الكتاب |
أنواع القلوب ورفع حجب الذنوب
(دراسة
قرآنية موضوعية) |
تأليف |
الشيخ عارف هنديجاني فرد |
إعداد ونشر |
جمعية القرآن الكريم |
الطبعة |
الأولى: 1436هـ 2015م - لبنان - بيروت |
موقع جمعية القرآن الكريم |
www.qurankarim.org |
بريد جمعية
القرآن
الكريم |
info@qurankarim.org |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
خير خلق الله أجمعين محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
قال سبحانه: ﴿
وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ .
إلى سيد الأقمار قمر بني هاشم العباس بن أمير
المؤمنين (عليه السلام) الذي قال في حقّه سيّد
الساجدين الإمام زين العابدين (عليه السلام):
«إنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى لمنزلة
يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة».
إلى مظهر العشق والإيثار، ومثال الرجولة
والصفاء والوقار، ورمز الشجاعة والشهامة
والكرامة إلى صاحب المنزلة الرفيعة، والمكانة
السامقة.
إلى أبي الفضل السقّاء، ساقي الجيش والأطفال،
حامل لواء الإمام
الحسين (عليه السلام) في كربلاء إلى من قدَّم
للحسين جواده.
إلى صاحب الإيثار، والبصيرة النافذة، والثبات
على الإيمان، والجهاد العظيم، والبلاء الحسن،
والمنزلة التي يُغبَط عليها يوم القيامة.
إلى من آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت
يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع
الملائكة في الجنّة.
إلى من قال:
والله إن قطعتم يميني
إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
نجل النبي الطاهر الأمين
إليه، وإلى الذين سلكوا طريق ذات الشوكة
وكتبوا بجهادهم حروف النور إلى هؤلاء جميعاً
أهدي هذا الجهد المتواضع، راجياً من الله
تعالى القبول، ومن النبي وآله عليهم الصلاة
والسلام ومن العباس الشفاعة والفوز بالجنَّة،
اللّهُمَّ بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ.
عارف هنديجاني فرد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
أشرف خلق الله محمد وعلى آله الطيبين
الطاهرين.
إنّ الحديث عن القلب في القرآن كان ولا يزال
موضع تباحث بين العلماء والمفسرين للقرآن
الكريم، وقد أسهب العلماء في شرح مفردات القلب
ذاهبين في ذلك مذاهب شتّى، بين قائل بأنّ
القلب هو العقل، وقائل بأنه الروح، إلى غير
ذلك ممّا عبّروا عنه بوحدة النفس الإنسانية،
ولعلّ هذا التباين فيما ذهب إليه العلماء من
تفسير ناشئ من كون القرآن قد ركّز على القلب
بما له من آثار وخواص تجتمع فيه وتصدر عنه
كالشعور والإرادة، والحب والبغض، والرجاء
والخوف، وغيرها ممّا ينطوي عليه الإنسان من
إحساسات وجدانية، وخواص روحية، باعتبار أن
القلب بعناية، كما يرى العلاّمة الطباطبائي
(قده)
، هو أوّل متعلّق الروح، فإذا كانت أفعال
الأعضاء مختلفة ومتباينة، فما ذلك إلاّ دليل
على وحدة الأصل الذي ترجع إليه هذه الأفعال،
لما أثبتته البحوث العلمية، وتباينت في البحث
فيه، لجهة تشخيص المصدر الذي تصدر عنه الأحكام
البدنية التي يمثلها الأعضاء الفعّالة في
البدن الإنساني، إذ لا ريب أنها في عين التشتت
والتفرق من حيث أنفسها وأفعالها مجتمعة تحت
لواء واحد منقادة لأمير واحد، وحدة حقيقية....
لقد بيّن القرآن الكريم في كثير من الآيات،
وفي زمن لم يكن فيه أي معنى للقلب بما هو
حقيقة مادية، أن القلب المعنوي هو أساس
الحقيقة الإيمانية، وقد ظهّر القرآن هذا
المعنى للتأكيد على الفطرة الإنسانية بكل ما
تختزنه هذه الفطرة من توحيد وإيمان، وهذا ما
تكفّلت النبوّة بتبيانه على نحو يستفاد منه
إثارة العقول الإنسانية باتجاه خالقها، لأنَّ
العقل المطبوع الذي تشير إليه الروايات
الإسلامية، ليس هو إلاّ تلك الفطرة التي أراد
الله تعالى لها أن تتعزّز بالعقل المسموع كما
روي عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه
السلام) حيث قال (عليه السلام):
رأيت العقل عقلين
فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع
إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس
وضوء العين ممنوع
أنه لا ينفع مطبوع إذا لم يكن مسموعاً، تماماً
كما لا ينفع ضوء الشمس إذا كان ضوء العين
ممنوعاً. فالمطبوع هو هذا القلب، أو هو تلك
الروح التي أفردها القرآن بالذكر الكثير،
وأعطاها التمايز لجهة التأكيد عليها في تحقق
الإيمان، وهذا ما يفسّر لنا الاهتمام القرآني
بالقلب في زمن لم يدرك فيه الناس معنى القلب
إلاّ بما هو حقيقة مادية صنوبرية يحتوي عليها
جسم الإنسان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن احتواء القرآن على
عشرات الآيات المباركة، ما هو إلاّ دليل على
ترشيد الإنسان إلى هذه الحقيقة واستيعاب
مفرداتها في سياق رؤية معنوية للقلب تأخذ
بالإنسان إلى التفكير فيما تنطوي عليه هذه
الآيات المباركة من معانٍ وأدلة على كون
العقل، أو القلب، هو ذلك المعنى الكامن في
النفس الإنسانية، والذي جعله الله تعالى
ملاكاً للتحقق الإيماني، سواء على مستوى
العقيدة أم على مستوى العمل، ولا شكّ في أنّ
هذا المبحث هادف إلى تبيان معنى التحقق
الإيماني من خلال القلب والرؤية القلبية، حيث
إن القرآن أفرد الكثير من الآيات التي تميّز
بين البصر والبصيرة، إذ هو ـ أي القرآن ـ لم
يجعل البصر سبيلاً إلى التحقق، باعتباره أداة
يفعل بها القلب تماماً كسائر الأدوات التي جعل
الله تعالى فيها مبادئ لفعل العقل يختص بها
كالدماغ للفكر، والعين للإبصار، والسمع للوعي
والرئة للتنفس ونحو ذلك، فإنها جميعاً بمنزلة
الأدوات التي يفعل بها الأفعال المحتاجة إلى
توسيط الآلة... ومن هنا نرى أمير المؤمنين
يشير إلى أنّ الإنسان لم يدرِك الله تعالى
بمشاهدة الأبصار، وإنما أدركه بحقائق الإيمان
التي ينطوي عليها القلب، وتهديه إلى سبل الله
تعالى للتعرّف على صفاته وأفعاله.
وهكذا، فإنّ معنى أن نسلك هذا المسلك، أن تكون
لنا تعبيرات جديدة في مجال الرؤية القرآنية،
لأنّ هذه الرؤية مشتملة حتماً على رؤية قلبية
متميّزة تخرج القلب عن كونه مجرّد معنى مادي،
ليكون له معنى الرؤية القلبية التي يهتدي بها
الإنسان إلى مشاهدة الآثار، والاعتبار بها، إذ
كثيراً ما يكون البصر سليماً ولا يكون الإنسان
مبصراً، وكذلك سائر الحواس التي يمكن أن تكون
على سلامة في فعلها، ولكنها في كثير من
الأحيان لا تكون معتبرة، أو كاشفة عن الحقيقية
الإيمانية التي أمر الله تعالى بتجليتها من
خلال الرؤية القلبية....
إنّ ما نروم بحثه في هذا الكتاب ليس هادفاً
إلى استخلاص الآراء وحسب، وإنما نهدف إلى
تبيان حقيقة الموت القلبي في سياق الآيات
القرآنية، لأنّ هذه الآيات القرآنية، كما
نعلم، جاءت في سياقات مختلفة، ولا بدّ أن تكون
لها دلالات وتأويلات مختلفة أيضاً، باعتبار أن
وصف القلوب بالمرض، هو غير وصفها بالزيغ
والإقفال، ووصفها بالتقى والاطمئنان والهدى
والسلامة، هو غير وصفها بالموت والقسوة،
والكفر والنفاق والإثم....
لقد اشتمل القرآن الكريم على كثير من الأوصاف
القرآنية للقلوب، وهذا ما أردنا التوقف عنده
والبحث فيه، مقسّمين مبحثنا هذا إلى بابين،
وكل باب مقسّم إلى عدّة فصول نتحدّث فيها عن
معنى القلب والعقل والروح، وعلاقة كل منها
بالآخر، لاستكشاف حقيقة الموقف القرآني منها،
ذلك أن طبيعة البحث، بحسب منهجنا الموضوعي،
تفترض علينا ملاحظة حقيقة الفروق بين هذه
المفردات التي ركّز عليها القرآن في مئات
الآيات القرآنية، وقد سبق لكثير من العلماء
والمفسرين المسلمين أن قدّموا البحوث الكثيرة،
ذاهبين مذاهب شتّى في التأويل والتفسير، ولا
زالت البحوث تتوالى على نحو يستفاد منه أن
تلكم البحوث لا تزال قاصرة عن نيل مطلوبها،
خاصة في عصر تطوّر فيه الإنسان، واجتذبته
العلوم العصرية بما غلب عليها من معارف حيّة
وعقلية، هذا فضلاً عمّا أدّت إليه المعارف
الحديثة من مجاهيل على مستوى المفاهيم
والمصطلحات والمرجعيّات المختلفة لها.
إنّ مبحثنا هذا ليس مجرّد دراسة نظرية، وإنّما
هو هادف إلى تبيان حقيقة الموقف القرآني من
دور القلب والعقل والروح في مجال المعرفة
الإنسانية، لأنّ القرآن فيما عرض له من
مفاهيم، هو هادف إلى تحقيق الإنسان بالمعرفة،
على اعتبار أنه كتاب هداية وتغيير كما قال
تعالى: ﴿
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ ... ﴾
[1] ، كما أنه فيما عرض
له في مجال القلب والعقل والروح والنفس، وفيما
أطلقه من أوصاف على القلوب، إنما هدف إلى
توضيح حقيقة العلاقة بين الإنسان ـ في قلبه
وعقله وروحه ـ مع الواقع الذي يتفاعل معه،
وبما أن القرآن لا يستثني التجربة الإنسانية،
ويريد للإنسان أن يكون على تفاعل مع واقعه،
ومع ما يحيط به من عالم مليء بالظواهر
والأحداث، فهذا كلّه يؤكّد مدى اهتمام القرآن
بالقلب والروح والنفس والعقل لجهة كون هذه
الحقائق ذات علاقة بعملية التغيير
وأهدافها....
لقد أوضح القرآن الكريم أن القلب الميت، أو
القلب المريض، وكذلك كل قلب لا يعقل عن الله
تعالى، وغير ذلك مما وصف به الإنسان من عمى
وصمم وبكم، هو إنما أراد أن يكشف عن انعكاسات
هذه الأوصاف في التحققات الخارجية للإنسان، إذ
لا يقتصر المرض في القلوب والصدور، وانفلات
الشهوات والرغبات على داخل الإنسان فقط، بل
لذلك انعكاسه في الحياة الإنسانية، وخصوصاً
بعد أن فشل الإنسان في صياغة الأحداث والتجارب
وفق حسّه وعقله
[2] ، فكان لا بدّ كما بيَّن
فلاسفة المسلمين، أن يهدي الله تعالى الإنسان
إلى حياة القلب والعقل والروح لتتجلّى في واقع
الحياة، ويكون لها دورها الفعّال في صياغة
الرؤية والموقف، حيث قال تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ
﴾
[3] ، وليست الحيلولة هنا سوى تأكيد
على معنى علم الله تعالى وقدرته وحاكميته،
وقبل ذلك على وعي الإنسان بما هو محكوم له من
قدرة إلهية وحكمة إلهية، باعتبار أن الله
تعالى هو الأول والآخر، والظاهر والباطن،
ويكفي تدليلاً على ذلك أن يعلم الإنسان بمن
يحول بينه وبين قلبه، قبل علمه بذاته... وهذا
هو الحق فيما تنطوي عليه الآيات من توحيد
وعقيدة حقّة في أن الأمور بيد الله تعالى.
لذا، فإنّ ما نرومه في بحوث هذا الكتاب، هو
تبيان حقيقة ما يرمي إليه القرآن من إطلاق
مفردات كثيرة ومختلفة حول العقل والقلب والروح
والنفس والصدر، لأنّ أكثر المفسرين قد اعتبروا
ذلك مجرّد ترادف في الألفاظ، وهناك من قال
بالفروق بينها لا من حيث أصلها، وإنما من حيث
كمالاتها وتحققاتها، إضافة إلى ما ذهب إليه
بعض الباحثين من خلط بين الروح والنفس، وبين
القلب والفؤاد والصدر، هذا فضلاً عن اختلاف
العلماء والمفسرين في تبيان أنواع القلوب في
القرآن، فهل هو قلب واحد تتعدّد أمراضه
وأعراضه، أو أنّ هناك أوصافاً للقلوب تختلف
باختلاف التحولات والتبدلات بعد أن ذهب أهل
اللغة إلى تعريف القلب بأنه التحويل والتقليب
والانقلاب، فضلاً عن كونه مركزاً في جسم
الإنسان وروحه؛ وهذا ما عرضنا له في مبحث
اللغة والاصطلاح، حيث تبيّن لنا بالارتكاز إلى
ما آلت إليه البحوث الإسلامية، أن كل مفردة من
مفردات القرآن تنقسم إلى معنيين اثنين، أحدهما
يتعلق بالبعد المادي للإنسان، والآخر يتعلق
بالبعد الروحي والربّاني، نظراً لكون الروح من
أمر الله تعالى، وهي ذات تعلّق ربّاني، وتشكّل
حقيقة الإنسان وذاته، وهي العالمة المدركة
المثابة والمعاقبة، وقد أجمع علماء المسلمين
على أنه حيث ذكر القلب في القرآن والسنّة،
يكون ذلك الشيء الذي يفقه في الإنسان ويعلم
بحقائق الأشياء...
ثمّ إنّ ما نودّ الإشارة إليه في هذه الدراسة
أيضاً، هو تبيان حقيقة العلاقة بين القلب
والصدر، وبين القلب والعقل، وبين القلب
والفؤاد والصدر، وهذه كلها مفردات لا نرى أنها
مترادفة على نحو ما ذهب بعض العلماء في
بحوثهم، كما فعل العلاّمة اليزدي في معارف
القرآن، مشيراً إلى أنه لا معنى لهذا الأمر في
الدراسات التفسيرية للقرآن، ملمّحاً إلى أن
ذلك قد يأتي به القرآن من باب الفصاحة
والبلاغة؛ ممثلاً على ذلك بما يترادف مع كلمة
الإنسان في القرآن، وهذا ما سيكون موضع تأمّل
وتدبّر. ولعلّ العلاّمة يكون موفقاً فيما خطه
من بيان لتوضيح حقيقة العلاقة بين هذه
المفردات لكونها تشكّل تعبيراً حيّاً عن حالات
الإنسان ومكنوناته، وإذا كان لنا ثمّة رأي،
فإنّنا سنعرض له في متون هذه الدراسة، علّنا
نوفّق إلى مزيد من الرؤية، وبالله التوفيق،
والحمد لله ربّ العالمين.
رأينا في تقديمنا لهذا المبحث أن آيات القلب
في القرآن نزلت في زمن لم يكن فيه الإنسان
منشغلاً بالقلب بما هو تعبير مادي موجود في
القفص الصدري، وإنّما كان مفهوماً لدى الإنسان
في زمن البعثة، وحيث نزل الوحي الإلهي، أن
القلب هو الحالة المعنوية التي جاء الوحي
لإثارتها، باعتبار أن القرآن حينما خاطب العرب
بالقلب ودعاهم إلى الإيمان، أراد أن يدلّل على
أن القلب هو مبدأ الأفعال ومرتكز حالات
الإنسان فيما يكون منه من إيمان وكفر، وحب
وبغض، وشعور وإدراك، ووعي واطمئنان، كما قال
تعالى: ﴿
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمَانِ ﴾
[4] . ويكفي أن نشير في هذا
السياق، تسويغاً لبحثنا، إلى أن البحوث
والدراسات التي تميّز بين المعرفة الحسّية
والمعرفة العقلية، هي إنما تلحظ هذا الجانب في
التمييز بين أن يكون الحس مقياساً للمعرفة، أو
أن يكون العقل والقلب هو المقياس الحقيقي لها،
ولهذا نجد أن أكثر البحوث العلمية قد أخفقت في
توضيح هذا المطلب، إذ وقع الكثير منها في
مصيدة الحس، ولم تُعِر اهتماماً إلى المعرفة
القلبية بما هي أساس للكشف والشهود.
إنّ المسوّغ الحقيقي لهذا البحث، هو ملاحظة
مصادر المعرفة التي عرض لها القرآن الكريم،
باعتبار أنه كتاب سماوي هادف إلى تبيان حقيقة
الرؤية الإنسانية الجامعة فيما يتعلق بمصادر
المعرفة الإنسانية، فهو لم يفرد القلب بهذه
المعرفة، وإنما أعطى الرؤية الإنسانية كل
أبعادها الحقيقية لجهة التأكيد على أن الإنسان
المؤمن لا تتكامل رؤيته الإنسانية إلاّ من
خلال البراهين والأدلة التي من شأن التوفر
عليها التأسيس لرؤية جامعة مستندة إلى العقل
والقلب معاً، وهذا ما يمكن لحاظه من آيات
القرآن الكريم، حيث نجد أنّ مئات الآيات تدعو
إلى التدبّر والوعي والتحقق بالتجربة في ضوء
التحولات الإنسانية.
وهنا تكمن أهمية هذا المبحث في أنواع القلوب
في القرآن، ذلك أن طبيعة البحث تتطلّب أن يكون
الباحث مستلهماً للأسس التي تبتني عليها
المعرفة الإنسانية من خلال القرآن الكريم، حيث
نجد أن القرآن قبل أن يدعو إلى المعرفة
الواقعية، يرشد الإنسان إلى حقيقة ما كان عليه
من ظلام وموت في قلبه وعقله قبل أن يُجعل له
نورٌ يمشي به في الناس، كما قال الله تعالى: ﴿
أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ
لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ...
﴾
[5] . فالظلمات هنا كانت ـ كما تظهر
الآية ـ في الحسّ والمعرفة والعقل والقلب،
فجاء الوحي والنبوة لإحياء الإنسان في نفسه
وروحه لتكون له رؤية جديدة، وتجربة جديدة
تخرجه عن كونه إنساناً حسيّاً ليكون إنسانياً
قلبياً عاقلاً ذا لبّ فيما يقوم به ويؤدّيه في
النظر والعمل معاً. ولهذا نجد القرآن الكريم
يؤسس لمعرفة تقوم على مصادر وسبل تهيّئ
للإنسان تحققات جديدة في العلم والعمل، ولا
شكّ في أن هذه المصادر فيما لو استند إليها
الإنسان، لا بدّ أن تؤدّي به إلى التكامل
المعرفي من خلال قلبه المطمئن، وليس من خلال
حواسه ومجموع أفعاله التي سبق له أن تحقق بها،
ولكنها لم تؤدِّ به إلاّ إلى مزيد من الظلام
والجاهلية... !؟
إنّ من جملة المسائل التي تسوّغ لنا البحث في
مجال الرؤية القلبية، هو ما اعتاده الباحثون
من استغراق في تشتيت مصادر المعرفة التي يعرض
لها القرآن الكريم، فهو رغم كل ما انطوى عليه
من آيات في مجال الرؤية القلبية على اختلاف
أنواعها، نجده يؤسس في آيات أخرى لدور الحس
والعقل والوحي والكشف، وغير ذلك مما يُظهر
جامعية لهذه المصادر في تحقيق المعرفة، هذا
فضلاً عما أسس له في مجال التحقق التاريخي،
وهذا ما ينبغي على الباحث تلمّسه في تناول
الجوانب المعرفية في القرآن، لأنه الكتاب
السماوي الموحي به في ضوء معرفة كاملة وتامة
في شأنيّة الإنسان الذي خلقه الله في أحسن
تقويم، ليكون على أحسن رؤية علمية تهديه إلى
الكمال في طريق كدحه إلى الله تعالى.
كما أن القرآن في ما عرض له من رؤية ومصادر
معرفية، يكشف لمن كان له قلب أن مرتكز كل
تحوّل، ومبدأ كل تحقّق، هو كامن في ذات
الإنسان، كما قال تعالى:
﴿ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ... ﴾
[6] .
ومن هنا تتأتّى لنا ضرورة إحياء الرؤية
القلبية لكونها المخاطب الأساسي في عملية
التغيير في النفس والواقع معاً، وهذا ما يمكن
الاهتداء إليه من خلال مئات الآيات القرآنية
التي تعرض لحالات القلوب وصفاتها، وتمايزاتها
فيما تكون عليه من موت ومرض وسلامة، وقد رأينا
كيف أن الباحثين في العلوم القرآنية قد أخطأوا
الهدف في كثير من بحوثهم في تناول حالات
القلوب، بين قائل بأنّ الحسّ والتجربة هما
مصدر حياة القلوب، وقائل بأن الوحي هو مصدر
الحياة لها. والحق يقال: إنّه لا مسوّغ لهذا
الاختلاف طالما عرفنا أن القرآن يؤسس لرؤية
معرفيّة كاملة مستندة إلى الرؤية القلبية فيما
تتحقق به هذه الرؤية من خلال إثارتها بالوحي
والعقل معاً، ويبقى على هذه القلوب أن تستجيب
لهذه الإثارة الهادية إلى سبل الكمال، وقد
بيّن القرآن هذه الحقيقة، مميزاً بين القلوب
في ضوء استجابتها، ولعل ما عرض له القرآن من
اختلاف وتباين في أوصاف القلوب وأنواعها، ناشئ
من كون هذه القلوب في تاريخ الإنسانية قد
تراوح أمرها بين أن تكون قلوب ميتة أعرضت عن
أمر ربها، وقلوب حيّة وسليمة استجابت لهذا
الأمر، وهناك قلوب أخرى تراوح أمرها أن تكون
مريضة قلقة مضطربة فيما يؤول إليه أمرها من
تحولات، وهذا ما أشارت إليه الآيات القرآنية
واصفة القلوب بالمرض تارةً، وبالكفر والنفاق
تارةً أخرى.
نعم، هناك الكثير من المسوّغات التي تحفّزنا
لتناول أنواع القلوب في القرآن بالبحث
والتدبّر، وقد رأينا أن نعرض لأنواع القلوب لا
بحسب أوصافها ومسمياتها في القرآن، وإنما بحسب
جامعية الآيات لها، مفردي القلب السليم لبحث
خاص، خلافاً لما اختاره كثير من الباحثين فيما
اعتمدوه من تقسيمات من خلال ما تعطيه كل آية
قرآنية من وصف.
فإذا كانت الآيات قد وصفت القلب بالمرض، أو
بالقسوة، أو بالضلال، أو بالزيغ، فذلك ليس من
شأنه أن يحدث التمايز في أوصاف القلوب، بل هو
قلب واحد، هو القلب المريض. وإذا كانت الآيات
قد وصفت القلب بأنه المهتدي، والمطمئن،
والمنيب، والوجل، والتقي، والحي. فهذا القلب
هو الموصوف بأنه القلب السليم في القرآن،
وكذلك ما جاء من آيات واصفة للقلب بأنه
المنكِر، والمتكبّر، والمطبوع عليه، والمقفل
إلى غير ذلك، فهذا القلب هو القلب الميت، وهذا
ما عزمنا على البحث فيه لاستخلاص النتائج
المرجوّة من بحثنا، وما توفيقي إلاّ بالله.
درجنا في بحوثنا السابقة على أن نصدّر كل بحث
قرآني بالإشارة إلى المسوّغات وإشكالية البحث
والمنهج على اعتبار أن هذه المقدمات هي مما
يحتاج إليه الباحث لتظهير رؤيته على النحو
الذي يؤدّي إلى توضيح المطالب، وتحقيق
الغايات. وبما أنّ إشكالية البحث هي الأساس في
كل بحث، فقد اخترنا، بحسب ما درجنا عليه، أن
يكون طرح الإشكالية المثارة في ضوء ما انتهت
إليه البحوث والدراسات في مجال الرؤية القلبية
في القرآن الكريم، إضافة إلى منهج البحث الذي
كان ولا يزال يشكّل الأساس والقاعدة لكل مبحث
علمي، وطالما أن دراستنا هذه تتناول أنواع
القلوب، فحريّ بنا أن نعرض لما نراه مجالاً
لإشكالية بحثية، فنقول: إنّ ما عرض له القرآن
من أنواع وأوصاف للقلوب، وفي سياقات متعددة لا
يمكن لحاظه إلاّ في سياق رؤية موضوعية شاملة
للآيات تأخذ بعين الاعتبار معنى أن يكون القلب
مكاناً لحقائق الإيمان، ومعنى أن يكون القلب
عقلاً، وبصيرة، وفؤاداً، إلى غير ذلك مما عرض
له القرآن من مفردات وأوصاف يتمايز القلب من
خلالها في إطار وحدة حقيقية أشار إليها
العلماء وأهل التفسير تحت عنوان إمارة القلب
وحاكميته، لا بما هو جزء من الإنسان، وإنما
بما هو روح الإنسان ونفسه التي خاطبها الوحي،
وجعلها أهلاً للخطاب، وموضوعاً للاهتمام
والتدبّر، كما قال تعالى: ﴿
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾
[7] .
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن إشكالية البحث هنا
لا تقتصر على طرح التساؤلات حول القلب والعقل،
وإنما تتجاوز ذلك إلى مناقشة جملة الآراء
والتأويلات التي ذهب إليها العلماء بخصوص
القلب ومكانته في تجلّي حقائق الإيمان، فضلاً
عمّا ذهبوا إليه في مجال الرؤية القلبية من
حيث كون هذه الرؤية تشكّل مصدراً للمعرفة عند
المؤمنين، ومجالاً للإضلال والزيغ والكفر
والنفاق عند الكافرين والمنافقين، باعتبار أن
القلب هو موضوع الخطاب، ومجال التدبّر
والمعرفة، وأن مَن يأتي الله تعالى، سواء في
الدنيا أم في الآخرة، يأتيه بهذا القلب بما هو
روح الإنسان وحقيقته التي في ضوئها يُثاب
الإنسان ويُعاقب، ولهذا قال الله تعالى: ﴿
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[8] .
إنّ حقيقة المناقشة للآراء، وكذلك حقيقة
الإشكالية تكمن هنا، أنّ الإنسان يتمايز عن
سواه بالرؤية القلبية الشاهدة على تحولات
الإنسان وتقلباته من حال إلى حال، وكما سنرى
لاحقاً، أن القلب إنّما سمّي قلباً لتقلبه،
وهذا يعني، فيما يعنيه، أن القلب بما هو رؤية
قلبية ـ معنوية، يختلف عمّا يعنيه العقل من
تفكّر وفهم ومعرفة، إذ يوجد عموم وخصوص بين
اللفظين، فهما يشتركان من الناحية الفكرية،
ولكن يبقى القلب مختصاً بالناحية الوجدانية.
