يقول الله سبحانه: ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ [1].
الله سبحانه يأمر الغنيّ بدفع الزّكاة لينتفع الفقير باليسير من ماله عن طيب خاطره أداءً لواجبه ورغبة بطلب المثوبة من ربّه، والفقير يأخذها من غير مهانة ولا ذلّة لأنّه أخذ الحقّ الواجب من مالكه وخالقه، وفي ذلك غرس بذور المحبّة بين الفقير والغنيّ.
فأهمية الزّكاة كفريضة إسلاميّة، سواء كانت بمعنى الزّكاة الواجبة أو بمفهومها الواسع، وينبغي أن يكون ذلك، لأنّ الزّكاة تعتبر أحد الأسباب الرّئيسيّة لتحقيق العدالة الإجتماعيّة، ومحاربة الفقر والمحروميّة، وملء الفواصل الطّبقيّة، بالإضافة إلى تقوية البنية الماليّة للحكومة الإسلاميّة، وتطهير النّفس من حبّ الدّنيا وحبّ المال، والخلاصة: إنّ الزّكاة وسيلة مُثْلى للتّقرّب إلى الله تبارك وتعالى.
وعن الإمام الصّادق (عليه السّلام) قوله: «من منع قيراطًا من الزّكاة فلْيَمُت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا» [2].
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [3].
لقد حثّ القرآن وأكّد وبالغ في الدّعوة إلى الانفاق في سبيل الله عزّ وجلّ وقد تكرّر الطّلب لذلك في أكثر من آية.
وإليك ما قاله عنها أمير المؤمنين (عليه السّلام):
قال الإمام عليّ (عليه السّلام):
«وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ ... وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ ...».
«وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ» روى الكافي عن الصّادق (عليه السّلام): ما فرض الله على هذه الأمّة شيئًا أشدّ عليهم من الزّكاة، وفيها تهلك عامّتهم [4].
وروي في من منع زكاته، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: بينا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المسجد إذ قال: قم يا فلان ويا فلان حتّى عَدّ خمسة، فقال: أخرجوا من مسجدنا لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكّون [5].
وعن أبي عبد الله (عليه السّلام): من منع قيراطًا من الزّكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى: ﴿ ... رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ... ﴾ [6] [7].
ما دام في المجتمع غنيّ وفقير فالزّكاة ضريبة يفرضها التّعاون والضّمان الاجتماعيّ، ولكنّ البعض تحذلق وقال: إنّ فريضة الزّكاة معناها الاعتراف بالفقر، وأنّه حتْمٌ لا بدّ منه، وكان الأجدر بالإسلام أن يقتلعه من الجذور، ويوجِد مجتمعًا لا فقر فيه على الإطلاق.
الجواب أوّلاً: بأنّ تغيير الأوضاع ومحو الفقر من الأساس لا يكون بجرّة قلم، ودون أن يمرّ بالعديد من المراحل، وإذن فلا بدّ أن نخضع للواقع، ونداوي الحاضر بالحاضر حتّى تسمح الظّروف، وماذا نصنع بالمرضى والجائعين في مجتمع يسوده فساد الأوضاع؟ هل ننتظر حتّى تصلح الأمور، أو نشرّع قانونًا يضمن الحياة إلى أن تتبدّل الأحوال بالجدّ والاجتهاد؟
ثانيًا: إنّ مصرف الزّكاة لا ينحصر بالفقراء، بل يتعدّاهم إلى مشروعات الخير، وما فيه للنّاس صلاح كما هو المفهوم من كلمة «سبيل الله» في آية الزّكاة رقم «6» من سورة التّوبة.
«وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ» لأنّ حسناتها تتغلّب على سيّئات العديد من الخطايا والذّنوب قال تعالى: ﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ... ﴾ [8].
وروى في صدقة السّر (الكافي) عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): صدقة السّرّ تطفىء غضب الرّبّ [9].
«وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» كمن ينهار عليه نفق فيموت خنقًا، أو تلتهب فيه النّيران فيهلك حرقًا، أو يغرق فتأكله الأسماك، ونحو ذلك.. ولا يصحّ التّأويل هنا والاجتهاد لأنّ الّلفظ لا يحمل إلا معناه.
روى في فضل الصّدقة (الكافي) عن الباقر (عليه السّلام): البرّ والصّدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن سبعين ميتة سوء[10].
وعن الصّادق (عليه السّلام): داووا مرضاكم بالصّدقة وادفعوا البلاء بالدّعاء، واستنزلوا الرّزق بالصّدقة فإنّها تفكّ من بين لحى سبعمائة شيطان وليس شيء أثقل على الشّيطان من الصّدقة ...[11].
وعن محمّد بن عمر بن يزيد، أخبرت الرّضا (عليه السّلام) أنّي أصبت بابنَيْن وبقي لي بنيٌّ صغير، فقال: تصدّق عنه، ثمّ قال: حين حضر قيامي مُرِ الصّبيّ فليتصدّق بيده بالقبضة والكسرة والشّيء وإن قلّ [12].
وقال (عليه السّلام): «وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ... مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ».
«وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ» الصّلاة تواضع، والتّواضع ضدّ الكبر، وإذن فالصّلاة تصون المصلّي من هذه الرّذيلة..
ثمّ إنّ الصّلاة عهد لله على عبده أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر. وإذا كانت الصّلاة تروّض النّفس والأعضاء بالحركات فإنّ الزّكاة تروّضها بالمال وبذله، ولا شيء أثقل عليها من ذلك.
«مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ» الغلات الأربع وجوبًا وباقي الحبوبات استحبابًا.
«وَغَيْرِ ذَلِكَ» من الأنعام الثّلاثة والنّقدَيْن.
«إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ» المنصوص بهم في الكتاب الكريم بقوله: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ والمسكين أسوء حالاً من الفقير.
في (العلل) عن الصّادق (عليه السّلام): أنّ الله تعالى أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال فليس لهم أن يصرفوها إلى غير شركائهم [13].
وعنه (عليه السّلام): أنّ الله عزَّ وجلَّ فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به [14].
ولو علم أنّ الّذي فُرِض لهم لم يكفهم لزادهم، فإنّما يؤتي الفقراء في ما أوتوا من منع من منعهم لا من الفريضة.
روي في الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام): قول الله عزَّ وجلَّ ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ ، قال (عليه السّلام): الفقير الّذي لا يسأل النّاس والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم، فكلّ ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكلّ ما كان تطوّعًا فإسراره أفضل من إعلانه، ولو أنّ رجلاً يحمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنًا جميلاً [15].
وقال (عليه السّلام) إنّ الزّكاة يجب أن تكون عن طيب نفس: «ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلاَةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الْإِسْلاَمِ، فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا، فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً، وَمِنَ النَّارِ حِجَازاً وَوِقَايَةً، فَلاَ يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ، وَلاَ يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا، يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ، مَغْبُونُ الْأَجْرِ، ضَالُّ الْعَمَلِ، طَوِيلُ النَّدَمِ».
«ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلاَةِ قُرْبَاناً ...» أي يتقرّب بها إلى الله سبحانه.. لقد حثّ الإسلام على الزّكاة تمامًا كما حثّ على الصّلاة، لأنّه يحرص كلّ الحرص على الأخوّة والتّعاون بين النّاس، وأقام هذا التّعاون على أسس قويّة وثابتة، منها أو من أهمّها العمل لصالح الأغلبيّة العظمى الّتي تتكوّن من الفقراء والمستضعفين، وتقديمه على صالح الأفراد، والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات. ومن البداهة أنّ الزّكاة ضرْبٌ من التّعاون وأساس له، ولذا أطلق عليها في عصرنا اسم العدل الاجتماعيّ أو العدالة الاجتماعيّة. وكثير من الفقهاء يتجاوزون النّسبة المئويّة المحدّدة في الزّكاة ويوجبون في أموال الأغنياء كلّ ما يحتاجه الفقراء.
