الخضر كان نبياً من الأنبياء وقد عاصر نبي الله موسى
(عليه السلام)، وقد جاء في الروايات أن الله رزقه طول الحياة فهو حي لم يمت بعد، وقد طال البحث عن شخصية الخضر بين القوم كما في مطولات التفاسير وتكاثرت القصص والحكايات في رؤيته
. لقد تحدث القرآن الكريم عن رجل عالم من دون أن يسمّيه بالخضر، وقد عبّر عن معلّم موسى
(عليه السلام) بقوله: ﴿ عَبْداً مِّنْ
عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن
لَّدُنَّا عِلْماً ﴾
. والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة، لذا فإنّه غالباً ما يوصف بالرجل العالم.
أمّا الرّوايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرّفت هذا الرجل باسم (الخضر)، ومن بعض هذه الرّوايات نستفيد بأنّ اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان)، أمّا الخضر فهو لقب له، حيث أنّه أينما كان يطأ الأرض فإنّ الأرض كانت تخضرّ تحت قدميه.
البعض احتمل أنّ اسم الرجل العالم هذا هو (إلياس)، ومن هنا ظهرت فكرة أن إلياس والخضر هما اسمان لشخص واحد. ولكن المشهور والمعروف بين المفسّرين والرواة هو الأوّل.
وطبيعي أن نقول: إنّ اسم الرجل العالم أيّا كان فهو غير مهم لا لمضمون القصّة ولا لقصدها، إذ المهم أن نعرف أنّه كان عالما إلهيا، شملته الرحمة الإلهية الخاصّة، وكان مكلّفا بالباطن والنظام التكويني للعالم، ويعرف بعض الأسرار، وكان معلّم موسى بن عمران (عليه السلام) بالرغم من أنّ موسى (عليه السلام) كان أفضل منه من بعض الجوانب.
وهناك أيضا آراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيّا أم لا. ففي المجلد الأوّل من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أنّ هذا الرجل لم يكن نبيّا، بل كان عالما مثل (ذو القرنين) و(آصف بن برخيا)
.
عن جعفر بن محمد
(عليه السلام) أنه قال: «إن الخضر كان نبيا مرسلا، بعثه الله تبارك وتعالى إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده، والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه، وكانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء، وإنما سمي خضرا لذلك، وكان اسمه تاليا بن ملكان بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح
(عليه السلام)، وإن موسى لما كلمه الله تكليما، وأنزل عليه التوراة وكتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، وجعل آيته في يده وفي عصاه، وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وفلق البحر، وأغرق الله عزَّ وجلّ فرعون وجنوده، وعملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى أن الله عزَّ وجل خلق خلقا أعلم مني. فأوحى الله عزَّ وجل إلى جبرائيل
(عليه السلام): يا جبرائيل، أدرك عبدي موسى قبل أن يهلك، وقل: له: إن عند ملتقى البحرين رجلا عابدا فاتبعه وتعلم منه، فهبط جبرائيل
(عليه السلام) على موسى (عليه السلام) بما أمره به ربه عز وجل، فعلم موسى
(عليه السلام) أن ذلك لما حدثته به نفسه»
.
إنّ قصّة موسى والخضر
(عليهما السلام) لها أبعاد عجيبة. ففي القصّة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّا من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه، ونرى أنّ المعلم يقوم بتعليمه دروسا يكون الواحد منها أعجب من الآخر. ثمّ إنّ هذه القصّة تنطوي- كما سنرى- على ملاحظات مهمّة جدّا.
في أوّل آية نقرأ قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا
أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً ﴾
.
إنّ المعنيّ بالآية هو بلا شك موسى بن عمران
(عليه السلام) النّبي المعروف من أولي العزم، بالرغم ممّا احتمله بعض المفسّرين من أنّ موسى المذكور في الآية هو غير موسى بن عمران
(عليه السلام)، وسوف نرى - فيما بعد - أنّ اعتماد هذا الرأي كان بسبب عدم استطاعتهم حل بعض الإشكالات الواردة في القصّة، في حين أنّه كلما ورد اسم (موسى) في القرآن فالمراد به موسى بن عمران
.
أمّا المعني من (فتاه) فهو كما يقول أكثر المفسّرين، وكما تشير إلى ذلك العديد من الرّوايات: يوشع بن نون، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني إسرائيل. و(مجمع البحرين) هو محل التقاء البحرين، وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن اسم هذين البحرين، ولكن - بشكل عام - يمكن إجمال الحديث بثلاثة احتمالات هي:
أوّلاً: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس» (إذا المعروف أنّ البحر الأحمر يتفرع شمالا إلى فرعين: فرع نحو الشمال الشرقي حيث يشكّل خليج العقبة، والثّاني نحو الشمال الغربي ويسمى خليج السويس، وهذان الخليجان يرتبطان جنوبا ويتصلان بالبحر الأحمر).
ثانياً: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال المحيط الهندي بالبحر الأحمر في منطقة «باب المندب».
ثالثاً: محل اتصال البحر المتوسط (الذي يسمّى - أيضا - ببحر الروم والبحر الأبيض) مع المحيط الأطلسي، يعني نفس المكان الذي يطلق عليه اسم (مضيق جبل طارق) قرب مدينة «طنجة».
ويستبعد صاحب تفسير الأمثل الاحتمال الثاني والثالث، ويبقى الاحتمال الأوّل هو الأقرب من حيث قربه إلى مكان موسى
(عليه السلام). وما يرجح هذا الرأي هو ما يستفاد من الآيات - بشكل عام - من أنّ موسى
(عليه السلام) لم يسلك طريقا طويلا بالرغم من أنّه كان مستعدا للسفر إلى أي مكان لأجل الوصول إلى مقصوده، وفي بعض الرّوايات إشارة إلى هذا المعنى أيضا.
كلمة «حُقُب» تعني المدّة الطويلة والتي فسّرها البعض بثمانين عاما، وغرض موسى
(عليه السلام) من هذه الكلمة، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيعته ولو أدّى ذلك أن أسير عدّة سنين.
ومن مجموع ما ذكر أعلاه يتبيّن لنا أن موسى (عليه السلام) كان يبحث عن شيء مهم، وقد أقام عزمه ورسّخ تصميمه للعثور على مقصوده، وعدم التهاون في ذلك إطلاقا، لأن الشيء الذي كان موسى (عليه السلام) مأمورا بالبحث عنه له أثر كبير في مستقبله، وبالعثور عليه سوف يُفتتح فصل جديد في حياته.
نعم، إنّه
(عليه السلام) كان يبحث عن عالم يزيل الحجب من أمام عينيه ويريه حقائق جديدة، ويفتح باب العلوم أمامه، وسنعرف سريعا أنّ موسى (عليه السلام) كان يملك علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير، وكان
(عليه السلام) يتحرك باتجاه تلك العلامة
.
﴿
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا
نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً
﴾ أي فانطلقا يمشيان، فلما بلغا مجمع بينهما، وهو المكان الذي وعده الله بلقائه عنده، نسيا حوتهما فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا وصار الماء كالقنطرة عليه، فكان ذلك للحوت سربا
، ولموسى وفتاه عجبا.
ولا شك أن حياة الحوت بعد موته كانت لموسى معجزة، وأما كون ماء البحر صار كالقنطرة عليه أو كأي وضع آخر، فليس بالواجب علينا أن نعتقده إلا إذا ثبت بالنص القاطع.
روي أن موسى
(عليه السلام) أمر بحمل حوت مملح معه وقيل له: متى فقدت الحوت فهو الموضع المقصود، فأخذ حوتا وجعله في مكتل (قفة) ثم انطلق ومعه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين، فناما، واضطرب الحوت في المكتل وخرج منه وسقط في البحر.
روى البخاري ومسلم أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا (حوتا) ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ ذلك فجعله في مكتل، وقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا، فبينما هما في ظل صخرة إذ تسرّب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره
.
هناك كلام كثير بين المفسّرين عن نوعية السمك الذي كان معدا للغذاء ظاهرا هل كانت سمكّة مشوية، أو مملّحة أو سمكة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل إعجازي، وقفزت إلى الماء وغاصت فيه، هناك كلام كثير بين المفسّرين. وفي بعض كتب التّفسير نرى أنّ هناك حديثا عن عين تهب الحياة، وأنّ السمكة عندما أصابها مقدار من ماء تلك العين عادت إليها الحياة.
وهناك احتمال آخر وهو أن السمكة كانت حيّة، بمعنى أنّها لم تكن قد ماتت بالكامل، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه من الماء، ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.
وفي تتمة القصّة، نقرأ أنّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع، وفي هذه الأثناء تذكّر موسى (عليه السلام) أنّه قد جلب معه طعاما، وعند ذلك قال لصاحبه
:
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ
آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً
﴾.
وفي هذه الأثناء قال له صاحبه:
﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ
عَجَباً ﴾. أي قال له فتاه: أرأيت ما حدث لي حين التجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين؟ إني نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت، إنه حيّ واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا. وذاك أن مسلكه كان كالطاق والسّرب، وما أنساني ذكره إلا الشيطان.
﴿
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ
فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾: قال موسى: هذا هو الذي نطلب لأنه علامة الفوز بما نقصد، فرجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما، فوجدا عند الصخرة في مجمع البحرين عبدا صالحا من عباد الله، وهو الخضر في رأي الأكثرين، وكان مسجى بثوب أبيض، فسلّم عليه موسى، وكان قد علّمه الله من لدنه علما من غير وساطة معلم بشر:
﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا
آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا
عِلْماً ﴾. استخدام عبارة ﴿
عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا ﴾ فهي تبيّن أن أفضل فخر للإنسان هو أن يكون عبدا حقيقيا للخالق جلّ وعلا، وإنّ مقام العبودية هذا يكون سببا في شمول الإنسان بالرحمة الإلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.