ومن هنا، فإنّنا لا نستطيع أن نؤيّد الرأي
القائل بأنّ القلب هو العقل مستقلاً، وإلاّ
لصحّ القول بأن العقل هو القلب، وذلك نظراً
لكون القلب يبقى له التمايز في ما يتعلق
بالمشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية، وهذا
ما لا ينطبق على العقل. فالإشكال كامن هنا في
ضوء تعلق الخطاب بالقلب من حيث هو مبدأ لكل
الأفعال بما فيها فعل العقل.
وقد يصحّ القول: إن القلب بما هو لطيفة
ربّانية روحية، وإن كان لها تعلّق بالقلب
الجسماني، إلاّ أنها تبقى لطيفة لا يدرك كنهها
إلاّ الله تعالى، ويمكن للباحث أن يثير
الإشكالية على النحو الآتي: إنّ ما تنظر إليه
الآيات من كسب القلوب لم يرد مثله في مجال
العقول، بحيث يُقال: إنّ العقول تكسب، فالقلب
هو المأخوذ بالكسب، وليس العقل، كما قال
تعالى: ﴿
لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾
[9] ، فالآية ناظرة
إلى أن الكاسب والمكتسب هو الإنسان، تماماً
كقوله تعالى:
﴿ فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ ...
﴾
[10] ، إلى غير ذلك من الآيات التي
تنسب الكسب والآثم للقلب دون غيره.. وهنا يمكن
إثارة التساؤلات الآتية: لماذا أعطى القرآن
للقلب حيّزاً يخرجه عن كونه مجرّد لطيفة ذات
علاقة بدنية ليكون كاسباً للكفر والإيمان،
والحب والكراهية؟ أليس القلب هو المأخوذ
بالإيمان والكفر دون العقل؟؟
كما نسأل في مجال إثارة الإشكالية، لماذا لم
يعط العقل فيما لو كان يعني القلب حيّزاً
للكسب طالما يذهب بعضهم إلى تأويل القلب بأنه
العقل؟ وهل العقل غير المعرفة والفهم فيما
يؤديه من فعل ليس إلاّ؟
نعم، إن القرآن لم يأتِ بالعقل بصيغة الاسم،
أو المصدر، وإنما جاء به بالفعل، فقال: «أفلا
يعقلون»، «لعلكم تعقلون»، يهتدون، وكذلك قوله
تعالى: ﴿
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ
﴾
[11] .
أليس ما تقدم من أسئلة مرشداً إلى حقيقة
التمايز بين أن يكون القلب عقلاً، وبين أن
يكون العقل مجرّد فعل يقوم القلب بتوجيه حركته
باتجاه التفقه والمعرفة؟
إن القلب هو الموصوف بالكسب في الحياة، والعقل
هو الموصوف بالفعل، وما لم يمد القلب العقل،
فما لحياة العقل من أثر، لأن القلب هو مناط
التحقق الإنساني في صياغة الفعل الإيماني لكون
العقل مجرد أداء وظيفي والفعل هو الأثر الوحيد
الذي يدلّل على العمل، وهذا ما تنظر إليه
الآيات القرآنية لتؤكد على المعنى القلبي
للحياة الإنسانية في دائرة الإيمان والعمل
الصالح، وكما بينّا أن هذا القلب لا يعني سوى
الإنسان الذي يؤخذ بكسبه وإثمه وسلامة قلبه،
ولهذا نجد القرآن يؤسّس لهذه اللطيفة في سياق
رؤية متكاملة تبدأ من خلق الإنسان بما هو
مفطور على الإيمان، وتنتهي بالرجوع إلى الله
بالقلب، سواء القلب المريض أم القلب الميت أم
القلب السليم ليكون له جزاؤه وفق أعماله.
لذا، فإن ما نودّ التركيز عليه في إطار
إشكالية البحث هو التأكيد على الرؤية القلبية
بما هي أساس ومستودع وموطن لأفعال الإنسان
فيما يكون لها من آثار مادية وروحية في حركة
الإنسان باتجاه الدنيا والآخرة. وقد بيّن
القرآن هذا المعنى في آيات الأفئدة والصدور،
وغير ذلك مما اختلفت مفرداته واجتمعت معانيه،
وهذا ما لم يهتدِ إليه الباحثون في المجال
القرآني، حيث إنّهم اكتفوا بالإشارة إلى أن
القلب هو العقل، ساهين عن حقيقة الإشكالية
فيما طرحوه من وحدة المفردات القرآنية، رغم أن
أهل البيت قد أشاروا إلى أن العقل المطبوع ليس
شيئاً غير القلب المعنوي، بما هو فطرة إنسانية
أودعها الله تعالى في صدر الإنسان لتكون
دليلاً له إلى الإيمان وسبيلاً للفوز بالجنان،
على نحو ما سنرى في بحوثنا اللاحقة إن شاء
الله تعالى.
فالقرآن الكريم أشار في آياته إلى تشابه
القلوب وليس إلى تشابه العقول، حيث قال تعالى:
﴿
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ...
﴾
[12] ، ما يؤكّد لنا معنى التجلّي
القلبي في حركة الإنسان، بل في مجال العقل
والفهم والمعرفة، فالناس قد يتشابهون في
قلوبهم من حيث الأثر وتلقي الخطاب الإلهي، وهم
في ضوئه تكون لهم الحالات المختلفة، أو
المتشابهة، وهذا ما لا يكون مجالاً للعقل ولا
مورداً له، لأنّ القلب هو ملاك التحقق
الإنساني، سواء في مجال الكفر أم في مجال
الإيمان أم في مجال التحققات الخارجية لأفعال
الإنسان.
لا شكّ في أن منهج البحث يختلف باختلاف
المواضيع والعلوم، إذ لكل علم منهجه الخاص به،
وما نحن بصدد البحث فيه هو بحث قرآني يتعلّق
بموضوع القلب في القرآن وأنواعه وأوصافه، حيث
رأينا في التقديم والمسوّغات والإشكالية أن
هذا الموضوع مما طرق أبوابه الكثير من العلماء
والمفسرين، ويمكن لنا بالاستناد إلى ما خلصوا
إليه أن نضيف شيئاً جديداً، أو أن نعيد صياغة
المواقف والنظريات بما يتيح لنا إضافات جديدة
في هذا الموضوع.
ونظراً لكون منهج البحث هو الأساس والقاعدة
التي لا بدّ من تحديدها وفق ما هو مألوف
ومتعارف لدى الباحثين، فقد اخترنا المنهج الذي
يلائم طبيعة هذا الموضوع، لكونه يتعلق بعلوم
القرآن والسنّة، وهو المنهج الموضوعي الذي
يصنف الآيات حسب الموضوعات ويحلّلها وفق رؤية
قرآنية شاملة، وهذا يستدعي أن يتوفّر الباحث
على إحاطة تامّة بموضوع البحث تؤهّله من خلال
قواعد عامة وحقائق للخلوص إلى النتائج
المتوخّاة من بحثه
[13] ، لأنّ أصول البحث
تفترض مسبقاً أن يكون الباحث على وعي وإدراك
بجملة القواعد التي يحتاج إليها البحث، وقد
بيّن الفضلي هذا المعنى فيما عرض له في الرؤية
العامة للمنهج الأصولي، حيث رأى أن المناهج
تتعدّد بعدد الحقول المعرفية وأنواع العلوم،
كما في الأصول والفقه...
[14] .
لقد سبق لنا أن اعتمدنا في بحوثنا القرآنية
السالفة، سواء في مبحث الوعد والوعيد
[15] ،
أم في مبحث الفوز والخسران
[16] ، أم في مبحث
علوم القرآن
[17] ، أم في مبحث حوار الأديان
في القرآن
[18] ، وغيرها من المباحث أن أسّسنا
لهذا المنهج على أنه الطريقة الواضحة،
والمنظمة في التعامل مع الحقائق والمفاهيم،
وهذه الطريقة حينما تتعلق بالنصوص القرآنية،
فإنها تصبح أكثر دقّة، وأعمق رؤية، لكون
القرآن وما انطوى عليه من حقائق ومفاهيم لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا
ما يحتّم على الباحث أن يكون أكثر وضوحاً
وتنظيماً فيما يروم بحثه، وفي موضوعنا هذا
المتعلق بالقلب في القرآن، نرى أن المنهج
ذاته، بما يعنيه من تحليل ومقارنة، وإعادة
ترتيب للنصوص وفق رؤية موضوعية هو الملائم
لهذا البحث، على اعتبار أن المنهج، كما سلف
القول، هو طريقة وأسلوب للكشف عن الحقيقة حين
نكون بها جاهلين، أو من أجل البرهنة عليها
للآخرين حينما نكون بها عارفين، وكما يقول
بعلبكي في قاموس المورد: «هناك نوعان من
المنهج: أحدهما للكشف عن الحقيقة ويسمّى
التحليل، والآخر وهو الخاص بتعليمها للآخرين
بعد أن نكون قد اكتشفناها ويسمى بالتركيب، أو
منهج التأليف..»
[19] .
إنّ مبحثنا هذا يتعلق بالقلب الإنساني وما
أفرد له من خصوصية في كتاب الله تعالى، وهذا
يقتضي منّا أن نكون على بيّنة مما يريد الله
تعالى أن نكون على علم ومعرفة به، وبما أن
القرآن يهدي للتي هي أقوم، كما قال تعالى: ﴿
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ ... ﴾
[20] ، فإنّ
معنى ذلك أنّ القرآن يهدي إلى المنهجية
القويمة في تناول حقائق ومفاهيم وتصورات
القرآن الكريم، باعتبار أن القرآن يفسّر بعضه
بعضاً ويشهد بعضه على بعض، كما في الرواية عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
[21] .
لذا، فإنّ معنى المنهج في بحثنا هذا أن يكون
لنا مرتكزات وقواعد في القرآن الكريم، نرتكز
إليها في تبيان حقيقة الموقف، أو النظرية في
مجال بحثنا عن القلب، وهنا تجدر الإشارة إلى
أن الباحث في أي علم من العلوم، سواء في
العلوم النظرية أم في العلوم التطبيقية
التجريبية، لا يسعه إلاّ أن تكون لديه قواعد
عامة يرتكز إليها، وطالما أن المنهج هو الذي
يحدّد وجهة الباحث وخطاه في الطريق إلى
استخلاص النتائج، فذلك يحتّم وضوح الرؤية لدى
الباحث، وكلما كان منهجه واضحاً كلما كانت
رؤيته قادرة على ملامسة موضوع بحثه بشكل سليم،
ويمكن التمثيل على ذلك بمنهجية المؤرخ الذي
يرتكز في منهجه التاريخي على النصوص والوثائق
التي هي مادة التاريخ تؤهله للخلوص إلى نتائج
واضحة ومحددة فيما يريد البحث فيه. وبما أن
الباحث في العلوم القرآنية يحتاج إلى نصوص
ومواد للبحث، فلا يمكنه إلاّ أن يرتكز إلى
نصوص القرآن وآياته لاستكشاف حقيقة الرؤية
والموقف الإسلامي إزاء ما يروم البحث فيه،
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه شتّان ما بين نصوص
ومواد يعتمدها الباحث من خارج القرآن والتي قد
يخالطها الشك والكذب والتحريف، وبين النصوص
والمواد القرآنية التي لا يأتيها الباطل من
جهة، حتى إن المؤرخ نفسه على فرض أنه أراد أن
يبحث في التاريخ الإسلامي، يبقى بحاجة إلى هذه
النصوص لكون القرآن هو أفضل مؤرّخ تماماً كما
هو أفضل مقنّن على حدّ تعبير العلاّمة
الشيرازي في نفحات القرآن...
[22] .
إذاً، المنهج هو الذي يحدّد للباحث ملامح
البحث ليكون أكثر علمية في بحثه وفق القواعد
العامة التي يرتكز إليها، ويكفي أن نشير هنا
إلى أن المنهج التحليلي في تناول النصوص
القرآنية لا يمكن التأسيس له إلاّ في نطاق
النصوص القرآنية ذاتها، وهذا ما يحتّم على
الباحث أن يكون قادراً على تناول الموضوع
المراد بحثه وفق رؤية موضوعية تختلف عمّا
اعتاد عليه الباحثون في التفسير التجزيئي
للقرآن، وخاصة في موضوع هو بأهمية أنواع
القلوب في القرآن، ذلك أن هذا الموضوع يمكن
جمع آياته وضمّ بعضها إلى بعض دونما استغراق
في التأويل والتفسير لكون هذا الموضوع له
مفاهيمه وحقائقه في القرآن؛ وباستطاعة الباحث
أن يوفّر لنفسه المادة الجامعة لهذا الموضوع
من خلال الاسترشاد بآيات أخرى لم تأتِ على
مفردة القلب بشكل واضح، وإنما يُستفاد منها
المعنى القلبي والرؤية القلبية، باعتبار أنه
ليس بالإمكان أن يكتفي الباحث بالإشارة إلى
آيات القلب، واستثناء آيات من قبيل: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
[23] وغيرها من الآيات
التي تتحدّث عن الصدور والأفئدة، والعقول،
والحواس وغير ذلك مما يوجب على الباحث التأسيس
لرؤية جامعة وفق الرؤية الموضوعية التي تلامس
كل حقائق القرآن في الموضوع المعيّن، فإذا كان
المنهج الترتيبي ينطوي على فوائد جمّة في
استخلاص العبر والنتائج، فإنّ المنهج
الموضوعي، أو لنقل الاتجاه الموضوعي، ليس من
الضروري أن يؤدّي إلى النتائج المرجوّة فيما
لو استند فيه إلى النص ذاته دون اعتبار
للتجربة وأسباب النزول، لأنّ تراكم التجربة
الإنسانية، وحقائق العلوم ليست بعيدة عن حقائق
القرآن، وبالتالي، فإنّه من غير الصائب أن
يلجأ الباحث إلى الرؤية الموضوعية بالتركيز
على الاهتمام بالآيات ذات المعنى الخاص
والمفردة الخاصة بموضوع البحث الذي هو القلب،
وإنّما هو يحتاج مع ذلك إلى استكشاف ملامح
الرؤية القرآنية من آيات أخرى تؤدّي إلى
الموضوع ذاته، وهذا ما خلصت إليه البحوث
الإسلامية بتأكيدها على أن التفسير الموضوعي
يختلف بين أن يكون مستنداً إلى جمع الآيات في
موضوع واحد، وبين أن يأتي تصنيف الآيات حسب ما
ورد فيها من البحوث والموضوعات، وهذا ما
لخّصته جمعية القرآن الكريم في بحثها القيّم
عن مناهج التفسير
[24] ، حيث كشفت عن أن مناهج
المفسرين لا تزال في طور الاكتشاف للحقائق
القرآنية، وقد سبق لصاحب بحار الأنوار
العلاّمة المجلسي أن أسّس لهذا التفسير، وجاء
من بعده علماء كثر سلكوا المسلك ذاته وكان لكل
منهم منهجه في تناول المواضيع القرآنية، وكانت
خلاصة المباحث عند الشهيد محمد باقر الصدر في
بحثه القيّم في المدرسة القرآنية، ولا تزال
المباحث تتوالى لتؤكّد على أن أي منهج لا يفي
باستخراج الحقيقة الكاملة، لأنّ المنهج هنا
يتعامل مع حقيقة مطلقة هي النص القرآني
[25] ،
ولكن يمكن للباحث أن يؤسس لرؤية تكشف عن جانب
من الحقيقة ليأتي من بعده مَن يكشف عن جانب
آخر، فهذا صاحب البحار استخرج الآيات حسب
الموضوعات، وجاء العلاّمة الصدر ليظهر النصوص
في ضوء تراكم التجارب الإنسانية، وهو ما أسماه
بالاتجاه التوحيدي في قراءة النص، وتابع هذا
المنهج العلاّمة السبحاني في مفاهيم القرآن
[26] ، والعلاّمة الشيرازي في نفحات القرآن
[27] ، وغيرهم كثير من الباحثين الذين أجادوا
في بحوث القرآن، وخاصة فيما يتعلّق بالعلوم
الإنسانية....
لقد أردنا في كلمتنا عن المنهج في موضوع بحثنا
أن نكشف عن رؤية في تحليل النصوص ترتكز إلى
النصوص القرآنية وتأخذ بعين الاعتبار القواعد
والمفاهيم العامة التي تحتاج إليها في التحليل
والتركيب والتأليف، لكون القرآن في مجال موضوع
القلب قد أوضح في مئات الآيات القرآنية بأن
للقلب دخالة عظمى في الحياة والموت، وفي الكفر
والإيمان والحب والبغض، وغير ذلك مما يتعلق
بالرؤية القلبية التي هي أساس كل معرفة وعلم
وبصيرة بحقائق الأمور، وما تأكيد الروايات
الإسلامية على حقائق الإيمان التي مقرّها
القلب إلاّ خير دليل على أن الفطرة التي فطر
عليها الإنسان هي ما تشير إليه الآيات
القرآنية فضلاً عمّا أشارت إليه آيات أخرى من
كون القلب الإنساني هو الروح والنفس والعقل
وكل ما يعيشه الإنسان في حياته من حواس ومعارف
كلها تصوّب في ضوء حياة القلب وموته، لا بما
هو قلب مادي، وإنما بما هو قلب معنوي جعله
الله تعالى مصدراً للحياة، وسبباً لكل إدراك
وشعور... إنه القلب الذي أشير إليه بالمضغة
التي في صدر الإنسان، فهي إن فسدت فسد
الإنسان، وإن صلحت صلح الإنسان، وهناك الكثير
من الحقائق التي تتعلق بهذا القلب من حيث كونه
موضوعاً للخطاب الإلهي، وهدفاً للوحي، ومصدراً
لكل فوز أو خسران في الدنيا والآخرة، حيث قال
الله تعالى: ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ ﴾
[28] . هذا فضلاً عمّا
بيّنته الآيات المباركة من ضيق للقلب، سواء في
الدنيا أم في الآخرة، حيث قال الله تعالى في
الحياة: ﴿
إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ﴾
[29] . وقال
الله تعالى في الآخرة: ﴿
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ
الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ
يُطَاعُ ﴾
[30] .
ويبقى السؤال: هل نتدبّر بقوله تعالى فيما
اختلف التعبير فيه، بين قوله تعالى:
﴿ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ﴾
، وبين قوله: ﴿
إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ﴾ ؟ فلماذا اختلف الاستعمال بين
ما هو في الدنيا وما هو في الآخرة؟ أليس في
قوله تعالى ما يُفيد اختلاف المعنى والمفهوم؟
طالما أن الأرواح قد بلغت الحناجر. إنّه موضوع
للتأمّل والتدبّر.
اعتاد الباحثون في التأسيس لبحوثهم على إعطاء
نظرة شاملة، ورؤية عامة حول ما يرومون بحثه،
وكان من جملة هذه التأسيسات أن يأتوا على
تعريفات خاصة بمفردات البحث، وهذا الأمر أكثر
ما ظهر في البحوث الإسلامية والقرآنية على وجه
التحديد، لكون هذه البحوث تحتاج إلى إحاطة
بعلوم اللغة العربية والبلاغة، وغير ذلك مما
لا يمكن الاستغناء عنه في البحوث الإسلامية،
وطالما أن موضوع البحث هنا هو القلب في القرآن
الكريم، فإننا نرى لزاماً علينا أن نقدّم في
مطلع هذا البحث ما يحتاج إليه من تعريف، سواء
من حيث اللغة أم من حيث الاصطلاح أم من حيث ما
يعنيه المفهوم بحدّ ذاته، ذلك أن القرآن فيما
ينطوي عليه من مفاهيم وحقائق، هو يؤسس لمفهوم
مطلق في حركة الإنسان في الزمان والمكان
والتاريخ، ولهذا، نجد من الباحثين مَن اختار
إعادة البحث في خارطة المفاهيم القرآنية،
داعياً إلى إعادة بناء المفاهيم في ضوء رؤية
قرآنية تكون بمثابة المرجعية لكل مفهوم.
يقول الدكتور السيد محمد: «إنّ على رأس مسببات
وهن الأمة الراهن، تقف المفاهيم السائدة التي
هي في جملتها مفخخة ومسكونة بانحرافات كامنة
نابعة من مثالب في الفكر الإسلامي تكرّست في
عصور إعداد الحواشي على المتون، والحواشي على
الحواشي، والفقه التصوّري المنقطع عن الواقع
المعاش...»
[31] .
إنّ من ضروريات كل بحث علمي أن يتأسّس له في
ضوء رؤية قرآنية كاشفة تبدأ من المعرفة بحقيقة
اللغة، وتنتهي بالتأكيد على المفهوم القرآني
من حيث هو مفهوم ثابت في الزمان والمكان
والتاريخ، لأنّ القرآن كما جاء في الروايات
الإسلامية يجري كما تجري الشمس والقمر
[32] .
وانطلاقاً من ذلك، نرى أن كثيراً من الباحثين
قد التبس عليهم المفهوم القرآني، فأعطوه
أبعاداً لا ينطوي عليها، وأكثر ما تجلّى هذا
الالتباس في المفهوم السياسي، فقالوا إنّ
الإسلام لا يتضمّن نظرية في الدولة، أو إن
الإسلام ترك للأمة حريّة أن تختار ما تشاء في
الرؤية السياسية، وفي المفهوم السياسي، إلى
غير ذلك مما التبس فيه من مفاهيم قرآنية،
وخاصة في مجال الموضوعات ذات البعد العقائدي
والإنساني والاجتماعي، فضلاً عن السياسي، الذي
أشار القرآن إلى حقيقة الالتباس فيه فيما عرض
له في مواطن عديدة من قبيل الإشارة إلى
التلاعب بمفاهيم الإصلاح والفساد من قبل
الطواغيت حيث ادّعى فرعون في أحدها أنّ موسى
مفسد في الأرض، وأن فرعون يهدي قومه سبيل
الرشاد، كما قال الله تعالى: ﴿
إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ
أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾
[33] ، إلى
غير ذلك من المفاهيم الملتبسة التي اعتاد
عليها البشر في تاريخهم الإنساني، وهذا ما
شهدته التجربة الإسلامية أيضاً لجهة تحريف
المفاهيم العقائدية والسياسية في عهد الحكام
والطواغيت الذين تعاقبوا على حكم المسلمين بعد
وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
نعم، إن هناك خلطاً كبيراً بين المفاهيم،
ويبقى الباحث في تصدير بحوثه بحاجة إلى
التعريف اللغوي والاصطلاحي، ليُجلي حقيقة
المفهوم الإسلامي في أي موضوع من الموضوعات.
وبما أن موضوع بحثنا هو القلب في القرآن
الكريم، فإنّنا نحتاج إلى تبيان حقيقة الخلط
في هذا المفهوم، إذ لم يوفق الكثير من
الباحثين إلى فهم حقيقة ما عرض له القرآن
الكريم من مفردات حول القلب والعقل واللب
والروح والنفس والنُّهى، والصدر، خالطين بين
ما هو مصدر للمعرفة، وأساس لوضوح المعنى
والمفهوم، وبين ما هو مهمة ووظيفة لهذه
المفردات التي جاءت في سياقات متعددة لتفيد
دلالات مختلفة، هذا إضافة إلى ما زعمه بعض
الباحثين من ترادف للكلمات في القرآن الكريم.
رغم أنه لا ترادف للكلمات في ضوء دلالة
السياق، وخاصة في القرآن الكريم، الذي أبى
كثير من الباحثين إلاّ التعامل مع هذه
المفردات بما تعنيه حصرية اللغة دلالة، فهم
يأخذون المعنى اللغوي على أنه حاكم على النص،
في حين إن النصّ والقرآن هما الحاكمان على
اللغة، وهي إنما تصحّح في ضوء ما جاء به
القرآن وليس القرآن هو الذي يصحّح بها، بمعنى
أن القرآن هو الحجّة على أهل اللغة وليس
العكس.
وكيف كان، فإن الهدف من هذا التقديم، هو
التأسيس لرؤية في معنى القلب والعقل والروح
والنفس... وغيرها مما انطوى عليه القرآن من
مفردات تتمايز في ضوء دلالة السياق القرآني.
وبما أن القلب والقلوب قد وردت في أكثر من مئة
واثنتين وعشرين آية قرآنية (122) ، ويمكن لأي
باحث متدبّر أن يلحظ هذه الآيات في سياقاتها
لنجد أن القلب ليس هو العقل، أو الفؤاد، أو
اللبّ، أو الصدر، وإن كانت اللغة قد أعطت
القلب بعد العقل أو العكس، فإنّ لكل مفردة من
هذه المفردات دلالاتها الخاصة بها، وهذه
الدلالات يمكن تظهيرها من خلال اللغة أيضاً،
على اعتبار أن العقل مثلاً لم يأتِ اسماً ولا
مصدراً في القرآن، بل جاء بصيغة الفعل، وهنا
السؤال، هل توقف الباحث عند هذه الدلالة
مثلاً؟؟
فالقرآن الكريم، لم يقل في آية من آياته «إنّ
في ذلك لعبرة لأولي العقول» وإنما قال: ﴿
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ ﴾
[34] ، كما أنّ القرآن لم
يقل إنّ الله يحول بين الإنسان وعقله، بل قال:
﴿ أَنَّ
اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
، وهناك أمثلة كثيرة تجعل الباحث حيراناً فيما
تنطوي عليه هذه المفردات من دلالات مختلفة...
غاية القول: إنّ مفهوم القلب في القرآن الكريم
يحتاج البحث فيه إلى إحاطة شاملة في دلالة
اللغة، وفي دلالة السياق، ونحن لا نزعم أننا
نستطيع تظهير الحقيقة كاملة في بحثنا هذا،
وإنما نقوم بمحاولة لعلّنا نوفّق إلى مزيد من
الرؤية والكشف في مجال الحقائق القرآنية، كما
أننا نحاول في هذا المبحث التأكيد على أن
البحوث القرآنية لا بدّ أن تتكامل فيما تنتهي
إليه من نتائج فيما لو خلصت النوايا، واطمأنّت
القلوب، ونسأل العليّ القدير أن يوفقنا في
بحثنا هذا إلى مزيد من الوضوح في الرؤية
القرآنية، وبالله التوفيق وبه نستعين.
قال ابن منظور: «القلب: تحويل الشيء عن وجهه.
قَلَبَهُ يَقلِبُهُ قلباً، وقَلبَ الشيء،
وقلّبه: حوّله ظهراً لبطن. وتقَلَّبَ الشيءُ
ظهراً لبطن، كالحية تتقلّب على الرمضاء،
وقلبتُ الشيءَ فانقلب أي انكَبَّ، والقلب
أيضاً: صَرْفُكَ إنساناً، تقلِبُهُ عن وجهه
الذي يريده، وقلّب الأمور: بحثها ونظر في
عواقبها، وفي التنزيل العزيز: ﴿
وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُور ﴾
[35] ، وتقلَّبَ في الأمور
وفي البلاد: تصرّف فيها كيف شاء، وفي التنزيل
العزيز: ﴿
فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلَادِ
﴾
[36]
، معناه: فلا يغررك سلامتهم
في تصرّفهم فيها، فإنّ عاقبة أمرهم الهلاك،
وقال تعالى:
﴿
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ
﴾
[37] ،
قال الزَّجَّاج :معناه ترجُفُ
وتخِفُّ من الجزع والخوف.. والقلب: مضغة من
الفؤاد معلقة بالنياط، والقلب هو الفؤاد عن
ابن سيدة، والجمع: أقلُب وقلوب.... وقد يعبر
بالقلب عن العقل، كما في قوله تعالى: ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ ... ﴾
[38]
، أي عقل، وقال آخرون: أي تفهّم وتدبّر، وروي عن
النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
«أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوباً، وألين
أفئدة... ، فوصف القلوب بالرقة، والأفئدة
باللين، وكأن القلب أخصُّ من الفؤاد في
الاستعمال، ولذلك قالوا: أصَبْتُ حبَّةَ
قلبِه، وسويداءَ قلبِه... وقيل أيضاً: القلوب
والأفئدة قريبان من السواء، وكرّر ذكرهما
لاختلاف اللفظين تأكيداً... وروي عن النبي(صلى
الله عليه وآله وسلم) قوله: «سبحان مقّلب
القلوب»، وقال الله تعالى: ﴿
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾
[39] .« ومن القلب أيضاً:
القُلاب، داء يأخذ البعير، والانقلاب إلى الله
عز وجل: المصير إليه والتحوُّل وقد قلبه الله
إليه، [ كما في قوله تعالى: ﴿
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم ... ﴾
[40] ] ، وقال أبو
ثروان أقلبكم الله مقلب أوليائه، فقال الله
تعالى:
﴿ أَيَّ
مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
﴾
[41] ، أي الرجوع إلى الله تعالى ومصير
العباد إلى الآخرة....»
