
على الخروج على أوامر الله والعقل وعصيانها، ونعلم أنّ كلّ من كفر،
أو إرتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل.
وممّا يجدر ذكره أنّ الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة، وبمجرّد
أن تخرج من القشر تفسد، وبناءً على هذا فإنّ فسق الفاسق كفسق
الثمرة، وفساده كفسادها.
ونقل جمع من المفسّرين الكبار ففي ذيل هذه الآية أنّ «الوليد بن
عقبة» قال يوماً لعلي (ع): أنا أبسط منك لساناً، وأحدّ منك سناناً!
إشارة إلى أنّه ـ بظنّه ـ يفوق علياً في الفصاحة والحرب، فأجابه
علي (ع): «ليس كما تقول يافاسق»، إشارة إلى أنّك أنت الذي اتّهمت
بني المصطلق بوقوفهم ضدّ الإسلام في قصّة جمع الزكاة منهم، فكذّبك
الله وعدّك فاسقاً في الآية (6) من سورة الحجرات: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا ....}.(23)
وأضاف البعض هنا بأنّ آية: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً) نزلت
بعد هذه المحاورة، لكن يبدو من ملاحظة أنّ السورة مورد البحث (سورة
السجدة) نزلت في مكّة، وقصّة الوليد وبني المصطلق وقعت في المدينة،
فهذا من قبيل تطبيق الآية على مصداق واضح لها.
وبناءً على ما ذهب بعض المفسّرين من أنّ الآية أعلاه والآيتين
بعدها مدنية، لا يبقى إشكال من هذه الجهة، ولا مانع من أن تكون هذه
الآيات الثلاث قد نزلت بعد المحاورة أعلاه.
وعلى كلّ حال، فلا بحث ولا جدال في إيمان أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (ع) العميق المتأصّل، ولا في فسق الوليد، حيث اُشير في آيات
القرآن لكلا الإثنين.
وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلا،
فتقول: {أَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ
الْمَأْوَى} ثمّ تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد
أعدّها الله تعالى لإستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة: {نُزُلاً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
إنّ
التعبير بـ «نزلا»، والذي يقال عادةً للشيء الذي يهيّئونه لإستقبال
وإكرام الضيف، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يُستقبلون ويُخدمون
دائماً كما هو حال الضيف، في حين أنّ الجهنّميين كالسجناء الذين
يأملون الخروج منها في كلّ حين، ثمّ يعادون فيها!
وما
ورد في الآية (102) من سورة الكهف: {إِنَّا
أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} فانّه من قبيل {فَبَشِّرْهُم
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وهو كناية عن أنّه يُعاقب ويعذّب هؤلاء بدل إكرامهم،
ويهدّدون مكان بشارتهم.
ويعتقد البعض أنّ «النزل» أوّل شيء يستقبل به الضيف الوارد لتوّه ـ
كالشاي والعصير في زماننا ـ وبناءً على هذا فإنّه إشارة لطيفة إلى
أنّ جنّات المأوى بتمام نعمها وبركاتها هي أوّل ما يستقبل به ضيوف
الرحمن، ثمّ تتبعها المواهب في بركات اُخرى لا يعلمها إلاّ الله
سبحانه.
والتعبير بـ (لهم جنّات) لعلّه إشارة إلى أنّ الله سبحانه لا
يعطيهم بساتين الجنّة عارية، بل يملّكهم إيّاها إلى الأبد، بحيث لا
يعكّر هدوء فكرهم إحتمال زوال هذه النعم مطلقاً.
وتطرّقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء، فتقول: {وَأَمَّا
الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث أنّهم {كُلَّمَا
أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ
ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
مرّة اُخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل «الكفر
والتكذيب»، والثواب والجزاء في مقابل «العمل»، وهذا إشارة إلى أنّ
الإيمان لا يكفي لوحده، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل،
إلاّ أنّ الكفر كاف لوحده للعذاب، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.
فائدة
أصحاب
الليل!
ورد
لجملة: {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} تفسيران في الروايات الإسلامية:
أحدهما: تفسيرها بصلاة «العشاء»، وهو يشير إلى أنّ المؤمنين
الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن
يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء (لأنّ المعتاد في ذلك الزمان
أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليل ـ وكانوا يفرّقون بين صلاتي
المغرب والعشاء، طبقاً لإستحباب التفريق بين الصلوات الخمس، وكانوا
يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء
إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرةً.
وقد
روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبي (ص) طبقاً لنقل الدرّ
المنثور، وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادق (ع).(24)
وثانيهما: أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء
صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين:
ففي
رواية عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال لأحد أصحابه: «ألا اُخبرك
بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه»؟ قال: بلى، جعلت فداك، قال:
«أمّا أصله فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة سنامه الجهاد»!
ثمّ
قال: «إن شئت أخبرتك بأبواب الخير»؟ قال: نعم جعلت فداك، قال:
«الصوم جنّة، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل
بذكر الله، ثمّ قرأ: {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}.(25)
وروي في (تفسير مجمع البيان) عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع
رسول الله (ص) في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم، فإذا
رسول الله (ص) أقربهم منّي، فدنوت منه، فقلت: يارسول الله، أنبئني
بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار، قال: «لقد سألت عن عظيم
وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً،
وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان».
قال: «وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير» قال: قلت: أجل يارسول الله،
قال: «الصوم جنّة، والصدقة تكفّر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف
الليل يبتغي وجه الله» ثمّ قرأ هذه الآية {تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}.(26)
وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعاً يشمل
البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء، إضافةً إلى النهوض
في السحر لصلاة الليل، إلاّ أنّ الدقّة في مفهوم (تتجافى) تعكس
المعنى الثّاني في الذهن أكثر، لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد
إضطجعت وهدأت في المضاجع، ثمّ تجافت وإبتعدت عنها، وهذا يناسب
القيام آخر الليل لأداء الصلاة، وبناءً على هذا فإنّ المجموعة
الاُولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية.
وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه
الصلاة المباركة، إلاّ أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة
إهتماماً عظيماً قلّ أن تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اُخرى.
لقد
اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيراً بهذه
العبادة الخالية من الرياء، والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ
الشوائب.
ومن
الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائماً، ولكن
ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي،
وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله، وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون
الجوّ مهيئاً لحضور القلب، يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور
عشق الحبيب ومحبّته.
(16) نور
الثقلين: ج4 / ص43.
(17) نور
الثقلين (محل البحث).
(18)
تفسير القرطبي والرازي.
(181) مجمع البيان ذيل الآية.
(182) هكذا نقل
عن نور الثقلين: ج8/ ص24.
(20) ذكره
مجمع البيان وروح المعاني والقرطبي والبخاري ومسلم.
(21) مجمع
البيان ذيل الآية.
(22)
مجمع
البيان ذيل الآية (171) آل عمران.
(23) ذكرت
في مجمع البيان وتفسير القرطبي وغيرها.
(24) كما
نقل تفسير الميزان ج6 / ص268.
(25) أصول
الكافي: ج2 / ص15 والمصدر السابق.
(26) مجمع
البيان ذيل الآية.
|