تفسير سورة الحجرات

 

جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد

بيروت - لبنان

الطبعة الثانية، صفر 1432هـ - 2010م

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

فهرس الكتاب

 الآيتان 7 - 8 85
 الآية 9 95
 الآية 10 112
 الآية 11 132
 الآية 12 142

 

 


الآيتان 7 - 8:


 

﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

 

 

نقاط وتأمُّلات:

 

قرأنا في الآيات السابقة أنّ شخصاً يدعى الوليد بن عقبة أخبر كذباً بتمرّد قبيلة على رسول الله (ص) وعلى الناس، مما أثار الناس وهيّأهم للهجوم على القبيلة المتمردة وتوقّعوا أن يقدم رسول الله (ص) على اتّخاذ موقف حاسم من تلك القبيلة، وحيث إنّهم كانوا يتوقعون من النبيّ (ص) أن يتحرك هو أيضاً دفاعاً عنهم وتأييداً لهم، نزلت الآية تقول:

أوّلاً: إذا جاء فاسق بخبر هام فعليهم أن يتحققوا.

ثانياً: على الناس أن يكونوا تابعين للنبي (ص)، لا أن يكون النبي (ص) تابعاً لهم ومؤيداً لانفعالاتهم أو مشاعرهم الملتهبة الفجّة التي أثارتها تقارير أشخاص فاسقين.

نقرأ في الأحاديث عن الإمام الباقر (ع): « إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته ففيك خيرٌ والله يحبك، وأن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خيرٌ، والله يبغضك والمرء مع من أحبّ »  [116].

نقرأ في الروايات أن المراد من الإيمان في قوله تعالى: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ﴾ هو محبّة علي بن أبي طالب (ع) وأن المراد من الكفر والفسوق والعصيان هم المخالفون لأهل البيت (ع) [117].

روى الإمام الصادق (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال: « من لم يعرف لله عليه نعمة إلا في مطعمٍ أو مشرب أو ملبس قصر علمه ودنا عذابه » [118].

ونقرأ في حديث آخر عن رسول الله (ص) يقول: « من لم ير أن لله عليه نعمة، إلا في مطعم أو مشرب، فقد جهل وكفر نعم الله، وضلّ سعيه ودنا أجله » [119].

إنَّ الرشد موهبة إلهية، وهدية ربانية أعطيت للأنبياء: ﴿ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ [120] وهم مكلّفون بترشيد الناس ﴿ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [121] كما يظهر ذلك من قصة موسى (ع) وهو يجري وراء الخضر في الصحارى ليصل إلى مبتغاه من الرّشد: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [122].

ثم إنّ الإيمان أرضية للرُّشد: ﴿ وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [123].

كما أن الكتب السماوية هي أيضاً وسيلة فاعلة للرشد: ﴿ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [124].

وعلى كل حال فإنَّ المراد من الرّشد في القرآن الكريم هو الرّشد المعنوي، ومن قصر النظر وفجاجة الفكر لدى الإنسان أن يتصور أن الرشد يتلخّص في الرشد المادي وفي مجال التمتعات الدنيوية.

في مجال إدارة المجتمع وتنظيم أموره والتخطيط له إذا لم يتم اتخاذ القرارات على يد القائد المعصوم أو العادل، انتهى أمر المجتمع إلى الاستبداد الذي لا مكان فيه للرشد: ﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [125].

ولكن إذا كان متخذ القرار هو القائد المعصوم أو العادل، حينئذ توفرت أرضية الرشد والنمو: ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [126].

 


[116] أصول الكافي: ج2، ص126.

[117] أصول الكافي: ج1، ص426.

[118] أصول الكافي: ج2، ص315.

[119] بحار  الأنوار: ج79، ص158.

[120] سورة الأنبياء، الآية: 51.

[121] سورة غافر، الآية: 38.

[122] سورة الكهف، الآية: 66.

[123] سورة البقرة، الآية: 186.

[124] سورة الجن، الآية: 2.

[125] سورة هود، الآية: 97.

[126] سورة الحجرات، الآية: 7.

 

دروسٌ وبصائر:

 

1 ـ إذا أردنا أن لا نندم وجب أن نرجع إلى الأنبياء ففي آخر الآية السابقة كان الحديث عن الندامة، وفي هذه الآية يقول سبحانه: إن عندكم رسول الله فارجعوا إليه ولا تتّخذوا المواقف غير المدروسة والأعمال المستعجلة، لتأمنوا من الندامة ... ﴿ نَادِمِينَ ، وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾.

2 ـ إنّ حضور الأنبياء والقادة الإلهييّن في أي مجتمع هو في الحقيقة امتياز كبير للمجتمعات قال سبحانه: ﴿ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ ولم يقل: « رسول الله فيكم ». فهو من باب تقديم ما من حقّه التأخير لإفادة الحصر والتأكيد.

3 ـ على القائد أن يكون بين الناس وقريباً منهم وفي متناول أيديهم وعلى الناس أيضاً أن يأخذوا وجود وحضور رسول الله (ص) بين ظهرانيهم مأخذ الجدّ: ﴿ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾.

4 ـ إنّ توقع الناس بأن يشاورهم النبي (ص) أمر لا مانع فيه، ولكن توقع أن يتبعهم النبي ويطيعهم أمرٌ في غير محلّه: ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ ... لَعَنِتُّمْ ﴾.

5 ـ إنّ مشاكل الناس ناشئة من ابتعادهم عن مناهج الأنبياء، وعملهم وفق أهوائهم المختلفة، وطبائعهم الشخصية المتباينة: ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ ... لَعَنِتُّمْ ﴾.

6 ـ على القائد أن يكون مستقلاً في موقفه فلا يخضع لأحد في رأيه، لأنه لو تعرض في رأيه وموقفه لأمواج الفتن والأهواء ولضغوط الطبائع والاقتراحات ضعف رأيه، وتعرض المجتمع للمشاكل والمتاعب: ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ ... لَعَنِتُّمْ ﴾.

إنَّ العدوّ كذلك يريد هذا النوع من المشاكل الناجمة عن ضعف رأي القائد وهشاشة موقفه كما يقول تعالى في موضع آخر: ﴿ وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ... ﴾.

7 ـ يجب إظهار نوع من المرونة في بعض المجالات: ﴿ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ ﴾.

8 ـ في المجالات التي لا يوجد فيها حكم من جانب الله أو النبي، ويكون الموضع موضع المشورة، لا مانع من اتّباع رأي الناس، والموافقة على طبائعهم الشخصية: ﴿ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ ﴾.

وعلى هذا قد تكون هناك موارد لا تثير فيها طاعة الناس واتباعهم مشكلة ما.

9 ـ إنَّ اتخاذ مذهب معين أمر فطري قد أودعه الله سبحانه في جبّلة الإنسان: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ﴾، فنحن نقرأ في الروايات أن حبّ الحقّ وتولي أولياء الله والمؤمنين من ألطاف الله تعالى.

10 ـ الحب يكون بالإيمان والاعتقاد وأمّا الإجبار والفرض فلا يكون إيماناً: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ... ﴾.

11 ـ الإيمان زينة القلوب: ﴿ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾، تماماً كما أن الجبال والبحار والمعادن والورود والشلالات وكل ما فوق الأرض زينة للأرض ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ﴾، أجل إنَّ زينة الإنسان هي الكمالات المعنوية، والتجليّات المادية هي زينة الأرض.

12 ـ التولّي والتبرّي يجب أن يكونا معاً جنباً إلى جنب، وإذا أحببنا الإيمان فيجب أن نكره الكفر والفسق والعصيان أيضاً: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ... وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ... ﴾.

13 ـ إنَّ الإنكار القلبيّ وكذا الدوافع الفاسدة مقدمة لطغيان الإنسان فهو سبحانه قال أولاً: ﴿ الْكُفْرَ ﴾ ثم قال: ﴿ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾.

14 ـ إنَّ الكفر تغيير للفطرة الإنسانية: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ... وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ﴾.

15 ـ آفات الإيمان هي الكفر والفسوق والعصيان: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ... وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ﴾.

16 ـ إنَّ التنفّر من الأمور السيئة أمر فطري: ﴿ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾.

17 ـ إنَّ الأشخاص الذين لا يتنفّرون من الكفر والفسق والعصيان لن يكون فيهم رشد وتقدم: ﴿ كَرَّهَ ... أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾.

18 ـ النعمة ليست فقط النعم المادية فمن النعم الإلهية الكبرى حبّ الإيمان والبراءة من الكفر والفسق والعصيان: ﴿ حَبَّبَ ... كَرَّهَ ... فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ﴾.

 

العلاقة بين الإيمان والعلم:

 

إنَّ حساب الإيمان يختلف عن حساب العلم، فالإيمان أعلى وأجلّ من العلم وذلك لأن الإيمان من مقولة الحبّ، كما أنَّ حساب الولاية يختلف عن حساب الرئيس والحاكم والملك والسلطان، كما يختلف حساب الخمس والزكاة عن حساب الضرائب!.

وتوضيح ذلك أن الإنسان المؤمن قد يعلم كثيراً من الأشياء ولكنه لا يحبّها.

فمثلاً يعلم بارتفاع الجبال وعمق البحار والمحيطات، كما يعلم بتاريخ الحكومات والملوك والسلاطين وغير ذلك من آلاف المعلومات، كما أنّه يعلم الكثير من الإحصاءات والأرقام ولكنه لا يحبها ولا يتعشقها، أما في الأمور المرتبطة بالله سبحانه وبالاعتقاد والإيمان، فهناك يكون الحب والعشق، وهذا الحب والإيمان هدية إلهيّة أودعها الله تعالى في قرارة الإنسان.

وعلى هذا فإن الكفار يغيّرون بكفرهم وعنادهم ـ في الحقيقة ـ فطرتهم: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ﴾.

كما أنه لا توجد القداسة والثقة والانتخاب والقرب إلى الله تعالى الموجودة في فريضتي الخمس والزكاة في الضرائب.

ولهذا يقوم جميع الناس بأداء الضرائب في العالم، ولكن لا يحبّون من يتسلم هذه الضرائب ولا يعشقونه، بينما يقوم المؤمنون من الناس بدفع الخمس والزكاة وهم يحبّون مراجع التقليد ويجلّونهم.

 


الآية 9:


 

﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

 

نقاط وتأمُّلات:

 

 لقد طرحت من بداية هذه السورة أنواع من المواقف والممارسات:

أ ـ الموقف من الله والنّبي: ﴿ لَا تُقَدِّمُواْ ... ﴾.

ب ـ التعامل مع النّبي الكريم: التأدب معه، وعدم رفع الصوت عليه.

ج ـ نوع التعامل مع الفاسق: التحقق والتثبت من إخباره ودراسة التقارير.

د ـ التصدّي الحاسم للمتمرّد.

هـ ـ التعالم بمحبة وأخوة و... مع المؤمن (الآيات الّلاحقة).

نقرأ في الحديث بأن على المؤمن أن ينصر أخاه المؤمن ظالماً أو مظلوماً: « فأمّا نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه، أمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه » [127].

