الكتاب كلمات قرآنية
لسماحة الأمين العام لحزب الله
السيد حسن نصر الله (حفظه المولى)
 إعداد ونشر  جمعية القرآن الكريم
 الطبعة  الأولى - 1433 هـ - 2012 م - لبنان - بيروت
موقع جمعية القرآن الكريم www.qurankarim.org
بريد جمعية القرآن الكريم info@qurankarim.org

 

لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

 

 

 


المقدمة


 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف خلق الله محمَّد وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين.

يقول سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [1].

الكلمة الطيِّبة والشجرة الطيِّبة تحمل في مفهومها ومحتواها معناً واسعاً، فهي تشتمل على كلمة التوحيد، والأوامر الإلهية، والإيمان بكل محتواه ومفهومه، والطينة المؤمنة وعلى رأسهم أهل البيت (عليهم السلام)، والبرامج العمليَّة السليمة والمستقيمة، وكلُ ما جاء به القرآن الكريم الدستور الإلهي، والسنة النبوية الشريفة.

فالمولى سبحانه شبَّه هذه المفاهيم والمعارف والقيم ـ والتي تتمثل بالنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) والقرآن والعاملين به ـ بأنَّهم كالشجرة الطيبة من كلِّ جهة، ثمرها، أزهارها، منظرها، ظلالها، جميعها طيب، نظامها دقيق، جذورها وأغصانها لكلِّ جزء منها وظيفة خاصَّة وطيِّبة، فهي ثابتة محكمة، لا تقلعها العواصف ولا الطوفان، وتصل إلى عنان السّماء، كثيرة الثمر والعطاء، تعطي في كلِّ فصل وزمان، فإذا مددنا يدنا إلى أغصانها في أيِّ وقت لم نرجع خائبين، ثمارها تكون وفق القوانين والسنن الإلهية.

هذه نفسها الخصال التي نجدها في كلمة التوحيد ومحتواها، وفي القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة، وبرامجهم الحيَّة والنظيفة، من يأتي إليهم يستفيد من ثمارهم العطرة، وهكذا الرجال العظام من المجاهدين المؤمنين فهم كلمة الله الطيِّبة، وحياتهم كلَُّها أصل البركة، ودعوتهم ونشاطهم الثقافي والجهادي والتبليغي والإرشادي والسياسي والأخلاقي والاجتماعي والقرآني وغير ذلك، فهذا كلُّه يوجب الحركة الفعالة والإيجابية للوصول إلى شاطىء السعادة في الدارين، فآثارهم، وكلماتهم، وأقوالهم، وكتبهم، ومناصريهم، وطلاّبهم، وتاريخهم، وماضيهم، ومستقبلهم، كلُّها إرشاد، وحياة، وتربية، واستقامة، وعظمة للإسلام والمسلمين.

ونحن في جمعية القرآن الكريم قمنا بتسليط الضوء على مجموعة مهمة من كلمات حجة الإسلام والمسلمين سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) الذي يقوم بواجبه في مواجهة الأخطار التي تهدد الإسلام والقرآن وهو نموذج من الذين قال لهم الإمام روح اللَّه الموسويّ الخميني (قدّس سره) «إنَّ على علماء الإسلام مسؤوليَّة تنبيه المسلمين كلَّما أحسُّوا بالخطر يهدد الإسلام والقرآن، حتى لا يكونوا مسؤولين أمام الله» وأحد مصاديق الحديث الشريف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنَّ العلماء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنَّما ورَّثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها، فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإنَّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» [2]، وقد قمنا بتنظيم وتنقيح هذا الكتيب ليكون مادَّة يستفيد منها العلماء والأساتذة والأطباء والمهندسون وطلاب الجامعات والمجاهدون وكلُّ محبّ للقرآن ولسماحته من كلِّ شرائح المجتمع.

نسأل المولى (عزَّ وجلّ) أن يوفقنا وإيَّاكم للمزيد من الاستفادة من هذا النبع الصافي والطيب بحق محمَّد وآله الطاهرين.

 

والحمد لله ربّ العالمين

جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد


 


الكلمة الأولى


 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا شفيع ذنوبنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع الشهداء والمجاهدين في سبيل الله منذ آدم إلى قيام يوم الدين.

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

أريد تلاوة الآيات التي تلاها فضيلة الشيخ لمزيد من التبرك والإستئناس والفائدة: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [3] صدق الله العلي العظيم.

في افتتاح هذه الأمسيات القرآنية المباركة، نتوجه في البداية إليكم وإلى جميع المسلمين في العالم بالتهنئة والتبريك بمناسبة حلول شهر الله، شهر ضيافة الله، شهر الصيام والقيام والجهاد والقرآن والدعاء والعبادة والإنابة والتوبة، شهر رمضان المبارك. وفي نفس الوقت اتوجه إلى جميع اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين بالتهنئة والتبريك لمناسبة حلول العام الجديد، ونحن بعد ساعات قليلة ننهي عاماً ميلادياً لندخل في عام ميلادي آخر.

وقبل أن أعود إلى الآيات الكريمة، ومن وحي هذه المناسبات الكريمة والجليلة، أود أن أذكِّر وأؤكد على عدة أمور:

الأمر الأول: إنَّنا ندعو الناس في هذه الليلة بالتحديد أن يعودوا إلى ربهم وإلى عقلهم وإلى قيمهم، وأن يغادروا بعض العادات السيئة التي اعتدنا عليها في هذا البلد، فيما يسمى بحفلات وتقاليد وعادات ليلة رأس السنة، حتى وصل الأمر بثقافة بعض الناس أن يعتبروا أنَّهم في مثل هذه الليلة في حِلٍ من حلال الله وحرامه، وكأنَّه رُفِعَ التكليف عن الناس في هذه الساعات، فلهم أن يفعلوا فيها ما يشاؤون.

أيَّها الإخوة والأخوات: يجب أن نبدأ ساعات عامنا الجديد بالطاعة وبالدعاء وبالتوجه إلى الله سبحانه وتعالى حتى يوفقنا في عامنا الجديد لكل خير، وحتى يُنَزِّل علينا كل بركة، وحتى يدفع عنَّا السوء والشَّر والفساد، ويُحِلَّ في ديارنا العدالة والسعادة والنَّصر المؤزَّر، لا أن نبدأ عامنا الجديد بالمعاصي وارتكاب الآثام واقتراف الذنوب من أشكالها وأنواعها المختلفة كما اعتاد عليه الناس في هذا البلد.

إنَّ عاماً جديداً نبدؤه مع الله سبحانه بمعصيته وتجاوز حدوده وحرماته لهو عام لا يبشر إلا بنتاج أيدينا وثمرات أنفسنا الأمارة بالسُّوء. أودُّ هنا أن أؤكد وأدعو وأناشد الجميع، أن يتأملوا في هذا الأمر وأن يبتعدوا أيضاً حتى عن بعض العادات التي يتوهمون حلِّيتها ولو تأملوا أكثر لاكتشفوا انَّها إن لم تكن من المحرمات فهي من موارد الشبهات. إنَّ عادة إطلاق الرصاص الغزير في مثل هذه الليلة إسرافٌ ليس كمثله إسراف، وايذاءٌ للناس ليس كمثله إيذاء، إنَّ مَن كان يملك هذه الطلقات وقد ضاقت بها مخازنه أو زاوية بيته، فليتبرع بها في مثل هذه الليلة لمجاهدي المقاومة الاسلامية، حتى يرموا هذه الرصاصات في صدر العدو الجاثم على أرضنا والذي يعتدي علينا في كلِّ يوم.

وأقول أيضاً لمشتري المفرقعات: وإن كان هذا الكلام لا يناسب تجَّار المفرقعات وليس لمصلحتهم. إنَّ الكثير من هذه المفرقعات هي إسراف أيضاً لا طائل منه، وإنَّ الكثير مما ينفق في مثل هذه الليلة إسراف، وإسراف في بلد يعيش غالبيته تحت خطِّ الفقر ويعانون من الدَّيْن ومن الأزمات المعيشية، ثمَّ نجد أنَّ في هذه الليلة يفقد بعض الناس عقولهم، فلا يدرون ما يفعلون ولا يتحسَّسون حتى بآلام الفقراء والمساكين والأيتام الذين يعجُّ بهم هذا البلد في كلِّ مدنه وفي كلِّ قراه. دعوة للعودة إلى الدين إن كنا من أهل الدين، وإلى العقل إن كان لدينا عقل، وللقيم الإنسانية والفطرة الانسانية، إن كان لدينا قيم من هذا النوع، أن نبتعد في مثل هذه الليلة، وهي في بدايات شهر الله وفي الساعات الأولى من عامنا الجديد، عن كل ما يغضب الله ويسخطه علينا، بل إضافة إلى ذلك، علينا أن ننفق في مثل هذه الليلة على الأيتام والفقراء والمساكين ونتصدق ونواسي من حولنا ومن يعيش معنا في بلدنا، وأن نبدأ ساعات عامنا الجديد بالخير وبالعبادة وبالعمل الصالح حتى يكون لنا عام مختلف عن الأعوام التي مررنا بها.

الأمر الثاني: من عادة الناس في مثل هذه الأيام، ومع نهاية العام أن يُصفُّوا حساباتهم المالية ويغلقوا دفاترهم، كما يقولون، يدرسون أرباحهم وخسائرهم، ويقررون أعمالهم وخياراتهم للعام المقبل، هذا أمر طبيعي وعقلي، ومن حق الناس أن يفعلوا ذلك، ولكن أليس من واجب الناس أيضاً في مثل هذه الليلة بالتحديد، أن يخلوا بأنفسهم قليلاً لدقائق أو لساعة ويحاسبوا أنفسهم، ويتفكروا في أنفسهم وفي أعمالهم، ماذا قدموا لأنفسهم خلال عام، ماذا عملوا من عمل صالح وماذا اقترفوا من إثم وذنب؟

نحن أيُّها الإخوة والأخوات مدعوّون لجلسة محاسبة مع النفس، حتى نستزيد من العمل الصالح، ونستغفر الله في شهر المغفرة من ذنوبنا وآثامنا التي ارتكبناها على مدى عام.

الأمر الثالث: دعوة الناس جميعاً في لبنان، واللبنانيين جميعاً، وسكان هذا البلد جميعاً وكل من يسمعنا الآن إلى حفظ حرمة هذا الشهر المبارك، وإلى حفظ حرمة الإسلام وحرمة المسلمين، سواء كان المخاطب الآن مسلماً أو لم يكن مسلماً، فإنَّ من حقِّ الناس بعضهم على البعض أن يحترموا حرمات وكرامات بعضهم البعض، حتى أولئك الذين يجدون لأنفسهم عذراً في إفطار أيام هذا الشهر أو بعض أيامه، كما لو كانوا مرضى أو على سفر، فإنَّ عليهم أن لا يرتكبوا حراماً وهو المجاهرة بالإفطار، لأنَّ في ذلك معصية لله سبحانه وهتك لحرمة هذا الشهر المبارك.

إنَّ المسلمين بالدرجة الأولى مدعوُّون إلى حفظ حرمة هذا الشهر وكرامته وهيبته ومعنويته، وهذه مسؤولية أخرى تضاف إلى واجب الصيام الذي أوجبه الله علينا، وكتبه في هذا الشهر المبارك، وفي المقدمة حفظ حرمة هذا الشهر، أن لا نُحَوِّل نحن ولا غيرنا أيَّامه ولياليه إلى فرصة زمنية تُشْغَل باللهو والطرب والرقص والفساد والغناء، وما يسمى زوراً وبهتاناً بالخيم الرمضانية التي لا تَمتُّ إلى شهر رمضان بصلة، هذا فيه هتك لحرمة هذا الشهر، أن لا نحوِّل شهر العبادة والطاعة والإنابة والتوبة والاستغفار إلى شهر للذنوب والمعاصي والآثام وتجاوز حدود المولى (عزَّ وجلّ)، وهذه مسؤولية الجميع. إنَّ علينا أن نستنفد شهرنا هذا، أيامه ولياليه، ساعاته ودقائقه وثوانيه، حتى آخر لحظة من لحظاته، فيما يقربنا إلى الله (عزَّ وجلّ) وفيما فيه خيرنا، خير دنيانا وخير آخرتنا وخير شعبنا وخير أمتنا.

أمَّا لو عدنا إلى الآيات الكريمة، فالآيات تؤكّد لنا أنَّ هذا الشهر كما هو شهر الصيام، لأنَّ هذه الآيات جاءت في سياق الأمر الإلهي والآيات الإلهية التي تتحدث عن وجوب الصوم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [4]، وتستمر الآيات هذه لتؤكد أنَّ هذا الشهر أيضاً، هو شهر القرآن وشهر الدعاء، هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، طبعاً كيف أُنزل بعضه، كله؟ الفرق والنقاش حول هذا الموضوع بحث طويل لا نريد أن نتعرض له الآن، ولكن بالمجمل، هناك تأكيد قرآني على أنَّ القرآن أنزل في هذا الشهر:﴿ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾، وأنَّ القرآن أنزل في ليلة من ليالي هذا الشهر: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [5]، إذا كان هذا الشهر هو شهر القرآن، فعلينا أيضاً أن نؤدي للقرآن حقَّه، وأن نعرف أولاً حق القرآن، وأن نعترف في نفس الوقت بأنَّ كتاب الله هذا كتاب مظلوم بيننا ومِنَّا وفينا، وبأن قرآننا هذا سيشكونا إلى ربِّنا يوم القيامة لأنَّنا هجرناه وتركناه وابتعدنا عنه.

أيُّها الإخوة والأخوات: يجب أن يكون هذا الشهر من هذه السنة بالنسبة إلينا جميعاً ـ وهذه دعوة أكيدة لكل المؤمنين والمؤمنات، أن يكون هذا الشهر ـ مناسبة عظيمة وفرصة حقيقية، للتعرف على كتاب الله عزَّ وجل والأنس به وتلاوته والتدبر بآياته وفهمه، كمقدمة للعمل بكل ما جاء فيه إن شاء الله تعالى، هذا القرآن هو الكتاب الإلهي الخالد، هذا القرآن المصدِّق لما بين يديه من كتب السماء وصحف الأنبياء، هذا القرآن الهدى والنور المبين والتبيان لكل شيء، وبينات الهدى وفرقان الحق والباطل، هذا القرآن شفاء الصدور وربيع القلوب، كتاب الهداية والصراط المستقيم.

حالنا مع هذا القرآن، أيُّها الإخوة والأخوات، كحال المرضى الذين يسكنون في جوار طبيب وفي بيوتهم الدواء، ولكنّهم هجروا الطبيب وهجروا الدواء وأصرُّوا بجهلهم وبغفلتهم وبسوء حالهم أن يبقوا في المرض، مرض العقول والأرواح والأنفس الأمارة بالسوء. القرآن هذا علاج كلّ أمراضنا، كلّ ما يمكن أن نتصوره من سوء فينا، وكل ما يمكن أن نتصوره من حاجة ومن سؤال، فهذا القرآن الإلهي فيه تبيان كل شيء، وهو الكتاب الخالد الأبدي الذي سيرد الحوض مع عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة.

ابتداءً من هذه الليلة المباركة، وأنا لا أريد أن أطيل عليكم، لنستفيد من محضر أساتذة كبار وقرّاء كبار، وليبق المنبر لكلمات الحبيب وآياته ولكل ما فيه من نور وهدى وعظمة وحكمة، أوَدُّ أن أؤكد في نهاية الكلمة على ما يلي:

أيُّها الإخوة والأخوات: ليكن شهرنا هذا من عامنا هذا الأولوية الأكيدة في أعمالنا العبادية للقرآن، وأنا هنا لا أقصد أن نُغْفِل الأمور الأخرى، ولكن لنعط للقرآن أولويته الكبيرة، لنتلوَه ونقرأ آياته ونتأمل فيها ونتدبر، وعندما نتلوه لا يكون همنا آخر السورة لتنته السورة، ولا آخر الكتاب لنسجل في مفكرتنا أننا ختمنا القرآن في هذا الشهر مرَّة أو أكثر من مرَّة. أنتم تعرفون ماذا ورد في الأحاديث الشريفة من أجر وثواب مضاعف لمن يتلو آيات الله في هذا الشهر المبارك، فلنستغل هذه الفرصة، إنَّ تلاوة آية من آياته أو سورة من سورة أو كل هذه السور في هذا الشهر يختلف عن أي تلاوة في أي زمن آخر، فليكن هناك كما قلت أولوية لدينا من هذا النوع، ولكن أؤكد على التلاوة المتأملة والمتدبرة والهادئة والمتعظة والمعتبرة والمستفيدة، كما أكد القرآن نفسه ورسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولتكن الأولوية في أعمالنا الثقافية في هذا الشهر ـ وكما بدأ الإخوة فعلاً ـ لتكن الأولوية في أعمالنا الثقافية هي التركيز على القرآن، للتعريف به في الجلسات والدروس واللقاءات والمحاضرات والندوات والخطب والمواعظ، للتعريف به وتعليم تجويده وتفسير كلماته وتركيز مفاهيمه، هذا يجب أيضاً أن يؤكد كأولوية.

وفي هذه الأمسيات التي ستُحيا في هذا المسجد المبارك، الإخوة والأخوات مدعوُّون جميعاً إلى أقصى حد من الاستفادة، وعندما نستمع إلى القرآن من حناجر القرَّاء بالصوت الجميل الحسن، والله تعالى يحب أن تتلى آياته بصوت جميل وحسن، وأن يُدعى بصوت جميل وحسن، عندما نستمع إلى الآيات والكلمات، أن نتوجه بكل عقولنا وقلوبنا لهذا الصوت ولما ينطق به هذا الصوت، لتستفيد القلوب وتزهر الروح ويعتبر العقل، فليكن استماعنا استماع المتدبرين المـتأملين المتفكرين، وفي نفس الوقت استماع المتلذذين بكلام الحبيب، المستأنسين بآياته التي ترنم على آذاننا بأصوات جميلة وحسنة.

أختم بكلمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون شرحها مع الدعوة إلى التأمل بهذه الكلمة والاعتبار منها، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن في كل عصر وفي كل مرحلة مبتلون بالفتن الملتبسة التي يضيع فيها الحق ويشتبه فيها على كثير من الناس: «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنَّه شافع مشفَّع، وماحِلٌ مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تَبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة» [6] إلى أن يقول: «فإنَّ التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»، يعني من يحمل الضوء أو أي شيء فيه إنارة ويمشي في داخل الظلمات هذا المستنير يمشي في الظلمات بالنور، المتفكّر يمشي بنور القرآن، هو النور الذي يمشي به في ظلمات الحياة، ولا يكفي أن نتلوه أو نتفكر فيه دون أن نعمل به، وأيضاً لا يكفي أن نعمل به دون أن نتلوه يعني (ممكن في أناس يتصورون انَّهم خُلّص وعُبَّاد ومجاهدون وزاهدون ومضحون لا يحتاجون لأن يقرؤوا القرآن ويجودوه ويرتلوه ويسمعوه)، لا، نحن بحاجة إلى كلا هذين الأمرين إلى أن يقول: «فإنَّ التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور يحسن التخلص ويقل التربص».

نسأل الله سبحانه تعالى أن يوفقنا في هذا الشهر لقيامه وصيامه وللاستفادة من كتابه وأن يعتق رقابنا من النار وأن يوفقنا للتزود منه إلى أقصى حد، وللاستفادة من أيامه ولياليه وذكرياته ومناسباته العظيمة والجليلة والتي سيكون لنا معها موقف وكلام ولقاء في أكثر من ليلة وأكثر من يوم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


الكلمة الثانية


 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا شفيع ذنوبنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

السادة العلماء، إخواني وأخواتي، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، والحمد لله الذي منّ علينا بلقاءٍ جديد ومدَّ في أعمارنا ليستضيفنا في شهره وعلى مائدته، ولِتُتَاح لنا الفرصة الغالية التي كنَّا نخشى وما زلنا نخشى أن نفتقدها بين العام والعام.