وقد روي: ما آمن بالله من بات شبعانًا وأخوه جائع.
«لِأَهْلِ الْإِسْلاَمِ» قال تعالى: ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ... ﴾ [16].
وفي الكافي عن أبي بصير: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السّلام) ومعنا بعض أصحاب الأموال فذكروا الزّكاة، فقال (عليه السّلام): إنّ الزّكاة ليس يحمد بها صاحبها وإنّما هو شيء ظاهر إنّما حقن بها دمه وسمّي بها مسلمًا ومن لم يؤدّها لم تقبل له صلاة، وإنّ عليكم في أموالكم غير الزّكاة [17] وعدّ حقوقًا.
وعن أبي جعفر (عليه السّلام): بينا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المسجد إذ قال: قم يا فلان قم يا فلان حتّى عَدّ خمسة نفر، فقال: أخرجوا من مسجدنا لا تصلّوا فيه وأنتم لا تزكّون [18].
وعن أبي عبد الله (عليه السّلام): من منع قيراطًا من الزّكاة فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا، وليس بمؤمن ولا مسلم وهو قوله تعالى: ﴿ ... رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ... ﴾ [19] [20].
وعن أبي جعفر (عليه السّلام): إنّ الله تعالى قرن الزّكاة بالصّلاة فقال: ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ... ﴾ [21] فمن أقام الصّلاة ولم يؤت الزّكاة لم يقم الصّلاة [22].
وعن أبي عبد الله (عليه السّلام): صلاة مكتوبة خير من عشرين حجّة، وحجّة خير من بيت مملوءًا ذهبًا ينفقه في برّ حتّى ينفد، ثمّ قال: ولا أفلح من ضيّع عشرين بيتًا من ذهب بخمسة وعشرين درهمًا قيل: وما معناه؟ قال: من منع الزّكاة، وقفت صلاته حتّى يزكّي [23].
«فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا، فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً، وَمِنَ النَّارِ حِجَازاً» هكذا في المصريّة، والصّواب: حجابًا كما في (شرح) ابن أبي الحديد وغيره.
«وَوِقَايَةً» في الخبر أرض القيامة نار ما خلا موضع المؤمن فإنّ صدقته تظلّه.
«فَلاَ يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ، وَلاَ يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ» قال ابن أبي الحديد: أمر النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعض نسائه أن تقسّم شاة على الفقراء، فقالت: لم يبق منها غير عنقها، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): بقي كلّها غير عنقها، قال ابن أبي الحديد: أخذ شاعر هذا المعنى فقال: [24]
يبكي على الذّاهب من ماله | وإنّما يبقى الّذي يذهب |
قلت الأصل في كلام النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله تعالى: ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ... ﴾ [25].
«فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا، يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ، مَغْبُونُ الْأَجْرِ، ضَالُّ الْعَمَلِ، طَوِيلُ النَّدَمِ» قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [26].
وقال (عليه السّلام): «الصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ، نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ».
«الصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ» الصّدقة تمليك مال للمستحقّ مجّانًا قربة إلى الله تعالى وهي واجبة كالزّكاة المقرّر في الشّرع، ومندوبة وهي على مقدِرة المتصدّق وسخائه، وكلّ منهما دواء منجح للآلام الاجتماعيّة والفرديّة.
فإنّ من مصارف الزّكاة الواجبة أداء الدّيون وتحرير الرّقاب والاعانة للفقراء والمساكين والصّرف في الأمور العامّة من تسبيل السّبل وتأمين الصّحّة وإيجاد المستشفيات والمساجد والاعانة على الجهاد، وكلّ هذه الأمور معالجة باتت نافعة لآلام محسوسة وموجعة للجمع والفرد، ويؤثّر ذلك في رفع آلام المتصدّق وينتفع به كغيره.
كما أنّ الصّدقة المندوبة دواء منجح في معالجة ألم الجوع والحاجة للمستحقّ فتوجّه بقلبه على المتصدّق والمنفق فيدفع آلامه ويقضي حوائجه بإذن الله وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): داووا مرضاكم بالصّدقة [27].