كما أنّ استخدام عبارة:
﴿ مِن لَّدُنَّا ﴾ تبيّن أنّ علم ذلك العالم لم يكن علما عاديا، بل كان يعرف جزءا من أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى الله تعالى.
أمّا استخدام ﴿
عِلْماً ﴾ بصيغة النكرة فهو للتعظيم، ويتبيّن من ذلك أنّ ذلك الرجل العالم قد حصل من علمه على فوائد عظيمة.
أمّا ما هو المقصود من عبارة:
﴿ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ فقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة، فقال بعضهم: إنّها إشارة إلى مقام النبوة، والبعض الآخر اعتبرها إشارة للعمر الطويل، ولكن يحتمل أن يكون المقصود هو الاستعداد الكبير والروح الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادرا على استقبال العلم الإلهي
.
في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم باستفهام وبأدب كبير:
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾. نستفيد من عبارة «رشدا» أنّ العلم ليس هدفا، بل هو وسيلة للعثور على طريق الخير والهداية والصلاح، وأنّ هذا العلم يجب أن يتعلّم، وأن يفتخر به.
في معرض الجواب نرى أنّ الرجل العالم
(عليه السلام) قالَ: ﴿ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
﴾. ثمّ بيّن سبب ذلك مباشرة وقال: ﴿ وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً
﴾. وكما سنرى فيما بعد، فإنّ هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم التي تخص أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنّ موسى
(عليه السلام) لم يكن مأمورا بمعرفة البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيرا أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها، فقد يكون الظاهر قبيحا أو غير هادف في حين أنّ الباطن مفيد ومقدّس وهادف لأقصى غاية. في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه فيقوم بالاعتراض وحتى بالتشاجر.
ولكن الأستاذ العالم والخبير بالأسرار بقي ينظر إلى بواطن الأعمال، واستمر بعمله بهدوء، ولم يعر أي أهمية إلى اعتراضات موسى وصيحاته، بل كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر، إلّا أنّ التلميذ كان مستمرا في الإلحاح، ولكنّه ندم حين توضحت وانكشفت له الأسرار.
قد يكون موسى
(عليه السلام) اضطرب عندما سمع هذا الكلام وخشي أن يحرم من فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال:
﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ
صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ﴾.
مرّة أخرى كشف موسى
(عليه السلام) عن قمة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إنّي صابر، بل قال: إن شاء الله ستجدني صابرا.
ولأنّ الصبر على حوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان أسرارها، ليس بالأمر الهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى (عليه السلام) أن يتعهد له مرّة أخرى، وحذّره: ﴿
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا
تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
﴾. وقد أعطى موسى العهد مجددا وانطلق مع العالم الأستاذ
.
إن العالم
(عليه السلام) عندما اشترط على موسى (عليه السلام) هذا الشرط، فإنه كان
يشير إلى أن على العلماء أن يضبطوا أمرهم مع المتعلم منذ البداية، على أساس أن العالم هو الذي يحدد المنهج.
فلننظر ما حدث، قالَ له الخضر:
﴿ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا
تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
﴾ فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر، فقال أرباب السفينة: نحمل هؤلاء الثلاثة، فإنهم قوم صالحون فحملوهم، فلما جنحت السفينة في البحر، قام الخضر
(عليه السلام) إلى جوانب السفينة فكسرها وحشاها بالخرق والطين، فغضب موسى
(عليه السلام) غضبا شديدا وقال للخضر (عليه السلام): ﴿
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾ فقال له الخضر (عليه
السلام): ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾، قال موسى: ﴿
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا
تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾. فخرجوا من السفينة فنظر الخضر
(عليه السلام) إلى غلام يلعب بين الصبيان حسن الوجه كأنه قطعة قمر وفي أذنيه درتان، فتأمله الخضر
(عليه السلام)، ثم أخذه فقتله، فوثب موسى على الخضر (عليهما
السلام) وجلد به الأرض: ﴿ قَالَ
أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً نُّكْراً ﴾، فقال الخضر (عليه السلام): ﴿
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) ﴾ قال موسى
﴿
إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا
تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً (76)
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا
أَهْلَهَا ﴾، وكان وقت العشي والقرية تسمى الناصرة وإليها ينسب النصارى ولم يضيفوا أحدا قط، ولم يطعموا غريبا، فاستطعموهم فلم يطعموهم، ولم يضيفوهم، فنظر الخضر
(عليه السلام) إلى حائط قد زال يريد أن يتهاوى ويتهدم، فوضع الخضر
(عليه السلام) يده عليه وقال: قم بإذن الله فقام، فقال موسى (عليه
السلام): لم ينبغ أن تضم الجدار حتى يطعمونا ويأوونا، وهو قوله عز وجل:
﴿ لَو
شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ فقال له الخضر
(عليه السلام): ﴿ هَذَا فِراقُ بَيْنِي
وبَيْنِك ﴾
.
جاء في الدر المنثور: سأل موسى ربه فقال رب أي عبادك أحب إليك، قال الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى، قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال فأي عبادك أعلم، قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال وقد كان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، قال رب فهل أحد أعلم منى قال نعم قال فأين هو قيل له عند الصخرة التي عندها العين، فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أريد أن تصحبني، قال: إنك لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتني فلا تسألني عن شيء، حتى أحدث لك منه ذكرا، فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين، وليس في البحر مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث الله الخطاف فجعل يستقى منه بمنقاره، فقال لموسى كم ترى هذا الخطاف رزأ بمنقاره من الماء، قال: ما أقل ما رزأ، قال فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، فكان قول موسى في الجدار لنفسه شيئا من الدنيا، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله عزَّ وجل
.
ثم أن الرجل العالم قال ﴿ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً
﴾.
كانت هذه لحظة فاصلة، فلم يعد لموسى من عذر، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال، وإلى هنا كان موسى أمام مفاجآت متوالية لا يعلم لها سرا، وموقفنا منها كموقف موسى، بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة، فلم ينبئنا القرآن باسمه، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا، وما قيمة الاسم هنا؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة، فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها. وإن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها، فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود، فيمضي في طريقه ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة، وكأنما نسيه ليعودا. فيجد هذا الرجل هناك.
وكاد لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى... كل الجو غامض مجهول، وكذلك اسم الرجل الغامض المجهول في سياق القرآن
.
ثم يأخذ السر في التجلي بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر
(عليهما السلام) أمرا حتميا، وكان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها، وفي الواقع فإنّ استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحا للعديد من المسائل، وجوابا لكثير من الأسئلة. ففي البداية ذكر قصّة السفينة وقال:
﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ
أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ
غَصْباً ﴾.
وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملا مشينا سيئا، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يأخذ السفن من أصحابها عنوة وبالقوة، ويترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها، إذا خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين.
وكلمة «وراء» لا تعني هنا الجانب المكاني، وإنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به، وبما أنّ الإنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقا، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.
ويفيد استخدام كلمة (مسكين) أنّ «المسكين» ليس هو الشخص الذي لا يملك شيئا مطلقا، بل هي وصف يطلق على الأشخاص الذين يملكون أموالا وثروة لكنّها لا تفي بحاجاتهم. ويحتمل أيضا أن يكون السبب في إطلاق وصف (المساكين) عليهم ليس بسبب الفقر المالي، بل بسبب افتقارهم للقوّة والقدرة، وهذا التعبير يستخدم في لغة العرب، كما وأنّه يتلاءم مع الجذور الأصلية لمعنى مسكين لغويا، والذي يعني السكون والضعف.
في نهج البلاغة نقرأ قول أمير المؤمنين
(عليه السلام): «مسكين ابن آدم.. تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة»
.
بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثّانية التي قتل فيها الفتى فيقول:
﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً
﴾.
تحتمل مجموعة من المفسّرين أنّ المقصود من الآية ليس ما يتبيّن من ظاهرها من أنّ الفتى الكافر والعاصي قد يكون سببا في انحراف أبويه، وإنّما المقصود أنّه بسبب من طغيانه وكفره يؤذي أبويه كثيرا، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للصحة، في كل الأحوال، فإنّ الرجل العالم قام بقتل هذا الفتى، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع للأب والأم المؤمنين في حال بقاء الابن على قيد الحياة.
ثمّ تحكي الآيات على لسان العالم قوله:
﴿ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا
رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
﴾. ففي روايات عديدة نقرأ: «أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّا»
.
في آخر آية من الآيات التي نبحثها، كشف الرجل العالم عن السر الثّالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال:
﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ
كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن
يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن
رَّبِّكَ ﴾. وأنا كنت مأمورا ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضا للخطر
.
قيل لم يكن ذلك الكنز بذهب ولا فضة، ولكن كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: عجب لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجب لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، عجب لمن أيقن أن البعث حق كيف يظلم، عجب لمن يرى الدنيا وتصرف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها.