في هذه الليلة المباركة نفتتح معاً موسم الأمسيات القرآنية في ليالي شهر رمضان المبارك، والذي بدأ في الحقيقة منذ العام الماضي كسُنَّةٍ حسنةٍ، نأمل أن تمتد وتتسع لتشمل كل المناطق اللبنانية وكل المساجد اللبنانية وكل الأحياء والبلدات والقرى، لنكون في الحقيقة أمام شكل أفضل ووضع أفضل من الاستفادة والتزود من بركات هذا الشهر العظيم. هذه الأمسيات التي نلتقي فيها في بيت من بيوت الله عزَّ وجل، وهذه السَّنة وهذا الموسم اختار الإخوة المشرفون على هذا البرنامج أن لا يختصر الإحياء وإقامة الأمسيات على مكان واحد، وإنما سوف ينتقل الإحياء إلى أكثر من مسجد وإلى أكثر من منطقة في بيروت والضاحية الجنوبية، يعني في العاصمة وفي الضاحية الجنوبية، ونأمل إن شاء الله من المؤمنين والمؤمنات، ومن اتباع هذا الرسول العظيم أن يشاركوا في هذا الإحياء بحضورٍ واهتمام وجِدٍّ، ليكون لهذه المناسبات جلالها وهيبتها وعظمتها وأجرها الكبير إن شاء الله.

هذا الشهر هو شهر القرآن، وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ما أود أن أتحدث عنه في هذه الليلة المباركة وفي افتتاح هذه الأمسيات القرآنية، الذي أظنه مفيداً لجو الإحياء والمشاركة بشكل مباشر، هذا القرآن الذي نستمع إلى آياته في هذه الليالي، من السادة المقرئين من الأصوات الجميلة والأنفاس الطيبة، هذا القرآن بالدرجة الأولى له موقعه الكبير والعظيم عند الله سبحانه وتعالى، يكفي أن نذكُر ما وصف الله سبحانه وتعالى به هذا الكتاب الإلهي الخالد، ويكفينا هذا الوصف الإلهي بما يحدثنا عن مكانة القرآن عند الله سبحانه وتعالى، رب الأنبياء والمرسلين والخلائق أجمعين والعالمين، هو يحدثنا عن هذا الكتاب ويطلق عليه مجموعة من الصفات الجليلة، أذكر بعض ما ورد في هذا الخصوص، قال تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [7]، وقال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [8]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [9] وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [10]، وقال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [11]، هذا بعض ما ورد، القرآن العظيم والمجيد والكريم، هذه صفات يطلقها الله العظيم والمجيد والكريم على كتابه وآياته وكلماته.

وثانياً: هذا القرآن الذي نستمع إلى آياته في هذه الأمسيات، تعهَّد الله سبحانه وتعالى منذ أن أنزله على قلب رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنزلت الآيات والكلمات إلى هذه المرتبة من الوجود وإلى هذا العالم، تعهَّد الله تعالى بحفظه وصيانته، فهذا القرآن من أول حرف في أول كلمة منه إلى آخر حرف في آخر كلمة منه مصانٌ ومحفوظٌ من الله سبحانه الحفيظ العليم، هذا القرآن لم تمتد إليه ولا يمكن أن تصل إليه يد التحريف أو التشويه، وهذا هو الموقف الإسلامي الذي أجمع عليه المسلمون وأنَّ القرآن الموجود بين أيدينا هنا، هو الأحرف والكلمات القرآنية التي أنزلها الله تعالى على قلب رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا في الحقيقة هو جانب من جوانب المعجزة القرآنية، أن يبقى هذا القرآن مصاناً من التحريف: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [12]، هذا قرار ووعد وتعهُّد ومشيئة إلهية، مع العلم أنَّه على مدى أكثر من ألف وأربعمئة سنة هناك أعداء كثر لهذا الكتاب الإلهي ولهذه الرسالة الإلهية، كانوا يسعون إلى تحريف هذا القرآن، إلى تزوير هذا القرآن، إلى تحريف أفكار ومعتقدات ومفاهيم هذا الإسلام المحمدي الأصيل، وكانوا يملكون من القدرة والطاقة والمال والجاه والسلطان والإمكانات، ولديهم من الدوافع والخلفيات ما يجعلهم يستنفرون كل طاقاتهم من أجل تحريفه، فلم يتمكن أحد لا الفلاسفة ولا العلماء ولا السلاطين ولا الحكام ولا اتباع الهوى ولا طلاب الفتن، لم يستطع أحد على مدار أكثر من ألف وأربعمئة سنة أن يَمَسَّ آية واحدة أو كلمة واحدة أو حرفاً واحداً من آيات وكلمات وحروف هذا الكتاب الإلهي بالتحريف أو بالتغيير.

وثالثاً: هذا الكتاب هو كتاب الإعجاز الخالد والمستمر، وهو كتاب التحدي الأبدي إلى قيام الساعة، لم يكن هذا الكتاب تحدياً لقريش ولا للعرب في شبه الجزيرة العربية في مرحلة من الزمن فقط وإنَّما هو تحدٍ لكل الناس في كل المراحل وعلى كل الصعد، ليس بالبلاغة فقط وإنَّما أيضاً في عظيم المضمون، قال الله تعالى بما يؤكد هذا المعنى بشكل قاطع ونهائي: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [13]، لو اجتمع الإنس والجن ليس في عصر من العصور، بل في كل العصور وجمعوا عقولهم وعلومهم وإمكاناتهم وقدراتهم الفكرية والثقافية وخبراتهم وكفاءاتهم، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لن يأتوا بمثله، وقد تحداهم بما هو أكثر من ذلك بعشر سور ثمَّ تحداهم بسورة واحدة.

ورابعاً: لقد يسَّر الله تعالى هذا القرآن وفصَّله، وهنا جانب آخر من المعجزة، أن يتحدى الله العالَمَ كلَّه بقرآنٍ ميسَّر: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [14]، ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [15]، فالله سبحانه وتعالى خاطب بلغة العرب بلغة قريش البشرية كلها، وبواسطة ووسيلة هذه اللغة، حشد كلّ هذا المضمون الكبير والعظيم وجمع كل هذه الكنوز، وضم كلَّ هذه الأسرار والبطون والنجوم وبلغة ميسّرة عربية بليغة كماءٍ صافٍ يستطيع كل إنسان أن يغرف من هذا الماء بقدر طاقته وبقدر ما يستطيع ويطيق ويحمل ويفهم ويستوعب. وبعد هذا التيسير دعانا لأن ننصت إلى الآيات والكلمات: ﴿ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [16]، وطلب منا أن نقرأ ما تيسَّر لنا حتى لو كنَّا مرضى أو على سفر أو في جهاد، أمرنا أن نقرأ ما تيسَّر منه، سواء كنَّا في المسجد أو في المتراس أو في الجبهة نحمل البندقية أو الكتاب في كل حال من أحوالنا، فلنقرأ ما تيسَّر من هذا القرآن. وعندما نقرأ فلنرتل: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [17]، لأنَّه عندما نرتِّل القرآن نستطيع أن نتفاعل مع ما نقرأ أكثر، ومع الإنصات والإستماع ومع القراءة والترتيل أمرنا بالتدبر والتأمل والتفكر، لا أن نعطي آذاننا، نسمع الكلمات والآيات وقلوبنا لاهية وعقولنا مشغولة بشأن آخر، هذه هي النقطة التي أريد أن أركز عليها قليلاً.

أيُّها الإخوة والأخوات، في هذه الأمسيات القرآنية، نحن نأتي إلى هنا في الليل نترك متاع الدنيا، وكثيراً من شهوات هذه الدنيا التي يُقبِل عليها كثير من الناس، نأتي إلى بيت من بيوت الله لنستمع إلى آياته، فلنستمع بتأمل، بتفكر، بإنصات، بتدبر، نتفكر بالآيات ومعاني الآيات ومضامين الآيات التي نستمع إليها، وهذا هو في الحقيقة الغرض الأساسي المرحلة الرئيسية، التيسير والإنصات والقراءة والتلاوة والإستماع هدفه في النهاية هو الفهم والاستيعاب والقبول، لنصل إلى مرحلة العمل بما نعلم التمسك بهذا القرآن، هذا التمسك الذي فيه عزُّ آخرتنا وعزُّ دنيانا، فيه نجاتنا وسعادتنا وخيرنا وفلاحنا.

أيُّها الإخوة الأعزاء والأخوات الكريمات: إسمحوا لي فقط أن أقف عند هذه النقطة قليلا، لأنَّني أعتبرها هي النقطة الجوهرية والرئيسية في إحياء هذه الأمسيات، أنقل إليكم بضع جمل من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) المعروفة بخطبة المتقين يقول فيها الإمام (عليه السلام) وهو يصف المتقين في الليل ويصفهم في النهار، أنا سأنقل وصفهم بالليل باعتبار الصلة مع حديثي: «أَمَّا اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لأَِجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً» [18]، هذا بالليل (طيب) على أي حال «تَالِينَ لأَِجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ»، سأقرأ المقطع كله وسأرجع إليه لاحقاً، «أَمَّا اَللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لأَِجْزَاءِ اَلْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ»، يصف حالتهم، يعني ليست قراءة أنَّه أنا أريد ختم القرآن، لست في سباق، أنَّه خلصت الجزء الأول وأريد الانتهاء من الجزء الثاني وإنما قراءة فيها عيش مع مضامين الآيات التي تتلى، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، والله تعالى يحب من المؤمن أن يقرأ القرآن بصوت جميل وحزين «يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ»، عندهم مرض، عندهم أمراض، أمراض فكرية، وأمراض نفسية، وأمراض روحية، وأمراض اجتماعية، يفتشون عن دواء أمراضهم وعلاج أمراضهم في آيات القرآن الذي أنزله الله شفاء ورحمة، فهم يفتشون عن علاجهم في هذه التلاوة، في هذه القراءة، في قلب هذه الآيات. «فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ»، هنا طبعا في العام الماضي نحن إستمعنا للطبيب نعينع وبقية الإخوة القرَّاء، جو القراءة أيضاً يساعد الإنسان للانتقال إلى ذاك الجو، طريقة التلاوة وطريقة القراءة، الصوت الجميل الإيقاع والمقامات لا أعرف هذه المصطلحات جيداً، ولكن كلّها تساعد أن يخرج الإنسان من هذا الجو إلى جو الآيات مباشرة، «فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ» آيات تتحدث عن الجنَّة، جنَّات الخلد عن المتقابلين على سرر، عن الأكواب واللباس والولدان والحور والمقامات والقرب والرضوان والروح والريحان، «فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً»، يطمعون فيها، يركنون ويطمعون أن تكون لهم هذه الأوضاع وهذه المقامات وهذه الأحوال «وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا» وليس فقط تتطلع إليها بل تشتاق إليها «وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ»، وتصوروا أنَّها هي الآن، هم في الحقيقة يشاهدون الجنَّة ومن في الجنَّة وما في الجنَّة وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، «وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ»، سرابيل القطران والنيران والجلود التي تنضج، والعذاب وما في ذلك من مشاهد القيامة وأحوال الموت والقبر والبرزخ «أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ»، هناك لأنَّه يوجد تشويق ركنوا، ينشدّ، يركن، يطمع يشتاق، هنا لأنَّه يوجد رهبة وخوف «أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ»، أنظروا الهدوء والرهبة والإنصات، ومثلما ظنوا في البداية كأنهم رأوا الجنَّة أمامهم «ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»، كأنَّهم يستمعون بقوّة إلى الزفير والشهيق المتصاعد من جهنَّم الغاضبة التي تطلب من الله سبحانه وتعالى مزيد الحطب من النَّاس والحجارة فهذا وضعهم عندما يتعاطون مع آيات التشويق يكون الأمر هكذا، ومع آيات التخويف هذه كيف يكون حالهم؟ توجَّه، «فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ»، يركعون يسجدون «مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ»، يعني في حالة السجود، «وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ»، كل هذه المساجد السبعة «يَطْلُبُونَ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ». ما نحتاجه أيَّها الإخوة في هذه الأمسيات هو هذا، أن نستمع إلى الآيات بمسامع قلوبنا، أن نصغي إليها ونعطيها كل أرواحنا وأنفسنا وعقولنا ووجودنا أن ننسى ما حولنا وما وراءنا وأن نطرد كلَّ خيالٍ يشغلنا عن الاستفادة من هذه الفرصة الجميلة التي تتيحها لنا هذه الأمسيات، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة شهر رمضان: «من تلا فيه آية كان له مثل من ختم القرآن في غيره من الشهور» [19] (يعني: لحقوا حالكم)، الذي يقرأ آية في هذا الشهر المبارك تماماً مثل الشخص الذي ختم القرآن بكامله في غير هذا الشهر المبارك، هل هناك فرصة أعظم من هذه؟ أكبر من هذه؟ ولكن هذا الأجر، هذا الثواب ينتظر التالين، المتدبرين، المنصتين، المتوجهين بعقولهم وقلوبهم إلى مضامين هذه الآيات، ولعلَّه حتى تلاوة الآية الواحدة في شهر رمضان لما لهذا الشهر من أجواء روحية خاصة ومن مشيئة إلهية خاصة ومن تفضيل إلهي خاص ومن وضع تكويني خاص وخصوصاً أنَّ الأنفس تكون في حالة تروُّض وتزهُّد بسبب الصيام، هذه الأنفس تكون مستعدة أكثر، مهيأة أكثر للتفاعل والتأثر بمضامين هذه الكلمات والآيات والمعاني.

أيُّها الإخوة لا يفوتني في النهاية أن أؤكد إلى جانب كلِّ هذا الاهتمام على لزوم العمل بالقرآن والتمسك بالقرآن، لأنَّه كما قلت في البداية هو أساس فلاحنا وعزنا ونجاتنا وانتصارنا، ويجب أن أذكّر في هذه الليلة في ليلة الإفتتاح وأؤكد في هذا الشهر الكريم، أنَّ ما شهدناه منذ عام ألف وتسعمئة واثنان وثمانون إلى اليوم إلى هذه اللحظة من جهاد ودماء وتضحيات وصبر وزهد وتحمل وتعالٍ عن الصغائر وترفّع إلى مستوى قضايا الأمة، إنَّما هو ببركة الإلتزام الصادق والواعي والمخلص بهذا القرآن من قبل مجاهدي المقاومة الاسلامية وعوائل الشهداء والأسرى وعوائل الأسرى والجرحى وكلّ أهلنا الصابرين المحتسبين الذين كانوا وما زالوا يؤيدون هذه المقاومة ويساندونها ويقفون إلى جانبها ويتحمّلون كلّ أصناف وألوان الإعتداءت الصهيونية المتكررة على القرى والبلدات والأحياء، يتحملون كل هذا. هذا النصر الذي صنعته هذه المقاومة، هو من نتاج هذا القرآن، هذا الكتاب الإلهي هذه الآيات والكنوز والكلمات الإلهية.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات في أقطار الأرض لأداء حق هذا الكتاب الإلهي، وأن نكون من أهله وأصحابه وأن لا نهجره ولا يهجرنا في يوم من الأيام، وأن يوفقنا جميعاً لصيام هذا الشهر وقيامه والتزود من أيامه، ولإحياء ليالي القدر العظيمة والمباركة وأن يجعلنا سبحانه وتعالى من عتقائه من النار.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


الكلمة الثالثة


 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الشهداء والمجاهدين في سبيل الله منذ آدم إلى قيام يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طبعاً أنا أفتخر بهذا اللقاء، بمحضر الإخوة السادة العلماء وقارئي القرآن الكريم وحافظي القرآن وأعتذر أنَّ الوقت متأخر لأنَّه هذا أفضل وقت حتى نستطيع أن نلتقي جميعاً.

مما لاشك فيه أنَّه كما تكلمنا في العام الماضي وفي العام الذي سبقه هذه كانت سُنَّة حسنة في لبنان، لم يكن هذا الأمر معروفاً في لبنان، خصوصاً في بعض الأوساط الإسلامية، يعني إذا كان موجوداً في لبنان فبشكل محدود وضيق وغير علني وغير إعلامي، يعني حتى التلفزيونات كانت تعتبر أن عرض الأمسيات القرآنية للناس أمراً لا يعنيها.

الحمد لله إخواننا في جمعية القرآن الكريم بفضل جهودهم وتعاونهم، وحضور القرَّاء من الجمهورية الإسلامية في إيران وإخواننا من مصر ومن سوريا ومن أماكن مختلفة بدأ هذا العمل.

تتذكرون في تلك السَّنة أنا قلت هذه سُنَّة حسنة، الذين شاركوا في إحياء هذه السُّنَّة والتأسيس لها في لبنان لهم أجرهم وأجر من عمل بها في لبنان إلى يوم القيامة إن شاء الله. هذا عمل كبير ومهم، وأهمية السَّنة الثانية، والسَّنة الثالثة، يعني السنوات التي جاءت بعد ذلك، أنَّها ثبَّتت هذه السُّنَّة هذا البرنامج، والآن ما زلنا في أعوام تثبيت هذه السُّنَّة، يعني لو فعلنا هذا في العام الأول ثمَّ تركنا لكان الأمر انتهى. يجب متابعة هذا العمل لعدة سنوات حتى يُثبَّت، وبالتالي لو لم تفعل جمعية القرآن الكريم شيئاً لطالبها الناس بأنَّه ما أخباركم؟ ماذا سنفعل هذه السَّنة؟ يعني يجب أن تتحول الأمسيات القرآنية في شهر رمضان إلى جزء من ثقافة الناس وتقاليدهم وعاداتهم وحياتهم وروحهم وصومهم، وهذا يحتاج بالتأكيد إلى جهود لعدة سنوات. أكيد الذين جاؤوا هذا العام أيضاً هم مساهمون في تثبيت هذه السُّنَّة إن شاء الله، هذه السُّنَّة الطيبة والحسنة.

ونحن مع الوقت بالتأكيد سنشهد المزيد في الإقبال، الآن هذه السَّنة كما السَّنة الماضية، التوسعة في الكمية والنوعية والذهاب إلى مختلف المناطق، لعل هذه السنة كان أكثر من السنة الماضية، وهذا يجعل مستوى الاستفادة أكبر بكثير، من خلال وسائل الإعلام يعني تلفزيون المنار أو إذاعة النور، ومن خلال الجهد المبذول إن شاء الله، أعتقد نحن سنتمكن وإيَّاكم خلال سنوات قليلة أن نثبِّت هذا الأمر، وتصبح الأمسيات القرآنية في شهر رمضان كمجالس العزاء في أيام عاشوراء، يعني هذا أمر روتيني وطبيعي وتقليدي ويحتاجه الناس ويتشوَّق إليه الناس، ومن وجهة نظرهم يشعرون بنقص إذا مرَّ شهر رمضان المبارك بدون أمسيات قرآنية.

نحن إن شاء الله، من خلال هذا الجهد المبارك، الذي يوجد فيه تأييد وتثبيت وتوظيف للوضع الروحي والمعنوي والنفسي، حقيقة ليس موجوداً فقط في لبنان إنَّما في كلِّ العالم، سماحة السيد القائد في الأسابيع الماضية تكلم عن مبشرات، من هذه المبشرات هو هذه الحالة، حالة الإقبال على التدين في العالم ليست فقط في وسط المسلمين، في وسط المسلمين، في وسط المسيحيين، وفي وسط اليهود، وفي وسط البوذيين، وفي وسط الهندوس، كل الأوساط، يعني سواء كان الدين الذي يرجعون إليه صحيحاً أو خاطئاً لكونه دين، وحاجة الناس للدين واندفاعها باتجاه الدين فهم يرجعون إلى هذا الدين.