وفي زكاة الجواهر: ويكفيك فيما ورد في فضل الصّدقة الشّاملة لها من أنّ الله يربيها لصاحبها كما يربّي الرّجل فصيله فيأتي بها يوم القيامة مثل أحد، وأنّها تدفع ميتة السّوء وتفكّ من سبعمائة شيطان، ولا شيء أثقل على الّشيطان منها وصدقة الّليل تطفىء غضب الرّبّ وتمحق الذّنب العظيم وتهوّن الحساب، وصدقة المال تنمّي المال وتزيد في العمر [28].
«وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ، نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ» هذه الجملة تدلّ على تجسّم الأعمال ويستفاد منها أنّ كلّ عمل يتجسّم بصورة يناسبها من خير أو شرّ، وحسن أو قبح، ويراها العامل بعينه في آجله وهو حين حلول الموت الّذي يرفع الحجاب ويكشف الغطاء إلى القبر والبرزخ والقيامة.
ويؤيّدها ظاهر قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ... ﴾ [29] ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [30] فإنّ ظاهر الرّؤية بمفعول واحد هي الرّؤية بالبصر.
قال (عليه السّلام): «اِسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ».
عن الصّادق (عليه السّلام) قال لابنه محمّد: كم فضل معك من تلك النّفقة؟ قال: أربعون دينارًا، قال: أخرج وتصدّق بها، قال: إنّه لم يبق معي غيرها، قال تصدّق بها فإنّ الله تعالى يخلفها أمَا علمت أنّ لكلّ شيء مفتاحًا ومفتاح الرّزق الصّدقة فتصدّق بها، ففعل فما لبث (عليه السّلام) عشرة أيّام حتّى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار، فقال: يا بنيّ أعطينا الله أربعين دينارًا فأعطانا أربعة آلاف [31].
وعنه (عليه السّلام): ما أحسن عبدٌ الصّدقة في الدّنيا إلاّ أحسن الله الخلافة على ولده من بعده وحسن الصّدقة يقضي الدّين ويخلف على البركة [32].
ونظير كلامه (عليه السّلام) هذا كلام آخر له (عليه السّلام) (في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق) »إذا أبطأت عليك الأرزاق استغفر الله يوسّع عليك .[33] «
وقال (عليه السّلام): «سُوسُوا إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وَادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ».
سُوسُوا: ساس القوم، دبّرهم، ساس الأمر: قام به (المنجد).
«سُوسُوا» أي دبّروا.
«إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ» ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [34].
«وَحَصِّنُوا» أي احفظوا.
«أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ» في الكافي عن الصّادق (عليه السّلام): ما ضاع مال في برّ ولا بحر إلاّ بتضييع الزّكاة ولا يصاد من الطّير إلاّ ما ضيّع تسبيحه [35].
وعنه (عليه السّلام): ما من رجل يمنع درهمًا في حقّه إلاّ أنفق اثنَيْن في غير حقّه [36].
وعنه (عليه السّلام): ما أدّى أحد الزّكاة فنقصت من ماله، ولا منعها أحد فزادت في ماله [37].
«وَادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ» في الكافي عن الصّادق (عليه السّلام): أنّ الدّعاء يردّ القضاء ينقضه كما ينقض السّلك وقد أُبرم إبرامًا [38].
وعن أبي الحسن (عليه السّلام): الدّعاء يردّ ما قدّر وما لم يقدّر؟ قيل: كيف ما لم يقدّر؟ قال: حتّى لا يكون [39].
وقال (عليه السّلام): «إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللهَ بِالصَّدَقَةِ».
«إِذَا أَمْلَقْتُمْ» أي افتقرتم قال تعالى: ﴿ ... وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ... ﴾ [40] .