وكان أبوهما صالحا، وكان بينهما وبين هذا الأب الصالح سبعون أبا، فحفظهما الله بصلاحه، ثم قال:
﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ﴾ ثم إن الخضر
(عليه السلام) تبرأ من الإبانة في آخر القصص، ونسب الإرادة كلها إلى الله تعالى، ذكره في ذلك لأنه لم يكن بقي شيء مما فعله فيخبر به بعد ويصير موسى
(عليه السلام) به مخبرا ومصغيا إلى كلامه تابعا له، فتجرد من الإبانة والإرادة تجرد العبد المخلص، ثم صار متنصلا مما أتاه من نسبة الإبانة في أول القصة، ومن ادعائه الاشتراك في ثاني القصة، فقال:
﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع
عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾
. وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتملة، أو شك لدى موسى (عليه السلام)، ولكي يكون على يقين بأنّ هذه الأعمال كانت طبقا لمخطط وتوجيه أعلى خاص، قال العالم:
﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
﴾ بل بأمر من الله، وذلك سر ما لم يستطع موسى (عليه السلام) صبرا، إذ قال:
﴿ ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً ﴾.
هل كانت مهمّة الخضر في إطار النظام التشريعي أم التكويني!؟
إنّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهام!.
والسؤال الأوّل هو: هل يمكن إتلاف جزء من أموال شخص بدون إجازته بذريعة أنّ هناك غاصبا يريد أن يصادرها؟ وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟ ثمّ هل هناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟
لقد رأينا في سياق القصّة القرآنية أنّ موسى اعترض على الرجل العالم، ولكنّه بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأمور عاد واقتنع. أمّا نحن فأمامنا طريقان للإجابة على الأسئلة، نعرضها بالتفصيل الآتي:
الطريق الأوّل: أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية، وقوانين الشرع، وقد قامت مجموعة من المفسّرين بسلوك هذا الطريق.
فالحادثة الأولى اعتبروها منطبقة مع قانون (الأهم والمهم)، وقالوا بأنّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتما من الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق، وبعبارة أخرى، فإنّ الخضر قام هنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنّه كان يمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إذا علموا بهذه الحادثة، (أي أنّ الخضر قد حصل من وجهة الأحكام والقواعد الشرعية على إذن الفحوى).
وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق، على أنّ الفتى كان بالغا وأنّه كان مرتدا أو مفسدا، وبسبب أعماله الفعلية فإنّه من الجائز أن يقتل. وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية، فإنّه بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إفساده الراهن وجرائمه الحالية، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإنّ قتله طبقا للموازين الشرعية، وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية، يكون جائزا.
أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الأشخاص فيما لو قاموا بالتضحية والإيثار من أجل الآخرين، ومن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجرا على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام به الخضر، وقد لا تصل هذه الأفعال إلى حدّ الوجوب، إلّا أنّها تعتبر- حتما - من السلوك الحسن، بل قد يقال من الوجهة الفقهية أنّ الإيثار والتضحية في بعض الموارد من الأمور الواجبة، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.
الطريق الثّاني: تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الاستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل، فإذا كانت التوضيحات الآنفة مقنعة فيما يخص الكنز والحائط، إلّا أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم به من أعمال في المستقبل، وليس أعماله الفعلية.
أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة، فهو أيضا لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا - ومن الوجهة الفقهية - أن نتلف جزءا من أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لإنقاذها من خطر ما، حتى لو علمنا وتيقنا بأنّه سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل... ترى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟! وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقا آخر:
إنّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما: «النظام التكويني، والنظام التشريعي»، وبالرغم من أنّ هذين النظامين متناسقان فيما بينهما في الأصول الكلية، ولكنهما قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات، على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ومن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم، حتى يتبيّن الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.
والسؤال هنا هو: هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة، وفقدان الأمن والاستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟
نرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى، مثل ما ابتلى به يعقوب (عليه السلام) بسبب قلّة توجهه إلى المساكين، أو ما ابتلى به يونس
(عليه السلام) بسبب تركه الأولى من بعض الأمور ولو لفترة قصيرة... فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟
ونرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر - مثلا - يخسر هذه الأموال، أو يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربّه على نعمة السلامة...
والسؤال هنا: هل يستطيع أحد من الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب النعمة من الآخرين، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟
إنّ أمثال هذه الأمور كثيرة للغاية، وهي تظهر - بشكل عام - أنّ عالم الوجود، وخصوصا خلق الإنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضع الله تعالى مجموعة من القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإنسان طريق التكامل،
وعندما يتخلف عنها فسيصاب بردود فعل مختلفة.
ولكنّا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنّف الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية، فعلى سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقابا له على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتما لأنّه يلائم النظام الأحسن).
والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأنّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.
ومن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأنّ أخطارا كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل، كما أنّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك.
وأيضا لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنّ خروجي من البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني منها.
بعبارة أخرى: إنّ مجموعة من أوليائه وعباده مكلّفون في هذا العالم بالبواطن، بينما المجموعة الأخرى مكلّفون بالظواهر، والمكلّفون بالبواطن لهم ضوابط وأصول وبرامج خاصّة بهم، مثلما للمكلّفين بالظواهر ضوابطهم وأصولهم الخاصّة بهم أيضا.
صحيح أنّ الخط العام لهذين البرنامجين يوصل الإنسان إلى الكمال، وصحيح أنّ البرنامجين متناسقان من حيث القواعد الكلية، إلّا أنّهما يفترقان في التفاصيل والجزئيات كما لاحظنا ذلك في الأمثلة.
بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطين، بل يجب أن يحصل على إجازة المالك القادر الحكيم الخالق جلّ وعلا، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلا،
﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
﴾ بل إنّي خطوت الخطوات وفقا للبرنامج الإلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي، وهكذا سيزول التعارض والتضاد وتنتفي الأسئلة والمشكلات المثارة حول مواقف الخضر في الحوادث الثلاث.
وسبب عدم تحمّل موسى (عليه السلام) لأعمال الخضر يعود إلى مهمّة موسى التي كانت تختلف عن مهمّة الخضر في العالم، لذا فقد كان موسى (عليه السلام) يبادر إلى الاعتراض على مواقف الخضر المخالفة لضوابط الشريعة، بينما كان الخضر مستمرا في طريقه ببرودة أعصاب، لأنّ وظيفة كل من هذين المبعوثين الإلهيين تختلف عن وظيفة الآخر ودوره المرسوم له إلهيا، لذلك لم يستطيعا العيش سوية، لذا قال الخضر لموسى
(عليهما السلام): ﴿ هذا فِراقُ بَيْنِي
وبَيْنِكَ ﴾ .
في بعض كتب علماء اليهود التي تمّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي قصّة تشبه إلى حد كبير حادثة موسى (عليه السلام) وعالم زمانه (الخضر)، بالرغم من أنّها تذكر أنّ أبطال تلك القصّة هما (إلياس) و(يوشع بن لاوي) وهما من مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي، وتختلف من خلال عدّة أمور عن قصّة موسى والخضر، والقصة هذه هي التالي:
يطلب يوشع من الله أن يلقى إلياس،
وبمجرّد أن يستجاب دعاؤه ويحظى بلقاء إلياس فإنّه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار، فيجيبه إلياس: إنّك لا طاقة لك على تحمّل ذلك، إلّا أن يوشع يصّر ويلحّ في طلبه فيستجيب له إلياس مشترطا عليه أن لا يسأل عن أيّ شيء يراه، وإذا تخلّف يوشع عن هذا الشرط فإنّ إلياس حرّ في الانفصال عنه وتركه، وعلى أساس هذا الاتّفاق يترافق يوشع وإلياس في السفر.
وأثناء سفرهما يدخلان إلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحرّ استقبال ويكرم وفادتهما، وكان لأهل ذلك البيت بقرة هي كلّ ما يملكون من حطام الدنيا حيث كانوا يوفّرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها، فيأمر إلياس صاحب البيت أن يذبح تلك البقرة، ويستولي على يوشع العجب والاستغراب من هذا التصّرف، ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرّر لهذا الفعل، فيذكّره إلياس بما اتّفقا عليه ويهدّده بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.
ومن هناك يواصلان سفرهما إلى قرية أخرى فيدخلان إلى بيت شخص ثريّ، وينهض إلياس إلى جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرمّمه ويقيمه، وفي قرية أخرى يواجهان عددا من سكان تلك القرية مجتمعين في مكان معيّن ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم إلياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعا إلى الرئاسة، وفي قرية رابعة يواجههما سكّانها باحترام فائق فيدعو لهم إلياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إلى الرئاسة، وبالتالي فإنّ يوشع بن لاوي لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقائع الأربع، ويجيبه إلياس: بأنّه في البيت الأوّل كانت زوجة ربّ الدار مريضة ولو أنّ تلك البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإنّ تلك المرأة
تموت، ويصاب صاحب الدار بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة، وفي البيت الثّاني كان هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم، وأمّا إنّه قد دعوت لأهل القرية الثّالثة بأن يصلوا إلى الرئاسة جميعا، فذلك لكي تضطرب أمورهم ويختلّ النظام عندهم، على العكس من أهل القرية الرّابعة فإنّهم إذا أسندوا زمام أمورهم إلى شخص واحد فإنّ أمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام.
ويجب عدم التوهّم حيث نرى بأنّ القصتين هما قصة واحدة، بل إنّ غرضنا الإشارة إلى أنّ القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مشابهة أو محرّفة لما حصل أصلا لموسى (عليه السلام) والخضر، وقد تغيرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشكل
.
هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصّة:
أ:
أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه، بحيث رأينا أنّ نبيّاً من أولي العزم مثل موسى (عليه السلام) يسلك هذا الطريق الطويل، وقد بذل ما بذل لتحقيقه، وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.
ب:
جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية لله تعالى، كما قرأنا في الآيات أعلاه في قوله تعالى:
﴿ عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً
﴾.