يجب أن تكون للمسلمين تشكيلات وحكومة وقدرة ونظام وتعليم وتعبئة وإعلام وميزانية، وإلا فإنَّ العمل بهذه الآية يعني مواجهة وردع قوى الاستكبار العالمي مع كل ذلك التقدم العلمي والتكنولوجي والارتباطات، من دون أجهزة وتشكيلات، وهو أمر لا يكون ممكناً ولا متيسراً. نعم إذا كان ردع المعتدين وقمعهم واجباً، وجب توفير مقدمة لك وهو إقامة الحكومة الإسلامية كذلك واجباً.

 


 [127] وسائل الشيعة: ج12، ص212.

 

دروسٌ وبصائر:

 

1 ـ الإيمان لا يمنع من الاصطدام والتنازع ولكن النزاع بين المؤمنين لا يكون سوى شرارة عابرة وليس حدثاً مستمراً، فهو أمر مؤقت وليس دائمياً، لأنّ لفظة ﴿ اقْتَتَلُواْ ﴾ تعرب عن مجرد ظهور نزاع لا دوامه، إذ لو كان دائمياً لقال تعالى: « يقتتلون ».

2 ـ يقضي الأدب بأن لا ننسب الأمور السلبية والقبيحة إلى مخاطبنا مباشرة ففي هذه الآية لم يقل سبحانه إذا اقتتلت طائفتان منكم، بل قال: من المؤمنين وكأنه يريد أن يقول « أنتم لستم من هذا النمط » ﴿ اقْتَتَلُواْ ﴾.

3 ـ إنَّ من طبيعة القتال أن يجر الجميع إلى ساحة المعركة ولا يقنع بالفريقين المتنازعين، ولهذا قال تعالى: ﴿ اقْتَتَلُواْ ﴾ وإلا لقال: اقتتلنا.

4 ـ إنَّ المسلمين يعتبرون أنفسهم مسؤولين ومعنيّين عند مشاهدة حوادث التصارع والتقاتل بين المؤمنين، ويرفضون حالة اللامبالاة: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ﴾.

5 ـ لإيجاد السلام وإقرار الصلح بين المسلمين يجب الإقدام بسرعة، وعدم التلكّؤ وهذا ما يستفاد من استخدام حرف الفاء في لفظة: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ﴾.

6 ـ إذا بغت إحدى الطائفتين المتقاتلتين وجب على جميع الأمة أن تتعبأ ضدّها: ﴿ فَإِن بَغَتْ ... فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي ﴾.

7 ـ من أجل إقرار وحفظ الأمن والعدالة يجوز حتى قتل المسلمين البغاة وإبادتهم، نعم لا قيمة لدم الباغي العنيد ﴿ فَإِن بَغَتْ ... فَقَاتِلُواْ ... ﴾.

8 ـ يجب مواجهة التحدي بالتحدي والعنف بالعنف: ﴿ فَإِن بَغَتْ ... فَقَاتِلُواْ ... ﴾، لا يجوز في النظام الإسلامي إمهال الباغي وإعطاؤه فرصة التحرّك.

9 ـ لا يجوز التسامح والتغافل في ردع الباغي: ﴿ فَقَاتِلُواْ ﴾، فحرف الفاء في قوله ﴿ فَقَاتِلُواْ ﴾ تفيد السرعة.

10 ـ في قمع الباغي وردعه يجب أن لا نتعرض للزوجة والأولاد بل يجب فقط أن نقصد الباغي نفسه: ﴿ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي ﴾.

11 ـ في ردع الباغي وقمعه يجب أن لا نلاحظ شرطاً أو شيئاً، فلا بدّ من ردعه وقمعه قريباً كان أو بعيداً، لإطلاق قوله: ﴿ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي ﴾.

12 ـ مدة مكافحة الباغي ليست محددة بل تمتد إلى أن نصل إلى الهدف: ﴿ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ ولا تشترط فيها الساعة أو الشهر أو تاريخ خاص، فهي مثل مراجعة المريض للطبيب ومثل استعمال الدواء الذي يجب أن يستمر إلى حين تحقق الشفاء.

13 ـ في ردع الباغي وقمعه لا مكان للأخذ بنظر الاعتبار ما هو من قبيل الأهداف الشخصية، ولا القومية، ولا الحزبية، ولا الانتقام ولا التظاهر أو إظهار القوة، أو التخويف بل لا يراعى فيه شيء إلا الهدف وهو رجوع الباغي إلى الله فحسب: ﴿ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾.

14 ـ لإيقاف قتال الباغي يكفي مجرد شروع الباغي في الفيء إلى أمر الله، وفي الرجوع إلى سبيل الحق، ففي هذه الحالة يجب الكف عنه لأن الشرط هو البدء في العودة إلى طريق الحق وليس الرجوع مئة بالمئة: ﴿ حَتَّى تَفِيءَ ... ﴾.

15 ـ في مرحلة التقاتل إذ لا يُعرف المعتدي يجب السعي لإيقاف التقاتل وإطفاء نار الفتنة وإقرار الصلح: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ﴾، ولكن فيما بعد ذلك وبعد أن يتضح ويعرف المعتدي والمصر على التقاتل يجب أن يتم إطفاء نار الفتنة، وإقرار الصلح والعمل لصالح المظلوم وفي سياق الدفاع عنه، وأخذ حقه من الظالم: ﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ﴾.

16 ـ تختلف وظيفة المسلمين وتتفاوت في الظروف المختلفة، فقد تكون وظيفتهم الإصلاح، وقد تكون وظيفتهم القتال والمحاربة، في هذه الآية وردت لفظة: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ﴾ مرتين، لفظة ﴿ فَقَاتِلُواْ ﴾ مرة واحدة، وهو يشعر بأنه قد تكون الوظيفة هي الصلح وقد تكون الحرب، وقد تكون الصلح مرة أخرى.

17 ـ عند الإصلاح بين فئتين يجب أخذ الخسارة التي سببتها المعركة من المعتدي: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾.

18 ـ قال الإمام الصادق (ع): « لا تُقدَّس أمة لا يؤخذ فيها للضعيف حقه من القوي غير متعتع ».

19 ـ كلما كان طوفان الغرائز أقوى ونار الغضب أشدّ، وكان هناك خطر الانزلاق، كانت الحاجة إلى النصائح المتوالية أكثر: ﴿ بِالْعَدْلِ ... وَأَقْسِطُواْ ... يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾.

20 ـ الإصلاح القيّم هو الذي يؤدي إلى وصول الحق إلى أهله وإلا كان صلحاً ذليلاً ومميتاً ومفروضاً: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ... وَأَقْسِطُواْ ﴾.

21 ـ كلّما كان الأمر بحاجة إلى تحمل مشاكل واحتمال متاعب، استفيدوا من سلاح المحبة ومن لهجة الحب: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾.

22 ـ إنما يحب الله من يتحركون ويتصرفون على أساس العدل والقسط، وإلا فإنَّ الذي يتوصل إلى إقرار الصلح بين متقاتلين من دون إقامة العدل والقسط لا يحبّه الله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾.

 

العدالة:

 

حيث إنه تكرّرت لفظة العدالة في هذه الآية ثلاث مرّات: ﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾، نتحدث قليلاً حول العدالة.

1 ـ إنّ الخلق قائم على أساس الحق والعدل « بالعدل قامت السماوات » [128].

2 ـ إنّ بعث الأنبياء إنما هو من أجل أن يقوم الناس بالعدل، وبعبارة أخرى يكون قيامهم عادلاً: ﴿ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [129].

3 ـ إنّ العدل حياة، والظلم موت: « العدل حياة والجورُ مماتٌ » [130].

4 ـ إنّ ساعة واحدة من السلوك العادل أفضل من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها [131].

5 ـ دعاء الإمام العادل مستجابٌ [132].

6 ـ جاء في الحديث: « إنَّ الناس يستغنون إذا عدل بينهم وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركاتها بإذن الله تعالى » [133].

7 ـ قال الإمام الكاظم (ع): « لو عدل في الناس لاستغنوا » [134].

وقال: « إنَّ العدل أحلى من العسل » [135].

8 ـ قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾، « ليس يحييها بالقطر (المطر) ولكن يبعث الله رجالاً فيُحيُون العدل فتحيا الأرض لإحياء العدل » [136].

9 ـ قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام): « وجعل العدل تنسيقاً للقلوب » [137]، أجل إنَّ الناس يمكن أن يتحملوا الفقر ولكنهم لا يتحمّلون الظلم بل ويغضبون لذلك.

 


[128] بحار الأنوار: ج33، ص493.

[129] سورة الحديد، الآية: 25.

[130] آثار الصادقين: ج12، ص435.

[131] جامع السعادات: للنراقي، ج2، ص23.

[132] وسائل الشيعة: ج7، ص108.

[133] الكافي: ج3، ص568.

[134] الكافي: ج1، ص541.

[135] الكافي: ج1، ص541.

[136] بحار الأنوار: ج7، ص174.

[137] بحار الأنوار: ج29، ص223.

 

العدالة في مدرسة الأنبياء(ع):

 

إنَّ كلمة العدل تقترن عادة بالقانون، والظلم والممارسة غير العادلة عادة هي نقض وتجاهل القوانين.

في هذه الصورة إذا كان أصل القانون غير محترم ولا قيمة له، وكان ضعيفاً مهيناً عند البشر، فكيف بأي دافع يمكن العمل لذلك القانون؟

إنَّ أي قانون يكون من صنع البشر يكون كالبشر أنفسهم، سيئاً في حال التغيير يوماً بعد يوم.

إنَّه القانون الذي أخذت فيه مصالح الأفراد أو الأحزاب بنظر الاعتبار، وإنه القانون الذي يكون نابعاً من أفكار فجّة أو مستفاداً ونابعاً من معلومات محدودة، ويكون خاضعاً للغرائز، أو ناشئاً من نزعة التمييز العنصري والنزعة القوميّة والأطماع ومن الشهوات الخاصة أو شهوات الآخرين.

إنَّه القانون الذي يتخذ في كل منطقة صفة خاصة كما يتخذ في كل زمان صبغة معينة.

إنَّ جميع أنواع القانون هذه عرضة للتغير والتبدل ... وكل قوة عظمى تعطي لنفسها حق نقض هذا القانون.

إنَّها قوانين شوهدت من مؤسسيها ومدّونيها ألواناً مختلفة من الأخطار، والعيوب والخصال القبيحة والأفعال الشنيعة، إنها قوانين لا يحترمها ولا يعمل بها مدوّونها ومؤسّسوها حتّى يمكن أن تستقطبَ احترام الناس، وتكون مقدسة وكريمة عندهم، وتوفر لهم العزة والشرف، وتكون أرضية للتقدم والرشد.