[42] .
وجاء في المعجم الوسيط في معنى الانقلاب أيضاً
أنه «تحول الشيء عن وجهه، وجعل أعلاه أسفله أو
يمينه شماله أو باطنه ظاهره، ويُقال: قلب
الأمر ظهراً لبطن: اختبره، وقلب التاجر
السلعة، تبصّرها. ويقال: قلّب الشيء: مبالغة
في قلب، وتقلّب في الأمور: تصرّف فيها كيف
شاء... والانقلاب: تحول الشيئ عن وجهه، وتغيير
مفاجئ في نظام الحكم...، ويقال أيضاً: قلب كل
شيء: وسطُهُ ولبّه ومحضه...»
[43] .
وقال الراغب الأصفهاني في المعجم: «قلب الشيء:
تصريفُهُ وصرفه عن وجه إلى وجه، كقلب الثوب،
وقلب الإنسان: أي صَرَفَهُ عن طريقته،
والانقلاب: الانصراف... وقلب الإنسان: قيل
سُمّي به لكثرة تقلّبه، ويعبَّر بالقلب عن
المعاني التي تختصّ به من الروح والعلم
والشجاعة... وقوله تعالى : ﴿
وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ ﴾ قيل :العقل، وقيل:
الروح ، فأما العقل فلا يصحّ عليه ذلك، قال
ومجازه مجاز قوله تعالى: ﴿
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾
[44]
والأنهار لا تجري
وإنما تجري المياه التي فيها، وهكذا الحال في
معنى عمى القلوب كما في قوله تعالى: ﴿
وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ ﴾
[45] . ومنه قوله
تعالى: ﴿
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ
﴾
[46]
[47]
فهذا كله يُفيد ـ عند
الراغب ـ معنى الروح وليس العقل إلاّ فيما
يعنيه من علم وفهم. أما القلوب في حالات الخوف
والرجاء والاطمئنان، فهي تفيد المعاني والثبات
والزوال بما هي أمور معنوية ليس إلاّ....
لقد لخّص العلاّمة ناصر مكارم الشيرازي
الشيرازي ما ذهب إليه أهل اللغة في معنى
القلب، فقال: «إن القلب ـ كما جاء في القاموس
والمفردات للراغب، وكتاب العين، ولسان العرب ـ
في الأصل يعني تغيّر الشيء وتحوّله، وغالباً
ما يستعمل بمعنيين، فتارة يطلق على العضو الذي
يتكفّل بضخّ الدم إلى جميع أعضاء البدن، وتارة
أخرى يُستعمل ويُراد به الروح والعقل والعلم
والفهم والشعور، وجاء هذا الإطلاق من حيث إن
القلب الجسماني والقلب الروحاني في حركة
وتغيّر مستمرّين، وكما يقول أهل اللغة:
ما سمي القلب إلاّ من تقلّبه
والرأي يصرف بالإنسان وأطوارا
كما أنّ كلمة «قلب»، تطلق على مركز كل شيء،
مثل: قلب العسكر،لأن القلب مركز جسم وروح
الإنسان، وقد جاء في تاج العروس أن خالص كل
شيء يقال له «قلب»
[48] .
نلاحظ، مما تقدّم، أن كلمات أهل اللغة تكاد
تجمع على أن القلب في تحوّله وتقلّبه ليس
شيئاً مادياً، وإنّما هو فهم وتدبّر وعقل وعلم
وشعور وإدراك، يتقلّب من حال إلى حال، ومن وجه
إلى آخر، من حيث كونه المركز والقلب والباطن
واللبّ لكل شيء، وهو بهذا المعنى لا يتجزّأ
بتجزّأ الحالات والأدوات، بل هو وحدة حقيقية
أجمع العلماء على القول بأن كنه هذه الوحدة لا
يعلمه إلاّ الله تعالى، واكتفوا بالقول: إنها
روح الإنسان ونفسه التي تشكّل وحدةً حقيقية
ومبدأ لكل الأفعال التي يأتيها الإنسان، وتكون
سبباً في تحوله وانصرافه وتقلّبه، كما تكون
سبباً في خوفه ورجائه، يقول الطباطبائي (قده) :
«إنّ القلب ـ العضو المعروف ـ يستعمل كثيراً
في القرآن الكريم في الأمر الذي يدرك به
الإنسان ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب
والبغض والخوف والرجاء والتمنّي والقلق ونحو
ذلك. فالقلب هو الذي يقضي ويحكم؛ وهو الذي يحب
شيئاً ويبغض آخر، وهو الذي يخاف ويرجو ويتمنّى
ويسرّ ويحزن، وهو في الحقيقة النفس الإنسانية
تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف
الباطنة...»
[49] .
إنّ ما أشرنا له في تمهيد الفصل، هدفنا من
خلاله إلى تبيان حقيقة أن أهل اللغة يأخذون
المفردة اللغوية، ويتعرّفون إلى حقيقة
اشتقاقاتها، وما تنصرف إليه من معاني ودلالات،
فلم يكن من عملهم ومهاماتهم أن يؤسّسوا لحقيقة
المفردة بذكر وجوه المقارنات، أو ما تعنيه في
سياقات الكلام، بل اكتفوا بالتدليل عليها من
خلال الألفاظ وما يكون لها من معانٍ وتشعّبات
في سياق الدلالة الخاصة، بدليل أننا لم نجد
ابن منظور مثلاً يعقد فصلاً، أو يطرح رؤية في
اللغة لتوضيح حقيقة الفرق بين القلب والفؤاد،
فنراه مثلاً يأتي بحديث الرسول(صلى الله عليه
وآله وسلم) عن أهل اليمن، ليخلص إلى القول بأن
القلب أخصّ من الفؤاد في الاستعمال، ثم يخلص
إلى القول بأنه ربّما يكون النبي(صلى الله
عليه وآله وسلم) قد وزّع الأوصاف بين رقّة
القلب ولين الفؤاد على سبيل الترادف والتنويع
في الكلام لا على سبيل الافتراق. وهناك من
العلماء من رأى أن الفؤاد كالقلب، لكن يقال له
فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤّد أي التوقد،
إذ يقال فأدت اللحم، شويته، ولحم فئيد: بمعنى
مشوي...
لا شكّ في أنّ هذا الكلام لا يمكن قبوله أو
الأخذ به طالما أن أهل اللغة قد اعتبروا
القرآن حجّة عليهم، فهم بلحاظ كونهم يتحدثون
عن القلب في ما يعنيه لغة، فلا يسعهم مع ذلك
إلاّ أن يلحظوا حقيقة الفرق بين القلب
والفؤاد، ذلك أن القرآن لم يتحدث عن المفردتين
ـ القلب والفؤاد ـ في سياق واحد، ولا على سبيل
التنويع والترادف في الكلام لما سبق قوله من
أنه لا ترادف في القرآن من حيث الرؤية والوضوح
والنضج والكمال، وإن كان له معنى من حيث
الأصل. فالتفرقة بين الكلمات المترادفة إنما
تكون في كمال الوضوح، وإذا صحّ أن الكلام جاء
على سبيل الترادف، فإنّ ذلك يحتّم على أهل
اللغة أن يلحظوا حقيقة التمايز في النتائج
والمؤديات، على اعتبار أن أهل اللغة، وليس
غيرهم، هم الذين أشاروا إلى معنى التوقد في
معنى التفؤّد، لأن «فأد» على وزن وَعْد وتعني
الزيادة في الإنارة واللمعان
[50] .
وفي الأصل معناه وضع الخبز على الرماد، أو
الحصى الحارّة، كي يخبز جيداً، كما يطلق على
طبخ وشوي اللحم، وهذا ما يفترض على أهل اللغة
ملاحظته لإظهار حقيقة التفرقة والتمايز في
المؤديات والنتائج والآثار، سواء على مستوى
الباطن أم على مستوى الظاهر، وبما أن القرآن
حجّة على أهل اللغة، فلننظر إلى قوله تعالى: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
[51] ، فهو لم يكذّب
ما رأى لكونه توَقّد لدرجة من النورية جعلته
على قاب قوسين أو أدنى من حضرة القدس، فلو قال
ما كذب القلب ما رأى، لكان للكلام مفاد آخر،
ولكنه جاء بكلمة الفؤاد الذي هو أعلى درجة من
العقل
[52] ، وهذا ما يؤكّد لنا عدم استقامة
الرأي القائل بالتسوية بين القلب والفؤاد،
ويكفي تدليلاً على ذلك ما أتى به القرآن حول
الفؤاد والأفئدة، كما في قوله تعالى:
﴿ وَجَعَلَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
﴾
[53] ، وغيرها من الآيات التي
تميّز بين القلب والفؤاد، إذ إنّ لكل مفردة
دلالاتها الخاصة وسياقها الخاص، الذي تدلّل من
خلاله على حقيقة التمايز وتحقق التفرقة على
مستوى الكمال في النضج والرؤية القلبية، وهذا
ما لحظه العلاّمة الغزالي في رسائله حول
البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة، فهو
يرى بأنّ هذه أسماء مترادفة على معنى واحد،
وإنما تحصل التفرقة في كمال النضوج لا في
أصله، فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور
العين من العين، والمعرفة من البصيرة منزلة
قرص الشمس لنور العين فتدرك بذلك الجليات
والخفيات ...
[54] .
نخلص إلى القول بأنه لا بدّ من تحكيم دلالة
السياق في القرآن الكريم لإدراك حقيقة المعاني
والدلالات، لأنّ ذلك كفيل بتوضيح المفاهيم،
فلا تكون موضع التباس عند الباحثين في العلوم
الإسلامية، باعتبار أن القرآن نصّ مطلق ولا
تعوزه المفردات، ولا تكرّر فيه الآيات لمجرّد
التكرار، بل يضع كل مفردة في مكانها، ويعطيها
مدلولها الخاص لتكون موضع تدبّر واستلهام،
بحيث تمكّن الباحث من إدراك الدلالة الحقيقية،
والمفهوم الحقيقي لكل مفردة، إمّا من خلال
دلالة السياق، وإمّا من خلال دلالة النص، وهذا
ما التبس أمره على كثير من الباحثين حينما
ذهبوا إلى القول بالترادف والتنويع جهلاً
بمواقع المفردات، وتصرفاً ملتبساً بالآيات
البيّنات، تماماً كما جرى لكثير من الباحثين
فيما ذهبوا إليه من أسئلة حول تكرار أسماء
الأنبياء وقصصهم في القرآن، ساهين عن أن هذا
التكرار ليس جزافاً، وإنما هو لهدف أن يتعرّف
الإنسان إلى حقيقة الموقف اتجاه الأحداث
المختلفة، والمقولات المتناقضة في القول
والفعل في عصر كل نبيّ.
يبقى أن نقول: إن المعنى اللغوي يكشف عن
مؤدّيات كثيرة في فهم مفردات القرآن: إلاّ
أنّه يحتاج إلى مزيد من التدبّر في مدلولاته
القرآنية، ولهذا رأينا في ما تقدّم من كلام
أنّ حالات القلب المختلفة وتحولاته من وجه إلى
آخر، ومن حال إلى أخرى، هو ليس شيئاً آخر غير
العقل واللبّ والفؤاد والنفس والروح، وذلك من
حيث كون القلب ليس مجرّد قلب مادي، وإنّما هو
لطيفة نورانية لها تعلق بالقلب الجسماني، ولكن
هذا التعلق يبقى مجهولاً للإنسان، هذا فضلاً
عن أن هذا التعلّق كان وسيبقى سرّاً من أسرار
الخلقة، فإذا كان لا بدّ من القول لغة أن
القلب يترادف مع أسماء أخرى في القرآن، فإنّ
ذلك قد يصحّ القول به شرط أن ندرك حقيقة ما
تحصل به التفرقة، بدليل أن القرآن تحدّث عن
العقل وأعقبه بأولي الألباب، وتحدث عن النفس
وأعقبها بالروح، وتحدث عن القلب وأعقبه
بالفؤاد، وهذا يؤكّد لنا حقيقة التمايز
والتفرقة في ضوء ما يؤول إليه الإنسان من
تحوّلات وانقلابات في حالته الروحية التي هي
حالة واحدة لها تعبيراتها المختلفة، ولا شكّ
في أن هذا الإدراك لحقيقة التفرقة والتمايز
على مستوى التحولات الظاهرة والباطنة، لا بدّ
أن تكون له آثاره الإيجابية على مستوى إدراك
المفاهيم بالشكل السليم
[55] ، وهذا ما سنعرض
له في الفصول اللاحقة إن شاء الله تعالى.
إذا كان القلب في اللغة يعني التحول في الوجه
يميناً وشمالاً، وظاهراً وباطناً على ما أفاد
أهل اللغة، وأن الترادف في الأسماء لا يعني
انتفاء التفرقة، فإنّ معنى القلب في الاصطلاح،
سواء العلمي أم الشرعي، هو ذاته المعنى الذي
أتت عليه اللغة، ولكنه يمتاز عنه في الاصطلاح
في كون القلب ينقسم إلى ما هو قلب مادي جسماني
وقلب معنوي، أو هو كما أفاد ابن منظور في لسان
العرب، والطريحي في مجمع البحرين تلك اللمظة،
أو المضغة المعروفة في جسم الإنسان، يقول
الطريحي: «القلب يطلق على معنيين عند أهل
التحقيق، أحدهما: اللحم الصنوبري المودع في
الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي
باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود وهو
منبع الروح ومعدنه، وهذا المعنى للقلب موجود
للبهائم، بل للميت. والمعنى الثاني: هو لطيفة
ربّانية روحانية، لها بهذا القلب تعلق، وتلك
اللطيفة هي المعبر عنها بالقلب تارة، وبالنفس
أخرى، وبالروح أخرى، وبالإنسان أيضاً، وهذا
الأخير هو المدرك العارف، وهو المخاطب
والمطالب والمثاب والمعاقب، وله علاقة مع
القلب الجسداني، وقد تحيَّر أكثر الخلق في
إدراك وجه علاقته، وإن تعلقه يضاهي تعلق
الأعراض بالأجسام، أو الأوصاف بالموصوفات، أو
تعلق المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلّق المتمكن
بالمكان، وشبه ذلك....»
[56] .
كما أن الإمام الغزالي في تعريفه لمعاني
العقل، ميّز بين العقل الذي يراد به المدرك
للعلوم، وهو القلب، أعني تلك اللطيفة التي هي
حقيقة الإنسان، يقول الغزالي: «وحيث ورد في
القرآن والسنّة ذكر القلب فالمراد به المعنى
الذي يفقه من الإنسان ويعرفه حقيقة الأشياء،
وقد يكنّى عنه بالقلب الجسماني الذي في الصدر،
لأنّ بينه وبين تلك اللطيفة العالمة التي هي
حقيقة الإنسان علاقة خاصة لتعلّقها بسائر
البدن، وهو إنما يكون تعلّق بواسطته، فهو
مملكتها ومطيتها والمجرى الأول لتدبيرها
وتصرفها... فالقلب الجسماني والصدر بالنسبة
إلى الإنسان كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله
تعالى من وجه...»
[57] .
وهكذا، فإن معنى القلب اصطلاحاً هو هذا
التقسيم والتمييز، بين ما هو جسماني، وما هو
ربّاني، بين ما هو جسم لطيف بخاري حامله دم
أسود منبعهُ تجويف القلب الجسماني، وبين ما هو
لطيفة عالمة مدركة، والتي هي الإنسان، بل روحه
الإنساني، يقول الغزالي: «هذه اللطيفة هي أحد
معنى القلب، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله:
﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... ﴾
[58]
، وهو أمر عجيب
ربّاني تعجز العقول والأفهام عن درك وفهم
حقيقة كنهه...»
[59] .
صحيح أن التعريف اللغوي لم يأتِ على تفصيلات
التحول والتصرف والتدبير، إلاّ أنه لحظ معنى
تحول الشيء عن وجهه، وتقلّبه من حال إلى حال،
وهذا لا يكون إلاّ من خلال اللطيفة الربّانية،
إذ إنّ أكثر ما نشاهده من حالات التقليب
والتصرف والانقلاب السريع في تبدّل حقائق
ومظاهر الإنسان، هو عائد إلى حقيقة تلك
اللطيفة الربانية ذات التعلق الرباني، الذي لا
يعلم حقيقته إلاّ الله تعالى، وإذا عرف
العلماء الربّانيون شيئاً، فلن تتجاوز معرفتهم
ما ذكره الطباطبائي (قده) من أن لهذه اللطيفة وحدة
حقيقية تمثل جوهر الإنسان بما هو إنسان مدرك
عالم مخاطب مطالب ومثاب ومعاقب. وبناء على
ذلك، فلا يكون المعنى الاصطلاحي متجاوزاً
للمعنى اللغوي فيما يعنيه هذا الأخير من تقلّب
حقيقي للقلب، وهو إنما سمي به لكثرة تقلبه عن
المعاني التي تختص بها من الروح والعلم
والشجاعة والفهم والإدراك والشعور على ما أفاد
الراغب في مفردات القرآن
[60] ، والملاّ صدرا
في مفاتيح الغيب
[61] ، والغزالي في إحياء علوم
الدين
[62] ، وغيرهم كثير...
ثم إنّ معنى المضغة في القلب، كما جاء في
الحديث، إنّ في الجسد مضغة، لا يدلّ على أكثر
من أنّ هذه النكتة البيضاء تتأثر بحالات
الإنسان واعتقاداته، وسلوكياته، واختلاف
تحولاته، لأن القلب المعنوي هو في هذا القلب
المادي، وهو إنما يتمايز عنه في كونه ذات
لطيفة ربّانية وعلقة إلهية تخرج القلب عن
مجرّد كونه تعبيراً مادياً ليكون قلباً
معنوياً يفقه من الإنسان، ويعرف حقيقة
الأشياء، على ما أفاد الغزالي في رسائله...
بيد أنّ هذا الذي يذهب إليه العلماء من تقسيم
لا يشكل تعريفاً اصطلاحياً جامعاً لما سبق
وأشرنا إليه من أن القلب هو في الحقيقة عقل
ولبّ وفؤاد يشكل مع صدر الإنسان نسبة جامعة
تجعل منه قلباً متجوهراً ومتحولاً وفق ما يكون
عليه من وعي وإدراك وعلم وفهم ووجدان وعاطفة،
خلافاً لما يراه بعض الباحثين من تميّز
واستقلال لكل من القلب والعقل، بحيث يفهم من
عباراتهم أن للعقل تعبيره من خارج القلب، أو
النفس، أو الروح، أو غير ذلك مما توارد من
مفردات قرآنية للتدليل على حقيقة الإنسان فيما
هو إنسان مدرك وعارف، ومثاب ومعاقب.
بمعنى آخر، يمكن القول: إن القلب في القرآن،
أتى مرةً بمعنى النفس، ومرةً بمعنى الروح،
وثالثة بمعنى الفؤاد، ورابعة بمعنى اللبّ
والعقل، وخامسة بمعنى الصدر، إلى غير ذلك مما
يؤكّد على محورية القلب في كل هذه المفردات،
ولكنه في تحوله وتصرفه وتقلبه، يأخذ أحياناً
معنى النفس، وأخرى معنى الروح، وأحياناً معنى
الفؤاد، كما سلف القول منا في مبحث اللغة...
لقد أخفق الكثيرون في تناول هذا المبحث، والحق
يقال: إن العلامة الطباطبائي (قده) قد جلّى هذا
الموقف، وأعطاه حيّزه في النفس الإنسانية من
حيث كونها قوة تقف خلف الحركات والأفعال
والتبدلات، وهي نفس واحدة في الإنسان، وبما أن
بعض علماء التزكية كما يلاحظ في تفسير الميزان
قد ركّزوا على هذا التميّز في المفردات، فقد
رأينا أن نتابع كلام العلاّمة الطباطبائي
(قده)
بالتأكيد على حقيقة القلب لا بما هو مضغة
وحسب، وإنما بما هو روح ونفس، ومن خلال
استعراض النصوص القرآنية، وآيات القلب، يمكن
لنا أن نجد حقيقة الموقف فنقول: إنه لا يبعد
أبداً أن يكون القلب، في حقيقة المصطلح، هو
القلب الجسماني الصنوبري الذي هو العضو
المعروف، ولكن تتبع الآيات لا بدّ أن يكشف عن
أن القلب يشتمل على النفس، بحيث تتظهّر الأمور
المعنوية منه دون أن تكون ظاهرة، كما يشتمل
أيضاً على الخواطر والرغبات والإرادة والنية،
ويكون مشتملاً أيضاً على إعمال العقل من تعقّل
وتفكر وتدبّر وتذكّر، إضافة إلى اشتماله على
حقيقة الروح بنحو حقيقي وليس مجازياً، وإن لم
يكن الأمر كذلك، فما يكون معنى قوله تعالى: ﴿
وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ﴾
[63] .
وانطلاقاً مما تقدّم، يمكن القول: إنّ محورية
البحث ينبغي أن تتركّز على القلب بما هو روح
ذات تعلّق ربّاني، هي الجسد الإنساني في كل
طيّاته وأدواته ليكون مطيّة لها تجري فيه
وتدبّره وتصرّفه بحسب حقيقة ما يكون عليه
الإنسان من وعي وإدراك وعقل عن الله تعالى،
بما هو عقل فطري مطبوع ومسموع كما صرّح بذلك
الإمام علي (عليه السلام)، حيث إنه (عليه
السلام) ركّز على المطبوع لكونه الإنسان مفطور
على التوحيد، كما قال تعالى:
﴿ فِطْرَتَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾
[64] ، وبهذه الفطرة كانت
الحياة معززة بالخطاب الإلهي لإخراج الناس من
الظلمات إلى النور، وهذا ما ترشد إليه آية: ﴿
أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ... ﴾
[65] ، فهي تفيد أن
التوحيد هو الحياة، وعلقة القلب، بل نكتة
القلب البيضاء هي هذه الفطرة التي تُجلّي
الإنسان على النحو الذي يؤدي به إلى أن يكون
إنساناً حيّاً بقلب الحياة الذي هو روح
الحياة، ونفس الحياة، ولبّ الحياة، وفؤاد
الحياة، الذي هو آخر تجلّيات الرؤية في
الحياة، كما قال تعالى: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
[66] .
وإذا كانت للقلب كل هذه المعاني، فهي لا تكون
له من ذاته، وإن كان له المعنى الكلّي الذاتي
في صيرورة التحول المعنوي، بل هي له من حيث
علقته بالسماء، بالله تعالى الذي أفاض على هذا
القلب من نوره، كما قال تعالى: ﴿
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً
فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾
[67] ، وهذا
يدلّل بوضوح تام على أن القلب لا بدّ أن يستوي
على هذا النور، لكون العلم والاعتقاد السليم
والفطرة السليمة إذا استولوا على القلب ولم
يكن لهم معارض أثمروا في القلب المعرفة، يقول
الغزالي: «إنّ هذه المعرفة تسمى يقيناً، لأن
حقيقة اليقين صفاء العلم المكتسب حتى يصير
كالعلم الضروري ويصير القلب مشاهداً لجميع ما
أخبر عنه الشرع من أمر الدنيا والآخرة»
[68] ،
يقال: «أيقن الماء إذا صفا من كدورته»، وبما
أنه لليقين هذا المعنى في القلب، فهو يحتاج
لصفاء العلم المكتسب في تحولاته ليكون مشاهداً
لحقائق الأشياء طالما أن القرآن قد تحدّث عن
حق اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين.
أليست هذه المراحل تحتاج إلى تحقق في القلب
ليكون له مصاف التجلي، وصفاء العلم المكتسب؟
بلى، إنّ ذلك لا بدّ أن يكون من حالات القلب
في تصرفه في ضوء الاعتقاد والعلم، الذي يؤدي
به إلى أن يكون متجوهراً على مستوى الفعل
والرؤية والفهم والإدراك وضبط الشهوات
والانفعالات وغير ذلك مما بيّنه القرآن في
كثير من السياقات القرآنية تحت عناوين شتّى،
من قبيل النفس والروح والعقل والفؤاد، إضافة
إلى كثير من المفردات التي تبيّن حقيقة المهام
التي على الإنسان أن يؤدّيها في طريق الكدح
إلى الله تعالى.
كان لا بدّ من تناول هذا المبحث بشيء من
التفصيل، نظراً لما أوجز فيه العلماء لناحية
تحديد المصطلح في مجال التقسيم دون أن يتعدّاه
إلى معنى القلب في الاصطلاح القرآني، حيث
تبدّى لنا أن معنى القلب يتمايز من حيث هو
رؤية قلبية ذات علقة ربّانية، أو لطيفة
ربّانية، ومن حيث هو باطن له تمظهرات مختلفة،
وهذا الفهم ليس بعيداً عن معاني اللغة،
باعتبار أن قلب الشيء يطلق على داخله الذي
يخفي وراءه ظاهره، فيكون بمعنى الباطن، تماماً
كما يكون اللبّ بما هو باطن في معنى العقل
مقابل القشر.
وبما أن القلب الذي نتحدّث عنه هو القلب
المعنوي، فلم يبق ثمة مجال للبحث عن الأمور
الحسيّة التي هي في باطن الإنسان، لكون هذه
الأمور هي مجرى البخار القلبي في التجويف
القلبي، وتتأثر بحالات القلب المعنوية بحسب ما
يكون عليه الإنسان من صحة اعتقاد وعلم أو
عدمه. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يبقى ثمة مجال
للقول بأن هناك تصرفات وتحولات نحو الخير
يمثلها القلب، وأخرى تنسب إلى النفس إذا كانت
متجهة نحو الشرّ، وهذا ما سيكوّن مجال لبحثنا
في العناوين اللاحقة إن شاء الله تعالى.
