القرآن الكريم في نهج البلاغة

 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الطبعة الثانية، ذو الحجة 1433هـ // 2012م

فهرس الكتاب

الجزء الأول الجزء الثاني

الموضوع

الصفحة

 الإهداء 5
 القرآن الكريم في القرآن 7
 باقة من الأحاديث الشريفة للنبي الأكرم (ص) في القرآن 9
 باقة من أقوال أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في القرآن 11
 باقة من أقوال سيدة نساء العالمين الزهراء البتول (ع) في القرآن 13
 باقة من أقوال الإمام الخميني (قده) في القرآن 15
 باقة من أقوال الإمام الخامنئي (دام ظله) في القرآن 17
 مما تحدث به الإمام الخميني (قده) عن نهج البلاغة 18
 مما تحدث به الإمام الخامنئي (دام ظله) عن نهج البلاغة 18
 هذا الكتاب 19
 1 - من خطبة لأمير المؤمنين (ع) 21
 91 - ومن خطبة له (ع) 29
 110 - ومن خطبة له (ع) 33
 147 - ومن خطبة له (ع) 37
 156 - ومن كلام له (ع) 45
 158 - ومن خطبة له (ع) 48
 176 - ومن خطبة له (ع) 51
 198 - ومن خطبة له (ع) 60

  

  



بسم الله الرحمن الرحيم

- إلى أمير القلوب ... وإلى أمير البلاغة واالفصاحة.

- إلى أمير المؤمنين ... وإلى أبي الحسنين ووصي سيد المرسلين.

- إلى القرآن الناطق ... إليك يا علي الدرُّ والذهب المصفَّى.

- وإليكم يا تراجمة الوحي، ويا أئمة الهدى.

- نرفع هذا الجهد المتواضع وهذه البضاعة المُزجاة ـ فهي منكم وإليكم ـ.

- فتصدقوا علينا ـ يا سادتنا وشفعاءنا ـ وأوفوا لنا الكيل إنَّ الله يجزي المتصدقين ...

  



  

﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [1] .

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ[2] .

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً[3] .

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [4] .

﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ[5] .


[1] سورة الأعراف، الآية: 204.
[2] سورة الحجر، الآية: 87.
[3] سورة الإسراء، الآية: 82.
[4] سورة البقرة، الآية: 121.
[5] سورة ص، الآية: 29.
 

  



  

1- « أَصْدَقُ الْقَوْلِ، وأَبْلغُ المَوْعِظَةِ، وأَحْسَنُ الْقَصَصِ كِتَابُ الله » [6] .

2- « مَنْ أعْطَاهُ الله القُرْآن فرَأى أنَّ رجُلاً أُعْطِيَ أَفْضَلَ ممّا أُعْطِيَ فقَد صغَّرَ عَظِيْماً وعَظَّمَ صغيراً » [7] .

3- « إِنْ أَرَدْتُّمْ عَيْشَ السُّعَدَاءِ، ومَوْتَ الشُّهَدَاءِ، والنَّجَاةَ يَوْم الحَسْرَة، والظِّل يَوْم الحَرُور، والْهُدَى يَوْم الْضَّلَالَة، فَادْرُسُوا القُرآنَ، فإنّه كَلَامُ الرَّحْمن، وحِرْزٌ مِن الشَّيْطَانِ، ورجَحَانٌ فِي الْمِيزَان » [8] .


[6] بحار الأنوار: ج74، ص114.
[7] سنن النبي الأكرم (ص): ج3، ص18.
[8] جامع الأخبار: ج6، ص14.
 

  



  

1- « الله الله في القُرْآن، لا يَسْبِقكُمْ بالعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ » [9] .

2- « فَالقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ، حُجّةُ اللهِ على خَلْقِهِ، أَخَذَ عليهم مِيثَاقّهُ، وارْتَهَنَ عليْهِ أَنْفُسَهُمْ، أَتَمَّ نُورَهُ وَأَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ » [10] .

3- « وَحَقُّ الوَلَدِ على الوالِدِ، أَنْ يُحْسِنُ اسمهُ ويُحْسِنَ أَدَبَهُ وَيُعَلِّمَهُ القُرْآنَ » [11] .


[9] بحار الأنوار: ج42، ص256.
[10] نهج السعادة: ج9، ص363.
[11] ميزان الحكمة:ج8، ص195.
  

 




«للهِ فيْكُمْ عَهْدٌ قَدَّمَهُ إليْكُمْ، وَبَقيَّةٌ اسْتَخْلَفَها عَلَيْكُمُ: كِتَابُ اللهِ الْنَاطِقُ، والقُرْآنُ الْصَادِق، والْنُورُ الْسَاطِعُ، والْضِيَاءُ الَلَامِعُ، بيِّنَةٌ بَصَائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرَائِرُهُ، مُتِجَلِّيَةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطةٌ بهِ أَشْيَاعُهُ، قَائِدٌ إِلَى الرِضْوَانِ إِتِّبَاعُهُ، مُؤدٍّ إِلَى النّجَاةِ اسْتِمَاعُهُ، بهِ تُنَالُ حُجَجُ اللهِ المُنَوَّرةُ، وَعَزَائِمُهُ الْمُفَسِّرَةُ، ومَحَارِمُهُ المُحَذَّرَةُ، وَبْيِّنَاتُهُ الجَالِيَةُ، وبَرَاهِيْنُهُ الْكَافِيَةُ، وَفَضَائِلُهُ المَنْدُوبَةُ، ورُخَصُهُ المَوْهُوبَةُ، وَشرَائِعُهُ المَكْتُوبَة» [12] .


[12] بحار الأنوار:ج29، ص322.
 

 

 



  

1- « لا يوجد أفضل من القرآن، ولا مدرسة أسمى من مدرسة القرآن، فالقرآن هو الوحيد الذي يوصلنا إلى الأهداف السامية ».

2- « أمريكا ترى أن الإسلام والقرآن المجيد يجلبان لها الضرر، وهي تريد ازاحتهما عن طريقها ».

3- « القرآن يجعل العالم « نورٌ على نور » ونحن يجب أن نعي هذا المحيط من النور ».

  



  

1- « ببركة القرآن الكريم، غيَّرَ المسلمون التاريخ، وصنعوا تاريخ البشر ».

2- « الأُنس بالقرآن يُقوِّي ويُعمِّق المعرفة الإسلامية في أذهاننا ».

3- « كُلُّ من تَعَرَّفَ على كِتابِ الله فإِنَّهُ سينجذبُ إِليْهِ أكثر فأكثر ».


 



  

« نحن فخورون بأنَّ كتاب نهج البلاغة - الذي يُعَدُّ بعد القرآن الكريم أعظم نظام للحياة المادية والمعنوية، وأسمى كتاب لتحرير البشر، وأرقى منهج للنجاة يضُمُّ التعاليم المعنوية والحكمية - هو من إمامنا المعصوم (ع) ».

  



  

« كما أّنَّ القرآنُ يُقرأ، كذلك يجب أن يُقرأ كتاب نهج البلاغة، لأنه الكتاب الثاني بعده، وهو مكمِّلٌ للقرآن الكريم ».

  



  

الحمد لله رب العالمين، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى محمداً وآله الطاهرين.

وبعد ...

ـ في أشهر متطاولة ـ كانت النفس خلالها تُحلّق وهي جذلى في عالم حالم من السمو والرفعة والجلال، تتفيأ الظلالَ الوريفةَ لنهج البلاغة، لسيد البلغاء ورائد الفصحاء وخير من نطق بالضاد، بعد سيد الخلق والعباد رسول الله (ص)، أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين علي (ع).

ـ وفي هذا العالم الجمالي الحالم، كانت تلتمع وتبرق هنا وهناك خطب الإمام (ع) في فضل القرآن الكريم، وتتناثر، كتناثر النجوم في كبد السماء في الليلة الظلماء، فيأتلق الكون، ويزدهر الوجود، ويزهو العالم بكلام ربّ العالمين، فإذا هو نور على نور، نور علي، ونور القرآن حيث يهدي الله لنوره من يشاء.

نعم... كلام علي (ع) عن القرآن وفي القرآن يستحق أن نقف عنده طويلاً لنعرفَ أثر ذلك، في شخصية ربيب الوحي (ع) واهتمامه به وشوقه له وشغفه به - وتأكيده عليه وتوصيته به، حتى وهو على مشارف رحيله عن هذه الدنيا واستشهاده في سبيل الحق والقرآن والإسلام حيث يوصي الحسنين (عليهما السلام) به ويقول: (واللهَ اللهَ فِي القُرْآنِ لا يَسْبِقَكُمْ بِالعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ).

ـ ولا غَرْوَ في ذلك - فهو قد تربى في أحضان النبوة، وتنسَّم عبير الرسالة، ونشأ في أفياء الملائكة، فكان بحق الترجمان الصادق والقرآن الناطق لكتاب اللَّه العزيز.

ونحن هنا في هذا الكتاب الذي أسميناه (القرآن الكريم في نهج البلاغة) قد جمعنا فيه خطب الإمام (ع)  الخاصة بفضل القرآن وقمنا ـ بتوفيق الله وعونه ـ بشرحها وإيضاحها وبيانها بأسلوب واضح ومبسط في تقديرنا، وقد أعرضنا عن تكرار وشرح  بعض الخطب المتشابهة نوعاً ما، أو التي لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح والشرح فهي واضحة بذاتها.

ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن هذه الدراسة ـ في حدود علمنا ـ لم تكن مسبوقة من حيث الجمع والإعداد والتأليف، بهذا الشكل الموجود في هذا الكتاب ـ آملين بإخلاص ـ من أصحاب الاختصاص والباحثين، أن يتحفونا بآرائهم القيّمة التي لها الدور الكبير في تطوير الأفكار وتجديد المفاهيم وتعضيد المعلومات، كما أننا لا ندَّعي الكمال في هذا الجهد المتواضع الذي نأمل أن يتقبله الله تعالى بقبوله الحسن، ويدَّخِرَه لنا يوم الحسرة والفاقة والشفاعة وهو خير شفيع.

وآخر دعونا أن الحمد الله ربِّ العالمين وسلامٌ على المرسلين محمد وآله الميامين.

جمعية القرآن الكريم

  



  

موضوعها: يذكر فيها ابتداء خلقِ السماء والأرضِ، وخلقِ آدم، وفيها ذكر الحج وتحتوي على حمد الله، وخلق العالم، وخلق الملائكة، واختيار الأنبياء، ومبعث النبي، والقرآن، والأحكام الشرعية.

قال (ع): « وَخلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأنبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً، بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَلا عَلَمٍ قَائِمٍ؛ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُم مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرَامَهُ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ. وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ. مُفَسِّرَاً مُجْمَلَهُ، وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ. بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَمُوَسَّعٍ عَلَى العِبَادِ فِي جَهْلِهِ، وَبَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الكِتَابِ فَرْضُهُ، وَمَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ، وَوَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ، وَمُرَخَّصٍ فِي الكِتَابِ تَرْكُهُ، وَبَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ، وَزَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ، وَمُبَايِنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ. أوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ. وَبَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ ».