وهل التخلف عن هذا النوع من القوانين يعد ظلماً ومخالفة للعدل؟

أمّا القوانين التي ياتي بها الأنبياء فهي قوانين صادرة من جانب الله تعالى خالق البشر، ونابعة من العلم الإلهيّ والحكمة الإلهيّة واللطف الربانيّ المطلق، ويحملها إلى البشرية أشخاص معصومون ملتزمون بها وعاملون به قبل غيرهم.

إنَّها ليست قوانين متأثرة بإرادة أيّة قوة استكبارية كبرى، أو فرد، أو فريق أو حزب أو قبيلة.

إنَّ هذا النوع من القوانين لكونه يكرم الإنسان ويهبه منزلة سامية، يحظى لدى الإنسان بدافع قوي للعمل به وتطبيقه في حياته، فيعتبره واجب التنفيذ، ويرى التخلف عنه ظلماً وخروجاً عن جادة العدالة.

 

الأرضيات الاعتقادية والفطرية للعدالة:

 

إنَّ العدل لا يجد مكانه ولا معناه الحقيقي إلا في إطار الرؤية الدينية الإلهيّة لأن من خلال الرؤية الدينية الإلهيّة يعتقد الإنسان بعدالة الله سبحانه، ويعتقد أن الكون برّمته هادف، وأنَّ كل شيء يجري بإرادة الله تعالى وبتدبيره.

وبالرؤية الإلهيّة يعتقد المؤمن أن العنصر الأصلي في خلقة الإنسان عامّة هو التراب، وأنَّ معاد الجميع ومآلهم إلى الله عزَّ وجلَّ، والحضور في محكمته العادلة يوم القيامة.

ومن خلال رؤية الأديان السماويّة يعتقد الإنسان أنّ هدف جميع الأنبياء من قيامهم هو إقامة العدل، وأنّ أبرز الأهداف في انتظار الإمام المهدي (عج) هو أن يملأ الأرض بالعدل والقسط، كما يعتقد الإنسان في ظل هذه الرؤية باليوم الآخر: القيامة، الذي يجد فيه كل أعماله صغيرها وكبيرها حاضرة محضرة.

وبالرؤية الإلهيّة يعتقد الإنسان أن جميع الأنبياء والسفراء الإلهيّين أناس عدول، وقد جاؤوا لأجل نشر العدل.

أجل إنَّ هذه العقائد يمكنها أن توفر أفضل أرضية لإقامة العدل لدى الإنسان.

أما الذي يعتبر الوجود عارياً عن المبدأ، وخالياً من الحساب، ويرى أن العالم والخلق مجرد عن التدبير، فإنّه لا يرى المستقبل إلا فناء وخيالاً، ولا يرى للكون كله هدفاً، ولا غاية معقولة.

أجل، يمكن أن يراقب مثل هذا نفسه، ويضبط تصرفاته بضعة أيام تحت وطأة الضغوط الاجتماعية وخوفاً من الغرامات والعقوبات القانونية أو جلباً لمحبة الناس واحترامهم، أن من أجل أحراز مكانة اجتماعية يتخذ صورة الإنسان المحب للعدل الراغب في إجرائه، ولكن هذا الشخص نفسه لا يعتقد في قرارة نفسه بالعدل نظراً لرؤيته المادية التي ينظر بها إلى كل الكون، ولا يرى للوجود تخطيطاً ولا هدفاً.

 

دائرة العدل ونطاقه:

 

العدل من المحاور الإسلامية الأصلية بحيث نظراً لأهميتها تُطرح بعد مسألة التوحيد، عند بيان الصفات الإلهيّة، كما أنَّ العدالة تشترط في المرجعية الدينية وإمامة الجماعة، والجمعة، والقاضي، والشاهد، والمسؤول عن بيت المال، اشتراطاً لازماً.

إذا نظرنا إلى العدالة نظرةً واسعةً نجد أن جميع البرامج الإسلامية روعيت فيها بشكل وآخر مسألة العدالة والتعادل والابتعاد عن الإفراط والتفريط ومن جملة ذلك:

1 ـ العدالة والاعتدال في العبادة وصلت إلى درجة أن بعض الكتب الحديثة عقدت باباً تحت عنوان « الاقتصاد في العبادة » أدرجت تحته جملة من الروايات.

2 ـ العدالة والاعتدال في العمل والتنزه.

3 ـ العدالة والاعتدال في المحبة والمعاداة.

4 ـ العدالة والاعتدال في الإنتاج والاستهلاك.

5 ـ العدالة والاعتدال في التشجيع والتوبيخ.

6 ـ العدالة والاعتدال في تقسيم بيت المال والوصية بالأموال الشخصية.

7 ـ العدالة في التعامل مع الأزواج والأولاد والأصدقاء والزملاء.

8 ـ العدالة في القضاء حتى في النظر إلى المدعي والمدّعى عليه.

9 ـ العدالة في القصاص.

10 ـ العدالة في الحرب والقتال.

11 ـ العدالة في التعامل مع الحيوانات إلى درجة أنَّ الإمام عليّاً (ع) أوصى جابي الزكاة بمراعاة العدل في ركوب إبل الزكاة إن اضطرّ إلى امتطائها إذ قال: « ولا يجهدنّها ركوباً، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينه » [138] أي إذا كانت عندك أربع نياق من نياق الزكاة واضطررت إلى ركوبها وأمامك ساعتان من السير فاركب على كل واحدة منها نصف ساعة.

ونقرأ في موضع آخر أنه إذا أتعب الحاج بعيره أكثر من المتعارف فلا تقبلوا شهادته في المحاكم لأنه ظلم دابته [139].

وعلى كل حال، لقد روعيت العدالة في الإسلام في جميع الأمور، والمجالات حتى لو أنّ أحداً رأى طفلاً جالساً في مكان من المسجد فأزاله عن مكانه وصلّى في ذلك المكان كان في صلاته إشكال [140].

 


[138] نهج البلاغة: قسم الكتب، 25.

[139] وسائل الشيعة:  كتاب الحج.

[140] توضيح المسائل:

 

نماذج:

 

يأمر القرآن الكريم جماعة  من أهل الحجاز ميّزوا أنفسهم على الآخرين بامتياز معيّن في مناسك الحج، فكانوا يسلكون طريقاً آخر يختلف عن طريق الناس، بأن يسلكوا الطريق نفسه الذي يسلكه عامة الناس: ﴿ ثُمَّ  أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [141].

وعندما أراد أحد الأغنياء من أصحاب النبي (ص) أن يطرد الفقراء من حوله سمعوه يقول لهم: ﴿ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ [142].

جمع النبي الأكرم (ص) الناس في آخر سفر له، وقال لهم: « إنَّ الله تبارك وتعالى قد أذهب عنكم بالإسلام نخوةَ الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها، أيها الناس إنكم من آدم وآدم من طين » [143].

طلب بعض الأشخاص الذين لا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصّة من الإمام علي (ع) أن يفرز سهم الفقراء والعبيد عن سهم الشخصيات البارزة، ويعطي للنخبة من المجتمع سهماً أكبر من المال ليقوّي بذلك دعائم حكومته، ولئلا يقوموا بما يزعزعها، ولا يلتحقوا بمعاوية، فقال الإمام علي (ع): « أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله لا أفعل؟ » [144]، أي ليذهب من يريد أن يذهب إلى معاوية.

لقد أقدم هذا الإمام العظيم في بداية حكومته على إصدار قرار خطير إذ قال في الهبات والقطائع التي أعطاها الحاكم السابق لهذا وذاك ظلماً وزوراً: « والله لو وجدته قد تزوّج به النساء، وملك الإماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » [145].

ولقد قال الإمام علي (ع): « ولو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف وإنّما المال مال الله » [146].

وقال رسول الله (ص): « أول من يدخل النار أميرٌ لم يعدل » [147].

وعنه (ص) أيضاً أنه قال: « من ولّي عشرة فلم يعدل فيهم جاء يوم القيامة ويداه ورجلاه ورأسه في ثقب فأس » أي مقيّد [148].

هذه بعض النقاط التي وفقت أنا طالب العلم لاكتشافها من الآية ...

فُديتُ كتاباً تحتوي كل كلمة فيه على هذا القدر الهائل من الدروس التي لا تبليها الليالي والأيام، والأرض والسماء.

ولأجل أن نهتدي إلى المزيد من جوانب العظمة الّتي يتسم به هذا الكتاب أطلب منكم أن تكتبوا سطراً واحداً تحتوي كل كلمة فيه على كل هذه النقاط الهامة، وكل هذه العبر الخالدة والصحيحة والمنطقية.

ربّاه نسألك بكل كلمة من كلمات القرآن أن تحفظنا بعد أن هديتنا من الزّيغ والزّلل.

 


[141] سورة البقرة، الآية: 199.

[142] سورة هود، الآية: 29.

[143] بحار الأنوار: ج21، ص138.

[144] وسائل الشيعة: ج15، ص107.

[145] نهج البلاغة: الخطبة 15.

[146] نهج البلاغة: الخطبة 126.

[147] بحار الأنوار: ج72، ص345.

[148] بحار الأنوار: ج72، ص345.

 


الآية 10:


 

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

 

نقاط وتأمُّلات:

 

هذه الآية تعتبر العلاقة بين المؤمنين مثل علاقة الأخ بأخيه، وفي هذا التعبير نقاط جديرة بالاهتمام منها:

أ ـ إن الأخوَيْن وحدة واحدة في مواجهة الأجنبي، فكل واحد منهما عضد للآخر، يؤازره ويعضده.

ب ـ إنّ المحبة التي تربط الأخوَيْن أحدهما بالآخر محبة عميقة.

ج ـ تستخدم في عصرنا الراهن ألفاظ معينة وكلمات خاصة، مثل: الرفيق، الصديق، المواطن، الزميل، للتعبير عن العلاقة بين طرفين ولكن الإسلام يستخدم لفظة « الأخ » لأنها أعمق المصطلحات وأقواها دلالة وإيحاء.

د ـ المودة لدى الأخوَيْن مودّة متقابلة ومحبة متبادلة.

هـ جاء في الحديث أن الأخوَيْن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى [149].

في هذه الآية والآية التي سبقتها تكررت عبارة: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ﴾ ثلاث مرّات، وهذا يدلّ على مدى اهتمام الإسلام بمسألة الصلح وقضية السلام.

حيث إنَّ للتنازع بين الأخوة آثاراً مرّة ومدمّرة كالتهاجر والتدابر، وسوء الظن، ورواج الدعايات السيئة وظاهرة الانتقام، كما أنَّ فتن ما بعد الحرب تتفاقم وتزداد عادة (المراد من الحرب ما مرّ ذكره في الآيات السابقة).

لذا جاء القرآن ببلاسم لتلك الجراحات الناجمة عن الحرب وذلك باستخدام ألفاظ مثل: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ... وَأَقْسِطُواْ ... يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ... إِخْوَةٌ ... أَخَوَيْكُمْ ... وَاتَّقُواْ ... تُرْحَمُونَ ﴾.

 


[149] المحجة البيضاء: للفيض الكاشاني.