إنّ تركيز القرآن الكريم على حقيقة القلوب
ودورها في التحقق الإيماني والاعتدال
النفساني، يكاد يلحظه كل متدبّر في آيات الله
تعالى، حيث نجد عشرات الآيات القرآنية التي
تتحدث عن القلوب وتمايز بينها، في الأوصاف
والأسماء حتى ليكاد الباحث أن يتوهم أنها ليست
إلاّ مفردات قرآنية مترادفة لا فرق بينها، وقد
أجملنا الكلام في اللغة والاصطلاح بما لا يترك
إيهاماً، ولا يُحدث التباساً في حقيقة أن هذه
المفردات وإن كانت لا تختلف من حيث الأصل، فهي
تختلف وتفترق في كمال النضج وعدمه. هذا لجهة
المفردات، أما لجهة الأسماء والتوصيفات
القرآنية للقلوب، وما تكون عليه من قوة وترسيخ
وإيمان، ونفاق، ومرض، وإنابة وسلامة، فهذا مما
ينبغي التوقف عنده والحديث عنه بما ينسجم مع
خطة بحثنا في هذه الدراسة التي أردنا لها أن
تكون جامعة لما تشتت في بحوث القوم، ومبيّنة
لما التبس في نظرياتهم عن الروح والقلب والعقل
والفؤاد، وغير ذلك مما اشتمل عليه القرآن من
مفردات، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ العلاّمة
مكارم الشيرازي حاول في تفسيره الموضوعي أن
يقدّم رؤية متميزة حول هذه المقدمات، ولكنه
رغم ما قدّمه من تعريفات وإيجابيات لم يخلص
إلى نتيجة واضحة في بحثه مما زاد من تعقيد
البحث في مفردات القرآن، وأورث همّاً جديداً
للباحث، بدل أن يضعه أمام رؤية بحثية كاشفة عن
حقيقة التمايز بين المصطلحات، فالعلاّمة ذهب
إلى القول بأن العقل عندما ينضج يطلق عليه
«فؤاد»، وجمعه «أفئدة»، إذ هو ينسب الفؤاد إلى
العقل في تمام نضجه
[69] ، ثم يعرّف القلب بأنه
يراد به الروح والعقل والعلم تماشياً مع
إطلاقات العلماء في كون القلب هو الفؤاد
متوقداً، فلو أن الباحث الجليل ركّز على مبحث
القلب بما هو عقل وروح وعلم وفهم وشعور وإدراك
وعواطف، وبما هو مركز جسم الإنسان وروحه، لكان
الأمر أكثر وضوحاً، طالما أن العلماء أجمعوا
على أنه إذا ذكر القلب في القرآن والسنّة، فإن
المقصود به هو الذي يفقه من الإنسان ويعرف
حقيقة الأشياء، وقد يكنّى عنه بالقلب الجسماني
الذي في الصدر، وتوجد بينه وبين اللطيفة
الربّانية المدبّرة علاقة خاصة تخرجه عن كونه
قلباً مادياً لتجعل منه قلباً ومركزاً لكل
حياة وتدبير، لكون هذا البدن الجسماني هو
مملكة هذا القلب والمجرى الأول لتدبيرها
وتصرفها.
لقد رأينا كيف أن العلاّمة الغزالي يجمع بين
القلب والصدر ليجعل النسبة فيهما إلى الإنسان
كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى من وجه
[70] . وهذا ما شرحه الإحسائي، بقوله: «تلك
اللطيفة الربّانية هي المعبّر عن القلب تارة،
وبالنفس أخرى، وبالروح أخرى، وبالإنسان أيضاً
وبالعقل أيضاً، وله علاقة مع القلب الجسداني،
وقد تحيّر عقول أكثر الناس في إدراك وجه
علاقته، إلاّ أنه معلوم أنها الشيء الذي يعلم
ويفقه، وقد يكنّى عنه بالقلب في الصدر، كما
قال تعالى: ﴿
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
[71]
، وذلك لما
عرفت من العلاقة الواقعة بينه وبين جسم القلب،
وإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة
له، ولكنها تتعلق به بواسطة القلب، فتعلقها
الأول بالقلب، فكأنه محله ومملكته وعالمه
ومطيّته، ولذلك شبّه بعض العلماء القلب
بالعرش، والصدر بالكرسي... وهذا التشبيه من
بعض الوجوه، وهذا المعنى من القلب والجسد،
بمنزلة الملك، وله فيه جنود وأعوان...»
[72] .
لقد ركّز العلماء في بحوثهم القرآنية في مجال
الحديث عن القلب على ضرورة التمييز بين القلب
الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من
الصدر وفي باطنه تجويف فيه دم أسود، وهو منبع
الروح الحيواني ومعدنه، وبين القلب بما هو
لطيفة ربانية روحانية، لها بهذا القلب
الجسماني تعلق يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام،
والأوصاف بالموصوفات، وتلك اللطيفة هي التي
تشكل حقيقة الإنسان المدرك العالم المخاطب
المطالب المثاب المعاقب، وفي تعريف الغزالي في
بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل، يقول:
«اعلم أنّ هذه الأسامي الأربعة مشتركة بين
مسمّيات مختلفة، ويرى أن كل اسم من هذه
الأسماء يشترك بين معنيين، فالروح تتعلق
بمعنيين، الأول: هي جسم لطيف بخاري حامله دم
أسود ومنبعه تجويف القلب الجسماني، وينشر
بواسطة العروق الضوارب إلى سائر البدن،
وجريانها في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس
والبصر والسمع والشم منها على أعضائها يضاهي
فيضان النور من السراج في زوايا البيت.
فالحياة: مثالها النور الحاصل في الحيطان،
والروح مثاله السراج، وسريان الروح وحركته في
الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت
بتحرّك محركه، فالأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح
أرادوا به هذا المعنى وهو بخار لطيف أنضجته
حرارة القلب.
أما المعنى الثاني للروح، فهو ما سبقت الإشارة
إليه، اللطيفة الربانية العالمة المدركة من
الإنسان الذي هو أحد معنى القلب، وهو الذي
أراده الله تعالى بقوله:
﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي
﴾
[73]
، وهو أمر عجيب ربّاني
يتحيّر أكثر العقول والأفهام عن درك فهم
حقيقته..»
[74] .
إن الحديث عن حقيقة تلك الروح بما هي لطيفة
ربّانية لا بدّ أن يسوقنا إلى البحث في معنى
القلب الذي يريد القرآن تظهيره على نحو يمكن
للباحث، لكل باحث، من العقل عن الله تعالى،
بحيث يفهم أن مؤديات التدبّر في الآيات
القرآنية ليس مجالها القلب الصنوبري الشكل،
العضو المعروف، لأنه في زمن البعثة، وما كان
عليه الناس من تصحُّر معرفي وثقافي لم يكن
يسمح للرسول ، أو للوحي بشكل عام أن يتحدث
إلاّ عن القلب بما هو إيمان وكفر وحب وكره،
كما قال الله تعالى:
﴿ إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمَانِ ﴾
[75] ، وقوله تعالى: ﴿
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾
[76] ، وقوله
تعالى: ﴿
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
﴾
[77] إلى غير ذلك من الآيات التي
تتحدّث عن القلب المؤمن، أو القلب المريض، أو
القلب السليم. فالقرآن يتحدث عن القلب العاقل
الواعي الذي يحمل المسؤولية الكاملة، إيمان
الإنسان وكفره، كما قال الله تعالى: ﴿
لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ... ﴾
[78]
، وهذا تعبير كما يرى بعض الباحثين من
المسلمين وغير المسلمين، لا يوجد في غير
القرآن، من حيث نسبة الكسب إلى القلوب،
باعتباره قوة بدنية.
ولا شك في أن القرآن حينما يعبر عن القلب
بالكسب، فهو حتماً ينقله نقلة جديدة وفريدة،
ويعطيه كل الإمكانيات لكسب الإيمان والكفر
والحب والكراهية،.. وهذا لا يكون له إلاّ من
خلال ما أودع فيه من سرّ ربّاني يؤهّله لحمل
المسؤولية، ويعطيه قدرة التعبير عن الانفعالات
القلبية من خلال لفظ «كسبت»... وكما يعلم أهل
البحث والعلم، أن هناك فرقاً كبيراً بين أن
تكون لهذا القلب تعبيراته المادية، وبين أن
تكون له رؤية قلبية، وعيون قلبية، كما قال
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما
من قلب
إلاّ وله عينان وأذنان، فإذا أراد الله بعبد
خيراً فتح عينيه اللتين هما للقلب ليشاهد بهما
الملكوت»
[79] . وبالتأكيد، فإنّ هذه العيون
للقلب لها تعلّق بتلك اللطيفة القرآنية التي
تحيّر في فهمها أولي الألباب.
إن من الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها الباحثون
هي أنهم خلطوا بين ما يكون للقلب من حالات
ومشاعر ووجدانيات، وتحولات وجريان ومضارب في
العروق من حيث تدبير البدن، وبين ما لهذا
القلب من تعلق باللطيفة الربّانية العالمة
والمدركة، وإن كانت هذه أيضاً مما يقلبها
الرحمان، وهذا ما أوقع الأطباء في أوهام
التعلق، فرأوا أنه يمكن تفسير هذا التعلق
مادياً، معتمدين على العلوم التجريبية فقط بما
يرونه ويحسّونه، وهذا، كما نعلم، أوقعهم في
أخطاء علمية جسيمة، لأنّ هناك أموراً كثيرة
خارجة عن إدراك البشر، وقد أجاب القرآن عن
كثير من الأمور في سياق التأكيد على حقيقة
القلب المعنوي الذي يتجاوز البخار اللطيف الذي
ينضجه القلب ليكون له حالة من الكسب في دائرة
الرؤية القلبية، وكما يقول بعض العلماء في شرح
عيون القلب، بالإشارة إلى أبصار العين التي
لمشاهدة عالم الملك، إذ هو لا يتيسر إلا برفع
الموانع وتحقق الشرائط، ومن جملتها مصادفة نور
العين لنور آخر كنور الشمس والقمر، أو النار،
كذلك بصيرة القلب بشهود عالم الملكوت لا
تتأتّى إلاّ برفع العلائق والعوائق وتحقق
الشرائط، ومن جملتها إشراق نور آخر عليه من
نور الحق، أو بعض مقربيه كنور العقل الفعّال،
وهذا ما تمتّ الإشارة إليه بتحقق العلاقة
الخاصة بين اللطيفة الربّانية المحيرة، وبين
الجسد الإنساني. وإذا كان القلب الجسماني
أيضاً، هو ممن يكون له نوع من التعلق، فهذا
مما يكون له لجريان البخار اللطيف الذي هو
بمثابة الروح الحيواني، وقد أكّد علماء النفس
هذا المعنى بالقول: إن الله تعالى مقلّب
القلوب الصنوبرية، يريد قطعة اللحم الموجودة
في الجهة اليسرى من الجسد، من الاعتدال إلى
الانحراف، ومن الانحراف إلى الاعتدال، وهذا ما
يختص به علم الطب، وفي الحديث: «ألا وإن في
جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه،
وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»،
وكذا هو مقلّب القلوب المعنوية من الاعتدال
إلى الانحراف وبالعكس...
[80] .
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يُستفاد من هذا
الحديث، وخاصة من مفردة «كلّه» أنها إشارة إلى
أن القلب ذاتي، فهو العضو الوحيد الذي يستقل
بالذاتية، وهو الرئيس في توجيه الحركة، سواء
باتجاه عالم الملك أم باتجاه عالم الملكوت،
بحسب ما يكون له من صحة تعلق باللطيفة
الربّانية، باعتبارها المقلبة للقلوب، سواء
المادية أم المعنوية، ومرتكز هذا التحوّل هو
هذه المضغة التي هي سبب كل صلاح وفساد في حركة
الإنسان المادية والمعنوية، وفي هذا المعنى
يقول الريشهري: «إن الإيمان يبدو لمظة في
القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة»
اللمظة
[81] ، وإذا عمل بالجوارح عملاً صالحاً
ازدادت.
إذاً، الله تعالى هو مقلّب القلوب، وهذا ما
أشارت إليه الآيات بتقليب الأبصار والأفئدة،
بأن تكون تارةً مليئة بالإيمان، صادقة القول
والفعل، وتارةً بأن تكون هواء، فذلك كله إنما
يعود إلى طبيعته، بل إلى حقيقة التعلق
باللطيفة الربّانية التي هي سبب كل حياة،
وأكثر ما يتظهّر لنا هذا التعلّق الدائم
المباشر والذي لا يحول بينه شيء، هو قوله
تعالى: ﴿
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
[82] .
كان يجدر بالأطباء، أو بغيرهم ممن أخطأ الهدف
في تفسير القلب وتعابيره، أن يقولوا، نعم هناك
شيء غير مفهوم، وأن يسلّموا بأن القلب له
وظيفة أكبر من البخار اللطيف الذي تنظّمه
حرارة القلوب، وأكبر من الإدراك، أو أن هناك
أموراً غير مفهومة لجهة هذا التكثيف والتحشيد
في الآيات القرآنية حول القلب والصدر والروح
والنفس والعقل والفؤاد، وغير ذلك، والذي هو
كاشف بذاته عن أن القلب ليست وظيفته منحصرة
بضخّ الدم وحسب، بل يتجاوز ذلك إلى مهام أخرى
تخرج القلب عن كونه مخصوصاً بعالم الملك
وتحولاته إلى عالم الملكوت ومشاهدته، كما قال
الله تعالى: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
[83]
[84] .
مما تقدّم، نخلص إلى القول بأنه إذا كان للقلب
هذا المعنى والذي هو أعمّ وأشمل من أن يكون له
تعبيره المادي، فذلك يحتّم على الباحثين
وعلماء الدين، ونخص الحوزات العلمية هنا، التي
تعطي حيّزاً كبيراً لدراسة تزكية القلب، أن
يتدبّروا قليلاً فيما أكد عليه الطريحي وغيره
من العلماء لجهة القول بأن القلب الصنوبري بما
هو لحم مخصوص في باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف
دم أسود، وهو منبع الروح ومعدنه، يقول: «وهذا
المعنى للقلب موجود للبهائم، بل للميت...»
[85] . أما ذلك القلب الذي تحيّر فيه العلماء
وأولو الألباب، فهو ذلك القلب الذي من أحد
معانيه الروح، كما في قوله تعالى: ﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... ﴾ ، وتكون النتيجة
دائماً هي أنه لا جواب علمي أو ديني عما تعنيه
هذه العلقة، ولكننا نرى أنها ليست مجهولة
تماماً، وإنما هي ملحوظة في سياق الرؤية
التوحيدية في القرآن، وخاصة في مجال التوحيد
الذاتي، حيث نرى العلماء يتحدّثون عن التوحيد،
ويأمرون الناس بأن لا يفكروا في ذات الله
تعالى، لقول الإمام علي(عليه السلام): «واعلم
أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن
اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، والإقرار
بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح
الله ـ تعالى ـ اعترافهم بالعجز عن تناول ما
لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما
لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على
ذلك ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك
فتكون من الهالكين....»
[86] ، فإذا كانت هذه
اللطيفة الربّانية محيّرة، وغير ممكنة الإدراك
من حيث كنه حقيقتها، لكون هذه الروح من أمر
الله تعالى، فإنّ القرآن يكشف لمتدبّر بصير أن
القلب الإنساني هو المعبّر عنه بهذه اللطيفة
الربّانية التي تشكّل حقيقة الإنسان المدرك
العالم المثاب المعاقب، فهي إن كانت على نور
من ربّها، ومأخوذة بلحاظ فطرتها، وما طبعت
عليه من توحيد تؤكّد حقيقة الوحدة، أو الوحدة
الحقيقية لهذه اللطيفة التي تقف وراء كل القوى
والأفعال سواء سُمّيت بالقلب أم بالروح أم
بالنفس أم بغير ذلك مما توارد من مفردات
قرآنية، كما أنها تظهر بوضوح حقيقة الاتصال
بخالقها من حيث هي دالّة من أوجه على وحدانية
الله تعالى، يقول يونس العاملي: «الروح لطيفة
ربانية لاهوتية في جثة ناسوتية دالّة من عشرة
أوجه على وحدانية ربّانية:
1 ـ لما حرَّكت الهيكل ودبرته، علمنا أنه لا
بدّ للعالم من محرّك ومدبّر.
2 ـ دلَّت وحدتها على وحدته (تعالى).
3 ـ دلّ تحريكها للجسد على قدرته (تعالى).
4 ـ دلّ اطلاعُها على ما في الجسد على علمه
(تعالى).
5 ـ دلّ استواؤها إلى أعضائه على استوائه إلى
خلقه (تعالى).
6 ـ دلّ تقدّمها عليه وبقاؤها بعده على أزله
(تعالى).
7 ـ دلّ عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة
به (تعالى).
8 ـ دلّ عدم العلم بمحلها من الجسد على عدم
أيْنِيَّتِه (تعالى).
9 ـ دلّ عدم مسها على امتناع مسّه (تعالى).
10 ـ دلّ عدم إبصارها على استحالة رؤيته
تعالى»
[87] .
إلى غير ذلك مما ساقه العلاّمة من أدلة
للتدليل على تحيّر العلماء وأولي الألباب في
معرفة كنه هذه اللطيفة، ويكفي أن يتأمل
الإنسان في ذات نفسه ليدرك، كما صرّح الشيخ
الرئيس ابن سينا في الإشارات والتنبيهات، أنه
يكفي أن يرجع الإنسان إلى نفسه ويتأمل، إن كان
صحيحاً، بل على بعض أحواله، أنه لا يغفل عن
ذاته، وأن الجوهر فيه واحد...
[88] .
كما ينقل الغزالي في إحياء علوم الدين، عن
أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال في تمثيل
القلوب: «إنّ لله تعالى في أرضه آنية وهي
القلوب، فأحبّها إليه تعالى أرقّها وأصفاها
وأصلبها، ثم فسّرها فقال: أصلبها في الدين،
وأصفاها في اليقين، وأرقّها على الإخوان»، وهو
إشارة إلى قوله تعالى: ﴿
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ ﴾
[89] ،
وقيل قول الله تعالى: ﴿
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾
[90] ، إلى غير ذلك
من الآيات القرآنية التي يستفاد من تفسيرها
موضوعياً، أنها ليست آيات محصورة بالقلوب
ومفرداتها في القرآن، وإنّما هي تمتدّ في
القرآن امتداد النور في القلوب، وهذا النور
الذي تنقشع به العوائق والعلائق لتكون عيون
القلب مشاهدة لجمال المحبوب في عين كونها
مسكونة القلوب، ذلك هو معنى أن يكون القلب
روحاً وجسداً ونفساً وعقلاً، لما عرفته من
معنى اللطيفة الربّانية المدركة والعالمة،
والتي أريد لها أن تكون في جثة ناسوتية لها ما
يميزها عمّا في البهائم والأموات.
إنّه القلب الواعي والعاقل، الذي خاطبه
القرآن، وجعله حياً بحقائق الإيمان، وقد جاء
في ميزان الحكمة ج3، ص 260 عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في الخبر القدسي أنه
قال: «لم يسعْنِي أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب
عبدي المؤمن الليِّن الوادع»، ولا يمنعه أن
يكون كذلك، إلاّ أن تنحرف به الشهوات وتقلبه
الأهواء وقوى النفس المختلفة، التي ترفض
السكون لأمر الله تعالى، فتؤدّي به إلى أن
يكون قلباً مريضاً، أو قاسياً، أو مطبوعاً
عليه، أو منكوساً، كما جاء في أوصاف القلب
المختلفة والكثيرة في القرآن الكريم، فإذا ما
اطمأنّ هذا القلب بذكر الله تعالى، فإنه لا
يلبث أن يتحول إلى قلب ليّن وادع ومطمئن، لأنّ
حاكمية هذا القلب وتدبيره وفق أمر الله تعالى،
لا بدّ أن تؤدّي به إلى مسلكية تتوافق وفطرة
الإنسان التي فُطر عليها، بحيث يكون منه العلم
والاعتقاد السليمَين اللذين يؤدّيان به إلى
قطع مراحل اليقين ليصل إلى عين اليقين.
وكما تقدم الكلام، أن لهذا القلب، كما يُستفاد
من آيات القلوب، وخاصة آيات الكسب، خاصية
ذاتية تؤهله للكسب والتحول والتوفر على حياة
معنوية، ورؤية قلبية تكشف الحجب وتزيل العوائق
تصله بالملأ الأعلى ومشاهدة الملكوت، وقد
بينّا أن هذا القلب الصنوبري له امتياز مادي،
كما له امتياز معنوي، وذلك لجهة كونه العضو
الوحيد من بين سائر الأعضاء الذي يعمل دون
اتصال بالأعضاء الأخرى، تماماً كما لو أخرجنا
القلب، فإنّه يظلّ ينبض لفترة، هذا فضلاً عن
تميّز حالاته فيما يكون له من تحوّل وتقليب
وتوجيه، سواء بالمعنى المادي أم بالمعنى
الروحي، إضافة إلى تميّز هذا القلب بما له من
تعلق في وحدة الروح المدلّلة على سرّ الخلق
العجيب فيما يرشد إليه من توحيد في الدلالة
على وحدانية الخالق تعالى، وهنا يكمن سرّ
المعرفة فيما تنطوي عليه حجب الغيب والسُّدد
المضروبة دون العلم بحقيقة هذا القلب، وهذا
مما لا يُبقي حيرة لمتسائل، بعد أن تتكشّف له
حقيقة هذا النور الربّاني في لطيفة الإنسان
المدركة، بحيث يقول، سبحان ربّي العظيم...
بدا لنا مما تقدّم أن أهل اللغة خلطوا بين
الأسماء، وماثلوا بين المفردات لدرجة اعتبار
كل مفردة تحمل معنى المفردة الأخرى، دون
ملاحظة حقيقة المؤدّى اللغوي والسياقي في
القرآن الكريم، وقد بيّن الغزالي هذا المعنى
من خلال الإشارة إلى حصول التفرقة في كمال
النضج لا في أصله...
[91] . كما لاحظنا أيضاً
أنّ علماء المسلمين قد خصّوا كل من القلب
والروح والنفس والعقل بجنبة روحانية، حيث
جعلوا لكل مفردة معنيين اثنين، أحدهما يتعلّق
بالمعنى المادي، والثاني يتعلق بالمعنى أو
البُعد المعنوي أو الروحاني، وهذا التقسيم
أورده الغزالي مفصلاً في رسائله
[92] ، مبيناً
أن القلب في معناه الروحاني هو لطيفة ربّانية
تشكل حقيقة الإنسان، والروح بما هي جسم لطيف
بخاري منبعه تجويف القلب، هي لطيفة عالمة
مدركة في الإنسان، وتشكّل أحد معاني القلب
المراد بقوله تعالى: ﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾
[93] . وكذلك
الحال بالنسبة إلى النفس والعقل إذ جعل لكل
منهما بعداً روحانياً ربّانياً، مدللاً على أن
لفظ النفس هو أيضاً مشترك بين معنيين، الأول:
يراد به الجامع لقوتي الغضب والشهوة في
الإنسان. والثاني: هو اللطيفة الربّانية التي
تشكل حقيقة الإنسان ونفسه وذاته
[94] ، وهكذا
العقل، فقد جُعل له معنيان، أحدهما: يراد به
العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة
العلم الذي محلّه خزانة القلب. والثاني: مطلق
ويراد به المدرك للعلوم، فيكون هو القلب،
أعني، والكلام للغزالي، تلك اللطيفة التي هي
حقيقة الإنسان
[95] .
نلاحظ أن المفردات القرآنية المتعلقة بالقلب
والعقل والروح والنفس، كلها تنطوي على معنى
ثابت تتجلّى به بحسب ما يكون لها من تحوّل
ونضج وكمال، وإن كانت في الأصل مترادفة على ما
يرى بعض الباحثين، فإذا كان القلب موضوع البحث
هو الذي يشكل حقيقة الإنسان بما هو لطيفة
ربّانية مدركة وعالمة.. فإن العقل هو القوّة
المتهيئة لقبول العلم، يقول الراغب في
مفرداته: «إنّ العقل يقال للعلم الذي يستفيده
الإنسان بتلك القوّة، ولهذا، قال أمير
المؤمنين علي (عليه السلام):
رأيت العقل عقلين
فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع
إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس
وضوء العين ممنوع
وإلى الأول أشار النبي بقوله: «ما خلق الله
خلقاً أكرم عليه من العقل. وإلى الثاني أشار
بقوله: ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه
إلى هدى، أو يرده عن ردى، وهذا العقل هو
المعني بقوله تعالى: ﴿
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾
[96] . وكل موضع ذمّ
الله تعالى فيه الكفار بعدم العقل، فإشارة إلى
الثاني دون الأول، نحو قوله تعالى: ﴿
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا
دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ
﴾
[97]
، ونحو ذلك من الآيات»
[98] .
لقد استعمل القرآن الكريم مفردات كثيرة
للإشارة إلى العقل، من قبيل العقل، والحُجْر،
والنُّهى، وفي آيات أخرى استعمل مفردة
«الألباب»، إلى غيرها من الآيات التي أجمع أهل
اللغة على أنها في الأصل تعني المنع، باعتبار
أن العقل هو من العقال، أي الحبل الذي يُشدّ
به ساق البعير لمنعه من الحركة، وبما أن العقل
يردع الإنسان عن القيام بالأعمال المشينة، فقد
أطلقت عليه هذه المفردات
[99] . وكما أشرنا
سابقاً إلى أنّ هذه المفردات لم تأتِ في
القرآن لتفيد انتفاء التفرقة بينها في المؤدّي
والفعل، بل يمكن حصول التفرقة بينها في كمال
النضوج، وهذا إنما يكون بملاحظة السياق
القرآني الذي يأتي بالمفردة تارةً بمعناها
الحقيقي، وتارةً بمعناها المجازي. كما جاء في
مفردة الصدر للتدليل على القلب، ومفردة اللب،
لإفادة معنى العقل الخالص، وقد يصحّ القول منا
أنه مثلما أن الله تعالى في القرآن قد أعطى
تمايزاً للألباب على العقول، أعطى للأفئدة
تمايزاً على القلوب والعقول، وهذا ما تجلّى في
استعمال القرآن لمفردة اللبّ، إذ لم يقل
فاعتبروا يا أولي العقول، وإنما قال: ﴿
فَاعْتَبِرُواْ يَا أُوْلِي الْأَبْصَارِ ﴾
[100] ، باعتبار أن كلّ لبّ
عقل، وليس كل عقل لبّاً، وهو يطلق على العقل
في مراحله الرفيعة والخالصة وغير المشوبة
بالنقص، لأن اللبّ يطلق على باطن كثير من
الأمور، باعتباره خالصاً من القشور.
وهكذا، فإن ما سبق من كلام في معنى القلب لا
بدّ أن يكون محفزاً لهذا المبحث، طالما أن
العقل هو خاصة من خواص الروح، لا كما زعم
فلاسفة المدارس المادية من أنه شيء مادي، وقد
أقام ابن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهات
أدلة كافية وشافية لمن كان له قلب، يثبت من
خلالها حقيقة القوة المدبرة للإنسان كبرهان
الرجل الطائر، وبرهان الأنا، فضلاً عن برهان
تمايز الجسد عن العقل فيما يكون لهما من تحول
واختلاف في القوى المادية والعقلية
[101] .