الشرح

ـ « وَخلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأنبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا،» يذكر الإمام (ع) أن النبي (ص) قد خلّف في أمته كما خلفت الأنبياء، حيث ترك لهم بعدَ وفاته القرآن الكريم الثقل الأكبر والعترة المطهرة الثقل الأصغر، وهي سنة كل الأنبياء فلم يتركوا أممهم ترعى كما ترعى الأنعام بلا وعي ولا بصيرة، وخاتم الأنبياء أودع في أمته خاتم الكتب السماوية وأوضح ميزان هذا الكتاب الخاتم (القرآن الكريم) ومن ميزاته وصفاته أنه:

1 - « مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرَامَهُ » في القرآن الحلال بيِّن واضح، والحرام بيِّن واضح كقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [13] .

فالبيع حلال والربا حرام وغير ذلك مما هو في الكتاب مسطور.

2 - « وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ » المراد بالفرائض جميع الواجبات، والفضائل هي النوافل بل جميع المندوبات التي حث الشرع على الإتيان بها كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾  [14] .

فذكر الله على كل حال بعد قضاء الصلاة من المندوبات وإقامة الصلاة بعد الاطمئنان من الواجبات المفروضة على كل مكلف.

3 - « وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ » الناسخ هو الحكم الذي يرفع الحكم الثابت السابق، والحكم السابق المرفوع هو المنسوخ، ومثال الناسخ، قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [15] .

4 - « وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ » العزائم عموم الأحكام الواجب الالتزام بتنفيذها وتطبيقها وعدم مخالفتها بأي حال كالاعتقاد بالتوحيد والإقرار به مثال ذلك قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ [16] .

والرُخصَ هو جواز مخالفة الحكم الشرعي المفروض تركه في بعض الحالات الخاصة والاضطرارية التي يتعرض فيها الإنسان إلى الهلاك كما في أكل الميتة حال الجوع الشديد الذي يؤدي إلى موت الإنسان، كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾  [17] .

5 - « وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ » الخاص ما يتعلق بفرد أو بجماعة، كقوله تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [18] ، أو كقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ [19] .

فالخاص في الآية الأولى يخص المرأة التي وهبت نفسها للنبي، وفي الثانية يخص الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وأمر قومه باتباع هدى الأنبياء والمرسلين.

أما العام فهو ما يعم الأفراد والجماعات والطوائف كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [20] فهذا حكم عام لسائر المكلفين دون استثناء.

وهناك احتمال يقول بأنَّ المراد من الخاص هو العموم الذي يُراد به الخصوص أي أن ظاهره عام إلا أن مراده خاص كما في قوله تعالى:﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [21] .

أو كما قال تعالى في آية أخرى يصف فيها تفضيل بني اسرائيل على أهل زمانهم بأشياء خاصة لهم: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [22] .

فهنا المعنى خاص حين قال ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [23] العالمين هم أهل زمانهم وليس كل من أتوا من بعدهم ـ لأن المعروف والوارد أن أمة محمد (ص) هي أفضل الأمم وأحسنها وأكملها على الإطلاق كما هو وارد في كثير من الروايات عن النبي وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).

6 - « وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ » العِبَر مفردها عِبرَة كما قال أمير المؤمنين (ع) في حكمه القصار « ما أكثر العبر وأقل الاعتبار » والعبر ما يعتبر به الإنسان من القصص والأحوال التي مرت على غيره من الناس وفي القرآن الكريم من القصص الشيقة التي تحث الإنسان على الاعتبار بها والالتفات إلى معانيها واهدافها ونتائجها كما في قصة يوسف واخوته، وقصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الفيل وغيرها كثير حافل بها كتاب الله العظيم.

والأمثال كذلك هناك مجاميع ضخمة منها يمكن للمرء أن يستفيد مما فيها من معانٍ هادفة تثري حياته وتمكنه من تحقيق ذاته والارتفاع بها إلى المستوى الذي يريده الله ليثيبه عليه ويرتفع به إلى الحياة الإنسانية السليمة الخالية من المنغصات المهلكة كقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [24] .

أو ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [25] .

أو ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [26] .

وغيرها في القرآن كثير...

7 - « وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ » المقصود بالمُرسَل، المطلق ـ وبالمحدود المُقيَّد ـ وقد ذكر ابن أبي حديد المعتزلي في تفسيره لنهج البلاغة، وقال سُمي المقيّد محدوداً وهي لفظة فصيحة جداً، ومثل المرسل في القرآن، قوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [27] فالرقبة هنا مطلقة غير مقيدة بقيد الإيمان «رقبة مؤمنة».

8 - « وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ » في القرآن الكريم آيات محكمة وآيات متشابهة، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [28] .

وبحث المحكم والمتشابه من الأبحاث المهمة والطويلة والذي يحتاج إلى مجال أوسع مما نحن فيه في هذه الرسالة الموجزة، ولكن نقول بالإجمال أن المحكم ما وضحت دلالته وعُرفت معانيه، والمتشابه خلاف ذلك، ومن الآيات المحكمة في الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [29]  أو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [30] .

ومن أمثلة المتشابه قوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [31] .

﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [32] .

﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [33] .

9 - « مُفَسِّرَاً مُجْمَلَهُ » فسّر الرسول الأكرم (ص) بعض الأمور المجملة في القرآن والتي تحتاج إلى تفسير وتحليل ليعرف المسلم المكلف ما هو مطلوب منه، من أغراض الآيات وبعض تفصيلاتها كما هو الحال في إقامة الصلاة التي تتطلب إيضاحاً وتفسيراً أكثر مما هو موجود في الكتاب العزيز، فبيَّن نبينا (ص) أوقات الصلاة وخصوصياتها وشرائطها وكيفياتها كما يعرف المسلمون كافة.

10- « وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ » كما بيَّن الرسول (ص) ما يحتاج إلى تبيين من آيات القرآن الكريم لإزالة الغموض وكشف ما يصعب على الإنسان إدراكه وفهمه، ومن ثم استيعابه والعمل به.

وقد أشار الإمام علي (ع) أن هناك أموراً ذكرت في القرآن الكريم وبيّنها النبي الأكرم (ص) فكانت على أقسام متعددة، منها:

أولاً: « بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ » أخذ الله تعالى العهد والميثاق على عباده أنْ يوحدوه ويعرفوه ويطيعوه حق طاعته، ولا عذر لهم في ذلك ـ فالقرآن صريح كل الصراحة في هذا الأمر حيث يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [34] .

ثانياً: « وَمُوَسَّعٍ عَلَى العِبَادِ فِي جَهْلِهِ » ومن باب التوسعة على عبادة الله وطاعته، وترك الأمور التفصيلية التي تحتاج إلى البحث والتحقيق والعلم الوافر والاطلاع الواسع، لأهل العلم والراسخين فيه.

ثالثاً: «وَبَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الكِتَابِ فَرْضُهُ، وَمَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ » وقد ذكر الشارح العلّامة (ميرزا الخوئي) في إيضاح صريح لهذين النصين في وقوع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، ويشهد بوقوعه قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً [35] .

فمفاد الآية الأولى حبس الفواحش من النساء في البيوت إلى حين الممات، ومفاد الآية الثانية وجوب إيذائهن، ثم نسخ ذلك أي الحبس والإيذاء بالجَلد الثابت لغير المحصن والمحصنة بالكتاب أعني قوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ [36] . وبالرجم الثابت لهما بالسنة النبوية.

رابعاً: « وَوَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ، وَمُرَخَّصٍ فِي الكِتَابِ تَرْكُهُ » هذان القولان عكس سابقيهما تماماً، حيث المقصود هو نسخ السُّنّة النبوية الشريفة بالقرآن الكريم.

ومن أمثلة ذلك ـ أن مباشرة النساء في الليل كانت محرمة بالسُّنَّة على الصائمين، وقد نُسخ بقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ [37] .

كذلك كان التوجه في الصلاة نحو بيت المقدس في بدء الكلام بالسُّنَّة خاصة، ثم نُسِخَ بقوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام [38] .

وصوم عاشوراء كان واجباً أيضاً في السُّنَّة النبوية، ثم نسخ بصوم شهر رمضان بقوله تعالى: ﴿فمن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [39] .

وقد ورد أنَّ الإمام الباقر (ع) سُئِلَ عن يوم عاشوراء فقال: « كان صومه قبل شهر رمضان ، فلما نزل شهر رمضان تُرِك » [40] .

خامساً: « وَبَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ، وَزَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ » وقد ذكر الشارح المعتزلي (ابن ابي الحديد) في إيضاح هذين القولين بأن الإمام (ع) يريد من قوله الواجبات المؤقتة كصلاة الجمعة، فإنها تجب في وقتٍ خاص بها، ويسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت.

سادساً: « وَمُبَايِنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ » المحرمات متباينة من حيث الشِّدَّة والضعف ومن حيث الكبر والصغر حيث أوضحها (ع) بقوله: « مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ. أوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ ».

فرّق هنا أمير المؤمنين (ع) بين الكبائر والصغائر من الذنوب، فالكبائر أوعد سبحانه عليها النيران، والصغائر أعدّ لها الغفران.

• ورد عن أبي جعفر الباقر (ع) عن الكبائر فقال: « كل ما أوعد الله عليه النار » [41] .

• كما ورد عن الإمام (ع) أنه سُئل عن الكبائر ما هي؟ وكم هي؟ فقال: « الكبائر من اجتنب ما أوعد الله عليه النار كفّر عنه سيئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين وأكل الربا والتعرب بعد الهجرة وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف » [42] .

سابعاً: « وَبَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ » الحد الأدنى من التكليف هو المقبول عند الله تعالى « مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ » والحد الأقصى منه موسّع وللمكلف اختيار ما يناسب وضعه وحاله وهمته ونشاطه كما في قوله تعالى: ﴿فَاقْرَؤُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [43] .

فعبَّر هنا عن الصلاة بالقرآن، لأن القراءة جزء من الصلاة أي صلوا ما تيسر لكم من الصلاة في الليل، فالقليل منها مطلوب، والكثير منها موسع ومرخّص في تركه وللناس الخيار في ذلك.


