أقول: اختلف المؤرخون في ترتيب السور. فهل
هو توقيف من النبي أم هو من فعل الصحابة؟ ويمكن أن نذكر هنا ثلاثة اراء:
الرأي الأول: أنه توقيفي، قال ابن مالك:
إنّما ألفّوا القرآن على ما كانوا يسمعوه من النبي مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد
من الصحابة [1]
فاذا كان تاليفهم كما سمعوه من النبي، فهذا يعني أن ترتيب السور توقيفي، أمّا عمل
الأصحاب في ترتيب السور بمحض اجتهادهم فهذا ممّا يحمل قول المالكي على التناقض، أم
نقول في كلام الرسول شيء من التوسعة، وإلاّ الجمع مشكل.
الرأي الثاني: ما اتّفق عليه علماء
الجمهور كالقاضي أبي بكر بن الطيب أنه فؤض ترتيب السور إلى أمته من بعده.
الرأي الثالث: كما ذهب إليه القاضي أبو
محمد بن عطية: أن كثيراً من السور كان قد عُلِم ترتيبها في حياة النبي كالسبع
الطوال والحواميم والمفصّل وأشاروا إلئ أن ما سوى ذلك يمكن أن يكون فوّض الأمر فيه
إلى الأمة بعده [2].
قال الكرماني في البرهان: ترتيب السور
هكذا هو عند الله وفي اللوح المحفوظ، وهو على هذا الترتيب كان يعرض على جبرائيل كل
سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفى مرتين.
وقال أبو بكر بن الأنباري: أنزل اللة
القرآن كلّه إلى سماء الدنيا، ثم فرّته في بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر
يحدث، والآية تنزل جواباً لمستخبر، ويوقف جبرائيل النبيَّ على موضع السورة
والآية. فاتّساق السور كإتساق الآيات والحروف كله عن النبي فمن قدّم سورة أو آخّرها
فقد أفسد نظم الآيات [1].
هذه أهم الأقوال الماثورة عن علماء
الجمهور في ترتيب القرآن الكريم، على أن الأمر ليس فيه كبير فائدة كالذي يأتي فيه
ترتيب الآيات.
أقول: أهم الآراء: الأول والثاني؛ وقد
أكّد الرأي الأول جملة من العلماء على سبيل المثال صبحي الصالح من المعاصرين، قال:
وأمّا ترتيب السور فتوقيفي أيضا، وقد علم في حياته وهو يشمل السور القرآنية
جميعاً، ولسنا نملك دليلًا على العكس، فلا مسوّغ للرأي القائل أي ترتيب السور
اجتهادي من الصحابة، ولا للرأي الآخر الذي يفصّل: فمن السور ما كان ترتيبه
اجتهادّياً، ومنه ما كان توقيفياً [2].
وقال ابن فارس جمع القران على ضربين:
أحدهما: تأليف السور كتقديم السبع الطوال رتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولّته
الصحابة.
وأمّا الجمع الآخر: وهو جمع الآيات في
السور؛ فهو توقيفي تولاّه النبي كما أخبر به جبرائيل عن أمر ربه.
وقال البيهقي: كان القرآن على عهد النبي مرتباً سوره وآياته على هذا الترتيب إلاّ الأنفال وبراءة
[1].
وقال أبو جعفر النحّاس: المختار أن تأليف
السور على هذا الترتيب من رسول الله لحديث واثلة بن الأسقع روى: أن رسول
الله قال: أعطيت مكان التوراة السبع الطوال وأعطيت مكان الزبور إلمئين، "وأُعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضّلت بالمفضَّل [2]
قال فهذا الحديث يدلّ على أن تأليف القرآن ماخوذ عن النبي وأنه من ذلك الوقت،
إنّما جمع في المصحف على شيء واحد، لأنه جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله على
تأليف ا لقرآ ن.
وقال ابن حجر: وممّا يدل على أن ترتيبها -
السور - توقيفي: ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال. كنت
في الوفد الذين أسلموا من ثقيف - ثم يذكر الحديث بطوله والذي فيه:
فقال لنا رسول الله: طرأ عليّ حزبي من
القرآن، فأردت ألاّ أخرج حتى أقضيه، فسألنا أصحاب رسول الله ، قلنا: كيف
تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزّبه ثلاث سور وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى
عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصّل من (ق) حتى نختم [1].
قال ابن حجر: فهذا يدلّ على أن ترتيب
السور على ما هو في مصحف الآن كان على عهد الرسول .
ثم عقّب السيوطى فقال: وممّا يدل علئ أنه
توقيفي كون الحواميم رتّبت ولاءً وكذا الطوسين، ولم ترتَّب المسبّحات ولاءً، بل
فصل بين سورها، وفصل بين طسم الشعراء وطسم القصص بطس مع أنها اقصر منهما، ولو كان
الترتيب اجتهادياً لذكرت المسبّحات ولاءً وأُخِّرت طس عن القصص
[2].
أقول: وممّا استدلّ أصحاب الرأي الأول
أنهم رووا عن الرسول أنه قرأ من السور تباعاً كما مؤلّف في هذا المصحف، فعن حذيفة
أنه قرأ البقرة وآل عمران والنساء. والأعراف كما في صحيح البخاري، صفة الصلاة،
باب القراءة في المغرب و (الجمعة) و (المنافقون) كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة.