وبما أن القلب والنفس والروح في حقيقة الأمر
هي واحدة عند الحكماء كما يكشف الملاّ صدرا في
مفاتيح الغيب
[102] ، فإنّ العقل الذي هو العلم
الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة المتهيئة منه
لقبول ذلك العلم، والذي هو خاصة من خواص الروح
أيضاً، يمكنه إدراك حقائق الأمور، ومعرفة
الأمور الدنيوية والأخروية والحقائق العلمية،
باعتبار أن هناك كثيراً من الأمور التي لا
تدرك بالحواس، وقد خصّ العقل بالقوانين
والمبادئ الحاكمة التي تصحح أخطاء الحواس رغم
ما لهذه الأخيرة من دور في مجال العلم، إلاّ
أنّ الحواس بقدرتها المعروفة في الإنسان إنّما
هي أدوات برغماتية تتّسم بطابع المنفعة
[103] ،
مع ملاحظة أن قدرتها كما يرى «العيسوي» لا
تتسع للإدراك الدقيق وتخضع للخداع والعجز حيث
يتعذّر الإبصار في الظلام مثلاً ويبقى العقل
وحده القادر على أن يصحّح أخطاء الحواس
وتصورها، لكونه بوجه عام هو الذي يميّز بين
الحق والباطل، ويقوم بعملية البرهنة
والاستدلال
[104] باعتبار
أن بديهيات العقل وقوانينه الفطرية هي الحاكمة
على كل تحوّل إنساني مهما بالغ الحسيّون
والماديون، والمثاليون في التقليل من قدرات
العقل ودوره في تحقيق المعرفة الصحيحة التي
يبتني عليها بتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا
والآخرة، وهذا ما جاءت النبوة لتعزيزه وتظهيره
وتحكيمه على نحو يؤدّي بالإنسان إلى معرفة
الخير من الشر والحق من الباطل، لأن النبوة،
هي إنما جاءت لأجل إثارة دفائن العقول، كما
أفاد أمير المؤمنين (عليه السلام)
[105] .
لقد جاء في الروايات الإسلامية أن الله تعالى
خلق الملائكة بعقل دون شهوة، وخلق الحيوانات
بشهوة دون عقل، وخلق الإنسان بعقل وشهوة، فإذا
غلب عقله شهوته، فإنه يكون أرفع شأناً من
الملائكة لما يملكه من حريّة وإرادة اختيار
تجعله قادراً على إحداث التمايز لنفسه في سلّم
المخلوقات، وإذا كانت الحقائق الدينية مرتكزة
إلى إثارة العقل على النحو الذي يجعله مدركاً
للحق وعارفاً بحقائق الأمور، فإنّ الإنسان هو
وحده المخصوص بالقلب والعقل والإرادة دون غيره
من المخلوقات. وكما يقول العضيمة: «هو وحده
الذي يمتلك القدرة على الارتقاء في المراتب
المعنوية والدرج العقلية، حتى يبلغ رتبة
الملائكة، في حين إن الحيوانات والنباتات تبقى
كما هي مخلوقة... والإنسان بإرادته يملك
إمكانية إدراك عاقبة الأمر، وطريق الصلاح
بالعقل، إذ من العقل ينبعث شوق إلى جهة
المصلحة وإلى تعاطي أسبابها والإرادة لها...
فإنّ الشهوة مثلاً تنفر من الدواء والعمل
الجراحي، والعقل يريدها ويطلبها ويبذل المال
فيها... ولو خلق الله تعالى العقل المعرف
بعواقب الأمور ولم يختلق فيه هذا الباعث
المحرك للأعضاء، الذي هو الإرادة، على مقتضى
حكم العقل، لكان حكم العقل ضائعاً على التحقيق
[106]
، ولعلّ هذا ما عناه الغزالي بصفة العلم
الذي محله خزانة القلب
[107] .
ثم إنّه يمكن للباحث أن يتأمّل جيداً في مفاد
قول أمير المؤمنين في معنى العقل المطبوع
والعقل المسموع، المشار إليهما في كلام الرسول
في أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أكرم عليه من
العقل، ذلك أن أدنى تدبّر لا بدّ أن يكشف عن
حقيقة هذا العقل المطبوع الذي هو ما فطر عليه
الإنسان، وما نفخ فيه من روح الله تعالى، حيث
قال الله تعالى: ﴿
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن
رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ﴾
[108] ، فالآية
ناظرة إلى حقيقة ما فطر عليه الإنسان، وما خصّ
به من تشريف بأن خصّ بلطيفة نورانية روحانية
تشكل حقيقة الإنسان العالمة والمدركة، وكما
يقول الشيرازي: «إن هذه الروح التي نفخت فيه
هي التي تشكل جوهر العقل، وقد أضيفت إلى الله
تعالى، ويقال لهذه الإضافة، إضافة تشريفية،
لأنّ الله تعالى لا روح له ولا جسم، ولأجل هذه
الروح الإلهية سجد الملائكة المقرّبين لآدم
وإلاّ فالطين والتراب لا قيمة لهما، وهذا
تأكيد شديد على أهمية وقيمة العقل...»
[109] .
كما يمكن لأي باحث أيضاً أن يتأمل جيداً فيما
تعنيه خزانة القلب الإنساني من علم إلهي له
طابع التكوين كما في قوله تعالى: ﴿
خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
[110] ، وقوله تعالى: ﴿
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ... ﴾
[111] ، إلى غير ذلك
مما شرّف الإنسان وجعله متميزاً في روحه ونفسه
وعقله وقلبه، الذي هو في الحقيقة تميّز واحد
له حقيقة واحدة هي تلك اللطيفة الربانية التي
تستوي على كل مفردات القرآن، سواء أكانت تعني
القلب، أم الروح، أم النفس، أم العقل، باعتبار
أن ذلك كله يعني الإنسان في وحدة روحه ونفسه
وذاته، وهو من خلالها ومن خلال ما خصّ به من
تشريف وتكليف يرتقي في مدارج الكمال وتكون له
مراتب الملك والملكوت، ويأتي العقل بما هو
مطبوع ومسموع ليحدث تحوله المعرفي في ضوء هدى
الله تعالى، لما جاء في الروايات الإسلامية عن
أهل البيت(عليهم السلام) ، كما في قول الإمام
موسى الكاظم (عليه السلام) في مخاطبة هشام بن
الحكم بقوله له: «يا هشام: ما بعث الله
أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله
تعالى، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم
بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم
درجة في الدنيا والآخرة»
[112] .
نلاحظ أن الإمام الكاظم (عليه السلام) ربط بين
العلم والعقل، وبين كمال العقل وارتفاع
الدرجات في الدنيا والآخرة، وهذا ما كان ليتمّ
إلاّ لأن الله تعالى بعث الرسل والأنبياء
لإثارة دفائن العقول من خلال الوحي، بحيث
يتعاضد وحي الداخل مع وحي الخارج ليكون
للإنسان مساره التكاملي، وتحققه العلمي الذي
يؤدّي به إلى نيل الدرجات، وتحقيق السعادة.
ذلك هو معنى القلب والعقل في القرآن، وقد
أشرنا سابقاً إلى أنّ الله تعالى في القرآن قد
خصّ العقل بالفعل، ولم يأتِ به مصدراً أو
اسماً للتدليل على أن ما يكون للإنسان في مسار
تعقله، هو إنما يكون له بما يأتيه من فعل،
ويقوم به من توظيف للقدرات والطاقات العقلية
والكسبية في طريق الكمال، وهذا سرّ من أسرار
القرآن على الباحثين أن يتدبّروا فيه جيداً،
حيث قال تعالى عن الكفار:
﴿ فَهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ
﴾ ، وقال تعالى: ﴿
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿
أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ ، فكل الآيات جاءت بصيغة
الفعل، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على
حقيقة الفعل وما يمكن أن يتميز به الإنسان من
درجات في نيل المراتب، فيما لو استجاب لأمر
ربّه وعقل عنه سرّ نفسه، وقد أشار الأئمة إلى
هذا التمايز بين أن يستجيب الإنسان لمعرفة، أو
يعلم بعقل بحيث يكون له كمال العقل بعلمه، حتى
يتميز في درجته سواء في الدنيا أم في الآخرة.
كما أن هناك الكثير من الأحاديث النبوية التي
ترشد إلى أهمية العقل ودوره في تحقيق الكمال
الإنساني، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم) :
«ما قسّم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل ...
، وما أدّى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا
بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ
العاقل والعقلاء هم أولوا الألباب ...»
[113] .
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الرجل
ليكون من أهل الجهاد، ومن أهل الصلاة والصيام،
وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا
يُجزى يوم القيامة إلاّ على قدر عقله»
[114] .
هناك مئات الأحاديث عن العقل التي تؤكّد على
دوره، بما هو عقل مطبوع ومسموع، مرتكزه الفطرة
والقلب والروح، وصيرورته أن يكتسب حقيقته بما
يعقله عن الله تعالى، وقد قيل إن العقل هو
أعدل الأشياء قسمة بين الناس، لكن الخلاف في
الكسب، فهم يختلفون في درجة توظيفهم للعقل،
لذلك كان التعبير القرآني عن العقل بالفعل دون
المصدر أو الاسم للدلالة على أن الإنسان مطالب
بأن يوظف العقل، وأن يعمل فيه بهدى الله
تعالى، كما قال تعالى: ﴿
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن
تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[115]
، وفي آية أخرى: ﴿
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشْقَى ﴾
[116] ، إلى غيرها من
الآيات التي لا يمكن الفصل بينها وبين روح
الإنسان ونفسه، باعتبار أن حقيقة الإنسان
واحدة هي تلك اللطيفة الربّانية التي تتأثر
حتماً بفعل الإنسان وما يكتسبه فيما يكون منه
من عمل، سواء بالجوانح أم في الجوارح، بدليل
أن الكسب أيضاً، هو مما خصّت به القلوب، حيث
قال تعالى: ﴿
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
﴾
[117] ، وقال تعالى: ﴿
وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ ﴾
[118] ، وبما أن الكسب
يبدأ من النية وينتهي بالفعل، فإنّ ذلك يؤكّد
لمتدبّر بصير أن كلمة عقل جاءت بالفعل لتدلّل
على أنّ للعقل أداء وظيفيًّا، والفعل هو
الصيغة الوحيدة التي تدلّل على العمل، ويكفي
تدليلاً على ذلك ما ألمح إليه الراغب في
مفرداته من أن العقل المسموع هو ما أشار إليه
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «ما
كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو
يردّه عن ردى» فالإشارة إلى الكسب في الحديث،
فهي إنما ترشد إلى حقيقة ما يكون للإنسان من
فعل وعمل، فهو إما أن يعقل عن الله تعالى،
فيصحّ قول الله تعالى به: ﴿
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾
[119] ، وإما أن يضلّ
ويتردّى، فيصحّ فيه قول الله تعالى: ﴿
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾
[120] .
يبقى أن نقول دون أن نسجّل تكراراً في الكلام،
أن القلب متضمن للعقل بما هو عقل مطبوع، وقد
اشتملت عليه تلك اللطيفة الربانية التي خصّ
بها الإنسان من لدن عليم حكيم، وغفور رحيم، إذ
لا تمايز إلا في كمال النضج وعدمه، لأنّ
القرآن تحدّث إلى العباد بلغة مفهومة وواضحة،
هذا فضلاً عن كون القرآن يبيّن للناس حقائق
الأمور بحسب ما يكونوا عليه من اختلاف في
الهيئات والاستعدادات، وإذا كانت التعريفات
اللغوية قاصرة عن استيفاء المعنى الحقيقي
الكامن فيما وراء اللغة، فإن هذا لم يمنع
العلماء من القول والتدبّر في آيات الله تعالى
على النحو الذي يؤدّي بهم إلى إدراك حقيقة
المعنى المراد، وطالما أن استجماع الرأي
اللغوي يُفيد تحقق المعاني بنحو ما، فإنّ ذلك
مما يساعد على بلورة موقف إسلامي (قرآني) من
حقيقة هذه المفردات من حيث كونها تشكّل مفاهيم
ثابتة تمتدّ في حياة الإنسان، ولا يأتي عليها
زمان أو مكان، لكونها ذات أثر بالغ في استيعاب
الرؤية الإسلامية من دون أن يكون لاختلاف
الرأي حولها أي تأثير سلبي على حقيقة ما تنطق
به هذه المفردات في سياقاتها القرآنية
المتعددة، بل يبقى لها الثبات في توضيح
الرؤية، وتنقيح المناط مهما اختلفت تعابير
اللغة، وتباينت آراء الباحثين في الشأن
الإسلامي، والقرآني تحديداً، لأن القرآن يوضح
أن هذه المفردات لها مرتكز واحد هو ما تنبثق
عنه من لطيفة ربّانية ذات معطى إلهي نافذة في
حياة الإنسان، وتشكّل وحدته، وقد تحيّرت
العقول والأفهام بها.
وبما أنّ العقل، كما أشرنا، هو خاصة من خواص
هذا المعطى الإلهي، فإنّ ذلك مما يعزّز رؤية
الباحث في توحيد الرؤية وإخراجها عن كونها
مجرّد رؤية حيّة لتكون رؤية قلبية، سواء
بالعقل أم بالقلب، أم بالروح، أم بالنفس، أم
بغير ذلك من المفردات التي تنطوي على معنى
القلب والروح والعقل والنفس، فهذا كله إنما
يمكن فهمه من قوله تعالى: ﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾
[121] ، فهي أمر
ربّاني يقف خلف حقيقة الإنسان خلقاً ووجوداً
وفعلاً، وهذا ما يعزّز لدينا فكرة توحّد
الرؤية في القلب لكونه يتميز بالذاتية والكلية
في الحركات والأفعال، وفي الكسب أيضاً...
انطلاقاً مما تقدّم، نرى أن اختلاف المفردات
فيما عبّرت عنه من حالات وأفعال، يمكن فهمه من
خلال رؤية موضوعية تضمّ الآيات بعضها إلى بعض
لاستخلاص موقف واضح من هذه المفردات، وهذا ما
قام به ثلّة من العلماء الأفاضل قديماً
وحديثاً، ولكننا أردنا في هذا المبحث المتواضع
أن نقدّم رؤية حول ما يعنيه القلب في القرآن
من خلال سياقات قرآنية مختلفة، وقد تبيّن لنا
أنه لا شيء مستقلّ عن القلب أو غير خاضع له،
لما يفيده القلب من تحويل وتقليب ومركزيّة في
جسم الإنسان وروحه، إذ به المضغة التي إن فسدت
فسد الإنسان، وإن صلحت صلح الإنسان، وإذا كان
للقلب هذه المحورية، وهذا المعطى الإلهي، فلا
بأس أن نقول بأن القلب أطلق ليدلّ على
المتعلّق بالقلب الحسّي، وأطلق أيضاً ليدلّ
على الأمور المعنوية، كما أفاد أهل التحقيق في
معاني القلب، وبهذا يكون القلب شاملاً للخواطر
والانفعالات والرغبات والنوايا، وشاملاً للعقل
وأعمال التعقّل والتذكّر والتفكّر والتدبّر،
وغير ذلك مما هو داخل في مهام العقل، وشاملاً
أيضاً للروح، شمولاً حقيقياً لا مجاز فيه على
هذا المعنى المذكور، على اعتبار أن كل صلاح
وفساد مرتبط به في ضوء ما يأتيه الإنسان
ويكتسبه ويتحقّق به من حقائق الإيمان، أو عدم
ذلك، ولهذا جاء في الحديث عن الإمام علي (عليه
السلام): «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة
القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة
الأعضاء»
[122] ، فالكل مستند إلى القلب،
والقلب بيد الله يقلّبه كيفما يشاء، وقد جاء
في الدعاء: يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على
دينك، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا
من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب ...
إنّ ما تقدم من شروح وتفصيلات في الفصول
السابقة يمكن أن يكون كافياً لبيان معنى ما
تتمايز به المفردات القرآنية، رغم اختلاف
اشتقاقاتها، وتباين تحولاتها في ضوء ما يكون
لها من كمال النضج في تحولات الإنسان ومعارفه،
فهذا مما يمكن للباحث أن يفصّل فيه الكلام،
رغم أن العلاّمة مصباح اليزدي لم يعطِ مزيد
اعتبار لهذا الاختلاف في مبحثه عما يرادف كلمة
الإنسان في القرآن
[123] ، فهو وإن كان يرى هذا
البحث مفيداً في الاشتقاق اللغوي، إلاّ أنّه
لا يعتبره أساساً للتفسير، هذا فضلاً عن كونه
يصرّح بالاختلاف الواضح بين المفسرين لجهة
استعمال هذه الكلمات، أهي مرادفة أم بينها
فروق؟ وإذا كانت فروق بينها أتعود هذه الفروق
إلى ناحية اللغة أم إلى ناحية المعنى؟
كما أنه تساءل أيضاً لماذا يستعمل القرآن في
مجال لفظة البشر، وفي مجال آخر كلمة الإنسان؟
فلعلّ ذلك لسرّ لا يزال خافياً علينا ...
[124]
.
وهنا مركز البحث الذي لا بدّ أن نسلّط الضوء
عليه، طالما أن العلاّمة يقول بالسرّ الخافي
في طريقة استعمال القرآن للمفردات، ونحن نرى
أنّ هذا السرّ قد لا يكون خافياً فيما لو
علمنا أنّ السياق له دلالاته في القرآن، وأنّ
القرآن لا يمكن أن يأتِ بالمفردة جزافاً، بل
لحكمة، كما أنه لا يمكن أن نرد ذلك الاستعمال
إلى مقتضيات الفصاحة والبلاغة، لأنّ القرآن،
كما ذكرنا في تمهيدنا ليس كتاباً تعوزه
المفردة أو يعجزه التعبير، مما يدعونا إلى
التدبّر جيداً في ما تعنيه مفردات القلب
والفؤاد والصدر طالما أجمع أهل اللغة
والاصطلاح العلمي والشرعي على أن القلب هو
الروح والنفس، بل هو الإنسان نفسه بما هو وحدة
حقيقية، وربما أفادت اللغة حقيقة التميّز
بمعزل عمّا يورثه الاشتقاق وأقسام الكلمة من
معانٍ ومفردات، وذلك من خلال المفهوم القرآني،
الذي يمكن التدبّر فيه لاستكشاف معنى كل مفردة
في ضوء ما تأتي به من سياق. وهنا تجدر الإشارة
مثلاً إلى الروح في القرآن وما جاءت به من
سياقات، إذ هي تارةً تعني الحقيقة التي تدبّر
الإنسان، وتارةً تأتي بمعنى الملاك جبرائيل،
أو روح القدس الذي تجلّى للصدّيقة مريم (عليها
السلام)،
وثالثة تأتي بالمعنى الذي يستفاد منه أمر الله
تعالى، أو فعله كما يرى العلاّمة اليزدي
[125] .
وهكذا، سائر المفردات القرآنية التي يمكن أن
تترادف، إلاّ أن مفهومها وتحولاتها في
الاستعمال والتحقق لا بدّ أن يتكشّف بأدنى
تأمّل فيما أشارت إليه الآيات القرآنية من
اختلاف في التعبير، ولكن يبقى على الباحث أن
يتدبّر في المفهوم في ضوء الجذر اللغوي
والاصطلاحي لتنكشف له مدلولات المفردات على
النحو الذي يمكنه من ملاحظة حقيقة الفروق،
سواء من حيث قواعد اللغة أم من حيث المعنى،
لأنّ القرآن كما نعلم، يرشد الباحث ليس فقط
إلى المنهج القويم وحسب، بل إلى المدلول أيضاً
بما هو رؤية كاشفة في كل زمان ومكان لتعالي
هذا النص وإطلاقيته، ونسبية كل فهم بشري له...
مما تقدّم نستطيع القول: إنّ المفردات
القرآنية تعني الإنسان أولاً وأخيراً، فهي
تتحدّث عن قلب الإنسان وعقله وروحه ونفسه
وصدره ولبّه وفؤاده، وعن كل ما يتمايز به هذا
الإنسان في تحوله، سواء من الباطن إلى الظاهر،
أم من الظاهر إلى الباطن، والكلام ذاته يمكن
أن يُقال في معنى العقل واللبّ، فالإنسان هو
المتحوّل من كونه إنساناً عاقلاً، ليكون
إنساناً ذا لبّ مخاطب في القرآن، واللبّ هو ما
تحت القشور، فقد يكون الإنسان عاقلاً، ولا
يكون متميّزاً أو متعقلاً ومستبطناً لحقيقة
أمره، فلا يكون له معنى الاعتبار، وإن كان له
عقل يتمايز به عن سائر الحيوانات والجمادات
[126] .
نعم، إنها مفردات تعني الإنسان في حقيقته، وما
يمكن أن يلحظ من تمايز هو في الحقيقة إشارة
إلى ضرورة التحقق من سياق كل مفردة قرآنية في
ضوء الرؤية الموضوعية التي نرى أنها الوحيدة
التي يمكن من خلالها الكشف عن حقيقة الأمر
المراد من الخطاب الإلهي للإنسان، باعتبار أن
الإنسان هو الوحيد الذي خصّه الوحي بمزيد من
المعرفة الإلهية لتجاوز العقل والحسّ إلى باطن
قلبه وسرّ روحه التي هي من أمر الله تعالى،
ونعني بهذا التمايز ما خصّ به الإنسان من
نبوّة ووحي لتحقيقه على مستوى الوجود والرؤية
الحقيقية، وهذا هو معنى التركيز القرآني على
البصيرة وعلى الرؤية القلبية التي هي من
تعابير الروح بما هي قلب خصّه الله بمزيد من
الاهتمام لكونه مرجع العقل على حدّ تعبير
الفخر الرازي، هذا فضلاً عن كونه لطيفة
ربّانية، وليس مجرّد قلب صنوبري الشكل في
تجويفه دم أسود وباعث على الحياة الحيوانية.
وإذا كان للعقل هذا المعنى والمفهوم، فلا يبقى
إلاّ أن نسلّط الضوء على قلب الإنسان وفؤاده
وصدره بما هو مخصوص به من بروز في النص
القرآني، وفي كثير من الآيات، دون أن نغفل عن
معنى العقل الذي له هذه اللطيفة في القلب من
حيث هو قوة مدركة وعالمة بحقائق الأمور،
وكاشفة عن حقيقة تحوّل الإنسان فيما ينبعث فيه
من شوق، يحفّز إليه من إرادة تجعله قادراً على
التحقق، وحاكماً على صوابية وحقّانية كل أمر
في ضوء مبادئه وقوانينه وبديهيّاته، ولا نقول
إدراكاته، لأنّ العقل وفق ما خصّ به من
بديهيّات ليس قادراً على ملامسة أفق الغيب،
وإنّما يختصّ بها قلب الإنسان في التوجيه
والتأثير لما يتميّز به من ذاتيّة وكليّة في
الرؤية والعمل، وسلطنة على الجسد، وكما يقول
دستغيب: «إنّ القلب سلطان الجسد، وأقوال
اللسان وجميع الأفعال الاختيارية، مرتبطة
بإرادة القلب، فمن الواضح أنه كلما كان القلب
مريضاً، فإنّ الأقوال والأفعال تكون كذلك
أيضاً. ولهذا، فإنّ على الإنسان أن يهتمّ
بسلامة قلبه أكثر مما يهتمّ بسلامة بدنه، وكما
قال الشاعر: «الجسم سيّئ لأن القلب فاسد، ظلم
الجيش دليل على ضعف الملك..
[127] .
يبدو أن بعض الباحثين قد ربط بين الأفئدة
والإصغاء على نحو يستفاد منه الإصغاء السلبي
والمرضي، بحيث يفهم أن الفؤاد، أو الأفئدة هي
مما يلتبس الأمر بشأنه في سياق الكلام الإلهي،
إلاّ أن هذا ينتفي بأدنى تأمّل فيما أعطي
الفؤاد من معاني الرقة واللين والرحمة وما إلى
ذلك مما ينبغي أن يكون عليه الفؤاد. وإذا كانت
الآيات القرآنية قد نسبت الإصغاء للأفئدة، كما
في قوله تعالى: ﴿
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴾
[128] ،
فهذا مما يمكن أن نلاحظه في مجال تعريف الفؤاد
بأنه الغشاء الذي يحوي القلب، والإصغاء هو فعل
متحقق في جميع حالات الفؤاد، فإذا كان الإصغاء
للذين آمنوا كان له فعل الإيمان في القلب، وإن
كان للذين كفروا، كما هو ظاهر الآية، كان له
فعل الكفر، وفعله لا يكون سوى صدور هذه
الأفعال عنه على نحو ما بينّا في كلامنا.
وهكذا، فإنّ سلبيّة الإصغاء إنما تكون ناتجة
عمّا يرد إلى القلب من أحوال الدنيا والآخرة،
باعتباره مركزاً للجسم والروح، وإماماً للحواس
والأفكار، وحوله تحوم منازع الهوى، وقد أشرنا
سابقاً إلى معنى أن يكون الوحي هو الذي يثبّت
القلوب والأفئدة لعجز العقل والحواس عن تحقيق
ذلك كما ثبت بالتجربة والبراهين القاطعة، على
ما أفاد العلاّمة اليزدي في معارف القرآن،
ولهذا قال الله تعالى: ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾
[129] . فالآية، كما نلاحظ تتحدّث عن تثبيت
الأفئدة بالقرآن، وهذا ما لا يستطيعه العقل
والحواس، وكل من لا يأخذ بالوحي سبيلاً إلى
حياة القلوب والعقول والأفئدة، وكل مَن لا
يُخضع حواسه الظاهرة والباطنة للوحي، فإنّه لن
يستطيع الإصغاء للحق بدليل قوله تعالى: ﴿
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن
مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ
سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا
أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن
شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ ... ﴾
[130] .
إذاً، الوحي هو حياة الأفئدة، ولا بدّ في طريق
المعرفة والكمال من الإصغاء له، وإلاّ تحوّل
القلب والفؤاد عن كونه حيّاً بحياة الوحي
ليكون قلباً مريضاً، أو كافراً، أو جاحداً أو
منافقاً، وما إلى ذلك مما خصّ به القلب من
أمراض تصرفه عن الإصغاء للحق، وتدفع به إلى
تقلّبات تستحوذ على الفؤاد، بحيث لا يكون منه
إلاّ القسوة واليبس والزيغ، وهذا هو ملخّص
كلامنا فيما نراه عن حقيقة التمايز بين القلوب
والأفئدة لجهة كون الأسماء لمعنى واحد
[131] ،
ولكنها تفترق في تحقيق الكمال، فمنها ما يكون
له منتهى الكمال، ومنها ما يكون له شيء من
ذلك، ومنها ما يكون مريضاً، ومنها ما يكون
كافراً...
تضمّن القرآن الكريم، كما قلنا، عشرات الآيات
القرآنية التي تأتي على مفردة القلب، أو
القلوب، في حين أتى على بعض الآيات التي
تستعمل مفردة الفؤاد، وبعضها أفئدة، كما أن
القرآن حينما تحدث عن المسؤولية والشهادة على
الأعمال في الآخرة، قال: ﴿
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾
[132] ، ولعلها
الآية الوحيدة التي جاءت لتجمع بين السمع
والبصر والفؤاد في نطاق تحمّل المسؤولية فيما
لو أتى الإنسان بأمر أو قال بقول من دون علم،
بل لا بدّ أن يكون مسؤولاً عن كل ما يأتيه
بالسمع أو بالبصر، أو بالفؤاد، وهو أتى بحاستي
السمع والبصر دون غيرهما لكونهما عمدة الحواس»
[133] ، فإذا كان البصر في الآية يعني الرؤية
البصرية، والسمع يعني حاسة السمع، فإنّ
الفؤاد، الذي هو القلب، يعني العلم، فلا يقول
الإنسان على ما أفاد القرطبي في تفسيره «رأيت
وهو لم يرَ، وسمعت وهو لم يسمع، وعلمت وهو لم
يعلم»
[134] .