[13] سورة البقرة، الآية: 275.
[14] سورة النساء، الآية: 103.
[15] سورة البقرة، الآية: 256.
[16] سورة محمد، الآية: 19.
[17] سورة المائدة، الآية: 3.
[18] سورة الأحزاب، الآية: 50.
[19] سورة يس، الآية: 20.
[20] سورة البقرة، الآية: 110.
[21] سورة البقرة، الآية: 282.
[22] سورة البقرة، الآية:47.
[23] سورة البقرة، الآية:47.
[24] سورة البقرة، الآية:17.
[25] سورة الجمعة، الآية: 5.
[26] سورة النحل، الآية: 75.
[27] سورة المجادلة، الآية: 3.
[28] سورة آل عمران، الآية: 7.
[29] سورة الإخلاص، الآية: 1.
[30] سورة يونس، الآية: 44.
[31] سورة الفتح، الآية: 10.
[32] سورة طه، الآية: 5.
[33] سورة القيامة، الآية: 23.
[34] سورة الأعراف، الآية: 172.
[35] سورة النساء، الآيتان: 15 ـ 16.
[36] سورة النور، الآية: 2.
[37] سورة البقرة، الآية: 187.
[38] سورة البقرة، الآية: 144.
[39] سورة البقرة، الآية:185.
[40] وسائل الشيعة، ج1، ص3.
[41] ثواب الأعمال، ص209.
[42] ألف حديث في المؤمن، ج1، ص249.
[43] سورة المزمل، الآية: 20.
 



  

موضوعها: تُعْرَفْ بخطبة الأشباح وهي من جلائل خطبه (ع) وكان قد سأله سائل أن يصف الله حتى كأنه يراه عِياناً، فغضب (ع) لذلك.

وقال: « فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ، فَمَا دَلَّكَ القُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ، وَاسْتَضِىءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ (ص) وَأَئِمَّةِ الهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ ».

وقال أيضاً في أواخر فقرة هذا المقطع من الخطبة: « وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ، وَالْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ ».


الشرح

ـ « فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ، فَمَا دَلَّكَ القُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ، وَاسْتَضِىءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ » أمر (ع) السائل بالرجوع إلى القرآن الكريم والكتاب الحكيم والاسترشاد بهديه والاستضاءة بأنوار هدايته والأخذ بأوصاف الجلال ونعوت العظمة والكمال الموجودة فيه، فإنه أوضح سبيل وأكمل دليل، وهو كلامه الحق سبحانه، فهو أعلم بصفاته من غيره، فما وصف به نفسه فهو الحق، والحق أحق أن يتبع حيث قال تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [44] ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [45] ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [46] .

فهو ـ جلت قدرته ـ ربّ، رحمن، رحيم، شهيد، عليم، حكيم، قادر، قاهر، خالق، رازق، سميع، بصير، خبير إلى آخر أسماء الله الحسنى.

فالآيات الشريفة تنص على عدم إمكان معرفته حق المعرفة وعدم جواز إدراكه بالأبصار وبمشاهدة العيان. قال السائل الذي سأل الإمام الرضا (ع) عن الله هل يوصف؟ فقال (ع): أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما تقرأ قوله تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [47] [48] .

فيجب الإذعان لما يقوله القرآن وعقد القلب عليه وعدم التفصيل عن كيفية علمه، فربما يؤدي التعمق إلى الضلال والضياع كما ضَلَّ فيه كثير من الحكماء...

ـ وبعد أن أمر (ع) بالرجوع إلى القرآن والاقتداء بهديه وتعاليمه والاستضاءة بأنواره والأخذ بما ورد فيه من صفات الخالق تعالى ـ جلت قدرته وتقدست أسماؤه ـ أتبعه بقوله: « وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ (ص) وَأَئِمَّةِ الهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ ».

ومراد الإمام (ع) هو عدم التكلُّف، فيما لم يُفرَض عِلمُهُ على المكلفين، وعدم الخوض فيما لم يثبت وجوب معرفته على العباد في الكتاب المبين، ولا في سنة النبي الأمين وأئمة الدين سلام الله عليهم أجمعين.

ومؤكداً بأن منتهى حق الله على العباد هو أن يقولوا بما دلّ عليه القرآن ويِكلوا علمه ويفوّضوه إلى الله المتعال، وأن تكلّف ما يزيد على ذلك هو من تكليفات الشيطان الرجيم ووساوسه ليضل الناس عن المنهاج القويم، منهاج رب العالمين.

قال (ع): « وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ، وَالْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ » [49] . وهذا القول يؤيده الدعاء المأثور عن الإمام زين العابدين السجاد (ع) حيث يقول: « كذب العادلون بك وضلّوا ضلالاً بعيداً » [50] الذين جعلوا لله سبحانه نداً وعديلاً، وهو الكفر والضلال كما شهدت به الآيات المحكمات البيِّنات، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166 [51] .

وقال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ، قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إلى النَّار [52] .

وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [53] .

وقال تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [54] .

هذه جملة من الآيات الكريمات البيِّنات التي تفيدنا في هذا المجال وهناك كثير غيرها من الآيات التي تصب جميعها في هذا المنحى.


[44] سورة الأنعام، الآية: 103.
[45] سورة الشورى، الآية: 11.
[46] سورة طه، الآية: 110.
[47] سورة الأنعام، الآية: 113.
[48] بحار الأنوار، ج4، ص39.
[49] نهج البلاغة: من خطبة الأشباح رقم 91، ص126، تحقيق صبحي الصالح.
[50] بحار الأنوار، ج4، ص230.
[51] سورة البقرة، الآيتان: 165 ـ 166.
[52] سورة إبراهيم، الآية: 30.
[53] سورة الزمر، الآية: 8.
[54] سورة فصلت، الآية: 9.
 

  



  

موضوعها: في أركان الدين.

اسمها: خطبة الديباج.

حثَّ (ع) ـ بعد ذكر أهم أركان الدين ـ على تعلُّم القرآن فقال: « وَتَعَلَّمُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْقَصَصِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عِنْدَ اللهِ أَلْوَمُ ».


الشرح

ـ  « وَتَعَلَّمُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ » في هذا القول الشريف أمر أكيد وحثٌّ مفيد على تعلّم القرآن لعلوِّ مقامه وسموّ مكانه وعظيم قدره وجليل تعاليمه وعذوبة ألفاظه ودقة معانيه وحبكة مبانيه، فهو لاشتماله على ما لم يشتمل عليه غيره من كلام المخلوقين كان أفضل وأحسن الكلام وأعظم الحديث، أمر (ع) بتعلّمه لذلك الاعتبار مضافاً إلى ما يترتب على تعلّمه من عظمة الفوائد وكثرة العوائد.

ـ « وَتَفَقَّهُوا فِيهِ » أي تفهموه وتدبروه وفكّروا في معانيه وأسراره وتعاليمه « فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ » وهنا استعارة جميلة كون الربيع جامع لأنواع الأزهار والورود والرياحين التي هي محط الأنظار ولذة الأبصار ومجمل المعنى أنه يجب عليكم فهم وإدراك معاني القرآن كيلا تحرموا من فوائده ولا تغفلوا عن منافعه، فإنه بمنزلة الربيع البهيج المتضمن للفوائد الكثيرة والمنافع العظيمة في الدنيا والآخرة.

قال الإمام أبو عبد الله الصادق (ع): « إنَّ هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى، فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ».

كما ورد أيضاً عن أبي عبد الله (ع) حيث يقول: كان في وصية أمير المؤمنين (ع) لأصحابه: « اعلموا أن القرآن هدى النهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهل وفاقة » [55] .

ـ « وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ » نعم الشِفاء القرآن حيث ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: « القرآن هو الدواء » فهو شفاء من كل الأمراض والأسقام الظاهرة والباطنة الحسية والعقلية والروحية وقد أورد الكافي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: شكى رجل للنبي (ص) وجعاً في صدره فقال: « استشفِ بالقرآن فإن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور﴾» [56] [57] .

ـ « وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْقَصَصِ » قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [58] وما دام القرآن هكذا حيث القصص النافعة فيه، فلا ريب في بذل الجهد وإعطاء التلاوة حقها بحسن التّدبّر والتّفكّر لإدراك منافع هذه القصص ونيل ما فيها من الفوائد الجمّة العظيمة.

وقد سئل أبو عبد الله (ع) عن قول الله عزّ وجلّ ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [59] قال: قال أمير المؤمنين (ع): « تُبيِّنُه تبياناً ولا تهذُّه هذَّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ أحدكم آخر السّورة » [60] .

ولمّا أمر (ع) بتعلّم القرآن وعقَّبه بأمور مثل التّفقّه فيه والاستشفاء بنوره وإتقان تلاوته علّل ذلك وقال: « فَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ » كمن علم بوجوب الصّلاة والزكاة والحج والجهاد لكنه لا يعمل بما يعلم فهو المتحير في وجه الخير وطريق السعادة وبالتالي فلا يستطيع الخلاص من جهله، فإن العلم إنما هو للعمل، فإن لم يرافق العالم العمل فهو والجاهل سواء « بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ » إلا أن عدم العمل بالعلم الذي حصله هو حجة عليه وإدانة له، لعدم استفادته من علمه، وقد ورد عن أبي عبد الله (ع) قوله لأحد أصحابه وهو حفص بن غياث إذ قال: « يا حفص يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد » [61] وعليه فالحسرة لفوات الأجر والثواب ستكون به ألصق وله ألزم « وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ » كما تقدم.

ـ « وَهُوَ عِنْدَ اللهِ أَلْوَمُ » العالم والجاهل كلاهما موضع للملامة عند الله سبحانه إلا أن اللائمة على العالم أشدّ وأمرّ لعدم قيامه بوظائف علمه كما ينبغي أن يكون عليه، فبهذا يستحق من العقاب واللوم ما لا يستحقه غيره، فهو بذلك يكون عند اللهِ أعنف لوماً وتقريعاً وأشد عذاباً ونكالاً.


[55] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج7، ص244.
[56] سورة يونس، الآية: 57.
[57] بحار الأنوار: ج89، ص176.
[58] سورة يوسف، الآية: 3.
[59] سورة المزمل، الآية: 4.
[60] أصول الكافي، ج2، ص614.
[61] بحار الأنوار، ج2، ص27.
 

  



  
 

موضوعها: الغاية من البعثة.