ج:
يجب تعلم العلم للعمل، كما يقول موسى
(عليه السلام) لصاحبه: ﴿ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً
﴾ أي علمني عملا يقربني من هدفي ومقصدي، فأنا لا أطلب العلم لنفسه، بل للوصول إلى الهدف.
د:
يجب عدم الاستعجال في الأعمال، إذ أن العديد من الأمور تحتاج إلى الفرص المناسبة (الأمور مرهونة بأوقاتها) خاصّة في القضايا المهمّة، ولهذا السبب، فإنّ الرجل العالم قد ذكر سرّ أعماله لموسى
(عليه السلام) في الفرصة المناسبة.
هـ:
الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الأخرى التي نتعلمها من القصة، إذ يجب علينا أن لا نصدر أحكاما سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا. فما أكثر الحوادث التي نكرهها، ولكن يتّضح بعد مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية، والقرآن يصرّح بمضمون هذه الحقيقة في قوله تعالى:
﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً
وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
﴾
.
إنّ المستفاد من هذه القضية أن لا يصاب الإنسان باليأس
عندما تهجم عليه الحوادث، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقله عبد الله بن المحدّث والفقيه المعروف زرارة بن أعين، ويقول فيه عبد الله: قال لي أبو عبد الله
(عليه السلام): «اقرأ مني على والدك السلام، وقل له: إنّي إنّما أعيبك دفاعا منّي عنك، فإنّ الناس والعدو يسارعون إلى كلّ من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقرّبه، ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منّا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن، فإنّما أعيبك لأنّك رجل اشتهرت منّا، وبميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك منّا دافع شرّهم عنك. يقول الله عزّ وجلّ:
﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ
أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ
غَصْباً ﴾ هذا التنزيل من عند الله، صالحة، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنّك والله أحبّ الناس إليّ، وأحبّ أصحاب أبي حياً وميتا، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإن من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر الهدى ليأخذها غصبا، ثمّ يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتا» .
و:
من دروس القصة الاعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها، فعندما تخلّف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم، عرف أنّه لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة، وبالرغم من أنّ فراق هذا الأستاذ كان أمرا صعبا على موسى (عليه السلام)، إلّا أنّه (عليه السلام) لم يكابر وأنصف العالم بإعطائه الحق، وفارقه عن إخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة من هذه الصحبة القصيرة.
يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبدا، إذ عليه عندما يختبر موضوعا ما عدّة مرّات، أن يلتزم العمل بنتائج الاختبار وأن يقتنع به.
ز:
تأثير إيمان الآباء على الأبناء: لقد تحمّل الخضر مسؤولية حماية الأبناء في المقدار الذي كان يستطيعه، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم، بمعنى أنّ الابن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة الأب والتزامه ، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الابن أيضا.
نقرأ في بعض الرّوايات أنّ ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر لليتامى، بل هو من أجدادهم البعيدين جدا، (وهكذا يكون للعمل الصالح تأثيره)
. وإنّ من علامات صلاح هذا الأب هو ما تركه من الكنوز المعنوية، ومن الحكم لأبنائه.
ح:
قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين: عندما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته، وبسبب ما يرهقهما به من أذى وطغيان وكفر، قد يحرفهم به عن الطريق الإلهي، كما رأينا ذلك في القصّة التي بين أيدينا، فإنّ الرّوايات الإسلامية تربط بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما).
وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب من القصة، إذا كان الولد يقتل لما يلحقه بأبويه من ضرر وأذى في مستقبل حياته، ترى فما حال الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟
ط:
الناس أعداء ما جهلوا: فقد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا، إلّا أنّنا نتصوره عدوّا لنا، لأنّنا لا نعرف بواطن الأمور، ونتسرع ونفقد الصبر، خصوصا إزاء الأحداث والأمور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علما، من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علما من الأحداث والقضايا، إلّا أنّ الدرس المستفاد من القصّة هو أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.
ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(عليه السلام)، نقرأ قوله (عليه السلام): «الناس أعداء ما جهلوا»
، لذا فإنّه كلّما يرتفع الوعي لدى الإنسان فإنّ تعامله يكون أكثر منطقيا، وبعبارة أخرى إنّ أساس الصبر هو الوعي.
نعم، لقد كان لانزعاج موسى
(عليه السلام) ما يبرره، إذ كان يرى تجاوزا عن حدود الشرع في الأحداث التي وقعت على يد صاحبه، بحيث تعرض القسم الأعظم للشريعة إلى الخطر، ففي الحادثة الأولى: تعرضت مصونية أموال الناس إلى الخطر، وفي الثّانية تعرضت أرواحهم إلى خطر، أمّا في الثّالثة: فكان اعتراضه ينصب على ضرورة التعامل المنطقي مع حقوق الناس، لذلك فقد اعترض ونسي عهده الذي قطعه لصاحبه العالم، ولكن ما إن اطلّع على بواطن الأمور هدأ وكفّ عن الاعتراض، وهذا الأمر يدل على أنّ عدم الاطلاع هو أمر مقلق بحدّ ذاته.
ي:
أدب التلميذ والأستاذ: ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسى
(عليه السلام) والرجل الربّاني العالم، فمن ذلك مثلا:
1- اعتبار موسى
(عليه السلام) لنفسه تابعا للخضر قوله: ﴿
أَتَّبِعُكَ ﴾.
2- لقد أعلن موسى
(عليه السلام) هذا الاتباع على شكل استئذان فقال: ﴿
هَلْ
أَتَّبِعُكَ ﴾.
3- إقراره
(عليه السلام) بعلم أستاذه وبحاجته للتعلّم فقال: ﴿
عَلَى
أَن تُعَلِّمَنِ
﴾.
4- وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيرا، وهو يطلب جانبا من هذا العلم، فقال:
﴿ مِمَّ ﴾.
5- يصف علم أستاذه بأنّه علم إلهي فيقول:
﴿ عُلِّمْتَ ﴾.
6- يطلب من أستاذه الهداية والرشاد فقال
(عليه السلام): ﴿ رُشْداً ﴾.
7- يقول لأستاذه بشكل لطيف خفي، بأنّ الله قد تلطّف عليك وعلّمك، فتلطّف أنت عليّ، وحيث قال
(عليه السلام): ﴿ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
﴾.
8- إنّ جملة
﴿ هَلْ
أَتَّبِعُكَ ﴾ تكشف حقيقة أن يكون التلميذ في طلب الأستاذ، وفي اتباعه، إذ ليس من وظيفة الأستاذ إتباع تلميذه إلّا في حالات وموارد خاصّة.
9- برغم ما كان يتمتع موسى (عليه السلام) بمنصب كبير (حيث كان نبيّا من أولي العزم وصاحب رسالة وكتاب) إلّا أنّه تواضع، وهذا يعني أنّك ومهما كنت وفي أي مقام أصبحت، يجب عليك أن تتواضع في مقام طلب العلم والمعرفة.
10- إنّ موسى (عليه السلام) لم يذكر عبارة جازمة في معرض تعهده لأستاذه، بل قال:
﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِراً
﴾ وهذه الصيغة في التعبير مملوءة أدبا إزاء الخالق جلّ وعلا، واتجاه الأستاذ أيضا، حتى إذا تخلّف عنها لا يكون ثمّة نوع من هتك الحرمة إزاء الأستاذ.
ضروري أن نذكر في خاتمة هذا الحديث أنّ العالم الرباني قد استخدم إزاء موسى
(عليه السلام) منتهى الحلم في مقام التعليم والتربية، فعندما كان موسى
(عليه السلام) ينسى تعهده وتثور ثائرته ويعترض عليه، يجيبه الأستاذ بهدوء وروية، ولكن على شكل استفهام:
﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ صَبْراً ﴾
.
﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ
قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً ﴾
.
ذكر المفسّرون كلاماً كثيراً حول شخصية ذي القرنين الواردة في القرآن الكريم، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التاريخية المعروفة تنطبق أوصافه؟ ويمكن أن نرجع الآراء إلى ثلاث نظريات أساسية هي:
النظرية الأولى: يرى البعض أنّ «ذو القرنين» ليس سوى «الإسكندر المقدوني»، لذا فإنّهم يسمونه «الإسكندر ذو القرنين» ويعتقد هؤلاء بأنّه سيطر بعد وفاة أبيه على دول الروم والمغرب ومصر، وبنى مدينة الإسكندرية، ثمّ سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس، ثمّ ذهب من هناك إلى «أرمينيا»، وفتح العراق وبلاد فارس، ثمّ قصد الهند والصين، ومن هناك رجع إلى خراسان، وقد بنى مدنا كثيرة، ثمّ جاء إلى العراق ومرض في مدينة «زور» وتوفي فيها.
ويقول البعض: إنّه لم يعمّر أكثر من (36) سنة، أمّا جسده فقد ذهبوا به إلى الإسكندرية ودفنوه هناك
.
النظرية الثّانية: يرى جمع من المؤرخين أنّ «ذو القرنين» كان أحد ملوك اليمن (كان ملوك اليمن يسمّون بـ «تبّع» وجمع ذلك «تبابعة») وقد دافع عن هذه النظرية «الأصمعي» في تأريخ العرب قبل الإسلام، و«ابن هشام» في تأريخه المعروف بسيرة ابن هشام، و«أبو ريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية». ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم من أقوام اليمن، وبعضا من شعراء الجاهلية تفاخرا بكون «ذو القرنين» من قومهم
. وفقا لهذه النظرية يكون سد ذي القرنين هو سد «مأرب» المعروف.
النظرية الثّالثة: وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوما منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال، وطبقا لهذه النظرية فإنّ ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني
.