إذاً، هذه الآية وحيدة في القرآن لم يجمع فيها
البصر والفؤاد، كما في آيات أخر، حيث قال الله
تعالى: ﴿
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
[135] ،
وقال الله تعالى: ﴿
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا
تَشْكُرُونَ ﴾
[136] .
وقال الله تعالى: ﴿
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾
[137] .
فنلاحظ أن الآيات التي جمعت فيها الأفئدة كلها
تدعو إلى ضرورة أن يقوم الإنسان بالشكر لله
تعالى على ما مَنّ به عليه من حواس ظاهرة
وباطنة، لكون الآيات جاءت بمفردة الجعل، وهو
جعل إنشائي كجعل النفس الإنسانية كما أفاد
العلامة الطباطبائي (قده) في الميزان
[138] ، وهو
جعل يلحظ حقيقة ما خصّ به الإنسان في خلقه
وتكوينه من تمايز، سواء في حواسه أم في نفسه
المتفكرة، والعالمة والمدركة التي يتميّز بها
عن سائر الحيوان
[139] ، أما آية الإفراد التي
أشرنا إليها، فهي تتحدّث عن المسؤولية سواء
شكر الإنسان أم لم يشكر، إذ هو محاسب في
النهاية على ما يأتيه من أقوال وأعمال، فإما
أن يثاب، وإما أن يعاقب، لأن مقتضى المسؤولية
أن يكون للإنسان جزاء أعماله، وهذا ما لحظته
الآية المباركة لجهة تحمّل كل إنسان نتائج
أعماله إن كان خيراً فخير، وإن كان شرّاً
فشرّ... كان لا بدّ من هذا التأسيس في سياق
الكلام عمّا يعنيه القلب والفؤاد في القرآن،
حيث ذكرنا أنه في نطاق تحمّل المسؤولية جاء
القرآن بلفظ «الفؤاد»، وفي دائرة الخلق
والتكوين للإنسان جاء القرآن بجمع مفردة
الفؤاد، فقال «والأفئدة»، ولعل هذا التمايز في
الجمع والأفراد ناشئ عن كون الإنسان يأتي في
الحساب وتحمّل المسؤولية فرداً، أما في الخلق
والتكوين والإنشاء، فالكلام لاحظ لحقيقة إحداث
الشيء ابتداءً وتربيته، فيكون الكلام شاملاً
للجميع، هذا ما يمكن ملاحظته من خلال رؤية
موضوعية جامعة للآيات، ولكن يبقى السؤال،
لماذا جاء التعبير بالفؤاد والأفئدة ولم يأتِ
بالقلب؟
هنا لا بدّ من ملاحظة السياق القرآني أولاً،
وقبل ذلك ينبغي العودة إلى الجذر اللغوي
لمفردة الفؤاد، بعد أن استوفينا الكلام في
معنى القلب لغة واصطلاحاً. فنقول: إنّ اللغة
يمكن أن تشير إلى تمايز ما بين المفردات دون
اكتراث منّا لما ذهب إليه بعض أهل اللغة
وغيرهم من العلماء في المساواة بين القلب
والفؤاد، منطلقين من قاعدة الترادف، وقد تقدّم
الكلام في معنى أن يكون الترادف في الأصل وليس
في كمال النضوج على اعتبار أنّ تحولات الإنسان
لا تبقي له شأناً واحداً، أو حالة واحدة، فهو
قد يتدرّج في مدارج الكمال، وقد يتسافل فيما
يكون له من تحوّل في قلبه وروحه ونفسه، فهو له
قلب وفؤاد مثله مثل أي إنسان آخر، ولكن حالات
القلوب تتمايز، فمنها ما تزداد اللمظة فيه
ليكون أكثر إيماناً، ومنها ما يكون له رقّة
ولين، ومنها ما لا يكون له شيء من ذلك، ومن
هنا يتكشّف لنا معنى كلام رسول الله فيما أشار
إليه من قلوب أهل اليمن بقوله: «جاءكم أهل
اليمن أرقّ قلوباً، وألين أفئدة»، ففرّق
بينهما، وخصّ القلب بالرِقة، والفؤاد
باللين...
وقد أشار ابن منظور إلى هذا المعنى دون أن
يتوقف مليّاً عنده، فقال: «كأن القلب أخصّ من
الفؤاد في الاستعمال، ولذلك قالوا: أصبت حبة
قلبه، وسويداء قلبه...»
[140] . وهناك من أهل
اللغة أيضاً من بسّط الكلام دون فقه في مدلول
المفردات، فقال: ربّما يكون القلب بمعنى
الفؤاد تماماً، لكن النبي(صلى الله عليه وآله
وسلم) وزّع الأوصاف إليهما على سبيل الترادف
والتنويع في الكلام، لا على سبيل الافتراق،
ساهياً عن معنى الفؤاد في اللغة لجهة ما يعنيه
من توقّد من التفؤّد، إذ يقال في اللغة: فأدت
اللحم: شويته، ولحم فئيد: مشوي، وتفأدت النار:
تحرّقت وتوقّدت، وفي التنزيل العزيز: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾
[141] . ويقال هو فارغ
الفؤاد، لا همّ عنده ولا حزن، وبه قال بعض
المفسرين في قوله تعالى: ﴿
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً ﴾
[142] . وجمعه أفئدة
[143] . فالقرآن، لم يقل وأصبح قلب أم موسى
فارغاً، ولا قال ما كذب القلب ما رأى، وإنما
جاء بمفردة الفؤاد ليدلّل من خلالها على معنى
آخر ومفهوم يتمايز عن معنى القلب بما له من
تحويل وتقليب وخصيصة في الاستعمال لما أشار
إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رقة
القلب ولين الفؤاد، يقول الرازي في تفسيره:
«ومن الناس مَن فرّق بين القلب والفؤاد، فقال:
القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما
يكتنفها من اللحم والشحم، ومجموع ذلك هو
الفؤاد، ومنهم من قال: القلب والفؤاد لفظان
مترادفان، وكيف كان يجب أن يُعلم أن من جملة
العضو المسمّى قلباً وفؤاداً موضعاً، هو موضع
في الحقيقة للعقل والاختيار، وأن معظم جرم هذا
العضو مسخر لذلك الموضع، كما أن سائر الأعضاء
مسخّرة للقلب، فإنّ العضو قد تزيد أجزاؤه من
غير ازدياد المعاني المنسوبة إليه، أعني العقل
والفرح والحزن، وقد ينقص من غير نقصان في تلك
المعاني، فيشبه أن يكون اسم القلب اسماً
للأجزاء التي تحلّ فيها هذه المعاني بالحقيقة،
واسم الفؤاد، يكون اسماً لمجموع العضو، فهذا
هو الكلام في هذا الباب...»
[144] .
لا شكّ في أن الكلام الحاكم في هذا المجال
يبقى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
الذي لم يأتِ الكلام منه على سبيل الترادف
والتنويع في الاستعمال، وإنّما لتأكيد حقيقة
التمايز بين أن يكون القلب رقيقاً، والفؤاد
ليناً، وكمال المعرفة والتحوّل من الإيمان
يحتاج إلى أن يكون الإنسان جامعاً للرقة
والليونة، ومتوقداً في كمال التعقّل والنضوج،
كيما تصحّ منه حقيقة التحول، بحيث تكون له
رؤية حقيقية في القلب، وبصيرة نافذة في العلم
والمعرفة، ولربما يكون هذا المعنى ملحوظاً في
قوله تعالى: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ . والفؤاد هو قلب الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) لما اشتمل عليه من
جامعية واستواء على معاني الحق والنور، فكان
منه التجوهر في الملكوت على نحو لا يكون فيه
زيغ ولا طغيان، كما قال تعالى: ﴿
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
[145] ، وهذا ما لحظه
ابن قيّم الجوزية في تبيان أقسام القرآن
[146]
، وأبو هلال العسكري في الفروق اللغوية
[147] ،
والطبرسي في مجمع البيان
[148] ، والطباطبائي
في الميزان
[149] ، حيث أكدوا جميعاً على أن
كمال المعرفة والتحقيق إنما يكون باجتماع رقّة
القلب إلى لين الفؤاد، الذي يكون محصّله
الرحمة والإحسان، ومعرفة الحق وقبوله، باعتبار
أن اللين يوجب القبول والمعرفة والفهم،
والرِقة تقتضي الرحمة والشفقة، وهذا هو العلم
والرحمة وبهما كمال الإنسان
[150] .
إنّ ما يؤسف له ويعجب منه أن يطلق الكلام،
سواء في اللغة أم في تحديد المفاهيم على
عواهنه، بحيث يُسوّي بين المعاني، ويجمع بين
المفردات لتكون ذات دلالة واحدة ومفهوم واحد،
رغم أن القرآن واضح الدلالة في الإشارة إلى
حقيقة التمايز بين مفردة القلب ومفردة الفؤاد،
فهو أشار إلى الفؤاد في بدء الخلق والإنشاء،
ثم خصّه بالرؤية في كلام الرسول في سورة
النجم، هذا فضلاً عمّا خصّه به من تمايز في
حمل المسؤولية، ناهيك عمّا جاء به القرآن من
تعابير عن هواء الأفئدة، كما قال تعالى:
﴿
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾
[151] ، وقوله تعالى: ﴿
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾
[152] ، إلى غير ذلك من
الآيات القرآنية الواضحة الدلالة على أن
الفؤاد هو غشاء القلب وبابه، فإذا لم تستوِ
حالته، ويفرغ من هوائه، بحيث يلين لخيوط
النور، وتنتفي عنه الأهواء، فلن يكون العبور
آمناً إلى حبّة القلب وسويدائه، لتكون له
حقيقة الرؤية للآيات الكبرى، سواء في عالم
الملك، أم في عالم الملكوت، لأنّ الفؤاد مجاله
حماية القلب في لين تحوّله وتقلّبه، فإمّا أن
يستجمع المعاني المستوية إليه من عقل وفرح
وحزن وشعور ووجدان وعواطف، على ما أفاد
الرازي، وإمّا أن تشوبهُ القسوة واليبس، فلا
يكون منفذاً للحق إليه، فيؤول الحال به إلى أن
يكون هواءً لا استواء له على حق، ولا سبيل له
إلى رؤية، يقول العسكري: «الفؤاد غشاء القلب
إذا رقّ نفذ القول فيه وخلص إلى ما وراءه،
وإذا غلظ تعذّر وصوله إلى داخله، وإذا صادف
القلب شيئاً علق به إذا كان ليّناً»
[153] .
إنّ معنى أن يتوقّد القلب ليكون نوراً وجامعاً
لشتات تحولات الإنسان، هو هذا، أن يكون له
نضوجه وإنارته، باعتباره موضعاً للعقل
والاختيار، ومركزاً لجسم الإنسان وروحه، وكلما
كان الفؤاد ليّناً، كلما كان القلب رقيقاً،
فإذا ما انعكس الأمر وكانت للفؤاد قسوته، فلن
تكون للقلب رقّته، لما أفاده الطبرسي في
تفسيره بأن الفؤاد هو محل القلب وغشاؤه
[154] ،
فما لم يتميز الفؤاد بأن يتطهَّر من علائق
المادة فلا يلبث أن يتحوّل القلب عن كونه
قلباً ليكون هواءً، وما أدراك ما هواء القلب،
هوىً يميل بالإنسان إلى الشهوات والملذّات،
فلا يصدُف شيءٌ من الآثام والذنوب إلاّ
التقطه، وهذا ما يؤدّي بالقلب إلى أن يكون
كاسباً للذنوب، ومنتهياً إلى الشتات، كما في
قوله تعالى:
﴿
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ...
﴾
[155] ، الذي يعني امتلاء الأفئدة
بالهواء واختلاف العقول والآراء
[156] .
نعم، هناك مَن رأى من العلماء والمفسرين، أن
العقل عندما ينضج يطلق عليه «فؤاد» وكما أفاد
الراغب أن الفؤاد يعني القلب مع زيادة الإنارة
واللمعان، ولكن هذا الكلام يمكن فهمه على نحو
آخر بأن نقول: إنّ القلب هو العقل، ولكن
المستفاد من الآيات المباركة، بحسب منهجنا
الموضوعي، هو أخذ القلب بكليته من حيث هو موضع
العقل والاختيار، هذا فضلاً عن كونه مجال
الحواس الظاهرة والباطنة، ومرتكز حقائق
الإيمان، وهذا يعني فيما يعنيه أن لا نخصّ
العقل في الرؤية الموضوعية للآيات بالقلب دون
الفؤاد، حتى إن قوله تعالى: ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ ... ﴾
[157] ليس
ناظراً إلى جزئية في عمل القلب، ولا إلى حالة
نضج فيه وحسب، وإنما هو ناظر إلى ما يكون
للقلب من مركزية في تحقيق التحولات الإيمانية
التي تؤدي بالإنسان إلى الرؤية القلبية
[158] ،
وتجعله قادراً على التحوّل والتقلّب في مجالات
النور والحق والإحسان، وغير ذلك مما يعنيه لين
الفؤاد ورقة القلب، على اعتبار أن النضج
العقلي هو يأتي في مجال النضج الروحي للإنسان،
وذلك من حيث كون العقل هو خاصة من خواص الروح،
فإذا ما استوت هذه الأخيرة على جودي روحانيتها
وربّانيتها، فإنه يكون لها حقيقة التجوهر في
العلم والمعرفة، وبهذا يمتاز القلب عن الفؤاد،
في أنه ملحوظ على جهة الكسب، بخلاف العقل
والإرادة وما يحدثانه من إرادة باتجاه الفعل،
باعتبار أن العقل إنّما سمي عقلاً لكونه يمنع
من السيئات، ويميز بين الحق والباطل، ويفرق
بين الخطأ والصواب، وهذه خاصة من خواص العقل،
وقد ألمح العلاّمة الشيرازي في تفسيره
الموضوعي إلى هذا المعنى فيما أشار إليه من
تدرّج في حقيقة المعرفة التي تبدأ بالسمع بما
هو علوم نقلية، وتنتهي بالفؤاد الذي هو العقل
عند نضوجه، لأنه ـ أي الفؤاد ـ، هو أعلى درجة
من العقل
[159] .
وعليه، فإنّ ما نريد التأكيد عليه في مبحثنا
هذا، هو أن القلب والفؤاد ليسا شيئاً واحداً،
وإن كانا يترادفان من حيث الأصل، بل هما
يتفاضلان في درجات الكمال والنور والحقيقة
القلبية، لكون هذه الرؤية خصّت بالفؤاد تماماً
كما خصّ الحساب والمسؤولية به، بعد أن كانت
هذه الحواس قد خلقت وكوّنت ابتداءً لتؤدّي
دورها في الشهادة على نفسها فيما يكون منها من
سمع وبصر وفؤاد، وليس من الصدفة أبداً أن يأتي
الكلام الإلهي بهذا التدرّج ليعطي الفؤاد
خاتمة التحول بما يكون له من شهادة؛ هي في
الحقيقة جامعية النفس الإنسانية المفكرة التي
ميّزت الإنسان عن سائر الحيوان، كما رأى
الطباطبائي (قده)
[160] ، حيث رأى أن ذلك من أعجب
ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله تعالى
النفس الإنسانية فيسألها عمّا أدركت، فيشهد
الإنسان على نفسه، والفؤاد هو الذي يشعر به
الإنسان ويدرك
[161] . ولعلّنا لا نخطئ القول
في أن آيات الأفئدة في القرآن ليست ناظرة إلى
مكانة الفؤاد وحسب، وإنما هي لاحظة لطبيعة
الدور والوظيفة المناطة به، على اعتبار أنه
إذا لم يكن الفؤاد، بما هو وعاء وغشاء للقلب،
مستجمعاً لحالات الرقّة واللين بما ينطويان
عليه من رحمة وشفقة وعلم، فلن تكون له حالة
الهَوي المشار إليها في كلام النبي إبراهيم
(عليه السلام)، يقول الله تعالى: ﴿
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ ﴾
[162] . فهذه
الآية ناظرة إلى ما يكون للفؤاد، وليس للقلب،
وإلاّ لجاء القول بالقلوب، من حالة استحضار
روحي ومعرفي تدفع بالإنسان إلى أن يكون في هوى
إلى أهل البيت لكونهم الكلمة الباقية في عقب
إبراهيم (عليه السلام)، فما لم يكن الإنسان
متحققاً بالكمال الروحي والنفسي والمعرفي، فلن
يكون له معنى الهَوي الذي أريد له أن يكون
نزوعاً إليهم (عليهم السلام) وليس مجرّد ميل
أو حنين، وهذا ما لم يلحظه العلاّمة
الطباطبائي في الميزان، مقتصراً في تعبيره على
الحنين إليهم
[163] ، ولو أنه لحظ رحمة الله
عليه ما أورده العلاّمة الشريف الرضي لكان قد
استتمّ له المعنى، ذلك أن معنى الحنين أن يكون
الإنسان مستقراً في مكانه، بينما الهوي لا
يكون إلاّ بحالة النزوع من المكان إلى حيث
تحيا القلوب والعقول، وتزكّي الأرواح والنفوس.
وهذا أمرٌ من الأهمية بمكان، لكونه يُعطي
الفؤاد والأفئدة امتيازاً في القرآن على
القلب، تماماً كما في قوله تعالى: ﴿
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن
كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن
رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ
﴾
[164] ، حيث إنّ الآية تفيد فراغ
الفؤاد من كل شيء إلاّ من النبي موسى (عليه
السلام) لكونه ملك عليها قلبها وفؤادها، لا
بمعنى خلوّ الفؤاد من الرقّة واللين، أو من
الخوف والحَزَن، بل بمعنى اليقين، وقد جاء
الربط على قلبها بما هو تقوية لها ليزيد من
قوة إيمانها ويقينها، فصبرت لتكون بذلك من
المؤمنين بوعد الله تعالى لها بأن يرده إليها
ويجعله من المرسلين... هذا فضلاً عمّا يعنيه
الفؤاد في الآية من حضور كامل للقلب من حيث
كمال الرؤية القلبية، لأن ظاهر الآية يُفيد
حالة النزوع لقوله تعالى: ﴿
إِن كَادَتْ لَتُبْدِي .. ﴾ ، فكان الربط على قلبها
ارتكازاً إلى تمام بصيرتها، وحقيقة رؤيتها،
فأدّى الأمر بها إلى أن تكون على يقين بوعد
الله تعالى لها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما
استحال أمرها إلى الإيمان. وهذا ما يُفيده
دائماً اطمئنان القلوب لجهة التحقق المعرفي،
وقبله الروحي، تماماً كما في قوله تعالى: ﴿
وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ ، فهو قلب متحقق
بالمعرفة، ومستجمع لصفات الكمال، ولكنه احتاج
إلى مزيد ربط ليكون له تحوّله في الإيمان
الكامل، وهذا كما بيَّنّا، لا يكون إلاّ
باستجماع الرقّة واللين، والرحمة والعلم، الذي
مؤدّاه حقيقة الرؤية القلبية والتسليم المطلق
لله تعالى.
يجمع أهل اللغة على أن الصدر يعني القسم
الأمامي مما يلي وجه الإنسان، وقد لخّص هذا
المعنى العلاّمة الشيرازي بقوله: «يطلق الصدر
على القسم الأمامي الذي تحت الرأس في الجسم،
ومن ثمّ أطلق على القسم الأعلى والمقدم لأي
شيء مثل صدر المجلس، أي أعلاه، وصدر الكلام:
أي بدايته، وصدر النهار: أي أوله، كما جاء ذلك
في لسان العرب، لابن منظور
[165] ،
والمفردات للراغب
[166]
. وعلى كل حال، بما أن العقل عضو
مهم ويقع في الجزء الأعلى من البدن فأطلق عليه
صدر، وخاصة أن القلب الجسماني يقع في وسط
الصدر...»
[167] .
كما نلاحظ أن القرآن الكريم قد أتى على مفردة
الصدور في كثير من الآيات، التي تشير في سياق
الدلالة والمفهوم إلى معنى القلب والفؤاد
والعقل والروح، وغير ذلك مما لا يمكن إدخاله
في باب الترادف والتفريع وحسب، على رأي من
يذهب إلى القول بذلك، وإنما يمكن لحاظه في
معنى المجاز والاستعارة، لما أكّدنا عليه من
أن المفردات وإن كانت تعني في الجذر اللغوي
واشتقاقاته وحدة المعنى، والأصل، إلاّ أنها
تختلف وتفترق في مؤدّيات التحوّل بما يؤول
إليه الإنسان من أعمال وتحققات غالباً ما
تؤدّي به إلى أن يكون مختلفاً في تحولاته
العقلية والنفسية والروحية، بحيث تكون له
درجات مختلفة ومتباينة لجهة كمال النضج وعدمه،
لأنّ الترادف لا يفيد التماثل في المعنى لما
أفاده الغزالي بأن منزلة البصيرة من العقل هي
بمنزلة نور العين من العين، فالأسماء قد
تترادف، ولكن المعاني ليست واحدة فيما يكون
لها من تحوّل قلبي ومعرفي.
لقد رأينا في ما سبق أن القلب هو أخصّ من
الفؤاد في الاستعمال، وأن الفؤاد هو غشاء
القلب، وكما أشار الرازي في تفسيره أن القلب
قد يكون اسماً للأجزاء التي تحلّ فيها المعاني
الحقيقية من عقل وفرح وحزن، وشعور وعواطف، وأن
الفؤاد قد يكون اسماً لمجموع العضو المعروف
[168] ، وشاملاً لكل ذلك لكونه غشاءً للقلب،
وبما أن الصدر هو محلّ الفؤاد، تماماً كما هو
الفؤاد محلّ القلب، والقلب محلّ العقل، كما
أفاد القرطبي في تفسيره
[169] ، فإنّ الله
تعالى قد خصّ الصدر بالذكر لكونه محلاً لكل
ذلك، وقد جاء بالمفردات والتعابير على معنى
المجاز للإشارة إلى ما يعنيه هذا القلب، وإلى
ما له من دور ووظيفة في كينونة الإنسان
وصيرورته، وقد بيّن أهل التحقيق أنه لا يمكن
الفصل أو التنكر للعلاقة الوثيقة بين انقلاب
القلب العضو المعروف، والانقلابات العقلية،
لأنّ هذا القلب، سواء بمعناه المادي أم بمعناه
المعنوي، هو مركز الجسم والروح معاً، ولا بدّ
أن تكون لهذا المركز صيرورة تحول، وتفاعلات
تجعل كل منهما مؤثراً في الآخر على نحو ما
بينّا في بحوثنا السابقة. فالصدر ليس تعبيراً
حقيقياً عن القلب أو الفؤاد، وإنما هو استعمال
للفظ على غير ما وضع له، فيكون معناه المجاز،
إلاّ أن يكون له معنى حقيقي يستفاد من سياق
الكلام ودلالاته كأن يقال مثلاً: ﴿
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾
[170] ، فإن حصل التقليب في
الدنيا، فيكون له معنى الاستعارة، وإن حصل
التقليب على قراميص الجمر في نار جهنّم، كما
جاء في بعض الروايات، فإنّه يكون له معنى
الحقيقة. لكن الكلام في معنى الصدور، والعلم
بذات الصدور، وأن الآيات البيِّنات هي في صدور
الذين أوتوا العلم...إلخ، فهذا كلّه يرمز إلى
معنى القلب والعقل والروح وإلى كل المعاني
التي تستوي على القلب، أو يستوي القلب عليها،
ويكفي استعمال مفردة الصدر والصدور والعلم بها
للدلالة على هذه المعاني وما يكون لها من
أحوال مادية وروحية...
إنّ الصدر هو مفردة قرآنية استعيرت لتؤكّد على
المعنى الكلي لحالات الإنسان، على قلبه،
وروحه، وفؤاده، وعقله، وعلى كل ما له مقدّمية
اعتبار، وعلوّ مقام في حقيقة الإنسان، باعتبار
أن الصدور هي جامعية الرؤية القلبية وحقائق
الإيمان وكل البيّنات، وهذا كله يبيّن بل
يؤكّد على أن الصدر له رمزية القلب والفؤاد
بكل ما ينطويان عليه من تجلّيات تخرج الصدر عن
كونه مجرد تعبير مجازي ليكون له معنى النفس
الإنسانية المفكرة والعالمة التي تشكل حقيقة
الإنسان وجوهره. وعليه، فإنّ معنى أن تحلّ
مفردة مكان أخرى في الدلالة القرآنية، أن لا
يظهر الصدر على أنه شيء آخر خلاف القلب
والفؤاد، بل هو استعاره لتبيان حقيقة الصدر
بما هو مكان لحقيقة التجلّي الإنساني بأوسع
معانيه، ولهذا، نجد الخطاب الإلهي إلى الرسول
بقوله: ﴿
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
﴾
[171] ، وقوله تعالى: ﴿
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾
[172] ، إلى غيرها من
الآيات التي يستفاد منها توسعة في الصدر في
مقابل الضيق والحصر، كما قال تعالى: ﴿
فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
... ﴾
[173] ، وقوله تعالى: ﴿
أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن
رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم
مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ ﴾
[174] . وفي معنى الحصر جاء التعبير القرآني
باستعمال بما يُفيد الشدة والضيق، حيث قال
تعالى: ﴿
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ...
﴾
[175] ، وقال الله تعالى: ﴿
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
(12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ
لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴾
[176] .
لقد ورد في القرآن أكثر من أربعين آية جاء
فيهن لفظ الصدر، وفي سياقات قرآنية مختلفة،
منها ما يفيد الشرح، ومنها ما يفيد الضيق
والحصر، بحسب ما تكون عليه أحوال الإنسان من
كفر وإيمان، وشعور ووجدان، وذكر ونسيان، لكون
الصدر وما يحويه من مبعث الحياة الروحانية،
تماماً كما هو مبعث الحياة الحيوانية، وقد
خاطبه القرآن الكريم مستعيراً له كل مفردات
الحياة، ليدلّل على أن هذا الصدر بما هو صندوق
للقلب، هو هذا المحتوى الروحي للإنسان، كما
تقدّم بيانه، من أن القرآن في زمن البعثة لم
يكن مشغولاً أو مهتمّاً بالقلب العضو المعروف
في صدر الإنسان، وإنما بما هو وراء ذلك من
حقيقة إيمانية وروحانية متجلّية في فطرة
الإنسان ونفسه، التي تشكل حقيقة الإنسان، يقول
حسن مصطفوي: «إن القلب والصدر أعمّ من الظاهر
المادي، والباطن الروحاني، وكما أن القلب
المادي مركز الحياة الحيوانية والصدر صندوق له
ويحويه، كذلك القلب الروحاني، فإنه مركز
الحياة الروحانية والصدر يحويه. فالقلب مركز
الصدر، والصدر مرتبة مُتَّسِعة ثانوية مستنيرة
من القلب، وعلى هذا يختلفان في مقام النسبة،
فيقال في النسبة إلى القلب، أمن واطمأنّ، وخشع
وسلم، وقسى، وزاغ واهتدى، وعَمِي، وخُتِم، ولا
تنسب هذه الأمور إلى الصدر... والحاصل أن
الصدر والقلب كالمشكاة والمصباح، ﴿
كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ ، والقلب مظهر القوة
والحياة، والصدر فيها تلك القوة، وعلى هذا
عُبّر بقوله تعالى: ﴿
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
[177]
، فإنّ التمحيص هو التخليص من العيب والشوب مع
التجلية، وهذا المعنى يناسب أصل القوة
ومركزها، ولا معنى لتخليص المحيط وتجليته مع
وجود خلط وشوب في المظروف، والمناسب بالمحيط
والمظروف هو الاختيار والامتحان والابتلاء...»