تحدث فيها عن الغاية من البعثة، وفضل القرآن، والناس في المستقبل، وَعْظُهُ الناسَ، فيقول أمير المؤمنين (ع):

« فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً (ص) بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ إلى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاَعِة الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتَهَ، بِقُرْآنٍ قَدْ بَيّنَهُ وَأَحْكَمَهُ، لِيَعْلَمَ العِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوُه، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بعد إذْ جَحَدُوهُ، وِلِيُثْبِتُوُه بَعْدَ إذْ أَنْكَرُوهُ ».
«فَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَخَوّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ، وكَيْفَ مَحَقَ مِنْ مَحَقَ بِالمَثُلاَتِ، وَاحْتَصَدَ مَنِ اْحْتَصَدَ بِالنَقمَاتِ!.
« وإنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أخفَى مِنَ الحَقِّ، ولا أَظْهَرَ مِنَ البَاطِلِ، وَلَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ ورَسُولِهِ؛ وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الكِتَابِ إِذا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلا أَنْفَقَ مِنْهُ إذا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا فِي البِلادِ شَيءٌ أَنْكَرَ مِنَ المَعْرُوفِ، وَلا أَعْرَفَ مِنَ المُنْكَرِ! فَقَدْ نَبَذَ الكِتَاَب حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ: فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِد لا يُؤْوِيِهِمَا مُؤْوٍ، فَالكِتَابُ وَأَهْلَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ! لأنَّ الضَّلالَةَ لا تُوَافِقُ الهُدَى وإنِ اجْتَمَعَا، فاجْتَمَعَ القَوْمُ عَلَى الفُرْقَةِ، وافْتَرَقُوا عَنِ الجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الكِتَابِ وَلَيْسَ الكِتَابُ إِمَاَمُهْم. فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ الا اسْمُهُ، وَلا يَعْرِفُونَ إِلا خَطَّهُ وَزَبَرَهُ، وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً، وَجَعَلُوا في الحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَة.

...

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللهَ وُفِّقَ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، فَإِنَّ جَارَ اللهِ آمِنٌ وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ.

...
«واعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتى تَعْرِفُوا الذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تأخُذُوا بِمِيثَاقِ الكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الذِي نَبَذَهُ، فَالْتَمِسُوا ذلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ عَيْشُ العِلْمِ، وَمَوْتُ الجَهْلِ، هُمُ الذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لا يُخَالِفُونَ الدِّينَ ولا يَخْتَلِفُونَ فيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدُ صَادِقٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ
».


الشرح

في هذه الخطبة يُشير إمام المتقين (ع) إلى بعثة الرسول (ص) والغرض من وراء هذه البعثة، ومن ثم يُبيّن صدق دعواه بمعجزة العصر وآية البعثة النبوية الشريفة وهو القرآن الكريم إذ يقول: « بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ » فالله سبحانه أحكم هذا القرآن وبينه تبياناً لكل شيء فجاء كاملاً من غير نقص ومتقناً من غير خلل كما قال جلّ اسمه: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [62] .

وقال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [63] .

وفي موضع آخر: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [64] .

فبعث الله تعالى النبي (ص) ومعه الحجة البالغة والمعجزة الدامغة ـ القرآن الكريم الذي لوى الأعناق وأطاح بالرقاب فعجز أعاظم البلغاء وفطاحل الفصحاء وقمم الأدباء من الإتيان بآية مثل آياته البيّنات ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [65] .

ـ « لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ » فأغلب الناس كانوا في جهالة جهلاء وضلالة عمياء لا يعرفون لهم رباً ولا رسولاً فأنزل الله تعالى القرآن ليعرفوا بذلك ربهم وليعلموا بعد الجهالة وليعبدوه بعد عبادة الأصنام والأوثان.

ـ « وَلِيُقِرُّوا بِهِ إِذْ جَحَدُوهُ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ » والإقرار والإثبات من مقومات الإيمان الثلاثة وهي: « الاعتقاد بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان »، ويتجلى حصول العلم بالله سبحانه وتعالى من خلال كتابه المعجز « القرآن الكريم »، وهذا ما يفسره قول الإمام الخميني (قده) حيث قال عن القرآن: « لولا القرآن لبقي باب معرفة الله مغلقاً إلى الأبد » وتجلَّى الله تعالى في قرآنه لعباده المتقين فرأوه ببصيرتهم « بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ » وذكّرهم ببدائع مخلوقاته وعظائم مصنوعاته وعجائب خلقه كما قال جلَّت قدرته: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [66] .

وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [67] .

إلى غيرها من الآيات الدالة على عظمة الصنع وبداعة الخلق.

ـ إلى أن قال علي (ع): « وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ ».

والغالب عند أهل ذلك الزمان القول بالباطل واتباع الهوى والحرص على الدنيا وملذاتها فعندهم كتاب الله متاع كاسد بل هو أكسد وأفسد بل هو برأيهم الأهوج لا يساوي شيئاً لانحرافهم وضلالهم وفساد فطرتهم التي فطرهم الله عليها فَلِانطماس عقولهم ولانتكاس نفوسهم يحسبون أن القرآن إذا فُسِّر على الوجه الذي أنزل عليه وعلى المعنى المراد منه يكون عندهم لا متاع أبْوَر منه لعدم استفادتهم مما فيه من بيان وحجج وعلوم وغيرها لكونهم أهل الباطل وعبدة الشهوات وأَسرى الملذات والأهواء بل وأكثر من ذلك، لا شيء أرْوَج ولا أنفَق منه ـ أي القرآن ـ إذا حُرِّف عن أهدافه الأصلية ومقاصده الإلهية، وذلك لموافقة أغراضهم الفاسدة مع ما يريدون أن يكون عليه الكتاب السماوي العظيم هذا « وَلاَ أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِه ِ».

ـ « وَلاَ فِي الْبِلاَدِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ » فلانحراف فطرتهم السليمة عن سبيل الحق، ولكون المعروف يخالف أغراضهم وسلوكهم يستقبحون فعله حتى أصبح عندهم منكراً، وبالعكس لما كان المنكر يوافق أهدافهم وميولهم لزموه واتبعوه حتى صار معروفاً بينهم يستحسنون فعله. « فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُه ُ» أي أعرض عنه قرّاؤه الحاملون له وتركوا التدبّر فيه والتّفكّر في مكنوناته الثمينة فأصبح حالهم كحال الحمار الذي يحمل أسفاراً ولا يستفيد منها إلا التّعب في الحمل لا غير، « وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ »، التناسي: التغافل أي تغافل حفظته عن اتباعه وعن الالتزام بأوامره وتوجيهاته ونواهيه وتعليماته.

ـ « فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ » فأهل القرآن هم الذين يتلونه حق تلاوته وهم الملتزمون به قولاً وعملاً وهم أئمة الدِّين وأهل التقوى الذين يعملون به.

ـ « مَنْفِيَّانِ طَرِيدَانِ » فالكتاب وأهله طردهم أهل الباطل والضلال، فأعرضوا عنه وعنهم، إبعاداً لهم ونفياً وطرداً، كما فُعِلَ في كثير من الصحابة من أمثال حجر بن عدي وأبو ذر الغفاري (رضوان الله عليهما).

ـ « وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لاَ يُؤْوِيِهِمَا مُؤْوٍ » والحال أنهما (الكتاب وأهله) متلازمان وصديقان أحدهما صاحباً للآخر لا يفارقه ولا يبتعد عنه أبداً وهما يسيران في طريق واحد هو طريق الخلاص وهو طريق الحق لا غير، ولنفرة أهل ذلك الزمان منهما فلا يؤويهما أحد ولا يضمهما ضامّ لاختلافهم عنهما في كل شيء وبالتالي فلا ملجأ لهم ولا مأوى إلا الله الواحد القهار.

ـ « فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ » والحال أنهم بين الناس كما يوحي من حيث الظاهر والمشاهد إلا أنهم في الحقيقة ولعدم اتباعهما من قبل الناس وعدم الاستفادة منهما، فثمارهما ومنافعهما وفائدتهما لا ينالها الناس أبداً وبالتالي فلا وجود لهما واقعاً وحقيقة.

ـ « لأَنَّ الضَّلاَلَةَ لاَ تُوَافِقُ الْهُدَى وَإِنِ اجْتَمَعَا » فمتى كانت الضلالة موافقة لهدى القرآن ولأهله؟! فهما ضدّان وإن اجتمعا في وجودهما.

ـ « فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ » توافق هؤلاء مع بعضهم على الافتراق عن الكتاب وتركه وراء ظهورهم ونفْيِهِ عن واقع حياتهم، وكذلك افترقوا عن أهل الكتاب العاملين به والمطبقين لتعاليمه والملتزمين بأوامره حيث يقول إمامنا (ع): « وَافْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ »، « كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ » يفسّرون القرآن ويغيّرونه ويُحرِّفُونه حسبما تقتضيه مصالحهم الخاصة، ورغباتهم الآنية وأغراضهم الدنيوية الفاسدة، وهم في تعاملهم مع القرآن كشأن الإمام مع المأموم، « وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ » فالواجب عليهم إتباع تعاليم هذا الكتاب واقتفاء أثره وليس العكس أي لا يمكن أن يأتم الإمام بالمأموم كما فعلوا هم مع القرآن.

ـ « فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اسْمُهُ، وَلاَ يَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَزَبَرَهُ ». وما داموا كذلك في تركهم للقرآن وعدم اتباع ما يدعو إليه من حسنات الأعمال والخير العميم، فلم يعرفوا إلا اسمه ورسمه وكتابته لا غير، وأما محتواه وفحواه فهم بعيدون عنه كل البعد وبهذا فهم يوم القيامة بعيدون عن رحمة الله ورضوانه.

ـ « وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ » وتمثيلهم بالصالحين وتشنيعهم بهم خير دليل على عدم التزامهم بالكتاب العظيم، وفي ذلك إشارة إلى ما صدر من بني أمية في أوائل اغتصابهم للخلافة الإسلامية، حيث ورد أن معاوية قتل من المهاجرين والأنصار وأولادهم أربعين ألفاً، وما فعله عبد الملك بني مروان وعامله الحجاج بن يوسف الثقفي (عليهما لعائن الله تعالى) في العراق والحجاز وغيرهما ما يُغني عن إيراد الكثيرين أمثال هؤلاء الذين حكموا باسم القرآن والإسلام.

ـ « وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً» أي سمّوا صدق هؤلاء الصالحين الأبرار الذين نُكِّلَ بهم أنهم مفترون على الله، فنسبوا أقوالهم الصادقة الحقة إلى الكذب وهذا شأن كل الحكام الظالمين الذين يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى.

ـ « وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ » ولغلبة جانب الشر والانحراف والفساد على طباعهم ونفسيَّاتهم فإِنهم يرَوْن في حسنات الصالحين سيئات فعاقبوهم عليها بزعمهم الكاذب المنحرف كما يعاقب المسيء بإساءته ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [68] .

ويتحدث الإمام (ع) بعد فقرتين من الخطبة الشريفة، ويذكر القرآن في هذه الفقرة فيقول:

ـ « وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ » الرشد هو الحق والغي هو الباطل ومعرفة الرشد أي الحق تتوقف على معرفة تاركه وتاركه هم أهل الباطل ـ كما قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ... [69] .

والتمسك به منقذاً من الضلال والغواية، فكان الأخذ به والعمل على هديه واجباً.