 

دروسٌ وبصائر:

 

1 ـ إنَّ رمز الأخوّة يكمن في الإيمان لا غير، والعوامل الاقتصادية، والسياسية، والعرقية، والجغرافية، والتاريخية، و ... لا يمكن أن توجد في الناس روح الأخوة: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ أي المؤمنون لا غيرهم الذين يشعرون بالأخوة.

2 ـ إنَّ الأخوّة القائمة على أساس الإيمان ليست مشروطة بقيد الزمان، والعمر، والشغل والمكان ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ فالإطلاق دليل العموم ...

3 ـ ينبغي أن لا يرى أحد نفسه أعلى وأرفع من الآخرين فالجميع إخوة، أجل: الوالدان أعلى مرتبة من الأخوة، ولكن الأخوة متساوون فيما بينهم.

4 ـ من أجل إقرار الصلح والتصالح لا بدَّ من استخدام الكلمات المزيجة باللهجة العاطفية والمثيرة للإحساس والاندفاع الإيجابي ﴿ إِخْوَةٌ ... فَأَصْلِحُواْ ... ﴾.

5 ـ إنّ الإصلاح بين متنازعَيْن واجب على جميع المسلمين، وليس على فريق خاص ﴿ فَأَصْلِحُواْ ﴾ فهو خطاب موجه إلى الجميع بلا استثناء.

6 ـ الساعي إلى الإصلاح بين المؤمنين يجب أن يحسّ بأنه أخو المتنازعَيْن: ﴿ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ أي لا بد أن يعتبر نفسه أخاً لهما، وينطلق في عملية الإصلاح من هذا المنطلق.

7 ـ للإصلاح بين متنازعَيْن كذلك آفات يجب الإلتفات والإنتباه إليها ﴿ فَأَصْلِحُواْ ... وَاتَّقُواْ ﴾ وبعض آفات الوساطة من أجل الإصلاح عبارة عن حب الظهور، والتوقعات الشخصية والظلم في إيجاد الإصلاح، والمنّ و ... .

8 ـ إن المجتمع المصاب بالتخاصم والتنازع محروم من استحقاق الرحمة الإلهيّة والتمتع: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ... وَاتَّقُواْ ... تُرْحَمُونَ ﴾.

 

الأخوّة والتآخي:

 

إنَّ مما يمتاز به الإسلام هو أنه يبدأ بالإصلاح من الجذور، فمثلاً يقول أولاً: ﴿ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [150] ثم يعظ قائلاً: لماذا لا تطلبون الله، ولا تقصدونه من أجل اكتساب العزة؟

أو يقول: ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [151].

ثم يستنتج من ذلك سائلاً: فلماذا إذاً نلتف كلّ ساعة حول شخص دون الله تعالى؟!

وفي الآية الحاضرة يقول: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾.

فلماذا التنازع والتهاجر؟! فلتكونوا جميعاً أصدقاء متحابّين وإخوة متوادّين، وعلى هذا الأساس لا بدّ لإصلاح الفرد والمجتمع من الشّروع من الأساس الفطري والمنطق الاعتقادي ثم إصلاح السلوك.

إن طرح مفهوم الأخوة واستخدام هذا المصطلح من مبتكرات الدين الإسلامي، فبينما كان رسول الله (ص) في « النخيلة » وحوله سبعمئة وأربعون شخصاً من أصحابه نزل جبرئيل (ع) وقال: « إنّ تعالى آخى بين الملائكة » فآخى النبي (ص) بين أصحابه.

وقد آخى بين العبارة: فآخى بين عمر وأبي بكر، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين طلحة والزبير، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي الدرداء وبلال، وبين جعفر الطيّار ومعاذ بن جبل وبين المقداد وعمّار، وبين عائشة وحفصة، وبين نفسه وعليّ بن أبي طالب [152].

وفي معركة « أحد » أمر أن يدفن اثنان من الشهداء معاً في قبر واحد وهما: عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح [153].

إنَّ الأخوّة النسبية ستنقطع ذات يوم ﴿ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ [154] ولكن الأخوّة الدينية باقية وقائمة إلى يوم القيامة: ﴿ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [155].

إنَّ الأخوّة تكون بين المؤمنات أيضاً حيث يستخدم القرآن الكريم هذه الأخوّة في مجال الحديث عن النساء أيضاً ﴿ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً [156].

إنَّ الأخوّة يجب أن تكون من أجل الله سبحانه، فإذا آخى شخص أحداً من أجل الدنيا والأغراض الدنيوية حرم مما يقصده، وهذا النوع من الخلة تتبدل إلى عداوة: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [157] [158].

إنَّ الأهم من اتّخاذ الإخوان هو المحافظة على الأخوّة وصيانتها.

فإنَّ هناك روايات كثيرة تنتقد بشدة أولئك الذين يفرّطون بالأخوّة إلى درجة أنه جاءت التوصية بأن لا نقاطع من قاطعنا من الإخوان، بل نصلهم ونتواصل معهم: « صل من قطعك » [159].

نقرأ في الأحاديث الوصية بأن نهتم أكثر بالقدامى من بين الإخوة المؤمنين، ونتحمل ما قد يصدر منهم من عثرات، وإنه لو طلبنا من دون عيب ونقص بقينا من دون أخ [160].

إنَّنا نقرأ في الأحاديث الشريفة كيف أن الله تعالى جعل مثوبات كبيرة وكثيرة لمن يقضي حوائج إخوانه المؤمنين إلى درجة أننا نقرأ قوله (ع): « من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله له يوم القيامة مئة ألف حاجة » [161].

قالَ الإمام جعفر الصادق (ع): « المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيء منه وجد ألم ذلك في سائر جسده » [162].

وقد صبّ الشاعر الفارسي المعروف سعد الدين الشيرازي هذا الحديث الشريف في قالب جميل من الشعر إذ قال:

الناس كالأعضاء في التساند

لخلقهم من كنه طين واحد

إذا اشتكى عضو تداعى للسهر

بقية الأعضاء حتى يستقر

إن لم تغم لمصاب الناس

فلست إنساناً بذا القياس [163]

 


[150] سورة يونس، الآية: 65.

[151] سورة البقرة، الآية: 165.

[152] بحار الأنوار: ج38، ص335.

[153] شرح ابن أبي حديد: ج14، ص214، وبحار الأنوار، ج20، ص132.

[154] سورة المؤمنون، الآية: 101.

[155] سورة الحجر، الآية: 47.

[156] سورة النساء، الآية: 176.

[157] سورة الزخرف، الآية: 67.

[158] بحار الأنوار: ج71، ص165.

[159] بحار الأنوار: ج75، ص283.

[160] ميزان الحكمة: باب: الأخوة.

[161] ميزان الحكمة: باب: الأخوة.

[162] أصول الكافي: ج2، ص166.

[163] روضة الورد ترجمة « گلستان » لسعد الدين الشيرازي.

 

حقوق الأخوة:

 

قال رسول الله (ص): « للمسلم على المسلم ثلاثون حقّاً لا براء له منها إلا بالأداء أو العفو »:

1 ـ يغفر زلّته.

2 ـ ويرحم عبرته.

3 ـ ويستر عورته.

4 ـ ويقيل عثرته.

5 ـ ويقبل معذِرَته.

6 ـ ويرد غيبته.

7 ـ ويديم نصيحته.

8 ـ ويحفظ خلّته.

9 ـ ويرعى ذمته.

10 ـ ويعود مرضته.

11 ـ ويشهد ميته.

12 ـ ويجب دعوته.

13 ـ ويقبل هديته.

14 ـ ويكافي صلته.

15 ـ ويشكر نعمته.

16 ـ ويحسن نصرته.

17 ـ ويحفظ حليلته.

18 ـ ويقضي حاجته.

19 ـ ويشفع مسألته.

20 ـ ويُسمّت عطسته.

21 ـ ويرشد ضالته.

22 ـ ويرد سلامه.

23 ـ ويطيب كلامه.

24 ـ ويبر إنعامه.

25 ـ ويصدق أقسامه.

26 ـ ويوالي وليه.

27 ـ ولا يعاديه.

28 ـ وينصره ظالماً ومظلوماً، فأما نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه، ولا يسلمه ولا يخذله.

29 ـ ويحب له من الخير ما يحب لنفسه.

30 ـ ويكره له من الشر ما يكره لنفسه.

وقال الإمام علي (ع) لكميل: « يا كميل إن لم تحب أخاك فلست أخاه » [164].

إنَّ الإنسان بالإيمان الكامل وحده يمكنه أن ينضم إلى جماعة أولياء الله تعالى: « سلمان منّا أهل البيت » [165].

كما أنَّ بالكفر يخرج من هذا المدار كما قال الله تعالى في حق ولد نوح (ع) مخاطباً النبي نوحاً (ع) بقوله: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [166].

 


[164] تحف العقول: ص 171، باب وصيته لكميل.

[165] بحار الأنوار: ج 1، ص 121.

[166] سورة هود: الآية: 46.

 

أفضل الإخوان:

 

نحن نقرأ في الأحاديث أن علائم أفضل الأخوّة هي كالتالي: « من أراد لك الخير وكان حريصاً عليك حتى أنه عنّفك في طاعة الله سبحانه، ومن إذا احتجت كفاك، ومن كانت في الله مودّته، المساعد على أعمال الآخرة، وكان أقلهم مصانعة في النصيحة، ومن دعاك إلى صدق المقال بصدق مقاله، ويدلك إلى أفضل الأعمال بحسن أعماله، ومن أعانك على طاعة الله، وصدّك عن معاصيه، وأهدى إليك، ومن تكون في الصلاة همّته، ويكون من أهل الصدق، والحياء، والأمانة، ولا يخذلك عند الشدة » [167].

 


[167] ميزان الحكمة: باب: الأخوة.

 

الصلح والتواصل في القرآن:

 

في هذه الآية نقرأ أن المؤمنين إخوة، إذاً لا بد أن يسودهم الصلح والسلام، والتقارب والتواصل، وبهذه المناسبة ينبغي أن نتحدث قليلاً عن مكانة الصلح والتواصل في القرآن الكريم.

لقد استخدمت في القرآن لفظة « الصلح »: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [168] والإصلاح: ﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ [169].

كما استخدم عبارة « تأليف القلوب »: ﴿ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [170] والتوفيق: ﴿ إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [171]

والسّلم: ﴿ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً [172] وكلّ ذلك يعكس اهتمام الإسلام بالصلح والسلام والصفاء والتعايش السلمي الوديع.

 


[168] سورة النساء، الآية: 128.

[169] سورة الأنفال، الآية: 1.

[170] سورة آل عمران، الآية: 103.

[171] سورة النساء، الآية: 35.

[172] سورة البقرة، الآية: 208.

 

أهميّة الإصلاح:

 

إنّ من النعم الإلهيّة المطروحة في القرآن الكريم التأليف بين قلوب المسلمين: ﴿ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [173].

أجل، كان بين قبيلتي الأوس والخزرج نزاع وقتال وفتنة دامت مئة وعشرين سنة فلما جاء الإسلام أقرّ الصلح بينهم.