من الممكن أنَّه لا يوجد شيء في التاريخ حاربه الطواغيت والمستكبرون والفراعنة والنماردة كالدين، وفي هذا العصر أضخم ماكينة إعلامية وثقافية وأمنية وسياسية هي التي تحارب الدين، مع ذلك لم يقدروا. هذه الحضارة المادية استنفدت أغراضها، وهناك حاجة غريبة للدين، أنا قرأت مثلاً دراسة عن المجتمع الأمريكي تقول أنَّه من كلِّ عشرة أشخاص يوجد تسعة يعتبرون أنَّ الدين أمراً مهماً، هذا المجتمع الأمريكي الذي هو اليوم تجلي ومظهر وحقيقة الحضارة المادية الفاسدة، ويوجد سبعة من عشرة يعتبرون أنَّه لا يوجد إمكانية للعيش من دون دين لكنَّهم غير متدينين كثيراً، ويوجد خمسة من عشرة متدينين قشريين، وأربعة من عشرة يمارسون شعائرهم الدينية، هذا هو المجتمع الأمريكي الذي يفترض أن لا يكون فيه مكان لشيء اسمه دين أصلاً. إحصائية أخرى، تؤكّد أيضاً أنَّ مجتمع الحضارة المادية إلى أين وصل، نشر في الصحف اللبنانية أنَّه من كلِّ خمسة أمريكيين يوجد واحد مصاب بمرض عقلي أو نفسي، أنا ذهلت طبعاً، أطباء نفس وأمراض عقلية في أمريكا عملوا إحصائية، خُمْس الشعب الأمريكي مصاب بأمراض عقلية ونفسية، وبالتحليل تقول الإحصائية: لأنَّ هذا المجتمع يلبي كل رغباته المادية، لكنَّه يعيش فراغاً روحياً ونفسياً قاتلاً، فإنَّه يُعَبَّر عنه بشكل خاطئ يؤدي إلى أمراض نفسية وعقلية لأنَّ الدين غير حاضر. وهذا الإقبال على الدين الذي تكلم عنه سماحة القائد وأسماه بالمبشرات، واقعاً هي مبشرات، يعني مثلاً رغم عملية التسوية في المنطقة، فإنَّ الإنسان الفلسطيني يخرج من بيت لحم أو من غزة أو من رام الله، ويجب أن يأخذ ترخيصاً من السلطة الفلسطينية ليمر على الحاجز، وترخيصاً من الإسرائيليين ليمر على الحاجز، ليصل إلى المسجد الأقصى. في السَّنة الماضية كان كل يوم جمعة يصلي في المسجد الأقصى خمسون ألفاً ستون ألفاً سبعون ألفاً، يصل في يوم الجمعة الأخيرة ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألف، السَّنة بدأوا بثلاثمائة ألف، الجمعة التالية أربعمائة ألف، المفترض أنَّه هناك تسوية هاجمة على المنطقة، المفترض أنَّه هناك إذلال للشعب الفلسطيني، أنا أرى أنَّ الضغط الذي يتعرض له الناس يوجههم إلى الله سبحانه، فإلى أين سيذهب الناس.

نشروا في بعض الصحف أنَّه في كلِّ ليلة يصلي في المسجد الحرام، ومسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مليون ونصف مليون مصلٍ، هؤلاء ليسوا أهل المدينة ومكة، هؤلاء أتَوْا من كلِّ أنحاء العالم. أيضاً إذا ذهبنا إلى كنائس المسيحيين نجدها الآن مليئة بالشباب، كنَّا في السنوات الماضية نرى كبار السن في الكنائس المسيحية، الآن نرى شباباً في كنائس المسيحيين، وهذا شاهد على هذا الاستنتاج.

أريد أن أقول: يوجد ميل قوي في العالم باتجاه الدين والتدين والاهتمام بالمسائل الدينية، الآن مَن يقطفها؟ مَن يذهب إلى المكان الصحيح؟ مَن يذهب إلى المكان الخطأ؟ هذا بحث آخر. هذا دليل على أنَّ الفطرة تتحرك مجدداً، هذا طبعاً فيما نعتقده نحن في موضوع آخر الزمان، وأنَّ الله سبحانه وتعالى سيُظْهِر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون، وأنَّ مستقبل هذا الكون، وهذا العالم، وهذه الأرض، هو الإسلام والتدين والعدل الإلهي، وحكومة العدل الإلهي، هذا يعني أنَّ كلَّ الأرض تتجه بهذا الاتجاه، جزء من هذه الأرض هو بلدنا، يعني بلدنا الصغير لبنان، إن شاء الله، حالة التدين وحالة التحول الإيماني فيه هي حالة كبيرة. ونحن نطمح ونأمل أنَّه بالأمسيات القرآنية يتعزز ويتأكد هذا الأمر، لأنَّ الإسلام الذي من اللازم أن يعيشه الناس هو الإسلام القرآني هذا الإسلام الأصيل، هذا الإسلام النقي، هذا الإسلام الصافي.

أكيد إن شاء الله، الإخوان كل سَنَة يفكرون بجديد، يعني لتأكيد ما هو قائم والمجيء بجديد، مجيء الأخوات هذه السَّنة كان عاملاً جديداً، يعني السَّنة الماضية أو التي قبلها الأخ سليماني تعرَّف إليه الناس، الآن أعتقد أنَّه زار أماكن أكثر. هذه السَّنة مجيء الأخوات كان مؤثراً جداً خصوصاً في عالم الأخوات، لأنَّه عندما يأتي الأخ يقولون فقط الصبيان يقدرون أن يحفظوا، فتأتي البنات فيقولون لا هذه ظاهرة عامة، يعني لا تختص بالذكور دون الإناث. وأنا سمعت بالحقيقة في كثير من المجالس المختلفة والمتنوعة، كانوا مدهوشين ومشدوهين بظاهرة الصغار يعني أنَّه يوجد شيء غير عادي.

على كلٍّ أختم بالقول: نحن نشكر الإخوة في جمعية القرآن الكريم، طبعاً إخواننا في الوحدة الثقافية مشكورين على التعاون في الأمسيات، مشكورين على تعاونهم وإيجابيتهم إن شاء الله، كذلك كلّ الإخوة، سماحة الشيخ مولانا (مشيراً إلى القارىء الشيخ الطنطاوي) طبعاً نحن شيخنا نتوجه إليكم بالشكر، الله يحفظكم إن شاء الله، الله يسلمكم، إخواننا المصريين نحن نحبهم، الشعب المصري نحترمه فتاريخه الجهادي وتاريخه المقاوم رفضه للتطبيع أصبح قدوة في هذا المجال، أيضاً الشعب المصري محب لأهل البيت (عليهم السلام)، هذا بالنسبة لنا فخر نفتخر به ونسأل الله تعالى أن يتقبل منكم. كما نشكر خصوصاً إخواننا القرَّاء الذين جاؤوا من الجمهورية الإسلامية، وإن شاء الله، ينالون أجر إحياء هذا الأمر، الله يتقبل منكم ومشكورين دائماً، على أمل أن نراكم في العام المقبل إن شاء الله، ويكون الإقبال أكبر، وعزَّة الإسلام أشمخ وأرفع وتكون ظروف المنطقة مساعدة أيضاً، الآن بعض الناس قلقين ولكن نحن نرى أنَّنا على أبواب نصر إن شاء الله، يعني الإسلام والإسلاميون والمتدينون المصلون الصائمون هم الذين هزموا إسرائيل الآن، الإسرائيليون يرون كيف يحزمون أمتعتهم ويرحلون وهذا سيسجل إن شاء الله، هذا سيسجل للفئة المؤمنة المجاهدة الصابرة، الفئة القرآنية، أنَّها استطاعت أن تهزم هؤلاء اليهود الذين هزموا مئات الملايين من العرب والمسلمين، بالمقابل هزمتهم فئة قليلة، لكن ميزة هذه الفئة القليلة أنَّها كانت فئة متدينة ومسلمة متقية، تقرأ القرآن تصلي وتصوم وتخاف الله سبحانه وتعالى. وهذا سيكون إن شاء الله حجة على امتداد العالم العربي والإسلامي، وأنَّ الفئة القليلة المؤمنة المتدينة تستطيع أن تهزم هذا الكيان وهذا العدو. وأجدد الشكر لكم على كل إعمالكم خلال شهر رمضان المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منكم وأن يوفقنا جميعاً لأن نعمل في خدمة الإسلام وخدمة القرآن بحق محمد وآله الطاهرين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


الكلمة الرابعة


 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا شفيع ذنوبنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وعلى جميع الشهداء والمجاهدين في سبيل الله منذ آدم إلى قيام يوم الدين.

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

هذا مجلس مبارك، ولو قُدِّر لنا أن نطَّلع على صورته الملكوتية، يعني صورته الحقيقية، وكُشِف عن عيوننا الحجاب وعنَّا الغطاء، لوجدناه مجلساً من مجالس الجنَّة وروضة من رياضها، هذا المجلس الذي يُذكر فيه اسم الله رب السماوات والأرض رب العالمين، ويُتْلى فيه كتابه وتمتلأ فيه الآذان والعقول والقلوب والأنفس بكلماته المقدسة، هو مجلس مبارك، مجلس مقدس، له عطاءاته وله آثاره، وهنا لا بد أن أتوجه في بداية الكلمة بالشكر إلى الإخوة في جمعية القرآن الكريم، والإخوة في بلدية الغبيري، على تعاونهما وجهدهما الدؤوب لجهة إنجاح هذه المسابقة السنوية، وإقامة هذا المجلس المبارك والنوراني.

أيُّها الإخوة والأخوات: نحن نتحمل جميعاً مسؤولية كبيرة جداً اتجاه هذا الكتاب المقدس القرآن المجيد، وعلينا أن نعترف أنَّنا لا نقوم بواجبنا على أحسن الوجوه. هنالك مسؤولية كبيرة، وهذا القرآن هو حجَّة الله سبحانه علينا في الدنيا، وهو حجَّة الله سبحانه علينا في الآخرة، هذا القرآن يشكو إلى الله تعالى يوم القيامة والشكوى يوم القيامة هي امتداد للشكاية في هذه الدنيا: ...﴿ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [20]، عندما يشكو إلى الله الهجران والغربة وتخلي الناس وابتعاد الناس بل وزهد الناس به، في الوقت الذي إنَّما جاء هذا القرآن من أجل الناس ليس من أجل أي شيء آخر، جاء لهدايتهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور، للأخذ بيدهم على طريق السعادة في الدنيا وعلى طريق الفوز العظيم في الآخرة، ولكن هم الذين سدُّوا آذانهم وقلوبهم عن الإصغاء إليه وعن الاستماع إليه، وعن الاسترشاد به، المسؤولية في الحقيقة هي مسؤولية هؤلاء الناس.

اليوم المعجزة النبوية الوحيدة الخالدة والباقية في أيدينا هي هذا القرآن، معاجز الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) كانت تختص بأزمنتهم وبعصورهم، في زمن ما جعل الله النار برداً وسلاماً على إبراهيم (عليه السلام) فكانت معجزة لإبراهيم، في زمانٍ ما كان في يد موسى (عليه السلام) عصا تتحول إلى أفعى أو ثعبان، وتلقف ما صنعوا، في زمنٍ ما عيسى (عليه السلام) أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأعمى والأبرص، وهكذا بقية أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

بعد رحيل هؤلاء الأنبياء، بعد وفاة هؤلاء الأنبياء، لم تبق هذه المعجزة، أصبحت خبراً من التاريخ، وهذا الخبر من التاريخ كان يمكن أيضاً أن ينسى وأن يُضيَّع فلا يُعلم بنبي ولا بمعجزة نبي كما حصل بالفعل. يعني للأسف الشديد أنَّ علماء بني إسرائيل اليهود حرَّفوا كلام الله سبحانه وتعالى إلى حد أنَّهم نسبوا إلى أنبياء الله سبحانه ورسله ما لا يليق بإنسان عادي أن يقوم به وأن يفعله.

القرآن الكريم عندما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو لم يكن معجزة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحيدة، في حياة رسول الله الكثير من المعجزات المشابهة لمعاجز الأنبياء الذين سبقوا. هنا بعض الناس قد يلتبس عليهم الأمر، يتصور أنَّ معجزة موسى (عليه السلام) كانت العصا، ومعجزة عيسى (عليه السلام) كانت إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ومعجزة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي القرآن، فقط القرآن هو المعجزة الخالدة لمحمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنَّه ليس المعجزة الوحيدة لمحمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً كانت هناك معجزات كبيرة وعظيمة، وتناقلتها كتب التاريخ والأقوام، ولكن كلّ معجزات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير القرآن الكريم هي أيضاً أصبحت أخباراً من التاريخ، يعني يمكن للناس أن يقولوا نحن سمعنا بهذا ولكن نقله فلان عن فلان عن فلان عن فلان الكتاب الفلاني الرواية الفلانية القصة الفلانية، ولكن نحن لم نرى هذه المعجزة لم نتلمَّس هذه المعجزة. خصوصية القرآن الكريم من بين كلّ المعاجز الإلهية هي هذه، هي خصوصية التمتع بصفة الخلود والبقاء والاستمرار حتى بعد رحيل النبي الذي أنزل على قلبه هذا القرآن، المعجزة هنا لم تنقطع بموت صاحبها كما هو حال بقية المعجزات، هذه معجزة استمرت بعد موت صاحبها ورحيله عن دار الدنيا.

القرآن الكريم في الحقيقة هنا، هو معجزة حاضرة في كل زمان ومكان، ويستطيع الإنسان أن ينظر بعينيه إلى هذه المعجزة، أن يلمس جوانبها بعقله، بقلبه، بروحه. ومن عظمة القرآن الكريم، أنَّه كلَّما مضى الزمان، كلَّما ازدادت معارف الإنسان كلَّما تعاظمت الاكتشافات العلمية، كلَّما تطورت إمكانات الإنسان على هذا الصعيد، كلَّما اكتشفنا، وكلَّما تجلَّت جوانب عظيمة وجديدة من معجزة القرآن الكريم.

الآن ممكن الإنسان يتصور أيَّ شيء عادة مع الزمن، (الزمن بيصير يختصره، الزمن يتجاوزه)، تصير هذه معلومات قديمة، تصير هذه معارف قديمة، لكن خصوصيَّة القرآن الكريم أنَّه كلَّما مضى زمان، وعدنا لنقرأ القرآن، نقول هذه لم نكن نفهمها بالسابق، هذه لم تكن مُبَيَّنة بالسابق، هذه لم تكن واضحة بالسابق، أنظروا إلى القرآن، الله سبحانه وتعالى أودع في هذا القرآن هذه القدرة إلى قيام الساعة، يعني لن يأتيَ يوم في هذه الدنيا قبل قيام الساعة، لن يكون هناك يوم يمكن أن لا يكون فيه القرآن معجزة، ويمكن أن لا يُكْتَشَف فيه جديد في هذا القرآن. وهذا ورد أيضاً في روايات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) في وصفهم للقرآن، أنَّ هذا القرآن سوف يبقى غضاً، جديداً، طرياً، لا يقسو مع الزمن، لا يعتق مع الزمن، لا يتجاوزه الزمن، هذه خصوصية راقية في القرآن الكريم.

عندما نأتي إلى المعجزة، تعوّدنا أن نسمع دائماً والمرتَكز أو المرتِكز في أذهاننا، أنَّه عندما نقول معجزة القرآن يعني البلاغة والفصاحة، هذا بعض الحقيقة، لا أريد أن أقول هذا غير صحيح، هذا بعض الحقيقة، بعض أبعاد معجزة القرآن هي البلاغة والفصاحة، وإلا أبعاد الإعجاز القرآني هي عديدة ومتنوعة ولا تحصى، وكلَّما مضى الزمن كما قلت، كلَّما اكتشفنا أبعاداً جديدة في هذا الإعجاز، هذا ما أردت أن أقوله، اليوم يعني قد يكون في هذا بعض الجرأة، اليوم لا أظن أنَّ البعد المتقدم الذي يكشف عن وجهه من القرآن للإعجاز في هذا العالم هو البلاغة والفصاحة، وإن كانت البلاغة والفصاحة محفوظة في مكانها وهذا الإعجاز القرآني قائم، لكن عندما نتحدث عن قرآن متعدد الأبعاد في الإعجاز، في هذا الزمن يتقدم هذا البعد وتبقى الأبعاد الأخرى، ولكنَّها في الصف الثاني والثالث والرابع والخامس، في زمن آخر يتقدم بُعد ثانٍ وتتراجع أبعاد أخرى ولكن تبقى في الصف، في زمن ثالث يأتي بُعد ثالث ويتقدم الصفوف مع بقاء كل الأبعاد، لماذا أقول هكذا؟ لأنَّه بالحقيقة، في هذا الزمن خصوصاً في العالم العربي، ومن يعرف اللغة العربيَّة آخر شيء الآن، في القرن الواحد والعشرين يعني الناس هموم الناس واحتياجات الناس، ومشاغل الناس، آخر شيء البلاغة والفصاحة، لم يعد الموضوع الشاغل للعالم أنَّه ما هذه البلاغة ما هذه الفصاحة؟ اليوم إذا أتى شاعر وألقى قصيدة ـ صف حكي ـ ولكن يفهم عليه الناس فيصفقون له ويهيصون له، وإذا يأتي شاعر على طراز المتنبي مثلاً ووقف وألقى قصيدة على سبك المتنبي، لا أحد يفهم عليه شيء ولا أحد يصفق له، لأنَّهم لا يفهمون عليه ماذا يتكلم هذا؟ طبيعة الاهتمامات تراجعت وتنوعت وتبدلت. من هنا تتقدم الأبعاد الأخرى في الإعجاز القرآني، وأهم بُعد في الإعجاز القرآني الذي يتقدم دائماً، حتى في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو طبعاً التربية الإنسانية، تربية الإنسان، تهذيب الإنسان، تزكية الإنسان، صنع الإنسان الذي هو من أصعب الأمور والمهام التي يمكن أن يقوم بها منهاج أو كتاب أو حكيم أو فيلسوف أو مُرَبٍ، أصعب مهمة في سياق المهام التي يمكن أن يتحملها الإنسان، هي صنع الإنسان، وتزكية الإنسان، وتربية الإنسان، ولذلك كانت هذه المهمة على قدر عالٍ من الصعوبة بحيث أنَّها احتاجت من قبل الله سبحانه وتعالى إلى رجالٍ عظامٍ بمستوى الأنبياء والرسل. الله سبحانه ترك الفلسفة للعلماء، أرسطو، أفلاطون، وسقراط، والفارابي، وملا صدرا وإلى آخره، الفلسفة لا تحتاج إلى نبي، خذوا راحتكم بالفلسفة، بالفيزياء، بالكيمياء، بالرياضيات، بالجغرافيا، بكل العلوم الأخرى، حتى بالكثير من الشؤون الإدارية، لكن صياغة الإنسان على مستوى التربوي، روحه وعقله وقلبه ونفَسه وملكاته، هذا أمر يحتاج إلى أنبياء، إلى رسل، إلى مناهج أنبياء ورسل، إلى رجال إن لم يكونوا أنبياء ورسل، هم أقرب ما يكونون إلى الأنبياء والرسل، لكن دعونا نلمس هذا الجانب لأنَّه المهم بالمعجزة هو أن نلمسها (نبصرها) ونراها.