ـ « وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ ».
وقد ذكر صاحب كتاب منهاج البراعة العلاّمة ميرزا حبيب الله الخوئي « أن الأخذ بميثاق الكتاب هو التمسك به واتباعه ومعرفة معناه والعمل بمواثيقه وأحكامه التي هي عهد الله تعالى » وجب على ذلك معرفة الناقضين لعهود الله ومواثيقه والتاركين لأحكامه وراء ظهورهم وهم المحرّفون والمغيّرون والمفسّرون بأهوائهم حسبما تتطلبه مصالحهم الشخصية وأغراضهم الدنيوية، ولا شك أن التمسك به (أي بالرشد وهو القرآن) لا تتم إلا بمعرفة النابذين له والتاركين لأحكامه ومواثيقه ـ وقول الإمام (ع) هنا هو للتنبيه على وجوب التبري من أئمة الضلال والمعاداة لأعداء الله سبحانه، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، نذكر هنا بعضاً مما يناسب المقام:

ـ قيل أن رجلاً قَدِمَ على أمير المؤمنين (ع) فقال: يا أمير المؤمنين إني أحبك وأحب فلاناً وسمى بعض أعدائه فقال: « أما الآن فأنت أعْوَر فأما إن تعمى وإما أن تبصر » [70] .

ـ وقيل للامام الصادق (ع): إن فلاناً يواليكم إلا أنه يضعف من البراءة من عدوكم فقال: « هيهات كذب من ادّعى محبتنا ولم يتبرأ من عدونا » [71] .

ـ وقد ورد عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: « كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدونا » [72] .

ـ ولما نزلت هذه الآية: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [73] قال النبي (ص): « من ظلم علياً مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء من قبلي، ومن تولى ظالماً فهو ظالم » [74] .


[62] سورة آل عمران، الآية: 138.
[63] سورة هود، الآية: 1.
[64] سورة النساء، الآية: 82.
[65] سورة الإسراء، الآية: 88.
[66] سورة البقرة، الآية: 164.
[67] سورة الرعد، الآية: 4.
[68] سورة الكهف،الآية: 104.
[69] سورة الجن، الآيتان: 1 ـ 2.
[70] بحار الأنوار، ج27، ص58.
[71] بحار الأنوار، ج27، ص58.
[72] مستطرفات السرائر، ج1، ص100.
[73] سورة الأنفال، الآية: 25.
[74] بحار الأنوار، ج27، ص 60.


 



  

موضوعه: خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم وفيه وصف لكتاب الله سبحانه.

يقول الإمام علي (ع)  في وصف كتاب الله عزّ وجلّ، والحث على الالتزام به: « وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ وَالرِّيُّ النَّاقِعُ، وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ، وَالنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ. لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ، وَلاَ تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ، وَوُلُوجُ السَّمْعِ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ ».


الشرح

في أحد مقاطع هذه الخطبة يوصينا أمير المؤمنين (ع) بالقرآن الكريم ويقول:

ـ « وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ » وقد استعار هنا لفظ الحبل باعتبار حصول النجاة للمتمسك به فذكر القرآن باعتباره منجاة للتمسك به من الضلال والغي والانحراف في الدنيا، وفي الآخرة نجاة له من حر الجحيم والعذاب المقيم في جهنم والعياذ بالله، كما استعير من قبل حديث للنبي الأكرم (ص) حيث يقول واصفاً القرآن الكريم: « إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » [75] .

ـ « وَالنُّورُ الْمُبِينُ » وهما استعارة أيضاً ومثلها في قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [76] فالقرآن هو نور يُهْتدى به كما يَهْتدي بالنور في الظلمات الحالكة المهتدون.

ـ « وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ » فكما ينتفع المريض بالدواء فيشفى ويبرأ ويصحّ، فالقرآن يحصل بِهِ البرء من الأمراض والأسقام البدنية والنفسية كما قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدىً وَشِفَاءٌ [77] وقال في موضع آخر: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [78] .

ـ « وَالرِّيُّ النَّاقِعُ » فكما الماء يروي العطشان ويقطع الظمأ، فكذلك القرآن فهو نافع ودافع لعطش العلماء لما فيه من العلوم الإلهية والمعارف الحقة العالية.

ـ « وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ، وَالنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ » ومن تمسّك وتعلّق به وأخذ بأحكامه وتعاليمه وسار على نهجه فهو يعصمه يوم لا عاصم إلا الله تعالى ولا منجي له من غضب الجبّار ودخول النيران.

ـ « لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ » فهو كلام الحق تعالى يصدق بعضه بعضاً ويؤيد بعضه بعضاً فلا يُحتاج إلى إصلاح اعوجاجه واختلافه وتباينه وخلله ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [79] .

ـ « وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ » من صفات كلام الله تعالى أنه لا يميل عن الحق ولا ينحرف عنه قيد أنملة، لذا فهو لا يُسْتَعْتَبْ، أي لا عتاب على القرآن كونه هو الحق الصراح البيِّن الواضح، والعتاب على الذي لا يلتزم به ولا يتبع أوامره ولا يترك نواهيه .

ـ « وَلاَ تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ، وَوُلُوجُ السَّمْعِ » من المعروف أنَّ الكلام كلما تكرّر مَجَّتهُ الأذواق وعافته النفوس واشمأزت منه القلوب ـ فيكون بذلك مبتذلاً لا يعبأ به، أما القرآن الكريم فلأنه لا يشبه كلام المخلوق فتراه لا زال غضاً طرياً تستلذ بسماعه النفوس وتصغي إليه القلوب وترتاح له الأسماع بل بتكراره يزداد بهاءً ونقاءً وصفاءً وهذا من دلائل اعجازه وعظيم نظمه وحسن عبارته ولطيف سجعه.

ـ « مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ » كيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الحق وقوله الفصل، فالقائل به دائماً يمثّل الصّدق بعينه ولا صدق سواه أبداً.

ـ « وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ » والعامل به يسبق الجميع إلى جنات النعيم ودار السعادة والرضوان وهو الفوز الذي ينشده المؤمنون، ولمثل ذلك فليعمل العاملون ومن أجل ذلك فليتنافس المتنافسون.


[75] بحار الأنوار، ج23، ص 136 .
[76] سورة المائدة، الآية: 15.
[77] سورة فصلت، الآية: 44.
[78] سورة الإسراء، الآية: 82.
[79] سورة النساء، الآية: 82.
 

 

 



  

موضوعها: يُنَبِّه فيها على فضل الرسول الأعظم، وفضل القرآن، ثم حال دولة بني أمية.

ـ قال الإمام (ع) في بداية الخطبة:

« فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ، ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي، وَالْحَدِيثَ عَنِ المَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ ».


الشرح

في بداية هذه الخطبة يبين إمامنا (ع) فضل الرسول الأعظم (ص) وفضل القرآن ويقول:

ـ « فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ » أي جاءهم الرسول (ص) بكتاب فيه تصديق الذي بين يديه، فيكون المصدّق هو الكتاب كما قال تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [80] .

فهنا التصديق وصفاً للقرآن بقرينة قوله « وَالنُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ » والنور كذلك هو القرآن الكريم كما قدمنا من خلال الآية القرآنية الكريمة باعتباره (أي القرآن) هادياً لمن يهتدي به في ظلمات الضلال والجهالة ويقتدي بتعاليمه وأحكامه قال سبحانه: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [81] .

ـ « ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ » فهذا الكتاب المنزل منه تعالى إعجازاً لرسوله الأكرم (ص) يطلب مِنَّا إمامنا (ع) أن نستنطق مفاهيمه ونستفهم مضامينه، ونفهم ما يتضمن من الأحكام والحدود والحلال والحرام، ولا شك أن فهمه بتفاصيله كلها غير ممكن لاشتماله على الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والتنزيل والتأويل والظاهر والباطن وغير ذلك، لذا فقد أتبعه بقوله (ع) « وَلَنْ يَنْطِقَ » حيث أنه قرآن صامت لا بد من مترجم، والمترجم هم آل البيت الأطهار (عليهم السلام) وفي مقدمهم إمام المتقين (ع) وقد قال في موضع آخر عن ذاته المقدسة أنه هو القرآن الناطق.

ـ « وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ » فهو المترجم له والناطق به وهو الذي يدرك معانيه كلها ظاهره وباطنه ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه.

ـ « أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي » في القرآن أخبار المستقبل وما يأتي لاحقاً من أحوال البعث والنشور والقيامة والجنة والنار والموت والبرزخ وكل ما يحصل في الأزمان القادمة المتلاحقة.

ـ « وَالْحَدِيثَ عَنِ المَاضِي » كما أن في القرآن أخبار المستقبل كذلك فيه أخبار الأمم الخالية من الملوك والسلاطين وقصص الأنبياء السابقين وأقوالهم وما عانوه وما مروا به من أحداث، فيه كذلك كيفية بدء الخليقة من السماء والأرض والإنسان والحيوان والشجر والحجر وغير ذلك مما مضى وانتهى.

ـ « وَدَوَاءَ دَائِكُمْ » ويشتمل كذلك على الأدواء والعلاجات الناجعة والفضائل العلمية والعملية التي بها صلاح النفوس والعقول والأبدان وفيه الدواء النافع الناجح من داء الجهالة والضلالة.

ـ « وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ » والقرآن كونه محتوياً على القوانين والأحكام الشرعية ومقومات العدالة الاجتماعية والسياسية والادارية التي بها ينتظم العالم وتستقيم الأمور وينعم المجتمع كل المجتمع بالحياة السعيدة الرغيدة فهو إذاً فيه دواء لكل داء كما قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ [82] .


[80] سورة آل عمران، الآية: 3.
[81] سورة المائدة، الآية: 15.
[82] سورة الإسراء، الآية: 82.
 

 



  

موضوعها: وفيها يعظ ويُبَيِّنُ فضل القرآن وينهى عن البدعة.

يقول الإمام (ع)  في فضل القرآن:

« وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ. وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِيَادَةٍ فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَانٍ فِي عَمىً . وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلاَ لِأَحَدٍ قَبْلَ القُرْآنِ مِنْ غِنىً، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُم، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ: وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ. فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ تعالى بِمِثْلِهِ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (أَلاَ إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ)، فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ ».

وفي مقطع آخر من الخطبة قال (ع):

« وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَسَبَبُهُ الأَمِينُ، وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جِلاَءٌ غَيْرُهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ، وَبَقِيَ النَّاسُونَ وَالْمُتَنَاسُونَ ».


الشرح

في هذه الخطبة يُبيِّن إمامنا (ع) فضل القرآن ويقول:

ـ « وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ » المخلص المشفق « الَّذِي لاَ يَغُشُّ » في هديه وإرشاده إلى المصالح الدنيوية والأخروية كالصديق الناصح الذي يريد الخير لصديقه « وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ » من اتبعه واهتدى به وعمل بمنهاجه وطريقته.

وقد ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع) قوله: « إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال ببصره ويفتح للضياء نظره، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنُّورِ » [83] .