[178] .
نعم، يمكن ملاحظة الآيات القرآنية التي تمايزت
فيما أعطته لكل من القلب والصدر من حالات
ومفردات، فقالت تعمى القلوب، ولم تقل تعمى
الصدور، وقالت بهداية القلب، ولم تقل بهداية
الصدر، وقالت بأقفال القلوب، ولم تقل ذلك في
الصدور إلى غير ذلك مما تمايزت به المفردات،
وتحققت به الحالات، وتنوعت فيه الاستعارات،
فلكل مفردة ما يلائمها في سياق التعبير
للتدليل على أن هناك ظرفاً يحوي ومظروفاً،
والصدر هو الصندوق، بل هو مصداق مرحلة الصدور،
ومنه يتحقق صدور الحياة من القلب إلى البدن،
ولهذا استعيرت له مفردات قرآنية تتناسب
وخصوصيّته، من حيث هو محل الابتلاء، بعد أن
جعل القلب محلّ التمحيص والتجلية، التي لا بدّ
أن يكون الصدر متنفساً لها سواء بالمعنى
المادي أم بالمعنى الروحي والمعنوي
[179] ،
بدليل أن الإنسان في كثير من حالاته المادية
يُظهر اهتماماً ملحوظاً في تصرفه المادي
بالجزء المقدم والأعلى من رأسه لكونه مبعث
الضيق أو الفرح، ويكفي أن نشير هنا إلى حقيقة
مهمة، وهي أن الإنسان قد يلتبس عليه المعنى،
فيعتقد أن الإنسان ينطوي على مناطق نفوذ تسيطر
عليها قوى مختلفة في جسم الإنسان، أو قد يظن
أنّ الصدر هو القلب أو الفؤاد، أو غير ذلك مما
تنوعت مفرداته واختلفت تسمياته، وقد يكون منشأ
هذا الالتباس، أن الإنسان تأخذه حالات معينة
باتجاه تجزئة ذاته، تماماً كما يفعل حينما
ينسب فعل الأنا إلى أعمال ونشاطات مختلفة، كأن
يقول: أنا شربت، وأنا أكلت، وأنا كتبت، ساهياً
عن أن الأنا التي فعلت أو قامت بذلك هي واحدة،
وهي نفسه التي بين جنبيه، والتي تشكّل حقيقته،
فإذا ما قال الإنسان صدري وقلبي وروحي وعقلي،
وفؤادي، فهذا لا يستفاد منه تنوع الفعل من جهة
الأنا، ومن جهة حقيقة ذلك، تماماً كما فهمنا
من معنى مسؤولية السمع والأبصار، والأفئدة،
وسائر الحواس الظاهرة والباطنة، حيث بينّا أن
المسؤولية التي يتحمّلها الإنسان هنا ليست في
الحقيقة مختلفة ومتعددة، وإنما هي حقيقة واحدة
هي النفس العالمة والمفكرة والمدركة التي تثاب
وتعاقب بحسب ما يكون لها من تجلٍّ أو تأمل.
إنها حقيقة الإنسان المتجلية بقوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ
إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾
[180] ، وقوله
تعالى: ﴿ يَا
أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ ﴾
[181] ، إلى غيرها من الآيات
التي تخصّ الإنسان في قلبه وروحه وصدره
وفؤاده، وكل حالاته وحواسه الباطنة والظاهرة،
وما قوله تعالى: ﴿
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
[182] إلاّ خير
دليل على ذلك. فهو تعالى لم يقل صدره، وإنّما
قلبه لما يعنيه من حصرية في الفعل والصدور وإن
كان الفؤاد والصدر هما اللذان يتوليان عملية
الترجمة والتعابير في مظاهر الحياة المختلفة،
لأن قولنا: إن الصدر هو مصداق مرحلة الصدور،
كما أفاد المصطفوي في تحقيق كلمات القرآن
الكريم، يُفيد أن للصدور معناه عن القلب؛
ولازم ذلك أن تكون للصدر خصوصية بهذا
الاعتبار، لا لجهة أنه مرحلة مستقلة في الفعل
والتأثير، وإنما لجهة الصدور عن الجهة المدبرة
التي هي القلب بما هو مركز ثقل الحياة الروحية
ذات الدلالة الخاصة على معنى الحيلولة، التي
يمكن التعبير عنها بقوة التدبير المنتسبة إلى
الله تعالى بما نفخه في الإنسان من روح، فهذه
القوة التي عبّر عنها في الرؤية الإسلامية
باللمظة، أو بالجوهر العقلي، هي التي جعلت
موضعاً للعقل والاختيار، كما أفاد الرازي، وهي
التي تدرك حقيقة ما يحول بينها وبين فعلها،
قبل أن تدرك ذاتها، وهذا ما أفاده الطباطبائي
(قده) في مباحثه، حيث أكد على أن قوله تعالى: ﴿
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ ﴾
[183] ، هو خير دليل
على حقيقة التوحيد، سواء في النفس أم في
الوجود، لكون هذه النفس المدبرة والمتفكرة في
وحدة أفعالها، وفي حقيقة الصدور عنها لها
امتداد التحقق في الروحية والتدبير، هذا فضلاً
عمّا لها من أوجه تتلاقى بها مع أدلة التوحيد
الذاتي والصفاتي والأفعالي، فيما يخص الذات
الإلهية، وهذا ما سبق الكلام فيه لجهة القول
بمجهولية القول في معنى هذه الروح لكونها من
أمر الله تعالى
[184] .
وكيف كان، فإنّ ما جاء في معنى الصدر في
القرآن ليس أكثر من توسعة في الكلام على سبيل
الاستعارة والمجاز، لأن حقيقة التوسعة في
الألفاظ والمفردات، تستدعي حتماً التوسعة في
المعاني، ومن خلال هذا يستطيع الباحث أن يؤسس
لمفاهيم جديدة في مجال المفهوم والرؤية
المعرفية والإنسانية على اعتبار أن القرآن،
كما نرى، لم يرد تقديم مفردات مختلفة في
التعبير ومتفقة في المعنى وحسب، وإنما أراد أن
يكشف عن التحولات الإنسانية بما هي مرتكزة إلى
وحدة حقيقية تؤدي أفعالاً مختلفة، ولكنها
متميّزة فيما يكون لها من تكامل في ما تؤدّيه
من أعمال ووظائف، سواء باتجاه الخير أم باتجاه
الشرّ، وبهذا تنتفي التجزئة بين أن يكون للقلب
فعله، وللنفس فعلها، ولعلّ من أفضل الأدلّة
على هذا المنحى هو قوله تعالى: ﴿
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
[185] ، وهذا
يفسّر معنى استخدام الصدر، شرحاً وضيقاً، مكان
القلب في آيات كثيرة، لأن الصدر ليس مفهوماً
مجرداً، ولا القلب كذلك، فضلاً عن الفؤاد،
وإنما لكل مفردة سياقها ومفهومها في السياق
القرآني، ولها تعبيراتها المختلفة في ما
يتقلّب فيه الإنسان من أحوال، وفيما يتبصّر به
من أمور، سواء أكانت من أمور الدنيا أم من
أمور الآخرة، ويكفي تدليلاً على ذلك الإشارات
القرآنية في آيات القلب والفؤاد والصدر إلى ما
يتصل بقضايا الموت والحياة، فضلاً عمّا يكون
لهذه الألفاظ من معانٍ ظاهرة وباطنة فيما
تحتويه من غلّ وكبر، وإسرار وإعلان، وضيق
ووسع، إذ إنّ كل ذلك هادف إلى تبيان حقيقة
المعنى من خلال التركيز على حقيقة القلب لجهة
ما أسند إليه من وظائف تتصل بالتفكير والعقل
تارة، وبالإلهام والإحساس والمشاعر تارةً
أخرى. وبما أن القلب له هذه الجامعية، فقد
اختير له أن يكون إماماً ومركزاً تتمظهر به
الحياة، وتصدر عنه الأفعال بما نفخ فيه من روح
شكّلت جوهرة وشرّفها الله تعالى بإضافتها
إليه، وهذا ما تجلّيه الفطرة الإنسانية التي
فطر عليها الإنسان، واختلف في شرحها البيان،
فكانت قاب قوسين أو أدنى من العيان، ذلكم هو
معنى المجاز والتوسعة في الصدر لاستيعاب كل
القوى في الإنسان لتكون له تجلّياته الروحية
والمعرفية، وهذا هو معنى أن يكون القلب صادراً
عنه من حيث كونه له صدارة التحقق، وتجلّيات
الأفعال، بحيث تطاله دعوة الشرح والضيق، ويكون
له كلّية المعنى في احتواء الآيات البيّنات،
والصدور عنها وإليها، كما في قوله تعالى: ﴿
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾
[186] ، فهذه
الآية جاءت بمفردة الصدور، ولم تأتِ بمفردة
القلوب، ولعل ذلك ناظر إلى أن الذي عنده علم
الكتاب، قد استوفى بل استجمع كامل الصفات
الروحية والنفسية والعقلية لكون الصدر هو
صندوق القلب والفؤاد معاً، فلو استعمل القلب
لما استفدنا هذا المعنى، هذا فضلاً عن أن
المجيء بالصدر دون القلب مفيد لحقيقة مهمة
جداً مؤدّاها - والعلم عند الله - أن الذي حفظ
عنده القرآن، وجعل شهيداً عليه. وكما في قوله
تعالى: ﴿
اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ
وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾
[187] هو الذي له مقام
الصدر، بل المقام الأعلى لما تفيده اللغة من
مقدمية وعلوّ مكانة وشأنية بحيث يثبت له حق
القيام بهذه الآيات لما سلف قوله من أن الصدر
لغة يعني صدر المجلس، وصدر الكلام، وغير ذلك
مما تعنيه الصدارة هنا من علم وعمل، فضلاً عن
الكمال النفسي والعقلي، واستجماع صفات الرقة
واللين في قلوب أولئك الذين اصطفاهم الله
تعالى وجعلهم أبواباً لمعرفته
[188] . فلو أن
المفردة جاءت بالقلب لما كان بالإمكان استفادة
ذلك منها مما يجعلنا نعتقد اعتقاداً راسخاً
بأن الإشارة إلى الصدور هي من الأهمية بمكان،
فإن قيل: إن القلب هو أيضاً يُفيد المركزية في
الجسم والروح، وله مكانة الصدور من حيث صدور
الأقوال والأعمال عنه، قلنا: إنّ ذلك حجة
ولكنه غير كافٍ لاستفادة المقدمية والوجهة
العليا من رأس الإنسان، تماماً كما في الإشارة
إلى وجه الإنسان في القرآن الذي يطلق لغة على
مقدمية الشي، ولكنه يرشد إلى حقيقة ما يكون
للإنسان من شأنية في قومه، أو في عشيرته، أو
في مجلسه، بحيث يُقال: إنّ فلان وجه قومه، أي
كريمهم، ومركز الرأي فيهم ...
نحن إنّما نذهب إلى هذا القول للتدليل على أن
قاعدة التمييز بين المفردات لا يمكن أن تكون
من اللغة فقط، بل لا بدّ من ملاحظة السياق
القرآني وحاكميته على اللغة والاصطلاح معاً.
فالقرآن هو الذي يحدّد الرؤية والمفهوم،
ويُعطي معنى التفرقة في المفردات في ضوء ما
يكون له من وحدة أصل، أو اشتقاق، وفي جميع
الأحوال، لا بد من إعادة النظر في مبحث
الترادف، وقد سبق إلى هذا الأمر العلاّمة
اليزدي في معارف القرآن، وبيّن حقيقة
المشتركات اللفظية والمعنوية، وأرشد إلى أن
المفردة الواحدة قد ترشد إلى عدة معان، كما في
مفردة الروح مثلاً، حيث أطلقت في القرآن في
مجالات متنوعة، على الملائكة، وعلى الأنبياء،
وعلى الروح المدبّرة للإنسان، وهذا كله يمكن
ملاحظته في سياق الآيات القرآنية. لذا، فإنّ
ما نصرّ عليه هو أن لا نأخذ الآيات في سياق
واحد، معتمدين على الجذر اللغوي فقط، لأنّ من
شأن ذلك أن يذهب بنا إلى القول بالترادف، وبما
أنه لا ترادف في القرآن، كما نرى، فذلك يقتضي
من الباحثين إعادة التدبّر في مدلول الآيات
للوقوف على حقائق الأمور، وذلك كله لا يكون
ممكناً إلاّ باعتماد المنهج الموضوعي، الذي
يمكن أن يؤدّي بنا إلى مزيد من المعرفة فيما
يعرض له القرآن في مجال القلب والفؤاد والصدر
وغيرها من المفردات ذات الدلالات المختلفة...
وبالله نستعين.
[1] سورة الإسراء، الآية: 9.
[2] إنّ الحسّ والعقل عاجزان عن تعيين منهج
دقيق للحياة بحيث يؤمنان للإنسان سعادته
وكماله الأخرويين الأبديين، فاقتضت الحكمة
الإلهية أن توضع تحت تصرّف الإنسان المعارف
اللازمة لذلك... وليس هذا إلاّ طريق الوحي
والنبوّة....
[3] سورة الأنفال، الآية: 24.
[4] سورة النحل، الآية: 106.
[5] سورة الأنعام، الآية: 122.
[6] سورة الرعد، الآية: 11.
[7] سورة محمد، الآية: 24.
[8] سورة الشعراء، الآية: 89.
[9] سورة البقرة، الآية: 225.
[10] سورة البقرة، الآية: 283.
[11] سورة العنكبوت، الآية: 43.
[12] سورة البقرة، الآية: 118.
[13] العيسوي، عبد الرحمن، مناهج البحث
العلمي، دار الراتب الجامعية، الإسكندرية،
مصر، 1997، ص260، وقا: مع ماهر عبد القادر،
فلسفة العلوم الطبيعية، دار المعرفة الجامعية،
الإسكندرية، مصر، 1980، ص260.
[14] الفضلي، عبد الهادي، أصول البحث، الجامعة
العالمية للعلوم الإسلامية، بيروت، دار
المؤرّخ العربي، ط1992، ص67.
[15] عارف، هنديجاني فرد، الوعد والوعيد في
القرآن المجيد، جمعية القرآن الكريم، لبنان،
ط1، 2014م.
[16] م. ع، الفوز العظيم والخسران المبين في
القرآن الكريم، جمعية القرآن الكريم، لبنان،
ط1، 2014م.
[17] م. ع، علوم القرآن عند العلاّمة
الطباطبائي، جمعية القرآن الكريم، لبنان، ط1،
2013م.
[18] م. ع، حوار الأديان في القرآن الكريم،
جمعية القرآن الكريم، لبنان، ط1، 2014م.
[19] بعلبكي، منير، قاموس المورد، دار العلم
للملايين، بيروت، 1980، ط14، ص10.
[20] سورة الإسراء، الآية: 9.
[21] را: الشيخ المفيد، محمد بن النعمان،
تصحيح اعتقادات الإمامية (ت 413هـ)، تحقيق
حسين دركاهي، دار المفيد، بيروت، ط2، 1414هـ،
1993م، ص31.
[22] الشيرازي، مكارم، تفسير موضوعي، نفحات
القرآن، مدرسة الإمام علي ، قم، 1426هـ، ط1،
ص138.
[23] سورة النجم، الآية: 11.
[24] انظر: دراسة جمعية القرآن الكريم للتوجيه
والإرشاد، دروس في مناهج التفسير، لبنان، ط1،
بيروت، 2012م، ص137.
[25] إنّ أي نمط من أنماط التفسير الموضوعي لن
يكون كافياً لرفع جميع المبهمات من كافة
الجوانب، لأنّ المُجْملات كالصلاة والزكاة
تُبيَّن بالسنّة، والعمومات تخصّص بها،
والمطلقات تقيّد بالأخبار، إلى غير ذلك من
موارد الحاجة إلى السنّة، نعم، يمكن للباحث
القرآني أن يحيط بكثير من المواضيع القرآنية،
ولكن ليس في نطاق الأحكام الشرعية والتكاليف
العمومية، لأنّ هذه مما لا يستقلّ القرآن بها،
إذ لا قرآن من دون سنّة، فإذا ما تمّ تصنيف
الآيات بحسب الموضوعات المستخرجة، فإنّه يمكن
للباحث أن يخلص إلى نتائج هامة في موضوع بحثه،
إلاّ أنّه يبقى عليه أن يدرك حقيقة أن السنّة
النبويّة هي التي تفسّر القرآن في كثير من
الجوانب بحيث لا يتوهّم أحد أن منهج التفسير
أيّاً كان هذا المنهج، قادر على حلّ كل
المبهمات، وهذا ما يفترض على الباحث أن يتنبّه
له فيما يضعه لنفسه من قواعد ومعلومات منظمة
في ما يختاره من منهج أو أسلوب في البحوث
القرآنية ...
[26] السبحاني، جعفر، مفاهيم القرآن، تفسير
موضوعي، مؤسسة الإمام الصادق ، قم، 1428هـ.
[27] الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، تفسير
موضوعي، إيران، قم، 1426هـ.
[28] سورة ق، الآية: 37.
[29] سورة الأحزاب، الآية: 10.
[30] سورة غافر، الآية: 18.
[31] را: السيد محمد، خارطة المفاهيم القرآنية،
دمشق، دار الفكر، 2009م، ص70.
[32] انظر: هاشم البحراني، البرهان في تفسير
القرآن، بيروت، دار الهادي، 1992م، ط4، ج1،
ص20.
[33] سورة غافر، الآية: 26.
[34] سورة الرعد، الآية: 19.
[35] سورة التوبة، الآية: 48.
[36] سورة غافر، الآية: 4.
[37] سورة النور، الآية: 37.
[38] سورة ق، الآية: 37.
[39] سورة الأنعام، الآية: 110.
[40] سورة التوبة، الآية: 126.
[41] سورة الشعراء، الآية: 227.
[42] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار
المعارف، مصر، (لا ـ ت)، ج5، ص3713.
[43] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، إشراف
حسن عطية، ومحمد شوقي أمين، مصر، ط2، ج12،
ص753.
[44] سورة البقرة، الآية: 25.
[45] سورة الحج، الآية: 46.
[46] سورة الأحزاب، الآية: 10.
[47] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ
القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، (لا ـ ت)،
ص426 (بتصرف).
[48] الزبيدي، محمد بن مرتضى، تاج العروس من
جواهر القاموس، (ت 1205هـ)، مكتبة الحياة،
بيروت، (لا ـ ت)، ج2، ص220.
[49] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1991م، ج9، ص46.
[50] انظر الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، م.
س، ج1، ص132.
[51] سورة النجم، الآية: 11.
[52] الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، مدرسة
الإمام علي ، طهران، ط1، 1426هـ، ج1، ص110.
[53] سورة النحل، الآية: 78.
[54] الغزالي، أبو حامد، مجموعة رسائل، دار
الكتب العلمية، بيروت، 1986، ص38.
[55] لا شكّ في أن مرجعية كل مفهوم إسلامي هي
القرآن الكريم، لأنه نصّ مطلق، يمكن للغة أو
للمصطلح أن يكشف عن بعض مداليل هذا المفهوم،
إلاّ أنّ كل ما يطرحه الإنسان في باب الفهم
والتدبّر يبقى نسبياً إلى حدّ ما، لأنه لا
يمكن للإنسان المحدود أن يستوعب حقيقة المفهوم
بشكل كامل وفي مطلق الزمن، من هنا تتأتّى لنا
ضرورة أن يتريّث الباحث في إطلاق الأحكام، أو
في تحديد المواقف، أو صياغة النظريات، باعتبار
أن المفهوم بنية فكرية تبلور فيها ملامح تجربة
إنسانية بكل ملامحها الفكرية والمعرفية
والنظرية والفلسفية، والمفاهيم، كما يقول أهل
التحقيق، هي مشروعات كبرى للمعاني والدلالات،
وهي شبيه الكائن الحيّ، والمفهوم وعاء معرفي
جامع له هوية كاملة، وله سيرة وصيرورة تعرف
نقاط الميلاد، والجذر اللغوي التأسيسي
والاصطلاحي، والشرعي... وهكذا، فإن معنى أن
يكون القرآن قد أطلق مفهوماً في سياق الحدث
التاريخي أو التجربة التاريخية، معناه أنه لا
يمكن لمن يقرأ هذه التجربة أن يحدّد المفهوم
الكلي محصوراً بتلك التجربة لما نعرفه عن النص
القرآني من حيث كونه يجري كما تجري الشمس
والقمر. كما جاء في الرواية عن أهل البيت
(عليهم السلام)... بيد أن هذا كله لا يعفي
الباحث من مسؤولية الارتكاز إلى الميزان
اللغوي والاصطلاحي لكون القرآن نصّاً عربياً
لا بدّ من تعقّله في سياق فهم معرفي وثقافي
شامل يبدأ من وعي مرحلة النص، ولا ينتهي في
تجربته، بل يمتد في تاريخ الإنسان وزمانه
ومكانه ليكون له حضورٌ كاملٌ في ما يمكن أن
يحدثه الإنسان من تحولات معرفية ونظرية...
وهذا لا يؤدي إلى أن يكون الإنسان أسير
التجربة أو الحدث التاريخي، بل يساعد على
بلورة رؤية معرفية تستند إلى النص، وتأخذ
بالمفهوم القرآني على أنه ذو دلالة كبرى في
المعنى والدلالة. وبما أن الإنسان قد اغترب عن
هذا النص في كثير من تحولاته المعرفية، فكان
لا بدّ أن يضطرب المفهوم ويلتبس حينما يتحول
الإنسان إلى مفاهيم أخرى تتغيّر وتتتبدّل وفق
رؤية بشرية تحدّد المفهوم والمصطلح في ضوء
منجزات العلم الحديث، وقد أدّى هذا، فيما أدّى
إليه، إلى أن يكون النصّ القرآني ملتبساً عند
الباحثين، وقد أشرنا في مبحثنا إلى أنّ هذا
الالتباس عرض له القرآن فيما ادّعاه فرعون من
فساد يأتي به موسى (عليه السلام) !!. هو يدلّ
على المفهوم والرؤية، ويُعطي فهماً جديداً من
عنديّاته يتوافق ورؤيته للتحولات في النفس
والواقع معاً.
[56] الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، م. ع،
ج3، ص538.
[57] الغزالي، أبو حامد، مجموعة رسائل، م. س،
ص42.
[58] سورة الإسراء، الآية: 85.
[59] م. ع، ص41.
[60] الراغب، الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ
القرآن الكريم، م. س، ص416.
[61] يرى الملاّ صدرا أن الإنسان متجاذب بين
الشيطان والملك، إذ في القلب، كما عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّات، لمة من
الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة من
العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ...، ثم قرأ
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ﴾ ، ولتجاذب القلب بين
هذين المسلطين، قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع
الرحمن»، والله يتعالى عن أن يكون له جارحة،
ولكن الروح الإصبع وحقيقة معناه عبارة عن سرعة
التقليب، والقدرة على التحريك والتغيير...
وكما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك، فالله تعالى
إنما يفعل ما يفعله باستسخار الملك والشيطان،
وهما مسخّران لقدرته في تقليب القلوب...
را: الملاّ صدرا، مفاتيح الغيب، مؤسسة
مطالعات، إيران، (لا ـ ت)، ص158.
[62] را: الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين
(ت: 505هـ)، دار الهادي، بيروت، 1992م، ط1،
ج3، ص19.
[63] سورة البقرة، الآية: 284.
[64] سورة الروم، الآية: 30.
[65] سورة الأنعام، الآية: 122.
[66] سورة النجم، الآية: 11.
[67] سورة النور، الآية: 40.
[68] الغزالي، مجموعة رسائل، م. س، ص39.
[69] الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، م. س،
ص110.
[70] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، م.
س، ج3، ص18. وقا: مع رسائل الغزالي، م. س،
ص42.
[71] سورة الحج، الآية: 46.
[72] الإحسائي، ابن أبي جمهور، (ت 880هـ) عوالي
اللئالي العزيزية في الأحاديث النبوية، تحقيق
السيد مرعشي، قم، ط1، 1403هـ، ج1، ص250.
[73] سورة الإسراء، الآية: 85.
[74] الغزالي، أبو حامد، مجموعة رسائل، م. س،
ص40.
[75] سورة النحل، الآية: 106.
[76] سورة الحج، الآية: 32.
[77] سورة البقرة، الآية: 283.
[78] سورة البقرة، الآية: 225.
[79] انظر: الإحسائي، ابن أبي جمهور، عوالي
اللئالي الغديرية في الأحاديث الدينية، (ت
880هـ)، تحقيق المرعشي، والشيخ العراقي، قم،
ط1، 1983م، ج4، ص116. وقا: مع الحرّ العاملي،
الفصول المهمة في أحوال الأئمة، (ت 1104هـ)،
قم، ط1، 1418هـ، ج1، ص262 .
[80] صالح، عضيمة، مصطلحات قرآنية، الجامعة
الإسلامية، دار النصر، بيروت، ط1، 1994م،
ص330.
[81] انظر: الريشهري، محمدي، ميزان الحكمة،
دار الحديث، ط1، ج1، ص198م. وقا: الزبيدي، تاج
العروس، م. س، ج5، ص262.
[82] سورة الأنفال، الآية: 24.
[83] سورة النجم، الآية: 11.
[84] من غريب الأمر أن تضطرب أقلام المفسرين
في موضوع الرؤية القلبية في تفسير قوله تعالى:
﴿ مَا كَذَبَ
الْفُؤَادُ مَا رَأَى
﴾ ، بين قائل بأن رؤية القلب بما رآه
البصر، كما ذهب الزمخشري، وقائل بأنها الرؤية
القلبية المفيدة لوحدة النفس الإنسانية، كما
ذهب الطباطبائي (قده) ، حيث رأى نسبة الرؤية إلى
الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو
النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري
المعلّق على يسار الصدر داخلاً، وهو لم يكتفِ
بذلك بل فنّد رأي الزمخشري مبيّناً أنه لو كان
ضمير «ما رأى» للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
كان محصل معنى الآية الاحتجاج على صدق رؤيته
باعتقاده ذلك بفؤاده، وهذا بعيد من دأب
القرآن، وهو بخلاف ما لو رجع ضمير «ما رأى»
إلى الفؤاد، فإنّ محصّل معناه تصديقه تعالى
لفؤاده فيما رآه، ويجري الكلام على السياق
السابق الآخذ من قوله ﴿
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى ﴾
. ولا شك في أن العلامة الشيرازي، وكذلك
العلامة مغنية قد وافقا الطباطبائي على تحقق
الرؤية القلبية من خلال النفس الشاعرة.
را: الطباطبائي، تفسير الميزان، مؤسسة
الأعلمي، بيروت، ط1، 1991، ج8، ص345. ورا:
مجلد 19، ص31. وقا مع: الشيرازي، مكارم، تفسير
الأمثل، في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسسة
الأعلمي، بيروت، ط1، 2007، ج13، ص308. وقا: مع
مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار العلم
للملايين، بيروت، ط3، 1981م، ج3، ص175. وقا:
مع الزمخشري، محمود بن عمر، تفسير الكشاف، دار
الكتب العلمية، بيروت، ط5، 2009م، ج4، ص410.