«فَتَاجِرُوا اللهَ بِالصَّدَقَةِ» من افتقر وضاقت عليه سبل الرّزق فليتصدّق ولو بلقمة من قرصه على معدة خاوية، فإنّ الصّدقة مفتاح الرّزق. قال ابن أبي الحديد جاء في الأثر أنّ عليًّا (عليه السّلام) عمل ليهوديّ في سقي نخل له في حياة النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخبزه قرصًا فلمّا هَمّ أن يفطر عليه أتاه سائل يستطعم فدفعه إليه وبات طاويًا فتاجر الله بتلك الصّدقة فعدّ الناّس هذه الصّدقة من أعظم السّخاء وأعظم العبادة [41].
في حديثه (عليه السّلام): «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ الدَّيْنُ الظَّنُونُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ لِمَا مَضَى إِذَا قَبَضَهُ».
الظَّنُونُ: الّذي لا يعلم صاحبه أيقضيه من الّذي هو عليه أم لا، فكأنّه الّذي يظنّ به ذلك فمرّة يرجوه ومرّة لا يرجوه، وهو من أفصح الكلام، وكذلك كلّ أمر تطلبه ولا تدري على أيّ شيء أنت منه فهو ظنون.
«إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ الدَّيْنُ الظَّنُونُ» أي الّذي لا يعلم صاحبه أيقبضه من الّذي هو عليه أم لا، فمرّة يرجوه ومرّة لا يرجوه والظّنون: الّتي لا يعلم فيها ماء أم لا.
«يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ لِمَا مَضَى إِذَا قَبَضَهُ» أي إذا قبضه فإنّه يزكّيه عن كلّ الأعوام السّابقة.
وقال (عليه السّلام): «إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَالْأَمْوَالُ أَرْبَعَةٌ: أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْفَيْءُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ، وَالْخُمُسُ فَوَضَعَهُ اللهُ حَيْثُ وَضَعَهُ، وَالصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اللهُ حَيْثُ جَعَلَهَا ...».
فقال (عليه السّلام): «إنّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)» هكذا في المصريّة وابن ميثم ولكن في ابن أبي الحديد «على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)» [42] وَالْأَمْوَالُ أَرْبَعَةٌ»:
1 - «أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الْفَرَائِضِ» فقال في الطّبقة الأولى:
﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [43].
وقال في الطّبقة الثّانية: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [44].
وقال جلَّ وعلا: ﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ [45].
وقال في الطّبقة الثّالثة: ﴿ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [46].
وذكر ميراث الأزواج فقال: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [47].
وذكر إبطال العصبة في مورد البنات والأخوات الّتي يقول بها غيرنا فقال: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ [48].
ودلّ على بطلان العول وورود النّقص على البنات والأخوات دون الأزواج والآباء والأمّهات، بأن جعل للأولى فريضة واحدة وللأخيرة فريضتان.
2 - «وَاَلْفَيْءُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ» فقال جلّ وعلا: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ﴾ [49].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾ [50].
قالوا: أي كصفيّة وجويريّة.
3- «وَاَلْخُمُسُ فَوَضَعَهُ اللهُ حَيْثُ وَضَعَهُ» قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [51].
والفيء كلّه للنّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السّلام)، والغنيمة خمسها له ولهم.
4 - «وَالصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اللهُ حَيْثُ جَعَلَهَا» فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [52].
وقال (عليه السّلام) عن الزّكاة: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ، وَاللهُ تَعَالَى جَدُّهُ سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ».
وقف الإسلام في جانب الفقراء ضدّ الاستغلال والمستغلّين، وأنصفهم من الأغنياء والمترفين، وجعل الفقير شريك الغنيّ في أمواله: ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [53]. وهذا الحقّ هو الّذي عناه الإمام بقوله: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ».
وفي الحديث: «لو أنّ النّاس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي فقير» [54] وبه نجد تفسير قول الإمام (عليه السّلام): «فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ» والمعنى المحصّل من الآية الكريمة، والحديث الشّريف، وقول الإمام أنّ الغنيّ الّذي منع الحقّ عن أهله هو الّذي سلب لقمة الجائع، وسرق ثياب العاري، واغتصب مأوى من لا مأوى له، وأيضًا هو السّبب الموجب لكلّ جريمة في شرق الأرض وغربها تحدُث بسبب البؤس والعوز، ومن هنا كان عذاب الّذين يكنزون الأموال: ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [55].