ـ « وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ » كل ما موجود في القرآن من أخبار الأمم السابقة والأنبياء والمرسلين وما يروي من القصص، كلها موضع صدق واحترام من الجميع، حتى من غير المسلمين، وقد ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) أَنَّه قال: « إنَّ العزيز الجبار أنزل عليكم كتابه وهو الصادق البار فيه خبركم، وخبر من قبلكم، وخبر من بعدكم، وخبر السماء والأرض، ولو أتاكم من يخبركم بذلك تعجبتم » [84] .

ـ « وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ » المراد بالمجالسة، المصاحبة للقرآن وملازمته وتدبره وفهم ألفاظه ومعانيه « إِلاَّ قَامَ عَنْهُ » المقابلة هنا بين المجالسة والقيام مقابلة لطيفة بين الفعلين (جالس، قام) كما في قوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ [85] هنا إشارة جميلة واستعارة لطيفة باعتبار الضَّال كالميت في حقيقته، ولا حياة إلا بالهداية وبالإسلام والقرآن.

فالذي قام عن القرآن بعد مصاحبته ومجالسته له فإنما يقوم « بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِيَادَةٍ فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَانٍ فِي عَمىً » إذ في القرآن ما يزيد في بصيرة المهتدي، وينقص من عمى الجهل والضّلال والغيّ.

ـ « وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلاَ لِأَحَدٍ قَبْلَ القُرْآنِ مِنْ غِنىً » والمراد أن من قرأ القرآن وتدبّر آياته وعلم بما فيه وعمل بِهِ وفق أحكامه وتعاليمه فقد نال سعادة الدّارَيْن ونفى الفقر والحاجة والفاقة عن نفسه وعن عياله فهو في غنىً دائمٍ ما دام كذلك.

وقد ورد في الكافي عن أبي عبد الله الصادق (ع) أن قال: « من قرأ القرآن فهو غني ولا فقر بعده وإلا ما به غنى » [86] .

ـ « فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُم » ففي القرآن شفاء من كل داء كما ورد عن رسول الله (ص) حيث يقول: « القرآن هو الدواء » فهو دواء لجميع الأمراض البدنية والنفسية والأمراض الظاهرة والباطنة، قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [87] .

وقد ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) أنه قال: شكى رجل إلى النبي (ص) وجعاً في صدره فقال: « استشفِ بالقرآن فإن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ » [88] [89] .

ـ « وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ »  واستعينوا به من شدائدكم التي تمر عليكم، شدائد الزمان ونوائب الدهر، وطوارق الحِدْثان. وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: « والذي بعث محمداً بالحق وأكرم أهل بيته، ما من شيء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابة من صاحبها أو ضالة أو آبق إلا وهو في القرآن فمن أراد ذلك فليسألني عنه ... » [90] .

ـ « فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ: وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ ».

وقال رسول الله (ص): « القُرْآنُ هُدىً من الضلالة وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة (الضلالة)، وضياءٌ من الأحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار » [91] .

ـ « فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِهِ »، فاطلبوا من الله ما تريدون من سعادة الدنيا والآخرة باتباعه، وأقبلوا على الله بحبه، أي بالرغبة في اقتفاء أثره واتباع هديه، فهو الوسيلة الكفيلة لنيل الرغائب والمسائل والحاجات.

ـ « وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ » وهنا نَهى (ع) بعدم جعل القرآن وسيلة للمسألة إلى الخلق. ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) في الكافي أنه قال: « إن من الناس من يقرأ القرآن ليقال فلان قارىء، ومنهم من يقرأ القرآن ليطلب به الدنيا ولا خير في ذلك ومنهم من يقرأ القرآن لينتفع به في صلاته وليله ونهاره » [92] .

وورد أيضاً عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: « قرّاء القرآن ثلاثة: رجلٌ قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء، وبأولئك يديل الله عز وجل من الأعداء، وبأولئك ينزل الله تبارك وتعالى الغيث من السماء فوالله لَهؤلاء في قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر ».

ـ « إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللهِ تعالى بِمِثْلِهِ » المراد أن القرآن الكريم إذا توجه الناس به إلى الله تعالى لكرامته عند الله فسيكون النجاح والتوفيق حليفهم ولا يخيب حينها رجاؤهم ولا يُرَدُّ دعاؤهم فهو من أفضل الوسائل إلى الله تعالى في طلب الحوائج وإنجاح المقاصد كلها.

ـ « وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ » القرآن بلا شك يشفع يوم القيامة لقارئه ولحامله وللعامل به، ويشهد لهؤلاء بالخير وللتاركين له بالشر فيصدق فيهما كما يشير (ع) إليه بقوله: « وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ » والمراد قبلت شفاعته.

ـ « وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ » أي سعى به إلى الله سبحانه وقال في حقه قولاً يضره ويوقعه في المكروه « يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ » فالقرآن الكريم شاهد صدق لا ترد شهادته عند الله.

ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال:

ـ « إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان فيه النعم، وديوان فيه الحسنات، وديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات، فيستغرق النعم عامة الحسنات، ويبقى ديوان السيئات فيدعى بابن آدم للحساب، فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة، فيقول: يا رب أنا القرآن وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ويطيل ليله بترتيلي وتفيض عيناه إذا تهجّد، فارضه كما أرضاني، قال: فيقول العزيز الجبار: عبدي ابسط يمينك، فيملؤها من رضوان الله العزيز الجبّار، ويملأ شماله من رحمة الله، ثم يقال: هذه الجنَّة مباحة لك فاقرأ واصعد، فإذا قرأ آية صعد درجة » [93] .

وخلاصة المراد أن القرآن يجيء يوم القيامة: في صورة إنسان وله لسان يشهد للناس عليهم ويقبل شهادته نفعاً وضراً وشفاعته في حق المراعين له وينتفع به العاملون به والآخذون بتعاليمه وأحكامه « فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » المنادي من قبل الله تعالى ولعله الملائكة: « أَلاَ إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ ».

والمراد من قوله (ع) هذا ما تؤكده الآية القرآنية الشريفة: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [94] .

والحرث: إلقاء البذر في الأرض وتهيؤها للزرع، ويسمى المحروث حرثاً، قال تعالى: ﴿أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ [95] .

ويقال: احرث القرآن أي: أكثر تلاوته، وحرث ناقته: إذا استعملها والمراد هنا من الحرث مطلق الاستعمال والتجارة والكسب.

ولا شك أن حارث القرآن هو الفائز يوم القيامة لكونه يتعاطى مع كلام الله فلا ابتلاء له لأنَّ حَرْثه للآخرة، من كان حرثه للآخرة فلا ضير عليه، فهو الراجي لرحمة ربه والمنتظر عفوه وكرمه، فحرثه كله خير وبركة.

وقد أمرنا (ع) أن نكون من حرثته واتباعه « فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ ».

ـ « وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ » أي اجعلوا القرآن دليلاً قاطعاً على الله سبحانه وتعالى وقائداً إليه ففي القرآن ما يكفي لمعرفة الله تعالى فهو يحتوي على جميع صفات الله الجمالية والجلالية وفيه أوصافه التامة الكاملة ولولا القرآن ما عرفنا الله حق معرفته كما يقول الإمام الخميني (قده): « لولا القرآن لبقي باب معرفة الله مغلقاً إلى الأبد ».

ـ « وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ » وليكن القرآن ناصحاً لكم لما فيه من آيات التحذير والتبشير والترغيب والترهيب فهو نِعْم الناصح الذي لا يغش والصادق الذي لا يكذب.

ـ « وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ » أي إذا خالفت آراؤكم القرآن فاتهموها بالخطأ لأنه كلام الله الحق الصادق المصدق الذي لا يعتريه الخطأ ولا يشوبه الخلل والنقصان.

ـ « وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ » أي ظنوا فيها الغش وارجعوا إلى القرآن ولأن الهوى هو ميل النفس الأمارة بالسوء التي تغش صاحبها لارتكاب ما يسخط الرب ويغضب الرحمن.

وفي أواخر الخطبة الشريفة يشير الإمام علي (ع) إلى القرآن الكريم مرة أخرى ويقول:

ـ « وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ » القرآن الكريم كتاب المواعظ الكثيرة والمتنوعة من وعد ووعيد وترغيب وترهيب، لغرض اتباع طريق الحق وسبيل الرشاد ومن لم يتعظ بالقرآن فقد خسر خسراناً مبيناً.

ـ « فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ » القرآن هو الحبل الممدود من السماء إلى الأرض من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، « وَسَبَبُهُ الأَمِينُ » وُصِف القرآن بالأمانة لكونه لا يخون من تمسك به وأخلص له، فهو الموصل إلى القرب من الله وكسب رضوانه والاستمتاع بما أعد للمؤمنين من صنوف اللذائذ وأنواع الرغائب ومختلف الأماني.

ـ « وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ » كما النفوس تلتذ بأزهار الربيع وأريجه وروائحه كذلك تزدهر به القلوب وتلتذ له وتنشرح بتلاوة آياته وتدبر ما فيه من الحكم والمزايا وما تتضمنه من اللطائف البديعة والالتفاتات الرائعة العجيبة، « وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ » فيه كذلك، فقد شُبّه العلم هنا بالماء الزلال الذي يروي الظمآن وينعش الروح والوجدان، فكما أن بالماء حياة الأبدان فكذلك تحيى الأرواح بالعلم الذي منبعه القرآن ومصدره كلام الله العزيز الدَّيان.

ـ « وَمَا لِلْقَلْبِ جِلاَءٌ غَيْرُهُ » وهل للقلب جلاء غير كتاب الله العظيم الذي به تنفرج الأسارير وتزول الهموم وتصقل النفوس، وتسمو إلى عليائها وترنو إلى خالقها، وتطمئن إلى أنّ ما يحصل لها من مكدرات تنغص عيشها وتكدِّر صفوها هو بلاءٌ ينبغي تحَمُّلُه.

ـ « مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ » ذهب الذاكرون والمتدبرون والمتفكرون في معاني كتاب الله وآياته البينات، والآخذون بتعاليمه الشريفة والمستفيدون من أنواره المُبيّنةِ. ولعل قصد الإمام (ع) بالمتذكرين هم خيرة أصحاب رسول الله (ص) الأبرار الأتقياء والأوفياء.

ـ « وَبَقِيَ النَّاسُونَ » حقيقة « وَالْمُتَنَاسُونَ » واقعاً الذين يظهرون النسيان حرصاً على مصالحهم الشخصية وأهدافهم الآنية التي تحول دون نهجهم وإدراكهم واستفادتهم من هذا الكتاب الالهي العظيم. كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [96] .


[83] كيف نقرأ القرآن، ج5، ص109.

[84] المرشد الوجيز لقرّاء كتاب الله العزيز، ص3.

[85] سورة الأنعام، الآية: 122.

[86] بحار الأنوار، ج89، ص187.

[87] سورة فصلت، الآية: 44.