عن الأصبغ بن نباتة، قال: قام ابن الكوّاء إلى الإمام علي
(عليه السلام) وهو على المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن ذي القرنين، أنبيا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن قرنيه، أمن ذهب أم من فضة؟
فقال له
(عليه السلام): «لم يكن نبيا ولا ملكا ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة، ولكنه كان عبدا أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، وإنما سمي ذا القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عزَّ وجل فضربوه على قرنه، فغاب عنهم حينا، ثم عاد إليهم، فضرب على قرنه الآخر، وفيكم مثله». يعني نفسه.
وعن أبي الحسن موسى بن جعفر
(عليه السلام) قال: «ملك ذو القرنين وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ومكث في ملكه ثلاثين سنة»
.
وعن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن ذا القرنين كان عبدا صالحا جعله الله عزَّ وجل حجة على عباده، فدعا قومه إلى الله وأمرهم بتقواه، فضربوه على قرنه فغاب عنهم زمانا حتى قيل مات أو هلك، بأي واد سلك، ثم ظهر ورجع إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر، وفيكم من هو على سنته، وأن الله عزَّ وجل مكّن لذي القرنين في الأرض، وجعل له من كل شيء سببا، وبلغ المغرب والمشرق، وإن الله عزَّ وجل سيجري سنته في القائم من ولدي، فيبلغه مشرق الأرض وغربها حتى لا يبقى ولا موضعا منها من سهل أو جبل وطأه ذو القرنين إلا وطأه، ويظهر الله له عز وجل كنوز الأرض ومعادنها، وينصره بالرعب، ويملأ الأرض به عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما
.
يعتقد البعض أن سبب التسمية تعود إلى وصوله للشرق والغرب، حيث يعبّر العرب عن ذلك بقرني الشمس، والبعض الآخر يرى بأنّه عاش قرنين أو أنّه حكم قرنين، وأمّا ما مقدار القرن فهناك آراء مختلفة في ذلك، والبعض الثّالث يقول: كان يوجد على طرفي رأسه بروز (قرن)، ولهذا السبب سمّي بذي القرنين، وأخيرا فإنّ البعض يعتقد بأنّ تاجه الخاص كان يحتوي على قرنين
.
بالطبع هناك آراء أخرى في ذلك، فقد جاء مجمع البيان: « وفي سبب تسميته بذي القرنين أقوال أخر (منها) أنه سمي به لأنه كانت له ضفيرتان. (ومنها) أنه كان على رأسه شبه القرنين تواريه العمامة. (ومنها) أنه بلغ قطري الأرض من المشرق والمغرب فسمي بذلك لاستيلائه على قرن الشمس من مغربها وقرنها من مطلعها. (ومنها) أنه رأى في منامه أنه دنى من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فقص رؤياه على قومه فسموه ذا القرنين. (ومنها) أنه عاش عيش قرنين فانقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، (ومنها) أنه كان كريم الطرفين من أهل بيت الشرف من قبل أبيه وأمه، قال معاذ بن جبل كان من أبناء الروم واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية»
.
لكن لو لاحظنا بدقة آيات القرآن الكريم لاستفدنا أنّ ذا القرنين كانت له صفات مميزة هي:
لقد هيّأ الله جلّ وعلا له أسباب القوّة ومقدمات الانتصار، وجعلها تحت تصرفه وفي متناول يده.
لقد جهز ثلاثة جيوش مهمّة:
الأوّل إلى الغرب والثّاني إلى الشرق والثّالث إلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي، وفي كل هذه الأسفار كان له تعامل خاص مع الأقوام المختلفة، حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة، كان رجلا مؤمنا تتجلى فيه صفات التوحيد والعطف، ولم ينحرف عن طريق العدل، ولهذا السبب فقد شمله اللطف الإلهي الخاص، إذ كان ناصرا للمحسنين وعدوّا للظالمين، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا، وكان مؤمنا بالله وباليوم الآخر.
لقد صنع واحدا من أهم وأقوى السدود، السّد الذي استفاد لصنعه من الحديد والنحاس بدلا من الطابوق والحجارة. (وإذا كانت هناك مواد أخرى مستخدمة فيه، فهي لا تعتبر شيئا بالقياس إلى الحديد والنحاس)، أمّا هدفه من بنائه فكان مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج.
كان شخصا مشهورا بين مجموعة من الناس، وذلك قبل نزول القرآن، لذا فإنّ قريشاً أو اليهود سألوا رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ
﴾.
ويمكن القول أنه لا يمكن الاستفادة بشيء من صريح القرآن للدلالة على أنّه كان نبيّا، بالرغم من وجود تعابير تشعر بهذا المعنى ونقرأ في العديد من الرّوايات الإسلامية الواردة عن الرّسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّه: « لم يكن نبيّا بل عبدا صالحا»
.
يقول المولى عز وجل حاكيا عن قصة هذا الحاكم العظيم:
﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا
بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا
أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً
﴾
.
أي فاتّخذ طريقا وسلكه نحو الغرب
﴿ حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ
﴾، أي وصل إلى المحل الذي يتراءى له فيه غروبها من سطح الأرض، ومعناه أنه انتهى إلى آخر أمكنة العمران من جهة المغرب.
﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
﴾، أي وجد الشمس تغيب عن ناظريه في عين كثيرة الحمأ أي الطّين الأسود المنتن، وقرئ: (في عين حامية) أي حارّة، فقد وجد الشمس تغرب هناك وإن كانت بالحقيقة لا تغرب في مرمى بصر ولكن ظلّها في الماء خيّل له ذلك، لأن الشمس في واقع الأمر لا تزايل الفلك، ولا تدخل في عين ماء يعيش قربها قوم ويقيمون آمنين من الاحتراق بحرارتها، بل هي لا تبارح مجاريها في النظام الكونيّ، وإنما ذكر القرآن الكريم ما يتراءى للعالمين من شروق الشمس وغروبها بهذا الوصف الدقيق المعجز الرائع
. فلما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع تراءى له كأن الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء. والحاصل أن ذا القرنين لمّا بلغ ذلك الموضع رأى كأنّ الشمس تغيب في تلك العين، التي هي في الواقع ساحل المحيط الأطلسي، حيث وصل إلى هناك
﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً
﴾ أي في تلك البقعة من الأرض وجد أناسا... ﴿
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا
أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾.
في هذا دلالة على أن القوم كانوا كفارا والمعنى إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك، وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العمى، وقيل معناه وإما أن تعفو عنهم، واستدل من ذهب إلى أن ذا القرنين كان نبيا بهذا قال: لأن أمر الله تعالى لا يعلم إلا بالوحي والوحي لا يجوز إلا على الأنبياء وقيل: إن الله تعالى ألهمه ولم يوح إليه وقيل: إن كان ذو القرنين نبيا فإن الله تعالى قال له كما يقول للأنبياء إما بتكليم أو بوحي، وإن لم يكن نبيا فإن معنى قلنا ألهمنا لأن الإلهام ينوب عن الوحي. قال سبحانه:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى
﴾ أي وألهمناها. قال قتادة فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالى وكان عالما بالسياسة:
﴿ قالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ ﴾ أي أشرك:
﴿ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾ أي نقتله إذا لم يرجع عن الشرك:
﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ
﴾ بعد قتلي إياه: ﴿ فَيُعَذِّبُهُ
عَذَاباً نُّكْراً ﴾، أي منكرا غير معهود، يعني في النار وهو أشد من القتل في الدنيا
.
ثم تقول الآية:
﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً
فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا
يُسْراً ﴾ أي أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن، فضلا عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب، بالإضافة إلى أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.
والظاهر أنّ ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل
دعوته إلى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين، الأولى: هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان، وهذه ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة. أمّا الثّانية: فستتخذ موقفا عدائيا من دعوة ذي القرنين، وتقف في الجبهة المناوئة، وتستمر في شركها وظلمها، وتواصل فسادها، وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشدّ العقاب.
وبمقارنة قوله:
﴿ مَنْ
ظَلَمَ ﴾ وقوله:﴿ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحاً
﴾، يتبيّن لنا أنّ الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يعدّ من ثمار شجرة الشرك المشؤومة.
وعندما انتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق، حيث يقول القرآن في ذلك:
﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾، أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.
﴿
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ
﴾ وهنا رأى أنّها: ﴿ تَطْلُعُ عَلَى
قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾ وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّا، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس. أمّا بعض المفسّرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس.
وهناك احتمال آخر يطرحه البعض، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجئ، وأن ليس في تلك الصحراء ما يمكّن هؤلاء القوم من حماية أنفسهم من الشمس من غطاء أو غير ذلك
.
جاء في تفسير الجديد: أي أنهم عراة لا يتّقون أشعّتها (الشمس) بأيّ لباس، وليس في أرضهم أي جبل أو شجر أو بناء، لأنها أرض رخوة لا يثبت عليها بناء مضافا إلى أنهم لم يعرفوا بناء البيوت ولا وضع الثياب على الأجساد.
﴿
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا
لَدَيْهِ خُبْراً ﴾: أي أن أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكانة وبسطة الملك والسلطان النافذ على الشرق والغرب، مضافا إلى إحاطتنا ومعرفتنا بما معه من جند كثير، وعدّة عديدة، وعلم غزير، ممّا لم يحط به غير اللطيف الخبير
.
﴿
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى
إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً
لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُواْ يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ
رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا
سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا
جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)
فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ
نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ
وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً
(98) ﴾.