وقال الإمام جعفر الصّادق (عليه السّلام): «إنّ الله جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولولا ذلك لزادهم، وإنّما يؤتون أي الفقراء من منع من منعهم» [56] وهم الأغنياء.
وقال (عليه السّلام): «لِغَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ، أَبِي الْفَرَزْدَقِ، فِي كَلاَمٍ دَارَ بَيْنَهُمَا، مَا فَعَلَتْ إِبِلُكَ الْكَثِيرَةُ؟ قَالَ: ذَعْذَعَتْهَا الْحُقُوقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ (عليه السّلام): ذَلِكَ أَحْمَدُ سُبُلِهَا».
ذَعْذَعَتْهَا الْحُقُوقُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ: أي بدّدتها حقوق الزّكاة والصّدقات،
فرّقتها الذّعاذع: الفرق المتفرّقة.
ذعذعتها: فرّقتها، والمراد بالحقوق هنا الزّكوات والصّدقات، وليس من شكّ أنّ بذل المال في هذه السّبيل أفضل وأجدى من أيّ سبيل آخر.
وقال ابن أبي الحديد: كان غالب هذا شيخًا كبيرًا يملك الكثير من الإبل، فوفد على الإمام أيّام خلافته، ومعه ولده الفرزدق الشّاعر الشّهير، وهو غلام يومئذ، فسأله الإمام عن إبله، ثمّ عن الغلام؟ قال: هو ابني، وقد رويته الشّعر وكلام العرب.
فقال له الإمام: لو أقرأته القرآن لكان خيرًا له، فكان الفرزدق يروي ذلك ويقول: ما زالت كلمة الإمام في نفسي، وقيّدت رجلي بقيد ما فككته حتّى حفظت القرآن [57].
وقال (عليه السّلام): «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ فِيهِ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ».
زَمَانٌ عَضُوضٌ: أي شديد، كلب على النّاس كأنّه يعضّهم وفعول للمبالغة، عضّ فلان على ما في يدَيْه أي بخل وأمسك.
والمعنى يأتي زمان على النّاس قاس وشديد، يبخل فيه الغنيّ بماله، والله يأمره بالبذل، ويسود فيه الباطل، ويسيطر الأذناب والذّئاب، ينكّلون بالأبرار والأحرار، ويعمّ الفساد والضّلال، وينقاد من ينقاد للحاكمين الباغين اضطرارًا لا اختيارًا، والإسلام لا يقرّ معاملة المضطرّ أي المكره.
وإنّما فسّرنا الاضطرار هنا بالإكراه، لأنّ الفقهاء يصحّحون معاملة المضطرّ دون المكره، ويفلسفون ذلك بأنّ التّجارة لا بدّ أن تكون عن تراض، والاضطرار يجتمع مع الرّضا دون الإكراه كَمَنْ باع داره عن رضا وطيب نفس بدافع العلاج وتكاليفه.
هذه الحكمة من ملاحمه (عليه السّلام) وتنبؤاته عن المستقبل، وهي غير قليلة في خطبه وحكمه يخبر فيها عن زمان يقرب من زمانه إلى هذه العصور ويعلّمه بخمس علامات:
1- زمان الضّيق والشّدّة على أهله من جهة ضيق المعاش وتنوّع الملاذّ وكثرة القوانين والحدود الموضوعة من الظّلَمَة والجبّارين على الضّعفاء والمساكين وغير ذلك.
2- إمساك الأثرياء على أموالهم ومنع الحقوق الواجبة والانفاق على ذوي الحاجة.
3- نهوض الأشرار إلى تصدّي الولايات والرّياسات وتسلّطهم على الأمور وارتفاع أقدارهم في الدّنيا.
4- استذلال أهل الايمان والأبرار وعدم الاعتناء بهم في الأمور ومظانّ الاقتدار.