إنَّ الإصلاح زكاة الجاه، وهو يوجب أن يحظى فاعله برحمة الله تعالى: ﴿ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [174].

إنَّ الذي يتوسّط بين مُسلِمَيْن متنازِعَيْن من أجل إصلاح ذات البَيْن سوف ينال ثواباً عظيماً: ﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا [175].

إنَّ للإسلام أحكاماً للإصلاح بين الناس منها:

1 ـ إنَّ الكذب من الذنوب الكبيرة، ولكن لا يحرم إذا استخدمه أحدٌ من أجل إصلاح ذات البَيْن ولا يعد ذنباً: « المصلح ليس بكاذب » [176].

2 ـ إنَّ النجوى والهمس في أذن أحد من أعمال الشيطان [177]، وهو أمر يوجب توجس المشاهدين، وخوفهم لهذا يعتبر معصية وإثماً منهياً عنه، ولكن لا يكون منهياً عنه، ولا يعدّ إثماً إذا كان من أجل إصلاح ذات البَيْن: ﴿ لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [178].

3 ـ مع أن العمل وفق الحلف واليمين أمر واجب ورغم أن الحنث، وعدم العمل بالقسم حرام، ولكن لو حلف أحد بأنه سوف لن يقدم على إصلاح بين متخاصمَيْن أجاز الإسلام له أن ينقض يمينه من أجل أن يقوم بإصلاح ذات اليمين: ﴿ وَلَا تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ [179].

فنحن نقرأ في التفاسير أنّه وقعت بين امرأة وصهر أحد صحابة النبي (ص) منازعة، فحلف ذلك الصحابيّ (والد الزوج) أن لا تتدخل في الأمر فنزلت هذه الآية تقول لا تجعلوا اليمين وسيلة لترك الإحسان والتقوى والإصلاح.

4 ـ مع أنَّ العمل بالوصية واجب، وتركه حرام، ولكن إذا كان العمل بالوصية يوجب حدوث فتنة وضغائن بين الأشخاص، أجاز الإسلام ترك العمل بالوصية ليسود الصلح والسلام، والوداد والوفاء بين الناس: ﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [180].

5 ـ مع أنَّ دم المسلم حرام ونفسه محترمة، ولكن إذا عمد بعض المسلمين إلى العدوان وإثارة الفوضى والشغب أجاز الإسلام قمع المشاغبين وقتل البغاة ولو كانوا من المسلمين، من أجل إقرار الصلح، والسلام، ومن أجل الأمن: ﴿ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي [181].

 


[173] سورة آل عمران، الآية: 103.

[174] سورة النساء، الآية: 129.

[175] سورة النساء، الآية: 85.

[176] بحار الأنوار: ج73، ص46.

[177] سورة المجادلة، الآية: 10.

[178] سورة النساء، الآية: 114.

[179] سورة البقرة، الآية: 224.

[180] سورة البقرة، الآية: 182.

[181] سورة الحجرات، الآية: 9.

 

موانع الإصلاح:

 

لقد أشير في القرآن والأحاديث إلى جملة من موانع الإصلاح، منها:

1 ـ الشيطان، يقول القرآن الكريم: ﴿ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً [182].

ويقول في موضع آخر: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [183].

2ـ حب المال والبخل: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ [184].

3 ـ التكبّر والغرور فهو كذلك يمنع من حصول الصلح.

 


[182] سورة البقرة، الآية: 208.

[183] سورة المائدة، الآية: 91.

[184] سورة النساء، الآية: 128.

 

بعض موجبات الرحمة الإلهيّة:

 

إذا راجعنا القرآن الكريم وتمعّنا فقط في عبارة ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ التي تكررت في القرآن الكريم، لوقفنا على بعض العوامل التي توجب نيل الرحمة الإلهيّة:

1 ـ اتباع الله سبحانه ورسوله (ص) والكتاب السماوي: ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... [185].

﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [186].

2 ـ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [187].

3 ـ إيجاد الصلح والسلام، والمحبة والألفة بين المسلمين: ﴿ فَأَصْلِحُواْ ... لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾.

4 ـ الاستغفار والتوبة: ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [188].

5 ـ استماع القرآن الكريم والإصغاء إليه: ﴿ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [189].

 


[185] سورة آل عمران، الآية: 132.

[186] سورة الأنعام، الآية: 155.

[187] سورة النور، الآية: 56.

[188] سورة النمل، الآية: 46.

[189] سورة الأعراف، الآية: 204.

 

عوامل نيل الرحمة في الأحاديث:

 

نلاحظ في أحاديث النبي وأهل بيته (ع) والذين هم عدل القرآن، تأكيدات كثيرة على جملة من الأمور والإشارة إلى كونها من عوامل نيل الرحمة الإلهيّة منها:

1 ـ عيادة المؤمن المريض: « من عاد مؤمناً خاض الرحمة خوضاً » [190].

2 ـ مساعدة الضعفاء وعونهم: « ارحموا ضعفاءكم واطلبوا الرحمة » [191].

3 ـ الرحمة بأصحاب العوائل الكبيرة فقد أكدت الأحاديث على مساعدة من له عدّة بنات مع ضيق ذات اليد [192].

4 ـ قضاء حوائج الناس، فقد جاء في الأحاديث: « أيّما مؤمن يأتي أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من الله تعالى ساقها إليه، وسبَّبها له فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنما رد عن نفسه رحمة من الله عزَّ وجلَّ » [193].

 


[190] وسائل الشيعة: ج2، ص415.

[191] بحار الأنوار: ج10، ص100.

[192] مستدرك وسائل الشيعة: ج15، ص115.

[193] أصول الكافي: ج2، ص193.

 


الآية 11:


 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

 

نقاط وتأمُّلات:

 

لفظة « لمز » تعني البحث والتفتيش عن عيوب الآخرين [194] ولفظة « التنابز » تعني منادة أحد بلقب سيء [195].

تحدثت الآيات السابقة عن التنازع والإصلاح بين المتنازعين، وفي هذه الآية إشارة إلى بعض عوامل الفتنة والنزاع وهي الاستهزاء والازدراء والتحقير والتنابز بالألقاب.

نعم إحدى فضائل العمل بتعاليم الإسلام وبركاته هو تنظيف الجو اجتماعي مما يلوثه، ويعكره، والمنع من الاستهزاء، والسخرية، والتنابز.

 


[194] كتاب العين للخليل.

[195] لسان العرب لابن منظور.

 

دروسٌ وبصائر:

 

1 ـ الإيمان بالله سبحانه، يتنافى مع السخرية بعباد الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا يَسْخَرْ ... ﴾.

2 ـ من ينهى عن الازدراء بالآخرين وإهانتهم يجب أن لا يستخدم أسلوباً مهيناً عند النهي عن الإهانة، قال تعالى: ﴿ لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ ﴾ ولم يقل: « لا يسخروا » بمعنى أنكم الساخرون، فهذا النوع من التعبير والخطاب إهانة لمن يتم نهيهم.

3 ـ السخرية مفتاح الفتنة، والبغضاء والعداوة: ﴿ لَا يَسْخَرْ قَومٌ ... ﴾ بعد بيان موضوع الأخوّة والإصلاح والتواصل: نهي عن السخرية.

4 ـ في أسلوب التبليغ عندما يكون الموضوع مهمّاً أو يكون المخاطبين متنوعين، يجب أن تتكرر المواضيع لكل صنف من أصناف المخاطبين: ﴿ قَومٌ مِّن قَوْمٍ ... وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ ﴾.

5 ـ في أسلوب تربية الناس وطريقة إرشادهم يجب أن ينصب الجهد على تجفيف جذور منابع الإرهاب والفساد والانحراف: ﴿ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً ... ﴾، إنَّ السخرية بالآخرين تنشأ من الإحساس بالتفوق لدى المستهزئ، ولهذا يجب أن يجفف منشأ ذلك، ولهذا يقول: يجب أن لا تعتبروا أنفسكم أفضل من الآخرين، فلعل الطرف الآخر أفضل منكم.

6 ـ حيث إنَّنا لا نعلم بما في بواطن الناس لهذا يجب أن تكتفي برؤية الظواهر للحكم عليهم، ويجب أن لا نكون سطحيّي النظرة، أو قصيري النظر: ﴿ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً ... ﴾.

7 ـ جميع الناس من جوهر واحد، فما يصدر من الغير قد يصدر من النفس أيضاً، لهذا فإنّ لمز الآخرين وتعقب عيوبهم هو في الحقيقة لمزٌ للنفس وتعقب للذات وكشف لعوراتها: ﴿ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾.

8 ـ إنَّ لمز الآخرين وتعقب عيوبهم سوف يدفعهم إلى الانتقام والمعاملة بالمثل، فإذا لمزت أحداً فلا بد أن يلمزك الآخرون، فذكر ونقل عيوب الآخرين حاضراً سيؤول إلى ذكر وكشف عيوب الذات مستقبلاً: ﴿ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾.

9 ـ السخرية والاستهزاء لن يبقى من جانب واحد بل سرعان ما يتحوّل إلى موقف متقابل، لفظة: ﴿ وَلَا تَنَابَزُواْ ﴾ وهي من باب التفاعل خلافاً للفظة « لا تنبزوا » تستعمل في العمل المتقابل والصادر من جانبين.

10 ـ يجب التوبة من إثم الاستهزاء والنبز بالألقاب: ﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.

طبعاً التوبة ليست فقط باللسان بل توبة تحقير الآخرين هو تكريمهم، وتوبة من كتم حقاً، هو بيان ما كتمه: ﴿ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ [196].

وتوبة من أفسد هو إصلاح ما أفسد: ﴿ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ ﴾.

11 ـ الاستهزاء هو الاعتداء على حرمة الأشخاص، والتجاوز على حَرَمِهم، وفاعله إذا لم يتب كان ظالماً: ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.

 


[196] سورة البقرة، الآية: 160.

 

السخرية بالآخرين والاستهزاء بهم:

 

إنَّ الاستهزاء في النظرة الأولى وفي البداية مجرد ذنب واحد، ولكنه في الحقيقة والواقع عدة ذنوب، فمثلاً: تنطوي السخرية على معصية التحقير والازدراء بالآخرين وكشف عوراتهم وعيوبهم، وإيجاد الفرقة والاختلاف، والغيبة والبغضاء، والفتنة والتحريك، والاستفزاز وإثارة روح الانتقام، والطعن في الآخرين.

 

جذور السخرية والاستهزاء

1 ـ قد يكون الاستهزاء والسخرية ناشئَيْن من كثرة المال والثروة، ما يقول القرآن الكريم عنه: ﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) [197].

2 ـ وقد يكون منشأ الاستهزاء والسخرية هو العلم والشهادات العلمية التي يقول عنها القرآن الكريم: ﴿ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُون [198].

وقد يكون منشأ الاستهزاء بالآخرين هو القوة الجسدية، فقد كان الكفار يقولون: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [199].