تشير الآيات إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد أناسا (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى متدنٍ من المدنية، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدّن لدى البشر. لكن البعض احتمل أنّ جملة:
﴿ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا
﴾ لا تعني أنّهم لم يكونوا يعرفون اللغات، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام، أي كانوا متخلفين فكريا.
في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج
، فعرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا، ولا يقدرون على دفعهم وصدهم... وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.
وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض، فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال والتطوع بإقامة السد، ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين، فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية، حتى يقيم سدا يكون مانعا للقوم المفسدين من الاعتداء عليهم.
بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجودا، ويبلغ طوله مئات الكيلومترات، إلّا أنّ الواضح أنّ جدار الصين لا يدخل في بنائه الحديد ولا النحاس، ومضافا إلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق، بل هو جدار مبني من مواد البناء العادية، ويبلغ طول مئات الكيلومترات، وما زال موجودا حتى الآن.
البعض يرى في سد ذي القرنين أنّه سد مأرب في اليمن، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي، إلّا أنّه
أنشئ لمنع السيل ولتخزين المياه، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه.
ولكن بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة، فإنّ السد يقع في أرض القوقاز، بين بحر الخزر (قزوين) والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق «داريال» المعروف، ويشاهد فيه جدار حديدي أثري حتى الآن، ولهذه المرجحات يعتقد الكثيرون أنّ سد «ذو القرنين» يقع في هذا المضيق، وأنّ المتبقي من مواصفات آثاره دليل مؤيّد لذلك.
الطريف في الأمر أنّه يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يسمى «سائرس» أي «كورش» إذ كان اليونان يسمون كورش بـ
«سائرس». والآثار الأرمينية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم «بهاك كورائي» والتي تعني «مضيق كورش» أو«معبر كورش» وهذا دليل آخر على أنّ كورش هو الذي بنى السد
.
ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين، إذ وردت المرّة الأولى في الآيات التي نبحثها، والثّانية في سورة الأنبياء، حيث يقول المولى سبحانه:﴿
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾
.
يقول العلّامة الطباطبائي، في تفسير الميزان: ويستفاد منها أن «مأجوج» أو«جوج ومأجوج» أمة أو أمم عظيمة كانت قاطنة في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ، وأنهم كانوا أمما محاربة معروفة بالمغازي والغارات
.
وجاء في وصف يأجوج ومأجوج، فروي أنهم من الترك ومن ولد يافث بن نوح، كانوا يفسدون في الأرض فضرب السد دونهم. وروي أنهم من غير ولد آدم. وفي عدة من الروايات أنهم قوم ولود لا يموت الواحد منهم من ذكر أو أنثى حتى يولد له ألف من الأولاد، وأنهم أكثر عددا من سائر البشر حتى عدوا في بعض الروايات تسعة أضعاف البشر، وروي أنهم من الشدة والبأس بحيث لا يمرون ببهيمة أو سبع أو إنسان إلا افترسوه وأكلوه، ولا على زرع أو شجر إلا رعوه، ولا على ماء نهر إلا شربوه ونشفوه، وروي أنهم أمّتان كل منهما أربع مائة ألف أمّة كل أمّة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه. وروي أنهم طوائف ثلاث فطائفة كالأرز وهو شجر طوال، وطائفة يستوي طولهم وعرضهم: أربعة أذرع في أربعة أذرع، وطائفة وهم أشدهم، للواحد منهم أذنان يفترش بإحداهما ويلتحف بالأخرى، يستوفي إحداهما لابسا له وهي وبرة ظهرها وبطنها ويصيف في الأخرى وهي زغبة ظهرها وبطنها، وهم صلب، على أجسادهم من الشعر ما يواريها، وروي أن الواحد منهم شبر أو شبران أو ثلاثة، وروي أن الذين كانوا يقاتلونهم كانت وجوههم وجوه الكلاب، وما إلى ذلك من الروايات
.
على أن الآيات القرآنية تؤيّد بوضوح أنّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم، وقد جاء في كتاب «حزقيل» من التوراة، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين، وفي كتاب رؤيا «يوحنا» الفصل العشرين، ذكرا بعنوان «كودك» و«ماكوك» التي تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج.
والبعض يعتقد أنّ هاتين الكلمتين عبريتين، ولكنهما في الأصل انتقلتا من اليونانية إلى العبرية، إذ كانتا تلفظان في اليونانية ب «كاك» و«ماكاك» ثمّ انتقلتا على هذا الشكل إلى كافة اللغات الأوروبية.
ثمّة أدلة تاريخية على أنّ منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي «منغوليا» كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إذ كان الناس يتكاثرون بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا على هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجيا.
وقد وردت مقاطع تاريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم، وقد تمّت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي، بقيادة «آتيلا» وقد قضت هذه الهجمة على حضارة الإمبراطورية الرومانية.
وكان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثّاني عشر الميلادي بقيادة جنكيزخان، حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودمّر العديد من المدن، وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية. وفي عصر كورش في حوالي عام (500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات، لكن موقف حكومة «ماد وفارس» إزاءهم أدّى إلى تغير الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت من حملات هذه القبائل.
وبهذا يظهر أنّ يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية، حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدّ ذي القرنين
.
نعود إلى متابعة قصة ذي القرنين حيث يقول:
﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي
خَيْر... ﴾ أي أنه أجابهم قائلا: إن ما ملّكني إياه ربّي، وأقدرني عليه من المال والسلطان خَيْرٌ ممّا تبذلون لي من مالكم:
﴿ فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ ﴾ فساعدوني بقوة الرجال. فمعنى القوة قوة الأبدان، أو أن المراد آلات العمل وبعض لوازمه كالحديد والصفر، أو المراد كلاهما.
وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض، فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال والتطوع بإقامة السد، ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين، فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية:
﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ
بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْماً ﴾
.
﴿
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ...
﴾ أعطوني قطع الحديد التي هيأتها لكم بالاقتدار الربّاني إذ وهب لي ذلك سبحانه من فضله وأعطاني إياه... ثم مضى في العمل:
﴿ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ
﴾، الصدف: منقطع الجبل وجانبه، فقد عمل بين منقطع الجبلين وما زال يردم الحجارة والأتربة وينضّد الزّبر ويركّبها بعضها فوق بعض، ويشيّد ردما يقوم على قطع حديد متراكبة منظّمة يتخلّل صفوفها الفحم ثم قالَ ذو القرنين
(عليه السلام):
انْفُخُوا بالمنافخ التي صنعها لهذه الغاية من أجل إشعال النار وإضرامها في مختلف أجزاء الردم، فنفخوا:
﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراَ
﴾ أي صيّر الحديد نارا ﴿ قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً
﴾. أعطوني النحاس الذي أعددته لأفرغه على الحديد الملتهب فيمتزج بعضه ببعض، ويتماسك فيصير جسما واحدا. وقيل قصد القطر الذي تطلي به الإبل التي يظهر فيها الجرب، طلبه ليريقه على الحديد فيزيد في اشتعال النار ويساعد على التحام الحديد لشدة الحرارة التي يولّدها عند احتراقه. وهكذا عقد بينهم هذا السد الحاجز:
﴿ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ
﴾ أي ما قدروا على تجاوزه والصعود عليه لعلوّه وارتفاع بنائه ونعومة ملمسه:
﴿ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً
﴾، ولا قدروا على ثقبه وتدميره لصلابته وثخنه، فقد قيل إن ارتفاعه كان خمسين ذراعا، وثخنه ثمانية اذرع، وقد قال صاحب الكشاف: قيل: بُعدُ ما بين السّدّين مائة فرسخ، يقصد طول السّد من طرفيه مما يلي الجبلين
.
وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته، وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله.
وبذلك التحم الحاجزان، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج:
﴿ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ
﴾ ويتسوروه: ﴿ وَمَا
اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً
﴾ فينفذوا منه. وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف المتخلفين، فأمنوا واطمأنوا.
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكره، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه، وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا.
﴿
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ
رَبِّي حَقّاً ﴾..
وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين، النموذج الطيب للحاكم الصالح العادل، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب فيجتاح الأرض شرقا وغربا، ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يسخّر أهلها في أغراضه وأطماعه... إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق، ثم يُرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله
.
وهكذا تمّ لذي القرنين ما أراده من إغلاق المنافذ التي كان ينفذ منها هذا الجيش البشري - يأجوج ومأجوج - ليفسدوا البلاد ويهلكوا العباد، وذلك انسجاما منه مع مسؤوليته الإيمانية في ما إرادة الله من تقوية الضعيف بقدرته.
لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما، وكان له وفقا لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به، إلّا أنّه قال بأدب كامل:
﴿ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي
﴾، لأنّ أخلاقه كانت أخلاقا إلهية.
لقد أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة، فإنّ كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جلّ وعلا، وإذا كنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثّر فذلك أيضا من الخالق جلّ وعلا. وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإنّ ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة.
أراد ذو القرنين أن يقول: إنّني لا أملك شيئا من عندي كي أفتخر به، ولم أعمل عملا مهمّا كي أمنّ على عباد الله. ثمّ استطرد قائلا: لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبديا وخالدا:
﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ
دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾.
لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث، لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع، ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر
.