والتحقيق أن الروايات التي قدّمها أصحاب
الرأي الأول لا تقوى، وضعفها بيّن، فهي لا تفيد علماً ولا عملاً. والذي نرّجحه هو
الرأي الثاني وذلك أن ترتيب السور لم يكن توقيفياً، بل أنه اجتهاد من الصحابة،
والأدلّة في ذلك كثيرة ولو التفتنا إلى المصاحف الأولى، كمصحف الإمام علي، وأُبي،
وابن مسعود، ومجاهد، وغيرها لرجدنا أن السور تختلف في ترتيبها عن مصحف عثمان كل
الاختلاف، فإن مصحف الإمام علي بن أبي طالب في أوّله سورة (البقرة) ثم
(يوسف) ثم (العنكبوت) ثم (الروم) ثم (لقمان) ثم (حم السجدة) ثم (الذاريات) ثم (هل
أتى على الإنسان)... وهكذا وقد ذكر ابن النديم أن مصحف الإمام علي في سبعة أجزاء.
وأمّا ترتيب مصحف أبي بن كعب فهو أقرب إلى
ترتيب مصحف عثمان، أوّله (الفاتحة) ثم (البقرة) ثم (النساء) ثم (آل عمران) ثم (الأنعام)...
وهكذا آخره الناس.
وأمّا ترتيب مصحف مجاهد فروى محمد بن
نعمان بن بشير قال أوّل ما نزل من القرآن على النبي (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ثم (ن
والقليم) ثم (يا أيها المزمّل) ثم (المدثر).
وهكذا روى ابن النديم عن مجاهد (تبّت يدا
أبي لهب) ثم (إذا الشمس كوّرت) ثم (سبّح اسم ربك) ثم (ألم نشرح لك صدرك)... أخر
سورة فيه د التربة. وأمّا ترتيب مصحف ابن مسعود فاوّله سورة (البقرة) ثم (النساء)
ثم (آل عمران) ثم (المص) ثم (الأنعام) ثم (المائدة) ثم
(يونس) ثم (براءة) ثم (النحل) وآخره الصمد.
وأمّا مصحف ابن عباس فاوّله (اقرأ) ثم (ن)
ثم (والضحى) ثم (المزمّل) - ثم (المدثّر) ثم (الفاتحة) ثم (تبّت يدا ) ثم (كوّرت)
ثم (الأعلى)... وآخر سورة فيه الناس.
وأقا مصحف الإمام جعفر بن محمد الصادق،
فاوّله (اقرأ) ثم (ن) ثم (المزمّل) ثم (المدثر) ثم (تبّت) ثم (كوّرت) ثم (الأعلى)... وآخر سورة فيه المائدة.
وهكذا في بقية المصاحف وقد ذكر ابن أبي
داود السجستاني الاختلاف بين تلك المدوّنة في صدر الإسلام والتي سبقت مصحف عثمان..
وعلى هذا لو كان ترتيب السور توقيفياً لما وجدنا ذلك الاختلاف الكبير في ترتيب
مصاحف هؤلاء الأجلاء من أصحاب النبي، ولما سُمِح لهم أن يكتبوا أو ينسخوا المصحف
كيفما شاؤوا.
ومّما يعزز قولنا ما تبنّاه الزركشي، قال: وترتيب بعضها ليس هو أمراً أوجبه الله بل أمرٌ راجع إلى اجتهادهم واختيارهم ولهذا
كان لكل مصحف ترتيب [1].
والغريب في الأمرما ذكره صبحي الصالح،
حيث قال: لاينبغي أن يسلّم على علاّته - أي في أمر اجتهاد الصحابة في ترتيب سور
القرآن – لأن اجتهاد الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختياراً شخصياً لم
يحارلوا أن يلزموا به أحداً، ولم يدّعوا أن مخالفته محرّمة، إذ لم يكتبوا تلك
المصاحف للناس وانّما كتبوها لأنفسهم، حتى إذا اجتمعت الأمّة على ترتيب عثمان
أخذوا به وتركوا مصاحفهم الفردية.. [1].
أقول لو كان الصحابة الذين سمعوا من
الرسول ونقلوا منه مباشرة، وقد علموا منه ترتيب السور يالكيفية التي جمعه عثمان
فكان من الأجدر أن يسبقوا عثمان إلى هذا الترتيب، وأن يلزموا أنفسهم به وإلاّ لا
معنى لمخالفتهم الرسول. ثم تركهم مصاحفهم ولجوئهم إلى مصحف عثمان هو الدليل الآخر
على كون السور من اجتهاد الصحابة، وما اسدلّ به الدكتور الصالح أوهى من خيط
العنكبوت، قال: (لو أنهم - أصحاب المصاحف - كانوا يعتقدون أن الأمر مقوّض إلى
اجتهادهم موكول إلى اختيارهم، لاستمسكوا بترتيب مصاحفهم ولم ياخذوا بترتيب عثمان).
أي دليل على هذا كون ترتيب السور
توقيفياً؟! أمّا إتباع مصحف عثمان إنّما كان بامر السلطة الحكمة وعلى رأسها عثمان،
فالمسلمون آنذاك مجبرون على هذا الاتباع، ثم أطبقت كتب التاريخ والحديث والتفاسير
على أن عثمان أمر كل من بحوزته قرآن غير هذا فليأتِ به ثم أحرق ما تجمّع عنده،
وهكذا أمر ولاته في الأمصار بحرق كل النسخ عدا المصحف الذي كتبه، والذي سمّى فيما
بعد بمصحف عثمان. والكل قد استجاب لطلب عثمان عدا ابن مسعود فانه عارض عثمان بن
عفّان وأبى أن يحرق مصحفه [1].