[85] الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، ج4،
ص141.
[86] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة،
المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، كاظم
محمد، ومحمد دشتي، دار الأضواء، بيروت، ط1986،
الخطبة: 91، فقرة: 12.
[87] العاملي، زين الدين، أبي محمد علي بن
يونس العاملي النباطي البياضي، الصراط
المستقيم إلى مستحقي التقديم (ت 877هـ)، تحقيق
محمد باقر البهبودي، مطبعة الحيدري، المكتبة
الرضوية، ج1، ص156.
[88] ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، شرح نصير
الدين الطوسي، تحقيق سليمان دنيا، مؤسسة
النعمان، بيروت، ط1، 1992م، ج2، ص343.
[89] سورة الفتح، الآية: 29.
[90] سورة النور، الآية: 35.
[91] الغزالي، مجموعة رسائل، م. س، ص41.
[92] م. ع، ص42.
[93] سورة الإسراء، الآية: 85.
[94] م. ع، ص. ن.
[95] م. ع، ص41.
[96] سورة العنكبوت، الآية: 43.
[97] سورة البقرة، الآية: 171.
[98] الراغب، الأصفهاني، معجم ألفاظ مفردات
القرآن الكريم، م. س، ص354.
[99] الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، 2012،
ج21، ص109.
[100] سورة الحشر، الآية: 2.
[101] را: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، شرح
الطوسي، م. س، ج2، ص343.
[102] الملاّ صدرا، صدر الدين الشيرازي، مفاتيح
الغيب، فصل حدوث النفس، م. س، ص536.
[103] يقصد بالبراغماتية ما يُراد به أن معيار
الحقيقة هو العمل المنتج لا مجرّد التأمل
النظري، والأفكار إنما تكون صادقة وحقّة فيما
تؤدّي إليه من قيمة عملاً... والبراغماتي بوجه
عام، هو وصف لكل ما يهدف إلى النجاح وتحقيق
منفعة خاصة به، وهذا بخلاف أحكام العقل
وبديهيّاته التي من دونها لا قيمة للعلوم
إطلاقاً. انظر: عبد الرحمن العيسوي، مناهج
البحث العلمي، م. س، ص96.
[104] م. ع، ص97.
[105] يقول الإمام علي (عليه السلام): «فبعث
فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم
ميثاق فطرته... ويثيروا لهم دفائن العقول،
ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويروهم آيات
المقدرة...». نهج البلاغة، م، س، الخطبة: 1،
فقرة: 37.
[106] را: صالح عضيمة، مصطلحات قرآنية، م. س،
ص330.
[107] الغزالي، مجموعة رسائل، م. س، ص31.
[108] سورة الحجر، الآية: 29.
[109] الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، م. س،
ج1، ص 139 (بتصرُّف).
[110] سورة الرحمن، الآيتان: 3 ـ 4.
[111] سورة البقرة، الآية: 31.
[112] را: الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، أصول
الكافي، (ت 329هـ)، مطبعة الحيدري، دار الكتب
الإسلامية، ط 3، 1388هـ، ج1، ص16.
[113] انظر: البرقي، أحمد بن محمد بن خالد،
كتاب المحاسن، (ت 274هـ)، تحقيق الحسيني، دار
الكتب الإسلامية، (لا ت)، ج1، ص192. وقا: مع
شبّر، عبد الله، الأنوار اللامعة في شرح
الزيارة الجامعة، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983،
ص69.
[114] را: ريشهري، محمدي، ميزان الحكمة، م. س،
ج3، ص35. وقا: مع الطبرسي، أبي علي الفضل بن
حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، (ت 560هـ)،
مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1415هـ، ج1، ص72.
[115] سورة البقرة، الآية: 38.
[116] سورة طه، الآية: 123.
[117] سورة البقرة، الآية: 283.
[118] سورة البقرة، الآية: 225.
[119] سورة العنكبوت، الآية: 43.
[120] سورة البقرة، الآية: 171.
[121] سورة الإسراء، الآية: 85.
[122] انظر الكراجكي، ابن الفتح بن علي، كنز
الفوائد، (ت449هـ)، قم، مكتبة المصطفوي، ط2،
1410هـ، ص88.
[123] اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن،
الدار الإسلامية، بيروت، ط1، 1989، ج3، ص11.
[124] م. ع، ص12.
[125] م. ع، ص51 ـ 52.
[126] انظر: صالح عضيمة، مصطلحات قرآنية،
الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، لندن، ط1،
1994، ص329.
[127] انظر: دستغيب، عبد الحسين، القلب السليم،
ترجمة الشيخ كوراني، دار البلاغة، بيروت، ط1،
2000، ص35.
[128] سورة الأنعام، الآية: 113.
[129] سورة الفرقان، الآية: 32.
[130] سورة الأحقاف، الآية: 26.
[131] هناك خمس عشرة آية في القرآن جاء فيها لفظ
فؤاد، وهو في أهمية لا يقلّ عن أهميّة القلب
ودوره، لكنه يمتاز عن القلب في كونه متّصف
بالليونة، وتتسرّب منه الأحوال إلى حبّة
القلب، وإذا كان القرآن قد ركّز على القلب في
عشرات الآيات. فذلك لأنّ القلب له معنى العقل
والتعقّل والثبات، وهو يشترك مع الفؤاد من حيث
التعبير عن العقل وارتباطه بالمسؤولية
واشتراكه مع الحواس في العمل، وقد نجد من
الباحثين مَن لم يعر اهتماماً لهذا التمايز
لقناعته بأن الأمر لا يتجاوز التنوع في
استعمال المفردات القرآنية، وهذا ما لا نرى له
وجهاً في القرآن. وكما سنرى في مبحث القلب
والفؤاد بأنّ القرآن لم يعطِ القلب صفة أو
حالة الهواء، كما أعطى الفؤاد، بمعنى أن
القرآن لم يقل بأن القلوب تهوي، أو قلوبهم
هواء، بل قال:
﴿ لَا
يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾
، وهذه استعارة، والمراد بها صفة القلوب
بالخلوِّ من عزائم الصبر والجلدِ لعظيم
الإشفاق والوجل، وكما يقول الشريف الرضي (قده) »
«إنه من عادة العرب أن يُسمُّوا الجبان يَراعة
جوفاء، أي ليس بين جوانحه قلب... ويسمّون
الشيء إذا كان خالياً «هواء»، أي ليس فيه ما
يشغله إلاّ الهواء». انظر: الشريف الرضي،
تلخيص البيان في مجازات القرآن، دار الأضواء،
بيروت، ط2، 1986، ص184.
لقد أعطي القلب مركزية ما في الآيات القرآنية،
لأنه قائم بذاته وتتجاذبهُ مؤثرات الإيمان
والكفر، فليس من الحق حصر القلب بالمعاني
العاطفية وحدها أو بالمعاني العقلية، والفؤاد
يشكّل الغشاء الذي منه تنفذ هذه المؤثرات،
بحسب ما يكون له من لين وقساوة، ما يجعل له
أهمية قصوى في ما يتحصّل للإنسان من معرفة،
ولهذا، نجد أن الفؤاد قد جمع مع السمع والبصر
ليدلّل القرآن من خلال ذلك على ما تتحقق به
المعرفة، هذا فضلاً عمّا أرشد إليه القرآن من
مسؤولية يتحملها الإنسان فيما جعل له من ذلك،
كما في قوله تعالى: ﴿
كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ .
[132] سورة الإسراء، الآية: 36.
[133] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج12،
ص312. يقول (قده) الحواس هي العمدة في مبادئ العلم.
ومبدأ الفكر هو الفؤاد.
[134] القرطبي، لأبي عبد الله بن أحمد
الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، ت (671هـ)،
دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ، ج10،
ص257.
[135] سورة النحل، الآية: 78.
[136] سورة المؤمنون، الآية: 87.
[137] سورة السجدة، الآية: 9.
[138] يقول الطباطبائي: «ليس المراد بإنشائه
مجرد خلقه كيفما كان، بل خلقه وإحداثه من دون
سابقة في مادته، كما أشار إليه في قوله تعالى
يصف خلقه طوراً بعد طور: ﴿
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ
مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً
فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ إلى
أن قال: ﴿
ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾
، فصيرورة المضغة إنساناً سميعاً بصيراً
متفكراً بتركيز النفس الإنسانية عليها خلق آخر
لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على
مادة الإنسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة
ثم علقة، ثم مضغة، فإنّما هي أطوار مادية
متعاقبة بخلاف صيرورتها إنساناً ذا شعور فلا
سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.
را: الميزان، م. س، ج19، ص363.
[139] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، م.
س، ج3، ص17 ـ 19.
[140] ابن منظور، لسان العرب، م. س، ج5، ص3714.
[141] سورة النجم، الآية: 11.
[142] سورة القصص، الآية: 10.
[143] را: المعجم الوسيط، م، س، ص753.
[144] الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير،
مجموعة مصادر، (ت 606هـ)، ط2، دار إحياء
التراث، ج24، ص168.
[145] سورة النجم، الآية: 17.
[146] ابن قيّم الجوزية، التبيان في أقسام
القرآن، (ت 751هـ) بيروت، (لا ـ ت) ج1، ص239.
[147] أبو هلال العسكري، معجم الفروق اللغوية،
(ت 395هـ)، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1413هـ،
ص433.
[148] الطبرسي، محمد بن الحسن، (ت 548هـ) تفسير
مجمع البيان، ط1، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1995،
ج1، ص95.
[149] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج13، ص34،
وقا: القمي، لأبي الحسن علي بن إبراهيم، تفسير
القرآن، (ت 329هـ)، مؤسسة دار الكتاب، 1404هـ،
قم، ط3، 1404هـ، ج2، ص325.
[150] ابن قيّم الجوزية، التبيان في أقسام
القرآن، م. س، ج1، ص239.
[151] سورة الأنعام، الآية: 110.
[152] قال الله تعالى: ﴿
لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ (إبراهيم: 43).
[153] العسكري، أبو هلال، معجم الفروق اللغوية،
م. س، ص433.
[154] الطبرسي، مجمع البيان، م. س، ج1، ص95.
[155] سورة الحشر، الآية: 14.
[156] انظر: الدامعاني، قاموس القرآن، أو إصلاح
الوجوه والنظائر، دار العلم للملايين، بيروت،
ط5، 1985، ص389.
[157] سورة ق، الآية: 37.
[158] لقد فاتنا أن نؤكد أنه من أساليب اللغة
العربية أن يستعمل الجزء ويراد به الكل، أو
الكل ويراد به الجزء، وقد استعمل هذا التعبير
في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ ... ﴾ ، فالقائل
هو واحد، فجاء التعبير بـ يقولون، أي بالجمع،
وهكذا الحال في آيات القلب والفؤاد والعقل
واللبّ، فقد يأتي الاستعمال لواحد ويراد به
المجموع، لأنّ القرآن لا يتحدث عن أجزاء في
جسم الإنسان، بل ينظر إلى الإنسان نظرة شاملة
لكل قواه وملكاته، والذي يستجمع كل هذه
المفردات هو حقيقة الإنسان بما هو وحدة
حقيقية، فلا يقال إن اللفظ القرآني خاطب هذه
الملكة أو تلك، أو خصّ القلب بشيء، والعقل
بشيء آخر، نظراً لكون القلب، كما سبق الكلام
في الفصول السابقة، هو المركز الرئيسي الذي
تتصل به كافة القوى، وتنبثق عنه التحولات
كافة، من موت وحياة، وصحة وضعف، وحب وكره، وكل
ما يتصل بالفكر والعاطفة، وقد مثل في الحكمة
الإسلامية أن القلب يشبه إلى حدّ كبير استخدام
لفظ النفس في القرآن، وهو يعني الكائن الحي
عقلاً وفكراً وحسّاً وشعوراً، ويعني كل ما
يتصل به أيضاً من خير وشرّ، لكن تبقى ميزة
الفؤاد أنه يعني التوقد في حالة التحوّل
القلبي، الذي يستتبع معرفة وفهماً في الدنيا،
ومسؤولية في الآخرة، هذا فضلاً عمّا يعنيه
الفؤاد من لين تبقي رقة القلب أسيرة له فيما
يرد عليه من أحوال، وفيما يصدر عنه من إرادة
وفعل، سواء في الخير أم في الشر، فإذا ما
استوت حالة القلب في الظاهر والباطن، فإنّ
الصدر هو الذي يكون موضع استجماع المرض أو
الشفاء، هذا هو معنى أن يكون الشفاء في الصدور
والعلاج فيها حينما تكون حالة القلب والفؤاد
باعثة على التحول باتجاه الخير أو الشرّ،
باعتبار أن الصدور هي مجلى ومظهر القلوب،
والله عليم بذات الصدور...
[159] الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، م. س،
ص115.
[160] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج13، ص34 ـ
35.
[161] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج13، ص95.
[162] سورة إبراهيم، الآية: 37.
[163] نعم، لقد فات العلاّمة الطباطبائي أن
يشير إلى حالة النزوع إلى المقيمين بالمكان،
واكتفى بعبارة الحنين والميل، يقول﴾ في معنى
قوله تعالى: ﴿
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ ﴾ . من الهوي، بمعنى السقوط،
أي تحنّ وتميل إليهم بالمساكنة معهم، أو بالحج
إلى البيت فيأنسوا بهم ...
وكما نلاحظ العلاّمة لم يأتِ بعبارة النزوع
بدل الميل والحنين، وإن كان قد لفت النظر إلى
المساكنة معهم والحج إلى البيت، في حين إن
الآية لا تريد في ظاهرها الإشارة إلى الميل
ولا إلى الحنين، ولهذا جاءت بصفة للأفئدة تفيد
المبالغة بالنزوع إلى المساكنة، وهذا ما أجاد
في بيانه الشريف الرضي﴾ بقوله: «إنها من محاسن
الاستعارة، وحقيقة الهوى النزول من علوٍّ إلى
انخفاض كالهبوط، والمراد به هنا المبالغة في
صفة الأفئدة بالنزوع إلى المقيمين بذلك
المكان، ولو قال سبحانه: تحنّ إليهم، لم يكن
فيه من الفائدة ما في قوله تعالى: ﴿
تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ لأنّ الحنين قد يوصف به من هو
مقيم في مكانه، والهُويُّ يفيد انزعاج الهاوي
من مستقرّه...».
را: البيان في مجازات القرآن، م. س، ص184.
وإذا كان لنا من رأي، يمكن التعقيب به على ما
ذهب إليه العلماء الأجلاّء، فهو التأكيد على
ما ذهب إليه الشريف الرضي، مع إضافة اختصاص
الأفئدة بالهوي، وليس القلوب، ما يعني ضرورة
أن يكون الهوي بكلّية الإنسان في رقّته
وليونته، في عقله وقلبه وروحه، بل في حبّة
قلبه وغشاء فؤاده، بحيث يكون هوياً واعياً
وهادفاً وعارفاً بحق من ننزع إليهم من مكاننا،
ونحجّ إليهم بالقلوب والعقول لما خصّوا به من
سببيّة في الوجود والهداية، فما لم يكن الفؤاد
مستحكماً، فلن يكون للإنسان كمال في معرفته،
ولا تحقق في وجوده، على اعتبار أن الجامعية لا
تكون إلاّ بأن يهوي الإنسان بكلّيته إلى مواطن
تعبد الله تعالى.
وبما أن الأفئدة هي مسارب حبّات القلوب،
ومفاتيح الرحمة والخلود، فما على الإنسان إلاّ
أن يستجمع قواه القلبية والعقلية والروحية
والنفسية والمعرفية لكي يصحّ منه الهُوي إلى
حيث يوجد السرّ في الوجود والخلود معاً. والله
من وراء القصد.
[164] سورة القصص، الآية: 10.
[165] يقول ابن منظور: «الصدر أعلى مقدّم كل
شيء وأولهُ، حتى إنهم يقولون صدر النهار
والليل، وصدر الشتاء والصيف.. والصدر: واحد
الصدور. وصدر كل شيء: أوّلُهُ، وكل ما واجهك
صَدْر، وجمعه صدور، ولا يكسّر على غير ذلك،
وقوله تعالى: ﴿
وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ ﴾ ، إنما جرى على التوكيد،
كما قال تعالى: ﴿
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم ... ﴾ والقول لا يكون إلاّ بالفم،
لكنه أكّد بذلك...» انظر: لسان العرب، م. س،
ج4، ص2411. وقا: مع الفيروز أبادي، محي الدين
محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، إعداد وتقديم
المرعشلي ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي،
1417هـ، ج1، ص594.
[166] يضيف الراغب الأصفهاني في تعريف الصدر
كلاماً، هو في الحقيقة مرتكز فهمنا، وسرّ ما
نذهب إليه في معنى تمايز القلوب والصدور إذ هو
يقول بالإضافة إلى ما قاله ابن منظور وسائر
اللغويين إن الصدر استعير لِمُقدم الشيء كصدر
القناة، وصدر المجلس والكتاب والكلام...
والمصدَرُ في الحقيقة صَدَر عن الماء. قال بعض
الحكماء: «حيثما ذكر الله تعالى القلب، فإشارة
إلى العقل والعلم، نحو ﴿
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ ... ﴾ . وحيثما
ذَكَرَ الصَّدر، فإشارة إلى ذلك، أي إلى
العقل، وإلى سائر القوة من الشهوة والهوى
والغضب ونحوها، وقوله تعالى: ﴿
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾ ، فسؤال لإصلاح قواه،
وكذلك قوله تعالى: ﴿
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ إشارة إلى اشتفائهم،
وقوله: ﴿
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ ، أي العقول التي هي
مندرسة فيما بين سائر القوى وليست بمهتدية،
والله أعلم. را: الراغب الأصفهاني، معجم
مفردات ألفاظ القرآن الكريم، م. س، ص284.
إن إشارة الراغب إلى الصدر بما هو قلب وعقل
وعلم، إضافة إلى ما هو مستجمع له من سائر
القوى، هو مرتكز بحثنا في أن مفردة الصدر في
آيات القرآن ليست مجرّد تعبير، وإنما ناظرة
إلى أن كمال القوى لا يتحقق إلاّ بإصلاحها
جميعاً، هذا فضلاً عمّا تعنيه الصدور من
مقدمية في العلم والمعرفة فيما لو صلحت وشُرحت
بالإيمان، بدليل قوله تعالى: ﴿
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ، الذي يُفيد كمال
التحقق في المعرفة والرؤية على نحو الذاتية
والكليّة، إذ كان في هذا الشرح لصدر
الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تمام استجماع
القوى العقلية والروحية والنفسية، فلا يكون
شيء منها مُندرِس وغير مهتدٍ، بل تكون جميعها
مهتدية بنور ربها، هذا فضلاً عمّا يكون لهذه
القوى من استحقاق في تصدّر مواقع الهداية، كما
سنرى في هذا المبحث حول قوله تعالى: ﴿
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ ، فالآية لم
تقل «في قلوب الذين أوتوا العلم، بل هي تهدي
إلى الصدور فيما تعنيه من حقيقة الهداية
والعلم، وتؤشّر إليه من صَدارة وتصدّر في
المجالس والمواقع، بحيث يصدر جميع الناس
إليها، ولا نقول عنها، لما يفيده أهل اللغة في
معنى الصدور عن، أو ب إلى، فيقال صدر القوم عن
المكان، أي رجعوا عنه، وصدروا إلى المكان
صاروا إليه. فالصدر هو المقدم لكل شيء وأوله،
ولا بدّ أن لهذه الأمة أيضاً صدرها وصدورها،
وطالما أن القرآن هو في صدور الذين أوتوا
العلم، فهذا يقتضي في أن نتدبّر في الآيات من
خلال الرؤية الموضوعية التي تؤدّي بالباحث إلى
استكناه حقيقة المفردات فيما ترمز إليه من
دلالات. والله أعلم.
نحن نزعم أن أحداً لم يذهب إلى هذا الفهم،
ونسأل الله تعالى التوفيق والهداية، ولعلنا في
ذلك نكون قد وفّرنا مادة بحث جديدة حول
المفردات القرآنية تساعد الباحثين على ردّ
قولنا أو تصويبه ليكون أكثر فائدة، والحمد لله
ربّ العالمين.
[167] الشيرازي، مكارم، نفحات القرآن، م. س،
ص115 ـ 116.
[168] الرازي، فخرالدين، التفسير الكبير، م. س،
ج24، ص168.
[169] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م. س،
ج10، ص255.
[170] سورة الأنعام، الآية: 110.
[171] سورة الشرح، الآية: 1.
[172] سورة طه، الآية: 25.
[173] سورة الأنعام، الآية: 125.
[174] سورة الزمر، الآية: 22.
[175] سورة النساء، الآية: 90.
[176] سورة الشعراء، الآيتان: 12 ـ 13.
[177] سورة آل عمران، الآية: 154.
[178] المصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن
الكريم، وزارة الإرشاد، قم، ط1، 1417هـ، ج6،
ص208.
[179] يرى مصطفوي أن القلب والصدر قد يشتركان
في انتساب بعض الأمور إليهما كانتساب الإضاءة
والحرارة إلى المشكاة والمصباح، وذلك كالغلّ
والكبَر وغيرهما مما يصحّ أن ينسب إلى كلّ
منهما، ولو باعتبار غيره، كما في قوله تعالى:
﴿
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾
، وقوله تعالى: ﴿
إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ... ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿
وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً
لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ... ﴾ فظهر أن ما نسب
إلى الصدر في القرآن (يكون له) بمناسبة
الموضوع، كما أن ما نسب إلى القلب (يكون له)
بمناسبته، وقد لوحظ لطف التعبير وحفظ خصوصيات
كل منهما في جميع موارد استعمالها، وهذا
التوضيح يؤيد كون تسمية الصدر باعتبار وقوعه
في مرحلة متأخرة عن القلب فيه يتجلى ما في
القلب، فكأنّه صادر ومظهر ومجلى عن القلب. را:
حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم،
وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، قم، ط1،
1417هـ، ج6، ص208.
يُستفاد من كلام المحقق أن القرآن قصد في
استعمال مفردة الصدر إلى اعتبار يناسبه من حيث
كونه مظهر لتحولات الإنسان، بمعنى أنه ليس
مجرّد مفردة تعني القلب، فإذا كان أهل اللغة
يعتبرون استعمال القلب في القرآن بمعنى العقل
والفهم والعلم، فهم قصدوا هذا المعنى في إطلاق
الصدر على ذلك، ولكن الحقيقة تتجلّى في انتقاء
المفردات لكل من القلب والصدر معاً لجهة
جامعية الصدر لكل قوى الإنسان، كما أفاد
الراغب في مفرداته، وهذا هو مفاد قوله تعالى:
﴿ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
، أي بكليّة ما فيها، لا في القلب وحسب، بل في
قوى الإنسان، سواء العاقلة أم قوى الشهوة
والغضب، فالله عالم بكل ذلك، وهناك عشر آيات
تقريباً جاءت بذات الصدور للتدليل على المعنى
الكلي والذاتي للإنسان بما هو متجوهر به من
حقيقة واحدة هي النفس العالمة والمدركة، كما
أفاد ابن سينا، والطباطبائي، والغزالي،
والملاّ صدرا، وغيرهم كثير، حيث رأوا جميعاً
أن الخطاب الإلهي، وأنَّ تصوّره الإنسان
جزئياً في فعل ما يؤديه، إلاّ أن الحق يتجلّى
في خطاب الروح والنفس الناطقة، الذين يشكّلون
حقيقة واحدة في مذاهب أهل الحكمة والعرفان.
ولعل أعظم دليل مما يمكن الارتكاز إليه في
معنى تمايز الصدور عن القلوب من حيث كمال
النضج، هو قوله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم
مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا
فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ
لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ،
فالآية، والله أعلم، ناظرة إلى أن القرآن، وإن
جعل القلب موضعاً للعقل والاختيار، إلاّ أنه
لحظ الشفاء للصدور وليس للقلب، نظراً لجامعية
الصدور وتمظهر كل القوى الإنسانية بها. والله
أعلم.
[180] سورة الانشقاق، الآية: 6.
[181] سورة الانفطار، الآية: 6.
[182] سورة الأنفال، الآية: 24.
[183] سورة الأنفال، الآية: 24.
[184] يرى العلاّمة الطباطبائي أن حيلولته
سبحانه وتعالى بين المرء وقلبه، يقطع منبت كل
عذر في عدم الاستجابة لله تعالى والرسول إذا
دعاه لما يحييه، وهو التوحيد الذي هو حقيقة
الدعوة الحقّة، فإنّ الله تعالى لما كان أقرب
إلى الإنسان من كل شيء حتى من قلبه الذي يعرفه
بوجدانه قبل كل شيء، فهو تعالى وحده لا شريك
له أعرف إليه من قلبه، الذي هو وسيلة إدراكه
وسبب أصل معرفته وعلمه... فكأنّ الآية تقول:
واعلموا أن الله هو المالك بالحقيقة لكم
ولقلوبكم وهو أقرب إليكم من كل شيء، وأنه
ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم وسلطانه
عليكم يومئذٍ فلا يُغني عنكم منه شيء...
را: الميزان، م. س، ج9، ص47.
[185] سورة الحج، الآية: 46.
[186] سورة العنكبوت، الآية: 49.
[187] سورة المائدة، الآية: 44.
[188] لقد أجمع المفسرون على أن المقصود بقوله
تعالى: ﴿
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ... ﴾ ، هم الأئمة ، وهذا
المعنى مروي في الكافي، وفي بصائر الدرجات
بعدة طرق، وهو من الجري، كما يرى العلاّمة
الطباطبائي، بمعنى انطباق الآية على أكمل
المصاديق بدليل الرواية الآتية، إذ جاء عن
بريد بن معاوية عن أبي جعفر قال: قلت له: ﴿
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ ﴾ فقال: أنتم هم،
من عسى أن يكونوا، ومما يدلّ على هذا المعنى
ما ذهب إليه المفسرون بأن الآية تعني الرسول ،
بما هو آية من آيات الله تعالى، وقد ذهب بعضهم
إلى تلوين الكلام بالإشارة إلى أن الآية تعني
المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهد الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحفظوه بعده، كما
عن الشوكاني، وأنها تعني أصحاب رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في تفسير
القرطبي، وقد أفاد غيرهم أنها تعني المؤمنين
والعلماء الذين حفظوا القرآن، وهم في جميع ما
ذهبوا إليه لم يعلنوا عن حقيقة المعنى الذي
يفيد بأن المصداق الأبرز للذين أوتوا العلم هم
الأئمة لكونهم قرنوا مع الكتاب، وخصّوا
بالتطهير والاصطفاء، فلا معنى لما قد يختاره
بعضهم من التواء في ما تعنيه الآية من أن الله
تعالى قد حفظ هذا القرآن من أن تطاله يد
التحريف، لقوله تعالى: ﴿
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ .
انظر الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج16،
ص142، وقا: مع الصنعاني، عبد الرزاق، وقا: مع
الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير (ت:
1250هـ)، عالم الكتب، ج4، ص207. تفسير القرآن،
(ت: 211هـ)، الرياض، مكتبة الرشد، ط1، 1410هـ،
ج3، ص99.
وقا: مع القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م. س،
ج13، 354. وقا: ابن كثير، أبي الفداء اسماعيل،
تفسير القرآن (ت 774هـ)، دار المعرفة، بيروت،
1412هـ، ج3، ص428.