أيُّها الإخوة والأخوات، يوجد كثير من الأمور دعوني أقولها ولو عناوين لأنَّني لا أريد أن أفصّل فيها، هذا القرآن الذي فيه معارف إلهية، الذي فيه كلام عن أسماء الله سبحانه، وصفاته وذاته المقدسة، وهي عالية المضامين، الذي فيه كلام عن عالم الغيب ما بعد الدنيا، ما يجري على الإنسان في الموت، وبعد الموت، وفي البرزخ، وفي القيامة، وحوادث ذلك العالم العظيمة والجليلة، والذي فيه أيضاً إنباء بالمستقبل لحوادث بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، للمستقبل القريب والبعيد والمتوسط المدى، وفيه إنباء عن غيب ماضٍ ما كان يعرفه الناس في كتبهم وفي أحاديثهم، هذا القرآن الذي فيه إعجاز علمي عندما ندخل على بحث الاكتشافات العلمية، فيه إعجاز في الفصاحة والبلاغة، فيه إعجاز بما يقدمه من مناهج وتوجيهات لتنظيم حياة الإنسان، وفيه جوانب كثيرة جداً من الإعجازات في هذا القرآن.

لكن النقطة التي أريد أن أركّز عليها، ومنها أدخل على نقطة أخيرة، أنظروا إذا رجعنا إلى التاريخ قليلاً، إلى مجتمع شبه الجزيرة العربية الذي ولد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا سوف نرى العظمة، مجتمع أُمِّي، مجتمع جاهلي، مجتمع قاسٍ، غليظ القلب، فظ، هذا معروف، يعني نحن لا نتجنى على أحد، هؤلاء العرب بالجاهلية الأولى هكذا كانوا، مجتمع ممزق مشتت، قبائل وعشائر، حروب طويلة عريضة تقام من أجل غنمة، واحد من هذه العشيرة أو القبيلة سرقها، أو صبية خطفت أو جدول ماء أو واحة عشب فيها نخلتين وقليل من العشب يتقاتلون عليها وتبدأ الثارات وإلى آخره. هذا المجتمع القاسي، أنظروا إلى ما وصل به الأمر، فقط أعطيكم شاهد واحد على القسوة، شاهد واحد بسيط ولكن يعبر تعبيراً عظيماً جداً عن مدى القسوة.

إنَّ الثقافة الرائجة في ذلك المجتمع هي وأد البنات، أنت لا تئد بنت جارك، بل كان الأب يأخذ ابنته الوليدة ويدسها في التراب، هل يوجد قسوة أكثر من ذلك؟ يعني اليوم يوجد هناك أناس مجرمون وقتلة حاضرون أن يرتكبوا المجازر في كل بلاد العالم، لكنَّه غير حاضر هذا المجرم السفاك الدموي أن يدسَّ ابنته في التراب، فقط هذا المثل يبيّن لكم أخلاقهم، روحيتهم، نفسيتهم، كم كانوا قساة. أنا عندي ادعاء الآن، من الممكن أن يكون صحيحاً ويمكن لا، لو وجد الله سبحانه وتعالى منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة قوماً أغلظ وأقسى وأصعب من هؤلاء القوم، لبعث فيهم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعني الآن أشطر أستاذ إلى أين يبعث؟ لأصعب صف، خاتم الأنبياء وسيد الرسل، الله سبحانه لمن وفّره، وفّره لهؤلاء القوم، هذه كانت خصوصياتهم. هنا تأتي المعجزة، أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بهذا القرآن، بهذه الكلمات، بهذه الآيات، استطاع أن يحوِّل شعب شبه الجزيرة العربية، الجاهلي، الأمي، الجاهل، القاسي، الفظ، الغليظ، الممزق، المشتت، الذي لا يعرف قيماً أخلاقية ولا قيماً إنسانية، بين هلالين، يتكلمون عن الغيرة في الجاهلية أين الغيرة؟ كان حتى في مجتمع قريش الذي هو مجتمع عُلاة القوم، الملأ الأعلى، أنَّه فلان هو ولد زنا من فلان وفلانة، هذا شيء مشهور وليس عيباً، الحماسة والشجاعة نعم، شجاعتهم في تلك الأيام كانوا أشداء على بعضهم البعض، يسفكون دماء بعضهم البعض، دفاعاً عن بيت شعر، أو كرامة شيخ العشيرة أو أو أو... ولكن عندما جدَّ الجد ليدافعوا عن مكّة وبيت الله الحرام تركوه وهربوا.

هؤلاء جاء إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخلال ثلاثة وعشرين عاماً فقط، أنظر هنا المعجزة، أحياناً الواحد يفكر أنَّه طيب لماذا خلق الله من بداية الخلق أنبياء ورسل؟ ثمَّ إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاش ثلاثة وعشرين عاماً فقط بعد البعثة، لماذا لم يَعِش خمسين سنة أو سبعين سنة أو مئة سنة؟ هو خاتم الرسل! نوح (عليه السلام)، لا يوجد نقاش بالتسعمائة سنة، هذه المدة لا يوجد فيها نقاش، الآن البعض يقول بُعث بعد ولادته بخمسين، والبعض يقول بُعث بعد ولادته بثلاثمائة أو أربعمائة سنة، الله أعلم، ولكن التسعمائة سنة لا يوجد فيها نقاش! في الحقيقة نحن لا نعرف السبب، هذه مشيئة الله سبحانه، لكن من الحِكَم أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال ثلاثة وعشرين سنة استطاع أن يصنع من هذا الشعب أمة عظيمة واحدة قوية، تدخل التاريخ من أبوابه الواسعة، واستطاع أن يحوِّل هؤلاء من قساة القلوب إلى أصحاب القلوب الرؤوفة والرحيمة، يبكون في جوف الليل، استطاع أن يبدل هؤلاء من قومٍ يقاتلون من أجل العشيرة، إلى قوم يقاتلون من أجل الله والإنسان وهداية الإنسان وإحقاق الحق وإزهاق الباطل، استطاع بثلاثة وعشرين سنة فقط بهذا القرآن أن يبني أمة ما زالت موجودة حتى الآن تنمو وتكبر، بالرغم من كثير من مشكلاتها، وبالرغم من كل المؤامرات التي حيكت طوال التاريخ للقضاء على هذا القرآن وعلى هذه الأمة وعلى هذه الحضارة. هنا المعجزة تستمر، هذه المعجزة اليوم، نعم على مدى الأزمنة، اليوم هذا القرآن هو يستطيع أن يبني أمة، هذا القرآن يستطيع أن يوجد تحوُّلاً هائلاً وكبيراً في أي مجتمع من المجتمعات.

وعندما نأتي إلى تجربة المقاومة، مثلما تحدّث الإخوان قبلي، عندما نأتي إلى تجربة المقاومة، ببساطة هناك الكثير من مراكز الدراسات راحت تدرس أنَّه كيف هذه الظاهرة في لبنان، وكيف طلعت؟ لديهم حق أن يتفاجؤوا، معهم حق! لماذا؟ لأنَّ لبنان كما تعرفون، كان دائماً عند الإسرائيلي غير محسوب له حساب، يعني أنَّه في المواجهة غير محسوب له حساب لا في حرب الثمانية وأربعين، ولا في حرب السبعة وستين، ولا بعد ذلك ولا في حرب الثلاثة وسبعين، عندما يجلس الإسرائيلي يخطط، وصارت تلك النكبة المعروفة، يعني أنَّهم يرسلون لنا فرقة موسيقية، يعني لبنان لا يحتاج لأن نرسل له كتيبة أو لواء، فقط نرسل له الفرقة الموسيقية! من الطبيعي أن يتفاجؤوا، كيف حصلت ووجدت هذه الظاهرة؟ أصلاً كيف يمكن لمجموعة من الناس أن تخرج من بين كل هذا الركام الهائل، من الجراح والإحباط واليأس والضعف والوهم والغربة والظلمة، وتخلّي الصاحب والصديق وتآمر العدو لمواجهة الأسطورة؟ شيء مدهش! صحيح، لكن هذه الظاهرة ولدت واستمرت بفضل هذا القرآن.هذه المقاومة في الحقيقة عندما كنا في السنوات الماضية كلها نُصُِّر ونقول المقاومة الإسلامية، كنا دائماً نقول الإسلامية فليس المقصود من ذلك مقاومة المسلمين، المقاومة الإسلامية ليست عنواناً طائفياً، الإسلامية هي عنوان فكري هي عنوان رسالي، كنا نريد أن نؤكد هوية المضمون الروحي والنفسي والفكري والثقافي الذي صنع هذه المقاومة، واستطاع أن يعطيها قدرة الاستمرار. لماذا استمرت؟ لماذا ما تزال الآن قادرة على الاستمرار؟ وأنا أقول لكم: لديها قدرة هائلة جداً على الاستمرار، ما دامت أجيال الشباب على صلة بهذا الكتاب الإلهي.

المقاومة لا يمكن أن يقف في وجهها أحد، هذا القرآن هو الذي صنع هؤلاء الرجال، هو الذي صنع آباء وأمهات الشهداء، هو الذي صنع هؤلاء الصابرين الصامدين المحتسبين، الذين أيدوا المقاومة ووقفوا إلى جانبها في أشد الظروف وأصعب اللحظات، من القرآن تعلَّم هؤلاء أنَّ واجبهم أن يقاتلوا العدو، من القرآن تعلموا أنَّ واجبهم أن يعدُّوا ما استطاعوا من قوَّة ومن رباط الخيل، من القرآن تعلَّموا أن واجبهم أن يدافعوا عن شعبهم وأهلهم، والأموال والأعراض والكرامات والمقدسات، من القرآن تعلَّموا اليقين بالله سبحانه والثقة بوعده بالنصر، من القرآن تعلَّموا اليقين بالمدد الإلهي والهداية الإلهية والتعليم الإلهي، من القرآن علموا أن هناك حياةً بعد هذه الحياة، وآخرة بعد هذه الدنيا، وداراً بعد هذه الدار، فعشقوا تلك الدار وتلك الآخرة، وتطلَّعوا إلى تلك الحياة، ومشوا إليها بأقدام مسرعة وقلوب ملأى باليقين والقطع الذي لا يشوبه شك ولا ريب، هذا القرآن هو الذي استطاع أن يصنع هذه المقاومة التي صنعت هذا الانتصار. ولو عدنا إلى القرآن، نعم نستطيع أن نحقق حتى بالإمكانات المتواضعة الكثير من الإنجازات الكبيرة والضخمة.

المهم هنا، أنَّ القرآن هو بالدرجة الأولى، قبل أن يكون كتاباً يحدثنا عن قصص التاريخ، وقبل أن يكون كتابا للبلاغة والفصاحة، وقبل أن يكون كتاباً للقانون الإلهي، والتشريع الإلهي، هو كتاب للتهذيب للتزكية للتربية، لصنع الإنسان لبناء الإنسان وبناء الأمة التي تستطيع أن تجد لها محلاً في هذه الدنيا، وتنجو يوم القيامة وتحصل على الفوز العظيم. من هنا اهتمام هذه الجمعية مع كلِّ من يعينها، يعني مرَّة الإخوان ببلدية الغبيري ساعدوهم مأجورين، إن شاء الله كلّ البلديات كل المؤسسات، وظيفتنا أن نمد لإخواننا في هذه الجمعية المباركة يد العون حتى نتمكن من إدخال القرآن إلى العقول والقلوب والأرواح وخصوصاً طبعاً لكل الناس، وخصوصاً إلى هذا الجيل الجديد المهدّد، المهدّد في كل لحظة، أين؟ هو جالس في البيت مهدّد بالتلفزيون، والآن الفقراء صار عندهم ساتلايتات، بالانترنت، بالجريدة، بالمجلة، بالشارع يخرج يجد ما يسمونه بلوحات الإعلانات أمامه، لا يوجد داعٍ للوحات الإعلانات بالشارع، يعني الأمور هكذا كيفما ذهب (وفتل وبرم) هناك تهديد لروحه، هناك كمائن شيطانية تريد أن توقع به وأن تسقطه في الرذيلة وفي المعصية، وهذا خطر حقيقي يتهدد أجيالنا.

اليوم يعرف أعداؤنا جيداً، أنَّهم إن تمكنوا من إبعاد شبابنا وأجيالنا عن الله (عزَّ وجلّ)، عن قضاياهم الأساسية، عن قرآنهم، عن قيمهم الأخلاقية، إن استطاعوا أن يغرقوهم في بحر الشهوات والملذات والمتاهات والضياع، فيستيقظ الشاب صباحاً وينام مساءً وهمه كيف يحصِّل مخدرات، وكيف يرتكب أعمال فاسدة، وكيف يرقص (وكيف بدو يشم الهوا) وكيف يضيِّع وقته، وكيف يسرق، وكيف ينهب، وكيف يؤلِّف عصابة، هذه الثقافة التي أتتنا مع الأفلام، يعني اليوم البطل هو الذي يقوم بعدة سرقات (سرقة وإثنان وثلاثة)، وآخر الفليم (بيضل طيب). هذه الثقافة هي التي يراد إدخالها وتعميقها وتجذيرها فينا، وبعدها يمكن السيطرة علينا كما فعلوا في الماضي، هذه مسؤولية كبيرة جداً.

لكن قبل أن أنهي، أريد أن أعلق بتعليق أخير حول ما جرى في الأيام القليلة الماضية، يعني أستفيد من المناسبة مع صلة ما أقوله بالقرآن.

أقول أولاً: نحن في لبنان، حزب الله، مقاومة إسلامية، لا نطلب مكافئة ولا جوائز على جهادنا وتضحياتنا من أحد، نحن لا نطلب جوائز من أحد، نحن عندما قاتلنا وجاهدنا وقدمنا الشهداء كنا نقوم بواجبنا ولا نَمُنُّ على أحد بأننا قمنا بهذا الواجب، بل الله سبحانه يمنّ علينا أن هدانا للإيمان وطريق الجهاد.

وثانياً: أريد أن أقول لا يوجد أحد يمكن أن يكافئ المقاومين والمجاهدين والشهداء، مهما كانت إمكاناته ضخمة وعظيمة وكبيرة، وأنا أسأل هنا لو جاءت الحكومة اللبنانية وكل حكومات العالم ليقدِّموا مالاً وجاهاً وعظمة و... و... و...، في مقابل أن يأخذوا منك ولدك أو يأخذوا منك ثلاثة من أولادك، أو يأخذوا منك روحك هل تقايضهم على ذلك؟ أبداً! يجب أن يعرف المسؤولون في لبنان أن دماء شهداء المقاومة الإسلامية لا قيمة عندهم، ولا مكافئة عندهم يمكن أن يقدموها في مقابل هذه الدماء. نحن نُنَزِّه دماء الشهداء وآلام الجرحى وقيود الأسرى وعرق المجاهدين والمضحين، عن أن تكون في حسابات الربح والخسارة والأخذ والعطاء والبيع والشراء وطلب الجوائز والمكافآت، هذا ليكن مفهوماً الآن ولاحقاً، ولا يوجد أحد في لبنان يقدر أن يكافيء هؤلاء، وهم على كل حال لا يطلبون مكافأة من أحد، الوحيد في هذا الوجود الذي يستطيع أن يكافىء هؤلاء المجاهدين والمضحين، هو ربهم وإلههم ومن بيده ملكوت السماوات والأرض فقط، هو الذي يكافئهم ويجازيهم وهم يطمعون بما عنده.

على كل حال، اختم بالشكر للإخوة والأخوات وكلِّ القيمين على هذا الحفل المبارك والدعاء بالتوفيق لكل الذين شاركوا في هذه الدورة السنوية وفازوا ونجحوا إن شاء الله هذا شرفٌ وفوزٌ لهم في الدنيا وشرفٌ وفوزٌ لهم في الآخرة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


الكلمة الخامسة


 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين.

في الواقع إنَّني أتشرف باللقاء بهذه الوجوه الطيبة، من حملة القرآن وحفظة القرآن وخدمة القرآن، كما في الأعوام الماضية، فإنِّي أتوجه إليكم جميعاً ابتداءً بسماحة الشيخ، إلى الإخوة والأخوات في جمعية القرآن الكريم، والسادة العلماء والأطباء، والإخوة والأخوات الذين شرّفونا جميعاً في هذه السنة إلى لبنان، نحن نشكركم على تشريفكم إلى لبنان، وعلى الجهد الذي بذلتموه، إضافة إلى الإخوة الموجودين أساساً في لبنان.

عندما نشاهد سواءً في اللقاءات الخارجية أو على شاشة التلفزيون، عندما نشاهد هذه الأمسيات القرآنية نحن نشعر بأنَّ هذا الجهد هو الذي يحفظ دماء الشهداء، وهذه طبعاً إضافة إلى القيمة الذاتية المقدسة للأمسية القرآنية، إلا أنَّ هذه قيمة إضافية، نشعر بأنَّ دماء شهدائنا محفوظة وبأنَّ ما نشاهده في المساجد والأماكن العامة، خصوصاً في الأمسيات القرآنية، أنَّه يحقق آمال شهدائنا وأهداف شهدائنا، لأنَّ هذه في الحقيقة كانت أهدافهم وآمالهم خلال عشرين سنة من الجهاد المتواصل في لبنان، سقط العديد من الأعزاء شهداء كذلك أصيب الكثير من الإخوة والأخوات بالجراح، وكان هناك تضحيات كبيرة وجسيمة، في حقيقة الأمر كان هدف هؤلاء الشهداء وهؤلاء الجرحى، وهؤلاء الأسرى الذين ما زال بعضهم في الأسر أيضاً، وهؤلاء المجاهدين كان هدفهم رفعة الإسلام وعزَّة الإسلام وعودة الإسلام إلى هذا البلد، هم لم يقاتلوا من أجل قطعة أرض أو قليل من الماء، هذه يمكن أن تكون في أخر اللائحة، ولكن في رأس اللائحة الذي حرّكهم إلى ساحة التضحية هذه، في زمن التخاذل والقعود والسكون وفي الزمن الذي يمكن أن يجد الإنسان لنفسه الكثير من الأعذار للقعود، الذي حرّكهم هو طلب رضا الله سبحانه وتعالى، والجهاد في سبيله عزَّ وجل والتضحية لتكون كلمة الله هي العليا، والحمد لله هذا الهدف تحقق.

اليوم ما حصل في لبنان بشكل أو بآخر، هو شكل نوع من أنواع التمكين: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾... [21]، نحن عندما نشاهد المساجد تمتلئ بالمصلين وبالمقرئين وبالمستمعين إلى تلاوة القرآن، نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، ونعتبر أنَّ هذه الدماء حققت بعضاً من أهدافها.

السادة الضيوف الذين جاؤوا من البلدان المختلفة من المفيد أن يطلعوا. اللبنانيون طبعاً يعرفون، الإخوة اللبنانيون الموجودون هنا والأخوات يعرفون هذا الأمر، أنَّه قبل عشرين سنة كان في بعض المناطق اللبنانية الدخول إلى المسجد، أصل الدخول إلى المسجد قد يكلّف الإنسان حياته ودمه...

فكنا نُمنع حتى من الدخول إلى المساجد وكان ثمن الدخول إلى المسجد غالياً، لأنَّ هذا يشكل رجعية وتخلّف في عصر العلم والعلمنة، كان يعني أنَّك تستحق القتل أو الطرد أو الضرب أو... اليوم عندما تجدون أبواب المساجد ما شاء الله مفتوحة كأبواب الجنان إن شاء الله، ومملؤة بالإخوة والأخوات وخاصة جيل الشباب، مَنْ يستعيد بالذاكرة تلك المرحلة يعرف قيمة المرحلة الحالية، وعلى كل حال ما جرى قبل عشرين سنة هو من أعلى مصاديق: ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [22]، يعني جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان ومحا كلَّ هذه الأفكار، تصوّروا من؟ يعني ليس نحن الذين محوناهم، جاء الاجتياح الإسرائيلي إلى لبنان هو أسقط كلَّ هذه الشعارات وكلَّ هذه الأفكار وكلَّ هذه التوجهات...