3 ـ وقد يكون الدافع إلى الاستهزاء والسخرية بالآخرين هو المكانات، والعناوين الاجتماعية الفضفاضة، فقد كان الكفار يحتقرون الفقراء الذين كانوا حول الأنبياء، ويقولون: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [200].

وربما يكون الدافع إلى السخرية والاستهزاء بالآخرين هو التنزه والعبث واللعب.

5 ـ وقد يكون الطمع في المال أو المنصب سبباً لانتقاد شخص لآخر في قالب الاستهزاء والسخرية.

فربما عاب جماعة على ما أمر به رسول الله (ص) من دفع الزكاة قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [201].

7 ـ وقد يكون منشأ الاستهزاء هو الجهل، فهذا هو النبي موسى (ع) أمر بذبح بقرة فقال له بنو إسرائيل: ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾.

فقال موسى (ع): ﴿ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [202].

 


[197] سورة الهمزة، الآيتان: 1 ـ 2.

[198] سورة غافر، الآية: 83.

[199] سورة فصلت، الآية: 15.

[200] سورة هود، الآية: 27.

[201] سورة التوبة، الآية: 58.

[202] سورة البقرة، الآية: 67.

 

الاحتقار غير المتعمّد

قال الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه: كيف تصنع بزكاة مالك إذا حضرت؟

قال: يأتوني إلى المنزل فأعطيهم.

فقال (ع): « ما أراك إلا قد أذللتَ المؤمن، فإياك إياك، إن الله يقول: « من أذل لي وليّاً، فقد أرصدني بالمحاربة » [203].


[203] المستدرك: ج9، ص105.

 

درجات الاستهزاء ومراتبه

كلّما كان المُسْتَهزَأ به أكثر قداسةً وأجلّ قدراً، كان الاستهزاء به أخطر، وأشد قبحاً وسوءاً فقد جاء في القرآن الكريم ﴿ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ [204].

لقد عفا رسول الله (ص) يوم فتح مكة عن جميع المشركين إلا من كان دأبه الهجاء، وديدنه الاستهزاء.

نقرأ في الحديث القدسي: « من أذلَّ لي وليّاً فقد أرصدني بالمحاربة » [205].

 


[204] سورة التوبة، الآية: 65.

[205] الكافي: ج2، ص353.

 

عواقب الاستهزاء

من لاحظ الآيات والأحاديث يقف على عواقب سيئة تنتظر المستهزئين وتترصّدهم.

أ ـ نقرأ في سورة المطفّفين أن الذين يستهزئون ويستخفّون بالمؤمنين في الدنيا بالضحك عليهم، ولمزهم، والاستهزاء بهم، سيواجهون في يوم القيامة التحقير والضحك عليهم من قبل أهل الجنة ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [206].

ب ـ قد تكون عقوبة المستهزئين أن يستهزأ بهم في هذه الدنيا: ﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [207].

ج ـ إنَّ يوم القيامة سيكون بالنسبة للمستهزئين يوم حسرة: ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُون [208].

د ـ نقرأ في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: « ما من إنسان يطعن في عين مؤمن إلا مات بشرِّ ميتة » [209].

هـ ـ قال الإمام جعفر الصادق (ع): « من طعن على المؤمن أو رد عليه فقد رد على الله ... » [210].

 


[206] سورة المطففين، الآية: 34.

[207] سورة هود، الآية: 38.

[208] سورة يس، الآية: 30.

[209] بحار الأنوار: ج72، ص145.

[210] بحار الأنوار: ج73، ص146.

 

خاطرة

* كان من الأعمال المباركة التي يقوم بها رسول الله (ص) هو تغيير أسماء الأشخاص والمناطق والتي كانت أسماء قبيحة [211]، لأن الأسماء القبيحة والسيئة كانت مدعاةً للاستهزاء وعرضة للسخرية.

* وفد عقيل أخو عليٍّ (ع) على معاوية ذات يوم، فقال له معاوية محقّراً إياه: مرحباً برجل عمه أبو لهب (الذي لعنه القرآن).

فقال له عقيل مجيباً: وأهلاً برجل عمته حمالة الحطب (فامرأة أبي لهب كانت عمّة معاوية) [212].

 


[211] أسد الغابة: ج3، ص76 وج4، 362. 

[212] بحار الأنوار: ج34، ص237.

 


الآية 12:


 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ

 

نقاط وتأمُّلات:

 

لقد وردت التوصية بحسن الظن في القرآن الكريم فيما نهى المسلمين عنه، الظن السيء بالمسلمين.

فمثلاً في سورة النور نقرأ قول الله تعالى: ﴿ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [213].

كما أنَّ المسلمين اعتُبِروا مسؤولين عن مكافحة البغاة في الآية التاسعة من هذه السورة، حفظاً لأمن وحياة الناس اعتبرت هذه الآية إساءة الظن، والتجسس والغيبة أموراً محرمةً حفاظاً على الأمن، وعلى أعراض الناس وشؤونهم.

يتحدث جميع الحقوقيون في العالم الراهن اليوم عن حقوق الإنسان، ولكنَّ الإسلام يهتمُّ بالآلاف من المسائل والقضايا التي يغفل عنها هؤلاء الحقوقيون أساساً، ومنها الغيبة التي توجه ضربة كبيرة إلى حقوق الإنسان.

ليس هناك ذنب وُصِفَ بالقساوة والجفاء بمثل ما وُصفتْ به الغيبة، أجل ... حتى الذئب لا يفعل مثل هذا بالذئب الآخر.

وليس الذئبُ يأكل لحم ذئبٍ      ويأكلُ بعضُنا بعضاً عياناً

سؤال: لماذا من أجل لحظة اغتياب تمحى عبادة سنوات قام بها الإنسان؟ هل هذه عدالة؟

الجواب: كما أنّ الذي يغتاب شخصاً يسقط اعتباره الذي اكتسبه طوال سنين دفعة واحدة، يسقط الله تعالى جميع عباداته التي قام بها سنيناً عديدة، دفعة واحدة أيضاً.

وعلى هذا يكون محو عبادات سنوات عديدة عقاباً عادلاً، ويكون هذا الموقف منه بحسب المصطلح مصداقاً للمقابلة بالمثل.

 


[213] سورة النور، الآية: 12.

 

دروسٌ وبصائر:

 

1 ـ إنَّ الإيمان مقرون بالالتزام، وكل من آمن يجب أن يتجنب سلسلة من الأعمال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ ... ﴾، لأنَّ الإيمان لا ينسجم مع سوء الظن والتجسس على الناس واغتيابهم.

2 ـ من أجل الابتعاد عن الذنوب يجب تجنّب الذنوب الاحتمالية. لأنَّ الكثير من الظنون ذنوب ومعاص ويجب تجنب جميع الظنون السيئة: ﴿ اجْتَنِبُواْ ... إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾.

3 ـ إنَّ الأصل هو الاعتماد على سلامة الإنسان وكرامته وبراءته: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾.

4 ـ الناس في المجتمع الإسلامي يجب أن يكونوا في أمان من سوء الظن، فلا يساء بأحد ظناً لا في محيط النفس والفكر، كما لا يتجسس على حياة أحد، وأعماله ولا يعتدى على سمعة أحد وعرضه في المجالس أبداً: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ... وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب ... ﴾.

5 ـ للنهي عن الغيبة يجب إزالة كل أرضيات هذا الفعل القبيح وسدّ أبوابه: وباب الورود في الغيبة هو سوء الظن، ثم المتابعة ثم التجسّس ثم كشف العيب ثم يبدأ الاغتياب، ولذلك نهى القرآن عن الغيبة بهذا الترتيب: ﴿ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ ... وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب ... ﴾.

6 ـ إن الذنوب والمعاصي وإن كانت في ظواهرها حلوة ومحبّبة، لكن بالنظرة الثاقبة النافذة إلى بواطن الأمور وملكوتها ما هي إلا خبائث: ﴿ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾، أجل، إنَّ باطن الغيبة، وباطنها الملكوتي هو أكل لحم الميت، وهذه العبارة لم يتم استخدامها في أيّ ذنب ومعصية مطلقاً.

7 ـ في النهي عن المنكر لا بد من استخدام العبارات العاطفية: ﴿ يَغْتَب ... أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً

8 ـ إنَّ من وسائل التربية والتعليم، الاستفادة من عنصر المثال والتمثيل: ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ ﴾ لقد شبه الله تعالى الغيبة بالأكل من لحم الميت، وهو تشبيه في غاية الروعة والفظاعة.

9 ـ الاستغراب والتعجب من الذين يغتابون الآخرين، أو يستمعون إلى المغتابين ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن ... ﴾؟!!

10 ـ الغيبة محرّمة من أي شخص صدرت، ومهما يكن فاعلها، فلا فرق في ذلك من حيث السن والعرق والمنزلة، كما أن هذا الحكم يشمل « الصغير والكبير، المشهور والمغمور، والعالم والجاهل، والمرأة والرجل ... و ... ».

11 ـ إنَّ المؤمنين إخوة بعضهم من بعض: ﴿ لَحْمَ أَخِيهِ ﴾.

12 ـ إنَّ عرض المؤمن واعتباره الشّخصي وسيلة قوامه مثل لحم بدنه: ﴿ لَحْمَ أَخِيهِ ﴾.

13 ـ لا غيبة للكافر، لأنَّ الكافر ليس أخا المؤمن: ﴿ لَحْمَ أَخِيهِ ﴾.

14 ـ كما أنَّ الميّت لا يقدر على الدفاع عن نفسه، فإنَّ الشخص الذي يُغتاب حيث إنَّه ليس حاضراً موجوداً فإنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه: ﴿ مَيْتاً ﴾ أيضاً.

15 ـ إذا انفصلت قطعة من بدن الحيّ أمكن أن يتم ملء ذلك الفراغ، ولكن إذا انفصل شيء عن الميّت بقي مكانه شاغراً وخالياً. نعم الغيبة تذهب بحرمة الأشخاص وتسقط اعتبارهم، وما ذهب وسقط من الاعتبار لا يمكن أن يجبر.

16 ـ الغيبة فيها وحشية وقساوة: ﴿ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾!!

17 ـ الغيبة لا تنسجم مع التقوى: ﴿ وَلَا يَغْتَب ... وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾.

18 ـ ليس في الإسلام طريقٌ مسدودٌ، فبالتوبة يمكن أن يصلح الإنسان ماضيه، وأن يجبر ما بدر منه من التقصير، ويمحوَ ما صدر منه من المعاصي.

19 ـ إنّ قبول عذر المعتذر التائب من جانب الله سبحانه مقرون بالرحمة الإلهيّة: ﴿ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾.

 

أقسام سوء الظن:

 

لسوء الظن أقسام وأنواع عديدة وقد نهي عن بعضها:

1 ـ سوء الظن بالله تعالى، فإنّنا نقرأ في الحديث أنّ من ترك الزواج خوف النفقة فقد أساء الظن بالله تعالى، لأنه ظنّ أن الله قادر على رزقه إذا بقي وحيداً فقط، وأما إذا تزوج فإنَّ الله يعجز عن رزقهما، وهذا الظن السيء بالله سبحانه ممنوع ومرفوض.