جاء في تفسير نور الثقلين
عن الأصبغ بن نباتة عن الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:... وكان ذو القرنين عبدا صالحا، كان من الله بمكان نصح الله فنصح له، وأحب الله فأحبه، وكان قد سبّب له في البلاد ومكّن له فيها، حتى ملك ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليل من الملائكة يقال له رقائيل ينزل إليه فيحدثه ويناجيه، فبينا هو ذات يوم عنده إذ قال له ذو القرنين: يا رقائيل كيف عبادة أهل السماء وأين هي من عبادة أهل الأرض؟ فقال:
أما عبادة أهل السماء ما في السموات موضع قدم إلا وعليه ملك قائم لا يقعد أبدا أو راكع لا يسجد أبدا، أو ساجد لا يرفع رأسه أبدا، فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال:
يا رقائيل إني أحب أن أعيش حتى أبلغ من عبادة ربي وحق طاعته بما هو أهله، فقال له رقائيل: يا ذا القرنين إن لله في الأرض عينا تدعى عين الحياة، فيها عزيمة من الله أنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو يسأل الله الموت، فإن ظفرت بها تعيش ما شئت قال: وأين ذلك العين وهل تعرفها؟ قال: لا، غير أنا نجد في السماء أن لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان، فقال ذو القرنين: وأين تلك الظلمة؟ قال رقائيل ما أدري، ثم صعد رقائيل فدخل ذا القرنين حزن طويل من قول رقائيل، ومما أخبره عن العين والظلمة، ولم يخبره بعلم ينتفع به منهما.
جمع ذو القرنين فقهاء أهل مملكته وعلمائهم وأهل دراسة الكتب وآثار النبوة، فلما اجتمعوا عنده قال ذو القرنين: يا معشر الفقهاء وأهل الكتب وآثار النبوة هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله أو من كتب من كان قبلكم من الملوك إن لله عينا تدعى عين الحياة، فيها من الله عزيمة أنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت؟ قالوا: لا يا أيها الملك، قال: فهل وجدتم فيما قرأتم من الكتب إن لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان؟ قالوا: لا أيها الملك، فحزن عليه ذو القرنين حزنا شديدا وبكى، إذ لم يخبر عن العين والظلمة بما يحب.
وكان فيمن حضره غلام من الغلمان من أولاد الأوصياء، أوصياء الأنبياء، وكان ساكتا لا يتكلم، حتى إذا أيس ذو القرنين منهم قال له الغلام: أيها الملك إنك تسأل هؤلاء عن أمر ليس لهم به علم، وعلم ما تريد عندي، ففرح ذو القرنين فرحا شديدا حتى نزل عن فراشه وقال له: أدن منّي، فدنا منه فقال: أخبرني، قال: نعم أيها الملك إني وجدت في كتاب آدم الذي كتب يوم سمى له ما في الأرض من عين أو شجر، فوجدت فيه أن لله عينا تدعى عين الحياة فيها من الله عزيمة أنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت، بظلمة لم يطأها إنس ولا جان، ففرح ذو القرنين وقال: أدن منّي يا أيها الغلام أتدري أين موضعها؟ قال: نعم، وجدت في كتاب آدم أنها على قرن الشمس يعني مطلعها.
فرح ذو القرنين وبعث إلى أهل مملكته فجمع أشرافهم وفقهاءهم وعلماءهم وأهل الحكم منهم، فاجتمع إليه ألف حكيم وعالم وفقيه، فلما اجتمعوا إليه تهيأ للسير وتأهب له بأعد العدة وأقوى القوة، فسار بهم يريد مطلع الشمس يخوض البحار ويقطع الجبال والفيافي والأرضين والمفاوز، فسار إثنا عشر سنة حتى انتهى إلى طرف الظلمة، فإذا هي ليست بظلمة الليل ولا دخان، ولكنها هواء يفور، فسدّ ما بين الأفقين، فنزل بطرفها وعسكر عليها وجمع علماء أهل عسكره وفقهائهم وأهل الفضل منهم، فقال:
يا معشر الفقهاء والعلماء إني أريد أن أسلك هذه الظلمة فخروا له سجدا وقالوا: يا أيها الملك إنك لتطلب أمرا ما طلبه ولا سلكه أحد كان قبلك من النبيين والمرسلين، ولا من الملوك؟ قال: إنه لا بد لي من طلبها، قالوا: أيها الملك إنا لنعلم أنك إذا سلكتها ظفرت بحاجتك منها بغير عنت عليك لأمرنا، ولكنا نخاف أن يعلق بك منها أمر يكون فيه هلاك ملكك وزوال سلطانك وفساد من في الأرض، فقال: لا بد من أن أسلكها، فخروا سجدا وقالوا: إنا نتبرأ إليك مما يريد ذو القرنين.
فقال ذو القرنين: يا معشر العلماء أخبروني بأبصر الدواب؟ قالوا: الخيل الإناث البكارة أبصر الدواب، فانتخب من عسكره فأصاب ستة آلاف فرس إناثا أبكارا، وانتخب من أهل العلم والفضل والحكمة ستة آلاف رجل، فدفع إلى كل رجل وعَقَدَ لـ (أفسحر) وهو الخضر
(عليه السلام) على ألف فرس، فجعلهم على مقدمته وأمرهم أن يدخلوا الظلمة، وسار ذو القرنين في أربعة آلاف وأمر أهل عسكره أن يلزموا معسكره اثني عشر سنة، فإن رجع هو إليهم إلى ذلك الوقت والا تفرقوا في البلاد ولحقوا ببلادهم أو حيث
شاءوا، فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك في الظلمة لا يرى بعضنا بعضا كيف نصنع بالضلال إذا أصابنا؟ فأعطاه ذو القرنين خرزة حمراء كأنها مشعل لها ضوء، فقال: خذ هذه الخرزة فإذا أصاب بكم الضلال فارم بها إلى الأرض فإنها تصيح، فإذا صاحت رجع أهل الضلال إلى صوتها، فأخذها الخضر ومضى في الظلمة، وكان الخضر يرتحل وينزل ذو القرنين، فبينا الخضر يسير ذات يوم إذ عرض له واد في الظلمة فقال لأصحابه:
قفوا هذا الموضع لا يتحركن أحد منكم عن موضعه، ونزل عن فرسه فتناول الخرزة فرمى بها في الوادي فأبطأت عنها بالإجابة حتى ساء ظنه وخاف أن لا يجيبه ثم أجابته، فخرج إلى صوتها فإذا هي العين بقعرها، وإذا ماؤها أشد بياضا من اللبن وأصفى من الياقوت، وأحلى من العسل، فشرب منه ثم خلع ثيابه فاغتسل منها، ثم لبس ثيابه ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فأجابته فخرج إلى أصحابه وركب وأمرهم بالمسير، فساروا.
ومر ذو القرنين بعده فاخطأ الوادي، فسلكوا تلك الظلمة بأربعين يوما وأربعين ليلة، ثم خرجوا بضوء ليس بضوء نهار ولا شمس ولا قمر ولكنه نور، فخرجوا إلى أرض حمراء رملة خشخاشة فركة كان حصاها اللؤلؤ، فإذا هو بقصر مبني على طوله فرسخ، فجاء ذو القرنين إلى الباب فعسكر عليه ثم توجه بوجهه وحده إلى القصر، فإذا طائر وإذا حديدة طويلة قد وضع طرفاها على جانبي القصر، والطير أسود معلق بأنفه في تلك الحديدة بين السماء والأرض، مزموم كأنه الخطاف أو صورة الخطاف أو شبيه بالخطاف أو هو خطاف، فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين، قال: أما كفاك ما وراك حتى وصلت إلى حد بابي هذا؟ ففرق ذو القرنين فرقا شديدا فقال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل كثر بنيان الآجر والجص؟ قال: نعم، قال: فانتفض الطير وامتلأ حتى ملأ من الحديدة ثلثها ففرق ذو القرنين فقال: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال:
هل كثرت المعازف؟ قال: نعم قال: فانتفض الطير وامتلاء حتى ملأ من الحديدة ثلثيها، ففرق ذو القرنين، فقال: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ارتكب الناس شهادة الزور في الأرض؟ قال: نعم، فانتفض انتفاضة وانتفخ فسد ما بين جداري القصر قال: فامتلأ ذو القرنين فرقا منه فقال له: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ترك الناس شهادة أن لا اله إلا الله؟ قال: لا، فانضم ثلثه، ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ترك الناس الصلاة المفروضة؟ قال: لا قال: فانضم ثلث آخر ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ترك الناس الغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانضم حتى عاد إلى حاله الأول.
وإذا هو بدرجة مدرجة إلى أعلى القصر، قال: فقال الطير: يا ذا القرنين اسلك هذه الدرجة فسلكها وهو خائف لا يدري ما هو عليه حتى استوى على ظهرها، فإذا هو بسطح ممدود البصر، وإذا رجل شاب ابيض مضيء الوجه عليه ثياب بيض حتى كأنه رجل أو في صورة رجل أو شبيه بالرجل أو هو رجل، وإذا هو رافع رأسه ينظر إلى السماء ينظر إليها واضع يده على فيه، فلما سمع خشخشة ذي القرنين، قال:
من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين، قال: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراك حتى وصلت إليّ؟ قال ذو القرنين: ما لي أراك واضعا يدك على فيك؟ قال: يا ذا القرنين أنا صاحب الصور، وإن الساعة قد اقتربت وأنا انتظر أن أؤمر بالنفخ فأنفخ، ثم ضرب بيده فتناول حجرا فرمى به إلى ذي القرنين كأنه حجر أو شبه حجر أو هو حجر، فقال:
يا ذا القرنين خذ هذا، فإن جاع جعت وإن شبع شبعت فارجع فرجع ذو القرنين بذلك الحجر حتى خرج به إلى أصحابه، فأخبرهم بالطير وما سأله عنه وما قال له، وما كان من أمره، وأخبرهم بصاحب السطح وما قال له وما أعطاه، ثم قال لهم:
إنه أعطاني هذا الحجر وقال لي: إن جاع جعت، وان شبع شبعت - وقال: أخبروني بأمر هذا الحجر فوضع الحجر في إحدى الكفتين، ووضع حجرا مثله في الكفة الأخرى، ثم رفع الميزان فإذا الحجر الذي جاء به أرجح بمثل الآخر، فوضعوا آخر فمال به حتى وضعوا ألف حجر كلها مثله، ثم رفعوا الميزان فمال بها ولم يستمل به الألف حجر فقالوا: يا أيها الملك لا علم لنا بهذا.