وأوجد أرضية لانطلاقة مقاومة تستند إلى القرآن وإلى الإيمان بالإسلام وإلى الإيمان بالله وبالرسول وباليوم الآخر.

وبدأت هذه المقاومة تتعاظم ويتعاظم هذا المد والتيار الإيماني والإسلامي في البلد، إلى أن وصلنا بنعمة من الله سبحانه وتعالى إلى ما وصلنا إليه الآن، بعض الذين يأتون إلى لبنان يقولون أنَّ الوضع في لبنان يتراجع دينياً وإيمانياً، أنا أقول لهم لماذا؟ يقولون يوجد نساء بلا حجاب، يوجد شباب لا يصلُّون، يوجد أشخاص لا يلتزمون بالأحكام الشرعية، يوجد أناس غير مهتمين بالإسلام، وطبعاً هؤلاء مشتبهون لأنَّهم يأتون بخلفية أن صورة لبنان السابقة مختلفة، لكن صورة لبنان السابقة أنَّك إذا كنت ترى الآن حجاباً فقبل عشرين سنة لم يكن هناك حجاب، إذا كنت ترى شباباً في المساجد فقبل عشرين سنة أغلب هذه المساجد كانت خالية من الشباب، الحمد لله ترى في هذه الأيام في كل مناطق المسلمين ـ بحمد الله ـ من المسلمين الشيعة والمسلمين السنة، عندما يأتي وقت الإفطار تخلو طرقات المدن والقرى والبلدات، وهذا مؤشر على أنَّ أهل هذه المدينة كلهم صائمون وذهبوا لتناول الإفطار، يعني أصبح لدينا حالة صوم واسعة جداً، في الحد الأدنى لا يوجد تجاهر بالإفطار في الكثير من مناطق المسلمين.

نحن نتحدث عن بلد، أيُّها الإخوة والأخوات، قبل عشرين سنة أو خمسة وعشرين سنة كان معروفاً بسويسرا الشرق، يعني أفسد بلد في العالم العربي والعالم الإسلامي، أفسد من أي بلد إسلامي آخر، وصحيح كانت الأحوال الاقتصادية في البلد طيبة، والسياحة مفتوحة، ولكن كانت تأتي إلينا بكل الفاسدين في العالم العربي والإسلامي بفضل هذه السياحة الفاسدة التي كانت موجودة في لبنان، اليوم أصبحت الأمور والحمد لله مختلفة بدرجة كبيرة.

على كل حال، الجميع هنا يعرف، واللبنانيون جمعياً يعرفون، وهذه الرسالة وصلت إلى كل العالم العربي والإسلامي، أنَّ الانتصار الأول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، الانتصار الكبير والساحق والمذل للصهاينة، الذي حصل في لبنان ببركة دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين وأولاً وآخراً بعون الله عزَّ وجل، إنَّما حصل هذا الأمر بسبب انتماء هؤلاء المجاهدين إلى هذا الدين وإلى هذا القرآن، وهذا طبعاً أحدث تحولاً كبيراً في كثير من الأماكن وأعطى مصداقية ممتازة جداً في هذه المرحلة التي يواجه فيها الإسلام درجة كبيرة أو محاولات كثيرة للتشكيك.

ما قمتم به في هذه الأيام والليالي، طبعاً في هذا الزمن له خصوصيته، أيضاً هو دائماً مبارك ودائماً له آثار طيبة، ولكن في هذه السنين الاستعداد أكبر، يعني الأرضية التي تتقبل وتتعطش وتحتاج إلى جهودكم وأصواتكم وتوجيهاتكم وثقافتكم القرآنية هي أكثر من أي زمنٍ مضى، والحمد لله عزَّ وجل والأهم في هذه المرحلة أنَّ ساحتنا وأنَّ أهلنا وأنَّ شعبنا هم بحاجة إلى تعميق هذه الثقافة القرآنية وهذه العلاقة بالقرآن الكريم.

إنَّ ما ينتظرنا من تحديات وأخطار هو أكبر مما سبق وسلف خصوصاً في هذه المرحلة، قلت هناك حملة شعواء للتشكيك بالإسلام والهجوم على نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) واتهام النبي الأكرم والأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّه نبي الإرهاب وإمام الإرهاب، كما يحصل الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، وكما بدأوا ينظِّرون في وسائل الإعلام الأمريكية التي يحضرها عشرات الملايين من الأمريكيين.

وعلى ما نقل... أنَّ بعض الرهبان والقساوسة وبعض الذين يدَّعون أنَّهم مفكرون ومثقفون يأتون بنسخة القرآن الكريم، يعني تجاوزوا مرحلة الأشخاص والمذاهب والأحزاب والحركات والشخصيات الإسلامية المعاصرة وابن لادن وغيره، وباتوا يأتون بنسخة القرآن ويقرأون باللغة العربية غير الصحيحة (المكسَّرة) ويترجمونها إلى الإنكليزية، ويبدأون بالشرح ليقولوا أنَّ هذا القرآن هو ضد السامية وأنَّ هذا القرآن يدعو إلى القتل، وأنَّ هذا القرآن يدعو إلى الإرهاب، يعني انتهى الأمر فهم تجاوزوا مرحلة أن يناقشوا في فقه المذاهب، وفي فكر الجماعات الإسلامية، وفي أداء وثقافة الشخصيات وقادة الحركات والعالم الإسلامي. في هذه المرحلة وصلوا إلى المنبع، إلى آخر الحصون، وإلى أعلى الخطوط الحمراء عندما جاؤوا إلى القرآن نفسه، وإلى رسول الله الذي أنزل الله القرآن على قلبه، وبدأوا يناقشون أنَّ هذا القرآن وهذا النبي هم جماعة الإرهاب ومروِّجي الإرهاب ودعاة الإرهاب، وللأسف الشديد أنَّ السُّنَّة السيئة التي سنَّها سلمان رشدي قتله الله في الاساءة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني بدأت تؤتي أكلها في الكثير من أماكن هذا العالم، اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية أن يساء إلى النبي هذا الأمر أصبح أمراً عادياً، والذي حصل في نيجيريا كما سمعتم قبل أيام أيضاً يبدو بأن المسلمين في نيجيريا أكثر غيرة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بقية المسلمين، من أجل مقالة سيئة إلى النبي حصل كل هذه الحوادث الدموية في نيجريا.

على كل حال، لكن هذه الحملة الشديدة، هي أيضاً أنا أشبهها اليوم بالاجتياح الإسرائيلي في لبنان عام ألف وتسعمئة واثنان وثمانين ميلادية، ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [23]، الهجوم على الإسلام، وعلى نبي الإسلام، وعلى كتابنا المقدس، أصبح كما نقل لي الأخوة، سبباً لأن يبحث الكثير من الغربيين والأمريكيين عن حقيقة الأمر، وعندما يُتاح لهم فرصة التعرف على الحقيقة هم يعتنقونه. ولذلك وبالرغم من الحملة الإعلامية والسياسية وحتى الأمنية، واليوم يُعتقل كثير من شباب المسلمين في شتى أنحاء العالم، ويُقَتَّلون بتهمة الإرهاب وبتهمة الانتماء إلى هذا التنظيم وذاك التنظيم، وبالرغم من حالة الرعب الشديد التي أشيعت في الكثير من البلاد الإسلامية، نجد أن عودة الناس إلى الدين، عودة الناس إلى الإسلام والمساجد والصيام وحج بيت الله الحرام والاهتمام بكتاب الله يزداد ويكبر بشكل مطرد، وخرج من سيطرة الشياطين الكبار والشياطين الصغار، وأنا أظن أنَّ هذه الحملة هي ستعزز هذه العودة إلى الدين ولن تحول بين الناس وبين أن يعودوا إلى دينهم.

نحن في هذا الإطار، طبعاً كلنا يجب أن يتحمل جزءاً من مسؤوليته، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، في لبنان نحن جزء من هذه الحالة، جزء من هذه المواجهة الكبيرة، لكن يضاف إليها التهديد العسكري المباشر، والحمد لله شهر رمضان جاء في هذه الأجواء، في هذه المرحلة، إن شاء الله هذه الأمسيات القرآنية وهذا الجو الإيماني هو بشكل طبيعي وأتوماتيكي وتلقائي، كما يقولون، سوف يوجد حالة من الثبات وحالة من الرسوخ لدى المؤمنين في لبنان، تمكنهم من مواجهة الأخطار الآتية والقريبة على ما يبدو، لأنَّ الإسرائيليين والصهاينة لن يناموا على الذل الذي لحق بهم في لبنان، وأيضاً هم يئسوا تقريباً من إنهاء الانتفاضة في فلسطين، يعني ماذا ينهون؟ ضربوا التنظيمات وضربوا الفصائل وضربوا البنى التحتية والتشكيلات، ولكن لم تتوقف العمليات الاستشهادية، لأنَّ العمل الجهادي والاستشهادي في داخل فلسطين المحتلة أصبح مبادرة الأفراد وما أكثرهم في الشعب الفلسطيني، وعندما تصبح خلفية المعركة كذلك، عندما نتحدث عن هذه المعركة بتفاؤل كبير جداً أنَّ خلفية هذه المعركة... هي خلفية إلهية هي خلفية قرآنية، هذا الدين هو أقوى دين، يصنع العشَّاق، عشَّاق لقاء الله (عزَّ وجلّ)، ولن يستطيع أحد أن يَحُولَ بين عشَّاق لقاء الله وبين الله (عزَّ وجلّ)، اليوم هؤلاء كثر في فلسطين، في لبنان، في كل عالمنا العربي والإسلامي، وبالتالي هم باتوا عاجزين، ولذلك قد يتوجهون إلى الأماكن التي يفترضون أنَّها تشكل الجبهة الخلفية التي تدعم وتدرب وتمد بالسلاح وترسل المال وتقدم الدعم المعنوي أنَّه ممكن الإسرائيليين يستغلون تطوراً معيناً، ممكن الأمريكان يهاجمون العراق وهم في وقت متزامن يهجمون على لبنان بحجة ليستبقوا الأمور أو ما شاكل، لذلك الساحة خلال شهر رمضان المبارك وخلال الأشهر القليلة المقبلة بانتظار حصول حدث من هذا النوع قد يحصل وقد لا يحصل، بالنِّهاية الأمور مربوطة بمشيئة الله عزَّ وجل، والله سبحانه وتعالى لن يختار لعباده المؤمنين، الصادقين، المخلصين، الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم بالتجربة وبالجهاد وبالدموع وبالعرق وبدماء الشهداء، لن يختار لهم إلا ما فيه خيرهم وصلاحهم سلماً أم حرباً، مهما كان، وعلينا أن نسلِّم لإرادة الله سبحانه ولمشيئته فيما يختار لنا، لكن نحن يجب أن نكون مهيئين ومستعدين ومعبئين، والأهم من السلاح هو الحالة الإيمانية والروحية والمعنوية والنفسية. ولذلك إن شاء الله هذه الليالي ليست ككل سنة، نحن نعتبرها جزءاً من: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [24] أنتم ساهمتم إن شاء الله في هذا الشهر المبارك في هذه الحالة التعبوية، التي ستمكننا جيداً من الوقوف في وجه أيِّ تهديد أو عدوان إسرائيلي، على أمل أن الله سبحانه وتعالى سيعين عباده المجاهدين والصالحين ويعطيهم نصراً مؤزراً وكبيراً إن شاء الله.

قبل مدَّة كان عندي صحفي من إحدى الصحف الأمريكية المشهورة، وهو جاء ببعض الأوراق من إسرائيل وفيها كلمات واتهامات، وهو يريدني أن أجيب عليها، المهم بعد أن انتهينا قال هناك قراءة إسرائيلية، يعني كلام إسرائيلي على أعلى المستويات، يقول إذا خضنا الحرب مع حزب الله، أنا لم أسمع هذا الكلام سابقاً، ولكن قبل أن نسمعه من الإسرائيليين هذا كنا نقوله لإخواننا في الجلسات الخاصة يعني مع المجاهدين مع المقاومين، كنا نقول لهم، الإسرائيليون إذا بدأوا حرباً علينا فسوف لن تكون حرباً متدحرجة، لن تمشي من الصغير إلى الوسط إلى الكبير، سوف تبدأ بأقصى طاقة نارية يمكن أن يستخدمها الاسرائلييون سيستخدمونها في اليوم الأول، من أجل إيجاد حالة رعب شديد جداً، وبالتالي تتلاشى الإرادة والمعنويات والعزم، وينهار كلُّ الوضع. لكن لو صمدنا لأيام، ليس فقط سنسقط أهداف الإسرائيليين، بل سوف يكون أمامنا انتصار كبير جداً، وسينقلب السحر على الساحر، ولا تستغربوا! ونحن الذين نفكر أن ندافع عن لبنان قد تُفتَح أمامنا الأبواب للذهاب إلى القدس، وأنا أرجو ذلك إن شاء الله، المهم الآن أنَّ كبار الخبراء العسكريين الإسرائيليين، يقولون ما يلي: إذا أردنا أن ندخل حرباً مع حزب الله في لبنان، يجب أن نحسمها خلال سبعة أيام، فلو صمد حزب الله سبعة أيام فقط، (أنا ما كنت حاسب كم يوم والآن هم دلّونا)، لو صمد حزب الله سبعة أيام فقط، فبعد صمود الأيام السبعة سوف تنقلب المعادلة لمصلحة حزب الله، هذا الكلام كلام الإسرائيليين.

نحن إن شاء الله ببركة القرآن والإيمان وهذا الالتزام وهذه المعنويات وهذه الثقة بالله (عزَّ وجلّ)، لأنَّنا نحن خلال عشرين سنة الماضية، قاتلنا بهذه الخلفية وبهذه الثقافة، ولم يكن لدينا لا العدد ولا العدَّة المادية الكافية للوصول إلى النصر. هذا النصر هو نصر إلهي بحت ومحض، هو توفيق من الله سبحانه وتعالى، وهو مِنّة إلهية، يعني بمعزل عن الاستحقاق، الله سبحانه مَنَّ علينا بهذا النصر، إن شاء الله هذه الروحية بحاجة إلى تعزيز، القرآن وحفظتُه وقرَّاؤه ومفسّروه هم خير مَنْ يستطيعون تكريس وترسيخ هذه الروحية إن شاء الله.

 

وأنا كما أقول عن فلسطين أقول عن لبنان: طالما أنَّ خلفية الصمود هنا وخلفية المعركة أصبحت خلفية إلهية وقرآنية ومحمدية: ﴿ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [25]، إن شاء الله، لن يكون هناك خوف، ولن يكون هناك حزن، ولن يكون هناك قلق، فإن شاء الله نحن دخلنا في عصر الإسلام، وعصر القرآن، وعصر عودة البشرية إلى سيد البشرية، إلى رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

يبقى أن يكون لكل واحد منا مساهمته، ليكون له أجره وثوابه إن شاء الله، وإلا الحمد لله هذه الصحوة اليوم هي صحوة كبرى وعظيمة جداً وهي طبق المشيئة الإلهية، وغير متوقفة لا على شخص ولا على أشخاص ولا على مجموعات ولا على تنظيمات ولا على فئات محددة. نحن أمام المشيئة الإلهية، ويبدو أننا أمام ـ إن شاء الله ـ تحقيق الوعد الإلهي بوراثة الصالحين والمستضعفين لهذه الأرض بعون الله (عزَّ وجلّ).

مجدداً، أنا أشكركم على كل ما قمتم به خلال هذه الأسابيع المباركة، وأيضاً أشكركم على تشريفكم إلى هذا المكان المتواضع، وإن شاء الله سبحانه وتعالى يتقبل منكم، وأرجو إن شاء الله أن يوفقنا لأن نكون نحن وأنتم في خدمة الإسلام وخدمة القرآن، وأن يديم هذه الجلسات واللقاءات والأمسيات بحرمة محمد وآله الطاهرين.

والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


الكلمة السادسة


 

 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وشفيع ذنوبنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والشهداء من المجاهدين في سبيل الله منذ آدم إلى قيام يوم الدين الإخوة والأخوات جميعاً، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أولاً: أبارك للإخوة والأخوات هذه الأيام وهذه الذكريات العزيزة والمجيدة والعطرة، والتي ما زلنا نعيش في أجوائها وطيبها، ذكرى ولادة رسول الله الأعظم وخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذكرى ولادة حفيده الجليل والعظيم والمبارك الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)، وأيضاً الذكرى التي تطل علينا هذه الأيام، والتي هي أيضاً من بركات هذا النبي العظيم، وهذا الرسول الكريم، وهي ذكرى انتصار المقاومة والجهاد والشهداء والتضحيات في لبنان في الخامس والعشرين من أيار عام ألفين، أنا أبارك أولاً: هذه الذكريات للإخوة والأخوات جميعاً.

ثانياً: أود أن نتوجه بالشكر إلى جمعية القرآن الكريم، إلى كلِّ الإخوة والأخوات فيها والقيِّمين عليها والعاملين في صفوفها، لما يبذلونه وعلى ما يبذلونه في خدمة هذا الكتاب الإلهي المقدس، في تحفيظه وتجويده وتعليمه وتفهيمه وتفسيره ونشر قيمه ومفاهيمه بين الناس، وخصوصاً بين جيل الشباب، الذين هم أحوج وأليق وأكثر قابلية واستعداداً لتلقي وقَبول هذه المفاهيم والقيم والتعاليم، والأكثر استعداداً للتفاعل معها لأسباب كثيرة.

هذه الجهود هي جهود مشكورة ومباركة، إن شاء الله، وجهود يُعَلّق عليها الكثير من الآمال والنتائج، لأنَّنا نحن بحاجة إلى هذا الجيل القرآني، يمكن أن نتكلم بهذا بعد قليل. أيضاً أود أنْ أتوجه بالشكر إلى الإخوة رئيس وأعضاء المجلس البلدي في بلدية الغبيري على دعمهم ومساندتهم ومساهمتهم، ليس فقط في هذا الحفل وهذا المشروع، وإنَّما في مختلف المشاريع التي تقيمها جمعية القرآن الكريم أو الجمعيات الأخرى، والتي تهتم بالمسائل الثقافية والفكرية والروحية والأخلاقية، وهذا بالتأكيد هو جزء مهم من المسؤولية الملقاة على عاتق المجالس البلدية.

يجب أن أنوِّه أيضاً بجميع الإخوة والأخوات من الشباب والشابات والفتية والفتيات، الذين يشاركون في هذه الأنشطة ويشتركون في هذه الدورات وفي هذه البرامج وفي هذه المشاريع، سواء على مستوى التجويد أو الحفظ أو التفسير وإقبالهم ومحبتهم واهتمامهم لكتاب ربهم، هذا أمر يجب أن ينوَّه به ويجب أن يقدَّم له مظاهر التبجيل والتقدير، خصوصاً أنَّنا في عالم وفي بلد ما يستهوي فيه الشباب والفتية هو أمور أخرى، بالتأكيد أمور أخرى تضر بحياتهم وبعقولهم وبأرواحهم وبآخرتهم قبل كل شيء، أن نجد جمعاً من الشباب والشابات والفتية والفتيات مقبلاً على القرآن ومحباً للقرآن ومتفاعلاً مع القرآن، هذا أمرٌ جدير بالاعتزاز والافتخار لأهلهم ولعائلاتهم ولنا جميعاً، وأن نعبِّر لهم عن تقديرنا واحترامنا لهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديهم ويثبتهم على دينه ويختم لهم بخير ويجعلهم من أوليائه وعباده الصالحين إن شاء الله.