2 ـ الظنّ السيّء بالناس، وقد نهى الله تعالى عنه في هذه الآية.

3 ـ الظنّ السيّء بالنفس، وهو شيء ممدوح، أجل إنَّ على الإنسان أن لا يحسن الظنّ بنفسه، ولا يعتبر جميع أعماله صحيحة وخالية عن العيب والنقص.

يقول الإمام علي (ع) في خطبة همّام عن صفات المتّقين: « فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون » [214].

إنَّ الّذين يزكون أعمالهم ويعتبرونها صحيحة وخالية من العيب يعانون ـ في الحقيقة ـ من ضعف في نور العلم والإيمان، فالإنسان لا يرى شيئاً في ضوء النور القليل، فمثلاً إذا دخل الإنسان إلى صالة كبرى بمصباح يدوي، فإنه سوف لن يرى إلا الأشياء الكبرى في تلك الصالة.

ولكنه إذا استعان بمصباح كهربي كبير مثل البروجكتور فإنه سوف يمكنه أن يرى كلّ شيء حتى عودة كبيرة أو كعب سيجارة.

إنّ الّذين يعانون من ضعف في نور الإيمان لا يرون إلا الذنوب الكبار، وبعبارة أخرى: لا يعتبرون ما يقومون به من مخالفات ومعاص، ذنوباً كبيرة، ولذلك قد يقولون: نحن لم نقتل أحداً، نحن لم نتسوّر داراً للسرقة، فهم لا يرون الذنوب الكبار إلا في الأفعال، ولو كان نور الإيمان عند هذا الصنف من الناس، قوياً وكبيراً لرأوا جميع عثراتهم ومخالفتهم حتى الصغيرة منها، ولضجّوا منها إلى الله تعالى.

وهذا الأمر ونعني به قوة نور المعرفة والإيمان هو الذي كان وراء ذلك البكاء العجيب وتلك المناجاة الشجيّة والخاشعة التي نلاحظها في حياة الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

أجل إذا كان الشخص يحسن الظن بنفسه، ولا يسيء الظن بأي شيء في أفكاره وسلوكه، وبعبارة أخرى: لا يشعر بالتقصير، فإنه لن يتقدم، ولن يحصل له الرقي المنشود.

إنَّ مثل هذا الشخص مثل الذي ينظر دائماً إلى ورائه، ويشاهد ما طواه من الطريق فيغترّ بذلك.

ولكنه إذا نظر إلى الأمام لرأى ما لم يطوه من الطريق، ولعرف أن ما لم يطوه من الطريق أكثر بكثير من المقدار الذي مشاه وطواه.

عندما نرى القرآن الكريم يأمر رسول الله (ص) بأن يقول: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً [215]، وهو يطلب منه أن يسعى إلى المزيد من العلم، أو يأمره بمشاورة الناس إذ يقول: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [216]، ويحثّه على القيام بعمل جديد كلما فرغ من عمل إذ يقول: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [217]، وهي أوامر موجهّة إلى أشرف الخلق، هل من الصحيح لأمثالنا أن نعتبر أناساً كاملي المعرفة في غنى عن المشورة، ونتصوّر أننا أصبحنا في فراغ من المسؤولية وكأننا قد أدّينا كلّ ما كان يجب علينا من الواجبات، وبالتالي نحسن الظنّ بأنفسنا، ولا نشعر بأيّ نوع من التقصير.

على هذا الأساس يجب أن لا نحسن الظنّ بأنفسنا، نعم لا بدّ من أن نحسن الظنّ بألطاف الله تعالى، كما يجب أن نحسن الظنّ بالناس وبأعمالهم.

على أنَّنا يجب أن نلتفت إلى نقطة هامة، وهي أنّ معنى حسن الظن المطلوب ليس هو البساطة، والسطحية والمسارعة إلى قبول كل كلام، والغفلة عن مؤامرات المتآمرين، وعن مكائد الشياطين.

إنَّ على الأمة الإسلامية أن تحذر بشدة من الوقوع في فخ الصيّادين بسبب حسن الظنّ غير المبرّر، فتصبح بسبب الغفلة فريسة في أيدي المغرضين.

 


[214] نهج البلاغة: الخطبة 193.

[215] سورة طه، الآية: 114.

[216] سورة آل عمران، الآية: 159.

[217] سورة الشرح، الآية: 7.

 

ما هي الغيبة؟

 

الغيبة هي أن يذكر الإنسان شخصاً في غيابه بأمر لا يعرفه الناس، ويكون بحيث إذا سمع من اغتيب به ساءه وانزعج منه.

وعلى هذا فإنَّ النقد الموجّه للشخص أو ذكر العيب الذي يعرف به الناس أو الذي لا يستاء منه من اغتيب إذا بلغه، لا يعدّ غيبة.

ولا فرق في حرمة الغيبة بين الرجل والمرأة، ولا بين الصغير والكبير، ولا بين القريب والغريب، ولا بين المعلّم والتلميذ، ولا بين الوالد والولد، ولا بين الحيّ والميّت.

قال رسول الله (ص): « ارفعوا ألسنتكم من المسلمين وإذا مات أحد منهم فقولوا فيه خير » [218].

 

الغيبة في الأحاديث

قال الإمام الصادق (ع): « المغتاب (أي المرتكب للغيبة) هو آخر من يدخل الجنّة إن تاب، وإن لم يتب فهو أوّل من يدخل النار » [219].

عن الإمام الرضا (ع) عن الإمام علي بن الحسين (ع) قال: « من كفَّ عن أعراض المسلمين أقال الله عثراته » [220].

قال النبي (ص): « من اغتاب مسلماً أو مسلمةً لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة » [221].

قال النبي (ص): « يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي، فإنّي لا أرى فيه طاعتي ».

فيقال له: « إن ربّك لا يضلّ ولا ينسى ».

فيقول: « إلهي ليس هذا كتابي فإنّي لا أرى فيه طاعتي ».

فيقال له: « ذهب عملك باغتياب الناس ».

ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: « إلهي ما هذا كتابي، فإني ما عملت هذه الطاعات؟ ».

فيقال: « لأنّ فلاناً اغتابك فَدُفِعت حسناته إليك » [222].

قال رسول الله (ص) في خطابه في آخر حجّة له، حجة الوداع: « أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إن الله حرّم الغيبة كما حرّم المال والدّم » [223].

لقد جعل فاعل الغيبة في الروايات دائماً إلى جانب مدمن الخمر: « تحرم الجنّة على المغتاب ومدمن الخمر » [224].

ونقرأ في بعض الروايات: « إنَّ من تتّبع عورة أخيه (ونقلها إلى الآخرين) تتّبع الله عورته، ومن تتّبع الله عورته يفضحه الله في جوف بيته » [225].

وقال رسول الله (ص) في آخر خطبة له في المدينة: « من اغتاب مسلماً بطل صومه » [226] يعني أنه يحرم من بركات الصوم وفضائله، وآثاره المعنوية التي يحظى به الصائم.

قال رسول الله (ص): « إنّ الدّرهم يصيبه الرّجل من الرّبا أعظم عند الله في الخطيئة من ستّ وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإنّ أربى الرّبا (أي أشد إثماً) عرض الرّجل المسلم » [227].

وجاء في الحديث: « الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم يحدّث ».

قيل يا رسول الله (ص): وما يحدّث؟

قال: الاغتياب [228].

 


[218] نهج الفصاحة: الحديث 265.

[219] المستدرك: ج9، ص132.

[220] بحار الأنوار: ج72، ص256.

[221] بحار الأنوار: ج73، ص258.

[222] بحار الأنوار: ج72، ص259.

[223] شرح نهج البلاغة: لابن أبي حديد، ج9، ص26.

[224] بحار الأنوار: ج73، ص360.

[225] المحجة البيضاء: ج5، ص252، عن سنن أبي داوود، ج2، ص451.

[226] المحجة البيضاء: ج5، ص254.

[227] بحار الأنوار: ج72، ص222.

[228] أصول الكافي: ج9، ص357، باب الغيبة والبهت.

 

كيف نتلافى الغيبة؟

من أجل أن نتلافى ما ارتكبناه من اغتياب لهذا أو ذاك يجب أن نتوب إلى الله تعالى مما فعلناه، هذا إذا كان من اغتبناه ميتاً، وأن نعتذر إلى الله سبحانه ونسأله المغفرة، وهو التواب الرحيم.

وأمّا إذا كان من اغتبناه حيّاً فإن كان ممن ينزعج ويغضب لو أخبرناه بأننا قد اغتبناه، لم يُجز أن نخبره بذلك، حسب فتوى بعض مراجع التقليد [229].

وإذا كان هناك من استمع إلينا، وسمع ما قلناه عن اغتياب أحد، وكنا قادرين على الاتّصال نتلافى ما فعلناه، وذلك بان نذكره عندهم بخير وبتكريم، بحيث يدفع ذلك التحقير والازدراء الذي لحق به جرّاء اغتيابنا إياه.

وأما إذا لم يوجب اخبارنا لمن اغتبناه، باغتيابنا إياه، انزعاجه، استحللنا منه، وطلبنا منه أن يجعلنا في حلّ.

قال المرحوم نصير الدين الطوسي (رحمه الله) في كتابه القيّم تجريد العقائد: ويجب الاعتذار إلى المغتاب مع بلوغه.

ويشرح العلامة الحلّي هذه العبارة بقوله: المغتاب أي من اغتيب، إمّا أن يكون قد بلغه اغتيابه أو لا؟ ويلزم على الفاعل للغيبة في الأول، أي إذا كان قد بلغه اغتيابه الاعتذار، وفي الثاني، أي إذا لم يبلغ اغتيابه لا يلزمه الاعتذار، ولا الاستحلال منه.

وهذا الموقف مستمد من حديث لرسول الله (ص) إذ قال في جواب من سأله: ما كفّارة الاغتياب؟ « تستغفر لمن اغتبته كلّما ذكرته » [230].

 


[229] وبايكاني (قدس سره): هل يجب أن تقول لمن اغتبناه: لقد اغتبناك فاجعلنا في حل؟ فقال: لا، لأنك إذا قلت له ذلك انزعج وحزن، وإزلقد سألت أنا شخصياً آية الله العظمى السيد الكلعاج المسلم وإحزانه معصية أخرى، وعلى هذا فأن ملافاة وتدارك الغيبة هو أن تستغفر الله ولا يجب استحلال من اغتيب في جميع الموارد.

[230] وسائل الشيعة: ج 12، ص 290.

 

أين تجوز الغيبة؟

هناك موارد تجوز فيها الغيبة نشير إلى بعضها:

1 ـ في مقام المشورة يعني إذا استشارنا أحد حول شخص آخر، جاز لنا ذكر عيوبه للمستشير مطلقاً.