[88] سورة يونس، الآية: 57.

[89] بحار الأنوار، ج89، ص176.

[90] بحار الأنوار، ج40، ص182.

[91] الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج2، ص500.

[92] الكافي الكليني، ج2، ص817.

[93] بحار الأنوار، ج7،ص268.

[94] سورة الشورى، الآية: 20.

[95] سورة القلم، الآية: 22.

[96] سورة المطففين، الآية: 14.

 

 

 



  

موضوعها: يُنبّه على إِحاطة علم الله بالجزئيات، ثم يحث على التقوى، ويُبيّن فضل الإسلام والقرآن.

في هذه الخطبة الشريفة يتحدث الإمام (ع) عن فضل القرآن، وتُعَدُّ هذه الخطبة من أهم ما تحدث به (ع)، ولعلها أطول خطبة خاصة بالقرآن الكريم، وتعرّض فيها إلى ذكر اثنين وأربعين فضيلة من فضائل هذا الكتاب الإلهي العظيم.

« ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَبُنْيَاناً ( وَتِبْيَاناً ) لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ، وَعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ. فَهُوَ مَعْدِنُ الإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ، وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ، وَأَثَافِيُّ الإِسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ، وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ. وَبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ، وَعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ، وَمَنَاهِلُ لاَ يُغِيضُهَا الْوَارِدُونَ، وَمَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ، وَأَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ، وَآكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ. جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَهُدىً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ، وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى ».


الشرح

1- « نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ » فكما يهتدي المرء بالنور في ظلمة الليل، فكذلك القرآن، فهو النور الذي يهتدي به الناس من ظلمات الجهل والضلال قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [97] .

والمصابيح هنا ما يحتويه القرآن من صنوف العلوم والمعارف واللطائف والأحكام وغير ذلك.

2 ـ « وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ » والسراج ضياء القرآن الدائم وغير المنقطع فتوقده لا انقطاع له لحاجة الناس للاهتداء به والاستضاء بنوره الذي لا يفتر ولا ينقص ولا يتلاشى.

3 ـ « وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ » وكونه مستودعاً للأسرار الإلهية الخفية، ومنبعاً لشتى العلوم التي لا تُدرَك ولا يمكن نيلها، كما لا يمكن لغائص البحر أن يبلغ قعره ويتلمس جوانبه ويتحسس كنوزه وأحجاره.

4 ـ « وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ » النَّهْجُ: الطريق الواضح كما في مفردات الراغب، والمنهاج الطريقة كقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [98] . فكانت الشريعة الإسلامية السمحاء الطريق الواضح المستقيم الذي لا عوج فيه وهي الحق الصراح الذي لا يُضل سالكه كما ورد عن نبينا الأعظم (ص) حيث قال: « جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء ».

5 ـ « وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤُهُ » القرآن الكريم كله نور وكله ضوء وكله حق لا مكان للظلمة فيه ولا تعتريه العتمة ولا يحجبه شيء، فهو نور ومنوّر كما قال تعالى في وصفه: ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [99] .

6 ـ « وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ » والفرقان هو كلام الله تعالى ـ لفرقه بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب، وبين الصالح والطالح ـ كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ [100] ، وهو يوم بدر، اليوم الذي فرّق فيه بين الحق والباطل بل به بدأ الفرق بين الحق والباطل بانتصار كلمة الله فكانت العليا واندحار كلمة الكافرين فكانت السفلى، وسيبقى كتاب الله دائماً وأبداً حجة دامغة وبرهاناً ساطعاً على مر الدهور والعصور لأنه القول الفصل والهدى للناس جميعاً ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [101] .

7 ـ « وَبُنْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ » شبّه القرآن الكريم هنا بالبنيان المرصوص القوى البناء، المحكم السبك، العظيم القوة، لوثوق الربط بين سوره وآياته، واتصال كلماته ببعضها وترابطها، وجزالة لفظها، وبلاغة مبناها ومعناها، أو « وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ » كما ورد في بعض النسخ ويكون معنى « تبياناً » هنا، هو بياناً وإيضاحاً وتفسيراً للحق فلهذا تكون شرائعه وأحكامه ثابتة وباقية ببقاء القرآن الكريم. وقال: « لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ » فمن كان بهذه القوة وهذا السبك وهذا الإحكام يصعب أن يناله الهدم والانشقاق، فالكتاب العزيز محفوظ بإذن الله من عوادي الدهر وصروف الزمان وطوارق الحِدْثَان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [102] .

8 ـ « وَشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ » ولا ريب في أن القرآن شفاء لكل الأمراض والأسقام ـ أمراض البدن وعلل الروح ـ وقد ورد عن آل البيت الأطهار (عليهم السلام) كثيراً من الروايات التي تؤكد ما نقول ـ حيث إن للآيات خواصّاً وميزات في شفاء كثير من الأمراض كما هو ثابت بالتجربة.

ـ ومن أمثلة هذه الروايات، ما ورد عن الإمام الباقر (ع) حيث يقول: « من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شيء » [103] .

ـ كما ورد عن أبي الحسن (ع) يقول: « من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله، ومن قرأها في دبر كل فريضة لم يضره ذو حمة » [104] .

• أما كونه شفاء للأرواح فلما يحتويه ويتضمنه من شتى العلوم وصنوفها ومن مختلف الأحكام وأصولها وفروعها، وهذا ما ينفى غائلة الجهل، فتنتعش به القلوب وتحيا به النفوس ـ وقد صدق ربّنا جلّت قدرته ـ في قوله في سورة الاسراء: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراًً﴾ [105] .

وقوله كذلك: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدىً وَشِفَاءٌ [106] . فهذا الدواء القرآني الناجع لا يُبقي مرضاً ولا يخلف سقماً ولا يخشى عليه شيئاً من ذلك.

9- « وَعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ » وهل هناك عز أرفع وأعظم من القرآن؟ وأنصاره وأهله هم الغالبون وهم المنصورون دائماً وأبداً فلا يُغْلَبون ولا يُقْهَرون ببركة هذا الكتاب العظيم الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [107] .

10- « وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ » وهو الحق البيِّن الواضح الذي بسببه لا يُهزم أهله وأصحابه والعاملون به والملتزمون بأحكامه وتعاليمه وتشريعاته والعارفون حقه والمدركون لمنهاجه وطريقته، وهم الأعلَوْن دائماً لا يعتريهم الضعف والخور والخذلان، وإن أصابهم شيء من ذلك فلحكمة إلهية ولابتلاء يريده الله وهو من أجل تقويتهم وتحذيرهم وتنبيههم، كما يؤيده قوله تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾  [108] .

11- « فَهُوَ مَعْدِنُ الإِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ » فهو أي القرآن منبع الإيمان ومنبته ومصدره ومنه تُستخرج كل الجواهر واللآلئ الناصعة النفيسة التي لا يمكن تقدير ثمنها ووصف علو منزلتها وعظمتها وهو بمثابة قطب الرحى للإيمان حيث أنه وسطه ومركزه.

12- « وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ » ومنه تنبع العلوم وفنونها بل هو عين العلوم كلها كعين الماء الفوّارة بالمياه العذبة، فمنه تفيض العلوم كما تفيض العيون الجارية الرقراقة، بل هو كالبحر الذي لا ساحل له لما يحتويه من علوم ومعارف لا عدّ لها ولا حصر، بل لا قاع لها ولا قعر.

13- « وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ » هنا تشبيه جميل للقرآن من حيث أحكامه وتكاليفه الشرعية المبنية بشكل محكم على أساس العدل الذي لا يحيد قيد أنملة عن الحق، فاجتماع الرياض النضرة الخلابة مع مجامع الماء التي تتكون من السيول (الغدران) تضيف للرياض البهيجة صفة جمالية رائعة تأخذ بمجامع القلوب وتهيمن على النفوس وتخلب الألباب وتأخذ بالعقول وتحلق بها إلى مراتب السمو والرفعة والرضوان.

14- « وَأَثَافِيُّ الإِسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ » وبالقرآن تتوثق عرى الإسلام وتقوى وتثبت أركانه ويشتد بُنيانه وبه يبقى الإسلام ثابتاً ومستقراً لا تزعزعه العواصف العاتية ولا تُحرّكه الزلازل القاضية.

15- « وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ » فكما الأودية والغيطان التي هي الأراضي المنخفضة تزكو بها النباتات فتزدهر وتنمو وتَيْنَع وبهذا تكون موضعاً للماء والكلأ ويستقر عندها الإنسان الذي يُنشد الراحة والاستقرار والمتعة، فكذا القرآن هو موضع لطلاب الحق ورُوّاد الحقيقة الذين يرومون التزود بالمتاع لليوم الآخر الذي يخسر فيه المبطلون ويفوز به المستعدّون للقاء ربهم والمتزودون بزاد التقوى.

16- « وَبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ » وهل ينقص البحر ويغيض؟! وهل يصبح يباباً؟! بل وهل ينفدُ ماؤه؟! مهما أخذ الآخذون واستنزفه المستنزفون، فعلوم القرآن لا تنتهي ولا تغيض، بل تفيض ولا تنفدُ، بل تزداد، ففيها علم ما كان وعلم ما يكون وعلم ما هو كائن إلى يوم الدين.

17- « وَعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ » شَبَّه (ع) القرآن بعيون الماء الجارية التي لا تنضب ولا تغيض بل تفيض مهما أخذ منها النازحون للماء والمستسقون منه.

18- « وَمَنَاهِلُ لاَ يُغِيضُهَا الْوَارِدُونَ » وكذلك مناهِل القُرآن (المناهل محل شرب الماء من النهر) فهي لا تنقص مهما شرب منها الذين يَرِدونها فهي باقية تُزوِّدهم باستمرارعلى كثرتهم وورودهم إليها وأخذهم منها.

19- « وَمَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ » الذين يريدون السير إلى الحق تعالى ويرمون الوصول إليه والقرب منه، فالقرآن هو السبيل الوحيد لسلوك هذا الطريق الواضح النيِّر المستقيم الذي لا يضل سالكه أبداً.

20- « وَأَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ » والقرآن نور مبين كما جاء فيه، قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [109] ، وقوله تعالى: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [110] .

فما دام كذلك فالسائرون مبصرون بهذا النور ومستضيئون به، وباقون على الطريق الصحيح والنهج السوي المستقيم الذي لا عوج فيه.

21- « وَآكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ » في هذه الفقرة والتي قبلها استعار لفظتي الأعلام  جمع علم (وهي الأمارات والعلامات والأدلة) والآكام وهي المرتفعات، فكما يهتدي السائر في البيداء ويرى أول ما يرى العلامات الواضحة والمرتفعات فيقصدها ليستقرّ فيها لعلوها وشرفها ونظافتها، فكذلك هي معرفة القرآن وأحكامه، فهي الدليل للسالكين والسائرين نحو المقام السامي والمكان الشاهق، الشامخ، السامق.

22- « جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ » العالم الرباني الحق والباحث عن الحقيقة المُنصف، والمتعمّق في معرفة العلوم، لا يرويه ولا يسكن اشتياقه للعلم وحبه له إلا القرآن، كلام الله العزيز الذي فيه كل ما يتمنى العالم من شتى صنوف المعرفة، فهو الماء الزلال الذي يروي ظمأ العلماء وغليلهم ويطفأ حرارة بحثهم وشوقهم ونارهم.

23- « وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ » والفقهاء كذلك لا تبتهج قلوبهم ولا تنتعش نفوسهم إلا بالقرآن، كما تزدهر الأشجار وتتفتح الورود وقت الربيع الزاهر البهيج فيمتلأ الكون بهاءً وألَقاً وأريجاً وعطراً.

24- « وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ » فالصالحون المخلصون الذين يريدون القرب من الله تعالى والسير نحو الحق سبحانه، لا يمكن أن يبلغوا هذا المقام الرفيع والمكان المنيع إلا بالقرآن الذي يوصلهم إلى ما يريدون بثقة واطمئنان ويقين.

25- « وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ » كما أوضح الإمام (ع)  في فقرة سابقة حيث قال: وشفاء لا تخشى أسقامه، أو كما قال رسول الله (ص): « القرآن هو الدواء » ولا شك أن هذا الدواء لا يشوبه داءٌ ولا يخالطه سقم، ولا يحتويه مرض، أي مرض.

26- « وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ » القرآن نورٌ مطلق، لا تشوبه شائبة من عتمة أو ظلمة، كما قال الإمام (ع) في فقرة سابقة: في وصفه للقرآن: « نوراً لا تطفأ مصابيحه » وفي فقرة أخرى سابقة أيضاً قال: « وشعاعاً لا يظلم ضوؤه ».

كما ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: « إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جالٍ بصره، ويفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ».

27- « وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ » من يتمسك بالقرآن لا يُخاف عليه من الهلاك، ولا يُخشى عليه من التزم بأحكامه وأوامره من الغي والضلال فهو الناجي وغيره الهالك.

28- « وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ » وهو الملجأ الحامي والحصن الواقي لمن يلتجأ إليه ويعيش تحت ظلاله وينعم بفيوضاته ويستفيد من بيِّناته ـ فلا يصيبه مكروه ولا يناله سوء، فهو في حمى كلام الله العزيز الحكيم.

29- « وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ » من اتخذ القرآن وليّاً لنفسه وآمراً عليه ومطيعاً له في أحكامه وتعاليمه وأوامره، فهو العزيز بل صاحب العزة والشرف والكرامة في الدنيا والآخرة.

30- « وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ » جَعَلَ الله تعالى القرآن أمناً وسلاماً لِمَنْ تَعَمّقَ في معانيه وتَدَبّرَ في آياته وتَفَكّرَ في مكنوناته، وبهذا يكون في مأمن من غضب الله سبحانه وعذابه.

31- « وَهُدىً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ » لا شك في ذلك ولا ريب، يؤيده قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدىً وَشِفَاءٌ [111] وقوله سبحانه أيضاً: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ [112] .

32- « وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ » والمراد أن من ادّعى أنه من أهل القرآن وخاصته وافتخر بذلك وإن لم يكن كذلك كان القرآن له عذراً لعظم قدره وعلو شرفه وسمو شأنه.

33- « وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ » وكفى بالقرآن حجةً ودليلاً ووضوحاً وبرهاناً لمن يتكلم به ويحتج بآياته ويؤيد أقواله به.

34- « وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ » الشاهد الصدق، والدليل الدامغ، والحجة التامة البالغة لمن يريد أن يحتج ويخاصم ويستدل بأقواله، فعندها تخرس الأفواه وتطمئن النفوس لحكمه ورأيه وحَلّهِ وَعقْدِهِ.

35- « وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ » أي من خاصم بالقرآن واحتج به فسوف يكون حليفه الفوز والنجاح والغلبة على أعدائه.

وقد ورد عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: « يا معشر الشيعة خاصموا بسورة إنا أنزلناه في ليلة القدر تُفْلِجُوا، فوالله إنها لحجة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول الله (ص) وإنها لسيدة  دينكم وإنها لغاية علمنا ... » [113] .

36- « وَحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ » والحامل للقرآن هو الحافظ له والعامل به والمتّبع لأحكامه والسائر على منهاجه، لا شك أن من يحمل الكتاب العزيز بين جنبيه ويعمل به في ليله ونهاره، سيكون القرآن حاملاً له وموصلاً به إلى جنان النعيم ومقام الصدّيقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أولئِكَ رفيقاً.

وقد ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: « أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل » [114] .

كما ورد عنه أيضاً (ص) أنه قال: « حملة القرآن عرفاء أهل الجَنّة، والمجاهدون قُوّادها، والرُّسُلُ سادةُ أهل الجنة » [115] .

كذلك قال (ص): « إنّ أحق الناس بالتخشّع في السّر والعلانية لحامل القرآن، إنّ أحقّ الناس في السّر والعلانية بالصّلاة والصوم لحامل القرآن، ثم نادى بأعلى صوته يا حامل القرآن تواضع به يرفعك الله ولا تعزز به فيذّلك الله، يا حامل القرآن تَزَيّنَ به لله يُزيّنك الله به ولا تزيّن به للناس فيشينك الله به ـ من ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه ... » [116] .

كما ورد أيضاً عن رسول الله (ص): « من أعطاه القرآن فرأى أن أحداً أُعطِيَ شيئاً أفضل مما أُعطي فقد صغَّر عظيماً وعظَّم صغيراً » [117] .

37- « وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ » أي من حفظ القرآن وعمل به وتعهدّه في حياته ولم يغفل عنه في ليله ونهاره وفي أحواله كلها، فإنه سيسرع لنيل مطالبه وبلوغ مقاصده والوصول إلى أهدافه في الدنيا والآخرة، وقد ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: « من نسي سورة من القرآن مُثِّلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة، فإذا رآها قال: ما أنتِ ما أحسنكِ ليتكِ لي، فتقول: أما تعرفني أنا سورة كذا وكذا ولو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان » [118] .

38- « وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ » وكتاب الله هو أكبر علامة وأفضل دلالة للمتدبّر المتفكّر والمتفرّس لأمور المستقبل كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ [119] أي علامات أو أمارات أو دلالات للمتفرسين المتفكرين.

وقد ورد عن النبي (ص) أنه قال: « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » [120] .

وقال أيضاً: « إنَّ لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم » ثم قرأ الآية: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ [121] .

40- « وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ » وكلام الله المجيد وقايةً ودرعاً حصيناً لمن يبحث عن سلاح قاطع ودرع مانع، فتلاوته حصناً للدنيا والآخرة.

ففي الآخرة النعيم الخالد والرضوان الأكبر من الله سبحانه ومراتبه البينة والصديقين والشهداء والصالحين.

أما في الدنيا فلا حصر لآثاره العظيمة على الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: « والذي بعث محمداً بالحق وأكرم أهل بيته ما من شيء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابة من صاحبها أو آبق إلا وهو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني عنه ».

قال: فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عمّا يؤمن من الحرق والغرق فقال (ع): اقرأ هذه الآيات: ﴿اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [122] ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [123] إلى قوله تعالى ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [124] فمن قرأها فقد أَمِن من الحرق والغرق [125] ، قال: فقرأها رجل واضطرمت النار في بيوت جيرانه وبيته وسطها فلم يصبه شيء [126] .

وقال أمير المؤمنين (ع): « من بات بأرض قفرٍ فقرأ هذه الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ إلى قوله ـ ﴿تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 54) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين » [127] .

40- « وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى » والقرآن الكريم أفضل العلوم وأكملها وأتمها لمن أراد خير الدنيا والآخرة، واستفاد مما فيه وعمل به وحفظ آياته واستوعبها في وعاء قلبه كما ورد عن رسول الله (ص) إذ قال: « لا تغرّنكم هذه المصاحف المعلقة إن الله تعالى لا يعذّب قلباً وعى القرآن » [128] .

كما ورد عنه (ص) إذ قال: « إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها » [129] . أي أكملها وأفضلها وأحفظها للعلم والمعرفة.

41- « وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى » بل كلام الله سبحانه أحسن الحديث كما في قوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [130] .

وكونه أحسن الحديث باعتباره معجزة النبي (ص) في الفصاحة والبلاغة وقد عجز العرب عن الإتيان بآية من مثله ولا يزال هذا التحدي قائماً حتى قيام الساعة.

42- « وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى » وكفى بالقرآن حاكماً وقاضياً وفاصلاً وفرقاناً فهو كلام الله الذي لا يزيغ عن الحق قيد أنملة، ومن لم يحكم به فمصير البلاد إلى الخراب ومصير العباد إلى الفساد.

فهو الحق الأبلج وهو الميزان الأعدل، قال تعالى:

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [131] .

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [132] .

﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [133] .


[97] سورة الإسراء، الآية: 9.
[98] سورة المائدة، الآية: 48.
[99] سورة فصلت، الآية: 42.
[100] سورة الأنفال، الآية: 41.
[101] سورة الطارق، الآيتان: 13 ـ 14.
[102] سورة الحجر، الآية: 9.
[103] الكافي، ج2، ص840.
[104] وسائل الشيعة، ج6، ص461.
[105] سورة الإسراء، الآية: 82.
[106] سورة فصلت، الآية: 44.
[107] سورة فصلت، الآية: 42.
[108] سورة النساء، الآية: 141.
[109] سورة المائدة، الآية: 15.
[110] سورة الشورى، الآية: 52.
[111] سورة فصلت، الآية: 44.
[112] سورة البقرة، الآية: 2.
[113] البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص419.
[114] الفقيه، ج4، ص293.
[115] بحار الأنوار، ج97، ص50.
[116] سنن النبي الأكرم (ص)، ج11، ص51.
[117] بحار الأنوار، ج89، ص13.
[118] بحار الأنوار، ج89، ص188.
[119] سورة الحجر، الآية: 75.
[120] بحار الأنوار، ج24، ص123.
[121] بحار الأنوار، ج24، ص123.
[122] سورة الأعراف، الآية: 196.
[123] سورة الأنعام، الآية: 91.
[124] سورة الأعراف، الآية: 190.
[125] مستدرك سفينة البحار، ج8.
[126] بحار الأنوار، ج40، ص182.
[127] مستدرك سفينة البحار، ج8.
[128] ميزان الحكمة، ج8، ص195.
[129] الأمالي، للمفيد، ج1، ص159.
[130] سورة الزمر، الآية: 23.
[131] سورة المائدة، الآية: 44.
[132] سورة المائدة، الآية: 45.
[133] سورة المائدة، الآية: 47.