في محفل القرآن الكريم، أنا أود أن أقول بعض الكلمات، وليس في نيتي الإطالة عليكم، خصوصاً أنَّ البعض أو الأغلب قد يكون أو قد كان منشغلاً بهذا البرنامج من الصباح الباكر، والوقت والحفل لا يحتمل الكثير من الكلام، ولكن، لا بد من الإشارة إلى أمر مهم، وهو: أنَّ الإسلام من خلال القرآن، من خلال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما نقله أئمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وما هو موجود في كتب المسلمين عن الصحابة والمهاجرين والأنصار والصدر الأول في تاريخ الإسلام، التأكيد والاهتمام الكبير بهذا الكتاب الإلهي بدرجة أولى، لأنَّ هذا الكتاب لم ينزل لجيل دون جيل، ولا لزمان دون زمان. الكتب المقدسة السابقة كانت كتباً لأجيال محددة، لأزمنة محددة، لأقوام محددة، أمَّا هذا الكتاب فهو للبشرية جمعاء، وهو للنَّاس في كلِّ زمان وفي كل مكان، وإلى أيِّ أمة وإلى أي لغة وإلى أي جنسية وإلى أي مكان انتموا.

منذ اللحظة التي نزل فيها على قلب رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآيات، نزلت لتشكل هذا القرآن الذي من صفاته صفة الخلود والبقاء والاستمرار الخلود، بمعنى خلود معانيه وقيمه وتعاليمه ومفاهيمه وأحكامه، والخلود بمعنى خلود واستمرار وبقاء قدرته على التربية وعلى الاستنهاض وعلى التزكية وعلى التحريك وعلى البناء، يعني قدرة التأثير قدرة الفعل في الإنسان إلى قيام الساعة، لأنَّ البناء الأول والأساس، هو في أنَّ هذا القرآن هو قرآن خالد وباقٍ وله موقع الصدارة وموقع القيادة وموقع الهداية وموقع الدلالة، أمرنا جميعاً بأن نتعرَّف عليه وأن نتلوَه وأن نرتِّله وأن نحفظه وأن نصونه وأن نتعاطى معه بقداسة على المستوى الروحي والسلوكي والأخلاقي والسلوك الشخصي، كانت هناك مراسم كما يقال: بروتوكولات خاصة لتلاوة القرآن، ولمجلس القرآن، من واجبات ومن مستحبات ومن محرمات ومن مكروهات، يجب أن تراعى عندما يجلس الإنسان بين يدي القرآن، ليتلو آياته. كل هذا الاهتمام وكل هذا التأكيد، هو تعبير في الحقيقة أو نتيجة لعظمة القرآن ولقداسة القرآن ولخلود القرآن، ومن هنا المسؤولية تجاهه. لكن، حتى عندما نتحدث عن القراءة والتجويد والترتيل والحفظ وصولاً إلى التفسير والتدبّر والتفهّم لمعانيه، هذه كلُّها في الحقيقة هي مقدمة، هي مقدمة للعمل، هي مقدمة للسلوك، هي مقدمة للالتزام، هي مقدمة للصياغة لأن يصيغ الإنسان أو يصوغ الإنسان نفسه وعقله وروحه وقلبه صياغة قرآنية، لتتجسد فيه آيات وكلمات القرآن وتعاليم القرآن، ولذلك، كما أنَّنا نهتم بالمقدمة، وهي حفظ وقراءة وتلاوة وتجويد وصوت حسن ومراسم وبروتوكولات، وهذا مهم جداً ويجب التأكيد عليه. يجب أن لا نمضي أو نشغل أيامنا وحياتنا كلها في المقدمة، ونغفل عن ذي المقدمة، نغفل عن الهدف، عن الغاية الأساسية، وهي أنَّنا في الحقيقة من خلال الحفظ والتلاوة والصيانة والتفسير والتدبّر والتعلّم نتعرف على القرآن، وإنَّما نتعرف عليه لنتَّبِعه لنصغي إليه بأصول آذاننا وأصول قلوبنا، ونمشي خلفه دائماً خلف كلماته، لأنَّه هو دليل الهدى ودليل الحق في هذه الحياة، هذا ما يجب أن نؤكِّد عليه في هذه المناسبة. الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [26]، إذن التلاوة مفهوم، ولكن حق التلاوة ما هو؟ سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى حق التلاوة؟ فقال: «يتَّبعونه حق اتباعه». إذن حق التلاوة هو حق الاتباع، الاتباع الحقيقي في أعلى درجاته وأعلى مراتبه، وفي نفس هذا السياق الإمام الصادق (عليه السلام) يقول في تفسير ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ يقول الإمام (عليه السلام): «يرتِّلون آياته، ويتفهَّمون معانيه، ويعملون بأحكامه...»، هذا حق التلاوة، والترتيل يعني تبيين الكلمات، عندما نقرأ الآيات، «ويتفهَّمون معانيه، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده...»، عندما يرِد وعْدٌ في القرآن عن الجنَّة، عن النعيم، عن الخلود، عن الحياة الهانئة، أو عن النصر، عن البشرى، عن المجد، عن الكرامة عن العزة، حتى في الحياة الدنيا هم يرجون وعده، لأنَّ وعد القرآن هو وعد الله سبحانه وتعالى الذي لا يخلف الميعاد، لأنَّ الله سبحانه لا يخلف الميعاد، يرجون وعده، ويخشون عذابه، فهم يخافون النار وما أعدّ في النَّار للأشرار، ويحذرون مما حذَّرهم الله سبحانه وتعالى، هم ليست علاقتهم فقط بالوعد أو بالعذاب ليست علاقة من يقرأ أي قصة، أو أي كتاب، وإنَّما هي علاقة تفاعل عاطفي أو نفسي، هنا يحصل رجاء وشوق ولهفة، هناك يحصل خوف وقلق وخشية. الكلمات ترتِّب أوضاعاً عاطفية ونفسية وترتِّب مشاعراً وترتِّب قناعات، وهذا يؤسس للعمل وللسلوك «ويتمثَّلون قصصه» في القرآن الكثير من القصص ذات العبرة، لأنَّ القصة في القرآن هي للعبرة للعظة، وليس لمجرد أن تقال قصة، أو ليملأ وقت الفراغ أو للتسلية، والكثير من هذه القصص فيها عبر، قصص الأنبياء وأقوام الأنبياء والمجاهدين والمضحين والمنافقين والمتخاذلين والمترفين ووو... إلى آخره. قصص الأغنياء والفقراء من فرعون وهامان إلى موسى وهارون (عليهما السلام) إلى قارون إلى كلِّ من وردت قصصهم في القرآن الكريم، وكلُّها تضج بالعبرة وبالعظة وبالأمثال والمواعظ لنا نحن الذين نعيش في الحياة الدنيا، وتتكرر هذه المشاهد وهذه التجارب أمام أعيننا ولكن بأسماء جديدة، بأشكال جديدة، ولكن بمضمون واحد، كما يقولون التاريخ يعيد نفسه، إسم فرعون تغيَّر، ولكن الفرعونية هي موجودة. الآن ألا يوجد عندنا قارون؟ عندنا قوارين ـ إذا صح الجمع ـ الآن إذا أتيت بإنسان غني وتقول له وهو معجب بغناه، وما آتاه الله سبحانه وتعالى: ﴿ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ [27]، هو لا يكون عنده «مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ» يكون عنده قليل من المال و(حاطط) في جيبه دفتر شيكات و(مرتب هندامه) نقول له: أشكر الله، لا تعصِ الله فيما أنعم عليك. يقول ما علاقة الله بذلك؟ ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [28] أنا بعرق جبيني، أنا تعبت واشتغلت وكافحت وسافرت واغتربت وعملت (وسوّيت) حتى وصلت إلى هنا، ألا يوجد قارون، ما شاء الله، كم هو عددهم؟ «فيتمثَّلون قصصه ويعتبرون أمثاله» ما ورد فيه من أمثال وحكم «ويأتون أوامره» يعني يلتزمون بأوامر القرآن «ويجتنبون نواهيه» ويجتنبون ما نهى القرآن عنه، هذا يعني أن حق التلاوة هو كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حق الاتباع» ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) هو تفسير وتفصيل لحق الاتباع، وهذا ما نحن في الحقيقة أيُّها الإخوة والأخوات مطالبون به. القرآن ليس كتاباً نقرؤه لنزيد معلوماتنا، القرآن هو كتاب يجب أن نتفاعل معه عاطفياً وشعورياً وقلبياً، لذلك، هو ربيع القلوب، وليس فقط يكثِّر المعلومات في الذهن، العلاقة مع القرآن تؤدي إلى صفاء الروح، وإلى نماء القلب، وإلى قوة النفس، وإلى انفتاح آفاق العلم أمام العقل، وبالتالي العلاقة مع القرآن يجب أن تكون علاقة تفاعل، وعلاقة اتباع وعلاقة اهتمام وعلاقة حب وعلاقة عشق، وهذا طبعاً ما يجب أن نعالجه نحن في أنفسنا، يعني الآن إذا كان الإنسان لديه حبيب، نخفف الحكاية لا نقول لديه حبيبة، مثلاً إذا إنسان يحب إنساناً آخر، مثلاً أنت الآن تحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقال لك وُجِد في الشمال أو آخر الجنوب رسالة أو أثر، أو أي شيء له صلة مباشرة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا تذهب إليه بلهفة لتراه ما هو؟ تلمسه تتبارك به. إذا كان لديك حبيب، حبيب ـ عن جد ـ تحبه تشتاق إليه، يربطك به علاقة حب وثيقة وحقيقية، وبعث لك رسالة، أتقرأ الرسالة مرَّة؟ لا، كلَّما تتذكره تفتح الرسالة، ولمَّا تقرؤها، تقرؤها بلهفة بشوق، كأنَّ حبيبك حاضر أمامك ويخاطبك، بالنهاية ليس كل ما تقرؤه، تقرؤه بحب وذوق وشوق وعاطفة ولهفة. هذا كتاب الله هذا كلام الله، هذا كلام الله اليقيني لأنَّه لا يوجد نقاش بين المسلمين بأنَّ هذا كلام الله (عزَّ وجلّ)، يعني ما يسمونه بقطعي الصدور، هذا كلام صادر عن المولى (عزَّ وجلّ)، الله خالق السماوات والأرض، ربّ العالمين، من بيده ملكوت السماوات والأرض، هو يقول هذه الكلمات، ووضعها بين يديك لتقرأها بين الحين والآخر، في كل يوم وفي كل ساعة، ما هي علاقتك النفسية معها؟ هل تشعر بأنَّ هذا كلام هو كلام الله كلام خالقك ومالكك وولي أمرك وحبيبك ومن بيده ناصيتك؟ هذا متوفر أو غير متوفر، هذا جانب من الجوانب التي نحتاج أن نركز عليها في الحقيقة.

شيء أخير أود أن ألفت أيضاً إليه في الحقيقة، الإمام (عليه السلام) يقول: «ويتفهمون معانيه» لأنَّ تفهُّم المعاني والتعرف على المقصود القرآني هو المقدمة للعمل، يعني إذا فهمت أنا من الآيات أنَّه يجب أن أمشي في هذا الطريق، فأنا أمشي في هذا الطريق، لو فهم شخص آخر أنَّ عليه أن يمشي في ذلك الطريق، فهو يمشي في ذاك الطريق، الفهم هو المقدمة للعمل وللانطلاقة وللحركة، وهنا لا يجوز أن يقصِّر الإنسان، ولذلك يجب أن يكون تفهُّمنا لمعاني القرآن على درجة عالية من الحساسية ومن الاهتمام، لا يكون تفهُّماً عشوائياً أو تفهُّماً غير محسوب أو تفهُّماً متسرعاً، لأنَّه في النهاية هذا التفهُّم سينبني عليه عمل، العمل ستتقرر فيه نتيجة دنيا، والأهم من نتيجة الدنيا هي نتيجة الآخرة، في موضوع تفهم المعاني، طبعاً هنا تزلُّ الأقدام، يعني هنا المسألة الرئيسية، لن نختلف في الترتيل ولا في التجويد ولا في الحفظ ولا في الكثير من هذه الأمور، هذا النوع من المقدمة، ولكن عندما نصل إلى فهم معنى هذه الآيات ومعنى هذه الكلمات، وإلى أين ترشدنا وإلى أين تريد أن تأخذ بيدنا، هنا المسألة الرئيسية والحاسمة، في هذا الإطار، هذه هي المحنة التي نعيشها نحن كمسلمين منذ الزمن القديم والآن.

الآن أيُّها الإخوة والأخوات، أنتم تعرفون، في العالم الإسلامي يوجد صحوة إسلامية عارمة، وأنا أقول لكم: الحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية والعودة إلى الإسلام، هو أمر تجاوز قدرة المستكبرين والمتآمرين والماكرين والمخططين لقطع الطريق على عودة الأمة إلى إسلامها، هذا الموضوع تجاوزوه، يعني مثلاً في بعض البلدان الإسلامية بالرغم من أنَّ بعض المجموعات التي يُقال أنَّها إسلامية، يُنْسَب إليها أعمال قتل للنساء والأطفال والشيوخ وحرق للمزارع وللحقول وما شاكل، ويُكَبَّر هذا الأمر في الإعلام وقد تكون هذه النسبة صحيحة أو ليست بصحيحة، أنا لا أدري، ولكن في الجو الإعلامي وفي المناخ الشعبي يُنْسَب إليها هذا، ومفترض في ذاك البلد ولدى شعب ذاك البلد أن تؤدي هذه الممارسات المنسوبة إلى جماعات إسلامية إلى أن يبتعد الناس عن الإسلام ويكفروا بالإسلام، ولكن نجد النتيجة أنَّ إقبالهم على المساجد وعلى الأحكام الإسلامية وعلى الصيام في شهر رمضان، وإقبال نسائهم على الحجاب واهتمامهم بالإسلام ونمو الظاهرة الإسلامية في ذلك البلد تكبر وتكبر وتكبر خارج قدرة ضبط السلطة ومن هم وراء السلطة، وهذا في أكثر من بلد، يعني بالرغم مِما يُعْمَل عليه لتشويه صورة الإسلام، والمنتمين إلى الإسلام، نجد أن الأمة لا يردعها شيء عن العودة إلى دينها وإلى إسلامها، بالرغم من أنَّ هناك أخطاء حقيقية تحصل ممن ينتسبون إلى الإسلام، أخطاء حقيقية بل يمكن أن نقول ما هو أكثر من أخطاء في بعض الأحيان، ولكن نجد أنَّ اندفاع الأمة إلى الإسلام هو أكبر بكثير من كلِّ هذه الأخطاء ومن كلِّ هذه الحواجز، ومن كل هذه المؤامرات.

عندما نُقْبِل على الإسلام، الذي القرآن هو كتابه الخالد، ونريد أن نفهم هذا الإسلام، وأهم مصدر لدينا لفهم الإسلام هو هذا القرآن، أهم شرط أيُّها الإخوة والأخوات لفهم القرآن الصحيح والصادق والمخلص والحقيقي هو أن تكون بجد طالباً للحق، يعني أن أفتش جديَّاً عن الحق في اهتداء الطريق، في هذا الموقف، في ذاك الموقف، في هذه القضية، في تلك القضية، سواء كانت عقائدية أو تاريخية أو أخلاقية أو فكرية أو سلوكية، مهما كانت. أنا أبحث عن الحق وأريد الحق وأقبل الحق مهما كان، هذه هي الخلفية، من يسعى بهذه الخلفية يصل، لأنَّ من نظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبه وعرف فيه الصدق في طلب الحق الإلهي، الحق يعني ما يريده الله منه، أنا ـ مثلاً يا أخي ـ أريد أن أعرف أنَّ هذا الإسلام يدعوني إلى مقاومة الطغاة والظالمين، لأنَّه اليوم واحدة من المشاكل هذا الموضوع، واحدة من المشاكل، أنَّ هناك من يدعو إلى القتال والقتال والقتال والقتال وشعاره القتال، وهناك من يدعو إلى القعود والقعود والقعود وشعاره القعود، يا أخي ما هو الحل؟ هل هو أن نحمل السيف على عواتقنا ونقاتل في كل مكان، وأياً كان وفي أيِّ زمان وتحت أي شعار ومن أجل أي هدف؟ أو لا، طريق الحق الحل هو القعود والقعود والتخلي، وأن نكون جلساء بيوتنا ونحن لا نتحمل أي مسؤولية عمَّا يجري في بلادنا وفي أمتنا وفي منطقتنا؟ لا، هنا إذا كنت أنا أبحث عن الحق والحقيقة، ماذا يريد الله سبحانه وتعالى مني؟ والله يعلم من قلبي أنَّني أبحث عن الحق، لو كان الحق المطلوب مني هو أن أحمل سيفاً وأقاتل، الله يعلم أنَّني حاضر لبذل دمي، وإذا كان الحق والحقيقة الإلهية المطلوبة مني، هي أن أجلس فأنا حاضر أن أجلس، ولو كانت التبعات قاسية علي، عندما يعلم الله عزَّ وجل من قلوبنا الصدق في طلب الحق يأخذ بيدنا إلى الحق، يكشف عن بصيرتنا، يفتح عن قلوبنا، يعلمنا، يهدينا، يرشدنا، لكن عندما نريد أن نفهم القرآن بخلفيات، يعني مثلاً، أنا حركة جهادية ومقتنع بالعمل الجهادي والأمور محسومة، أنَّه يجب أن أضع السيف على عاتقي في كلِّ مكان وفي كل زمان، أنا آتي بهذه الفكرة وأريد أن أسقِّطها ألبِّسها أحمِّلها للقرآن، وبالتالي لا تسمع مني إلا آيات القتال والجهاد، ولكن آيات السلام، السلم والأمن واحترام كرامة الإنسان وحرمات الناس أنساها ولا تعود تبين، هذا: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [29]، مرَّة أخرى لا، أنا أؤيد خط القعود والتخاذل والجلوس في المنازل وعدم تحمل المسؤولية، أذهب أفتش عن آية أو عن رواية وأقول: هذا هو، هذا هو القرآن هذا هو الإسلام، تماماً إذا أردت أيضاً أن أوضّح الفكرة أكثر، مثلاً بالفقه أنا أريد أن أفتش عن فقيه، أليس كذلك، الذي نسميه مرجع تقليد فقيه، أعود له بالفتوى، وأنا يجب أن أتبع الموازين الشرعية من تحديد الفقيه الذي أعود له بالفتوى، تارة: أنا أريد أن أطيع الله سبحانه وتعالى أيَّاً تكن الفتوى، هذا العمل مثلاً، هذه التجارة أعجبتني أم لم تعجبني، إذا الحكم الشرعي بيقول: حرام يعني حرام، أو يقول: حلال فهي حلال، فأذهب أشتغلها، يعني موقفي النفسي خلفيتي النفسية ما هي؟ حيادية، لا يوجد عندي رغبات، لا يوجد عندي خلفية، أنا خلفيتي الطاعة للحكم الشرعي حلال حلال، حرام حرام، مرَّة ثانية: لا أنا أريدها أن تكون حلال، وأفتش عن الفتوى التي تقول لي حلال، لذلك نرى أنَّ أحداً ما، يأتي بعشرة رسائل عملية ويبدأ بالتفتيش عن الذي يقول له إنَّها حلال ويقلّده، هنا ما الذي حدث؟ أنت آتٍ بخلفية، آتٍ بموقف مسبق، وتريد الفقه والحلال والحرام أن يتناسب مع موقفك المسبق، مع القرآن نفس الشيء هذا الذي يسميه أمير المؤمنين (عليه السلام): استنطاق القرآن، يعني بدل أن نأتي ونحمِّل القرآن أفكارنا المسبقة وعقائدنا المسبقة، يعني أحدهم مثلاً إنَّ الله جسم، ويريد أن يركِّب له جسماً، يريد أن يعمل له يداً وساقاً وعيناً وإلى آخره، فيفتش في القرآن ويستخرج الآية: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [30]، فيقول أرأيتم: الله له يد، إذن يبدأ بالتفتيش عن آيات من هذا النوع، ولكن هناك آيات تقول: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [31]، لا يراها، لماذا؟ لأنَّه آتٍ بموقف عقائدي مسبق، نحن مطلوب منَّا أن نأتي للقرآن لا بمواقف عقائدية مسبقة، ولا بمواقف سياسية مسبقة، ولا بمواقف فقهية مسبقة، ولا بمواقف تاريخية مسبقة، هناك قصة أنا مقتنع أنَّه بالتاريخ صارت هكذا، وأريد أن أحمّل القرآن هذه القصة، يا أخي القرآن يقول القصة صارت بشكل ثانٍ، لا القصة صارت هكذا وهذا قصد القرآن وليس قصده هكذا، هنا المسألة الرئيسية، ولذلك لمّا نأتي للآية القرآنية الكريمة ماذا تقول: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [32]، ما هو الزيغ؟ يقول المفسرون هو الميل عن الحق، أحدهم أصلاً لا يريد الحق، بل يريد أن يركِّب بدعته، فكرته، موقفه المسبق، فيفتش عن أي كلمة يمكن أن يساعد تفسيرها على موقفه المسبق، هذا يضِل عن الحق وهذا يضيّع الحق.