2 ـ في مقام الرّد على كلام باطل أو عقيدة باطلة، أو التجريح بقائلها، ومعتقدها، لكي يحذرهم الناس ولا يتبعونهم.

3 ـ في مقام الشهادة على مرتكبي جريمة وذلك عند القاضي، كما يجب ذكر الحقيقة للرد على الادعاءات الباطلة وتفنيدها.

4 ـ للرد على شهادة الشاهد غير الموثوق به.

5 ـ للتظلم، فإنه يجوز للمظلوم بيان ظلم الظالم الذي وقع عليه.

6 ـ تجوز الغيبة للتقيّة، أو للردّ على الادعاءات الخاوية، كالرد على من يدّعي كذباً أنه مجتهد، أو أنه من السادة، أو أنه دكتور أو طبيب، ونحن نعلم أنه ليس كما يقول، وأنه لا يحمل هذه الصفة حقيقة، ففي هذه الحالات يجوز إطلاع الناس على واقع الأمر ونفي هذه الصفات عنه.

 

أخطار الغيبة

تنطوي الغيبة على مجموعة من المعاصي والذنوب الأخرى منها:

1 ـ إشاعة الفحشاء، ونشر مساوئ الناس وقبائحهم، وهو أمر من حيث الخطورة والقبح بحيث لم يكن النشر والإشاعة لهذه الأمور بخصوصه مرفوضاً دينياً ويستوجب عقوبة فقط، بل حتى مجرّد الرغبة في نشرها كذلك يستوجب عذاباً أليماً [231].

2 ـ تحقير المؤمن أو إذلاله.

3 ـ النميمة.

4 ـ إيجاد الفتنة والقاء الفرقة.

5 ـ الظلم وذنوب أخرى غير ما ذكر.

 


[231] ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ... لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ سورة النور، الآية: 19.

 

أنواع الغيبة

إنَّ الغيبة قد تكون بالّلسان وقد تكون بالإشارة، وقد تكون بالكتابة، وقد تكون بالصورة والشكل والتمثال، وقد تكون بتقليد شخص، وقد تكون بالسكوت.

فمثلاً يقول الشخص: للأسف: إنَّ الدّين يمنعني عن الكلام.

وبهذه العبارة الغامضة يفهم الآخرين بأنّ فلاناً يعاني من عيوب كثيرة.

أو يقول: الحمد لله نحن ما ابتلينا بكذا شيء سيء وهو يفهم الآخرين بأنَّ فلاناً قد ابتلي بذلك الأمر السيّء.

وأحياناً بذكر عيب نفسه وهو يحاول افهام الآخرين بأنه يعيب غيره مثلاً يقول: الإنسان ضعيف، أو نحن قليلو الصبر، وهو يعني أن فلاناً ضعيف، أو أنه قليل الصبر.

وربما بعد سماع الغيبة يقول مستغرباً: سبحان الله، الله أكبر، وبهذه العبارات يشجع فاعل الغيبة على الاستمرار في الاغتياب.

وربما قال بلسانه: لا تغتابوا، ولكنه يحب قلبياً أن يسمع الغيبة، وهذا هو النفاق.

 

آثار الغيبة

 

أ ـ الآثار الأخلاقية والاجتماعية.

1 ـ نشوء البغضاء، وزوال الثقة، وحصول الفرقة والفتنة بين الناس، وإقصاء الأشخاص المفيدين في المجتمع.

2 ـ الجرأة الأكثر على المعصية، لأنه بمجرد أن يعرف الإنسان بأنَّ الناس قد اطلعوا على عيوبه ومعاصيه، وأنه سقط اعتباره في المجتمع فإنه سيتجرأ على ارتكاب المزيد من المعاصي، وستزول في ظل هذه الحالة، كل فرصة للتوبة والإنابة، وترك المعصية والإقلاع عنها.

3 ـ إنَّ انتشار عيوب الناس وقبائحهم يلوّث البيئة والمجتمع، ويورث الآخرين الجرأة على الذنب.

4 ـ إنَّ هذا العمل يبعث في النفوس حس الانتقام، لأنَّ الذي يغتاب عندما يعرف بأنه افتضح، وسقط اعتباره في المجتمع، سيفكر في إسقاط اعتبار من اغتابه أيضاً.

وبعبارة أخرى: إنَّ اغتيابنا للآخرين اليوم سبب لتجرّؤ الناس على اغتيابهم لنا فقد جاء في الحديث: « لا تغتب فتغتب، ولا تحفر لأخيك حفرة فتقع فيها، فإنك كما تدين تدان » [232].

 

ب ـ الآثار الآخرويّة.

1 ـ الغيبة توجب زوال الحسنات [233].

2 ـ الغيبة تمنع من قبول الطاعات [234].

3 ـ الغيبة تخرج الإنسان من ولاية الله وتدخله في ولاية الآخرين [235].

 


[232] بحار الأنوار: ج72، ص248.

[233] بحار الأنوار: ج76، ص229.

[234] بحار الأنوار: ج72، ص247.

[235] الكافي: ج2، ص358.

 

دوافع الغيبة

1 ـ قد يكون الدافع إلى الغيبة هو الغضب، فقد جاء في بعض الكتب السماوية: « يا ابن آدم أذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق » [236].

قد تكون موافقة الآخرين عاملاً من عوامل الغيبة.

فالشخص عندما يرى أن الآخرين يعيبون على أحد، وحيث إنّه لا يريد أن يبقى خارجاً عنهم يقدم هو الآخر على الاغتياب موافقة للآخرين، وجلباً لرضاهم، غافلاً عن أنه بفعله هذا يشتري غضب الله سبحانه القطعّي، والحاضر، بالأمل في رضا الأصدقاء الاحتمالي له.

ولا شك أن ترجيح رضا الناس على رضا الله تعالى أكبر خسارة.

2 ـ وقد يكون الدافع إلى الغيبة هو إظهار المرء نفسه بمظهر العظمة، فهو يهدم الآخرين ويحطم شخصيتهم ليرفع من منزلة نفسه ومكانتها.

وهذا أيضاً يشتري سخط الله عزَّ وجلَّ الحتمّي بالأمل بحبّ الآخرين الاحتمالي له.

3 ـ قد يكون الدافع إلى الغيبة هو السخرية والاستهزاء غفلة عن أن الذي يغتاب قد يحتقر عند قليل من الناس، ولكن الله تعالى سيحتقر فاعل الغيبة يوم القيامة أمام الخلق أجمعين.

4 ـ وقد يتحقق الاغتياب بإظهار التعجب، مثلاً يقول: كيف صار فلان رغم كل ذلك العلم والمعرفة هكذا؟!

في حين يجب أن يتعجب هو من نفسه كيف يبطل جميع عباداته، ويجعلها هباء بهذه السهولة.

5 ـ وقد يكون منشأ الغيبة هو الحسد.

6 ـ وقد يكون اغتياب الآخرين من أجل التسليّ والتلهّي.

وربما لتبرئة نفسه يغتاب الآخرين، وذلك بإلقاء عيب نفسه على عاتق الآخرين ونسبته إليهم.

7 ـ وقد يكون الاغتياب بدافع الشفقة على الآخرين فيقول مثلاً: إنني مغتمّ جداً لأنّ فلاناً قد تورط في كذا مشكلة، أو صدر منه كذا فعل.

هذا وقد تكون للاغتياب عوامل أخرى غير ما ذكرناه أيضاً.

 


[236] المحجة البيضاء: ج5، ص265.

 

الاستماع إلى الغيبة

إنَّ واجب الشخص الحاضر في مشهد اغتياب هو أن لا يستمع إلى الغيبة، بل يعرض عن ذلك ويدافع عن المؤمن فنحن نقرأ في الأحاديث: « الساكت شريك القائل » [237].

قال رسول الله (ص): « من ردّ عن أخيه غيبة سمعها في مجلس ردّ عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة، فإن لم يرد عنه وأعجبه كان عليه كوزر من اغتاب » [238].

وقال أيضاً: « من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة » [239].

لأنَّ السكوت يصير سبباً في سقوط وضياع الأشخاص النافعين في المجتمع من دون أن يدافع عنهم أحد.

قال رسول الله (ص): « إذا وقع في الرجل وأنت في ملأ فكن للرجل ناصراً وللقوم زاجراً، وقم عنهم » [240].

وفي الآية 36 من سورة الإسراء نقرأ: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾.

ونقرأ في حديث كيف عدَّ: « الغيبة كفراً واستماعه والرضا به شِرك » [241].

 


[237] غرر الحكم ودرر الكلم

[238] وسائل الشيعة: ج12، ص292.

[239] وسائل الشيعة: ج12، ص291.

[240] كنز العمال: ج3، ص586، الخبر 8028.

[241] بحار الأنوار: ج72، ص226.

 

كيف تترك الغيبة؟

1 ـ بالتّوجه إلى أخطار الغيبة، وآثارها السلبية التي ذكرت في الصفحات السابقة.

2 - بتذكر الإنسان لعيوب نفسه، فقد قال الإمام علي(ع) وهو ينكر على من يعيب على الناس وهو مبتلى بالعيوب: « كيف يذمّه بذنب قد ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه ومما هو أعظم منه.

وايم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير، وعصاه في الصغير لجرأته على عيب الناس أكبر ». [242].

ونقرأ في الأحاديث: « طوبى لمن شغله عيبه (فاشتغل بإصلاحه) عن عيوب الناس » [243].

 


[242] نهج البلاغة: الخطبة 140.

[243] المستدرك: ج‏1، ص‏116، عن نهج البلاغة.

 

تذكيرات

في نهاية البحث حول الغيبة ينبغي التذكير بعدّة أمور:

1 - حرمة الغيبة لم ترد في هذه السورة وهذه الآية فقط، بل تستفاد حرمة الغيبة من آيات أخرى مثل قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [244]، وقوله تعالى: ﴿ لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [245] أي ذكر عيوب الناس وإشاعتها.

2 - في تحقّق عنوان الغيبة لا بدّ من وجود دافع للاغتياب وهو تتبع العثرات.

ولكن إذا ذكرنا عيوب الناس لإصلاح الآخرين، جاز ذلك وإن لم يرض الشخص بذلك.

مثلاً إذا ذكرنا أحوال المريض وخصوصيّاته للطبيب جاز ذلك وإن لم يرض المريض بذلك.

3 - في تحقق عنوان الغيبة يشترط أن يكون من يغتاب شخصاً معيناً، أمّا إذا قلنا: « البعض يقول كذا وكذا » ولم يعرف الناس مصداق من نصفه جاز ذلك.

4 - قد لا ينطبق عنوان الغيبة على قول ما، ولكن إذا كانت الأقوال تطلق من باب التوهين والإهانة، والتحقير، وإشاعة الفحشاء، كان ذلك حراماً من باب آخر.

 


[244] سورة الهمزة، الآية: 1.

[245] سورة النساء، الآية: 148.