فقال له الخضر: أيها الملك إنك تسأل هؤلاء عما لا علم لهم به، وقد أوتيت علم هذا الحجر، فقال ذو القرنين: فأخبرنا وبيّنه لنا، فتناول الخضر الميزان فوضع الحجر الذي جاء به ذو القرنين في كفة الميزان، ثم وضع حجرا آخر في كفة أخرى، ثم وضع كف تراب على حجر ذي القرنين يزيده ثقلا، ثم رفع الميزان فاعتدل وعجبوا وخروا سجدا لله وقالوا: أيها الملك هذا أمر لم يبلغه علمنا، وإنا لنعلم أن الخضر ليس بساحر فكيف هذا وقد وضعنا معه ألف حجر كلها مثله، فمال بها، وهذا قد اعتدل به وزاده ترابا؟
قال ذو القرنين: بيّن يا خضر لنا أمر هذا الحجر، فقال الخضر: أيها الملك إن أمر الله نافذ في عباده، وسلطانه قاهر، وحكمه فاصل، وإن الله ابتلى عباده بعضهم ببعض، وابتلى العالم بالعالم، والجاهل بالجاهل، والعالم بالجاهل، والجاهل بالعالم، وإنه ابتلاني بك وابتلاك بي، فقال: يرحمك الله يا خضر إنما تقول: ابتلاني بك حين جعلت أعلم منى، وجعلت تحت يدي، أخبرني يرحمك الله عن أمر هذا الحجر؟
فقال الخضر: أيها الملك إن هذا الحجر مثل ضربه لك صاحب الصور، يقول: إن مثل بنى آدم مثل هذا الحجر الذي وضع ووضع معه ألف حجر فمال بها، ثم إذا وضع عليه التراب شبع وعاد حجرا مثله، فيقول: كذلك مثلك أعطاك الله من الملك ما أعطاك فلم ترض به حتى طلبت أمرا لم يطلبه أحد كان قبلك، ودخلت مدخلا لم يدخله إنس ولا جان، يقول: كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب.
قال: فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال: صدقت يا خضر، ضرب لي هذا المثل: لا جرم أني لا أطلب أثرا في البلاد بعد مسلكي هذا، ثم انصرف راجعا في الظلمة،
فبينهم كذلك يسيرون إذ سمعوا خشخشة تحت سنابك خيلهم فقالوا:
أيها الملك ما هذا؟ فقال: خذوا منه، فمن أخذ منه ندم ومن تركه ندم، فأخذ بعض وترك بعض، فلما خرجوا من الظلمة إذا هم بالزبرجد، فندم الآخذ والتارك
، ورجع ذو القرنين إلى دومة الجندل وكان بها منزله فلم يزل بها حتى قبضه الله.
إنّ قصّة ذي القرنين بشكل عام تحتوي على دروس تربوية كثيرة من الضروري الالتفات إليها والإفادة منها، وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها، ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي:
1- إنّ أوّل درس تعلمنا إيّاه أنّ عمل هذه الدنيا لا يتمّ دون توفير أسبابه، لذا فإنّ الله تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم ذي القرنين وانتصاره في علمه:
﴿ وآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَباً ﴾، وفي نفس الوقت استفاد «ذو القرنين» من هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن:
﴿ فَأَتْبَعَ
سَبَباً ﴾. لذلك فإنّ من يظن أنّه سيحصل على النصر من دون تهيئة أسبابه ومقدماته، فإنّه لا يصل إلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه!
2- بالرغم من أنّ غروب الشمس في عين من ماء آسن سببه خطأ في الباصرة واشتباه منها، إلّا أنّ المعنى الذي نلمحه من هذا المثال هو إمكان تغطية الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة، ومثلها في ذلك مثل ذلك الإنسان العظيم الذي يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من أنظار الناس.
3- لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع، ومعاقبة المذنبين والمخطئين، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين حيث قال:
﴿ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ
نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً
نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ
جَزَاءً الْحُسْنَى ﴾.
والإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد، إذ يقول (عليه السلام): «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة»
.
4- التكليف الشّاق وتصعيب الأمور وتحميل الناس ما لا يطيقون، كل هذه الأمور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبدا، ولهذا السبب فإنّ ذا القرنين بعد أن صرّح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين، أضاف:
﴿ وسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا
يُسْراً
﴾ حتى يمكن إنجاز الأعمال عن شوق ورغبة.
5- الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والاختلاف القائم في حياة الناس وتراعي شرائط حياتهم المختلفة، ولهذا السبب فإنّ «ذو القرنين» صاحب الحكومة الإلهية والذي واجه أقواما مختلفة، كان يتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصّة، وبذلك كان الجميع منضوين تحت لوائه.
6- إنّ «ذو القرنين» لم يستعبد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام، أو كما وصفهم القرآن:
﴿ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً
﴾، بل إنّه استمع إلى مشاكلهم، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أسلوب كان، وبنى لهم سدا محكما بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج)، وقد قام بإنجاز أمورهم بدون أن يفرّق بينهم (رغم أنّه كان يظهر أنّ مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون الحكومة بأي شيء). في حديث عن الإمام الصادق
(عليه السلام) نقرأ قوله: «إسماع الأصم من غير
تصعّر صدقة هنيئة»
.
7- الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية السليمة، لهذا السبب تحمّل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم من أعدائهم، وقد استفاد من أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في التاريخ ورمزا للاستحكام والدوام والبقاء، حيث يقال
للبناء القوي «إنّه مثل سدّ الإسكندر» بالرغم من أن «ذو القرنين» غير الإسكندر.
ومن البديهي القول أنه لا يمكن للمجتمع أن يسعد من دون قطع الطريق على المفسدين، ولهذا فإنّ أوّل شيء طلبه إبراهيم (عليه السلام) عند بناء الكعبة هو الأمن: ﴿
رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾. ولهذا السبب أيضا فإنّ الفقه الإسلامي وضع أقسى العقوبات للذين يعرضون أمن المجتمع إلى الخطر.
8- الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمه من هذه القصّة، هو أنّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الأولى في الاشتراك في الجهد المبذول لحل مشكلتهم، لذا فإنّ «ذو القرنين» أعطى أمرا إلى الفئة التي اشتكت إليه أمر يأجوج ومأجوج بأن يجلبوا قطع الحديد، ثمّ أعطاهم الأمر بإشعال النار في أطراف السد لدمج القطع فيما بينها، ثمّ أمرهم بتهيئة النحاس المذاب، وعادة فإن العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدي إلى إظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصّة للنتائج الحاصلة منه، وللجهود المبذولة فيه، ومن ثمّ يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحملهم لمجهودات إنشائه. كما يتّضح من هذه النقطة أن المجتمع المتخلف والمتأخّر يستطيع أن ينجز أعمالا مهمّة وعظيمة إذا تمتع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.
9- الزعيم الإلهي والقائد الرّباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي، وإنّما يقتنع بما حباه الله، لذا رأينا «ذو القرنين» عندما اقترحوا عليه الأموال قال:
﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
﴾، وهذا النمط من السلوك يخالف أساليب السلاطين وولعهم العجيب بجمع الثروة والأموال. وفي القرآن الكريم نقرأ مرارا في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاء لأعمالهم ودعواتهم.
ويمكن مشاهدة هذا الموضوع في أحد عشر موردا من القرآن الكريم، سواء ما يخص نبي الإسلام
(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأنبياء السابقين، ففي بعض الأحيان يذكر القرآن تعبير:
﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ
﴾ وفي أحيان أخرى يضع القرآن محبّة أهل البيت (عليهم السلام)، والذين هم ركن القيادة المستقبلية، أساسا للجزاء فيقول:
﴿ قُل لَّا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ﴾.
10- إحكام الأمور هو درس آخر نستفيده من هذه القصّة، فذو القرنين استفاد من القطع الحديدية الكبرى في بناء السد، وقد وصلها بالنّار، ثمّ غطّاها بالنحاس المذاب كي تمتنع عن التلف والصدأ إذا تعرضت للهواء والرطوبة.
11- مهما كان الإنسان قويا ومتمكنا وصاحب قدرة واستطاعة في إنجاز الأعمال، فعليه أن لا يغتر بنفسه، وهذا هو درس آخر نتعلمه من قصة «ذو القرنين». فقد اعتمد في جميع شؤونه على قدرة الخالق جلّ وعلا، وقال بعد إتمام السد:
﴿ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي
﴾. وعندما اقترحوا عليه المساعدة المالية قال: ﴿
مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي
خَيْرٌ ﴾. وأخيرا عندما يتحدث عن فناء هذا السد المحكم، فإنّه لا ينسى أن ينسب موعد ذلك إلى الله تعالى.
12- كل شيء إلى زوال مهما كان محكما وصلدا، هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة، وهو درس للذين يتمنون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.
نعم، إنّ سد ذي القرنين أمر هيّن قياسا إلى انطفاء الشمس وفناء الجبال الراسيات، إذا فكيف بالإنسان المعرّض للأضرار أكثر من غيره!؟ ألا يكفي التفكير بهذه الحقائق حافزا على الوقوف بوجه الاستبداد؟
.