ما نرجوه وما نطلبه. وهذا ما أحببت أن أؤكد عليه في هذا اللقاء، هو أن نأتي لنجلس بين يدي القرآن ليس كأساتذة وإنَّما كطلاب، نتعلم من القرآن نستهدي بالقرآن، نستنير بالقرآن، هو المعلم، هو القائد، هو الشمس المضيئة، هو القمر المنير، هو المرشد، هو الدليل، هو الهادي، ونحن يجب أن يكون دورنا دور التفهم والتلقي، بدون مواقف مسبقة وبدون خلفيات مسبقة، عندما نقيم صلة العلاقة مع القرآن الفكرية والروحية والنفسية والبحثية على قاعدة طلب الحق، طلب الحق بصدق وطلب الحق بإخلاص، بدون عصبية لا لعقيدة ولا لمذهب ولا لفكر ولا لخط ولا لرجل ولا لمكان، فالله سبحانه وتعالى سيأخذ بأيدينا ويوصلنا إلى هذه الحقيقة. على كلِّ حال، هذا القرآن الذي نحن اليوم في حفل من محافله المجيدة والكريمة، هو صاحب الفضل الكبير علينا في ذكرى الانتصار، لولا هذا القرآن لما كانت هذه المقاومة في زمن الإنهيار والتخاذل والضياع العربي الذي كان سائداً سنة ألف وتسعمائة وإثنان وثمانين. البعض يقول انَّ ذاك الوقت كان أحسن من هذا الوقت، لا أنا أقول هذا الوقت أحسن من ذاك الوقت، يعني إذا كان الشخص يريد أن يتكلَّم عن المقاومة، يعني أنَّه يتكلَّم عن مسألة غريبة مستهجنة، كانت تستهجنها الأنظمة وتستهجنها الشعوب، بالحد الأدنى الآن لا تستهجنها الشعوب وتستهجنها بعض الأنظمة، هناك تطور كبير في ثقافة الأمة وفي إرادة الأمة وفي حركة الأمة باتجاه مشروع المقاومة، الذي كان في الحقيقة وليد ونتيجة الانتماء إلى هذا الكتاب وإلى هذا القرآن، والكل يعرف في لبنان، أنَّ الذي جعل هذه المقاومة تستمر وتقاوم وتقدم الدماء والتضحيات خلال كل الفترة الزمنية الماضية هو إيمان هؤلاء المجاهدين بآيات الله، كانوا يرجون وعده، ويخشون عذابه، ويأتمرون بأمره، ويتجنبون نهيه، فكانوا يتَّبعونه حق الاتباع، يعني يتلونه حق التلاوة، وكان هذا الانتصار. اليوم نحن نؤكِّد على هذا الالتزام، نؤكِّد على هذا الإنتماء، وكلُّ تطورات العالم في المرحلة الحالية، وتطورات العالم في المرحلة المقبلة أيضاً، تؤكِّد أنَّ أساس قوتنا الذي لا يستطيع أن ينتزعه أحد منَّا، هو هنا، قد يتمكَّن أعداؤنا من محاصرتنا، قد يتمكَّن أعداؤنا من شن حرب نفسية وإعلامية وسياسية وعسكرية أيضاً علينا، وقد يتمكنون من انتزاع بعض عناصر القوة لدينا، ولكن هذا العنصر، عنصر الإيمان والالتزام والثقة واليقين والتوكل الذي يملأ أرواحنا وقلوبنا وعقولنا لا يمكن أن ينتزعه أحد منَّا، لا فرعون، حتى فرعون هو أقصى شيء ماذا قال للسحرة؟: ﴿ وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [33] هذا أقصى شيء، أن يقطِّع أيديهم ويقطِّع أرجلهم، لكن هل يستطيع أن يأخذ من قلوبهم هذا الإيمان الذي انفجر دفعة واحدة بين يدي موسى (عليه السلام)؟ أبداً، واليوم هذا الإيمان لم يعد إيماناً مختصراً على نخبة وعلى فئة وعلى مجموعة أو على حي أو على مدينة، هذا الإيمان ينتشر في هذه الأمة بقوَّة، ما نحتاجه هو بعض التصويب، هو بعض التوجيه، هو بعض التركيز، وإلا عنصر القوَّة هذا حاضرٌ بفعالية كبيرة جداً ويبشر بالكثير من الخير.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع، ومباركة من جديد كلُّ هذه الأيام وكلُّ هذه الذكريات، وأسأل الله (عزَّ وجلّ) أن يجعلنا من اتباع القرآن الحقيقيين الذين يتلونه حق تلاوته ويطلبون ما عنده بصدق وإخلاص، ليهتدوا بهديه ويسترشدوا برشده، وأن يختم لنا بخير وأن يرزقنا شفاعة نبي هذا القرآن وآله الأطهار، وأن يحشرنا معهم، وأن لا يفرِّق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


الكلمة السابعة


 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا ونبيِّنا سيِّد الرسل وخاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.

أودُّ في البداية أن أتوجه بالشكر الى السادة الحفَّاظ والقرَّاء والمنشدين والى القائمين والقيِّمين على هذا الحفل، حفل الأنس، والشكر أيضاً لكل الذين شاركوا في هذه الليلة المباركة، هذا المحفل الكريم والعزيز، وأودُّ أيضاً أن أبارك لكم جميعاً هذه الليلة من ليالي شهر الله العظيم والتي نلتقي فيها سوياً هنا لنجدد التزامنا وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ترك فينا الثَقَلَيْن أو الثِقّلين، كتاب الله والعترة، أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ كتابه ونحي ذكرى ميلاد حفيده. بين كتاب الله الذي يحضُرُ بين أيدينا فنتلو الآيات والكلمات ونصغي إليها، وبين القرآن الناطق المجسد لكل حقائق ومعارف ومعاني هذا الكتاب الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنَّة.

في الوقت المتاح أودُّ أن أتحدث قليلاً عن كتاب الله، وقليلاً عن ولي الله. عن كتاب الله: أودّ أن أقول لكم باختصار شديد نحن أمام مجموعة من الحقائق وأنا أودُّ في هذه الليلة أن أتعاون وإيَّاكم إن شاء الله وفيكم الكثير من الإخوة المسؤولين في هذا الشأن على تكريس مسار محدد واتجاه محدد في نشاطنا وفعاليتنا وحركتنا الثقافية والإيمانية، نحن بإيجاز شديد أمام مجموعة من الحقائق، ولا يتسع الوقت لأن نتحدث عن كل هذه الحقائق، ولكن ألفت إلى بعضها.

أولاً: إنَّ هذا الكتاب الإلهي الموجود بين أيدينا الآن هو كلام الله عزَّ وجل قطعاً ولا نقاش في هذا ولا ترديد. السادة العلماء والإخوة يعرفون أنَّه فيما يرد من أحاديث قدسيَّة أو أحاديث شريفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أهل بيته الأطهار سواء عن طريق أهل البيت أو عن طريق الصحابة الكرام، دائماً واجبنا ومسؤوليتنا أن نبحث عن صحة السند وسلامة السند ووثاقة وعدالة الناقلين، لنتأكد أو نقطع أو نطمئن بأنَّ هذا الكلام المنقول إلينا حقيقة هو كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). أمَّا هذه الآيات والكلمات المحفوظة في هذا الكتاب فكما يقال فهي قطعيَّة الصدور عن الله عزَّ وجل، وعلى هذا إجماع المسلمين طوال كلِّ هذه القرون، ولا مجال للترديد في ذلك، وهذه من نعم الله سبحانه وتعالى علينا أنَّ كتابنا كتاب واحد وليس كتاباً متعدد النسخ أو مشكوك في وثاقة النقل، وما بين أيدينا طبعاً هو كتاب الله كما أنزله الله تعالى على نبيه خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثانياً: إنَّ هذا الكتاب الموجود بين أيدينا كتاب الله معصوم، هو كتاب معصوم، نستخدم هذه الأدبيات، لا طريق إليه لا للباطل ولا للخطأ ولا للنقصان ولا للزيادة ولا للتحريف ولا للتشويه ولا للتزوير، وهو كتاب معصوم بكل ما للعصمة من معنى وبضمانة الله (عزَّ وجلّ) وعصمة الله عزَّ وجلّ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [34]، ويقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [35].

والحقيقة الثالثة: أنَّ هذا الكتاب هو كتاب بيان، هو ﴿ بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [36]، واستخدمه لتوصيفه في الكثير من الآيات الكريمة عبارات كـ: ﴿ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [37] ﴿ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ [38]، ﴿ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [39] و ﴿ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [40]، إذاً من حقائق هذا القرآن أنَّه بيانٌ وأنَّه مبينٌ ومبيِّن وبَيِّنْ، يقول الله تعالى: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [41] ويقول تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [42] وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [43] إذاً نحن أمام كتاب ميسَّر بَيِّنْ مُبَيَّنْ بلسان عربي مبين، فيه الكثير من الوضوح والكثير من العمق في آنٍ واحد، نحن أمام كتاب إلهي هو ليس كتابَ علوم، ليس كتابَ مصطلحات، وليس كتاباً تخصصياً في هذا المجال العلمي أو الفلسفي أو القانوني أو التاريخي أو ما شاكل، وإنّما هو كتاب هداية وموعظة وإرشاد وإنذار وتعريف بالله ورسوله وأنبيائه وكتبه وملائكته وما يصلح للنَّاس في دنياهم وحياتهم وآخرتهم، ولأنَّه كتاب من هذا النوع ولأنَّه كتاب للنَّاس جميعاً إلى قيام الساعة فهو كتابٌ بيِّنٌ وواضحٌ وجميلٌ وله طلاوةٌ وحلاوةٌ، وواضحٌ على درجة عالية من الوضوح. هذا القرآن الكريم أنزله الله تعالى على قلب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون هادياً ودليلاً للبشرية، إذاً هو ليس كتاباً للفلاسفة ولا للفقهاء ولا للعرفاء ولا للمؤرِّخين ولا للمحققين ولا لعلماء النفس ولا ولا ولا لأي شريحة خاصة من هذه الشرائح، هو للنَّاس جميعاً بمن فيهم هذه الشرائح، ولذلك يجب الالتفات إلى خطورة الاتجاه الذي يقول للناس: أنتم لا تفهمون القرآن ولا يمكن أن تفهموا ما يريد الله سبحانه وتعالى من كتابه، هؤلاء الذين يقولون ذلك من حيث يعلمون أو لا يعلمون يضعون حاجزاً بين الناس وبين كتاب الله (عزَّ وجلّ)، لا! هذا كتاب بيِّنْ ومرشد ودليل وهادي ويَفْهَم مطالبه الكثير، كثير من الناس، نعم هناك بعض المطالب التي تحتاج إلى التعمّق والتخصّص وإلى مزيد من التأمل والدراسة هذا صحيح، ولكن القرآن هو كتاب بيان، ولذلك نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يأمر الفلاسفة أو العرفاء أو الفقهاء بقراءة القرآن وتلاوة القرآن وحفظ القرآن والتدّبر والتمعن في القرآن فقط، وإنَّما أمر الناس جميعاً بذلك. وفي هذا السياق أيضاً جاءت الأحاديث الشريفة لتقول للناس وتشجع وتشوّق الناس إلى تلاوة كتاب الله (عزَّ وجلّ) وتصفه بأنَّه أحسن الحديث، وأصدق القول، وأحسن القصص، والنور المبين، وأبلغ الموعظة، وأنفع التذكر.