5- الاضطرار على المعاملة من وجوه شتّى يبيع النّاس نفوسهم للبيعة والانتخاب ويضطرّون إلى بيع أموالهم من ذوي النّفوذ والسّلطة والاقتدار.
وقال (عليه السّلام): «الزّكاة نقص في الصّورة، وزيادة في المعنى».
ما نقص من الدّنيا وزاد في الآخرة، خير ممّا نقص في الآخرة وزاد في الدّنيا، لأنّ الحياة الدّنيا متاع وإنّ الآخرة هي دار القرار.
فمن يزرع بذره ينقص في العاجل ماله، ويربح في الآجل أضعاف ما نقص إذا قام بسقيه وقمع دغله كما أنّ من زاد زرعه بالنّباتات الدّغليّة يخسر ولا يحصل له كثير حاصل، وهكذا من يدفع الزّكاة ينقص ماله في العاجل ويزيد في الآجل.
[1] سورة البقرة، الآية: 43.
[2] وسائل الّشيعة:ج6، ص18 - 19.
[3] سورة البقرة، الآية: 261.
[4] الكافي: ج3، ص497، ح3.
[5] الكافي: ج1، ص503، ح2.
[6] سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.
[7] الكافي: ج1، ص504، ح3.
[8] سورة البقرة، الآية: 271.
[9] الكافي: ج4، ص8، ح1.
[10] الكافي: ج1، ص3، ح2.
[11] الكافي: ج1، ص4، ح5.
[12] الكافي: ج4، ص5، ح10.
[13] علل الشّرائع: ج2، ص95، ح1.
[14] علل الشّرائع: ج2، ص368، ح4.
[15] الكافي: ج1، ص502، ح5740.
[16] سورة التّوبة، الآية: 11.
[17] الكافي: ج3، ص500، ح5752.
[18] الكافي: ج3، ص503، ح5764.
[19] سورة المؤمنون، الآية: 99 - 100.
[20] الكافي: ج3، ص504، ح5765.
[21] سورة البقرة، الآية: 43.
[22] الكافي: ج3، ص507، ح5785.
[23] الكافي: ج3، ص504، ح5774.
[24] شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج10، ص210.
[25] سورة النّحل، الآية: 96.
[26] سورة التّوبة، الآية: 54.
[27] الوسائل: ج9، ص15.
[28] جواهر الكلام: ج15، ص7.
[29] سورة آل عمران، الآية: 30.
[30] سورة الزّلزلة، الآيتان: 7 - 8.
[31] الكافي: ج4، ص3، ح6.
[32] الكافي: ج4، ص10، ح5.
[33] بحار الأنوار: ج75، ص9.
[34] سورة الّليل، الآيات: 5 - 7.
[35] الكافي: ج3، ص506، ح15
[36] الكافي: ج3، ص546، ح2.
[37] الكافي: ج3، ص505، ح6.
[38] الكافي: ج2، ص470، ح1.
[39] الكافي: ج2، ص340، ح2.
[40] سورة الأنعام، الآية: 151.
[41] بهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة: ج19، ص255.
[42] كذا في شرح ابن أبي الحديد 19: 158، لكن في شرح ابن ميثم 5: 381، مثل المصريّة.
[43] سورة النّساء، الآية: 11.
[44] سورة النّساء، الآية: 176.
[45] سورة النّساء، الآية: 12.
[46] سورة الأنفال، الآية: 75.
[47] سورة النّساء، الآية: 12.
[48] سورة النّساء، الآية: 7.
[49] سورة الحشر، الآيتان: 6 - 7.
[50] سورة الأحزاب، الآية: 50.
[51] سورة الأنفال: الآية: 41.
[52] سورة التّوبة، الآية: 60.
[53] سورة الذّاريات، الآية: 19.
[54] الوسائل: ج9، ص13.
[55] سورة التّوبة، الآية: 34.
[56] الكافي: ج3، ص498، ح4.
[57] في ظلال نهج البلاغة: ج4، ص440.