الحقيقة الرابعة: أنَّ هذا الكتاب الموجود بين أيدينا فيه تبيان كلِّ شيء، وهنا مظلومية القرآن، في الحقيقة يعني نحن نعيش في جوار كتاب موجود أمامنا موجود في بيوتنا ومكاتبنا ومؤسساتنا ومتاجرنا ومساجدنا، ولكن نحن لا نعرف عظمة وحقيقة ومحتوى ما في هذا الكتاب، هذا جانب من مظلومية القرآن الكريم. هذا الكتاب بين دفتيه يقول الله تعالى عنه: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِّلْمُسْلِمِينَ [44]، أحياناً يمكن لبعض الناس أن يقولوا أيعقل أنَّ ما بين دفتيه يوجد كلّ شيء؟ نعم الله تعالى يقول فيه تبيان كل شيء، وفي الأحاديث الشريفة: « في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم » [45]، وفي حديث آخر:« ألا إنَّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء داءكم ونظم ما بينكم » [46]، وفي حديث آخر: « فيه خبركم وخبر من قبلكم وخبر من بعدكم وخبر السماء والأرض ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجبتم » [47]، يعني من الممكن أن الناس يأتون ويتحدَّثون لنا عن هذه الأخبار الموجودة في القرآن الكريم، نحن نتعجب أهذا معقول؟! أهذا موجود في القرآن؟ وفي حديث ثالث: « ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله (عزَّ وجلّ) ولكن لا تبلغه عقول الرجال » [48]، هذه بعض الجوانب لا تحتاج للتعمق فيها. يعني في كتاب الله (عزَّ وجلّ) يقول الله سبحانه موجود فيه في داخله ليس فقط موجود وإنَّما أيضاً يمكن أن نستبينه وأن نجده وأن نبحث عنه، كلُّ ما يحتاجه الإنسان من أجل صلاح حياته ودينه ودنياه وآخرته، الإنسان كفرد، كعائلة، كأسرة، كشعب، كأمة، كبشرية على امتداد الأزمنة والأمكنة والأجيال إلى قيام الساعة، نعم يبقى علينا أن نبحث، أن نفتش، أن نتدبر، أن نتفكر، ولذلك أمرنا بالتدبّر والتفكّر وتدارس القرآن وتباحثه. وفي نفس الوقت أمرنا أن نوغل فيه برفق، نعم هذا القرآن، يعني كيف ينبغي أن نقرِّب الفكرة وأنَّ فيه كلّ شيء، وفي نفس الوقت هو بيِّن وواضح، وفي نفس الوقت فيه كلّ هذه الحقائق والمعارف والمعاني في أعماقه؟ لو عدنا إلى الأحاديث الشريفة سوف نجد ذلك فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل بيته الأطهار، فهم يحدّثوننا: أنَّ للقرآن ظهرٌ وبطن، إذاً نأخذ بعد قليل، مثال البحر فيه سطح وفيه عمق ولكن نقول: عن أسفله بحر وعن سطحه بحر، ونحن ننظر إلى البحر الواسع له سطح وله عمق له ظاهر وله باطن ظاهره أنيق...، هذا الكلام الذي اعترف به حتى عتاة مشركي قريش بأنَّ له حلاوة وله طراوة وطلاوة وما شاكل ذلك، وباطنه عميق كما في الأحاديث الشريفة التي تتحدث أنَّ للقرآن ولآياته ولكلماته بطون. يمكن أن تقرِّب الفكرة من حديث آخر الذي يصف القرآن أنَّه عميق، بحره لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه. لنأخذ مثلاً، البحر: هذا البحر الشاسع، أو ل، لنحكي عن المحيط ولكن الآن نقول: بحر، نحن عندما ننظر الى البحر نرى بأعيننا سطحه وظاهره وأمواجه الهادئة والعاتية ولونه المنعكس من السماء، عندما نمد يدنا إلى البحر نتلمَّس أو نتحسس برودة مائه أو سخونتها أو دفئها، عندما نمشي في شاطئ رملي بقدر ما نمشي ندرك عمق البحر، ولكن كلّما تقدمنا في البحر أكثر، كلّما نزلنا في أعماقه أكثر، بحسب قدرتنا وشجاعتنا وإمكاناتنا والوسائل المتاحة إلينا سوف نكتشف آفاقاً جديدة، واتساعاً جديداً وألواناً جديدة ومخلوقات جديدة. الآن يوجد في أعماق البحار والمحيطات مخلوقات لله (عزَّ وجلّ) حتى الآن نحن لا نعرفها، هناك مخلوقات تعرَّفنا عليها بفضل التطور العلمي لم يعرفها آباؤنا ولا أجدادنا ولا الأجيال الماضية، كلّما نزلنا في أعماق البحر والمحيطات أكثر سوف نكتشف حقائق في الوجود أكثر، وحقائق في الحياة أكثر. وهكذا القرآن الكريم، كلّما كان لدينا قدرة على السباحة وعلى الغطس ونملك التجهيزات اللازمة للإيغال برفق وبعمق في آياته وكلماته ومعانيه ودلالات هذه الكلمات يمكن أن نكتشف معارف جديدة وحقائق جديدة ومعاني جديدة، لم نكن لنكتشفها أو نراها ونحن ننظر إلى ظاهر الآيات وظاهر الكلمات، وبالتالي أمام هذا البحر كلُّنا يفرق بمقدار طاقته وسعته وتحمّله وإمكاناته، الطفل الصغير والأميّ والمتعلّم والعجوز والفيلسوف والبدوي والمثقف والإنسان العادي والمتخصص والطبيب والمهندس والفيزيائي والفلكي والفقيه والعارف والمتكلم وغيرهم، كلُّ واحد يحصِّل أكثر وبحسب قدرته واستطاعته والقدرات المتاحة لديه، يغرف من هذا البحر الممتد المتسع الذي لا يعلم مداه وعمقه ونهايته إلاّ الله سبحانه وتعالى، ولذلك كلّما تقدَّم الزمان نجد بأنَّ هناك معارف جديدة ومعلومات جديدة ومعطيات جديدة وحقائق جديدة تكتشفها أجيال البشرية جيلاً بعد جيل من القرآن الكريم. ولذلك عندما سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذا المعنى: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ كلما مضى الزمان يتبيَّن أنَّه جديد أكثر وغض أكثر وشاب أكثر، يعني لا يوجد فيه كهولة ولا شيخوخة في شخص القرآن، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): « إن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة » [49]، يبقى نضراً حياً مخضوضراً عطاؤه مستمر، وهذا هو أحد أسباب خلود هذا الكتاب الإلهي. إذا أخذنا هذه الحقائق ـ نكتفي بها لأنَّ الوقت لا يتسع كثيراً ـ ووضعناها أمامنا إذاً نحن أمام نعمةٍ إلهيةٍ عظيمةٍ حاضرةٍ من أعظم النِّعم الإلهية علينا، معصومة، محفوظة، خالدة، مليئة بالمعارف والحقائق، وفيها تبيان كلِّ شيءٍ، وهي موجودة بين أيدينا، وحتى وصلت إلينا أيضاً سبقتها تضحيات مئة وأربعة وعشرين ألف نبي وجهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وصحابته الكرام وتضحيات المسلمين طوال أجيال، وهذا الكتاب موجود بين أيدينا، كيف نتعاطى مع هذا الكتاب؟ هنا نريد أن نعمل مراجعة قليلة، نحن أمرنا فيما يعني هذا الكتاب الإلهي، أمرنا بقراءته وتلاوته وترتيله في الليل وفي النهار وفي كلِّ زمان ومكان وفي كل حال، لا يوجد وقت خاص في أيِّ وقت، أنظروا هذا من خصوصيات القرآن أيضاً أنَّك تستطيع أن تقرأ وتتلو القرآن في أيِّ وقت من الليل والنَّهار، كلّ الوقت مفتوح في أيِّ مكان، في أيِّ زمان، في أيِّ حال، في الفرح والحزن، وإن كان البعض يريدون تحويل القرآن الكريم إلى كتاب أحزان، في الفرح والحزن، في النصر والهزيمة، في العافية والمرض، في الفقر والغنى، في كلِّ حال أنت تستطيع أن تقرأ وأن تتلو وترتل هذه الآيات، وأُمرنا أن نُكثر من قراءته وتلاوته، وأمرنا أن نحفظه، وأُمرنا أن نأنس بتلاوته وقراءته، وحتى بالنظر إليه، لأنَّه كتاب الحبيب وكلام الحبيب وحديث المولى (عزَّ وجلّ). طبعاً هناك أزمنة معيَّنة لها خصوصيَّات، أمكنة معينة لها خصوصيات، من هذه الأزمنة شهر رمضان المبارك نعم له خصوصية، وللتلاوة والقراءة والاحتفاء بكتاب الله (عزَّ وجلّ) في شهر رمضان المبارك كما تفعلون الآن ثواب خاص، أجرٌ خاص، ورد في الأحاديث الشريفة ثواب عظيم وكبير جداً، بعض الناس يقول لك: عندنا في خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: « ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور » [50]، يقول بعض الناس: أيعقل إذا قرأنا في شهر رمضان آية لنا ثواب من ختم القرآن في غير شهر رمضان؟ طبعاً هذا كرم الله وعطاء الله عن طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية لمَّا كان يناقش الذين يستبعدون هذه المسائل كان يقول لهم: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [51]، ويستشهد بالآية، فالله تعالى رحمته واسعة، كرمه وجوده لا حدود له، إذا الله سبحانه وتعالى عن طريق رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في خطبة استقبال شهر رمضان المبارك قال لنا: هكذا روي أنَّه من تلا فيه آية كمن ختم القرآن في غيره من الشهور، لماذا نستبعد ذلك؟ يعني فيه محدودية في كرم الله وعطاء الله (عزَّ وجلّ) فأمرنا بذلك!؟ نحن في الحقيقة مدعوون أن نقيم علاقة فردية، علاقة شخصية وروحية وعاطفية مع كتاب الله (عزَّ وجلّ)، في هذا الموضوع، إذا جئنا لنعمل مراجعة يوجد خلل كبير عندنا يحتاج إلى معالجة العلاقة، لا بد أن تكون علاقة عاطفية وروحية ومعنوية، علاقة صحبة، أن نكون نحن أصدقاء ورفقة نحن والقرآن، كيف ذلك؟ من خلال اصطحابه وقراءته وتلاوته في كلِّ حال، في كلِّ زمان، في كلِّ مكان، في كلِّ وضع، وأيضاً نحن معنيون باتباع القرآن والعمل به وبالإصغاء إليه، إلى مواعظه وقصصه وعبره وتعاليمه وأوامره ونواهيه، ليكون خُلقنا القرآن كما كان خلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لتصبح رُوحنا قرآناً مجسداً، وسلوكنا وسيرتنا قرآناً مجسداً، هذا ما يجب أن نصل إليه في الحقيقة، ولذلك هذا التأكيد في الروايات على استحباب القراءة والتلاوة كبير جداً وعظيم جداً، حتى عُدَّ بأنَّه من أفضل الأعمال ونحن مدعوون إلى هذا الأمر. طبعاً التلاوة والقراءة الهادئة بصوتٍ حسن، بصوتٍ حزين، بتأمل، بتدبر، حتى أنِّي أقول للإخوة والأخوات: إمَّا نطمع بقصة أنَّه من تلا فيه آية كمن ختم القرآن، لذلك نرى ظاهرة في شهر رمضان أنَّه قوموا لنتسابق ونقرأ بسرعة ولا نفقه ما نقرأ ولا نقف عندما نقرأ، هذا غلط، أنا أعتقد أن المقصود: من تلا فيه آية فله ثواب وأجر من ختم القرآن في غيره من الشهور، أنَّه مجرد التلفظ وإن كان لا يستبعد ذلك من كرم الله سبحانه وتعالى وجوده ورحمته، لكن بالأصل المطلوب القراءة المتدبرة، القراءة المتعظة، القراءة التي تتفاعل فيها أرواحنا ونفوسنا، فإذا مررنا بآية فيها تشويق تطلعت أنفسنا إليها طمعاً وكأن الجنَّة نصب أعيننا، وإذا مرت علينا آيات فيها تخويف، شعرنا كأن زفير جهنَّم وشهيقها في أصول آذاننا وكأننا سيلقى بنا في نار جهنَّم، هذا التفاعل مع الآيات ومع الكلمات هو الذي يعطي النتيجة المطلوبة، ولذلك نهينا عن هجر القرآن، وأكدت الروايات على استحباب قراءة القرآن وتلاوته في كلِّ يومٍ وبالحد الأدنى (خمسون آية) في كلِّ يوم، والتفاعل مع هذه الآيات، خصوصاً ما يرتبط بمشاهد القيامة والجنَّة والنَّار. أيضاً المطلوب على المستوى الجماعي أن يحضر القرآن في مجالسنا في مجاميعنا، في احتفالاتنا، في مسيراتنا.

اليوم الحمد لله، هذا الحفل المبارك، هذه المجالس القرآنية، هذا الإحياء الجماعي، هو من أعظم ما يتقرّب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى في هذه الليالي المباركة، هذا إحياء لكتاب الله ولأمر الله ولأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). على أمل أنّنا من خلال التلاوة والقراءة والعناية والحفظ والاهتمام والصحبة لكتاب الله (عزَّ وجلّ) أن يصبح هذا القرآن رفيقنا وأنيسنا ودليلنا، وأيضاً ليكون شفيعنا يوم القيامة، لأنَّه شافع مشفّع، هذا القرآن له تجسيد حقيقي في أعلى صوره ومعانيه هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلم الناس بالقرآن، وأفقههم بالقرآن، وأكثرهم إحاطة بالقرآن، من هذه العترة الإمام العظيم المولود في مثل هذه الليلة وفي مثل هذه الليالي من شهر الله (عزَّ وجلّ)، يعني هذا الشهر نزل فيه كتاب الله، وولد فيه ولي الله الحسن بن علي (عليهما السلام) أول حفيدٍ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعندما ولد علينا أن نفترض وأن نتخيل من خلال الروايات الفرْحة العظيمة التي عمَّت بيت الرسالة، والبهجة العامرة التي ملأت قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بولادة أول حفيدٍ لخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الذي سماه بالحسن (عليه السلام)، كما سمى آخاه بالحسين (عليه السلام). وهنا طبعاً يجب الالتفات إلى الحكمة الإلهية والمشيئة الإلهية، في أن لا يكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولاد من الذكور، وأن يكون نسل رسول الله وذريَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحسن والحسين من ابنيه وحفيديه (عليهما السلام)، هذا ليس أمراً بالصدفة وإنَّما هذا جزء من التخطيط الالهي والمشيئة الإلهية المرتبطة بمستقبل الرسالة ومستقبل الدين ومستقبل الأمَّة إلى قيام الساعة، ويرتبط بالقيامة وأحداث القيامة.

أيضاً بالنسبة للإمام (عليه السلام) ـ في الدقائق المتبقية ـ بضع كلمات: كلُّ ما ورد في الأحاديث النبويَّة وفي الأحاديث الشريفة عن عظمة أهل البيت (عليه السلام) يشمل الحسن بن علي مولود هذه الليلة (عليه السلام)، الآية الكريمة: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [52] وبإجماع المفسرين من الشيعة والسنَّة أنَّها تنطبق على علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، هم أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا حديث طويلٌ في الاستدلال. وعندما نتحدث عن المودة في القربى، عندما نقرأ القرآن في هذا الشهر العظيم نلاحظ في السّور عن كلِّ الأنبياء السابقين لا يوجد نبي طلب أجراً على رسالته من قومه أبداً، حتى في بداية الدعوة لم يطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجراً من قومه على رسالته إلى أن نزلت الآية: ﴿ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [53] يعني رسالة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الرسالة النبويَّة الرسولية الإلهية الوحيدة التي طُلب في إزائها أجرٌ، ولكنَّها أيّ رسالة؟ الرسالة الخاتمة، الرسالة التامَّة، الرسالة المصدِّقة لما بين يديها من الكتب والرسالات والرسل، والمهيمنة على ذلك كلِّه، الرسالة الكاملة إلى يوم الدين الذي ارتضاها الله سبحانه وتعالى، والنِّعمة التامة، الرسالة التي هي رسالة سيد هؤلاء الرسل، وخاتم هؤلاء الرسل، الرسالة التي بعث بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي جاهد وضحَّى وتحمَّلَ وأوذي حتى قال: « ما أوذي نبي مثلما أوذيت »، هذه الرسالة وتبليغ هذه الرسالة وجهاد وتضحيات هذا النبي العظيم الذي يختصر جهاد وتضحيات كل الأنبياء والأولياء السابقين يطلب في أذائها المودة في القربى، طبعاً يحتاج وقت، ماذا تعني المودة؟ أمّا القربى في إجماع المسلمين قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم أولاً: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). حيث هناك آية أو رواية في فضل أهل البيت (عليهم السلام) أولي القربى، فالحسن عظيم من هؤلاء العظماء، وفي أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنَّة » [54]. « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا » [55]، كان يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): « من كان يحبني فليحب ابنيّ هذين » [56]، عنى الحسن والحسين ولا يتحدث عنهما كحفيدين وإنَّما يتحدَّث عنهما كإبنين له، فإنَّ الله تعالى أمرني بحبهما، حتى لا يكون هناك في شبهة عند أحد أنَّ حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين هو حُب فطري طبيعي، هو مقتضى الأبوة باعتبار أنَّه أبوهم وجدهم وأولاد بنته طبيعي يحبهم هذا لا يحتاج إلى دليل وليس له خصوصية وليس فيه ميزة فإنَّ طبيعة الحال تقضي أن يحب الأب أو الجد أولاده وأحفاده، لكنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لأصحابه والمسلمين إلى قيام الساعة: أنا أحبهما ليس فقط لأنَّهما إبناي، بل لأنَّ الله تعالى أمرني بحبهما وفي حديثٍ آخر: « حسنٌ مني وأنا منه » [57]، شبيه الحديث الآخر: « حسين منِّي وأنا من حسين »، « حسن مني وأنا منه، أحبّ الله من أحبّه... » يعني أحبّ الله من أحبّ الحسن (عليه السلام).

الإمام الحسن (عليه السلام) طبعاً حياته مليئة بالعمل والجهاد في سبيل الله (عزَّ وجلّ)، لكن مثل كلِّ إمام يكون هناك حادثة معينة مميزة في حياته العامة أو حياته السياسية، من المعروف أنَّ الحادثة الأهم التي يتم التركيز عليها عادة في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) العامة والسياسية وما يصطلح عليه بصلح الإمام الحسن (عليه السلام) والذي قدم الإمام الحسن (عليه السلام) فيه تضحيات عظيمة وجسيمة، وقدَّم لنا نموذجاً في الشجاعة، هناك شجاعة الإقدام في المعركة والقتال حتى الشهادة، وهناك شجاعة تحمُّل المظلومية والأذى وحتى الإهانة الشخصيِّة من أجل الهدف الشريف والهدف الإلهي، القتال بحاجة إلى شجاعة، ولكن هناك مواقف أخرى أحياناً بحاجة الى شجاعة أقوى وأكبر وأصعب لأنَّها قد تفرض على الإنسان مواقف صعبة كما استشهد الحسين (عليه السلام) في كربلاء من أجل أن يبقى كتاب الله غضاً جديداً شاباً حاضراً في الأمة، من أجل أن تبقى أمة محمد ودين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفس الهدف وبنفس الخلفية وبنفس الشجاعة وبنفس الإقدام كانت تضحيات الإمام الحسن (عليه السلام)، عندما أقدم على ما يسمى بالصلح وتحمَّل في سبيل هذا الموقف أذىً شديداً وكبيراً حتى من أقرب الأصحاب والمقربين الذي كان بعضهم يأتي إليه، وهو إمام المسلمين وواجب الطاعة وحفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم منهيون على أن يلحقوا أيّ أذىً به بنصٍ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليقول له هذا أو ذاك، والعياذ بالله! السلام عليك يا مذل المؤمنين، ولكنَّه كان يتحمل ذلك بصدرٍ رحبٍ وحلمٍ واسع ويشرح لهؤلاء الضيِّقي الأفق الأبعاد الحقيقية لموقفه والمسؤولية الشرعية التي عبَّر عنها من خلال هذا الموقف.

في رواية للإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول ـ وهنا أصل إلى ختام الحديث ـ: «إنَّ الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم وكان إذا حجّ حجّ ماشياً...» [58]، إلى هنا المسألة عظيمة، لكن بالباقي أتمنى من الإخوة والأخوات أن يسمعوا جيد، لنتعظ من البقية، وكان إذا ذكر الموت بكى، عن أيِّ إنسان نتحدث: عن ابن رسول الله، حفيد رسول الله، سبط رسول الله، إمام المسلمين، سيد شباب أهل الجنة، بنص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: « وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى بكى...»، يعني إلى هنا: إذا ذكر الموت بكى، إذا ذكر القبر بكى، إذا ذكر البعث والنشور بكى، إذا ذكر الممر على الصراط بكى... إلى هنا كانت تنتهي بالبكاء، ولكن وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره، عندما نُعرض على الله بحقائقنا، ماذا نريد بالشكل والمنظر الذي يعرفنا به الناس؟ إذا عرضنا على الله يوم تبلى السرائر، إذا عرضنا على الله يوم الفضيحة، ويوم بروز الحقائق وبالصور الحقيقية لنا، يوم لا تخفى على الله خافية، « وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يخشى عليه منها »، هذا سيد شباب أهل الجنَّة، «وكان إذا قام في صلاته...» طبعاً بالتأكيد صلاته ليست مثل صلاتنا، نشرد ونغيب ونفكر ونحلل، « وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربِّه (عزَّ وجلّ)، وكان إذا ذكر الجنَّة والنَّار اضطرب اضطراب السليم وسأل الله الجنَّة وتعوَّذ من النَّار »، جعلنا الله وإيَّاكم إن شاء الله، من قارئي وتالي وحافظي ومتّبعي القرآن الكريم، ومن اتباع ولي الله، هذا الإمام العظيم، وحشرنا الله معه، وشفَّع الله بنا كتابه الإلهي الخالد وأنبياءه وأولياءه، وأرجو من إخواني وأخواتي في هذه الليالي المباركة والكريمة أن لا ينسوني إن شاء الله من صالح دعائهم، وأن لا ينسوا إمامهم الغائب المنتظر (عج) وقائدهم ولي أمرهم والمؤمنين والمؤمنات والمجاهدين وكلَّ أصحاب الحاجة من دعائهم ومن ذكرهم والالتفات إليهم، وأسأل الله تعالى أن يكتبنا وإيَّاكم بحرمة هذا القرآن وبحرمة رسول الله وأهل بيته الأطهار من عتقائه من النار ومن طلقائه من جهنَّم وممن يمنُّ عليهم بالجنَّة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


[1] سورة إبراهيم، الآيتان: 24 ـ 25.

[2] الاختصاص: ج3، ص5.

[3] سورة البقرة، الآيتان: 185 ـ 186.

[4] سورة البقرة، الآية: 183.

[5] سورة القدر، الآية: 1.

[6] نوادر الراوندي: 21، 22.

[7] سورة الواقعة، الآيات: من 75 إلى 80.

[8] سورة البروج، الآيتان: 21 ـ 22.

[9] سورة الحجر، الآية: 87.

[10] سورة الإسراء، الآية: 9.

[11] سورة الإسراء، الآية: 82.

[12] سورة الحجر، الآية: 9.

[13] سورة الإسراء، الآية: 88.

[14] سورة القمر، الآية: 17.

[15] سورة فصِّلت، الآية: 3.

[16] سورة الأعراف، الآية: 204.

[17] سورة المزَّمِّل، الآية: 4.

[18] نهج البلاغة: الخطبة 193/ ص 436/ المقطع من ص 438/ طبعة دار التعارف ـ بيروت.

[19] مفاتيح الجنان: ص 235/خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في استقبال شهر رمضان المبارك.

[20] سورة الفرقان، الآية: 30.

[21] سورة الحج، الآية: 41.

[22] سورة البقرة، الآية: 216.

[23] سورة البقرة، الآية: 216.

[24] سورة الأنفال، الآية: 60.

[25] سورة يونس، الآية: 62.

[26] سورة البقرة، الآية: 121.

[27] سورة القصص، الآية: 76.

[28] سورة القصص، الآية: 78.

[29] سورة البقرة، الآية: 85.

[30] سورة الفتح، الآية: 10.

[31] سورة الشورى، الآية: 11.

[32] سورة آل عمران، الآية 7.

[33] سورة طه، الآية: 71.

[34] سورة الحجر، الآية: 9.

[35] سورة فصِّلت، الآيتان: 41 ـ 42.

[36] سورة آل عمران، الآية: 138.

[37] سورة النمل، الآية: 1.

[38] سورة الحجر، الآية: 1.

[39] سورة النحل، الآية: 103.

[40] سورة البقرة، الآية: 99.

[41] سورة آل عمران، الآية: 138.

[42] سورة الشعراء، الآيات: من 192 ـ 195.

[43] سورة القمر، الآية: 17.

[44] سورة النحل، الآية: 89.

[45] بحار الأنوار: ج89، ص32.

[46] نهج البلاغة، الخطبة 180.

[47] ميزان الحكمة: ج8، ص192.

[48] بحار الأنوار: ج77، ص290.

[49] بحار الأنوار: ج2، ص 280.

[50] عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج 2، ص 294.

[51] سورة الزخرف، الآية: 32.

[52] سورة الأحزاب، الآية: 33.

[53] سورة الشورى، الآية: 23.

[54] بحار الأنوار: ج10، ص 353.

[55] بحار الأنوار: ج43، ص 291.

[56] بحار الأنوار: ج43، ص 270.

[57] ميزان الحكمة: ج7، ص 11.

[58] بحار الأنوار: ج67، ص 400.